الثلاثاء، 6 يونيو 2023

الدرر السنية في الأجوبة النجدية {من ج1 الي ج16.}

الدرر السنية ج1. الي ج16. 

 المجلد الأول: (كتاب العقائد)

مقدمة

تقريظات الكتاب
١- تقريظ الشيخ: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده، لإبراز الحق وإبدائه، والكشف عن مكنون عقود اللآلي بعد خفائه، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وأصحابه، السالكين على طريق الحق، المخالفين لأعدائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإني نظرت في هذا المجموع، الفائق، الرائق، الذي جمعه ورتبه الابن: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فرأيته قد جمع علوما مهمة، ومسائل كثيرة جمة، مما أوضحه علماء أهل هذه الدعوة الإسلامية، في مسائلهم، ورسائلهم، الساطعة أنوارها، الواضحة أسرارها، لمن أراد الله هدايته.
فإنهم رحمهم الله، حرروا هذه المسائل والرسائل، تحريرا بالغا، مشتملا على مستنداته، من البرهان والحجة، وعلى طريق الهداية، إلى واضح السبيل والمحجة، لا سيما ما تضمنه من العقائد، والردود، والنصائح، التي لا تظفر

بأكثرها في مجموع سواه.
وقد رتبها الترتيب الموافق، وتابع بينها التتابع المطابق، لا سيما المسائل الفقهية، التي رتبها على حسب أبواب الفقه، وفرقها فيها من غير إخلال بشيء من المقصود، فكان هذا المجموع هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة.
فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه على هذا الصنيع، الذي هو للعين قرة، وللمستبصر مسرة، والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه وعظيم سلطانه.
حرره الفقير إلى عفو ربه وإحسانه، محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
٢١ ذي القعدة - سنة ١٣٥١ هـ.

٢- تقريظ العلامة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بإحسانه سدد من شاء من عباده، وبامتنانه وفق من أسعفه بإسعاده، وبعنايته أعلى همة من خصه بجعل جمع العلوم الدينية غاية مراده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله في قوله وعمله واعتقاده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ وآله وصحبه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده.
وبعد: فقد سمعت هذا المجموع الفائق مرتين، وبعضه أكثر من ذلك، بقراءة جامعه ومرتبه: الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فوجدته وفقه الله تعالى، لم يأل جهدا في جمع رسائل أئمتنا، أئمة هذه الدعوة، وأجوبتهم، وتتبعها من مظانها، ولم يترك - وفقه الله تعالى - شيئا مما ظفر به إلا أشياء غير محررة، أو أشياء غير مقطوع بها عمن نسبت إليه، مع بذله الطاقة في التصحيح، ومقابلة ما ظفر به منها، على ما يمكنه الوقوف عليه من نسخها، مع أنها لم تخل من تغيير.
وقد أجاد ترتيبها بما يسهل على المستفيد طريق ما

تمهيد
بقلم جامعه: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خص بالهداية في زمن الفترات، من شاء من عباده، نعمة منه وفضلا، وألهمهم الحكمة مع ما جبلهم عليه من الفطرة، فتفجرت ينابيعها على ألسنتهم، فنطقوا بالصواب عقلا ونقلا. وفتح بصائرهم، وهداهم إلى الصراط المستقيم، علما، وعملا، وهجرة، وجهادا؛ فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول. ويسر لهم من معالم الدين، ومواهب اليقين، ما فضلهم واصطفاهم به على المعاصرين، فحاكوا السلف المفضل، وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق، ما امتازوا به على غيرهم، عند من سبر وتأمل. ساروا على المنهج السوي، وشمروا إلى علم الهدى، حتى لحقوا بالرعيل الأول.
فسبحان من وفق من شاء من الخلائق لتأصيل الأصول، وتحقيق الحقائق، وجمع له مواهب الخيرات الجلائل والدقائق. أحمده سبحانه على ما من به علينا،

وهدانا إليه من بين سائر الخلائق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أكمل الله به الدين، وجعل شريعته أكمل الطرائق. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، نجوم الهداية للسابق واللاحق، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله - وله الحمد والمنة - بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأكمل به الدين وأتم به النعمة، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرقت الأرض بنور النبوة، واهتزت طربا وابتهاجا، حتى تركهم ﷺ على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. ودرج على هذا المنهج القويم خلفاؤه الراشدون، وصحبه المهديون، والأفاضل بعدهم المرضيون.
ثم إنه خلفت بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، وهذا مصداق ما أخبر به ﷺ. ولكن الله سبحانه من فضله ضمن لهذه الأمة بقاء دينها وحفظه عليها، وهذا إنما يحصل بإقامة من يقيمه الله تبارك وتعالى من أفاضل خليقته، وخواص بريته، وهم حملة الشريعة المطهرة، وأنصار الملة المؤيدة، الذابون عن دينه، المصادمون لأهل البدع والأهواء، المجاهدون من رام انحلال عرى كلمة التقوى، الذين هم في الأمة المحمدية كالأنبياء في الأمم

=========

ج2.الدرر السنية 

ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه.
وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان، التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة، من ينهى عن ذلك، أو يغيره؛ فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام، واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك، ويحذر عنه، خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم، من الكفر، والشرك، والبدع، والمنكرات الفظيعة؛ فالعالم بالحق، والعارف له، والمنكر للباطل، والمغير له، يعد بينهم وحيدا غريبا.
فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله، وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله، ونزلت به كتبه، من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا؛ فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات؛ لا سيما في هذا الزمان، الذي قل

خيره، وكثر شره، قال ﷺ «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» ١ وقال لعلي بن أبي طالب : «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» ٢؛ ونحن إن شاء الله من أنصاركم، وأعوانكم.
ومن حسن توفيق الله لكم: أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق، وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك؛ واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام، لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله، فإن الحق منصور، وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه ٣ هدية نهديها إليكم، من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه، من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون؛ نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والهداية لأقوم منهج وطريق، والسلام.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وهو: كتاب التوحيد

  ١ مسلم: العلم (٢٦٧٤)، والترمذي: العلم (٢٦٧٤)، وأبو داود: السنة (٤٦٠٩)، وأحمد (٢/‏٣٩٧)، والدارمي: المقدمة (٥١٣).
٢ البخاري: الجهاد والسير (٣٠٠٩)، ومسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٦)، وأبو داود: العلم (٣٦٦١)، وأحمد (٥/‏٣٣٣).
٣ إشارة إلى كتاب: الهدية السنية، للشيخ سليمان بن سحمان، المطبوعة بمصر سنة ١٣٤٤ هـ.

المجلد الثاني: (كتاب التوحيد)
كتاب التوحيد

كتاب التّوحيد
بسم الله الرحمن الر حيم
كتاب التوحيد
[أربعة قواعد يتميز بها المسلم من المشرك]
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع له من الأفعال، المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال، أحمده سبحانه وأشكره إذ هدانا لدين الإسلام، وأزاح عنا شبه الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موحد له في الغدو والآصال.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، نبي جاءنا بدين قويم، فارتوينا مما جاءنا به من عذب زلال؛ اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه الذين هم خير صحب وآل، وسلم تسليما.
أما بعد: فقد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تنبغي مخالفتهم، أن أجمع مؤلفا يشتمل على مسائل أربع،

وقواعد أربع، يتميز بهن المسلم من المشرك.
الأولى: أن الذي خلقنا وصورنا لم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، معه كتاب من ربنا، فمن أطاع فهو في الجنة، ومن عصى فهو في النار، والدليل قوله تعالى: ﴿إنّا أرْسَلْنا إلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِدًا عَلَيْكُمْ كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [سورة المزمل آية: ١٥]، وقال تعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها ولَهُ عَذابٌ مُهِينٌ [سورة النساء آية: ١٣»١٤].
الثانية: أنه سبحانه ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات آية: ٥٦]، وقال: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [سورة البينة آية: ٥].
الثالثة: أنه إذا دخل الشرك في عبادتك، بطلت ولم تقبل؛ وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى: ﴿ولَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [سورة الزمر آية: ٦٥]، وقال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [سورة النساء آية: ١١٦]، وقال تعالى: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٢].

ومن نوع هذا الشرك: أن يعتقد الإنسان في غير الله: من نجم، أو إنسان أو نبي، أو صالح، أو كاهن، أو ساحر، أو نبات، أو حيوان، أو غير ذلك، أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة، فقد قال الله تعالى: ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [سورة فاطر آية: ٢]، وقال تعالى: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [سورة يونس آية: ١٠٧].
فإذا تبين في القلب أنه
﷿ بهذه الصفة، وجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ٥١].
وقال تعالى موبخا لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وعزير، عليهما السلام، لما أنزل الله عليهم القحط والجوع: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٥٦»٥٧].
وقال تعالى لنبيه:ﷺ ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [سورة الكهف آية: ١١٠]، وقال تعالى: {قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلّا ما شاءَ اللَّهُ ولَوْ

كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أنا إلّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: ١٨٨].
ومن نوع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله، فقد قال الله تعالى: ﴿فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [سورة هود آية: ١٢٣]، وقال تعالى: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ [سورة الفرقان آية: ٥٨]، وقال تعالى: ﴿وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٢٢]، وقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [سورة المائدة آية: ٣]، إلى قوله: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [سورة المائدة آية: ٣]، وقال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [سورة الكوثر آية: ٢]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام آية: ١٦٢].
ومن نوع هذا الشرك: تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١]، وقال عدي بن حاتم، «يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال رسول الله ﷺ: أما أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم؟ وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى؛ قال: فتلك عبادتهم» وأحبارهم ورهبانهم: علماؤهم وعبادهم؛ وذلك أنهم اتخذوهم أربابا، وهم لا يعتقدون ربوبيتهم، بل يقولون: ربنا وربهم الله، ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم

الله، وتحريم ما أحل الله، وجعل الله ذلك عبادة. فمن أطاع إنسانا عالما، أو عابدا، أو غيره، في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، واعتقد ذلك بقلبه، فقد اتخذه ربا، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ومن ذلك: «أن أناسا من المشركين، قالوا: يا محمد، الميتة من قتلها؟ قال: الله؛ قالوا: كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالا وقتل الله حراما؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ ١»).
ومن نوع هذا الشرك: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة، أو الصحبة، أو الولاية، وشد الرحال إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك؛ فتارة يسألونه وتارة: يسألون الله عنده؛ وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره.
ولما كان هذا بدء الشرك، سد النبي ﷺ هذا الباب؛ ففي الصحيحين أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»٢، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا).
وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني»٣ وقال ﷺ: "لعن الله زائرات


١ النسائي: الضحايا (٤٤٣٧)، وأبو داود: الضحايا (٢٨١٩).
٢ البخاري: الجنائز (١٣٩٠)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٣١)، والنسائي: المساجد (٧٠٣)، وأحمد (١/‏٢١٨،٦/‏٣٤،٦/‏١٢١،٦/‏١٤٦،٦/‏٢٥٥)، والدارمي: الصلاة (١٤٠٣).
٣ أبو داود: المناسك (٢٠٤٢)، وأحمد (٢/‏٣٦٧).

=========

ج3.الدرر السنية - بتقسم المدون 

فقال [: اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [سورة النساء آية: ٤٨]، ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٢]، ومنه: الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي ﷺ أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت، على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول ﷺ ولو عمل به، كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ [سورة التوبة آية: ٦٥].
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف. فمن فعله أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى: ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٠٢].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {ومَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإنَّهُ مِنهُمْ إنَّ اللَّهَ لا

يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: ٥١].
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [سورة السجدة آية: ٢٢]. ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. انتهى.
[جواب الشيخ سليمان عن الفرق بين التوحيد العلمي والإرادي]
وسئل الشيخ سليمان بن سحمان
: عن الفرق بين التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي؟
فأجاب: الفرق بينهما "الأول: هو توحيد الأسماء والصفات والثاني: هو توحيد الإلهية. ثم وجدت لابن القيم
ما لفظه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه. وتكليمه، لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع حد الإفصاح، كما

في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص، بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: ما تضمنته سورة: ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ [سورة الكافرون آية: ١]، و﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ الآية [سورة آل عمران آية: ٦٤]، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس، ووسطها، وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن، فهي متضمنة لنوعي التوحيد.
بل نقول قولا كليا: إن كل آية في القرآن، فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري؛ وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، إلى آخر كلامه
تعالى.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الثاني، ويليه: الجزء الثالث، كتاب الأسماء والصفات.

المجلد الثالث: (كتاب الأسماء والصفات)
كتاب الأسماء والصفات

قال الحبر الحجة الثقة، الإمام الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين، محيي السنة في العالمين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الثواب.
بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فقد وصل كتابك تطلب شيئا من معنى كتاب المويس، الذي أرسل لأهل الوشم، وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه، فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك، من غير مجازفة، بل أنا مقتصر، فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار؛ وذلك أن كتابه مشتمل على الكلام، في ثلاثة أنواع من العلوم: الأول: علم الأسماء والصفات الذي يسمى: علم أصول الدين؛ ويسمى أيضا: العقائد، والثاني: الكلام على التوحيد والشرك، والثالث: الاقتداء بأهل العلم، واتباع الأدلة، وترك ذلك.

أما الأول: فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال: ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض؛ وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين، إحداهما: أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه الثانية: أنه لم يفهم صورة المسألة، وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف، أنهم لا يتكلمون في هذا النوع، إلا بما تكلم الله به ورسوله، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، أثبتوه، مثل: الفوقية، والاستواء، والكلام، والمجيء، وغير ذلك، وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله، نفوه، مثل: المثل، والند، والسمي، وغير ذلك.
وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والعرض، والجهة، وغير ذلك، لا يثبتونه؛ فمن نفاه، مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه، فهو عند أحمد والسلف مبتدع؛ ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره، فهو عندهم مبتدع؛ والواجب عندهم: السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي ﷺ وأصحابه؛ هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس، أنه قال: لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي ﷺ فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده؛ ومثله في ذلك كمثل حنفي، يقول: الماء الكثير، ولو بلغ قلتين، ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير، فإذا سئل عن الدليل، قال قوله ﷺ «الماء طهور لا ينجسه شيء»١، فيستدل


١ الترمذي: الطهارة (٦٦)، وأبو داود: الطهارة (٦٦).

بدليل خصمه؛ فهل يقول هذا من يفهم ما يقول؟ وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة.
قال الشيخ تقي الدين - بعد كلام له على من قال: إنه ليس بجوهر، ولا عرض، ككلام صاحب الخطبة - قال
: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ: الجوهر، والجسم، والتحيز، والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ؛ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي ﷺ بإنكار ذلك؛ وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود: أن الأئمة، كأحمد وغيره، لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، لم يوافقوهم، لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
إذا تدبرت هذا، عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه، على الخطيب الكلام في هذا، هو عين الصواب؛ وقد اتبعا في ذلك إمامهما أحمد بن حنبل وغيره، في إنكارهم ذلك على المبتدعة، ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك، وأن الله جسم، وكذا وكذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا

جوهر، ولا كذا ولا كذا؛ وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت؛ من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه، فالذي يقول: ليس بجسم، ولا، ولا، هم الجهمية، والمعتزلة؛ والذين يثبتون ذلك هو: هشام وأصحابه؛ والسلف بريئون من الجميع، من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه.
فالمويس لم يفهم كلام الأحياء، ولا كلام الأموات، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة، مذهب السلف؛ وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات، كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك: استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم؛ ومن كلام أبي الوفاء ابن عقيل قال: أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا، ما عرفا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم، خير لك من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت، انتهى.
وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم، بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما، مثل أبي بكر وعمر، فهو عنده على مذهب هشام الرافضي؛ فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر، أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحبه أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع.

وقوله في الكتاب: ومذهب أهل السنة: إثبات من غير تعطيل، ولا تجسيم، ولا كيف، ولا أين، إلى آخره؛ وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة، ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة؛ وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه، اتباعا لرسول الله ﷺ كما في الصحيح أنه قال للجارية: «أين الله؟» فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة؛ وأن إنكارها مذهب أهل السنة، كما قيل، وعكسه بعكسه. وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه؛ فغلط عليهم في إثباته؛ وأما التعطيل والكيف، فصدق في ذلك، فجمع لكم أربعة ألفاظ، نصفها حق من عقيدة الحق، ونصفها باطل من عقيدة الباطل، وساقها مساقا واحدا، وزعم: أنه مذهب أهل السنة؛ فجهل وتناقض.
وقوله أيضا: ويثبتون ما أثبته الرسول ﷺ من السمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام، إلى آخره، وهذا أيضا من أعجب جهله؛ وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة، يثبتون الصفات السبع، وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله، ويؤلونه؛ وأما أهل السنة، فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه؛ وذلك صفات كثيرة، لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة، وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل.
إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه: الأول: أنه

=====

ج4. الدرر السنية 

على غيره؛ والسحاب يبسط أسفل منه، وينْزل منه المطر، والشمس فوقه … إلى أن قال: وكذلك المطر، معروف عند السلف والخلف، أن الله تبارك وتعالى يخلقه من الهواء، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا، كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، فهذا معرفته بالمادة التي خلق منها.
ونفس المادة لا توجب ما خلق منها، باتفاق العقلاء؛ بل لا بد من ما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه؛ وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم … إلى أن قال: على قوله تعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ﴾ [سورة السجدة آية: ٢٧] فهذه الآية يستدل بها على علم الخالق، وقدرته، ومشيئته، وحكمته، وإثبات المادة التي خلق منها المطر، والشجر، والإنسان، والحيوان، مما يدل على حكمته، ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق، إلا من مادة. انتهى كلامه.
قال في الصواعق: الوجه الثامن: أن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات: إنزال مطلق، كقوله: ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾ فأطلق الإنزال، ولم يذكر مبدأه، وقوله: ﴿وأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [سورة الزمر آية: ٦] الثانية: الإنزال من السماء، كقوله: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٤٨] الثالثة: إنزال منه سبحانه، كقوله: ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [سورة الزمر آية: ١].

وقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ﴾ [سورة النحل آية: ١٠٢] الآية، وقال: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ﴾ [سورة الأنعام آية: ١١٤].
فأخبر: أن القرآن منزل منه، والمطر نزل من السماء، والحديد والأنعام، منزلان نزولا مطلقا، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، حيث قالوا: إن كون القرآن منزلا، لا يمنع أن يكون مخلوقا، كالماء، والحديد، والأنعام، حتى غلا بعضهم، فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا، وقال: الإنزال بمعنى الخلق، وجوابه: أن الله سبحانه فرق بين النّزول منه، والنّزول من السماء، فجعل القرآن منزلا منه، والمطر منزلا من السماء، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف.
والمضاف إليه سبحانه نوعان: أحدهما: أعيان قائمة بأنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف، الثاني: إضافة صفة إلى موصوفها، كسمعه، وبصره، وحياته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، ووجهه، ويده … إلخ. وإنما أطلنا النقل، لأنك قد تفهم منه شيئا لم يظهر لنا.
وراجعنا حاشية على المصابيح قوله: «حديث عهد بربه» أي: قريب العهد من عند ربه، لم يخالطه ما يغسل به الأيدي الظالمة، والأكف العادية.

وقال في الهدى، بعد قوله: «هذا حديث عهد بربه»١ قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي ﷺ كان إذا سال السيل، قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا، فنتطهر منه، ونحمد الله عليه» وأخبرنا من لا أتهم، عن إسحاق بن عبد الله: «أن عمر كان إذا سال السيل، ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلا تمسحنا به». انتهى من هديه ﷺ في الاستسقاء.
والذي نفهم: أن الإنزال، والخلق، من صفات الأفعال من غير إشكال، فإن كان مقصود النووي: تأويل صفات الأفعال، فلا شك في بطلانه، وإن كان مقصوده: بيان أن المطر جديد الخلق، مع قطع النظر عن التعرض لصفات الرب، فلم يظهر لنا في ذلك منع؛ والذي فهمنا من كلامكم: أن النووي متعرض لتأويل صفات الأفعال، وهذا لا شك في بطلانه؛ وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع: كتاب العبادات

  ١ مسلم: صلاة الاستسقاء (٨٩٨)، وأبو داود: الأدب (٥١٠٠)، وأحمد (٣/‏١٣٣،٣/‏٢٦٧).

المجلد الرابع: (القسم الأول من كتاب العبادات)
*
فصل: في أصول مأخذهم

فصل في أصول مأخذهم أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها
قال شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
هذه أربع قواعد، من قواعد الدين، التي تدور الأحكام عليها، وهي: من أعظم ما أنعم الله به على محمد ﷺ وأمته، حيث جعل دينهم دينًا كاملًا وافيًا، أكمل وأكثر علمًا من جميع الأديان؛ ومع ذلك، جمعه لهم في لفظ قليل، وهذا مما ينبغي التفطن له، قبل معرفة القواعد الأربع، وهو أن تعلم قول النبي ﷺ لما ذكر ما خصه الله به على الرسل، يريد منا أن نعرف منة الله علينا، ونشكرها. قال لما ذكر الخصائص: «وأُعطيت جوامع الكلم» ١، قال إمام الحجاز، محمد بن شهاب الزهري: معناه: أن يجمع الله له المسائل الكثيرة، في الألفاظ القليلة.
القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ إلى قوله: ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأعراف آية: ٣٣].

  ١ البخاري: الجهاد والسير (٢٩٧٧)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٢٣)، والنسائي: الجهاد (٣٠٨٧، ٣٠٨٩)، وأحمد (٢/‏٢٦٤، ٢/‏٢٦٨، ٢/‏٣١٤).

القاعدة الثانية: أن كل شيء سكت عنه الشارع، فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه، أو يوجبه، أو يستحبه، أو يكرهه، لقوله تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإنْ تَسْألوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ [سورة المائدة آية: ١٠١]. وقال النبي ﷺ: «وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
القاعدة الثالثة: أن ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج، قال الله تعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ [سورة آل عمران آية: ٧]. والواجب على المسلم: اتباع المحكم؛ فإن عرف معنى المتشابه، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم: ﴿آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ [سورة آل عمران آية: ٧].
القاعدة الرابعة: أن النبي ﷺ ذكر أن: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات» ١؛ فمن لم يفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل، فقد ضل وأضل.
فهذه أربع قواعد، ثلاث ذكرها الله في كتابه، والرابعة ذكرها رسول الله ﷺ.
واعلم رحمك الله، أن أربع هذه الكلمات، مع اختصارها، يدور عليها الدين، سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير، أو في علم الأصول، أو في علم أعمال

  ١ البخاري: الإيمان (٥٢)، ومسلم: المساقاة (١٥٩٩)، والترمذي: البيوع (١٢٠٥)، والنسائي: البيوع (٤٤٥٣) والأشربة (٥٧١٠)، وأبو داود: البيوع (٣٣٢٩)، وابن ماجة: الفتن (٣٩٨٤)، وأحمد (٤/‏٢٦٩، ٤/‏٢٧٠)، والدارمي: البيوع (٢٥٣١).

القلوب الذي يسمى: علم السلوك، أو في علم الحديث، أو في علم الحلال والحرام والأحكام، الذي يسمى: علم الفقه، أو في علم الوعد والوعيد، أو في غير ذلك من أنواع علوم الدين. أنا أمثل لك مثلًا، تعرف به صحة ما قلته، وتحتذى عليه إن فهمته، وأمثله لك في فن من فنون الدين، وهو علم الفقه، وأجعله كله في باب واحد منه، وهو الباب الأول. قلت: يأتي في باب ١ الطهارة إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا: ومن أعظم ما منّ الله به عليه ﷺ وعلى أمته: إعطاء جوامع الكلم: فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة، تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر؛ وكذلك رسول الله ﷺ، فقد خصه الله بالحكمة الجامعة؛ ومن فهم هذه المسألة فهمًا جيدًا فهم قول الله تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [سورة المائدة آية: ٣]. وهذه الكلمة أيضًا من جوامع الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة، فعُلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله ﷺ وأصحابه، كما أوصانا به في قوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ٢.

  ١ أي: في باب المياه، من كتاب الطهارة صفحة: ١٣٥.
٢ أبو داود: السنة (٤٦٠٧)، والدارمي: المقدمة (٩٥).

وتفهم أيضًا: معنى قوله تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ [سورة النساء آية: ٥٩]. فإذا كان الله سبحانه قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي: إلى كتاب الله، وإلى الرسول ﷺ أي: إلى سنته، علمنا قطعا: أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه، وجد فيهما ما يفصل النّزاع.
وقال أيضًا: إذا اختلف كلام أحمد، وكلام الأصحاب، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله وإلى رسوله، لا إلى كلام أحمد، ولا إلى كلام الأصحاب، ولا إلى الراجح من ذلك؛ بل قد يكون الراجح والمرجح من الروايتين والقولين خطأ قطعًا، وقد يكون صوابًا؛ وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل، فالأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل الصواب يصدق بعضه بعضًا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: إما يستدل بحديث لم يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهومًا مخطئًا؛ وبالجملة: فمتى رأيت الاختلاف، فرده إلى الله والرسول؛ فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين لك، واحتجت إلى العمل، فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه.
وأما قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة؛ فإن أراد القائل مسائل الخلاف، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة؛ فما زال الصحابة

ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائنًا من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم. وإذا كان الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه، وينكر عليه.
وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفًا لمذهبه أو لعادة الناس؛ فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم؛ وهذا كله داخل في قوله تعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [سورة الإسراء آية: ٣٦]. وأما قول من قال: اتفاق العلماء حجة، فليس المراد الأئمة الأربعة، بل إجماع الأمة كلهم، وهم علماء الأمة.
وأما قولهم: اختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، كما قال تعالى: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [سورة هود آية: ١١٨-١١٩]. ولما سمع عمرُ ابنَ مسعود، وأُبَيًّا اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر، وقال: «اثنان من أصحاب رسول الله ﷺ، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت»؛ لكن قد روي عن بعض التابعين، أنه قال: ما أحسب اختلاف

  ج5. الدرر السنية

بعضهم: أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل، وأنه مذهب الشافعي. وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم: نص عليه. انتهى. وقال أبو العباس في المسألة المسماة بتيسير العبادات: الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية، فلأن يكون مشروعًا لتكميل الصلاة أولى؛ والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت. وقال في موضع آخر: الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتًا لهما، وقاله في الإنصاف وغيره.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن جمع حافري القليب؟
فأجاب: أما تأخير الظهر إلى أول وقت العصر لحافري القليب، فذكر الفقهاء أنه يجوز للعذر والشغل، وهذا من الشغل، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقرى: إن أمكنت الصلاة في بطن البئر فلا بأس بذلك، وإن لم تمكن وصار الحال كما ذكر من وجود الضرر بمشقة الخروج، أو فوات المقصود برجوع الماء، وعدم إخراج حفير البئر، فتؤخر الصلاة إلى آخر وقت الظهر، ثم يصليها إذا خرج في آخر وقتها؛ ووقت الظهر يمتد إلى دخول وقت العصر.
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: هل يجوز

الجمع بين الصلاتين لغير عذر، لحديث ابن عباس المخرج في صحيح مسلم؟
فأجاب: ذكر العلماء في تأويله وجوهًا، منها: أنه ﷺ أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها؛ وهذا جائز عند كثير من أهل العلم، إذا لم يتخذ عادة.
ومنها: أنه محمول على أنه فعل ذلك لأجل مشقة الوحل، وقال بهذا كثير من العلماء أنه يجوز الجمع لأجل المشقة بالوحل وغيره، كالمرض. ومنها: أن ذلك منسوخ بالمواقيت، التي دوام عليها رسول الله ﷺ وأهل العلم، إنما يأخذون بالآخر فالآخر من فعل النبي ﷺ كما قال جابر
: «كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ: ترك الوضوء مما مست النار»، ولهذا قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به، إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر؛ فإذا أجمع العلماء على ترك العمل بظاهره، فهو دليل على أنه منسوخ، وإن لم يعلم الناسخ بعينه، ولو لم يكن فيه إلا أن آخر فعل النبي ﷺ وخلفائه الراشدين على عدم فعل ذلك بلا عذر من الأعذار المبيحة للجمع.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن إعلام الإمام بنية الجمع؟

فأجاب: وأما قول الإمام إذا نوى الجمع بين الصلاتين … فأرجو أنه لا بأس أن يعلمهم أنه ناو الجمع؛ ولم أسمع في ذلك شيئًا عن الصحابة؛ كما هو حجة من لم يشترط النية للجمع، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لكن الخروج من الخلاف لا بأس به.
وسئل: عن المرأة إذا لم يمكنها الصلاة في الوقت … إلخ؟
فأجاب: وأما المرأة إذا كانت راكبة، فلا يجوز لها تأخير الصلاة عن وقتها، وإذا كانت سائرة في السفر، فإنها تنوي التأخير، وتنْزل مرة واحدة فتصلي الظهر والعصر، وتصحب معها عقالًا تعقل به البعير، وإذا أبصرها الناس تصلي وهي مستورة، لا يضرها ذلك عند الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
أخر الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس، وأوله:
باب صلاة الجمعة.

المجلد الخامس: (القسم الثاني من كتاب العبادات)
باب صلاة الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم
باب صلاة الجمعة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: هل يرخص للرجل يوم الجمعة إذا كان قريبًا من بلد في ترك الجمعة؟
فأجاب: لا رخصة له إلا في أكثر من فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع؛ فجميع ذلك ثمانية عشر ألف ذراع.
وسئل: عمن يجب عليه السعي إلى الجمعة … إلخ؟
فأجاب: يجب السعي على البعيد إذا كان يسمع النداء، إذا أذن المؤذن الصيت مع هدوء الأصوات وتساوي الأرض؛ ومنهم من يحده بفرسخ عن طرف المصر. وأجاب بعضهم: أما من تجب عليه الجمعة من جهة القرب والبعد، فقالوا: تجب على من بينه وبينها فرسخ، في حق غير أهل مصر، واليوم عندهم ثمانية فراسخ، وأما بلادكم «تربة» فهي قرية. قال أحمد: أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها، سمعوا النداء أو لم يسمعوا، وهو قول مالك.

وعن عبد الله بن عمر وغيره: الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، وأما من كان في زراعة بعيدة مثلًا فلا يبين لي عليه جمعة؛ وهذا الذي نفهم، والعمل عليه عندنا الآن.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن،
: عن وقت صلاة الجمعة … إلخ؟
فأجاب: أما صلاة الجمعة قبل الزوال فهو وقت لها عند الإمام أحمد، وخالفه بعض الأئمة، وقال: وقتها بعد الزوال؛ فتأخيرها إلى الزوال أفضل، خروجًا من خلاف العلماء، لكون هذا القول مجمعًا عليه.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن المسافر إذا أدركته الجمعة؟
فأجاب: المسافر إذا قدم ولم ينو إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان، فهذا لا جمعة عليه بحال، فإن صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع. فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره، فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. وأما إمامته في الجمعة، فالمذهب أنه لا يجوز أن يؤم فيها بحال، ولا يكمل به العدد المعتبر، لأن من شروط

الجمعة الاستيطان، وهذا ليس بمستوطن. وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي، إلى أن له أن يؤم فيها؛ وهذه المسألة من مسائل الخلاف، ولا أعلم فيها دليلًا من الجانبين، فإذا كانت من المسائل إلاجتهادية فلا إنكار في مسائل إلاجتهاد، ولا يجوز الإنكار على الفاعل، خصوصًا إذا كان علم الخلاف بين العلماء في الجواز وعدمه، وعمل على قول المجيزين، ولا يجوز نسبته إلى الجهل والحالة هذه.
وأما قولك: أيما أفضل، إجابة الإنسان لمثل هذه المسألة ونحوها وأيما امتناعه؟ فالأفضل في حقه العمل بالاحوط، ولا يؤم في الجمعة وهو مسافر إلا إن كان قد بان له واتضح عنده الجواز، وأن القول بالمنع لا وجه له، فتلك حالة أخرى. وأما إذا ترجح عنده الجواز وعمل بقول الجمهور، فلا يجوز الإنكار عليه إذا رضي أهل البلد بإمامته، لغيبة الإمام أو قدمه بنفسه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: والمرأة التي تحضر الخطبة يوم الجمعة، وتصلي مع الإمام، تجزئها صلاتها.

سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن أمر الغزو بإقامة الجمعة … إلخ؟
فأجاب: اعلم أنه لم يكن مع الآمر دليل يجب المصير إليه، لأن الجمعة لا تلزم إلا من أراد الاستيطان بالبلد، بخلاف المسافر الذي تلزمه بغيره إذا أجمع على الإقامة. والغزو حين قدومهم «أبها»، إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فلا تلزمهم.
قال شيخ الإسلام: فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفًا، أقاموا فيه الجمعة إذا كان مبنيًا بما جرت به عادة الناس، من مدر وخشب، أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك؛ إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا؛ وهذا مذهب جمهور العلماء - إلى أن قال – ولهذا، العلماء إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمود، وبين المقيمين،

بأن أولئك ينتقلون ولا يستوطنون بقعة، بخلاف المستوطنين- إلى أن قال- قال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة لأنهم ينتقلون؛ فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطنًا لا ينتقل باختياره، فهذا من أهل القرى. والفرق بين هؤلاء، وبين أهل الخيام، من وجهين:
أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانًا بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكانًا فهو في مظنة إلانتقال عنه، بخلاف هؤلاء المستوطنين، الذين يحرثون ويزرعون، ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر، إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين.
الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار. انتهى.
فإذا عرفت ذلك، فالغزو إنما هم أهل خيام، لا من أهل البلاد المستوطنين بها الذين لا ينقلون عنها؛ فلا تلزمهم الجمعة، لما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وبه الكفاية. وقال في الإقناع وشرحه: قال ابن تميم: وكذا لو دخل قوم بلدًا لا سكن به بنية الإقامة سنة، فلا جمعة عليهم

ج6. الدرر السنية في الأجوبة النجدية

أن ينكر على من كرهه ونهى عنه. والآية الكريمة، وإن كانت نصًا في دعوى الرجل إلى من تبناه غير أبيه، فهي عامة في دعائه لأمه، لأن قوله: ﴿ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٥] نص في أنه لا يدعى لغيره، ولا شك في دخول الأم في الغير؛ وعلى هذا فالنص عام، ولو قيل بخصوصه أخذًا من خصوص السبب، فلا مانع من إلحاق النظير. والجمهور يرون في هذه المسألة أن عموم اللفظ مقدم في الاعتبار على خصوص السبب؛ والأول قال به بعض الأصوليين. وجماهير أهل العلم والتأويل قد رجحوا الثاني؛ وقوله: ﴿ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ﴾ عام في ترك دعائهم لغيرهم، وإن كان المدعو إليه أُمًّا؛ فتفطن.
[تلقيب الإنسان]
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن لقب الإنسان … إلخ؟
فأجاب: قال النووي: باب النهي عن الألقاب التي يكرهها صاحبها: قال تعالى: ﴿ولا تَنابَزُوا بِالألْقابِ﴾ [سورة الحجرات آية: ١١]، واتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه، سواء كان صفة له، كالأعمى والأعمش، أو صفة لأبيه، أو غير ذلك مما يكرهه، واتفقوا على جواز ذلك على سبيل التعريف، لمن لا يعرف إلا بذلك. ثم قال: باب استحباب اللقب الذي يحبه صاحبه: فمن ذلك علي
، " أن رسول الله ﷺ وجده نائمًا في المسجد،

وعليه التراب، فقال: قم أبا تراب، قم أبا تراب «١، فلزمه هذا اللقب الحسن الجميل، وكان أحب أسمائه إليه. انتهى. فقد عرفت الفرق بين اللقب الذي يحبه صاحبه، واللقب الذي يكرهه صاحبه، فإنه ينهى عنه.
وقال الشيخ تقي الدين: وأما الألقاب، فكانت عادة السلف الأسماء والكنى، فإذا أكرموه كنوه بأبي فلان، وتارة يكنى الرجل بولده، وتارة بغير ولده، كما يكنون من لا ولد له إما بإضافة اسمه، أو أبيه، أو أبي سميه، أو إلى أمر له به تعلق، كما كنى النبي ﷺ عائشة باسم ابن اختها عبد الله، وكما يكنون داود أبا سليمان، لموافقته اسم داود الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كني إبراهيم أبا إسحاق، وكما كنى النبي ﷺ أبا هريرة باسم هرة كانت تكون معه؛ ولا ريب أن الذي يصلح من الكنى، ما كان السلف يعتادونه. انتهى. فقد عرفت أن هذه الألقاب التي يكرهها صاحبها، ليست من عادة السلف، وهم القدوة، والخير في اتباعهم.
[نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم]
وسئل: هل نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم، من العقوق؟
فأجاب: قال في كتاب الأذكار: باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ، أن ينادي أباه، أو معلمه، أو شيخه باسمه: روينا في كتاب ابن السني: عن أبي هريرة» أن النبي ﷺ رأى رجلًا معه غلام، فقال: يا غلام من هذا؟ 

 ١ البخاري: الصلاة (٤٤١)، ومسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٩).

قال: أبي، قال: لا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه «؛ قلت: معنى» لا تستسب له " أي: لا تفعل فعلًا تتعرض فيه لأن يسَب أبوك زجرًا وتأديبا على فعلك القبيح. وروينا فيه عن عبد الله بن زحر، قال: كان يقال من العقوق أن تسمي أباك باسمه، وأن تمشي أمامه في الطريق. انتهى.
وأما القرابة غير الوالدين، فلا أعلم في ندائهم بأسمائهم بأسًا.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
انتهى الجزء الخامس
ويليه الجزء السادس
وأوله: كتاب البيع

المجلد السادس: (كتاب البيع)
كتاب البيع
الإيجاب والقبول
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين،
: عمن كتب إلى آخر ببلد بإيجاب في بيع أو قبول؟
فأجاب: هذه المسألة لم أر من ذكرها إلا صاحب الإقناع فيه، حيث قال: وإن كان المشتري غائبا عن المجلس، فكاتبه البائع أو راسله: أني بعتك داري بكذا، أو أني بعت فلانا داري بكذا، فلما بلغه الخبر قبل البيع، صح العقد؛ قال شارحه: لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن القبول، بخلاف ما إذا كان حاضرا، ففرق المصنف في تراخي القبول عن الإيجاب، بينما إذا كان المشتري حاضرا وبينما إذا كان غائبا.
وهذا يوافق رواية أبي طالب في النكاح، قال في رجل مشى إليه قوم، فقالوا: زوج فلانًا فلانة، فقال: زوجته على ألف، ورجعوا إلى الزوج وأخبروه بذلك، فقال: قد قبلت؛ هل يكون هذا نكاحا؟ قال: نعم؟
قال الشيخ تقي الدين: ويجوز أن يقال: إن كان العاقد الآخر حاضرا، اعتبر قبوله في

المجلس، وإن كان غائبا جاز تراخي القبول عن المجلس، كما قلنا في ولاية القضاء، قال شارحه: ولم أر المسألة ههنا في الفروع، ولا في الإنصاف، ولا غيرهما
البيوع المنهي عنها
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: وهذه الصور التي نهى عنها رسول الله ﷺ وسلم في البيع. نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن السنور، وكسب الحجام، وبيع الخمر، وكل ما حرم أكله، وبيع الميتة، وبيع الأصنام وبيع الحر، وبيع عسب الفحل، وبيع فضل الماء، وبيع الكلأ، وبيع الحصاة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والمعاومة، والثنيا، وبيع الثمرة قبل الصلاح، وبيع الطعام قبل قبضه، والبيع على بيع أخيه، والنجش، والتصرية، وبيع حاضر لباد، وتلقى الركبان، والغش، والكذب والاحتكار، وأكل الربا وتوكيله، وبيع الذهب بمثله متفاضلا. وبيع الفضة بمثلها متفاضلة، والبر بالبر متفاضلا والذهب بالذهب نسأ، والفضة بالفضة نسأ، والتمر بالتمر نسأ، والشعير بالشعير نسأ، والبر بالبر نسأ، والملح بالملح نسأ، والذهب بالفضة نسأ، والتمر بالبر نسأ، والتمر بالشعير نسأ، والتمر بالملح نسأ، والبر بالشعير نسأ، والبر بالملح نسأ، والشعير بالملح نسأ، واشتراط ليس في كتاب الله، وكل ما تقدم ذكر في الصحيحين، أو أحدهما.

قوله: المزابنة، وهي: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمرٍ كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بطعام كيلا، نهى عن ذلك كله، ويروى المزابنة: أن يباع ما في رؤوس النخل بتمر كيلا مسمى، إن زاد فلي وإن نقص فعلي، قوله: نهى عن المخابرة والمحاقلة، فالمحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع الثمر في رؤوس النخل بمائة فرق مثلا، والمخابرة: كرى الأرض بالثلث أو الربع، والمعاومة: أن يبيع حمل الشجر المستقبل أعواما.
قوله: المنابذة، وهي: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل، قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، قوله: الملامسة، وهي: لمس الثوب لا ينظر إليه. قوله حبل الحبلة، وكان بيعا يبيعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها؛ وقيل: إنه كان بيع الشارف؛ وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي ببطن ناقته، وقوله: بيع الحصاة، وهو أن يقول: أي موضع وقعت عليه هذه الحصاة من هذه الأرض، فهو لي.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين عن ثمن الكلب ومهر البغي: الخ؟
فأجاب: ثمن الكلب هو أخذ العوض عنه؛ ومهر البغي هو الجعل الذي تأخذه على زناها، وحلوان الكاهن:

هو ما يأخذه الكاهن في مقابلة إخباره بالمغيبات، وثمن السنور: هو أخذ العوض عنه، وكسب الحجام: هو ما يأخذه أجرة على حجامته، فأما ما يعطاه بغير شرط فرخص فيه بعض العلماء، لأن النبي ﷺ أعطى الذي حجمه، قالوا: ولو كان حراما لم يعطه النبي ﷺ، وحملوا النهي على الاشتراط خاصة، وتحريم بيع الخمر ظاهر، وهو المعاوضة عنه؛ وكذا حكم كل مسكر، وبيع الميتة وما حرم أكله، لما في الحديث المشهور «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه» وثمن الحر ظاهر، وهو أخذ العوض عنه، وبيع عسب الفحل: وهو أخذ العوض عن ضرابه، كما يفعله كثير من الناس في أخذ العوض على نزو الحصان على الرمكة.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين، عن بيع الحصاة وبيع الغرر … الخ؟
فأجاب: وأما بيع الحصاة، فهو أن يقول: إرم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت، أو دابة، فهو لك بكذا، وفسر بأن يقول: أبيعك من هذه الأرض ما تبلغ هذه الحصاة، إذا رميت بها بكذا، وبيع الغرر يدخل تحته صور كثيرة، منها: بيع العبد الآبق، والدابة الشاردة، ومنها بيع الدين لغير من هو في ذمته، إذا كان غير مليء، ويدخل تحته كل مبيع لا يدري مشتريه، أيحصله أم لا، وأما بيع حبل الحبلة، ففيه تفسيران: أحدهما أن أهل الجاهلية كانوا يشترون الجزور ونحوها إلى أن تلد الناقة، ثم يلد ولدها، فيكون النهي لأجل

جهالة الأجل، وقيل: هو أن يبيعه نتاج ما في بطن هذه الناقة، وهو ولدها، لما فيه من الغرر.
وأما بيع الملامسة: فنحو أن يقول: أي ثوب لمسته فهو لي بكذا، فيشتريه من غير نظر إليه ولا تقليب؛ وأما بيع المنابذة: هو أن يقول-: كل ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا، والعلة في ذلك جهالة المبيع وقت العقد، ولهذا اشترط العلماء لصحة البيع، معرفة المبيع، ونهيه عن الثنيا إلا أن تعلم، فهو أن يبيعه عددا من الدواب أو الثياب ونحوها، ويستثنى منها غير معين، نحو أن يقول: بعتك هذه الغنم بكذا، ولي منها واحدة أختارها، وفيه صور كثيرة.
وقال
تعالى: وأما بيع المضامين والملاقيح، فقيل في المضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الفحول، وفسر بالعكس، وبيع الغنيمة قبل القسمة، المراد به: الإنسان يبيع نصيبه من الغنيمة قبل تمييزه وقبضه.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن بيع المكره بحق؟
فأجاب: وأما قوله: إلا أن يكره بحق، كما يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، فهذا لا بأس بالشراء منه، سواء رضي بذلك أو لم يرض.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن سكوت المرأة عن بيع نصيبها من العقار، هل يوجب صحة البيع أم لا؟

 

ج7.  الدرر السنية في الأجوبة النجدية

هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين،
قال أبو بكر في التنبيه: لست أعدل عن خبر النبي ﷺ في الضالة المكتومة: غرامتها، ومثلها معها، وهذا حكم رسول الله ﷺ فلا يرد، انتهى.
وصرح الفقهاء: بأن أجرة المنادي عليه، ولكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب نفسه ببذله بعد علمه بالحال، وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة، قبل بلوغه بذل مالكها للجعل، أنه يحرم أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة، لكنه لم يسمعه، وهذا في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه عملا محرما، ويمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم؟
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب عن ضالة الكافر؟
فأجاب: والضالة التي توجد حول البلد، وهي من مال الكافر، فهي لمن وجدها،
وأما لقطة النثار: فإذا لم تعرف بصفة تعرف بها، لم يجب تعريفها.
سئل ابنه الشيخ عبد الله: عمن أخذ ضالة الإبل يريد الحفظ، وهو معروف بالأمانة، ثم تلفت؟
فأجاب: قال في الإنصاف: ويجوز للإمام أو نائبه أخذ ما يمتنع من صغار السباع، وحفظه لربه، ولا يلزمه تعريفه، قاله الأصحاب؛ ولا يكتفي فيها بالصفة، قاله المصنف وغيره، واقتصر عليه في الفروع؛ ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء

من ذلك لحفظه لربه، على الصحيح من المذهب، وقال المصنف، ومن تبعه: يجوز أخذها إذا خيف عليها، كما لو كانت في أرض مسبعة، أو قريبا من دار حرب، أو موضع يستحل أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى، ولا ضمان على آخذها، لأنه إنقاذ من الهلاك، قال الحارثي قالوا كما قال، وجزم به في تجريد العناية، قلت: ولو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه، لكان له وجه، انتهى.
والذي يترجح عندي: أن الرجل إذا عرف بالأمانة، وأنه محسن في حفظها، ولم يتعرض لها بركوب ولا غيره، أنه لا يضمن، كما اختاره هؤلاء الأئمة.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا وجد الحيوان قريب الموت، ولم يعلم صاحبه هل يذكيه أم لا؟ وهل يغرم أم لا؟
فأجاب: أما تذكيته فمن المعروف، وأما الغرم فإن بينه، أو كان مأمونا غير متهم فلا غرم عليه، وإن كان متهما أو غير مأمون، ولم يصدقه صاحب الدابة، ولم يعف عنه، لزمه الغرم.
وسئل: إذا وجد ضالة الغنم غير صاحبها، وباعها على آخر هل تكون عنده الخراج بالضمان، كما في مدة الخيار؟
فأجاب: لا فرق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء السادس، ويليه الجزء السابع
وأوله: «كتاب الوقف»

المجلد السابع:  الدرر السنية في الأجوبة النجدية 

 (من كتاب الوقف إلى نهاية الإقرار)
كتاب الوقف
[كتاب الوقف]

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: ونرى الوقف صحيحًا.
وسئل: إذا أراد إنسان أن ينفع نفسه من ماله … إلخ؟
فأجاب: إذا أراد إنسان أن يوقف وقفًا من ماله، فإن شاء جعله معينًا في أرض بعينها، أو نخلًا بعينه، وإن شاء جعله شيئًا معلومًا، قادمًا في غلة نخله أو أرضه؛ وما فعل من ذلك فهو حسن إن شاء الله تعالى.
وسئل: هل يلزم الوقف المعلق بالموت، أو شرط فيه الرجوع؟ وهل يجوز ذلك؟
فأجاب: الذي صححه غير واحد من الحنابلة وغيرهم، أنه يصح تعليقه بالموت، ويصير وصية، ويعتبر من الثلث، كسائر الوصايا؛ قال في الشرح الكبير: يصح في قول الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. قال في الإنصاف: قال الحارثي: كلام الأصحاب يقتضي أن الوقف المعلق على الموت، أو على شرط الحياة، لا يقع لازمًا قبل وجود المعلق عليه؛ قال الحارثي: المنصوص عن أحمد في المعلق على الموت هو اللزوم. قال الميموني

في كتابه: سألته عن الرجل يقف على أهل بيته، أو على المساكين بعده، فاحتاج إليها، أيبيع على قصة المدبر؟ فابتدأني أبو عبد الله بالكراهة لذلك، فقال: الوقوف إنما كانت من أصحاب النبي ﷺ على أن لا يبيعوا ولا يهبوا. قلت: فمن شبهه وتأول المدبر عليه، والمدبر قد يأتي عليه وقت يكون فيه حرًا، والموقوف إنما هو شيء وقفه بعده، وهو ملك الساعة، قال لي: إذا كان يتأول. قال الميموني: وإنما ناظرته بهذا، لأنه قال: المدبر ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة، وهذا شيء وقفه على قوم مساكين، فكيف يحدث به شيئا؟ فقلت: هكذا الوقوف، ليس لأحد فيها شيء، الساعة هو ملك، وإنما استحق بعد الوفاة، كما أن المدبر الساعة ليس بحر، ثم يأتي عليه وقت يكون فيه حرًا.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عما إذا لم يجد من كان الوقف تحت يده حججًا للوقف، ولا شهودًا، ولا شيئًا من البينات غير مجرد وضع اليد، فما العمل فيه؟ هل إذا أقر بوقفيته، ولم يعين الواقف، يقبل منه؟
فأجاب: يثبت الوقف بالاستفاضة، ولا حاجة إلى معرفة اسم الواقف. وإن لم يستفض فيكفي إقرار من هو تحت يده بذلك، ما لم ينازع في ذلك بحجة شرعية.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن موضع النخلة

الوقف إذا سقطت؟
فأجاب: إذا وقف نخلة معينة، فالذي نرى أن موضعها لا يكون وقفًا بذلك، فإذا سقطت النخلة زال حق أهل الوقف؛ وقد صرح بذلك الفقهاء، فيما إذا أقر بنخلة أو باعه إياها، تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها، كما نص عليه الإمام أحمد، فيما إذا أقر له بنخلة.
وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثرى: إذا وقف نخلة فبادت، فالعرف ومقاصد الناس معتبر؛ والعرف في وقتنا: أن المُوقف لا يقصد إلا جذع النخلة، وأنها لا تعاد إذا بادت، مع أن القياس يقتضي ذلك في أن الفرع لا يتبعه الأصل، وأن الأصل يتبعه الفرع، إلا أن يوقف بستانًا ونحوه، فالقرينة تقتضي دخول الأصل والفرع معًا في الوقفية.
سئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عن جعل بعض الواقفين وقفه قدرًا معلومًا في ملكه أو نخله، فإذا باد النخل … إلخ؟
فأجاب: العمل: على جواز ذلك، وجوز شيخ الإسلام وقف المنفعة المفردة، كخدمة عبد موصى بها مدة، ثم يقفها الموصى له فيها. انتهى. فيؤخذ ذلك القدر من غلة ما جعل فيها حيث حصل، فاضلًا عن حصة العامل

على النخل، إن كان المجعول فيه نخلًا ولو لم يبق للمالك سواه، ويؤخذ كاملًا من غلة الأرض، إن كان المجعول فيها أرضًا، حيث فضل عن نصيب رب الزرع، ولو لم يبق لرب الأرض غيره، وإن كان هو الزارع أخذ منه على كل تقدير.
وسمعت شيخنا عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد،
، أفتى مرة بذلك، أعني: أخذ تمر مقدر في ثمر نخل، ولا بين الوارث والمشتري فرق في ذلك، سواء كان المشتري عالمًا به أو جاهلًا، إلا أن الجاهل يثبت له الخيار إذا علم.
فلو قال قائل: إذا لم يبق من ريع النخل سوى القدر الموقوف، جعلتم الموروث عن الواقف للموقوف عليه، فأين التركة التي يخرج من ثلثها؟
قلنا العبرة بخروج الموقوف، أو الموصى به من الثلث حين الموت، ليس قبله ولا بعده. وإذا باد النخل فالذي يظهر لي: أن القدر الموقوف ينقطع بفناء النخل، وتبقى الأرض طلقًا؛ هذا إن كانت الصيغة: وقفت في نخلي. أما إن قال: في ملكي، فالظاهر أن ذلك القدر يستمر في الأرض، ما دامت حيث انتفع بها، لأن المتعارف من ألفاظ أهل هذه الأعصار، أن الملك اسم للأرض، سواء اتصل بها غراس أم لا، لا سيما في بلدتكم وما قاربها من البلاد.

وكذلك الحكم لو قال: في هذه الدمنة، بل هذا أولى، ولو كان القدر الموقوف في الملك أو الدمنة تمرًا؛ إذ لا تفيد قرينة كونه تمرًا خصوصيته بالنخل، فينقطع بانقطاعه، بدليل قول بعض الواقفين: جعلت في ملكي أو أرضي أو داري أضحية، فيعلم بالاضطرار أن قصده: يشترى من غلة الأرض، أو بثمن غلتها أو بأجرتها، أو أجرة الدار أضحية.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الوقف على المسجد؟
فأجاب: الوقف على المسجد جائز، بل مستحب، لأنه من أعمال البر والقربات؛ وأما وقف الشرك الذي على طاعة، فيجب الوفاء به في الإسلام.
وسئل: عن وقف لم يذكر له مصرف، أو ذكر … إلخ؟
فأجاب: إذا وقف وقفًا وذكر مصرفه ثم انقطع، أو لم يذكر مصرفًا، فقد اختلف العلماء في هذا الوقف: هل يصح أو لا؟ وقدم في المغني أنه يصح، وذكره قول مالك وأبي يوسف، وأحد قولي الشافعي: أنه إذا وقف وقفًا على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة كالمساكين ونحوهم، قال في المغني: ويصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، 

ج8.  الدرر السنية في الأجوبة النجدية

باب الإقرار
سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ: عمن قال: صدقوا فلانًا فيما ادعى به؟
فأجاب: إذا كان المقَرُّ له غير وارث، فظاهر كلام أهل المذهب: أنه يُصَدَّق فيما ادعى به، إذا كان يمكن يتصور منه التزامه، بخلاف ما لو ادعى بما لا يتصور، كدعواه عليه من عشرين سنة، وعمره عشرون سنة أو أقل، فهذا لا يصح إقراره بذلك؛ قلت: ومثل ذلك لو كان هذا المصدق فقيرًا، كالذي يعرفه أهل بلده بالفقر، فيدعي أن له عند هذا المقِرّ ما لا يعرف أنه قد ملكه، كمن رأس ماله الذي يعامل فيه عشرون درهمًا، أو قريبًا، فيدعي على هذا المقر - لما سمع قوله: صدقوه -: لي عنده مائة دينار أو مئتان، فالظاهر أنه لا يُصَدَّق، وما أمكن صِدْقُه فيه صُدِّق. انتهى.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا مات الرجل وقالك صدقوا فلانًا بما ادعى علي، يعني صاحب الدين، ثم مات، هل يصدق المدعي؟ فالأمر كذلك يصدق بدعواه، عملًا بقول الميت.

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أقر في صحته بدين لوارث؟
فأجاب: إذا أقر في صحته لوارث بدين في حال الصحة، وهو يتهم بالمحاباة، فالظاهر أنه يقبل إقراره، ولا يعمل بالتهمة.
وسئل: عن امرأة في صحتها قالت: إن عندها لبعض ورثتها شيئًا؟
فأجاب: إن ماتت، فهو المصدق فيما ادعى به، فإن ادعى عليها بدعوى كثيرة، فالظاهر أن هذا يدخل في الإقرار للوارث، ولا يصح خصوصًا في مثل هذا الزمان مع التهمة.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا أقر المريض في المرض المخوف لوارث أو غيره.
فأجاب: قال في الشرح: ويصح إقرار المريض في المرض المخوف بغير المال، وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح؛ حكاه ابن المنذر إجماعًا. وإن أقر للوارث لا يقبل إلا ببينة. وقال عطاء والحسن وإسحاق: يقبل. وقال مالك: يصح إلا أن يتهم، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع، إلا الشعبي.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قال إنسان لآخر: عندك لي عشرة دراهم، قال: نعم، لكن

قضيتك؟
فأجاب: يكون غير مقر فيقبل قوله بيمينه طبق جوابه، ويخلى سبيله إن لم يقم بينة على الأصح، لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلًا، فكان القول قوله. وعنه: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب. انتهى من شرح المنتهى ملخصًا. وقد عرفت المقدم وهو المعتمد.
سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن رجل أقر لآخر بدين مات المقر له، ولم يعلم عدده؟
فأجاب: القول في ذلك قول المقر بيمينه، لأن اليمين إنما شرعت في جانب أقوى المتداعيين، والمقر له قد قوي جانبه، فقبل قوله في العدد مع يمينه.
آخر ما أردنا جمعه مما وجدناه من الفتاوى الفقهية، فتاوى أهل هذه الدعوة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء السابع، ويليه الجزء الثامن،
وأوله: كتاب الجهاد

المجلد الثامن: (القسم الأول من: كتاب الجهاد)
كتاب الجهاد (حكمه، وفضله، والحث عليه)
كتاب الجهاد: الجهاد حكمه، وفضله، والحث عليه
قال شيخ الإسلام: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبد الله بن عبد الرحمن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، ذكر لي ابن زيدان، أنك يا عبد الله غضبت على أحمد لما تكلم في بعض المنافقين، ولا يخفاك أن بعض الأمور كما قال تعالى: ﴿وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [سورة النور آية:١٥]، وذلك أني: لا أعرف شيئًا يتقرب به إلى الله أعظم من لزوم طريقة رسول الله ﷺ في حال الغربة، فإن انضاف إلى ذلك الجهاد عليها للكفار والمنافقين، كان ذلك تمام الإيمان.
فإذا أراد أحد من المؤمنين أن يجاهد، فأتاه بعض إخوانه، فذكر له أن أمرك للدنيا، أخاف أن يكون هذا من جنس الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات؛

فأنتم تأملوا تفسير الآية، ثم نزلوه على هذه الواقعة.
وأيضا، في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر على بلال وسلمان وأجناسهما، فقالوا: «ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها»، فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ ثم أتى النبي ﷺ فذكر له ذلك، فقال: «يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك» ١.
ومن أفضل الجهاد: جهاد المنافقين في زمن الغربة، فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصدًا سيئًا، فلينصحه برفق وإخلاص الدين لله، وترك الرياء والقصد الفاسد، ولا يفل عزمه عن الجهاد، ولا يتكلم فيه بالظن السيئ وينسبه إلى ما لا يليق، ولا يدخل خاطرك شيء من النصيحة، فلو أدري أنه يدخل خاطرك ما ذكرته، وأنا أجد في نفسي أني أود أن أنصح كلما غلطت، والسلام.
وقال الشيخ إبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع، فإن كان ما يقدر بنفسه وجب عليه بالمال، فإن كان لا يقدر بالمال ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا لِلَّهِ ورَسُولِهِ ما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ واللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: ٩١].

  ١ مسلم: فضائل الصحابة (٢٥٠٤)، وأحمد (٥/‏٦٤).
والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب، ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر.
وقالوا أيضًا: وقد توعد الله من تثاقل عن الجهاد، ورضي بالإخلاد إلى الأرض، بالوعيد الشديد، قال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ أرَضِيتُمْ بِالحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ إلّا قَلِيلٌ إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا ألِيمًا﴾ الآية [سورة التوبة آية: ٣٨-٣٩]، وقال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٤] لما يصلحكم؛ وقد فرضه الله على الناس فرض الصلاة والزكاة، قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة آية: ٢١٦].
فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين ووهنهم عن لقاء العدو، لأن الله تبارك وتعالى أمر بفعل السبب، وأن لا يتوكل إلا على الله وحده، قال تعالى: {وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: ٢٣].
وقال تعالى: ﴿إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ﴾ الآية [سورة آل عمران آية: ١٦٠]، وقال تعالى لمحمد ﷺ: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنِّي مُمِدُّكُمْ بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى﴾ الآية [سورة الأنفال آية: ٩-١٠].
فإذا فعل المسلمون ما أمرهم الله به، وتوكلوا على الله، وحققوا توكله، نصرهم الله وأمدهم بالملائكة، كما هي عادته مع عباده المؤمنين في كل زمان ومكان، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾ [سورة الصفات آية: ١٧١-١٧٣]، وقال تعالى: ﴿ولَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ ولِيًّا ولا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [سورة الفتح آية: ٢٢-٢٣].
وأجاب بعضهم، رحمهم الله: وأما الجهاد، فهو واجب على القادر عليه بنفسه وماله، كما أمر الله به
﷿ في كتابه بقوله: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدُوا بِأمْوالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة التوبة آية:٤١]، وأما من لا يقدر على الجهاد بنفسه ولا بماله، فلا يجوز إلزامه بذلك، كما عذره الله تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ} [سورة النور آية: ٦١
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن

بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى كافة الإخوان، سلمهم الله من شرور الدنيا والآخرة، ووفقنا وإياهم للتجارة الفاخرة؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فاعلموا، وفقنا الله وإياكم لشكر ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام، والاجتماع على ذلك، وجهاد من خرج عنه من أهل الجهل والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أوجب الله تعالى جهادهم دفعًا لعنادهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، كما قال تعالى: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العالَمِينَ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٥١].
ومن فضله عليكم: اجتماعكم، وجهادكم لأهل الفساد، ولولا الجهاد لأفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وأنتم - ولله الحمد - على ملة الإسلام، تعبدون ربكم وتوحدونه، وتعملون بفرائضه، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر؛ ومن أعظم الشكر: الجهاد الذي أوجبه الله في كتابه العزيز، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهُوَ كُرْهٌ 

 ج9. الدرر السنية في الأجوبة النجدية 

سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجلين بحثا في الهجرة … إلخ؟
فأجاب: الصواب مع الثاني، وهو الحق المقطوع به الذي ندين الله به، وهو: أن الهجرة واجبة على من لم يقدر على إظهار دينه، وخاف الفتنة؛ وأدلة ذلك ظاهرة من الكتاب والسنة. وقد نص علماء السنة على ذلك وذكروه من أصولهم، وأن الجهاد قائم مع كل إمام بر وفاجر، حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، وأن الهجرة باقية لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
وأما الجواب عما احتج به الأول، من قوله: لا هجرة بعد الفتح، فالمراد بذلك لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، ولم يبق فيها من يفتن المسلم عن دينه؛ قال شيخ الإسلام،
تعالى: أراد به: الهجرة المعهودة في زمنه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة، وغيرها من أرض العرب؛ فإن الهجرة مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها. فلما فتحت مكة، وصارت دار إسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار إسلام، فقال: «لا هجرة بعد الفتح» ١؛ وعلى هذا يحمل حديث صاحب الخضرمة، لأن بلاد العرب إذ ذاك صارت كلها دار إسلام؛

  ١ البخاري: الجهاد والسير (٢٧٨٣)، ومسلم: الحج (١٣٥٣)، والترمذي: السير (١٥٩٠)، والنسائي: البيعة (٤١٧٠)، وأبو داود: الجهاد (٢٤٨٠)، وأحمد (١/‏٢٢٦، ١/‏٣١٥، ١/‏٣٥٥)، والدارمي: السير (٢٥١٢).

وكون الأرض دار كفر أو دار إيمان، أو دار فسق، ليست صفة لازمة، بل هي صفة عارضة بحسب حال سكانها، والحكم يدور مع علته./ وأما الحديث الثاني: فالمراد به غير ما فهم هذا في الأصل، وهو: أن التوحيد شرط لجميع الأعمال، الصلاة وغيرها، وهذا الشرط هو الذي تفهمه العرب من لسانها، ولذلك لما قال لهم رسول الله ﷺ: «قولوا: لا إله إلا الله»، قالوا: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا﴾ [سورة ص آية ٥]، وقال عنهم: ﴿إنَّهُمْ كانُوا إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ويَقُولُونَ أإنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [سورة الصافات آية: ٣٥-٣٦]. وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم وإن نطقوا بها، وصلّوا وزكّوا، لا يفهمون منها ما فهمته العرب، من أن معناها: خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة وحده لا شريك له؛ بل يخالفون معناها، فيصرفون التأله لغير الله تعالى، ويعتقدون ذلك قربة إلى الله، فيصرفون خالص حق الله الذي دلت عليه هذه الكلمة لغيره تعالى، بل أكبهم الجهل إلى الشرك في الربوبية، فلا تنفعهم «لا إله إلا الله» مع ذلك وإن قالوها، لأن الشرك محبط للعمل، كما قال تعالى: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [سورة الزمر آية: ٦٥]، وغير ذلك من الآيات الدالة على حبوط عمل المشرك.
ومشركو العرب، إنما كان شركهم في الإلهية، فلا

تنفع «لا إله إلا الله» قائلها، إلا إذا التزم ما دلت عليه من خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة؛ ولذلك لما قالها أهل النفاق واليهود، ولم يلتزموا ما دلت عليه، لم تنفعهم. فإن كان الإنسان مقيمًا بين أظهر من هذا حاله، فهو دائر بين أحوال: إما الموافقة لهم على هذا المعتقد، وموالاتهم عليه، أو مدح معتقدهم وتفضيلهم على أهل التوحيد، فهذا مثلهم كما قال تعالى: ﴿ومَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإنَّهُ مِنهُمْ﴾ الآية [سورة المائدة آية: ٥١]، وقال تعالى في حق المادحين لدينهم: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ والطّاغُوتِ ويَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ومَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [سورة النساء آية: ٥١-٥٢]؛ بل من كان كذلك فهو منهم، وإن كان بين أظهر المسلمين، فهذا غير مظهر لدينه، فتجب عليه الهجرة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء الثامن،
ويليه الجزء التاسع، وأوله:
فصل: في الإمامة والبيعة والسمع والطاعة

المجلد التاسع: (القسم الثاني من: كتاب الجهاد، وأول كتاب حكم المرتد)
تابع كتاب الجهاد
فصل: (في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة)

بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة]
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب،
تعالى: الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم.
وقال أيضا: اختلفوا في الجماعة والافتراق، فذهب الصحابة ومن معهم إلى وجوبها، وأن الإسلام لا يتم إلا بها، وذهبت الخوارج ومن معهم إلى الأخرى وإنكار الجماعة، ففصل الكتاب بينهم، بقوله تعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٣] الآية.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب

تعالى: الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا، فبين - أي الكتاب - هذا بيانا شائعا ذائعا، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف بالعمل به؟
وقال أيضا: وبعد يجيئنا من العلوم، أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة، وهذا شيء ما يستقيم عليه دين، والدين هو الحب في الله والبغض فيه، فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين، صار بطانته أهل الشر؛ وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم، والتغاضي عن زلته؛ وهذا أمر لا بد منه من أهل الدين، يتغاضون عن أميرهم، وكذلك الأمير يتغاضى عنهم، ويجعلهم مشورته وأهل مجلسه، ولا يسمع فيهم كلام العدوان، وترى الكل: من أهل الدين والأمير، ما يعبد الله أحد منهم إلا برفيقه، فأنتم توكلوا على الله، واستعينوا بالله على الائتلاف والمحبة واجتماع الكلمة، فإن العدو يفرح إذا رأى أن الكل ناقم على رفيقه، والسبب يرجو عود الباطل.
[الإمامة في غير قريش]
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود
تعالى، هل تصح الإمامة في غير قريش؟
فأجاب: الذي عليه أكثر العلماء، أنها لا تصح في غير قريش إذا أمكن ذلك وأما إذا لم يمكن ذلك واتفقت الأمة على مبايعة الإمام، أو اتفق

أهل الحل والعقد عليه، صحت إمامته، ووجبت مبايعته، ولم يصح الخروج عليه، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، كقوله ﷺ: «عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي …» الحديث.
[فرضية نصب الإمام]
وسئل: أبناء الشيخ محمد وحمد بن ناصر رحمهم الله؛ هل نصب الإمام فرض على الناس أم لا؟
فأجابوا: الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن الإمام يجب نصبه على الناس، وذلك أن أمور الإسلام لا تتم إلا بذلك، كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإنصاف الضعيف من القوي، وغير ذلك من أمور الدين، ولهذا أوجب الله طاعة أولي الأمر، فقال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [سورة النساء آية: ٥٩.] وقال تعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٣]
وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ قال: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»١، وفي حديث العرباض بن سارية، أنه قال عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وعليكم بسنتي وسنة

  ١ البخاري: الأحكام (٧١٤٤)، ومسلم: الإمارة (١٨٣٩)، والترمذي: الجهاد (١٧٠٧)، وأبو داود: الجهاد (٢٦٢٦)، وابن ماجه: الجهاد (٢٨٦٤)، وأحمد (٢/‏١٧،٢/‏١٤٢).

الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»١. ولا يستقيم الدين إلا بإمام، ولهذا قال علي : «لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قالوا: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال يقام بها الحدود، ويؤمن بها السبل».
وأما العبد إذا اجتمعت فيه شروط الإمامة، فالذي عليه أهل العلم: أن العبد لا تجوز إمامته إذا أمكن، ولم يقهر الناس بسلطانه، وأما إذا قهر الناس واجتمع عليه أهل الحل والعقد، وجبت طاعته وحرمت مخالفته، كما في حديث العرباض المتقدم «وإن تأمر عليكم عبد حبشي»٢؛ وإذا أمكن كون الإمام من قريش، فهو أولى، كما في الحديث الصحيح.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال بعض الجهال: إن من شروط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب
تعالى، ومن قام معه وبعده بما دعا إليه؛ وأيضا: إن البغاة تحل دماؤهم دون أموالهم، وقد استحل الأموال والدماء من العلماء وغيرهم … إلى آخره؟
فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم

  ١ الترمذي: العلم (٢٦٧٦)، وأبو داود: السنة (٤٦٠٧)، وابن ماجه: المقدمة (٤٢،٤٤)، وأحمد (٤/‏١٢٦)، والدارمي: المقدمة (٩٥).
٢ البخاري: الأذان (٦٩٣)، وابن ماجه: الجهاد (٢٨٦٠)، وأحمد (٣/‏١٧١).

يقل تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح؛ وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش، ومحمد بن عبد الوهاب ما ادعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم دعا إلى الهدى، وقاتل عليه ولم يلقب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماما، وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما.
وأيضا: فالألقاب أمرها سهل، وهذا كل من صار وليا في صنعا يسمى إماما، وصاحب مسكة، يلقب كذلك.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتل من قاتله، ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على ترك الشرك وإزالة المنكرات، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة لأجل منع الزكاة، ولم يفرقوا بينهم وبين المرتدين في القتل وأخذ المال.
قال شيخ الإسلام أبو العباس
تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائعه، 

ج10.  الدرر السنية في الأجوبة النجدية 

٥٤].
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: ﴿وما مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ ومَن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكِرِينَ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٤٤] إلى قوله: ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾
فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر، كان جميع ما يقضي له من القضاء خيرا له، كما قال النبي ﷺ: «لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له»١. والصابر الشكور، هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر، فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه، يفضي به إلى قبيح المآل.
فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة، التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وبها تثبت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن، من كيد أهل النفاق، والإلحاد والبهتان؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه ==

  ١ مسلم: الزهد والرقائق (٢٩٩٩)، وأحمد (٦/‏١٥).

== الظاهرة والباطنة، وينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، على الكافرين، والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم، والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس، .
[حكم أكل الحشيشة]
ومن جواب له
، لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز؟ فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرا أو قليلا، لكن الكثير المسكر منها، حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين؛ وحكم المرتد أشر من اليهود والنصارى، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة، أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن، وتنفع في الطريق.
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة، متأولا قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾ [سورة المائدة آية: ٩٣] الآية، فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة،
، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا، انتهى ما نقلته من كلام الشيخ.
فتأمل: كلام هذا الذي ينسب عنه عدم تكفير المعين،

إذا جاهر بسب دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد، ويدخل مع المشركين، لأجل انتسابه إلى الإسلام؟ انظر كيف كفر المعين، ولو كان عابدا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلها للخاصة، الذين تعينهم على الفكرة.
واستدل بإجماع الصحابة، على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا، وكلامه في المعين، وكلام الصحابة في المعين؛ فكيف بما نحن فيه، مما لا يساوي استحلال الحشيشة، جزءًا من ألف جزء منه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
آخر الجزء التاسع ويلبه الجزء العاشر،
وهو بقية كتاب حكم المرتد.

المجلد العاشر: (القسم الأخير من كتاب حكم المرتد)
تابع كتاب حكم المرتد

القسم الأخير من كتاب حكم المرتد
وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين بآيات الله، المصدقين لرسول الله، التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله، والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان، المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيكم ﷺ على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب، قد خرجوا عن ملة إبراهيم، وأقبلوا على الشرك بالله، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ فلما دعا إلى الله، ارتاع أهل الأرض من دعوته، وعادَوْه كلهم، جهالهم وأهل الكتاب، عبادهم وفساقهم، ولم يتبعه على دينه إلا أبو بكر الصديق، وبلال وأهل بيته ﷺ خديجة وأولادها، ومولاه زيد بن حارثة، وعلي

«قال عمرو بن عبسة: لما أتيت النبي ﷺ بمكة قلت: ما أنت؟ قال: نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئ. قلت: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد»، ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال.
فهذا صيغة بدو الإسلام وعداوة الخاص والعام له، وكونه في غاية الغربة؛ ثم قد صح عنه ﷺ أنه قال: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ» ١. فمن تأمل هذا وفهمه، زالت عنه شبهات شياطين الإنس، الذين يجلبون على من آمن برسول الله ﷺ بخيل الشيطان ورجله.
فاصبروا يا إخواني، واحمدوا الله على ما أعطاكم، من معرفة الله سبحانه، ومعرفة حقه على عباده، ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم - في هذا الزمان - التي أكثرُ الناس منكر لها؛ واضرعوا إلى الله أن يزيدكم إيمانا ويقينا وعلما، وأن يثبت قلوبكم على دينه، وقولوا كما قال الصالحون، الذين أثنى الله عليهم في كتابه: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ [سورة آل عمران آية: ٨]

  ١ مسلم: الإيمان (١٤٥)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٨٦)، وأحمد (٢/‏٣٨٩).

واعلموا أن الله سبحانه، قد جعل للهداية والثبات أسبابا، كما جعل للضلال والزيغ أسبابا؛ فمن ذلك: أن الله سبحانه أنزل الكتاب، وأرسل الرسول، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، كما قال تعالى: ﴿وما أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وهُدىً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة النحل آية: ٦٤] فبإنزال الكتب، وإرسال الرسول، قطع العذر، وأقام الحجة، كما قال تعالى: ﴿ئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [سورة النساء آية: ١٦٥]
فلا تغفلوا عن طلب التوحيد وتعلمه، واستعمال كتاب الله وإجالة الفكر فيه؛ وقد سمعتم من كتاب الله ما فيه عبرة، مثل قولهم: نحن موحدون، نعلم أن الله هو النافع الضار، وأن الأنبياء وغيرهم لا يملكون نفعا ولا ضرا، لكن نريد الشفاعة، وسمعتم ما بين الله في كتابه، في جواب هذا، وما ذكر أهل التفسير وأهل العلم، وسمعتم قول المشركين: الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم: لا نريد إلا من الله، لكن نريد بجاههم؛ وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله.
وقد منّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله، سمعتم إقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين، والبصرة، والعراق، واليمن، أن هذا شرك بالله، فأقروا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله، ويزعمون أنهم

السواد الأعظم، أقروا لكم أن دينهم هو الشرك.
وأقروا لكم أيضا أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه، وفي قتل أهله وحبسهم، أنه دين الله ورسوله؛ وهذا الإقرار منهم على أنفسهم، من أعظم آيات الله، ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت، الذي طبع الله عليه، وذلك لا حيلة فيه.
ولكنهم يجادلونكم اليوم بشبهة واحدة، فأصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون: كل هذا حق، نشهد أنه دين الله ورسوله، إلا التكفير، والقتال؛ والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا! إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله، كيف لا يكفر من أنكره، وقتل من أمر به وحبسهم، كيف لا يكفر من أمر بحبسهم؟! كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك، يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم؟! ويحثهم على قتل الموحدين، وأخذ مالهم، كيف لا يكفر، وهو يشهد أن هذا الذي يحث عليه، أن الرسول ﷺ أنكره ونهى عنه؟! وسماه الشرك بالله، ويشهد أن هذا الذي يبغضه، ويبغض أهله، ويأمر المشركين بقتلهم، هو دين الله ورسوله!.
واعلموا: أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله،

وكلام أهل العلم كلهم.
وأنا أذكر لكم آية من كتاب الله، أجمع أهل العلم على تفسيرها، وأنها في المسلمين، وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان، قال تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمانِ﴾ [سورة النحل آية: ١٠٦] إلى آخر الآية وفيها ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٣]؛ فإذا كان العلماء، ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة؛ وذكروا: أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه، مع بغضه لذلك وعداوة أهله، لكن خوفا منهم، أنه كافر بعد إيمانه؛ فكيف بالموحد في زماننا، إذا تكلم في البصرة، أو الإحساء، أو مكة، أو غير ذلك خوفا منهم، لكن قبل الإكراه؛ وإذا كان هذا يكفر، فكيف بمن صار معهم، وسكن معهم، وصار من جملتهم؟! فكيف بمن أعانهم على شركهم، وزينه لهم؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين، وحثهم على لزوم دينهم؟
فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا من نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله، نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم، في مسألة التكفير والقتال، فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ، وأمثالهم؛ والله أسأل أن يوفقكم 

ج11. الدرر السنية في الأجوبة النجدية  

وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء.
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ١.
ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ ٢ فهذا حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله؛ وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك.
وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء؛ فإنه يأذن سبحانه لمن يشاء في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن له، وهو صاحب التوحيد، الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله.

  ١ سورة الزمر آية: ٣.
٢ سورة الزمر آية: ٣.

والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله، هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والشفاعة التي نفاها، هي الشفاعة الشركية في قلوب المشركين، المتخذين من دون الله شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون.
فتأمل قول النبي ﷺ لأبي هريرة، وقد سأله: «من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله»، كيف جعل أعظم الأسباب، التي تنال بها شفاعته، تجريد التوحيد؟ عكس ما عند المشركين، أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم، وموالاتهم من دون الله؛ فقلب النبي ﷺ ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومِن جَهْلِ المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا، أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما تكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ ١، وفي الفصل الثاني ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ ٢.

  ١ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٢ سورة الأنبياء آية: ٢٨.

وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول ﷺ؛ وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين١؟
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء العاشر من الدرر السنية، ويليه الجزء الحادي عشر أول مختصرات الردود.

  ١ إلى آخر كلامه [ انظر صفحة ٣٤١ /جـ ١ من مدارج السالكين.

المجلد الحادي عشر: (القسم الأول من كتاب مختصرات الردود)
كتاب مختصر الردود

كتاب مختصر الردود
قال الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر

  [قال الله  تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم  الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا معين؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد: فإنه لما كان منتصف جمادى الثانية، من سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف، ورد علينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها.
منها: أنه زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله، غير مسلم لوجوه:
الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه.
الثاني: إن نظر فيه من حيثية القول، فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أولوه بالأصغر وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد، فهو كالطيرة، وهي من الأصغر.
الثالث: أنه قد ورد في حديث الضرير، قوله: «يا محمد إني أتوجه بك» ١ إلخ. وفي الجامع الكبير،

  ١ الترمذي: الدعوات (٣٥٧٨)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٣٨٥)، وأحمد (٤/‏١٣٨).

وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته، قال: «يا عباد الله احبسوا» وهذا دعاء ونداء لغير الله.
الجواب:- وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد - اعلم: أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان:
أحدهما: سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو يعينه، أو ينصره مما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة
يستشفعون بالنبي ﷺ في حياته، فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم.
فالمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى: ﴿فاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ﴾ [سورة القصص آية: ١٥] وقال تعالى: ﴿وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [سورة الأنفال آية: ٧٢] وكما ورد في الصحيحين أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد ﷺ.
وفي سنن أبي داود، «أن رجلا قال للنبي:ﷺ إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه» فأقره على قوله نستشفع بك على الله؛ وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك. فالصحابة
كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته ﷺ.

النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما، مما لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل: سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات؛ فهذا من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين.
وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام؛ فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به شدة أو عرضت له حاجة، يقول لميت: يا سيدي فلان اقض حاجتي، أو اكشف شدتي، أو أنا في حسبك، أو أنا متشفع بك إلى ربي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي ﷺ بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها؛ فإن هذا من الشرك الأكبر، الذي كفّر الله به المشركين، الذين كفرهم النبي ﷺ واستباح دماءهم وأموالهم؛ لم يقولوا إن آلهتهم شاركت الله في خلق العالم، أو إنها تنْزل المطر وتنبت النبات؛ بل كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهُمْ مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [سورة لقمان آية: ٢٥] الآية وقال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٨٤-٨٥] إلى قوله: ﴿فَأنّى تُسْحَرُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٨٩].

وقال تعالى: ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [سورة يوسف آية: ١٠٦] قال طائفة من السلف، في تفسير هذه الآية: إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض، قالوا: الله، وهم يعبدون غيره؛ ففسروا الإيمان في الآية، بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية، الذي هو توحيد العبادة.
والعبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك: الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله؛ فمن طلبه من غيره، واستعان به فيه، فقد عبده به والدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، قال الله تعالى: ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ [سورة غافر آية: ٦٠].
وفي الترمذي: عن ابن عباس
، عن النبي ﷺ قال: «الدعاء مخ العبادة» ١ وللترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الدعاء هو العبادة»٢ ثم قرأ: ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي﴾ [سورة غافر آية: ٦٠] الآية، قال الترمذي حديث حسن صحيح.
قال الشارح: معنى قوله ﷺ: «الدعاء هو العبادة» أي: معظمها، فهو كقوله: «الحج عرفة» ٣ أي: ركنه الأعظم. ومعنى قوله: «الدعاء العبادة» أي: خالصها،

  ١ الترمذي: الدعوات (٣٣٧١).
٢ الترمذي: تفسير القرآن (٢٩٦٩)، وابن ماجه: الدعاء (٣٨٢٨).
٣ الترمذي: الحج (٨٨٩)، والنسائي: مناسك الحج (٣٠١٦)، وأبو داود: المناسك (١٩٤٩)، وابن ماجه: المناسك (٣٠١٥)، وأحمد (٤/‏٣٠٩،٤/‏٣٣٥)، والدارمي: المناسك (١٨٨٧).

لأن الداعي إنما يدعو الله، عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، انتهى.
والدعاء في القرآن يتناول معنيين:
أحدهما: دعاء العبادة، وهو: دعاء الله لامتثال أمره، في قوله: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾
الثاني: دعاء المسألة؛ وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة، ودفع المضرة.
وبقطع النظر عن الامتثال، فقد فسر قوله تعالى: ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [سورة غافر آية: ٦٠] بالوجهين:
أحدهما: ما هو عام في الدعاء وغيره، وهو العبادة، وامتثال الأمر له سبحانه؛ فيكون معنى قوله: ﴿أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أثبكم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [سورة الشورى آية: ٢٦] أي يثيبهم على أحد التفسيرين.
الثاني: ما هو خاص، معناه: سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «ينْزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه سؤاله؟ من يستغفرني فأغفر له؟» ١ فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن المسائل داع؛ فعطف السؤال والاستغفار على الدعاء؛ فهو من باب عطف الخاص على العام.

  ١ البخاري: التوحيد (٧٤٩٤)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (٧٥٨)، والترمذي: الصلاة (٤٤٦) والدعوات (٣٤٩٨)، وأبو داود: الصلاة (١٣١٥) والسنة (٤٧٣٣)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٣٦٦)، وأحمد (٢/‏٢٥٨،٢/‏٢٦٤،٢/‏٢٦٧،٢/‏٢٨٢،٢/‏٤١٩،٢/‏٤٨٧،٢/‏٥٠٤،٢/‏٥٢١)، ومالك: النداء للصلاة (٤٩٦)، والدارمي: الصلاة (١٤٧٨،١٤٧٩). 

لكن لما لم يفهموا التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولم يفهموا الشرك الذي نهى الله عنه في الآيات المحكمات، ولم يلتفتوا إلى ما بينه النبي ﷺ وأخبر به أنه يقع في الأمة من التفرق والاختلاف في الدين، ومشابهة أهل الكتاب، وأن الدين يعود وغريبا كما بدأ، فخفي على هذا وأمثاله هذا الشرك الجلي.
فليس لهؤلاء من العلم ما يهديهم ولا ينجيهم؛ نعوذ بالله من موت القلوب، ورين الذنوب، وقد قال تعالى: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [سورة النحل آية: ٧٣] الآية. وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٥٦]، ونحو هذه الآيات، وهي في القرآن أكثر من أن تحصر، في بيان الشرك، وأنواع العبادة التي وقع الشرك بها، في الأولين والآخرين، بدعاء الأموات الغائبين، ممن لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب، ولا يحبه منه ولا يرضاه.
وأما قوله: وهم يبنون المساجد والمدارس، ويدعون بداع الفلاح،
فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن اليهود والنصارى بنوا الكنائس والبيع والصوامع، ويتعبدون

فيها، فلم يتركوا دينهم رأسا، ويقرؤون التوراة والإنجيل، ويحكمون بكثير من الأحكام الشرعية، مع ما وقع منهم من الكفر والشرك؛ وقد قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٨] الآيات.
وقال قبلها في حق عيسى: ﴿قُلْ أتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نَفْعًا واللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٦]، وذكرهم في صدر سورة البقرة لما وقع منهم من عظائم الذنوب.
الوجه الثاني: أن الشرك مبطل للأعمال، فلا ينفع معه عمل لامرئ، وإن قام ليله وصام نهاره؛ فصورة العمل لا تنفع إلا بالإخلاص والمتابعة. وكثير من الجهال اغتروا بصورة الأعمال، ولم يأتوا بشرطها وهو التوحيد، فصارت كسراب بقيعة، كما قال تعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [سورة النور آية: ٣٩] الآية؛ فهذه حال الأعمال مع الشرك، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
قال الفضيل بن عياض، في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلًا﴾، قال: «أخلصه وأصوبه؛ قيل له: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا».

فالخالص أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله ﷺ.
وأيضا: فقد ذكر الفقهاء، في حكم المرتد: أن الرجل قد يكفر بقول يقوله، أو عمل يعمله، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ويصلي، ويصوم، ويتصدق، فيكون مرتدا تحبط أعماله ما قال أو فعل، خصوصا إن مات على ذلك، فيكون حبوط أعماله إجماعا، بخلاف ما إذا تاب قبل الموت، ففيه الخلاف.
والمقصود: أن الأعمال لا ينفع منها شيء مع الشرك، ولهذا ذكر الفقهاء أن الردة تنقض الوضوء، لفوات النية بالردة، فيفوت استصحابها؛ وكل هذا بين لا يخفى إلا على البلداء الأغبياء. فبهذه الأمور يبطل ما احتج به، من أن الصلاة والأذان ينفع مع الشرك، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكه من عقل، والله أعلم. نسأل الله الثبات على الإسلام والسنة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

  آخر الجزء الحادي عشر من الدرر السنية، ويليه الجزء الثاني عشر، وأوله: وله أيضا … إلخ.

المجلد الثاني عشر: (القسم الثاني من كتاب مختصرات الردود)
تابع كتاب مختصرات الردود
[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ابن منصور]
وله أيضا: أي الشيخ عبد الرحمن بن حسن، صب الله عليه من شآبيب بره، ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد: فليعلم أن هذا الذي علقته في هذه الورقات، قد اقتصدت فيه، واقتصرت على ما تحصل به الفائدة، ويحصل به الثواب من الكريم الوهاب، لأنه من أفضل الجهاد في الدين، والنصيحة لعامة المسلمين، ولمن يصل إليه ممن له رغبة في معرفة حقيقة الدين، الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين.
فأقول - قبل الشروع في تحرير الجواب -: إن عثمان بن منصور اعترض على شيخنا
، فيما دعا إليه من توحيد الله تعالى من الحنيفية ملة إبراهيم، وما بعث به محمد النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليهما، وعلى جميع المرسلين.
فقال: إنه لم يتخرج على أشياخ في العلم، وهذا مما افتراه واختلقه، عمن استند إليه من شيوخه الثلاثة: ابن سند، وابن جديد، وابن سلوم؛ وهذا من جهلهم بحال شيخنا، وشدة عداوتهم له؛ فتلقى عن هؤلاء الثلاثة ما زعموه، من الكذب والبهتان.
والجواب عن هذا: أنه لا يعرف شيخنا، ولا حيث نشأ،

كما يعرفه الخبير بحاله، ممن يقول الحق ويقصده، ويتحرى الصدق ويؤثره؛ فلا ريب أنه لما قدم جده سليمان بن علي، من الروضة، ونزل العيينة، كان أفقه من نزل نجدا في وقته، فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد، منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم.
وكان المتولي للقضاء في العارض: أبوه عبد الوهاب؛ وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد، لحاجتهم إليه في الإفتاء، وما يقع بينهم من بيع العقارات، وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته؛ وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب. فظهر شيخنا بين أبيه وعمه، فحفظ القرآن وهو صغير.
وقرأ في فنون العلم، وصار له فهم قوي، وهمة عالية في طلب العلم، فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل، على بعض الروايات عن الإمام أحمد، والوجوه عن الأصحاب، فتخرج عليهما في الفقه، وناظرهما في مسائل، قرأها في الشرح الكبير والمغني، والإنصاف، لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع.
وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث، فسافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فأظهر الله له من أصول الدين، ما خفي على غيره، وكذلك ما كان عليه أهل السنة، في توحيد الأسماء والصفات والإيمان.
فيقال في الجواب: أنت يا ابن منصور، إنما افتخرت

برحلتك إلى البصرة والزبير، وأقمت بين أشياخك الثلاثة، فما الذي خصك بأخذ العلم منها دونه؟ إذا كان الكل قد سافر إليها، وجالس العلماء، وتميز عنك بالأخذ عما لا يتهم في حقه بالكذب والزور، وأنت قبلت فيه قول أهل الريب والفجور. فصنف في البصرة كتاب التوحيد، الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث.
وأما أنت يا ابن منصور فأي علم جئت به من رحلتك؟ ضيعت زمانك، وأخملت شأنك، وصرت ضحكة عند من أخذ عمن أخذ عن هذا الشيخ، وقد عدوا عليك من الغلطات ما لا فائدة في عدها هنا، وأنت لم تنقل عنهم واحدة غلطوا فيها، وذلك ببركة ما حصلوه ممن أخذ عن شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب
، فكيف حالك لو رأيت من أخذ عنه؟ لكنت في نفسك أحقر؛ ومن الدليل على ما ذكرته هنا: أنه طلب الإجازة مني على هذا الكلام، فأجزته بمروياتي في الحديث وغيره، ظنا مني أنه على هدى، وأنه بأهل العلم قد اقتدى.
ثم إن شيخنا [
تعالى، بعد رحلته إلى البصرة، وتحصيل ما حصل بنجد وهناك، رحل إلى الأحساء، وفيها فحول العلماء، منهم عبد الله بن فيروز، أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد.

وحضر مشائخ الأحساء، ومن أعظمهم: عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري، ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه، من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر؛ وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء، وغيرهم من أهل نجد، فإذا خفي عليك يا ابن منصور، أو جحدته، فغير مستغرب، والعدو يجحد فضائل عدوه.
كل العداوة قد ترجى مودتها … إلا عداوة من عاداك في الدين

ثم إن شيخنا { رجع من الأحساء إلى البصرة، وخرج منها إلى نجد قاصدا الحج، فحج } تعالى، وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه، ضلال من ضل، باتخاذ الأنداد، وعبادتها من دون الله، في كل قطر وقرية، إلا من شاء الله.

فلما قضى الحج وقف في الملتزم، وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام، فعرض له بعض سراق الحجيج، فضربوه وسلبوه، وأخذوا ما معه وشجوا رأسه، وعاقه ذلك عن مسيره مع الحجاج.
فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها، فأقام بها، وحضر عند العلماء إذ ذاك، منهم محمد حياة السندي، وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها، وقراءة لبعضها، ووجد فيها بعض

الحنابلة، فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده، وكتب متن البخاري، وحضر في النحو، وحفظ ألفية ابن مالك، حدثني بذلك حماد بن حمد عنه رحمهما الله.
ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله ولا يرضاها، من الشرك بعبادة الأموات، والأشجار، والأحجار، والجن، فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد، وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله، وأن يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أو طاغوت، أو شجر أو حجر؛ والناس يتبعه منهم الواحد والإثنان.
فصاح به الأكثرون، وحذروا منه الملوك، وأغروهم بعداوته، حتى إن ابن حميد ملك الأحساء والقطيف والبادية، أرسل إلى ابن معمر أمير العيينة أن يقتله، أو ينفيه، فنفاه إلى الدرعية. وتلقاه محمد بن سعود
، وأولاده، وإخوته، فصبروا على حرب القريب والبعيد، حتى أظهر الله هذا الدين، فنجا بدعوته من أنجاه الله من الشرك والضلال، وهلك بدعوته من هلك ممن بغى وطغى، واستكبر وحسد؛ وكل من دعا إلى ما دعت إليه الرسل، لا بد أن يقع له من الناس ما وقع لهم.
والمقصود: ذكر نعمة الله تعالى على شيخنا
[ تعالى، وبيان كذب المفتري، وأنه نشأ في طلب العلم، وتخرج على أهله في سن الصبا، ثم رحل لطلب العلم للبصرة مرارا وللأحساء، ثم إلى المدينة؛ والمعول على ما وهبه الله من الفهم والحفظ،

==============

ج13. الدرر السنية في الأجوبة النجدية 

الحفظي اليمني، ، في أرجوزة له، ذكر فيها أمر هذه الدعوة، وما حصل في ضمنها من إظهار الدين، ونشره في البلاد والعباد، ونشر أعلام الجهاد، فقال :
الحمد حقا مستحقا أبدا … لله رب العالمين سرمدا
أحمده مهللا مسجلا … محوقلا محيعلا محسبلا
مصليا على الرسول الشارع … وآله وصحبه والتابعي
في البدء والختم وأما بعد … فهذه منظومة تعد
حركني لنظمها الخير الذي … قد جاءنا في آخر العصر القذي
لما دعا الداعي من المشارق … بأمر رب العالمين الخالق
وبعث الله لنا مجددا … من أرض نجد عالما مجتهدا
شيخ الهدى محمد المحمدي … الحنبلي الأثري الأحمدي
فقام والشرك الصريح قد سرى … بين الورى وقد طغى واعتكرا
لا يعرفون الدين والتهليلا … وطرق الإسلام والسبيلا
إلا أساميها وباقي الرسم … والأرض لا تخلو من أهل العلم
وكل حزب فلهم وليجة … يدعونه في الضيق للتفريجة
وملة الإسلام والأحكام … في غربة وأهلها أيتام
دعا إلى الله وبالتهليلة … يصرخ بين أظهر القبيلة
مستضعفا وما له مناصر … ولا له معاون موازر
في ذلة وقلة وفي يده … مهفة تغنيه عن مهنده
كأنها ريح الصبا في الرعب … والحق يعلو بجنود الرب

قد أذكرتني درة لعمر … وضرب موسى بالعصى للحجر
ولم يزل يدعو إلى دين النبي … ليس إلى نفس دعا أو مذهب
يعلم الناس معاني أشهد … أن لا إله غير فرد يعبد
محمد نبيه وعبده … رسوله إليكم وقصده
أن تعبدوه وحده لا تشركوا … شيئا به والابتداع فاتركوا
ومن دعا دون الإله أحدا … أشرك بالله ولو محمدا
إن قلتمو نعبدهمو للقربة … أو للشفاعات فتلك الكذبة
فربنا يقول في كتابه … هذا هو الشرك بلا تشابه
هذي معاني دعوة الشيخ لمن … عاصره فاستكبروا عن السنن
فانقسم الناس فمنهم شارد … مخاصم محارب معاند
ما بين خفاش وبين جعل … شاهت وجوه أهل هذا المثل
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء الثاني عشر
ويليه الجزء الثالث عشر: «كتاب التفسير»
إن شاء الله تعالى

المجلد الثالث عشر: (تفسير واستنباط لسور وآيات من القرآن الكريم)
كتاب تفسير القرآن
*

كتاب تفسير القرآن
قال شيخ الإسلام، علم الهداة الأعلام، الشيح: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب.
بسم الله الرحمن الر حيم
باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه
وقول الله
﷿: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ﴾ [سورة المجادلة آية: ١١]، وقوله تعالى: ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ٧٩].
وعن عائشة
، قالت: قال رسول الله ﷺ: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع ١ فيه وهو عليه شاق له أجران»أخرجاه؛ وللبخاري عن عثمان { أن رسول الله ﷺ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»٢ .

  ١ التتعتع: التردد في الكلام عيا وصعوبة.
٢ البخاري: فضائل القرآن (٥٠٢٧)، والترمذي: فضائل القرآن (٢٩٠٧، ٢٩٠٨)، وأبو داود: الصلاة (١٤٥٢)، وابن ماجه: المقدمة (٢١١)، وأحمد (١/‏٥٨)، والدارمي: فضائل القرآن (٣٣٣٨).

ولمسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان ١، أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان لصاحبهما؛ اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة».
وله عن النواس بن سمعان، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، يقدمه سورة البقرة وآل عمران» ٢، وضرب لهما رسول الله ﷺ ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق ٣، أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان عن صاحبهما».
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ:«من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» ٤ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح؛ وله وصححه عن عبد الله بن عمر، عن النبي ﷺ قال: "يقال

  ١ الغياية ما أظللك من فوقك.
٢ مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (٨٠٥)، والترمذي: فضائل القرآن (٢٨٨٣)، وأحمد (٤/‏١٨٣).
٣ أي: ضياء ونور.
٤ الترمذي: فضائل القرآن (٢٩١٠).

لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية «١.
ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد:»ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء منه «٢، ولأحمد أيضا عن بريدة مرفوعا:»تعلموا سورة البقرة «٣ فذكر مثل ما تقدم في الصحيح، في البقرة وآل عمران.
وفيه:»وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول له: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن، الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن؛ ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا «٤.
وعن أنس: أن رسول الله ﷺ قال:»أهل القرآن هم أهل الله وخاصته «٥ رواه أحمد والنسائي.
باب ما جاء في تقديم أهل القرآن وإكرامهم
كان القراء أصحاب مجلس عمر، كهولا كانوا أو شبانا. وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال:
» يؤم القوم

  ١ الترمذي: فضائل القرآن (٢٩١٤)، وأبو داود: الصلاة (١٤٦٤).
٢ ابن ماجه: الأدب (٣٧٨٠)، وأحمد (٣/‏٤٠).
٣ أحمد (٥/‏٣٤٨)، والدارمي: فضائل القرآن (٣٣٩١).
٤ ابن ماجه: الأدب (٣٧٨١)، وأحمد (٥/‏٣٤٨)، والدارمي: فضائل القرآن (٣٣٩١).
٥ ابن ماجه: المقدمة (٢١٥)، وأحمد (٣/‏١٢٧).

أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا «١.
وفي رواية:»سلما، ولا يؤمّنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه «٢ رواه مسلم.
وللبخاري عن جابر: أنه ﷺ كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول:»أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ «٣ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد.
وعن أبي موسى، أن رسول الله ﷺ قال:»إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان «٤ حديث حسن رواه أبو داود.
باب وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه
والتغليظ على من ترك ذلك
وقول الله تعالى: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ [سورة الأنعام آية: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٢]، وقوله: ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سورة طه آية ١٢٤].
عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال:»مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان

  ١ مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٦٧٣)، والترمذي: الصلاة (٢٣٥)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (٩٨٠)، وأحمد (٤/‏١١٧، ٤/‏١٢١، ٥/‏٢٧٢).
٢ مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٦٧٣).
٣ البخاري: الجنائز (١٣٤٣)، والترمذي: الجنائز (١٠٣٦)، والنسائي: الجنائز (١٩٥٥)، وأبو داود: الجنائز (٣١٣٨).
٤ أبو داود: الأدب (٤٨٤٣).

منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به «١ أخرجاه.
وعن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال:»ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون «٢ رواه أحمد.
باب الخوف على من لم يفهم القرآن أن يكون من المنافقين
وقوله تعالى: ﴿ومِنهُمْ مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إذا خَرَجُوا مِن عِنْدِكَ﴾ [سورة محمد آية: ١٦] الآية، وقوله
﷿: ﴿ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهُمْ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها﴾ [سورة الأعراف آية: ١٧٩] الآية.
عن أسماء: أن رسول الله ﷺ قال:»إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريبا من فتنة الدجال، يؤتى أحدكم، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا؛ فيقال: نم صالحا، فقد علمنا إنك لمؤمن؛ وأما المنافق

  ١ البخاري: العلم (٧٩)، ومسلم: الفضائل (٢٢٨٢)، وأحمد (٤/‏٣٩٩)./٢ أحمد (٢/‏١٦٥). 

ج14.  الدرر السنية في الأجوبة النجدية

[تفسير سورة الناس]
وقال أيضا الشيخ محمد
: تفسير سورة الناس:
بسم الله الرحمن الرحيم
وأما قوله: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ [سورة الناس آية: ١] فقد تضمنت أيضا ذكر ثلاثة: الأول: الاستعاذة وقد تقدمت؛ الثاني: المستعاذ به؛ والثالث: المستعاذ منه؛ فأما المستعاذ به، فهو الله وحده لا شريك له، رب الناس الذي خلقهم، ورزقهم ودبرهم، وأوصل إليهم مصالحهم، ومنع عنهم مضارهم.
مَلِكِ النّاسِ} [سورة الناس آية: ٢] أي: المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكة، المدبر لهم، كما يشاء الذي له القدرة والسلطان

عليهم؛ فليس لهم ملك يهربون إليه إذا دهمهم أمر؛ يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويعطي ويمنع.
﴿إلَهِ النّاسِ﴾ [سورة الناس آية: ٣] أي: معبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق إلا هو، فخلقهم وصورهم، وأنعم عليهم، وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم، وأمرهم ونهاهم، وصرفهم كما يشاء بملكه، واستعبدهم بالهيبة الجامعة لصفات الكمال كلها.
وأما المستعاذ منه، فهو: الوسواس، وهو الخفي الإلقاء في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بصوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد؛ وأما الخناس فهو الذي يخنس ويتأخر ويختفي.
وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء؛ وهذان وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، وذلك: أن العبد إذا غفل جثم على قلبه، وبذل فيه الوساوس، التي هي أصل الشر؛ فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس.
قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية، يضعه على ثمرة القلب، يمنيه ويحدثه؛ فإذا ذكر الله خنس. وجاء بناءه على الفعال، الذي يتكرر منه، فإنه كلما ذكر الله انخنس، وإذا غفل عاد.
وقوله: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ [سورة الناس آية: ٦] يعنى: أن الوسواس نوعان: إنس وجن؛ فإن الوسوسة الإلقاء الخفي، لكن إلقاء الإنس بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها؛ ونظير اشتراكهما في الوسوسة، اشتراكهما في الوحي الشيطاني، في قوله: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الأِنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا ولَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وما يَفْتَرُونَ﴾ [سورة الأنعام آية: ١١٢]. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
.
آخر الجزء الثالث عشر؛ ويليه الجزء الرابع عشر: «كتاب النصائح»

المجلد الرابع عشر: (كتاب النصائح)
كتاب النصائح

كتاب النصائح
[قول أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب في النصيحة والتذكير بنعم الله، وماعليه الناس من التقصير والذنوب]
قال أبناء الشيخ؛ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الأجر والثواب، آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﷺ تسليما.
من إبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والموجب لهذا: التذكير والنصيحة، والشفقة علينا وعليكم من عقوبة الله، وأنتم تعرفون ما من الله به علينا وعليكم من دين الإسلام، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على جميع المسلمين.
وأكثر الناس اليوم، على الشرك، وعبادة غير الله؛ وأعطاكم الله في ضمن الإسلام، من النعم والنصر على الأعداء ما تعرفون، ولا يجيء أهل الإسلام شيء إلا بسبب

ذنوبهم، فإذا عرفوا الذنب وتابوا منه، نصرهم الله، وأعزهم، وكسر عدوهم، وجعل العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهُمْ مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾ [سورة الرعد آية: ١١] وقال تعالى لخيار الخلق: ﴿أَوَلَمّا أصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذا قُلْ هُوَ مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٦٥].
وهذه الأمور: يجريها الله سبحانه وتعالى، ابتلاء وامتحانا، ليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، فيجازي المؤمن بالنصر والظفر على عدوه، ويجازي المنافق والمرتاب بالعذاب والنكال، والخزي في الدنيا والآخرة؛ وأنتم ترون أن أغلب البلدان ما صفت وركد ١ الإسلام فيها، إلا بعد الردة، وتمييز الخبيث من الطيب.
فالواجب علينا وعليكم الإقبال على الله، والتوبة والاستغفار؛ وكل يعرف ذنبه، ويتوب إلى الله منه، ولا يجعل الأمر في غيره، قال الله تعالى: ﴿وتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة النور آية: ٣١] وقال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسى رَبُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [سورة التحريم آية: ٨].
والتوبة لها شروط؛ منها: الإقلاع عن الذنب،

  ١ أي استقر وثبت الإسلام فيها.

والندم، والعزيمة ألا يعود؛ ونحن نخشى علينا وعليكم مما وقع من التقصير والذنوب:
منها: ترك المحافظة على الصلوات الخمس، وهي عمود الإسلام، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
ومنها: الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى أن من الناس من ينشأ وهو ما يعرف دين الإسلام؛ ومنهم من يدخل فيه، وهو ما يعرفه ولا يفعله، ظنا منه أن الإسلام هو العهد. ومعرفة الإسلام والعمل به، واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد.
ومنها: أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر المنع يحبسها؛ والزكاة ركن من أركان الإسلام، واجب أداؤها إلى الإمام أو نائبه، على الأمر المشروع.
ومنها: عدم إنكار المنكر ممن يراه، ويسكت عن إنكاره، خوفا أو هيبة من أحد من الناس، والمنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، وإذا فشا ولم ينكر ضر العامة، قال تعالي ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٨ - ٧٩].
ومنها: ظهور عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من كثير

من الناس، وذلك من أكبر الكبائر، كما في الحديث: ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ١، وفي الحديث الآخر: لا يدخل الجنة قاطع رحم ٢
ومنها: ما يجري من بعض الأمراء والعامة: من الغلول من المغانم، وفيهم من يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن، وذلك حرام؛ قال الله تعالى: ﴿ومَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٦١] وفي الحديث: الغلول نار وعار وشنار ٣.
ومنها: ظلم بعض الأمراء، يأخذ من أموال الناس بصورة الجهاد، ولا يصرفه في الجهاد، بل يأكله، وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة، ولا يعطي المساكين منها شيئا، والإمام يأمره بإعطاء كل ذي حق حقة، ويعصي ويعمل على رأيه.
والزكاة تولى الله قسمتها في كتابه، وجزأها ثمانية أجزاء، وأخبر النبي ﷺ أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. ومن الأمراء والنظراء من يصرف الجهاد عن الأغنياء، ويجعله على الفقراء، الذين لم يجعل الله عليهم شيئًا والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال، وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع؛ فإن كان ما يقدر بنفسه، وجب عليه بالمال؛ فإن كان ما يقدر بالمال، ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه.

  ١ البخاري: الشهادات ٢٦٥٤، ومسلم: الإيمان ٨٧، والترمذي: البر والصلة ١٩٠١، وأحمد ٥/‏٣٦،٥/‏٣٨.
٢ البخاري: الأدب ٥٩٨٤، ومسلم: البر والصلة والآداب ٢٥٥٦، والترمذي: البر والصلة ١٩٠٩، وأبو داود: الزكاة ١٦٩٦، وأحمد ٤/‏٨٠،٤/‏٨٣،٤/‏٨٤.
٣ ابن ماجه: الجهاد ٢٨٥٠، وأحمد ٥/‏٣١٦.

قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا لِلَّهِ ورَسُولِهِ ما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة التوبة آية: ٩١] والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون، ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب؛ ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر.
ومنها: اختلاط الجيد بالردي، وصاحب الدين بالمنافق، ولا يميز هذا من هذا، ووقع بسببه ظهور الكلام الباطل، الذي لو يظهر من أحد في أول الإسلام، أدب أدبا بليغا، وعرف أن قائله منافق، وفي وقتنا هذا يظهر ولا ينكر، إلا ما شاء الله.
ومنها: الظلم والوقوع فيما حرم الله، من الدماء والأموال والأعراض، والغيبة والنميمة، وقول الزور، وبهت المسلم بما ليس فيه، وصار هذا ما يستنكر، فإذا بان كذبه وتزويره، ما سقط من العيون، والله سبحانه وتعالى حرم هذا في كتابه.
وقال رسول الله ﷺ فيما ثبت عنه: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا وقال تعالى {والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ 

ج15.  الدرر السنية في الأجوبة النجدية

وغير ذلك، أخذ يقول: خلّ عنا طوعك، ويعلج لسانه.
وهذا من أعظم المنكرات، ولكن لعدم مبالاتهم، لا يبالون بوقوعه منهم، بل عده العلماء من المحبطات للإيمان، والكفر بعد الإيمان، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ٦٥].
وقد ترجم شيخنا، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب،
تعالى، في «كتاب التوحيد»ترجمة ذكر فيها الآيات، والأحاديث الدالة على انتقاض إسلام متعاطي مثل ذلك، وذكر أيضا في بعض رسائله، أنه داخل في مثل ذلك: مد الشفة وغمز بالعين.
وقد ذكر لنا أن عبد الله بن الشيخ لما غزا مع عبد الله بن سعود، ومر رجل من المسلمين رجلا يغني، فنهاه عن ذلك، ثم رد عليه المنهي وقال: خلّ عنا طوعك؛ أنكر ذلك الشيخ عبد الله غاية الإنكار، وذهب إلى عبد الله بن سعود، وقال: تغزو العدو البعيد، وتترك العدو الباطني؟ فأمر به فضرب.
وهذا أمر يقع ولا يبالى به، ولا يرى منكرا؛ وإن رئي منكرا، فلا أحد ينكره؛ ويتعاطاه متعاطيه عامدا لذلك، عالما به أنه منكر.
ومن المنكرات: مخالطة الرجال للنساء الأجنبيات، في الأسواق والسكك، لا سيما أيام العرضات، ومع ذلك تجدها ووجهها باد، وما عليها إلا شيلة رهيفة، وتجدها تقف للرجال تنظر إليهم وينظرون إليها؛ وأول معصية وقعت في

بني آدم، خلطة الرجال بالنساء، ثم الزنى.
ومن المنكرات: قذف الرجال بعضهم بعضا، والنساء بعضهن بعضا؛ يقول الرجل لأخيه: يا زاني، يا ولد القحبة؛ وتقول المرأة لأختها: يا زانية، يا قحبة؛ وهذا من أعظم المنكرات، بل من السبع الموبقات.
ومن المنكرات أيضا: لعن الرجل لأخيه، ولعن الصبيان بعضهم بعضا، ومع ذلك هذه المنكرات لا يبالى بها، ولا ينكرها منكر؛ وإن أنكرت فعلى ضعف؛ وقد أعظم القرآن والسنة أمرها وشناعتها، ليست بخافية على العامة، فضلا عن الخاصة.
فيجب على ولاة الأمور إنكار المنكرات، والأمر بالمعروف؛ وقد ذكر بعض العلماء أن على ولاة الأمور عبودية تخصهم ليست على غيرهم، وعلى العلماء عبودية تخصهم؛ فعلى ولاة الأمور تنفيذ أمر الله، وعلى العلماء التبليغ والنصح، وعدم الغفلة عن التناصح، لمن له قدرة على ذلك؛ وعلى العامة القبول والمساعدة
ومما هو لازم وواجب: قسر الجاهل على تعلم دينه بدليله؛ ومن ذلك: زجر الناس من أكل أعراض بعضهم بعضا؛ وبالجملة: فكل ما حرم الله فهو منكر، وكل ما أمر الله به فهو معروف، فيجب إنكار المنكر، والائتمار بما وجب من الأمر، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

فائدة: روي أن عيسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - مر على قرية فوجد أهلها أمواتا على الطرقات من غير دفن، فسأل ربه عنهم، فأوحى الله تعالى إليه: إذا كان الليل، فادعهم إنهم يجيبونك.
فلما كان الليل ناداهم، فقال رجل منهم: لبيك يا روح الله؛ قال: ما قصتكم؟ قال: بتنا في عافية، وأصبحنا في الهاوية، قال: ولِمَ؟ قال: بحبنا للدنيا كحب الصبي لأمه، إذا أقبلت فرح، وإذا أدبرت بكى؛ قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال إنهم ملجمون بلجام من النار، بأيدي ملائكة غلاظ شداد.
قال: كيف أنت أجبتني من بينهم؟ قال: لست منهم، بل مررت بهم، فلما نزل العذاب أصابني ما أصابهم، وأنا مطروح على شفير جهنم، فلا أدري أنجو أم لا.
وفقنا الله وإياكم إلى طريق الخير والصلاح والهدى، وعصمنا وإياكم من أسباب الجهل، وطريق المعاصي والردى، وسلمنا من شرور أنفسنا، فإن النفس أشر العداء؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.
آخر الجزء الرابع عشر من الدرر السنية ويليه
الجزء الخامس عشر إن شاء الله تعالى.

المجلد الخامس عشر: (القسم الأول من البيان الواضح وأنبل النصائح عن ارتكاب الفضائح)
[مقدمة]

القسم الأول من البيان الواضح وأنبل النصائح عن ارتكاب الفضائح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، يبصرونهم عن العمى، ويصبرون منهم على الأذى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، أنزل كتابه المبين، هدى ورحمة، وذكرى للمؤمنين.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، أرسله الله تبصرة ورحمة للعالمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد: فحيث حصل بسبب الاختلاط بأهل الخارج، المشابهة في بعض المحظورات، من أنظمة، وتعليم، وترك فرائض، ومشابهة في المكس، واللباس، وحلق اللحى، والتصوير، والتبرج، والملاهي، والتنزه، وغير ذلك مما حدث في هذا العصر، وهو ما بعد وفاة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف
، سنة ١٣٣٩ هـ.

مع أنهم لا يرون أنهم في رتبة طبقة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والإمام فيصل، وكذلك أولئك، لا يرون أنهم يماثلون طبقة مجدد الدعوة، وذريته الذين بذلوا مهجهم، وأبناءهم، وأموالهم، في جهاد من يليهم، إلى أن يدخلوهم في الإسلام طوعا وقسرا، فضلا عن عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من الأئمة المهديين، فلما حدث من ذلك، من المعاول الهدامة لدين الإسلام، استعنت بالله جل وعلا، أن أثبت ما وقفت عليه من نصائح بعض علمائنا ١ وما لم أقف على شيء منه، أورد قبله ما تيسر بلاغا عن الله، وإقامة لحججه وبيناته من كتاب الله وسنة نبيه، على عباده، وتوكلا على الله، واتباعا لقوله تعالى: ﴿يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ [سورة المائدة آية: ٥٤]، وامتثالا لما ثبت عنه ﷺ من قوله: «وأن تقول الحق ولا تخاف في الله لومة لائم»
وأسأله تعالى أن يوفق علماء هذا العصر، الذين هم ما بين قاض ومعلم وغيرهم، بأن يتساعدوا مع ولاة الأمر، على أن يخففوا وطأة هذه المنكرات التي حدثت، فيبنوا ما تهدم مما أطده سلفهم، إلى أن يعود الأمر إلى نصابه. وأبدأ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنه

  ١ وبعض ما وقفت عليه، أضفته إلى مجموع رسائلهم، كل رسالة فيما يليق بها من تلك المجلدات.

إذا استقام قضى على تلك المحظورات، فأقول:

[الباب الأول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الباب الأول
أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثنى على من قام به، فقال تعالى: ﴿ولْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٤]، وقال: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [سورة التوبة آية: ٧١]، وقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [سورة آل عمران آية: ١١٠]
وقال النبي ﷺ: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» ١، وفي رواية: «وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان» ٢، وقال ﷺ «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده» ٣.
 

١ مسلم: الإيمان (٤٩)، والترمذي: الفتن (٢١٧٢)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (٥٠٠٨،٥٠٠٩)، وأبو داود: الصلاة (١١٤٠) والملاحم (٤٣٤٠)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٢٧٥) والفتن (٤٠١٣)، وأحمد (٣/‏١٠،٣/‏٢٠،٣/‏٤٩،٣/‏٥٢،٣/‏٥٤،٣/‏٩٢).
٢ مسلم: الإيمان (٥٠).
٣ أبو داود: الملاحم (٤٣٣٦).

ويأتي من النصائح ما فيه كفاية.
[نصيحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد]
وأبدأ بنصيحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، لتصويره الواقع فيها، فقال
[ تعالى ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم للعمل بما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومناهيه، آمين. سلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
وبعد: فلا يخفى ما أصيب به الإسلام والمسلمون، من الشرور والفتن، والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بالوداع، والنفاق قد أشرف وأقبل باطلاع. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره، لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره؛ ولم يقوموا بالدعوة إليه، بغرس محبته في القلوب بذكر ما تقدم؛ فإن الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج اللذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة.
والاجتماع المأمور به، في قوله تعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٣] تهدمت مبانيه،

  ١ نقلت من الطبعة الثالثة في مؤسسة النور

ولهذا نرى النشء الجديد المتعلم في مدارس الشركات، لا قدر للدّين عندهم، ولا بصيرة لهم فيه، لضعف تعليمه عندهم.
ومتى ضعفت البصيرة في الدين والقلوب، وتعلقت بغيره، انهارت الأديان والأخلاق كما هو مشاهد؛ وهذا النشء المتعلم في مدارس الشركات في الداخل أو الخارج، وبعض العمال، هم أكبر سلاح على أمتهم في إفساد الأخلاق والأديان، فلا يغتر بهم.
أيها المسلمون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا تهنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، لا تذلوا أنفسكم لأعداء الله، ولا تبيعوا دينكم بعرض من الدنيا هل من سامع للنصيحة؟ هل من مطيع لأوامر الله ورسوله؟ هل من منته عما

نهى الله ورسوله عنه؟ فيسعد في الدنيا والآخرة.
فإن اضطررتم أيها المسلمون إلى العمل بالأجرة، في معامل هذه الشركات الأجنبية، وبليتم بمخالطة هؤلاء الأجناس الأرجاس، الذين لا دين لهم مستقيم، ولا أخلاق شريفة، فإن حكومتكم أيدها الله، قد أخذت لكم الحقوق منهم تامة، ورفعت لكم الأجور، وحفظت لكم المصالح، وميزتكم عمن سواكم، لشرف الإسلام.
فعليكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، والقيام بواجبات الإسلام، والعمل بتعاليمه؛ وأعظمها بعد الشهادتين: الصلاة في أوقاتها جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجماعتكم المسلمين، وأداء النصيحة لهم، والبعد عمن أخل بدينه منهم، اهجروهم، لا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تجالسوهم، واحذروا منهم: وبيّنوا حالهم ليعاملوا بما يستحقونه.
ولا تخضعوا للكافرين، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعظموهم في شيء من الأمور، وأظهروا لهم البغضاء والعداوة، وأدوا الأمانة لمن ائتمنكم، ولا تخونوا من خانكم، وخذوا ما لكم من الحقوق، وأدّوا ما عليكم منها، ولا تطيعوا في معصية الله أحدا أبدا كائنا من كان. «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ١.
لا تبدؤوهم بالسلام، ولا تقوموا لهم، وإذا لقوكم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه، ولا تقلدوهم في شيء من

  ١ مسلم: الإمارة (١٨٤٠)، والنسائي: البيعة (٤٢٠٥)، وأبو داود: الجهاد (٢٦٢٥)، وأحمد (١/‏١٣١).

أمورهم وأفعالهم، خالفوا اليهود، يقول نبيكم ﷺ: «من تشبه بقوم فهو منهم» ١، واحذروا شرب شيء من المسكرات، واستماع الغناء وآلات اللهو، كالسينما، والصندوق، والربابة، والسمسمية، والمزامير، سواء أكانت من الراديو أو غيره. وصلى الله على محمد.
آخر الجزء الخامس عشر ويليه السادس عشر
وفيه بقية البيان الواضح، وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة.

  ١ أبو داود: اللباس (٤٠٣١).

المجلد السادس عشر: (القسم الثاني من البيان الواضح، وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة)
الباب التاسع (تابع)
الفصل الثالث: السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الثاني من البيان الواضح
الفصل الثالث من الباب التاسع [السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام]
والسبب الأعظم لضعف العلم والإسلام، والكسر الذي لا ينجبر، والطامة الكبرى: استجلاب معلمين ملحدين من البلدان المنحلة، لنشر الثقافة - يعني الغربية - ورفع الأمية.
ويحملون معهم برنامج التعليم الذي يشتمل على فنون محظورة، من تصوير، وغيرها مما له معاهد في تلك الأوطان في بلادهم، التي أعرضت عن دين الله وشرعه، واشتهرت فيها شعائر الكفر، ليجتثوا الإسلام من أصله، بسبب ما هم عليه من عداء، وما في قلوبهم من حقد، قال تعالى: ﴿إنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [سورة الممتحنة آية: ٢].
وقد أخذ عنهم أكثر الشباب مواد تعليمهم وتخلقوا بأخلاقهم، فيا ليتنا تلقيناهم بنحورنا نصرة لدين الله فمنعناهم، أو نلنا الشهادة؛ وعذرنا غدا بين يدي رب

العالمين؛ وفضل الجهاد في سبيل الله قد أفرد بالمصنفات، وفي أثناء كتب الحديث وغيرها.
وقد حدثني من لا أتهم: أن فلانا قال للشيخ عبد الرحمن بن حسن: يا شيخ عبد الرحمن، جدك الشيخ محمد جاء بشجرة لا إله إلا الله، فغرسها في بلدة العيينة، فصارت الأرض صلدة سبخة، فحملها إلى الدرعية، فصارت الأرض خصبة، فسقاها بالدعوة، وحماها محمد بن سعود بالسيف، فأينعت، وأراها في عصركم خوت؛ هذا والشيخ عبد الرحمن بن حسن يقول: لو ظهر علينا أهل الدرعية لقاتلونا.
وفي عصر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وطبقته صارت أشد خويانا، لأن المحتسبين في عصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أمسكوا كاتب الإمام فيصل، خرج من بيت فيه عزب، وطلبوا من الإمام ضربه في السوق، فقال: اضربوه في الحوشة.
فأتوا إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فقال للإمام فيصل: يضرب الرجل في السوق؛ فقال الإمام: يضرب في الحوشة، فقال الشيخ: نسلم عليك، وخرج من الرياض إلى بلدة الحوطة.
فتبعه الإمام فيصل، وطلب منه أن يرجع؛ فقال: عاهدناك على دين الله ورسوله، ولا أرجع حتى تعاهدني

الآن على ذلك، والرجل يضرب في السوق، فعاهده، وضرب في السوق.
وفي عصر الشيخ عبد الله: كنت أسير معه من المسجد إلى بيته في بعض الأيام، وذات يوم تبعه رجل من الإخوان، فأدركه في أثناء الطريق، فقال: يا شيخ عبد الله، هذا الكافر «فلبى» يدخل المسجد، أفلا نقتله؟ قال: لا يا ولدي، قال: أفلا نخرجه منه؟ ولم أحفظ ما قاله، فالتفت الشيخ إليه، فإذا هو قد ولى مدبرا، فالتفت إلي ودموعه على خديه، وقال بحزن: إيه سوف يعلمون. وأخبرني الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد باسم الرجل، وقال: إنه قال: أخرجوه أخرجوه، سوف يعلمون، سوف يعلمون، فلا أدري هل ما قاله مرة أخرى، أو تلك المرة، لأنه يقيم في البلد، ومن أخص الناس بالشيخ عبد الله.
وكان الشيخ سعد بن عتيق يذكر الناس في السوق، ولما مر بقوله ﷺ «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله» ١ 

 وأنهى الكلام عليه، قام على قدميه ورفع صوته وهو يبكي فقال: ينزل النصراني في بيت أرفع من بيوت المسلمين التي حوله؟! وأزعج الناس. وكان عنده من رجال الملك عبد العزيز، فأخبروه،

  ١ البخاري: الجهاد والسير (٢٨٨٧).

ثم توجه الملك إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وذكر له ما قال الشيخ سعد في السوق، فقال الشيخ عبد الله: نحن سكتنا، وتكلم الشيخ سعد بالواجب.
وفي هذا العصر ضعفت الغيرة الدينية من الأكثر، بسبب القادمين من بلاد الخارج، والتابعين لهم، فجاؤوا إلى شجرة لا إله إلا الله، التي جاء بها وغذاها المصلح، وأيدها بسيفه الناصر للدين، ليقتلعوها من وطن ازدهرت فيه برهة من الزمن.
إن لم تدارك بتكاتف العلماء، ومساعدة الرؤساء، فلسوف تزال، كما زالت من تلك الأمصار، التي كانت هي مقر الإسلام وولاته، ومجتمع العلماء، وتبليغ العلم؛ وفي انحرافهم لنا عبرة ألا نسلك مسالكهم، وألا يتسرب إلينا باطلهم.
وجدير بولاة الأمر والعلماء الاقتفاء بآثار آبائهم وسلفهم الصالح، وأن يبنوا ما تهدم من بنائهم الرفيع، ليفوزوا بحسن الثناء في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة، وألا يذهب العلم والإسلام من وطنه الذي بناه سلفهم الصالح، وأن يقتفوا آثارهم في تعليم العلم وحماية الإسلام، وأن يزيلوا بدع ما جاء به أذناب المنحلين من صفة تعلمهم المضعف للعلم.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : العلوم المفضولة إذا أضعفت العلم، حرمت، فكيف بالعلوم المحظورة، ثم بترقب شهادات لمقدار الأجر؟! وفي الحديث: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» ١ يعني: ريحها.
وذكر لنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن العاصمي، فقال ما معناه: إن أول مدرسة نظامية بنيت ببغداد، وطلب لها العلماء، وأجري لهم ولطلاب العلم مرتبات، والتحق بها كثير؛ ولما علم علماء بخارى بكوا بكاء شديدا، متأسفين على العلوم الإسلامية. فقيل لهم: ما هذا البكاء؟ وما هذا الجزع؟ ما هي إلا مدرسة دينية للعلم، كالتفسير، والحديث، والفقه، وغيرها؛ فقال العلماء: إن العلم شريف في نفسه سام، لا يحمله إلا النفوس السامية الزكية الشريفة، ويشرفون بشرف العلم. أما إذا أجريت المرتبات لطلابه، أقبل إليه من لا خير فيه، من السقطة والأراذل الذين يريدون بتعلمهم العلم لنيل المناصب، والوظائف، وأخذ المرتبات، فيزول العلم ويسقط بسقوط وإزالة حملته، فيصبح العلم الشريف لا قيمة له.

  ١ أبو داود: العلم (٣٦٦٤)، وابن ماجه: المقدمة (٢٥٢)، وأحمد (٢/‏٣٣٨).  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القرآن الكريم : وورد

  القرآن الكريم :  سورة الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِ...