الأحد، 28 مايو 2023

1.كتاب الاقتصاد في الاعتقاد + و2. كتاب التبر المسبوك في نصحية الملوك أبو حامد الغزالي + 3.كتاب مشكاة الأنوار أبو حامد الغزالي

الاقتصاد في الاعتقاد أبو حامد الغزالي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحق وأهل السنة، وخصهم من بين سائر الفرق بمزايا اللطف والمنة، وأفاض عليهم من نور هدايته ما كشف به عن حقائق الدين، وأنطق ألسنتهم بحجته التي قمع بها ضلال الملحدين، وصفى سرائرهم من وساوس الشياطين، وطهر ضمائرهم عن نزغات الزائغين، وعمر أفئدتهم بأنوار اليقين حتى اهتدوا بها إلى أسرار ما أنزله على لسان نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، واطلعوا على طريق التلفيق بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول؛ وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول. وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وإن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الافراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط. بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم؛ فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد

الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم انه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر، وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر؟ أو لا يعلم ان العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والاذاء. ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فاخلق بأن يكون طالب الاهتداء. المستغني إذا استغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور. وسيتضح لك أيها المشوق إلى الاطلاع على قواعد عقائد أهل السنة، المقترح تحقيقها بقواطع الأدلة، أنه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هذا الفريق. فاشكر الله تعالى على إقتفائك لآثارهم وانخراطك في سلك نظامهم وعيارهم واختلاطك بفرقتهم؛ فعساك أن تحشر يوم القيامة في زمرتهم. نسأل الله تعالى أن يصفي أسرارنا عن كدورات الضلال، ويغمرها بنور الحقيقة، وأن يخرس ألسنتنا عن النطق بالباطل، وينطقها بالحق والحكمة إنه الكريم الفائض المنة الواسع الرحمة. باب ولنفتح الكلام ببيان اسم الكتاب، وتقسيم المقدمات والفصول والأبواب. أما اسم الكتاب فهو الاقتصاد في الاعتقاد. وأما ترتيبه فهو مشتمل على أربع تمهيدات تجري مجرى التوطئة والمقدمات، وعلى أربع أقطاب تجري مجرى المقاصد والغايات. التمهيد الأول: في بيان أن هذا العلم من المهمات في الدين. التمهيد الثاني: في بيان أنه ليس مهماً لجميع المسلمين بل لطائفة منهم مخصوصين. التمهيد الثالث: في بيان أنه من فروض الكفايات لا من فروض الأعيان. التمهيد الرابع: في تفصيل مناهج الأدلة التي أوردتها في هذا الكتاب. وأما الأقطاب المقصودة فأربعة وجملتها مقصورة على النظر في الله تعالى. فإنا إذا نظرنا في العالم لم ننظر فيه من حيث أنه عالم وجسم وسماء وأرض، بل من حيث

أنه صنع الله سبحانه. وإن نظرنا في النبي عليه السلام لم ننظر فيه من حيث أنه انسان وشريف وعالم وفاضل؛ بل من حيث أنه رسول الله. وان نظرنا في أقواله لم ننظر من حيث أنها أقوال ومخاطبات وتفهيمات؛ بل من حيث أنها تعريفات بواسطته من الله تعالى، فلا نظر إلا في الله ولا مطلوب سوى الله وجميع أطراف هذا العلم يحصرها النظر في ذات الله تعالى وفي صفاته سبحانه وفي أفعاله عز وجل وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءنا على لسانه من تعريف الله تعالى. فهي إذن أربعة أقطاب: القطب الأول: النظر في ذات الله تعالى. فنبين فيه وجوده وانه قديم وأنه باق وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا محدود بحد ولا هو مخصوص بجهة، وأنه مرئي كما أنه معلوم وأنه واحد؛ فهذه عشرة دعاوى نبينها في هذا القطب. القطب الثاني: في صفات الله تعالى. ونبين فيه أنه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم وأن له حياة وعلماً وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً وكلاماً، ونذكر أحكام هذه الصفات ولوازمها وما يفترق فيها وما يجتمع فيها من الأحكام، وأن هذه الصفات زائدة على الذات وقديمة وقائمة بالذات ولا يجوز أن يكون شيء من الصفات حادثاً. القطب الثالث: في أفعال الله تعالى. وفيه سبعة دعاوى وهو انه لا يجب على الله تعالى التكليف ولا الخلق ولا الثواب على التكليف ولا رعاية صلاح العباد ولا يستحيل منه تكليف ما لا يطاق ولا يجب عليه العقاب على المعاصي ولا يستحيل منه بعثه الأنبياء عليهم السلام؛ بل يجوز ذلك. وفي مقدمة هذا القطب بيان معنى الواجب والحسن والقبيح. القطب الرابع: في رسل الله، وما جاء على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من الحشر والنشر والجنة والنار والشفاعة وعذاب القبر والميزان والصراط، وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الباب الثاني: فيما ورد على لسانه من أمور الآخرة. الباب الثالث: في الإمامة وشروطها. الباب الرابع: في بيان القانون في تكفير الفرق المبتدعة.

التمهيد الأول في بيان أن الخوض في هذا العلم مهم في الدين اعلم أن صرف الهمة إلى ما ليس بمهم، وتضييع الزمان بما عنه بد هو غاية الضلال ونهاية الخسران سواء كان المنصرف إليه بالهمة من العلوم أو من الأعمال، فنعوذ بالله من علم لا ينفع. وأهم الأمور لكافة الخلق نيل السعادة الأبدية واجتناب الشقاوة الدائمة، وقد ورد الأنبياء وأخبروا الخلق بأن لله تعالى على عباده حقوقاً ووظائف في أفعالهم وأقوالهم وعقائدهم. وأن من لم ينطق بالصدق لسانه ولم ينطو على الحق ضميره ولم تتزين بالعدل جوارحه فمصيره إلى النار وعاقبته للبوار. ثم لم يقتصروا على مجرد الإخبار بل استشهدوا على صدقهم بأمور غريبة وأفعال عجيبة خارقة للعادات خارجة عن مقدورات البشر، فمن شاهدها أو سمع أحوالها بالأخبار المتواترة سبق إلى عقله إمكان صدقهم، بل غلب على ظنه ذلك بأول السماع قبل أن يمعن النظر في تمييز المعجزات عن عجائب الصناعات. وهذا الظن البديهي أو التجويز الضروري ينزع الطمأنينة عن القلب ويحشوه بالاستشعار والخوف ويهيجه للبحث والافتكار ويسلب عنه الدعة والقرار ويحذره مغبة التساهل والإهمال ويقرر عنده أن الموت آت لا محالة وأن ما بعد الموت منطو عن أبصار الخلق وأن ما أخبر به هؤلاء غير خارج عن حيز الإمكان. فالحزم ترك التواني في الكشف عن حقيقة هذا الأمر. فما هؤلاء مع العجائب التي أظهروها في إمكان صدقهم قبل البحث عن تحقيق قولهم بأقل من شخص واحد يخبرنا عن خروجنا من دارنا ومحل استقرارنا بأن سبعاً من السباع قد دخل الدار فخذ حذرك واحترز منه لنفسك جهدك، فإنا بمجرد السماع إذا رأينا ما أخبرنا عنه في محل الامكان والجواز لم نقدم على الدخول وبالغنا في الاحتراز فالموت هو المستقر والوطن قطعاً، فكيف لا يكون الاحتراز لما بعده مهماً؟ فإذن أهم الممات أن نبحث عن قوله الذي قضى الذهن في بادئ الرأي وسابق النظر بامكانه أهو محال في نفسه على التحقيق أو هو حق لا شك فيه؟ فمن

قوله ان لكم رباً كلفكم حقوقاً وهو يعاقبكم على تركها ويثيبكم على فعلها وقد بعثني رسولاً إليكم لأبين ذلك لكم، فيلزمنا لا محالة أن نعرف أن لنا رباً أم لا. وإن كان فهل يمكن أن يكون حياً متكلماً حتى يأمر وينهى ويكلف ويبعث الرسل، وإن كان متكلماً فهل هو قادر على أن يعاقب ويثيب إذا عصيناه أو أطعناه، وإن كان قادراً فهل هذا الشخص بعينه صادق في قوله أنا الرسول إليكم. فإن اتضح لنا ذلك لزمنا لا محالة، إن كنا عقلاء، أن نأخذ حذرنا وننظر لأنفسنا ونستحقر هذه الدنيا المنقرضة بالاضافة إلى الآخرة الباقية فالعاقل من ينظر لعاقبته ولا يغتر بعاجلته. ومقصود هذا العلم إقامة البرهان على وجود الرب تعالى وصفاته وأفعاله وصدق الرسل كما فصلناه في الفهرست. وكل ذلك مهم لا محيص عنه لعاقل. فإن قلت اني لست منكراً هذا الانبعاث للطلب من نفسي ولكني لست أدري أنه ثمرة الجبلة والطبع وهو مقتضى العقل أو هو موجب الشرع إذ للناس كلام في مدارك الوجوب؛ فهذا انما تعرفه في آخر الكتاب عند تعرضنا لمدارك الوجوب. والاشتغال به الآن فضول بل لا سبيل بعد وقوع الانبعاث إلى الانتهاض لطلب الخلاص. فمثال الملتفت إلى ذلك مثال رجل لدغته حية أو عقرب وهي معاودة اللدغ والرجل قادر على الفرار ولكنه متوقف ليعرف ان الحية جاءته من جانب اليمين أو من جانب اليسار، وذلك من أفعال الأغبياء الجهال نعوذ بالله من الاشتغال بالفضول مع تضييع المهمات والأصول.

التمهيد الثاني في بيان الخوض في هذا العلم وإن كان مهماً فهو في حق بعض الخلق ليس بمهم بل المهم لهم تركه إعلم أن الأدلة التي نحررها في هذا العلم تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلوب. والطبيب المستعمل لها إن لم يكن حاذقاً ثاقب العقل رصين الرأي كان ما يفسده بدوائه أكثر مما يصلحه. فليعلم المحصل لمضمون هذا الكتاب والمستفيد لهذه العلوم أن الناس أربع فرق: الفرقة الأولى: آمنت بالله وصدقت رسوله واعتقدت الحق وأضمرته واشتغلت إما بعبادة وإما بصناعة؛ فهؤلاء ينبغي أن يتركوا وما هم عليه ولا تحرك عقائدهم بالاستحثاث على تعلم هذا العلم، فإن صاحب الشرع صلوات الله عليه لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر من التصديق ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني. وهذا مما علم ضرورة من مجاري أحواله في تزكيته إيمان من سبق من أجلاف العرب إلى تصديقه ببحث وبرهان؛ بل بمجرد قرينة ومخيلة سبقت إلى قلوبهم فقادتها إلى الإذعان للحق والانقياد للصدق فهؤلاء مؤمنون حقاً فلا ينبغي أن تشوش عليهم عقائدهم، فإنه إذا تليت عليهم هذه البراهين وما عليها من الاشكالات وحلها لم يؤمن أن تعلق بأفهامهم مشكلة من المشكلات وتستولي عليها ولا تمحى عنها بما يذكر من طرق الحل. ولهذا لم ينقل عن الصحابة الخوض في هذا الفن لا بمباحثة ولا بتدريس ولا تصنيف، بل كان شغلهم بالعبادة والدعوة إليها وحمل الخلق على مراشدهم ومصالحهم في أحوالهم وأعمالهم ومعاشهم فقط. الفرقة الثانية: طائفة مالت عن اعتقاد الحق كالكفرة والمبتدعة. فالجافي الغليظ منهم الضعيف العقل الجامد على التقليد الممتري على الباطل من مبتدأ النشوء إلى كبر السن لا ينفع معه إلا السوط والسيف. فأكثر الكفرة أسلموا تحت ظلال السيوف إذ يفعل الله بالسيف والسنان ما لا يفعل بالبرهان واللسان. وعن هذا إذا استقرأت تواريخ الأخبار لم تصادف ملحمة بين المسلمين والكفار إلا انكشفت عن جماعة من أهل الضلال مالوا إلى الانقياد، ولم تصادف مجمع مناظرة ومجادلة انكشفت إلا عن زيادة إصرار وعناد. ولا تظنن أن هذا الذي ذكرناه غض من منصب العقل وبرهانه

ولكن نور العقل كرامة لا يخص الله بها إلا الآحاد من أوليائه، والغالب على الخلق القصور والاهمال، فهم لقصورهم لا يدركون براهين العقول كما لا تدرك نور الشمس أبصار الخفافيش. فهؤلاء تضر بهم العلوم كما تضر رياح الورد بالجعل. وفي مثل هؤلاء قال الامام الشافعي رحمه الله: فمن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم الفرقة الثالثة: طائفة اعتقدوا الحق تقليداً وسماعاً ولكن خصوا في الفطرة بذكاء وفطنة فتنبهوا من أنفسهم لإشكالات تشككهم في عقائدهم وزلزلت عليهم طمأنينتهم، أو قرع سمعهم شبهة من الشبهات وحاكت في صدورهم. فهؤلاء يجب التلطف بهم في معالجتهم باعادة طمأنينتهم وإماطة شكوكهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم ولو بمجرد إستبعاد وتقبيح أو تلاوة آية أو رواية حديث أو نقل كلام من شخص مشهور عندهم بالفضل. فإذا زال شكه بذلك القدر فلا ينبغي أن يشافه بالأدلة المحررة على مراسم الجدال، فإن ذلك ربما يفتح عليه أبواباً أخر من الإشكالات. فإن كان ذكياً فطناً لم يقنعه إلا كلام يسير على محك التحقيق. فعند ذلك يجوز أن يشافه بالدليل الحقيقي وذلك على حسب الحاجة وفي موضع الاشكال على الخصوص. الفرقة الرابعة: طائفة من أهل الضلال يتفرس فيهم مخائل الذكاء والفطنة ويتوقع منهم قبول الحق بما اعتراهم في عقائدهم من الريبة أو بما يلين قلوبهم لقبول التشكيك بالجبلة والفطرة. فهؤلاء يجب التلطف بهم في استمالتهم إلى الحق وإرشادهم إلى الاعتقاد الصحيح لا في معرض المحاجة والتعصب، فإن ذلك يزيد في دواعي الضلال ويهيج بواعث التمادي والإصرار. وأكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحري والادلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزراء. فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة وعسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نظروا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقراً في قلب مجنون فضلاً عمن له قلب عاقل. والمجادلة والمعاندة داء محض لا دواء له، فليتحرز المتدين منه جهده وليترك الحقد والضغينة وينظر إلى كافة خلق الله بعين الرحمة، وليستعن بالرفق واللطف في ارشاد من ضل من هذه الأمة، وليتحفظ من النكد الذي يحرك داعية الضلال، وليتحقق أن مهيج داعية الاصرار بالعناد والتعصب معين على الاصرار على البدعة ومطالب بعهده اعانته في القيامة.

التمهيد الثالث في بيان الاشتغال بهذا العلم من فروض الكفايات إعلم أن التبحر في هذا العلم والاشتغال بمجامعه ليس من فروض الأعيان وهو من فروض الكفايات. فأما أنه ليس من فروض الأعيان فقد إتضح لك برهانه في التمهيد الثاني. إذ تبين أنه ليس يجب على كافة الخلق إلا التصديق الجزم وتطهير القلب عن الريب والشك في الإيمان. وإنما تصير إزالة الشك فرض عين في حق من اعتراه الشك. فإن قلت فلم صار من فروض الكفايات وقد ذكرت أن أكثر الفرق يضرهم ذلك ولا ينفعهم؟ فاعلم أنه قد سبق أن ازالة الشكوك في أصول العقائد واجبة، واعتوار الشك غير مستحيل وإن كان لا يقع إلا في الأقل، ثم الدعوة إلى الحق بالبرهان مهمة في الدين. ثم لا يبعد أن يثور مبتدع ويتصدى لإغواء أهل الحق بإفاضة الشبهة فيهم فلا بد ممن يقاوم شبهته بالكشف ويعارض إغواءه بالتقبيح، ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم. ولا تنفك البلاد عن أمثال هذه الوقائع، فوجب أن يكون في كل قطر من الأقطار وصقع من الأصقاع قائم بالحق مشتغل بهذا العلم يقاوم دعاة المبتدعة ويستميل المائلين عن الحق ويصفي قلوب أهل السنة عن عوارض الشبهة. فلو خلا عنه القطر خرج به أهل القطر كافة، كما لو خلا عن الطبيب والفقيه. نعم من أنس من نفسه تعلم الفقه أو الكلام وخلا الصقع عن القائم بهما ولم يتسع زمانه للجمع بينهما واستفتي

في تعيين ما يشتغل به منهما؛ أوجبنا عليه الاشتغال بالفقه فإن الحاجة إليه أعم والوقائع فيه أكثر فلا يستغني أحد في ليله ونهاره عن الاستعانة بالفقه. واعتوار الشكوك المحوجة إلى علم الكلام باد بالإضافة إليه كما أنه لو خلا البلد عن الطبيب والفقيه كان التشاغل بالفقه أهم؛ لأنه يشترك في الحاجة إليه الجماهير والدهماء. فأما الطب فلا يحتاج إليه الأصحاء، والمرضى أقل عدداً بالإضافة إليهم. ثم المريض لا يستغني عن الفقه كما لا يستغني عن الطب وحاجته إلى الطب لحياته الفانية وإلى الفقه لحياته الباقية وشتان بين الحالتين. فإذا نسبت ثمرة الطب إلى ثمرة الفقه علمت ما بين الثمرتين. ويدلك على أن الفقه أهم العلوم اشتغال الصحابة رضي الله عنهم بالبحث عنه في مشاورتهم ومفاوضاتهم. ولا يغرنك ما يهول به من يعظم صناعة الكلام من أنه الأصل والفقه فرع له فإنها كلمة حق ولكنها غير نافعة في هذا المقام، فإن الأصل هو الاعتقاد الصحيح والتصديق الجزم وذلك حاصل بالتقليد والحاجة إلى البرهان ودقائق الجدل نادرة. والطبيب أيضاً قد يلبس فيقول وجودك ثم وجودك ثم وجود بدنك موقوف على صناعتي وحياتك منوطة بي فالحياة والصحة أولاً ثم الاشتغال بالدين ثانياً. ولكن لا يخفى ما تحت هذا الكلام من التمويه وقد نبهنا عليه.

التمهيد الرابع في بيان مناهج الأدلة التي انتهجناها في هذا الكتاب إعلم أن مناهج الأدلة متشعبة وقد أوردنا بعضها في كتاب محك النظر وأشبعنا القول فيها في كتاب معيار العلم. ولكنا في هذا الكتاب نحترز عن الطرق المتغلقة والمسالك الغامضة قصداً للايضاح وميلاً إلى الإيجاز واجتناباً للتطويل. ونقتصر على ثلاثة مناهج: المنهج الأول: السبر والتقسيم وهو ان نحصر الأمر في قسمين ثم يبطل أحدهما فيلزم منه ثبوت الثاني. كقولنا: العالم إما حادث وإما قديم، ومحال أن يكون قديماً فيلزم منه لا محالة أن يكون حادثاً أنه حادث وهذا اللازم هو مطلوبنا وهو علم مقصود إستفدناه من علمين آخرين أحدهما قولنا: العالم إما قديم أو حادث فإن الحكم بهذا الانحصار علم. والثاني: قولنا ومحال أن يكون قديماً فإن هذا علم آخر. والثالث: هو اللازم منهما وهو المطلوب بأنه حادث. وكل علم مطلوب، فلا يمكن أن يستفاد الا من علمين هما أصلان ولا كل أصلين، بل إذا وقع بينهما إزدواج على وجه مخصوص وشرط مخصوص، فإذا وقع الازدواج على شرطه أفاد علماً ثالثاً وهو المطلوب، وهذا الثالث قد نسميه دعوى إذا كان لنا خصم، ونسميه مطلوباً إذا كان لم يكن لنا خصم، لأنه مطلب الناظر ونسميه فائدة وفرعاً بالاضافة إلى

الأصلين فإنه مستفاد منهما. ومهما أقر الخصم بالأصلين يلزمه لا محالة الاقرار بالفرع المستفاد منهما وهو صحة الدعوى. المنهج الثاني: أن نرتب أصلين على وجه آخر مثل قولنا: كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو أصل، والعالم لا يخلو عن الحوادث فهو أصل آخر، فيلزم منهما صحة دعوانا وهو أن العالم حادث وهو المطلوب فتأمل. هل يتصور أن يقر الخصم بالأصلين ثم يمكنه إنكار صحة الدعوى فتعلم قطعاً أن ذلك محال. المنهج الثالث: أن لا نتعرض لثبوت دعوانا، بل ندعي إستحالة دعوى الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال وما يفضي إلى المحال فهو محال لا محالة. مثاله: قولنا إن صح قول الخصم أن دورات الفلك لا نهاية لها لزم منه صحة قول القائل أن ما لا نهاية له قد انقضى وفرغ منه، ومعلوم أن هذا اللازم محال فيعلم منه لا محالة أن المفضي إليه محال وهو مذهب الخصم. فههنا أصلان: أحدهما قولنا إن كانت دورات الفلك لا نهاية لها فقد انقضى ما لا نهاية له، فإن الحكم بلزوم إنقضاء ما لا نهاية له - على القول بنفي النهاية عن دورات الفلك - علم ندعيه ونحكم به. ولكن يتصور فيه من الخصم إقراراً وإنكار بأن يقول: لا أسلم أنه يلزم ذلك. والثاني قولنا إن هذا اللازم محال فإنه أيضاً أصل يتصور فيه إنكار بأن يقول: سلمت الأصل الأول ولكن لا أسلم هذا الثاني وهو إستحالة إنقضاء ما لا نهاية له، ولكن لو أقر بالأصلين كان الاقرار بالمعلوم الثالث اللازم منهما واجباً بالضرورة؛ وهو الاقرار باستحالة مذهبه المفضي إلى هذا المحال. فهذه ثلاث مناهج في الاستدلال جلية لا يتصور إنكار حصول العلم منها، والعلم الحاصل هو المطلوب والمدلول، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل. والعلم بوجه لزوم هذا المطلوب من ازدواج الأصلين علم بوجه دلالة الدليل، وفكرك الذي هو عبارة عن إحضارك الأصلين في الذهن وطلبك التفطن لوجه لزوم العلم الثالث من العلمين الأصلين هو النظر؛ فإذن عليك في درك العلم المطلوب وظيفتان؛ إحداهما: إحضار الأصلين في الذهن وهذا يسمى فكراً، والآخر: تشوقك إلى التفطن لوجه لزوم المطلوب من ازدواج الأصلين وهذا يسمى طلباً. فلذلك قال من جرد التفاته إلى الوظيفة الأولى حيث أراد حد النظر أنه الفكر. وقال من جرد التفاته إلى الوظيفة الثانية في حد النظر أنه طلب علم أو غلبة ظن. وقال من التفت إلى الأمرين جميعاً أنه الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو غلبة ظن.

فهكذا ينبغي أن تفهم الدليل والمدلول ووجه الدلالة وحقيقة النظر ودع عنك ما سودت به أوراق كثيرة من تطويلات وترديد عبارات لا تشفي غليل طالب ولا تسكن نهمة متعطش ولن يعرف قدر هذه الكلمات الوجيزة إلا من انصرف خائباً عن مقصده بعد مطالعة تصانيف كثيرة. فإن رجعت الآن في طلب الصحيح إلى ما قيل في حد النظر دل ذلك على انك تخص من هذا الكلام بطائل ولن ترجع منه إلى حاصل، فإنك إذا عرفت أنه ليس ههنا إلا علوم ثلاثة: علمان هما أصلان يترتبان ترتباً مخصوصاً، وعلم ثالث يلزم منهما وليس عليك فيه الا وظيفتان: إحداهما إحضار العلمين في ذهنك، والثانية التفطن لوجه العلم الثالث منهما. والخيرة بعد ذلك اليك في اطلاق لفظ النظر في ان تعبر به عن الفكر الذي هو احضار العلمين، أو عن التشوف الذي هو طلب التفطن لوجه لزوم العلم الثالث، أو عن الأمرين جميعاً، فإن العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها. فان قلت غرضي أن أعرف اصطلاح المتكلمين وأنهم عبروا بالنظر عماذا، فاعلم أنك إذا سمعت واحداً يجد النظر بالفكر، وآخر بالطلب، وآخر بالفكر الذي هو يطلب به، لم تسترب في اختلاف اصطلاحاتهم على ثلاثة أوجه. والعجب ممن لا يتفطن هذا ويفرض الكلام في حد النظر. مسألة خلافية: ويستدل بصحة واحد من الحدود وليس يدري أن حظ المعنى المعقول من هذه الأمور لا خلاف فيه وأن الأصطلاح لا معنى للخلاف فيه. وإذا أنت امعنت النظر واهتديت السبيل عرفت قطعاً أن أكثر الأغاليط نشأت من ضلال من طلب المعاني من الألفاظ، ولقد كان من حقه أن يقدر المعاني أولاً ثم ينظر في الألفاظ ثانياً، ويعلم أنها اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات. ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق، ونكل عن التحقيق. فإن قلت: إني لا استريب في لزوم صحة الدعوى من هذين الأصلين إذا أقر الخصم بهما على هذا الوجه، ولكن من أين يجب على الخصم الاقرار بهما ومن أين تقتضي هذه الأحوال المسلمة الواجبة التسليم؟ فاعلم أن لها مدارك شتى ولكن الذي نستعمله في هذا الكتاب نجتهد أن لا يعد ستة: الأول منها: الحسيات، أعني المدرك بالمشاهدة الظاهرة والباطنة، مثاله أنا إذا قلنا مثلاً كل حادث فله سبب، وفي العالم حوادث فلا بد لها من سبب. فقولنا: في العالم حوادث، أصل واحد يجب الإقرار به، فإنه يدرك بالمشاهدة الظاهرة حدوث أشخاص الحيوانات والنباتات والغيوم والامطار ومن الأعراض والأصوات

والألوان. وان تخيل أنها منتقلة، فالانتقال حادث ونحن لم ندع إلا حادثاً ولم نعين أن ذلك الحادث جوهر أو عرض أو انتقال أو غيره. وكذلك يعلم بالمشاهدة الباطنة حدوث الآلام والافراح والغموم في قلبه فلا يمكنه انكاره. الثاني: العقل المحض، فإنا إذا قلنا: العالم أما قديم مؤخر، وإما حادث مقدم، وليس وراء القسمين قسم ثالث، وجب الاعتراف به على كل عاقل. مثاله أن

تقول: كل ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، والعالم لا يسبق الحوادث فهو حادث، فأحد الأصلين قولنا أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. ويجب على الخصم الإقرار به، لأن ما لا يسبق الحادث إما أن يكون مع الحادث أو بعده ولا يمكن قسم ثالث، فإن ادعى قسماً ثالثاً كان منكراً لما هو بديهي في العقل، وإن انكر أن ما هو مع الحادث أو بعده ليس بحادث فهو أيضاً منكر للبديهة. الثالث: التواتر، مثاله أنا نقول محمد صلوات الله وسلامه عليه صادق لأن كل من جاء بالمعجزة فهو صادق، وقد جاء هو بالمعجزة فهو إذاً صادق، فإن قيل أنا لا نسلم أنه جاء بالمعجزة فنقول: قد جاءنا بالقرآن والقرآن معجزة، فإذاً قد جاء بالمعجزة. فإن سلم الخصم أحد الأصلين وهو أن القرآن معجزة، أما بالطوع أو بالدليل، وأراد إنكار الأصل الثاني وهو أنه قد جاء بالقرآن، وقال لا أسلم أن القرآن مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، لم يمكنه ذلك لأن التواتر يحصل العلم به كما حصل لنا العلم بوجوده وبدعواه النبوة وبوجود مكة ووجود موسى وعيسى وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. الرابع: أن يكون الأصل مثبتاً بقياس آخر يستند بدرجة واحدة أو درجات كثيرة إما إلى الحسيات أو العقليات أو المتواترات، فإن ما هو فرع الأصلين يمكن أن يجعل أصلاً في قياس آخر. مثاله أنا بعد أن نفرغ من الدليل على حدوث العالم يمكننا أن نجعل حدوث العالم أصلاً في نظم قياس، مثلاً أن نقول كل حادث فله سبب والعالم حادث فإذا له سبب، فلا يمكنهم انكار كون العالم حادثاً بعد أن اثبتنا بالدليل حدوثه. الخامس: السمعيات، مثاله انا ندعي مثلاً ان المعاصي بمشيئة الله تعالى، ونقول كل كائن فهو بمشيئة الله تعالى والمعاصي كائنة فهي إذاً بمشيئة الله تعالى؛ فأما قولنا هي كائنة فمعلوم وجودها بالحس، وكونها معصية بالشرع، وأما قولنا كل كائن بمشيئة الله تعالى فإذا أنكر الخصم ذلك منعه الشرع مهما كان مقراً بالشرع

أو كان قد أثبت عليه بالدليل فإنا نثبت هذا الأصل بإجماع الأمة على صدق قول القائل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فيكون السمع مانعاً من الانكار. السادس: أن يكون الأصل مأخوذاً من معتقدات الخصم ومسلماته. فإنه وإن لم يقم لنا عليه دليل أو لم يكن حسياً ولا عقلياً، انتفعنا باتخاذه إياه أصلاً في قياسنا وامتنع عليه الإنكار الهادم لمذهبه. وأمثلة هذا مما تكثر فلا حاجة إلى تعيينه. فإن قلت: فهل من فرق بين هذه المدارك في الانتفاع بها في المقاييس النظرية؟ فاعلم أنها متفاوتة في عموم الفائدة، فإن المدارك العقلية والحسية عامة مع كافة الخلق إلا من لا عقل له ولا حس له وكان الأصل معلوماً فالحس الذي فقده كالأصل المعلوم بحاسة البصر إذا استعمل مع الأكمه فإنه لا ينفع، والأكمه إذا كان هو الناظر لم يمكنه أن يتخذ ذلك أصلاً، وكذلك المسموع في حق الأصم. وأما المتواتر فإنه نافع ولكن في حق من تواتر إليه، فأما من لم يتواتر إليه ممن وصل إلينا في الحال من مان بعيد لم تبلغه الدعوة فأردنا أن نبين له بالتواتر أن نبينا وسيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم تسليماً وعلى آله وصحبه تحدى بالقرآن، لم يقدر عليه ما لم يمهله مدة من يتواتر عنده، ورب شيء يتواتر عند قوم دون قوم، فقول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة قتل المسلم بالذمي متواتر عند الفقهاء من أصحابه دون العوام من المقلدين وكم من مذهب له في أحاد المسائل لم يتواتر عند أكثر الفقهاء وأما الأصل المستفاد من قياس آخر فلا ينفع إلا مع من قدر معه ذلك القياس. وأما مسلمات المذاهب فلا تنفع الناظر وإنما تنفع المناظر مع من يعتقد ذلك المذهب. وأما السمعيات فلا تنفع إلا من يثبت السمع عنه، فهذه مدارك علوم هذه الأصول المفيدة بترتيبها ونظمها العلم بالأمور المجهولة المطلوبة وقد فرغنا من التمهيدات فلنشتغل بالأقطاب التي هي مقاصد الكتاب.

القطب الأول في النظر في ذات الله تعالى وفيه عشر دعاوى الدعوى الأولى: وجوده تعالى وتقدس، برهانه أنا نقول كل حادث فلحدوثه سبب، والعالم حادث فيلزم منه إن له سبباً، ونعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى. ونعني بكل موجود سوى الله تعالى الأجسام كلها وأعراضها، وشرح ذلك بالتفصيل أنا لا نشك في أصل الوجود، ثم نعلم أن كل موجود اما متحيزاً أو غير متحيز، وأن كل متحيز إن لم يكن فيه ائتلاف فنسميه جوهراً فرداً، وإن ائتلف إلى غيره سميناه جسماً، وإن غير المتحيز أما أن يستدعي وجوده جسماً يقوم به ونسميه الأعراض، أو لا يستدعيه وهو الله سبحانه وتعالى، فأما ثبوت الأجسام وأعراضها، فمعلوم بالمشاهدة، ولا يلتفت إلى من ينازع في الأعراض وإن طال فيها صياحه وأخذ يلتمس منك دليلاً عليه، فإن شغبه ونزاعه والتماسه وصياحه، وإن لم يكن موجوداً فكيف نشتغل بالجواب عنه والإصغاء إليه، وإن كان موجوداً فهو لا محالة غير جسم المنازع إذ كان جسماً موجوداً من قبل، ولم يكن التنازع موجوداً فقد عرفت أن الجسم والعرض مدركان بالمشاهدة. فإما موجود ليس

بجسم ولا جوهر متحيز ولا عرض فيه فلا يدرك بالحس ونحن ندعي وجوده وندعي أن العالم موجود به، وبقدرته، وهذا يدرك بالدليل لا بالحس، والدليل ما ذكرناه، فلنرجع إلى تحقيقه. فقد جمعنا فيه أصلين فلعل الخصم ينكرهما، فنقول له: في أي الأصلين تنازع؟ فإن قال إنما أنازع في قولك إن كل حادث فله سبب فمن أين عرفت هذا، فنقول: إن هذا الأصل يجب الاقرار به، فإنه أولي ضروري في العقل، ومن يتوقف فيه فإنما يتوقف لأنه ربما لا ينكشف له ما نريده بلفظ الحادث، ولفظ السبب، وإذا فهمهما صدق عقله بالضرورة بأن لكل حادث سبباً، فانا نعني بالحادث ما كان معدوماً ثم صار موجوداً فنقول وجوده قبل أن وجد كان محالاً أو ممكناً، وباطل أن يكون محالاً لأن المحال لا يوجد قط، وإن كان ممكناً فلسنا نعني بالممكن إلا ما يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد ولكن لم يكن موجوداً لأنه ليس يجب وجوده لذاته إذ لو وجد وجوده لذاته لكان واجباً لا ممكناً، بل قد افتقر وجوده إلى مرجح لوجوده على العدم حتى يتبدل العدم بالوجود. فإذا كان استمرار عدمه من حيث أنه لا مرجح للوجود على العدم، فمن لم يوجد المرجح لا يوجد الوجود، ونحن لا نريد بالسبب إلا المرجح: والحاصل أن المعدوم المستمر العدم لا يتبدل عدمه بالوجود ما لم يتحقق أمر من الأمور يرجح جانب الوجود على استمرار العدم، وهذا إذا حصل في الذهن معنى لفظه كان العقل مضطراً إلى التصديق به. فهذا بيان اثبات هذا الأصل وهو على التحقيق شرح للفظ الحادث والسبب لاقامة دليل عليه. فإن قيل لم تنكرون على من ينازع في الأصل الثاني، وهو قولكم أن العالم حادث، فنقول: إن هذا الأصل ليس بأولي في العقل، بل نثبته ببرهان منظوم من أصلين آخرين هو أنا نقول إذ قلنا أن العالم حادث أردنا بالعالم الآن، الأجسام والجواهر فقط، فنقول كل جسم فلا يخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فيلزم منه أن كل جسم فهو حادث ففي أي الأصلين النزاع؟ فإن قيل لم قيل أن كل جسم أو متحيز فلا يخلو عن الحوادث؟ قلنا: لأنه لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، فإن قيل: ادعيتم وجودهما ثم حدوثهما، فلا نسلم الوجود ولا الحدوث،

قلنا هذا سؤال قد طال الجواب عنه في تصانيف الكلام، وليس يستحق هذا التطويل فإنه لا يصدر قط من مسترشد إذ لا يستريب عاقل قط في ثبوت الأعراض في ذاته من الآلام والأسقام والجوع والعطش وسائر الأحوال، ولا في حدوثها. وكذلك إذا نظرنا إلى أجسام العالم لم نسترب في تبدل الأحوال عليها، وإن تلك التبديلات حادثة، وإن صدر من خصم معاند فلا معنى للاشتغال به، وإن فرض فيه خصم معتقد لما نقوله فهو فرض محال إن كان الخصم عاقلاً، بل الخصم في حدوث العالم الفلاسفة وهم مصرحون بأن أجسام العالم تنقسم إلى السموات، وهي متحركة على الدوام، وآحاد حركاتها حادثة ولكنها دائمة متلاحقة على الاتصال أزلاً وأبداً وإلى العناصر الأربعة التي يحويها مقعر فلك القمر، وهي مشتركة في مادة حاملة لصورها وأعراضها وتلك المادة قديمة والصور والأعراض حادثة متعاقبة عليها أزلاً وأبداً وإن الماء ينقلب بالحرارة هواء، والهواء يستحيل بالحرارة ناراً، وهكذا بقية العناصر، وإنها تمتزج امتزاجات حادثة فتتكون منهما المعادن والنبات والحيوان، فلا تنفك العناصر عن هذه الصور الحادثة ولا تنفك السموات عن الحركات الحادثة أبداً، وإنما ينازعون في قولنا أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فلا معنى للإطناب في هذا الأصل، ولكنا لإقامة الرسم نقول: الجوهر بالضرورة لا يخلو عن الحركة والسكون، وهما حادثان. أما الحركة فحدوثها محسوس وإن فرض جوهر ساكن كالأرض، ففرض حركته ليس بمحال بل نعلم جوازه بالضرورة، وإذا وقع ذلك الجائز كان حادثاً وكان معدماً للسكون، فيكون السكون أيضاً قبله حادثاً لأن القديم لا ينعدم كما سنذكره في إقامة الدليل على بقاء الله تعالى، وإن أردنا سياق دليل على وجود الحركة زائدة على الجسم، قلنا: إنا إذا قلنا هذا الجوهر متحرك أثبتنا شيئاً سوى الجوهر متحرك أثبتنا شيئاً سوى الجوهر بدليل أنا إذا قلنا هذا الجوهر ليس بمتحرك، صدق قولنا وإن كان الجوهر باقياً ساكناً، فلو كان المفهوم من الحركة عين الجوهر لكان نفيها نفي عين الجوهر. وهكذا يطرد الدليل في إثبات السكون ونفيه، وعلى الجملة. فتكلف الدليل على الواضحات يزيدها غموضاً ولا يفيدها وضوحاً. فإن قيل: فبم عرفتم أنها حادثة فلعلها كانت كامنة فظهرت، قلنا: لو كنا نشتغل في هذا الكتاب بالفضول الخارج عن المقصود لأبطلنا القول بالكمون والظهور في الأعراض رأساً، ولكن ما لا يبطل مقصودنا فلا نشتغل به، بل نقول: الجوهر لا يخلو عن كمون الحركة فيه أو ظهورها، وهما حادثان فقد ثبت أنه لا يخلو عن الحوادث.

فإن قيل: فلعلها انتقلت إليه من موضع آخر، فبم يعرف بطلان القول، بانتقال الأعراض؟ قلنا: قد ذكر في إبطال ذلك أدلة ضعيفة لا نطول الكتاب بنقلها ونقضها، ولكن الصحيح في الكشف عن بطلانه أن نبين أن تجويز ذلك لا يتسع له عقل من لم يذهل عن فهم حقيقة العرض وحقيقة الانتقال، ومن فهم حقيقة العرض تحقق استحالة الانتقال فيه. وبيانه أن الانتقال عبارة أخذت من انتقال الجوهر من حيز إلى حيز، وذلك يثبت في العقل بأن فهم الجوهر وفهم الحيز وفهم اختصاص الجوهر بالحيز زائد على ذات الجوهر، ثم علم أن العرض لا بد له من محل كما لا بد للجوهر من حيز، فتتخيل أن إضافة العرض إلى المحل كإضافة الجوهر إلى الحيز فيسبق منه إلى الوهم إمكان الانتقال عنه، كما في الجوهر، ولو كانت هذه المقايسة صحيحة لكان اختصاص العرض بالمحل كوناً زائداً على ذات العرض والمحل كما كان اختصاص الجوهر بالحيز كوناً زائداً على ذات الجوهر والحيز، ولصار يقوم بالعرض عرض، ثم يفتقر قيام العرض بالعرض إلى إختصاص آخر يزيد على القائم والمقوم به، وهكذا يتسلل ويؤدي إلى أن لا يوجد عرض واحد ما لم توجد أعراض لا نهاية لها، فلنبحث عن السبب الذي لأجله فرق بين اختصاص العرض بالمحل وبين اختصاص الجوهر بالحيز في كون أحد الاختصاصيين زائداً على ذات المختص ودون الآخر، فمنه يتبين الغلط في توهم الانتقال. والسر فيه، أن المحل وإن كان لازماً للعرض كما أن الحيز لازم للجوهر، ولكن بين اللازمين فرق: إذ رب لازم ذاتي للشيء، ورب لازم ليس بذاتي للشيء، وأعني بالذاتي ما يجب ببطلانه بطلان الشيء، فإن بطل الوجود بطل به وجود الشيء، وإن بطل في العقل بطل وجود العلم به في العقل، والحيز ليس ذاتياً للجوهر فإنا نعلم الجسم والجوهر أولاً ثم ننظر بعد ذلك في الحيز، أهو أمر ثابت أم هو أمر موهوم ونتوصل إلى تحقيق ذلك بدليل وندرك الجسم بالحس في المشاهدة من غير دليل. فلذلك لم يكن الحيز المعين مثلاً لجسم زيد ذاتياً لزيد، ولم يلزم من فقد ذلك الحيز وتبدله بطلان جسم زيد، وليس كذلك طول زيد مثلاً لأنه عرض في زيد لا نعقله في

نفسه دون زيد بل نعقل زيداً الطويل، فطول زيد يعلم تابعاً لوجود زيد ويلزم من تقدير عدم زيد بطلان طول زيد، فليس لطول زيد قوام في الوجود وفي العقل دون زيد. فاختصاصه بزيد ذاتي له، أي هو لذاته لا لمعنى زائد عليه هو اختصاص، فإن بطل ذلك الاختصاص بطلت ذاته والانتقال يبطل الاختصاص فتبطل ذاته، إذ ليس اختصاصه بزيد زائداً على ذاته، أعني ذات العرض، بخلاف اختصاص الجوهر بالحيز فإنه زائد عليه فليس في بطلانه، بالانتقال ما يبطل ذاته، ورجع الكلام إلى أن الانتقال يبطل الاختصاص بالمحل، فإن كان الاختصاص زائداً على الذات لم تبطل به الذات، وإن لم يكن معنى زائداً بطلت ببطلانه الذات، فقد انكشف هذا وآل النظر إلى أن اختصاص العرض بمحله لم يكن زائداً على ذات العرض كاختصاص الجوهر بحيزه، وأما العرض فإنه عقل بالجوهر لا بنفسه فذات العرض وكونه للجوهر المعين وليس له ذات سواه. فإذا قدرنا مفارقته لذلك الجوهر المعين فقد قدرنا عدم ذاته، وإنما فرضنا الكلام في الطول لتفهيم المقصود فإنه وإن لم يكن عرضاً ولكنه، عبارة عن كثرة الأجسام في جهة واحدة، ولكنه مقرب لغرضنا إلى الفهم، فإذا فهم فلننقل البيان إلى الأعراض. وهذا التوفيق والتحقيق وإن لم يكن لائقاً بهذا الإيجاز ولكن افتقر إليه لأن ما ذكر فيه غير مقنع ولا شاف. فقد فرغنا من إثبات أحد الأصلين، وهو أن العالم لا يخلو عن الحوادث، فإنه لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثات وليسا بمنتقلين، مع أن الإطناب ليس في مقابلة خصم معتقد، إذ أجمع الفلاسفة على أن أجسام العالم لا تخلو عن الحوادث، وهم المنكرون لحدوث العالم، فإن قيل: فقد بقي الأصل الثاني وهو قولكم إن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فما الدليل عليه؟ قلنا: لأن العالم لو كان قديماً مع أنه لا يخلو عن الحوادث، لثبتت حوادث لا أول لها وللزم أن تكون دورات الفلك غير متناهية الاعداد، وذلك محال لأن كل ما يفضي إلى المحال فهو محال، ونحن نبين أنه يلزم عيه ثلاثة محالات: الأول - أن ذلك لو ثبت لكان قد انقضى ما لا نهاية له، ووقع الفراغ منه وانتهى، ولا فرق بين قولنا انقضى ولا بين قولنا انتهى ولا بين قولنا تناهى، فيلزم أن يقال قد تناهى ما لا يتناهى، ومن المحال البين أن يتناهى ما لا يتناهى وأن ينتهي وينقضي ما لا يتناهى. الثاني - أن دورات الفلك إن لم تكن متناهية فهي إما شفع وإما وتر، وإما لا شفع ولا وتر، وإما شفع ووتر معاً. وهذه الأقسام الأربعة محال؛ فالمفضي إليها

محال إذ يستحيل عدد لا شفع ولا وتر، أو شفع ووتر، فإن الشفع هو الذي ينقسم إلى متساويين كالعشرة مثلاً، والوتر هو أحد الذي لا ينقسم إلى متساويين كالتسعة، وكل عدد مركب من آحاد إما أن ينقسم بمتساويين، أو لا ينقسم بمتساويين، وأما أن يتصف بالانقسام وعدم الانقسام، أو ينفك عنهما جميعاً فهو محال، وباطل أن يكون شفعاً لأن الشفع إنما لا يكون وتراً لأنه يعوزه واحد، فإذا انضاف إليه واحد صار وتراً، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد؟ ومحال أن يكون وتراً. لأن الوتر يصير شفعاً بواحد، فيبقى وتراً لأنه يعوزه ذلك الواحد، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد؟ الثالث - أنه يلزم عليه أن يكون عددان، كل واحد منهما لا يتناهى، ثم أن أحدهما أقل من الآخر، ومحال أن يكون ما لا يتناهى أقل مما لا يتناهى لأن الأقل هو الذي يعوزه شيء لو أضيف إليه لصار متساوياً، وما لا يتناهى كيف يعوزه شيء؟ وبيانه أن زحل عندهم يدور في كل ثلاثين سنة دورة واحدة، والشمس في كل سنة دورة واحدة، فيكون عدد دورات زحل مثل ثلث عشر دورات الشمس، إذ الشمس تدور في ثلاثين سنة ثلاثين دورة، وزحل يدور دورة واحدة، والواحد من الثلاثين ثلث عشر. ثم دورات زحل لا نهاية لها وهي أقل من دورات الشمس، إذ يعلم ضرورة أن ثلث عشر الشيء أقل من الشيء، والقمر يدور في السنة اثنتي عشرة مرة، فيكون عدد دورات الشمس مثلاً نصف سدس دورات القمر، وكل واحد لا نهاية له وبعضه أقل من بعض، فذلك من المحال البين. فإن قيل: مقدورات الباري تعالى عندكم لا نهاية لها وكذا معلوماته، والمعلومات أكثر من المقدورات إذ ذات القديم تعالى وصفاته معلومة له وكذا الموجود المستمر الوجود، وليس شيء من ذلك مقدوراً. قلنا نحن: إذا قلنا لا نهاية لمقدوراته، لم نرد به ما نريد بقولنا لا نهاية لمعلوماته بل نريد به أن لله تعالى صفة يعبر عنها بالقدرة، يتأتى بها الايجاد، وهذا الثاني لا ينعدم قط. وليس تحت قولنا - هذا الثأني لا ينعدم - إثبات أشياء فضلاً من أن توصف بأنها متناهية أو غير متناهية، وإنما يقع هذا الغلط لمن ينظر في المعاني من الألفاظ فيرى توازن لفظ المعلومات والمقدورات من حيث التصريف في اللغة، فيظن أن المراد بهما واحد. هيهات لا مناسبة بينهما البتة. ثم تحت قولنا المعلومات لا نهاية لها أيضاً سر يخالف السابق منه إلى الفهم، إذ السابق منه إلى الفهم إثبات أشياء تسمى معلومات لا نهاية لها، وهو محال، بل الأشياء هي الموجودات، وهي متناهية، ولكن بيان ذلك يستدعي تطويلا.

وقد اندفع الإشكال بالكشف عن معنى نفي النهاية عن المقدورات، فالنظر في الطرف الثاني وهو المعلومات مستغنى عنه في دفع الالزام، فقد بانت صحة هذا الأصل بالمنهج الثالث من مناهج الأدلة المذكورة في التمهيد الرابع من الكتاب وعند هذا يعلم وجود الصانع إذ بان القياس الذي ذكرناه، وهو قولنا أن العالم حادث وكل حادث فله سبب فالعالم له سبب. فقد ثبتت هذه الدعوى بهذا المنهج، ولكن بعد لم يظهر لنا إلا موجود السبب، فأما كونه حادثاً أو قديماً وصفاً له فلم يظهر بعد فلنشتغل به. الدعوى الثانية: ندعي أن السبب الذي أثبتناه لوجود العالم قديم فإنه لو كان حادثاً لافتقر إلى سبب آخر، وكذلك السبب الآخر ويتسلسل إما إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن ينتهي إلى قديم لا محالة يقف عنده وهو الذي نطلبه ونسميه صانع العالم. ولا بد من الاعتراف به بالضرورة ولا نعني بقولنا قديم إلا أن وجوده غير مسبوق بعدم، فليس تحت لفظ القديم إلا إثبات موجود ونفي عدم سابق. فلا تظنن أن القدم معنى زائد على ذات القديم، فيلزمك أن تقول ذلك المعنى أيضاً قديم بقدم زائد عليه، ويتسلسل القوم إلى غير نهاية. الدعوى الثالثة: ندعي أن صانع العالم مع كونه موجوداً لم يزل فهو باق لا يزال لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. وإنما قلنا ذلك لأنه لو العدم لافتقر عدمه إلى

سبب فإنه طارئ بعد استمرار الوجود في القدم. وقد ذكرنا ان كل طارئ فلا بد له من سبب من حيث انه طارئ لا من حيث أنه موجود، وكما افتقر تبدل العدم بالوجود إلى مرجح للوجود على العدم، فكذلك يفتقر تبدل الوجود بالعدم إلى مرجح للعدم على الوجود، وذلك المرجح إما فاعل بعدم القدرة، أو ضد انقطاع شرط من شروط الوجود. ومحال أن يحال على القدرة؛ إذ لوجود شيء ثابت يجوز أن يصدر عن القدرة، فيكون القادر باستعماله فعل شيئاً والعدم ليس بشيء، فيستحيل أن يكون فعلاً واقعاً بأثر القدرة. فإنا نقول: فاعل العدم هل فعل شيئاً؟ فإن قيل نعم، كان محالاً، لأن النفي ليس بشيء. وإن قال المعتزلي أن المعدوم شيء وذات، فليس ذلك الذات من أثر القدرة، فلا يتصف أن يقول الفعل الواقع بالقدرة فعل ذلك الذات فإنها أزلية، وإنما فعله نفي وجود الذات، ونفي وجود الذات ليس شيئاً، فاذاً ما فعل شيئاً. وإذا صدق قولنا ما فعل شيئاً صدق قولنا أنه لم يستعمل القدرة في أثر البتة، فبقي كما كان ولم يفعل شيئاً. وباطل أن يقال أنه يعدمه ضده لأن الضد إن فرض حادثاً اندفع وجوده بمضادة القديم، وكان ذلك أولى من أن ينقطع به وجود القديم. ومحال أن يكون له ضد قديم كان موجوداً معه في القدم ولم يعدمه وقد أعدمه الآن، وباطل أن يقال انعدم لانعدام شرط وجوده، فإن الشرط إن كان حادثاً استحال أن يكون وجود القديم مشروطاً بحادث، وإن كان قديماً فالكلام في استحالة عدم الشرط كالكلام في استحالة عدم المشروط فلا يتصور عدمه. فإن قيل فبما إذاً تفنى عندكم الجواهر والأعراض؟ قلنا: أما الأعراض فبأنفسها، ونعني بقولنا بأنفسها أن ذواتها لا يتصور لها بقاء. ويفهم المذهب فيه بأن يفرض في الحركة، فإن الأكوان المتعاقبة في أحيان متواصلة لا توصف بأنها حركات إلا بتلاحقها على سبيل دوام التجدد ودوام الانعدام، فإنها إن فرض بقاؤها كانت سكوناً لا حركة، ولا تعقل ذات الحركة ما لم يعقل معها العدم عقيب الوجود. وهذا يفهم في الحركة بغير برهان. وأما الألوان وسائر الأعراض، فإنما تفهم بما ذكرناه من أنه لو بقي لاستحال عدمه بالقدرة وبالضد كما سبق في القديم، ومثل هذا العدم محال في حق الله تعالى فإنا بينا قدمه أولاً واستمرار وجوده فيما لم يزل، فلم يكن من ضرورة وجوده حقيقة فناؤه عقيبه، كما كان من ضرورة وجود الحركة حقيقة أن تفنى عقيب الوجود. وأما الجواهر فانعدامها بان لا تخلق فيها الحركة والسكون فينقطع شرط وجودها فلا يعقل بقاؤها.

الدعوى الرابعة: ندعي أن صانع العالم ليس بجوهر متحيز لأنه قد ثبت قدمه، ولو كان متحيزاً لكان لا يخلو عن الحركة في حيزه أو السكون فيه، وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث كما سبق. فإن قيل: بم تنكرون على من يسميه جوهراً، ولا يعتقده متحيزاً؟ قلنا العقل عندنا لا يوجب الامتناع من اطلاق الألفاظ وإنما يمنع عنه إما لحق اللغة وإما لحق الشرع. أما حق اللغة فذلك إذا ادعى أنه موافق لوضع اللسان فيبحث عنه، فإن ادعى واضعه له أنه اسمه على الحقيقة، أي واضع اللغة وضعه له، فهو كاذب على اللسان وإن زعم أنه استعاره نظراً إلى المعنى الذي به شارك المستعار منه، فإن صلح للاستعارة لم ينكر عليه بحق اللغة وإن لم يصلح قيل له أخطأت على اللغة ولا يستعظم ذلك إلا بقدر استعظام صنيع من يبعد في الاستعارة، والنظر في ذلك لا يليق بمباحث العقول. وأما حق الشرع وجواز ذلك وتحريمه، فهو بحث فقهي يجب طلبه على الفقهاء إذ لا فرق بين البحث عن جواز اطلاق الألفاظ من غير إرادة معنى فاسد وبين البحث عن جواز الأفعال. وفيه رأيان: أحدهما، أن يقال: لا يطلق اسم في حق الله تعالى إلا بالاذن، وهذا لم يرد فيه إذن فيحرم. وأما أن يقال لا يحرم إلا بالنهي وهذا لم يرد فيه نهي فينظر: فإن كان يوهم خطأ فيجب الاحتراز منه لأن إيهام الخطأ في صفات الله تعالى حرام. وإن لم يوهم خطأ يحكم بتحريمه، فكلا الطريقين محتمل. ثم الايهام يختلف باللغات وعادات الاستعمال فرب لفظ يوهم عند قوم ولا يوهم عند غيرهم. الدعوى الخامسة: ندعي أن صانع العالم ليس بجسم، لأن كل جسم فهو متألف من جوهرين متحيزين، وإذا استحال أن يكون جوهراً استحال أن يكون جسماً، ونحن لا نعني بالجسم إلا هذا. فإن سماه جسماً ولم يرد هذا المعنى كانت المضايقة معه بحق اللغة أو بحق الشرع لا بحق العقل فإن العقل لا يحكم في اطلاق الألفاظ ونظم الحروف والأصوات التي هي اصطلاحات، ولأنه لو كان جسماً لكان مقداراً بمقدار مخصوص ويجوز أن يكون أصغر منه أو أكبر، ولا يترجح أحد الجائزين عن الآخر إلا بمخصص ومرجح، كما سبق، فيفتقر إلى مخصص يتصرف فيه فيقدره بمقدار مخصوص، فيكون مصنوعاً لا صانعاً ومخلوقاً لا خالقاً. الدعوى السادسة: ندعي أن صانع العالم ليس بعرض، لأنا نعني بالعرض ما

يستدعي وجوده ذاتاً تقوم به، وذلك الذات جسم أو جوهر، ومهما كان الجسم واجب الحدوث كان الحال فيه أيضاً حادثاً لا محالة، إذ يبطل انتقال الأعراض، وقد بينا أن صانع العالم قديم فلا يمكن أن يكون عرضاً، وإن فهم من العرض ما هو صفة لشيء من غير أن يكون ذلك الشيء متحيزاً، فنحن لا ننكر وجود هذا فانا نستدل على صفات الله تعالى نعم يرجع النزاع إلى إطلاق اسم الصانع والفاعل، فإن إطلاقه على الذات الموصوفة بالصفات أولى من إطلاقه على الصفات. فإذا قلنا الصانع ليس بصفة، عنينا به أن الصنع مضاف إلى الذات التي تقوم بها الصفات لا إلى الصفات، كما أنا إذا قلنا النجار ليس بعرض ولا صفة، عنينا به أن صنعة النجارة غير مضافة إلى الصفات بل إلى الذات الواجب وصفها بجملة من الصفات حتى يكون صانعاً. فكذا القول في صانع العالم، وإن أراد المنازع بالعرض أمراً غير الحال في الجسم وغير الصفة القائمة بالذات كان الحق في منعه للغة أو الشرع لا للعقل. الدعوى السابعة: ندعي أنه ليس في جهة مخصوصة من الجهات الست، ومن عرف معنى لفظ الجهة ومعنى لفظ الاختصاص فهم قطعاً استحالة الجهات على غير الجواهر والأعراض، إذ الحيز معقول وهو الذي يختص الجوهر به، ولكن الحيز إنما يصير جهة إذا أضيف إلى شيء آخر متحيز. فالجهات ست فوق وأسفل وقدام وخلف ويمين وشمال. فمعنى كون الشيء فوقنا هو أنه في حيز يلي جانب الرأس. ومعنى كونه تحتاً أنه في حيز يلي جانب

الرجل. وكذا سائر الجهات؛ فكل ما قيل قيه أنه في جهة فقد قيل أنه في حيز مع زيادة إضافة. وقولنا الشيء في حيز، يعقل بوجهين أحدهما: أنه يختص به بحيث يمنع مثله من أن يوجد بحيث هو، وهذا هو الجوهر، والآخر أن يكون حالاً في الجوهر فإنه قد يقال إنه بجهة، ولكن بطريق البتيعة للجوهر، فليس كون العرض في جهة ككون الجوهر، بل الجهة للجوهر أولى، وللعرض بطريق التبعية للجوهر، فهذان وجهان معقولان في الاختصاص بالجهة. فإن أراد الخصم أحدهما دل على بطلانه ما دل على بطلان كونه جوهراً أو عرضاً. وإن أراد أمراً غير هذا فهو غير مفهوم فيكون الحق في إطلاق لفظه لم ينفك عن معنى غير مفهوم للغة والشرع لا العقل، فإن قال الخصم إنما أُريد بكونه بجهة معنى سوى هذا فلم ننكره، ونقول له: أما لفظك فإنما ننكره من حيث أنه يوهم المفهوم الظاهر منه وهو ما يعقل الجوهر والعرض وذلك كذب على الله تعالى. وأما مرادك منه فلست أنكره فإن ما لا أفهمه كيف أنكره! وعساك تريد به علمه وقدرته وأنا لا أنكر كونه بجهة على معنى أنه عالم وقادر، فإنك إذا فتحت هذا الباب، وهو أن تريد باللفظ غير ما وضع اللفظ له ويدل عليه في التفاهم لم يكن لما تريد به حصر فلا أنكره ما لم تعرب عن مرادك بما أفهمه من أمر يدل على الحدوث، فإن كان ما يدل على الحدوث فهو في ذاته محال ويدل أيضاً على بطلان القول بالجهة، لأن ذلك يطرق الجواز إليه ويحوجه إلى مخصص يخصصه بأحد وجوه الجواز وذلك من وجهين، أحدهما: أن الجهة التي تختص به لا تختص به لذاته، فإن سائر الجهات متساوية بالاضافة إلى المقابل للجهة، فاختصاصه ببعض الجهات المعينة ليس بواجب لذاته بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه، ويكون الاختصاص فيه معنى زائداً على ذاته وما يتطرق الجواز إليه استحال قدمه بل القديم عبارة عما هو واجب الوجود من جميع الجهات. فإن قيل اختص بجهة فوق لأنه أشرف الجهات، قلنا أي إنما صارت الجهة جهة فوق بخلقه العالم في هذا الحيز الذي خلقه فيه. فقيل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت أصلاً. إذ هما مشتقان من الرأس والرجل ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فوق والمقابل له تحت. والوجه الثاني أنه لو كان بجهة لكان محاذياً لجسم العالم، وكل محاذ فإما أصغر منه وإما أكبر وإما مساو، وكل ذلك يوجب التقدير بمقدار، وذلك المقدار يجوز في العقل أن يفرض أصغر منه أو أكبر فيحتاج إلى مقدار ومخصص.

فإن قيل: لو كان الاختصاص بالجهة يوجب التقدير لكان العرض مقدراً، قلنا: العرض ليس في جهة بنفسه، بل بتبعيته للجوهر فلا جرم هو أيضاً مقدر بالتبعية. فإنا نعلم أنه لا توجد عشرة أعراض إلا في عشرة جواهر، ولا يتصور أن يكون في عشرين، فتقدير الأعراض عشرة لازم بطريق التبعية لتقدير الجواهر، كما لزم كونه بجهة بطريق التبعية. فإن قيل: فإن لم يكن مخصوصاً بجهة فوق، فما بال الوجوه والأيدي ترفع إلى السماء في الأدعية شرعاً وطبعاً، وما باله صلى الله عليه وسلم قال للجارية التي قصد إعتاقها فأراد أن يستيقن إيمانها أين الله فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة؟ فالجواب عن الأول أن هذا يضاهي قول القائل: إن لم يكن الله تعالى في الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوره، وما بالنا نستقبله في الصلاة؟ وإن لم يكن في الأرض، فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الأرض في السجود؟ وهذا هذيان. بل يقال: قصد الشرع من تعبد الخلق بالكعبة في الصلاة ملازمة الثبوت في جهة واحدة، فإن ذلك لا محالة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب من التردد على الجهات، ثم لما كانت الجهات متساوية من حيث إمكان الاستقبال خصص الله بقعة مخصوصة بالتشريف والتعظيم وشرفها بالإضافة إلى نفسه واستمال القلوب إليها بتشريفه ليثيب على استقبالها، فكذلك السماء قبلة الدعاء، كما أن البيت قبلة الصلاة، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منزه عن الحلول في البيت والسماء ثم في الاشارة بالدعاء إلى السماء سر لطيف يعز من يتنبه لأمثاله، وهو أن نجاة العبد وفوزه في الآخرة، بأن يتواضع لله تعالى ويعتقد التعظيم لربه، والتواضع والتعظيم عمل القلب، وآلته العقل. والجوارح إنما استعملت لتطهير القلب وتزكيته، فإن القلب خلق خلقه يتأثر بالمواظبة على أعمال الجوارح، كما خلقت الجوارح متأثرة لمعتقدات القلوب، ولما كان المقصود أن يتواضع في نفسه بعقله وقلبه، بأن يعرف قدره ليعرف بخسة رتبته في الوجود لجلال الله تعالى وعلوه، وكان من أعظم الأدلة على خسته الموجبة لتواضعه أنه مخلوق من تراب، كلف أن يضع على التراب، الذي هو أذل الأشياء، وجهه الذي هو أعز الأعضاء، ليستشعر قلبه التواضع بفعل الجبهة في مماستها الأرض، فيكون البدن متواضعاً في جسمه وشخصه وصورته بالوجه الممكن فيه وهو معانقة التراب الوضيع الخسيس ويكون العقل متواضعاً لربه بما

يليق به، وهو معرفة الضعة وسقوط الرتبة وخسة المنزلة عند الالتفات إلى ما خلق منه. فكذلك التعظيم لله تعالى وضيعة على القلب فيها نجاته، وذلك أيضاً ينبغي أن تشترك فيه الجوارح، وبالقدر الذي يمكنه أن تحمل الجوارح، وتعظيم القلب بالإشارة إلى علو الرتبة على طريق المعرفة والاعتقاد وتعظيم الجوارح بالإشارة إلى جهة العلو الذي هو أعلى الجهات وأرفعها في الاعتقادات؛ فإن غاية تعظيم الجارحة استعمالها في الجهات، حتى أن من المعتاد المفهوم في المحاورات أن يفصح الإنسان عن علو رتبة غيره وعظيم ولايته فيقول: أمره في السماء السابعة، وهو إنما ينبه على علو الرتبة ولكن يستعير له علو المكان، وقد يشير برأسه إلى السماء في تعظيم من يريد تعظيم أمره، أي أمره في السماء، أي في العلو وتكون السماء عبارة عن العلو، فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقهم إلى تعظيم الله وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلا إلى ظواهر الجوارح والأجسام وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح ولم يعرف أن المظنة الأولى لتعظيم القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبة لا باعتقاد علو المكان، وأن الجوارح في ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة في التعظيم بقدر الممكن فيها، ولا يمكن في الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات، فهذا هو السر في رفع الوجوه إلى السماء عند قصد التعظيم، ويضاف إليه عند الدعاء أمر آخر وهو أن الدعاء لا ينفك عن سؤال نعمة من نعم الله تعالى، وخزائن نعمه السموات، وخزان أرزاقه الملائكة ومقرهم ملكوت السموات وهم الموكلون بالأرزاق. وقد قال الله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون ". والطبع يتقاضى الإقبال بالوجه على الخزانة التي هي مقر الرزق المطلوب، فطلاب الأرزاق من الملوك إذا أخبروا بتفرقة الأرزاق على باب الخزانة مالت وجوههم وقلوبهم إلى جهة الخزانة، وإن لم يعتقدوا أن الملك في الخزانة فهذا هو محرك وجوه أرباب الدين إلى جهة السماء طبعاً وشرعاً. فأما العوام فقد يعتقدون أن معبودهم في السماء، فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم، تعالى رب الأرباب عما اعتقد الزائغون علواً كبير. وأما حكمه صلوات الله عليه بالإيمان للجارية لما أشارت إلى السماء، فقد انكشف به أيضاً إذ ظهر أن لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بالإشارة إلى جهة العلو، فقد كانت خرساء كما حكي، وقد كان يظن بها أنها من عبدة الأوثان، ومن يعتقد اله في بيت الأصنام فاستنطقت عن معتقدها فعرفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس في بيوت الأصنام كما يعتقدوه أولئك.

فإن قيل فنفي الجهة يؤدي إلى المحال، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، وذلك محال، قلنا: مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا متصلاً ولا منفصلاً محال، وإن كان موجود يقبل الاختصاص بالجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال، فإما موجود لا يقبل الاتصال، ولا الاختصاص بالجهة فخلو عن طرفي النقيض غير محال، وهو كقول القائل يستحيل موجود لا يكون عاجزاً ولا قادراً ولا عالماً ولا جاهلاً فإن أحد المتضادين لا يخلو الشيء عنه، فيقال له إن كان ذلك الشيء قابلاً للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما وأما الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة، فخلوه عنهما ليس بمحال. فكذلك شرط الاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز. فإذا فقد هذا لم يستحل الخلق عن متضادته فرجع النظر إذاً إلى أن موجوداً ليس بمتحيز، ولا هو في متحيز، بل هو فاقد شرط الاتصال، والاختصاص هل هو محال أم لا؟ فإن زعم الخصم أن ذلك محال وجوده فقد دللنا عليه بأنه مهما بان، أن كل متحيز حادث وأن كل حادث يفتقر إلى فاعل ليس بحادث فقد لزم بالضرورة من هاتين المقدمتين ثبوت موجود ليس بمتحيز. أما الأصلان فقد أتبتناهما وأما الدعوى اللازمة منهما فلا سبيل إلى جحدها مع الإقرار بالأصلين. فإن قال الخصم إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم، فيقال له ما الذي أردت بقولك غير مفهوم فإن أردت به أنه غير متخيل ولا متصور ولا داخل في الوهم فقد صدقت، فإنه لا يدخل في الوهم والتصور والخيال إلا جسم له لون وقدر، فالمنفك عن اللون والقدر لا يتصوره الخيال، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فلا يتوهم الشيء إلا على وفق مرآه ولا يستطيع أن يتوهم ما لا يوافقه. وإن أراد الخصم أنه ليس بمعقول، أي ليس بمعلوم بدليل العقل فهو محاذ إذا قدمنا الدليل على ثبوته ولا معنى للمعقول إلا ما اضطر العقل إلى الأذعان للتصديق به بموجب الدليل الذي لا يمكن مخالفته. وقد تحقق هذا، فإن قال الخصم فما لا يتصور في الخيال لا وجود له، فلنحكم بأن الخيال لا وجود له في نفسه، فإن الخيال نفسه لا يدخل في الخيال والرؤية لا تدخل في الخيال وكذلك العلم والقدرة، وكذلك الصوت والرائحة ولو كلف الوهم أن يتحقق ذاتاً للصوت لقدر له لوناً ومقداراً وتصوره كذلك. وهكذا جميع أحوال النفس، من الخجل والوجل والفسق والغضب والفرح والحزن والعجب، فمن يدرك بالضرورة هذه الأحوال من نفسه ويسوم خياله أن يتحقق

ذات هذه الأحوال فنجده يقصر عنه إلا بتقدير خطأ ثم ينكر بعد ذلك وجود موجود لا يدخل في خياله فهذا سبيل كشف الغطاء عن المسألة. وقد جاوزنا حد الاختصار ولكن المعتقدات المختصرة في هذا الفن أراها مشتملة على الاطناب في الواضحات والشروع في الزيادات الخارجة عن المهمات مع التساهل في مضايق الاشكالات فرأيت نقل الاطناب من مكان الوضوح، إلى مواقع الغموض أهم وأولى. الدعوى الثامنة: ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش، فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر لا محالة فإنه أما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساوياً وكل ذلك لا يخلو عن التقدير، وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير محاطاً به والخصم لا يعتقد ذلك بحال وهو لازم على مذهبه بالضرورة، وعلى الجملة يستقر على الجسم إلا جسم ولا يحل فيه إلا عرض وقد بان أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض، فلا يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى "؟ وما معنى قوله عليه السلام: " ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا " قلنا الكلام على الظواهر الواردة في هذا الباب طويل ولكن نذكر منهجاً في هذين الظاهرين يرشد إلى ما عداه وهو أنا نقول: الناس في هذا فريقان عوام وعلماء، والذي نراه اللائق بعوام الخلق أن لا يخاض بهم في هذه التأويلات بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبيه ويدل على الحدوث ونحقق عندهم أنه موجود ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وإذا سألوا عن معاني هذه الآيات زجروا عنها، وقيل ليس هذا بعشكم فادرجوا فلكل علم رجال. ويجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي الله عنه، بعض السلف حيث سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة، والايمان به واجب، وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات ولا إحاطتهم باللغات ولا تتسع لفهم توسيعات العرب في الاستعارات. وأما العلماء فاللائق بهم تعريف ذلك وتفهمه، ولست أقول أن ذلك فرض عين إذ لم يرد به تكليف بل التكليف التنزيه عن كل ما تشبهه بغيره. فأما معاني القرآن، فلم يكلف الأعيان فهم جميعها أصلاً ولكن لسنا نرتضي قول من يقول، أن ذلك من المتشابهات كحروف أوائل السور، فإن حروف أوائل السور ليست موضوعة باصطلاح

سابق للعرب للدلالة على المعاني، ومن نطق بحروف وهن كلمات لم يصطلح عليها، فواجب أن يكون معناه مجهولاً إلا أن يعرف ما أردته، فإذا ذكره صارت تلك الحروف كاللغة المخترعة من جهته. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا "، فلفظ مفهوم ذكر للتفهم وعلم أنه يسبق إلى الإفهام منه المعنى الذي وضع له أو المعنى الذي يستعار، فكيف يقال إنه متشابه بل هو مخيل معنى خطأ عند الجاهل ومفهم معنى صحيحاً عند العالم، وهو كقوله تعالى: " وهو معكم أينما كنتم ". فإنه يخيل عند الجاهل اجتماعاً مناقصاً لكونه على العرش، وعند العالم يفهم أنه مع الكل بالاحاطة والعلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "، فإنه عند الجاهل يخيل عضوين مركبين من اللحم والعظم والعصب مشتملين على الأنامل والأظفار، نابتين من الكف، وعند العالم يدل على المعنى المستعار له دون الموضوع له وهو ما كان الاصبع له، وكان سر الاصبع وروحه وحقيقته وهو القدرة على التقليب كما يشاء، كما دلت المعية عليه في قوله وهو معكم على ما تراد المعية له وهو العلم والاحاطة ولكن من شائع عبارات العرب العبارة بالسبب عن المسبب، واستعارة السبب للمستعار منه وكقوله تعالى: " من تقرَّب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن أتاني بمشي أتيته بهرولة " فإن الهرولة عند الجاهل تدل على نقل الأقدام وشدة العدو وكذا الاتيان يدل على القرب في المسافة.؟ وعند العاقل يدل على المعنى المطلوب من قرب المسافة بين الناس وهو قرب الكرامة والانعام وإن معناه أن رحمتي ونعمتي أشد انصباباً إلى عبادي من طاعتهم إلي وهو كما قال: " لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم لأشد شوقاً " تعالى الله عما يفهم من معنى لفظ الشوق بالوضع الذي هو نوع ألم وحاجة إلى استراحة، وهو عين النقص ولكن الشوق سبب لقبول المشتاق إليه والإقبال عليه وإفاضة النعمة لديه فعبر به عن المسبب، وكما عبر بالغضب والرضى عن إرادة الثواب والعقاب الذين هما ثمرتا الغضب والرضى ومسبباه في العادة. وكذا لما قال في الحجر الأسود إنه يمين الله في الأرض يظن الجاهل انه أراد به اليمين

المقابل للشمال التي هي عضو مركب من لحم ودم وعظم منقسم بخمسة أصابع، ثم إنه إن فتح بصيرته علم أنه كان على العرش ولا يكون يمينه في الكعبة ثم لا يكون حجراً أسود فيدرك بأدنى مسكة أنه استعير للمصافحة، فإنه يؤمر باستلام الحجر وتقبيله كما يؤمر بتقبيل يمين الملك، فاستعير اللفظ لذلك. والكامل العقل البصير لا تعظم عنده هذه الأمور، بل يفهم معانيها على البديهة، فلنرجع إلى معنى الاستواء والنزول؛ أما الاستواء فهو نسبه للعرش لا محالة، ولا يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوماً، أو مراداً، أو مقدوراً عليه، أو محلاً مثل محل العرض، أو مكاناً مثل مستقر الجسم. ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقلاً وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة به له، فإن كان في جملة هذه النسبة، مع أنه لا نسبة سواها، نسبة لا يخيلها العقل ولا ينبو عنها اللفظ، فليعلم أنها المراد إما كونه مكاناً أو محلاً، كما كان للجوهر والعرض، إذاً اللفظ يصلح له ولكن العقل يخيله كما سبق، وإما كونه معلوماً ومراداً فالعقل لا يخيله، ولكن اللفظ لا يصلح له، وإما كونه مقدوراً عليه وواقعاً في قبضة القدرة ومسخراً له مع أنه أعظم المقدورات ويصلح الاستيلاء عليه لأن يمتدح به وينبه به على غيره الذي هو دونه في العظم، فهذا مما لا يخيله العقل ويصلح له اللفظ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعاً، أما صلاح اللفظ له فظاهر عند الخبير بلسان العرب، وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها، فمن المستحسن في اللغة أن يقال استوى الأمير على مملكته، حتى قال الشاعر: قد استوى بشير على العراق ... من غير سيف ودم مهراق ولذلك قال بعض السلف رضي الله عنهم: يفهم من قوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " ما فهم من قوله تعالى " ثم استوى إلى السماء وهي دخان ". وأما قوله صلى الله عليه وسلم " ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا " فللتأويل فيه مجال من وجهين: أحدهما، في اضافة النزول إليه وأنه مجاز، وبالحقيقة هو مضاف إلى ملك من الملائكة كما قال تعالى " واسأل القرية " والمسؤول بالحقيقة أهل القرية. وهذا أيضاً من المتداول في الألسنة، أعني إضافة أحوال التابع إلى المتبوع، فيقال: ترك الملك على باب البلد، ويراد عسكره، فإن المخبر بنزول الملك على باب البلد قد يقال له هلا خرجت لزيارته فيقول لا، لأنه عرج في طريقه على الصيد ولم ينزل بعد، فلا يقال له فلم نزل الملك والآن تقول لم ينزل بعد؟ فيكون المفهوم

من نزول الملك نزول العسكر، وهذا جلي واضح. والثاني، أن لفظ النزول قد يستعمل للتلطف والتواضع في حق الخلق كما يستعمل الارتفاع للتكبر، يقال فلان رفع رأسه إلى عنان السماء، أي تكبر، ويقال ارتفع إلى أعلى عليين، أي تعظم؛ وإن علا أمره يقال: أمره في السماء السابعة؛ وفي معارضته إذا سقطت رتبته يقال: قد هوى به إلى أسفل السافلين؛ وإذا تواضع وتلطف له تطامن إلى الأرض ونزل إلى أدنى الدرجات. فإذا فهم هذا وعلم أن النزول عن الرتبة بتركها أو سقوطها وفي النزول عن الرتبة بطريق التلطف وترك العقل الذي يقتضيه علو الرتبة وكمال الاستغناء، فبالنظر إلى هذه المعاني الثلاثة التي يتردد اللفظ بينها ما الذي يجوزه العقل؟ أما النزول بطريق الانتقال فقد أحاله العقل كما سبق، فإن ذلك لا يمكن إلا في متحيز، وأما سقوط الرتبة فهو محال لأنه سبحانه قديم بصفاته وجلاله ولا يمكن زوال علوه، وأما النزول بمعنى اللطف والرحمة وترك الفعل اللائق بالاستغناء وعدم المبالاة فهو ممكن، فيتعين التنزيل عليه، وقيل إنه لما نزل قوله تعالى: " رفيع الدرجات ذو العرش " استشعر الصحابة رضوان الله عليهم من مهابة عظيمة واستبعدوا الانبساط في السؤال والدعاء مع ذلك الجلال، فأخبروا أن الله سبحانه وتعالى مع عظمة جلاله وعلو شأنه متلطف بعباده رحيم بهم مستجيب لهم مع الاستغناء إذا دعوه، وكانت استجابة الدعوة نزولاً بالاضافة إلى ما يقتضيه ذلك الجلال من الاستغناء وعدم المبالاة، فعبر عن ذلك بالنزول تشجيعاً لقلوب العباد على المباسطة بالأدعية بل على الركوع والسجود، فإن من يستشعر بقدر طاقته مبادئ جلال الله تعالى استبعد سجوده وركوعه، فإن تقرب العباد كلهم بالاضافة إلى جلال الله سبحانه أحس من تحريك العبد أصبعاً من أصابعه على قصد التقرب إلى ملك من ملوك الأرض، ولو عظم به ملكاً من الملوك لاستحق به التوبيخ، بل من عادة الملوك زجر الأرزال عن الخدمة والسجود بين أيديهم والتقبيل لعتبة دورهم استحقاراً لهم عن الاستخدام وتعاظماً عن استخدام غير الأمراء والأكابر، كما جرت به عادة بعض الخلفاء. فلولا النزول عن مقتضى الجلال باللطف والرحمة والاستجابة لاقتضى ذلك الجلال أن يبهت القلوب عن الفكر، ويخرس الألسنة عن الذكر، ويخمد الجوارح عن الحركة، فمن لاحظ ذلك الجلال وهذا اللطف استبان له على القطع أن عبارة النزول مطابقة للجلال ومطلقة في موضوعها لا على ما فهمه الجهال؛ فإن قيل فلم خصص السماء الدنيا؟ قلنا: هو عبارة عن الدرجة الأخيرة التي لا درجة بعدها، كما يقال سقط إلى

الثرى وارتفع إلى الثريا، على تقدير أن الثريا أعلى الكواكب والثرى أسفل المواضع. فإن قيل: فلم خصص بالليالي، فقال ينزل كل ليلة؟ قلنا: لأن الخلوات مظنة الدعوات والليالي أعدت لذلك، حيث يسكن الخلق وينمحي عن القلوب ذكرهم، ويصفوا لذكر الله تعالى قلب الداعي، فمثل هذا الدعاء هو المرجو الاستجابة لا ما يصدر عن غفلة القلوب عند تزاحم الاشتغال. الدعوى التاسعة: ندعي أن الله سبحانه وتعالى مرئي، خلافاً للمعتزلة، وإنما أوردنا هذه المسألة في القطب الموسوم بالنظر في ذات الله سبحانه وتعالى لأمرين: أحدهما أن ننفي الرؤية عما يلزم على نفي الجهة، فأردنا أن نبين كيف يجمع بين نفي الجهة وإثبات الرؤية. والثاني أنه سبحانه وتعالى عندنا مرئي لوجوده ووجود ذاته، فليس ذلك إلا لذاته، فإنه ليس لفعله ولا لصفة من الصفات، بل كل موجود ذات فواجب أن يكون مرئياً، كما أنه واجب أن يكون معلوماً، ولست أعني به أنه واجب أن يكون معلوماً ومرئياً بالفعل بل بالقوة، أي هو من حيث ذاته له، فإن امتنع وجود الرؤية فلأمر آخر خارج عن ذاته، كما نقول: الماء الذي في النهر مرو، والخمر الذي في الدن مسكر، وليس كذلك لأنه يسكر ويروي عند الشرب ولكن معناه أن ذاته مستعدة لذلك فإذا فهم المراد منه فالنظر في طرفين: أحدهما في الجواز العقلي، والثاني في الوقوع الذي لا سبيل إلى دركه إلا بالشرع، ومهما دل الشرع على وقوعه فقد دل أيضاً لا محالة على جوازه ولكنا ندل بمسلكين واقعين عقليين على جوازه. المسلك الأول، هو أنا نقول أن الباري سبحانه موجود وذات، وله ثبوت وحقيقة، وإنما يخالف سائر الموجودات في استحالة كونه حادثاً أو موصوفاً بما يدل على الحدوث، أو موصوفاً بصفة تناقض صفات الالهية من العلم والقدرة وغيرهما. فكل ما يصح لموجود فهو يصح في حقه تعالى إن لم يدل على الحدوث ولم يناقض صفة من صفاته. والدليل عليه تعلق العلم به؛ فإنه لما لم يؤد إلى تغير في ذاته ولا إلى مناقضة صفاته ولا إلى الدلالة على الحدوث، سوى بينه وبين الأجسام والأعراض في جواز تعلق العلم بذاته وصفاته. والرؤية نوع علم لا يوجب تعلقه بالمرئي تغير صفة ولا يدل على حدوث، فوجب الحكم بها على كل موجود،

فإن قيل: فكونه مرئياً يوجب كونه بجهة وكونه بجهة يوجب كونه عرضاً أو جوهراً وهو محال، ونظم القياس أنه إن كان مرئياً فهو بجهة من الرأي وهذا اللازم محال فالمفضي إلى الرؤية محال. قلنا: أحد الأصلين من هذا القياس مسلم لكم، وهو أن هذا اللازم محال، ولكن الأصل الأول وهو ادعاء هذا اللازم على اعتقاد الرؤية ممنوع. فنقول لم قلتم إنه إن كان مرئياً فهو بجهة من الرأي، أعلمتم ذلك بضرورة، أم بنظر؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة، وأما النظر فلا بد من بيانه، ومنتهاهم أنهم لم يروا إلى الآن شيئاً إلا وكان بجهة من الرأي مخصوصة، فيقال: وما لم ير فلا يحكم باستحالته، ولو جاز هذا لجاز للمجسم أن يقول إنه تعالى جسم، لأنه فاعل، فإننا لم نر إلى الآن فاعلاً إلا جسماً. أو يقول إن كان فاعلاً وموجوداً فهو إما داخل العالم وإما خارجه، وإما متصل وإما منفصل، ولا تخلو عنه الجهات الست، فإنه لم يعلم موجود إلا وهو كذلك فلا فضل بينكم وبين هؤلاء. وحاصله يرجع إلى الحكم بأن ما شوهد وعلم ينبغي أن لا يعلم غيره إلا على وفقه، وهو كمن يعلم الجسم وينكر العرض ويقول: لو كان موجوداً لكان يختص بحيز ويمنع غيره من الوجود بحيث هو كالجسم. ومنشأ هذا إحالة موجودات اختلاف الموجودات في حقائق الخواص مع الاشتراك في أمور عامة. وذلك بحكم لا أصل له، على أن هؤلاء لا يغفل عن معارضتهم بأن الله يرى نفسه ويرى العالم وهو ليس بجهة من نفسه ولا من العالم، فإذا جاز ذلك فقد بطل هذا الخيال. وهذا مما يعترف به أكثر المعتزلة ولا نخرج عنه لمن اعترف به ومن أنكر منهم فلا يقدر على انكار رؤية الانسان نفسه في المرآة، ومعلوم أنه ليس في مقابلة نفسه فإن زعموا أنه لا يرى نفسه وإنما يرى صورة محاكية لصورته منطبعة في المرآة انطباع النفس في الحائط، فيقال إن هذا ظاهر الاستحالة: فإن من تباعد عن مرآة منصوبة في حائط بقدر ذراعين يرى صورته بعيدة عن جرم المرآة بذراعين، وإن تباعد بثلاثة أذرع فكذلك. فالبعيد عن المرآة بذراعين كيف يكون منطبعاً في المرآة وسمك المرآة ربما لا يزيد على سمك شعيرة؟ فإن كانت الصورة في شيء وراء المرآة فهو محال، إذ ليس وراء المرآة إلا جدار أو هواء أو شخص آخر هو محجوب عنه، وهو لا يراه. وكذا عن يمين المرآة ويسارها وفوقها وتحتها وجهات المرآة الست، وهو يرى صورة بعيدة عن المرآة بذراعين، فلنطلب هذه الصورة من جوانب المرآة: فحيث وجدت فهو المرئي ولا وجود لمثل هذه الصورة المرئية في الأجسام المحيطة بالمرآة إلا في جسم والناظر، فهو المرئي إذاً بالضرورة. وقد تطلب المقابلة والجهة ولا ينبغي

أن تستحقر هذا الإلزام فإنه لا مخرج للمعتزلة عنه، ونحن نعلم بالضرورة أن الانسان لو لم يبصر نفسه قط ولا عرف المرآة وقيل له أن يمكن أن تبصر نفسك في مرآة الحكم بأنه محال، وقال لا يخلو إما أن أرى نفسي وأنا في المرآة فهو محال، أو أرى مثل صورتي في جرم المرآة وهو محال، أو في جرم وراء المرآة وهو محال، أو المرآة في نفسها صورة وللأجسام المحيطة بها جسم صور، ولا تجتمع صورتان في جسم واحد إذ محال أن يكون في جسم واحد صورة إنسان وديد وحائط وإن رأيت نفسي حيث أنا فهو محال، إذ لست في مقابلة نفسي فكيف أرى نفسي، ولا بد بين المقابلة بين الرائي والمرئي وهذا التقسيم صحيح عند المعتزلي ومعلوم أنه باطل، وبطلانه عندنا لقوله إني لست في مقابلة نفسي فلا أراها وإلا فسائر أقسام كلامه صحيحة، فبهذا يستبين ضيق حوصلة هؤلاء عن التصديق بما لم يألفوه ولم تأنس به حواسهم. المسلك الثاني، وهو الكشف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق، وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان وهيهات! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، فإن نفي من معانيه معنى لم يستحل في حق الله سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقة، أثبتناه في حق الله سبحانه وقضينا بأنه مرئي حقيقة، وإن لم يكى إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل. وتحصيله، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو، فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلاً لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم. ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا إن أدركنا الشيء بالقلب، أو بالدماغ إن أدركنا الشيء بالدماغ، وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين. وأما المتعلق بعينه فليس ركناً في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها

باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، ولو كان لتعلقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة، وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود؛ أي موجود كان وأي ذات كان. فإذاً الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالاضافة إلى التخيل، فإنا نرى الصديق مثلاً ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل والتصور، ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ولا ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق وليس بينهما افتراق، إلا أن هذه الحالة الثانية كالاستكمال لحالة التخيل، وكالكشف لها، فتحدث فيها صورة الصديق عند فتح البصر حدوثاً أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال. والحادثة في البصر بعينها تطابق بيان الصورة الحادثة في الخيال، فإذاً التخيل نوع إدراك على رتبة، ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في الوضوح والكشف، بل هي كالتكميل له، فنسمي هذا الاستكمال بالاضافة إلى الخيال رؤية وإبصاراً، وكذا من الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وكل ما لا صورة له، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل؛ فإن كان ذلك ممكناً سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالاضافة إلى العلم رؤية، كما سميناه بالاضافة إلى التخيل رؤية. ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها. فنن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له. إلا أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم، والنفس في شغل البدن وكدورة صفائه، فهو مجوب عنه. وكما لا يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما في العين سبباً بحكم اطراد العادة لامتناع الإبصار للمتخيلات فلا يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكم حجب الاشغال بحكم اطراد العادة مانعاً من إبصار المعلومات. فإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وزكيت القلوب بالشراب الطهور، وصفيت بأنوع التصفية والتنقية، لم يمتنع أن تشتغل بسببها

لمزيد استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه أو في سائر المعلومات، يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة الإبصار عن التخيل، يعبر عن ذلك بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات. فلا مشاحة فيها وبعد إيضاح المعاني. وإذا كان ذلك ممكناً بأن خلقت هذه الحالة في العين، كان اسم الرؤية بحكم وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العين غير مستحيل. كما أن خلقها في القلب غير مستحيل فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية، علم أن العقل لا يحيله بل يوجبه، وأن الشرع قد شهد له فلا يبقى للمنازعة وجه إلا على سبيل العناد أو المشاحنة في إطلاق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها. ولنقتصر في هذا الموجز على هذا القدر. الطرف الثاني في وقوعه شرعاً. وقد دل الشرع على وقوعه ومداركه كثيرة، ولكثرتها يمكن دعوى الإجماع على الأولين في ابتهالهم إلى الله سبحانه في طلب لذة النظر إلى وجهه الكريم. ونعلم قطعاً من عقائدهم أنهم كانوا ينتظرون ذلك وأنهم كانوا قد فهموا جواز انتظار ذلك وسؤاله من الله سبحانه، بقرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة من ألفاظه الصريحة التي لا تدخل في الحضر، بالاجماع الذي يدل على خروج المدارك عن الحصر. ومن أقوى ما يدل عليه سؤال موسى صلى الله عليه وسلم أرني أنظر إليك فإنه يستحيل أن يخفى عن نبي من أنبياء الله تعالى انتهى منصبه إلى أن يكلمه الله سبحانه شفاهاً أن يجهل من صفات ذاته تعالى ما عرفه المعتزلة. وهذا معلوم على الضرورة، فإن الجهل بكونه ممتنع الرؤية عند الخصم يوجب التفكير أو التضليل وهو جهل بصفة ذاته لأن استحالتها عندهم لذاته ولأنه ليس بجهة فكيف لم يعرف موسى عليه أفضل الصلاة أنه ليس بجهة، أو كيف عرف أنه ليس بجهة ولم يعرف أن رؤية ما ليس بجهة محال؟ فليت شعري ماذا يضمر الخصم ويقدره من ذهول موسى صلى الله عليه وسلم، أيقدره معتقداً أنه جسم في جهة ذو لون، واتهام الأنبياء صلوات الله سبحانه وتعالى عليهم وسلامه كفر صراح، فإنه تكفير للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن القائل بأن الله سبحانه جسم وعابد الوثن والشمس واحد! أو يقول علم استحالة كونه بجهة، ولكنه لم يعلم أن ما ليس بجهة فلا يرى، وهذا تجهيل للنبي عليه أفضل السلام لأن الخصم يعتقد أن ذلك من الجليات لا من النظريات. فأنت الآن أيها المسترشد مخير من أن تميل إلى تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم تسليماً، أو إلى تجهيل المعتزلي، فاختر لنفسك ما أليق بك والسلام. فإن قيل: إن دل هذا لكم فقد دل عليكم، لسؤاله الرؤية في الدنيا ودل عليكم قوله تعالى " لن تراني " ودل قوله سبحانه " لا تدركه الأبصار ".

قلنا: أما سؤاله الرؤية في الدنيا فهو دليل على عدم معرفته بوقوع وقت ما هو جائز في نفسه، والأنبياء كلهم عليهم أفضل السلام لا يعرفون من الغيب إلا ما عرفوا، وهو القليل، فمن أين يبعد أن يدعو النبي عليه أفضل السلام كشف غمة وإزالة بلية وهو يرتجي الإجابة في وقت لم تسبق في علم الله تعالى الإجابة فيه. وهذا من ذلك الفن. وأما قوله سبحانه " لن تراني " فهو دفع لما التمسه، وإنما التمس في الآخرة، فلو قال أرني انظر إليك في الآخرة، فقال لن تراني، لكان ذلك دليلاً على نفي الرؤية، ولكن في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلامه عليه في الخصوص لا على العموم. وما كان أيضاً دليلاً على الاستحالة، فكيف وهو جواب عن السؤال في الحال؟ وأما قوله لا تدركه الأبصار أي لا تحيط به ولا تكتنفه من جوانبه كما تحيط الرؤية بالأجسام، وذلك حق، أو هو عام فأريد بة في الدنيا، وذلك أيضاً حق، وهو ما أراده بقوله سبحانه " لن تراني " في الدنيا. ولنقتصر على هذا القدر في مسألة الرؤية، ولينظر المنصف كيف افترقت الفرق وتحزبت إلى مفرط ومفرط. أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إلا في جهة، فأثبتوا الجهة حتى ألزمتهم بالضرورة الجسمية والتقدير والاختصاص بصفات الحدوث. وأما المعتزلة وفانهم نفوا الجهة ولم يتمكنوا من إثبات الرؤية دونها، وخالفوا به قواطع الشرع، وظنوا أن في إثباتها إثبات الجهة، فهؤلاء تغلغلوا في التنزيه محترزين من التشبيه، فأفرطوا. والحشوية أثبتوا الجهة احترازاً من التعطيل فشبهوا، فوقف الله سبحانه أهل السنة للقيام بالحق، فتفطنوا للمسلك القصد وعرفوا أن الجهة منقية لأنها للجسمية تابعة وتتمة، وأن الرؤية ثابتة لأنها رديف العلم وفريقه، وهي تكملة له؛ فانتفاء الجسمية أوجب انتفاء الجهة التي من لوازمها. وثبوت العلم أوجب ثبوت الرؤية التي هي من روادفه وتكملاته ومشاركة له في خاصيته، وهي أنها لا توجب تغييراً في ذات المرئي، بل تتعلق به على ما هو عليه كالعلم. ولا يخفى عن عاقل أن هذا هو الاقتصاد في الاعتقاد. الدعوى العاشرة: ندعي أنه سبحانه واحد. فإن كونه واحداً يرجع إلى ثبوت ذاته ونفي غيره، فليس هو نظر في صفة زائدة على الذات، فوجب ذكره في هذا القطب. فنقول: الواحد قد يطلب ويراد به أنه لا يقبل القسمة، أي لا كمية له ولا جزء

ولا مقدار، والباري تعالى واحد بمعنى سلب الكمية المصححة للقسمة عنه؛ فإنه غير قابل للانقسام. إذ الانقسام لما له كمية، والتقسيم تصرف في كمية بالتفريق والتصغير، وما لا كمية له لا بتصور انقسامه. وقد يطلق ويراد أنه لا نظير له في رتبته كما تقول الشمس واحدة، والباري تعالى أيضاً بهذا المعنى واحد؛ فإنه لا ند له. فأما انه لا ضد له فظاهراً، إذ المفهوم من الضد هو الذي يتعاقب مع الشيء على محل واحد ولا تجامع وما لا محل له فلا ضد له، والباري سبحانه لا محل له فلا ضد له. وأما قولنا لا ند له، نعني به أن ما سواه هو خالقه لا غير، وبرهانه أنه لو قدر له شريك لكان مثله في كل الوجوه أو أرفع منه أو كان دونه. وكل ذلك محال. فالمفضي إليه محال، ووجه استحالة كونه مثله من كل وجه أن كل اثنين هما متغايران، فإن لم يكن تغاير لم تكن الإثنينية معقولة، فإنا لا نعقل سوادين إلا في محلين، أو في محل واحد في وقتين، فيكون أحدهما مفارقاً للآخر ومبايناً له ومغايراً إما في المحل وإما في الوقت، والشيئان تارة يتغايران بتغاير الحد والحقيقة، كتغاير الحركة واللون فإنهما وإن اجتمعا في محل واحد في وقت واحد فهما اثنان، إذ أحدهما مغاير للآخر بحقيقته، فإن استوى اثنان في الحقيقة والحد كالسوادين، فيكون الفرق بينهما إما في المحل أو في الزمان؛ فإن فرض سوادان مثلاً في جوهر واحد في حالة واحدة كان محالاً إذ لم تعرف الاثنينية. ولو جاز أن يقال هما اثنان ولا مغايرة، لجاز أن يشار إلى إنسان واحد ويقال أنه انسانان بل عشرة وكلها متساوية متماثلة في الصفة والمكان وجميع العوارض واللوازم، من غير فرقان، وذلك محال بالضرورة، فإن كان ند الله سبحانه متساوياً له في الحقيقة والصفات استحال وجوده، إذ ليس مغايره بالمكان إذ لا مكان ولا زمان فإنهما قديمان، فإذاً لا فرقان، وإذا ارتفع كل فرق ارتفع العدد بالضرورة، ولزمت الوحدة. ومحال أن يقال يخالفه بكونه أرفع منه. فإن الأرفع هو الإله والإله عبارة عن أجل الموجودات وأرفعها، والآخر المقدر ناقص ليس بالإله. ونحن إنما نمنع العدد في الإله، والإله هو الذي يقال فيه بالقول المطلق أنه أرفع الموجودات وأجلها. وإن كان أدنى منه كان محالاً، لأنه ناقص ونحن نعبر بالاله عن أجل الموجودات فلا يكون الأجل إلا واحداً، وهو الإله ولا يتصور اثنان متساويان في صفات الجلال، إذ يرتفع عند ذلك الافتراق ويبطل العدد كما سبق. فإن قيل: بم تنكرون على من لا ينازعكم في إيجاد من يطلق عليه اسم الإله، مهما كان الإله، عبارة عن أجل الموجودات، ولكنه يقول العالم كله بجملته ليس بمخلوق خالق واحد، بل هو مخلوق خالقين، أحدهما مثلاً خالق السماء والآخر خالق الأرض، أو أحدهما خالق الجمادات والآخر خالق الحيوانات وخالق النبات: فما

المحيل لهذا؟ فإن لم يكن على استحالة هذا دليل، فمن أين ينفعكم قولكم أن اسم الإله لا يطلق على هؤلاء؟ فإن هذا القائل يعبر بالإله عن الخالق، أو يقول أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشر، أو أحدهما خالق الجواهر والآخر خالق الأعراض، فلا بد من دليل على استحالة ذلك. فنقول: يدل على استحالة ذلك أن هذه التوزيعات للمخلوقات على الخالقين في تقدير هذا السائل لا تعدو قسمين: إما أن تقتضي تقسيم الجواهر والأعراض جميعاً حتى خلق أحدهما بعض الأجسام والأعراض دون البعض، أو يقال كل الأجسام من واحد وكل الأعراض من واحد، وباطل أن يقال إن بعض الأجسام بخلقها واحد كالسماء مثلاً دون الأرض؛ فإنا نقول خالق السماء هل هو قادر على خلق الأرض أم لا، فإن كان قادراً كقدرته، لم يتميز أحدهما في القدرة عن الآخر، فلا يتميز في المقدور عن الآخر فيكون المقدور بين قادرين ولا تكون نسبته إلى أحدهما بأولى من الآخر، وترجع الاستحالة إلى ما ذكرناه من تقدير تزاحم متماثلين من غير فرق، وهو محال. وإن لم يكن قادراً عليه فهو محال لأن الجواهر متماثلة وأكوانها التي هي اختصاصات بالأحياز متماثلة، والقادر على الشيء قادر على مثله إذ كانت قدرته قديمة بحيث يجوز أن يتعلق بمقدورين وقدرة كل واحد منهما تتعلق بعدة من الأجسام والجواهر، فلم تتقيد بمقدور واحد. وإذا جاوز المقدور الواحد على خلاف القدرة الحادثة، لم يكن بعض الأعداد بأولى من بعض، بل يجب الحكم بنفي النهاية عن مقدوراته ويدخل كل جوهر ممكن وجوده في قدرته. والقاسم الثاني أن يقال: أحدهما يقدر على الجوهر والآخر على الأعراض وهما مختلفان، فلا تجب من القدرة على أحدهما القدرة على الآخر، وهذا محال، لأن العرض لا يستغني عن الجوهر، والجوهر لا يستغني عن العرض، فيكون فعل كل واحد منهما موقوفاً على الآخر، فكيف يخلقه وربما لا يساعده خالق الجوهر على خلق الجوهر عند إرادته لخلق العرض، فيبقى عاجزاً متحيراً والعاجز لا يكون قادراً. وكذلك خالق الجوهر إن أراد خلق الجوهر بما خالفه خالق العرض فيمتنع على الآخر خلق الجوهر فيؤدي ذلك إلى التمانع. فإن قيل: مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده الآخر على العرض وكذا بالعكس. قلنا: هذه المساعدة هل هي واجبة لا يتصور في العقل خلافها فإن أوجبتموها فهو تحكم، بل هو أيضاً مبطل للقدرة، فإن خلق الجوهر من واحد كأنه يضطر الآخر إلى خلق العرض، وكذا بالعكس؛ فلا تكون له قدرة على الترك ولا تتحقق القدرة مع

هذا. وعلى الجملة فترك المساعدة إن كان ممكناً فقد تعذر العقل وبطل معنى المقدرة والمساعدة إن كانت واجبة صار الذي لا بد له من مساعدة مضطراً لا قدرة له. فإن قيل. فيكون أحدهما خالق الشر والآخر خالق الخير، قلنا: هذا هوس، لأن الشر ليس شراً لذاته، بل هو من حيث ذاته مساو للخير ومماثل له، والقدرة على الشيء قدرة على مثله، فإن إحراق بدن المسلم بالنار شر، وإحراق بدن الكافر خير ودفع شر، والشخص الواحد إذا تكلم بكلمة الإسلام انقلب الإحراق في حقه شراً، فالقادر على إحراق لحمه بالنار عند سكوته عن كلمة الإيمان لا بد أن يقدر على إحراقه عند النطق بها، لأن نطقه بها صوت ينقضي لا يغير ذات اللحم، ولا ذات النار، ولا ذات الاحتراق، ولا يغلب جنساً فتكون الاحتراقات متماثلة، فيجب تعلق القدرة بالكل ويقتضي ذلك تمانعاً وتزاحماً. وعلى الجملة: كيفما فرض الأمر تولد منه اضطراب وفساد وهو الذي أراد الله سبحانه بقوله " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " فلا مزيد على بيان القرآن. ولنختم هذا القطب بالدعوى العاشرة فلم يبق مما يليق بهذا الفن إلا بيان استحالة كونه سبحانه محلاً للحوادث، وسنشير إليه في أثناء الكلام في الصفات رداً على من قال بحدوث العلم والإرادة وغيرهما.

القطب الثاني في الصفات وفيه سبعة دعاوى إذ ندعى أنه سبحانه قادر عالم حي مريد سميع بصير متكلم، فهذه سبعة صفات. ويتشعب عنها نظر في أمرين أحدهما ما به تخص آحاد الصفات، والثاني ما تشترك فيه جميع الصفات. فلنفتح البداية بالقسم الأول وهو اثآت أصل الصفات وشرح خصوص أحكامها. القسم الأول أصل الصفات الصفة الأولى القدرة ندعي أن محدث العالم قادر، لأن العالم فعل محكم مرتب متقن منظوم مشتمل على أنواع من العجائب والآيات، وذلك يدل على القدرة. ونرتب القياس فنقول: كل فعل محكم فهو صادر من فاعل قادر، والعالم فعل محكم فهو إذاً صادر من فاعل قادر، ففي أي الأصلين النزاع؟ فإن قيل فلم قلتم أن العالم فعل محكم، قلنا: عنينا بكونه محكماً ترتبه ونظامه وتناسبه، فمن نظر في أعضاء نفسه الظاهرة والباطنة ظهر له من عجائب الاتقان ما يطول حصره، فهذا أصل تدرك معرفته بالحس والمشاهدة فلا يسع جحده. فإن قيل: فبم عرفتم الأصل الآخر وهو أن كل فعل مرتب محكم ففاعله قادر؟ قلنا: هذا مدركه ضرورة العقل؛ فالعقل يصدق به بغير دليل ولا يقدر العاقل على جحده، ولكنا مع هذا نجرد دليلاً يقطع دابر الجحود والعناد، فنقول: نعني بكونه قادراً أن الفعل الصادر منه لا يخلو إما أن يصدر عنه لذاته أو لزائد عليه، وباطل أن يقال صدر عنه لذاته، إذ لو كان كذلك لكان قديماً مع الذات فدل أنه صدر لزائد على

ذاته، والصفة الزائدة التي بها تهيأ للفعل الموجود نسميها قدرةً، إذ القدرة في وضع اللسان عبارة عن الصفة التي يتهيأ الفعل للفاعل وبها يقع الفعل، فإن قيل ينقلب عليكم هذا في القدرة فإنها قديمة والفعل ليس بقديم، قلنا سيأتي جوابه في أحكام الإرادة فيما يقع الفعل به، وهذا الوصف مما دل عليه التقسيم القاطع الذي ذكرناه. ولسنا نعني بالقدرة إلا هذه الصفة، وقد أثبتناها فلنذكر أحكامها. ومن حكمها أنها متعلقة بجميع المقدورات، وأعني بالمقدورات الممكنات كلها التي لا نهاية لها. ولا يخفى أن الممكنات لا نهاية لها فلا نهاية إذاً للمقدورات، ونعني بقولنا لا نهاية للممكنات أن خلق الحوادث بعد الحوادث لا ينتهي إلى حد يستحيل في العقل حدوث حادث بعده، فالإمكان مستمر أبداً والقدرة واسعة لجميع ذلك، وبرهان هذه الدعوى وهي عموم تعلق القدرة أنه قد ظهر أن صانع كل العالم واحد، فإما أن يكون له بإزاء كل مقدور قدرة والمقدورات لا نهاية لها فتثبت قدرة متعددة لا نهاية لها وهو محال كما سبق في إبطال دورات لا نهاية لها، وإما أن تكون القدرة واحدة كما سبق في إبطال دورات لا نهاية لها، وإما أن تكون القدرة واحدة فيكون تعلقها مع اتحادها بما يتعلق به من الجواهر والأعراض مع اختلافها لأمر تشترك فيه ولا يشترك في أمر سوى الامكان، فيلزم منه أن كل ممكن فهو مقدور لا محالة وواقع بالقدرة. وبالجملة، إذا صدرت منه الجواهر والأعراض استحال أن لا يصدر منه أمثالها، فإن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ لم يمتنع التعدد في المقدور لنسبته إلى الحركات كلها والألوان كلها على وتيرة واحدة فتصلح لخلو حركة بعد حركة على الدوام، وكذا لون بعد لون وجوهر بعد جوهر وهكذا.. وهو الذي عنيناه بقولنا إن قدرته تعالى متعلقة بكل ممكن فإن الإمكان لا ينحصر في عدد. ومناسبة ذات القدرة لا تختص بعدد دون عدد ولا يمكن أن يشار إلى حركة فيقال أنها خارجة عن إمكان تعلق القدرة بها، مع أنها تعلقت بمثلها إذ بالضرورة تعلم أن ما وجب للشيء وجب لمثله ويتشعب عن هذا ثلاثة فروع. الفرع الأول: إن قال قائل هل تقولون أن خلاف المعلوم مقدور؟ قلنا: هذا مما اختلف فيه، ولا يتصور الخلاف فيه إذا حقق وأزيل تعقيد الألفاظ وبيانه أنه قد ثبت أن كل ممكن مقدور وأن المحال ليس بمقدور. فانظر أن خلاف المعلوم محال أو ممكن ولا تعرف ذلك إلا إذا عرفت معنى المحال والممكن وحصلت حقيقتهما وإلا فإن تساهلت في النظر، ربما صدق على خلاف المعلوم أنه محال وأنه ممكن وأنه ليس بمحال، فإذاً صدق أنه محال وأنه ليس بمحال والنقيضان لا يصدفان معاً.

فاعلم أن تحت اللفظ اجمالاً وإنما ينكشف لك ذلك بما أقوله وهو أن العالم مثلاً يصدق عليه أنه واجب وأنه محال وأنه ممكن. أما كونه واجباً فمن حيث أنه إذا فرضت إرادة القديم موجودة وجوداً واجباً كان المراد أيضاً واجباً بالضرورة لا جائزاً، إذ يستحيل عدم المراد مع تحقق الإرادة القديمة وأما كونه محالاً فهو أنه لو قدر عدم تعلق الارادة بايجاده فيكون لا محالة حدوثه محالاً إذ يؤدي إلى حدوث حادث بلا سبب وقد عرف أنه محال. وأما كونه ممكناً فهو أن تنظر إلى ذاته فقط، ولا تعتبر معه لا وجود الإرادة ولا عدمها، فيكون له وصف الإمكان، فإذاً الاعتبارات ثلاثة: الأول أن يشترط فيه وجود الإرادة وتعلقها فهو بهذا الاعتبار واجب. الثاني أن يعتبر فقد الإرادة فهو بهذا الاعتبار محال. الثالث أن نقطع الالتفات عن الإرادة والسبب فلا نعتبر وجوده ولا عدمه ونجرد النظر إلى ذات العالم فيبقى له بهذا الاعتبار الأمر الثالث وهو الإمكان. ونعني به أنه ممكن لذاته، أي إذا لم نشترط غير ذاته كان ممكناً فظهر منه أنه يجوز أن يكون الشيء الواحد ممكناً محالاً، ولكن ممكناً باعتبار ذاته محالاً باعتبار غيره، ولا يجوز أن يكون ممكناً لذاته محالاً لذاته، فهما متناقضان فنرجع إلى خلاف المعلوم فنقول: إذا سبق في علم الله تعالى إماتة زيد صبيحة يوم السبت مثلاً فنقول: خلق الحياة لزيد صبيحة يوم السبت ممكن أم ليس بممكن؟ فالحق فيه أنه ممكن ومحال؛ أي هو ممكن باعتبار ذاته إن قطع الالتفات إلى غيره، ومحال لغيره لا لذاته وذلك إذا اعتبر معه الالتفات إلى تعلق ذاتها وهو ذات العلم، إذ ينقلب جهلاً، ومحال أن ينقلب جهلاً فبان أنه ممكن لذاته محال للزوم استحالة في غيره. فإذا قلنا حياة زيد في هذا الوقت مقدورة، لم نرد به إلا أن الحياة من حيث أنها حياة ليس بمحال، كالجمع بين السواد والبياض. وقدرة الله تعالى من حيث أنها قدرة لا تنبو عن التعلق بخلق الحياة ولا تتقاصر عنه لفتور ولا ضعف ولا سبب في ذات القدرة، وهذان أمران يستحيل إنكارهما، أعني نفي القصور عن ذات القدرة وثبوت الإمكان لذات الحياة من حيث أنها حياة فقط من غير التفات إلى غيرها، والخصم إذا قال غير مقدور على معنى أن وجوده يؤدي إلى استحالة فهو صادق في هذا المعنى، فإنا لسنا ننكره ويبقى النظر في اللفظ هل هو صواب من حيث اللغة إطلاق هذا الاسم عليه أو سلبه، ولا يخفى أن الصواب إطلاق اللفظ فإن الناس يقولون فلان قادر على الحركة والسكون، إن شاء تحرك وإن شاء سكن، ويقولون إن له في كل وقت قدرة على الضدين ويعلمون أن الجاري في علم الله تعالى وقوع أحدهما، فالاطلاقات

شاهدة لما ذكرناه وحظ المعنى فيه ضروري لا سبيل إلى جحده. الفرع الثاني: إن قال قائل إذا ادعيتم عموم القدرة في تعلقها بالممكنات، فما قولكم في مقدورات الحيوان وسائر الأحياء من المخلوقات، أهي مقدورة لله تعالى أم لا؟ فإن قلتم ليست مقدورة، فقد نقضتم قولكم إن تعلق القدرة عام، وإن قلتم إنها مقدورة له لزمكم إثبات مقدور بين قادرين وهو محال، وإنكار كون الإنسان وسائر الحيوان قادراً فهو مناكرة للضرورة ومجاحدة لمطالبات الشريعة، إذ تستحيل المطالبة بما لا قدرة عليه ويستحيل أن يقول الله لعبده ينبغي أن تتعاطى ما هو مقدور لي وأنا مستأثر بالقدرة عليه ولا قدرة لك عليه. فنقول: في الانفصال قد تحزب الناس في هذا أحزاباً؛ فذهبت المجبرة إلى انكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة والحركة الاختيارية، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع، وذهبت المعتزلة إلى انكار تعلق قدرة الله تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين وزعمت أن جميع ما يصدر منها من خلق العباد واختراعهم لا قدرة لله تعالى عليها بنفي ولا إيجاب فلزمتها شناعتان عظيمتان: إحداهما انكار ما أطبق عليه السلف رضي الله عنهم من أنه لا خالق إلا الله ولا مخترع سواه، والثانية نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه من الحركات، فإن الحركات التي تصدر من الإنسان وسائر الحيوان لو سئل عن عددها وتفاصيلها ومقاديرها لم يكن عنده خبر منها، بل الصبي كما ينفصل من المهد يدب إلى الثدي باختياره ويمتص، والهرة كما ولدت تدب إلى ثدي أمها وهي مغمضة عينها، والعنكبوت تنسج من البيوت أشكالاً غريبة يتحير المهندس في استدارتها وتوازي أضلاعها وتناسب ترتيبها وبالضرورة تعلم انفكاكها عن العلم بما تعجز المهندسون عن معرفته، والنحل تشكل بيوتها على شكل التسديس فلا يكون فهيا مربع ولا مدور ولا مسبع ولا شكل آخر وذلك لتميز شكل المسدس بخاصية دلت عليها البراهين الهندسية لا توجد في غيرها، وهو مبني على اصول أحدها، أن أحوى الأشكال وأوسعها الشكل المستدير المنفك عن الزوايا الخارجة عن الاستقامة، والثاني، أن الأشكال المستديرة إذا وضعت متراصة بقيت بينها فرج معطلة لا محالة، والثالث، أن أقرب الأشكال القليلة الأضلاع إلى المستديرة في الاحتواء هو شكل المسدس،

والرابع أن كل الأشكال القريبة من المستديرة كالمسبع والمثمن والمخمس إذا وضعت جملة متراصة متجاورة بقيت بينها فرج معطلة ولم تكن متلاصقة، وأما المربعة فإنها متلاصقة ولكنها بعيدة عن احتواء الدوائر لتباعد زواياها عن أوساطها، ولما كان النحل محتاجاً إلى شكل قريب من الدوائر ليكون حاوياً لشخصه فإنه قريب من الاستدارة، وكان محتاجاً لضيق مكانه وكثرة عدده إلى أن لا يضيع موضعاً بفرج تتخلل بين البيوت ولا تتسع لأشخاصها ولم يكن في الأشكال مع خروجها عن النهاية شكل يقرب من الاستدارة وله هذه الخاصية وهو التراص والخلو عن بقاء الفرج بين أعدادها إلا المسدس، فسخرها الله تعالى لاختيار الشكل المسدس في صناعة بيتها؛ فليت شعري أعرف النحل هذه الدقائق التي يقصر عن دركها أكثر عقلاء الإنس أم سخره لنيل ما هو مضطر إليه الخالق المنفرد بالجبروت وهو في الوسط مجري فتقدير الله تعالى يجري عليه وفيه، وهو لا يدريه ولا قدرة له على الامتناع عنه، وإن في صناعات الحيوانات من هذا الجنس عجائب لو أوردت منها طرفاً لامتلأت الصدور من عظمة الله تعالى وجلاله، فتعساً للزائغين عن سبيل الله المغترين بقدرتهم القاصرة ومكنتهم الضعيفة الظانين أنهم مساهمون الله تعالى في الخلق والاختراع وإبداع مثل هذه العجائب والآيات. هيهات هيهات! ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار الأرض والسموات فهذه أنواع الشناعات اللازمة على مذهب المعتزلة فانظر الآن إلى أهل السنة كيف وفقوا للسداد ورشحوا للاقتصاد في الاعتقاد. فقالوا: القول بالجبر محال باطل، والقول بالاختراع اقتحام هائل، وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد. والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال كما سنبينه. فإن قيل فما الذي حملكم على اثبات مقدور بين قادرين؟ قلنا: البرهان القاطع على أن الحركة الاختيارية مفارقة للرعدة، وإن فرضت الرعدة مراد للمرتعد ومطلوبة له أيضاً ولا مفارقة إلا بالقدرة، ثم البرهان القاطع على أن كل ممكن تتعلق به قدرة الله تعالى وكل حادث ممكن وفعل العبد حادث فهو إذاً ممكن فإن لم تتعلق به قدرة الله تعالى فهو محال، فإنا نقول: الحركة الاختيارية من حيث أنها حركة حادثة ممكنة مماثلة لحركة الرعدة فيستحيل أن تتعلق قدرة الله تعالى بإحداهما وتقصر عن الأخرى وهي مثلها، بل يلزم عليه محال آخر وهو أن الله

تعالى لو أراد تسكين يد العبد إذا أراد العبد تحريكها فلا يخلو إما أن توجد الحركة والسكون جميعاً أو كلاهما لا يوجد فيؤدي إلى اجتماع الحركة والسكون أو إلى الخلو عنهما، والخلو عنهما مع التناقض يوجب بطلان القدرتين، إذ القدرة ما يحصل بها المقدور عند تحقق الإرادة وقبول المحل، فإن ظن الخصم أن مقدور الله تعالى يترجح لأن قدرته أقوى فهو محال، لأن تعلق القدرة بحركة واحدة لا تفضل تعلق القدرة الأخرى بها، إذ كانت فائدة القدرتين الاختراع وإنما قوته باقتداره على غيره واقتداره على غيره غير مرجح في الحركة التي فيها الكلام، إذ حظ الحركة من كل واحدة من القدرتين أن تصير مخترعة بها والاختراع يتساوى فليس فيه أشد ولا أضعف حتى يكون فيه ترجيح، فإذاً الدليل القاطع على إثبات القدرتين ساقنا إلى إثبات مقدور بين قادرين. فإن قيل: الدليل لا يسوق إلى محال لا يفهم وما ذكرتموه غير مفهوم. قلنا: علينا تفهيمه وهو أنا نقول اختراع الله سبحانه للحركة في العبد معقول دون أن تكون الحركة مقدورة للعبد، فمهما خلق الحركة وخلق معها قدرة عليها كان هو المستبد بالاختراع للقدرة والمقدور جميعاً، فخرج منه أنه منفرد بالاختراع وأن الحركة موجودة وأن المتحرك عليها قادر وبسبب كونه قادراً فارق حاله حال المرتعد فاندفعت الإشكالات كلها. وحاصله أن القادر الواسع القدرة هو قادر على الاختراع للقدرة والمقدور معاً، ولما كان اسم الخالق والمخترع مطلقاً على من أوجد الشيء بقدرته وكانت القدرة والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى، سمي خالقاً ومخترعاً. ولم يكن المقدور مخترعاً بقدرة العبد وإن كان معه فلم يسم خالقاً ولا مخترعاً ووجب أن يطلب لهذا النمط من النسبة اسم آخر مخالف فطلب له اسم الكسب تيمناً بكتاب الله

تعالى، فإنه وجد إطلاق ذلك على أعمال العباد في القرآن وأما اسم الفعل فتردد في إطلاقه ولا مشاحة في الأسامي بعد فهم المعاني. فإن قيل: الشأن في فهم المعنى وما ذكرتموه غير مفهوم، فإن القدرة المخلوقة الحادثة إن لم يكن لها تعلق بالمقدور لم تفهم؛ إذ قدرة لا مقدور لها محال، كعلم لا معلوم له. وإن تعلقت به فلا يعقل تعلق القدرة بالمقدور إلا من حيث التأثير والايجاد وحصول المقدور به. فالنسبة بين المقدور والقدرة نسبة المسبب إلى السبب وهو كونه به، فإذا لم يكن به لم تكن علاقة فلم تكن قدرة، إذ كل ما لا تعلق له فليس بقدرة إذ القدرة من الصفات المتعلقة. قلنا: هي متعلقة، وقولكم أن التعلق مقصور على الوقوع به يبطل بتعلق الارادة والعلم، وإن قلتم أن تعلق القدرة مقصور على الوقوع بها فقط فهو أيضاً باطل، فإن القدرة عندكم تبقى إذا فرضت قبل الفعل، فهل هي متعلقة أم لا؟ فإن قلتم لا فهو محال، وإن قلتم نعم فليس المعني بها وقوع المقدور بها، إذ المقدور بعد لم يقع فلا بد من إثبات نوع آخر من التعلق سوى الموقوع بها، إذ التعلق عند الحدوث يعبر عنه بالوقوع به والتعلق قبل ذلك مخالف له فهو نوع آخر من التعلق، فقولكم إن تعلق القدرة به نمط واحد خطأ وكذلك القادرية القديمة عندهم فإنها متعلقة بالعلم في الأزل وقبل خلق العالم، فقولنا أنها متعلقة صادق وقولنا أن العالم واقع بها كاذب، لأنه لم يقع بعد فلو كانا عبارتين عن معنى واحد لصدق أحدهما حيث يصدق الآخر. فإن قيل: معنى تعلق القدرة قبل وقوع المقدور أن المقدور إذا وقع بها. قلنا: فليس هذا تعلقاً في الحال بل هو انتظار تعلق، فينبغي أن يقال القدرة موجودة وهي صفة لا تعلق لها ولكن ينتظر لها تعلق إذا وقع وقع المقدور بها، وكذا القادرية ويلزم عليه محال، وهو أن الصفة التي لم تكن من المتعلقات صارت من المتعلقات وهو محال. فإن قيل: معناه أنها متهيئة لوقوع المقدور بها. قلنا: ولا معنى للتهيؤ إلا انتظار الوقوع بها، وذلك لا يوجب تعلقاً في الحال. فكما عقل عندكم قدرة موجودة متعلقة بالمقدور والمقدور غير واقع بها عقل عندنا أيضاً قدرة كذلك والمقدور غير واقع بها ولكنه واقع بقدرة الله تعالى، فلم يخالف مذهبنا ههنا مذهبكم إلا في قولنا أنها وقعت بقدرة الله تعالى، فإذا لم يكن من ضرورة وجود القدرة ولا تعلقها بالمقدور وجود المقدور بها؛ فمن أين يستدعي عدم وقوعها بقدرة الله تعالى ووجوده بقدرة الله تعالى لا فضل له على عدمه من حيث انقطاع النسبة عن القدرة الحادثة إذ النسبة، إذا لم تمتنع بعدم المقدور، فكيف تمتنع

بوجود المقدور؟ وكيف ما فرض المقدور موجوداً أو معدوماً فلا بد من قدرة متعلقة لا مقدور لها في الحال. فإن قيل: فقدرة لا يقع بها مقدور، والعجز، بمثابة واحدة، قلنا: إن عنيتم به أن الحالة التي يدركها الإنسان عند وجودها مثل ما يدركها عند العجز في الرعدة فهو مناكرة للضرورة وإن عنيتم أنها بمثابة العجز في أن المقدور لم يقع بها فهو صدق ولكن تسميته عجزاً خطأ وإن كان من حيث القصور إذا نسبت إلى قدرة الله تعالى ظن أنه مثل العجز، وهذا كما أنه لو قيل القدرة قبل الفعل، على أصلهم، مساوية للعجز من حيث أن المقدور غير واقع بها لكان اللفظ منكراً من حيث أنها حالة مدركة يفارق إدراكها في النفس إدراك العجز، فكذلك هذا، ولا فرق وعلى الجملة فلا بد من إثبات قدرتين متفاوتتين، إحداهما أعلى والأخرى بالعجز أشبه مهما أضيفت إلى الأعلى، وأنت بالخيار بين أن تثبت للعبد قدرة توهم نسبة العجز للعبد من وجه، وبين أن تثبت لله سبحانه ذلك تعالى الله عما يقول الزائغون. ولا تستريب إن كنت منصفاً في أن نسبة القصور والعجز بالمخلوقات أولى بل لا يقال أولى لاستحالة ذلك في حق الله تعالى فهذا غاية ما يحتمله هذا المختصر من هذه المسألة. الفرع الثالث: فإن قال قائل: كيف تدعون عموم تعلق القدرة بجملة الحوادث وأكثر ما في العالم من الحركات وغيرها متولدات يتولد بعضها من بعض

بالضرورة، فإن حركة اليد مثلاً بالضرورة تولد حركة الخاتم، وحركة اليد في الماء تولد حركة الماء، وهو مشاهد، والعقل أيضاً يدل عليه إذ لو كانت حركة الماء والخاتم بخلق الله تعالى لجاز أن يخلق حركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء، وهو محال، وكذا في المتولدات مع انشعابها. فنقول: ما لا يفهم لا يمكن التصرف فيه بالرد والقبول، فإن كون المذهب مردوداً أو مقبولاً بعد كونه معقولاً. والمعلوم عندنا من عبارة التولد أن يخرج جسم من جوف جسم كما يخرج الجنين من بطن الأم والنبات من بطن الأرض، وهذا محال في الأعراض؛ إذ ليس لحركة اليد جوف حتى تخرج منه حركة الخاتم ولا هو شيء حاو لأشياء حتى يرشح منه بعض ما فيه، فحركة الخاتم إذا لم تكن كامنة في ذات حركة اليد فما معنى تولدها منها؟ فلا بد من تفهيمه، وإذا لم يكن هذا مفهوماً فقولكم إنه مشاهد حماقة، إذ كونها حادثة معها مشاهد لا غير، فأما كونها متولد منها فغير مشاهد، وقولكم إنه لو كان بخلق الله تعالى لقدر على أن يخلق حركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء فهذا هوس يضاهي قول القائل لو لم يكن العلم متولداً من الإرادة لقدر على أن يخلق الارادة دون العلم أو العلم دون الحياة، ولكن نقول: المحال غير مقدور ووجود المشروط دون الشرط غير معقول، والارادة شرطها العلم والعلم شرطه الحياة وكذلك شرط شغل الجوهر لحيز فراغ ذلك الحيز، فإذا حرك الله تعالى اليد فلا بد أن يشغل بها حيزاً في جوار الحيز الذي كانت فيه، فما لم يفرغه كيف يشغله به؟ ففراغه شرط اشتغاله باليد، إذ لو تحرك ولم يفرغ الحيز من الماء بعدم الماء أو حركته لاجتمع جسمان في حيز واحد وهو محال، فكان خلو أحدهما شرطاً للآخر فتلازما فظن أن أحدهما متولد من الآخر وهو خطأ فأما اللازمات التي ليست شرطاً فعندنا يجوز أن تنفك عن الاقتران بما هو لازم لها، بل لزومه بحكم طرد العادة كاحتراق القطن عند مجاورة النار وحصول البرودة في اليد عند مماسة الثلج، فإن كل ذلك مستمر بجريان سنة الله تعالى، وإلا فالقدرة من حيث ذاتها غير قاصرة عن خلق البرودة في الثلج والمماسة في اليد مع خلق الحرارة في اليد بدلاً عن البرودة. فإذاً ما يراه الخصم متولداً قسمان: أحدهما شرط فلا يتصور فيه إلا الاقتران، والثاني ليس بشرط فيتصور فيه غير الاقتران إذ خرقت العادات. فإن قال قائل لم تدلوا على بطلان التولد ولكن أنكرتم فهمه وهو مفهوم، فإنا لا نريد به ترشح الحركة من الحركة بخروجها من جوفها ولا تولد برودة من برودة الثلج بخروج البرودة من الثلج وانتقالها أو بخروجها من ذات البرودة، بل نعني به

وجود موجود عقيب موجود وكونه موجوداً وحادثاً به فالحادث نسميه متولداً والذي به الحدوث نسميه مولداً وهذه التسمية مفهومة فما الذي يدل على بطلانه؟ قلنا: إذا أقررتم بذلك دل على بطلانه ما دل على بطلان كون القدرة الحادثة موجودة فإنا إذا أحلنا أن نقول حصل مقدور بقدرة حادثة فكيف لا يخيل الحصول بما ليس بقدرة واستحالته راجعة إلى عموم تعلق القدرة، وإن خروجه عن القدرة مبطل لعموم تعلقها وهو محال ثم هو موجب للعجز والتمانع كما سبق. نعم، وعلى المعتزلة القائلين بالتولد مناقضات في تفصيل التولد لا تحصى، كقولهم إن النظر يولد العلم، وتذكره لا يولده إلى غير ذلك مما لا نطول بذكره، فلا معنى للإطناب فيما هو مستغنى عنه، وقد عرفت من جملة هذا أن الحادثات كلها، جواهرها وأعراضها الحادثة منها في ذات الأحياء والجمادات، واقعة بقدرة الله تعالى، وهو المستبد باختراعها، وليس تقع بعض المخلوقات ببعض بل الكل يقع بالقدرة وذلك ما أردنا أن نبين من إثبات صفة القدرة لله تعالى وعموم حكمها وما اتصل بها من الفروع واللوازم. الصفة الثانية العلم ندعي أن الله تعالى عالم بجميع المعلومات الموجودات والمعدومات؛ فإن الموجودات منقسمة إلى قديم وحادث، والقديم ذاته وصفاته ومن علم غيره فهو بذاته وصفاته أعلم، فيجب ضرورة أن يكون بذاته عالماً وصفاته إن ثبت أنه عالم بغيره. ومعلوم أنه عالم بغيره لأن ما ينطلق عليه اسم الغير فهو صنعه المتقن وفعله المحكم المرتب وذلك يدل على قدرته على ما سبق؛ فإن من رأى خطوطاً منظومة تصدر على الاتساق من كاتب ثم استراب في كونه عالماً بصنعة الكتابة كان سفيهاً في استرابته، فإذاً قد ثبت أنه عالم بذاته وبغيره. فإن قيل فهل لمعلوماته نهاية؟ قلنا: لا؛ فإن الموجودات في الحال وإن كانت متناهية فالممكنات في الاستقبال غير متناهية، ونعلم أن الممكنات التي ليست بموجودة أنه سيوجدها أولا يوجدها، فيعلم إذاً ما لا نهاية له بل لو أردنا أن نكثر على شيء واحد وجوهاً من النسب والتقديرات لخرج عن النهاية والله تعالى عالم بجميعها. فإنا نقول مثلاً ضعف الاثنين أربعة، وضعف الأربعة ثمانية، وضعف الثمانية ستة عشر، وهكذا نضعف ضعف الإثنين وضعف ضعف الضعف ولا يتناهى، والإنسان لا يعلم من مراتبها إلا ما يقدره بذهنه، وسينقطع عمره ويبقى من التضعيفات

ما لا يتناهى. فإذاً معرفة أضعاف أضعاف الإثنين، وهو عدد واحد، يخرج عن الحصر وكذلك كل عدد، فكيف غير ذلك من النسب والتقديرات، وهذا العلم مع تعلقه بمعلومات لا نهاية لها واحد كما سيأتي بيانه من بعد مع سائر الصفات. الصفة الثالثة الحياة ندعي أنه تعالى حي وهو معلوم بالضرورة، ولم ينكره أحد ممن اعترف بكونه تعالى عالماً قادراً. فإن كون العالم القادر حياً ضروري إذ لا يعني بالحي إلا ما يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره، والعالم بجميع المعلومات والقادر على جميع المقدورات كيف لا يكون حياً، وهذا واضح والنظر في صفة الحياة لا يطول. الصفة الرابعة الإرادة ندعي أن الله تعالى مريد لأفعاله وبرهانه أن الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من البعض إلا بمرجح، ولا تكفي ذاته للترجيح، لأن نسبة الذات إلى الضدين واحدة فما الذي خصص أحد الضدين بالوقوع في حال دون حال؟ وكذلك القدرة لا تكفي فيه، إذ نسبة القدرة إلى الضدين واحدة، وكذلك العلم لا يكفي خلافاً للكعبي حيث اكتفى بالعلم عن الإرادة لأن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ولا يغيره. فإن كان الشيء ممكناً في نفسه مساوياً للممكن الآخر الذي في مقابلته فالعلم يتعلق به على ما هو عليه ولا يجعل أحد الممكنين مرجحاً على الآخر، بل نعقل الممكنين ويعقل تساويهما، والله سبحانه وتعالى يعلم أن وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكناً، وأن وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساوياً له في الإمكان لأن هذه الامكانات متساوية، فحق العلم أن يتعلق بها كما هو عليه فإن اقتضت صفة الإرادة

وقوعه في وقت معين تعلق العلم بتعيين وجوده في ذلك الوقت لعلة تعلق الارادة به فتكون الإرادة للتعيين علة ويكون العلم متعلقاً به تابعاً له غير مؤثر فيه، ولو جاز أن يكتفى بالعلم عن الارادة لاكتفي به عن القدرة، بل كان ذلك يكفي في وجود أفعالنا حتى لا نحتاج إلى الإرادة، إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم الله تعالى به وكل ذلك محال. فإن قيل: وهذا ينقلب عليكم في نفس الارادة، فإن القدرة كما لا تناسب أحد الضدين فالارادة القديمة أيضاً لا تتعين لأحد الضدين، فاختصاصها بأحد الضدين ينبغي أن يكون بمخصص ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية، إذ يقال الذات لا تكفي للحدوث، إذ لو حدث من الذات لكان مع الذات غير متأخر فلا بد من القدرة والقدرة لا تكفي إذ لو كان للقدرة لما اختص بهذا الوقت وما قبله وما بعده في النسبة إلى جواز تعلق القدرة بها على وتيرة، فما الذي خصص هذا الوقت فيحتاج إلى الارادة؟ فيقال: والارادة لا تكفي، فإن الإرادة القديمة عامة التعلق كالقدرة، فنسبتها إلى الأوقات واحدة ونسبتها إلى الضدين واحدة، فإن وقع الحركة مثلاً بدلاً عن السكون لأن الارادة تعلقت بالحركة لا بالسكون. فيقال: وهل كان يمكن أن يتعلق بالسكون؟ فإن قيل: لا، فهو محال؛ وإن قيل: نعم، فهما متساويان؛ أعني الحركة والسكون في مناسبة الإرادة القديمة فما الذي أوجب تخصيص الإرادة القديمة بالحركة دون السكون فيحتاج إلى مخصص ثم يلزم السؤال في مخصص المخصص ويتسلسل إلى غير نهاية.. قلنا: هذا سؤال غير معقول حير عقول الفرق ولم يوفق للحق إلا أهل السنة فالناس فيه أربع فرق:

قائل يقول إن العالم وجد لذات الله سبحانه وتعالى وإنه ليس للذات صفة زائدة البتة، ولما كان الذات قديمة كان العالم قديماً وكانت نسبة العالم إليه كنسبة المعلول إلى العلة، ونسبة النور إلى الشمس، والظل إلى الشخص؛ وهؤلاء هم الفلاسفة. وقائل يقول إن العالم حادث ولكن حدث في الوقت الذي حدث فيه لا قبله ولا بعده لإرادة حادثة حدثت له لا في محل فاقتضت حدوث العالم، وهؤلاء هم المعتزلة. وقائل يقول حدث بإرادة حادثة حدثت في ذاته، وهؤلاء هم القائلون بكونه محلاً للحوادث. وقائل يقول حدث العالم في الوقت الذي تعلقت الارادة القديمة بحدوثه في ذلك الوقت، من غير حدوث إرادة ومن غير تغير صفة القديم، فانظر إلى الفرق وانسب مقام كل واحد إلى الآخر، فإنه لا ينفك فريق عن إشكال لا يمكن حله إلا إشكال أهل السنة فإنه سريع الانحلال. أما الفلاسفة فقد قالوا بقدم العالم، وهو محال، لأن الفعل يستحيل أن يكون قديماً؛ إذ معنى كونه فعلاً أنه لم يكن ثم كان، فإن كان موجوداً مع الله أبداً فكيف يكون فعلاً؟ بل يلزم من ذلك دورات لا نهاية لها على ما سبق، وهو محال من وجوه، ثم إنهم مع اقتحام هذا الإشكال لم يتخلصوا من أصل السؤال وهو أن الإرادة لم تعلقت بالحدوث في وقت مخصوص لا قبله ولا بعده، مع تساوي نسب الأوقات إلى الإرادة، فإنهم إن تخلصوا عن خصوص الوقت لم يتخلصوا عن خصوص الصفات، إذ العالم مخصوص بمقدار مخصوص ووضع مخصوص، وكانت نقايضها ممكنة في العقل، والذات القديمة لا تناسب بعض الممكنات دون بعض، ومن أعظم ما يلزمهم فيه، ولا عذر لهم عنه أمران أوردناهما في كتاب تهافت الفلاسفة ولا محيص لهم عنهما البتة: أحدهما، أن حركات الأفلاك بعضها مشرقية أي من المشرق إلى المغرب، وبعضها مغربية أي من مغرب الشمس إلى المشرق، وكان عكس ذلك في الإمكان مساوياً له، إذ الجهات في الحركات متساوية، فكيف لزم من الذات القديمة أو من دورات الأفلاك وهي قديمة عندهم أن تتعين جهة عن جهة تقابلها وتساويها من كل وجه؟ وهذا لا جواب عنه. الثاني، أن الفلك الأقصى الذي هو الفلك التاسع عندهم المحرك لجميع السماوات بطريق القهر في اليوم والليلة مرة واحدة يتحرك على قطبين شمالي وجنوبي، والقطب عبارة عن النقطتين المتقابلتين على الكرة الثابتتين عند حركة الكرة

على نفسها، والمنطقة عبارة عن دائرة عظيمة على وسط الكرة بعدها من النقطتين واحد. فنقول: جرم الفلك الأقصى متشابه، وما من نقطة إلا ويتصور أن تكون قطباً. فما الذي أوجب تعيين نقطتين من بين سائر النقط التي لا نهاية لها عندهم، فلا بد من وصف زائد على الذات من شأنه تخصيص الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة. وقد استوفينا تحقيق الالتزامين في كتاب التهافت. وأما المعتزلة فقد اقتحموا أمرين شنيعين باطلين: أحدهما، كون الباري تعالى مريداً بإرادة حادثة لا في محل، وإذا لم تكن الإرادة قائمة به فقول القائل إنه مريدها هجر من الكلام، كقوله إنه مريد بإرادة قائمة بغيره. والثاني، أن الإرادة لم حدثت في هذا الوقت على الخصوص، فإن كانت بإرادة أخرى فالسؤال في الإرادة الأخرى لازم، ويتسلسل إلى غير نهاية، وإن كان ليس بإرادة فليحدث العالم في هذا الوقت على الخصوص لا بارادة، فإن افتقار الحادث إلى الارادة لجوازه لا لكونه جسماً أو اسماً أو إرادة أو علماً. والحادثات في هذا متساوية، ثم لم يتخلصوا من الإشكال إذ يقال لهم لم حدثت الإرادة في هذا الوقت على الخصوص ولم حدثت إرادة الحركة دون إرادة السكون، فإن عندهم يحدث لكل حادث إرادة حادثة متعلقة بذلك الحادث فلم لم تحدث إرادة تتعلق بضده؟ وأما الذين ذهبوا إلى حدوث الإرادة في ذاته تعالى لا متعلقة بذلك الحادث فقد دفعوا أحد الإشكالين وهو كونه مريداً بإرادة في غير ذاته ولكن زادوا إشكالاً آخر وهو كونه محلاً للحوادث، وذلك يوجب حدوثه. ثم قد بقيت عليهم بقية الإشكال ولم يتخلصوا من السؤال. وأما أهل الحق فإنهم قالوا إن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن أضدادها المماثلة لها، وقول القائل إنه لم تعلقت بها وأضدادها مثلها في الامكان، هذا سؤال خطأ فإن الإرادة ليست إلا عبارة عن صفة شأنها تمييز الشيء على مثله. فقول القائل لم ميزت الإرادة الشيء عن مثله، كقول القائل لم أوجب العلم انكشاف المعلوم، فيقال: لا معنى للعلم إلا ما أوجب انكشاف المعلوم، فقول القائل لم أوجب الانكشاف كقوله لم كان العلم علماً، ولم كان الممكن ممكناً، والواجب واجباً، وهذا محال؛ لأن العلم علم لذاته وكذا الممكن والواجب وسائر الذوات، فكذلك الإرادة وحقيقتها تمييز الشيء عن مثله.

فقول القائل لم ميزت الشيء عن مثله كقوله لم كانت الإرادة إرادة والقدرة قدرة، وهو محال، وكل فريق مضطر إلى اثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة، فكان أقوم الفرق قيلاً وأهداهم سبيلاً من أثبت هذه الصفة ولم يجعلها حادثة، بل قال هي قديمة متعلقة بالأحداث في وقت مخصوص، فكان الحدوث في ذلك الوقت لذلك، وهذا ما لا يستغني عنه فريق من الفرق وبه ينقطع التسلسل في لزوم هذا السؤال. والآن فكما تمهد القول في أصل الإرادة فاعلم انها متعلقة بجميع الحادثات عندنا من حيث أنه ظهر أن كل حادث فمخترع بقدرته، وكل مخترع بالقدرة محتاج إلى ارادة تصرف القدرة إلى المقدور وتخصصها به، فكل مقدور مراد، وكل حادث مقدور، فكل حادث مراد والشر والكفر والمعصية حوادث، فهي إذاً لا محالة مرادة. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا مذهب السلف الصالحين ومعتقد أهل السنة أجمعين وقد قامت عليه البراهين. وأما المعتزلة فإنهم يقولون إن المعاصي كلها والشرور حادثة بغير إرادته، بل هو كاره لها. ومعلوم أن أكثر ما يجري في العالم المعاصي فإذاً ما يكرهه أكثر مما يريده فهو إلى العجز والقصور أقرب بزعمهم، تعالى رب العالمين عن قول الظالمين. فإن قيل: فكيف يأمر بما لا يريد؟ وكيف يريد شيئاً وينهى عنه؟ وكيف يريد الفجور والمعاصي والظلم والقبيح ومريد القبيح سفيه؟ قلنا: إذا كشفنا عن حقيقة الأمر وبينا أنه مباين للإرادة وكشفنا عن القبيح والحسن وبينا أن ذلك يرجع إلى موافقة الأعراض ومخالفتها، وهو سبحانه منزه عن الأعراض فاندفعت هذه الإشكالات وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. الصفة الخامسة والسادسة في السمع والبصر ندعي ان صانع العالم سميع بصير، ويدل عليه الشرع والعقل. أما الشرع فيدل عليه آيات من القرآن كثيرة كقوله " وهو السميع البصير " وكقول إبراهيم عليه السلام لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يعني عنك شيئاً ونعلم أن الدليل غير منقلب عليه في معبوده وأنه كان يعبد سميعاً بصيراً ولا يشاركه في الإلزام. فإن قيل: إنما أريد به العلم. قلنا: إنما تصرف ألفاظ الشارع عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام إذا كان يستحيل تقديرها على الموضوع، ولا استحالة في كونه سميعاً بصيراً، بل يجب أن

يكون كذلك، فلا معنى للتحكم بإنكار ما فهمه أهل الإجماع من القرآن. فإن قيل: وجه استالته إنه إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلاً للحوادث، وهو محال، وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتاً معدوماً وكيف يرى العالم في الأزل والعالم معدوم والمعدوم لا يرى؟ قلنا: هذا السوال يصدر عن معتزلي أو فلسفي. أما المعتزلي فدفعه هين، فإنه سلم أنه يعلم الحادثات، فنقول: يعلم الله الآن إن العالم كان موجوداً قبل هذا فكيف علم في الأزل أنه يكون موجوداً وهو بعد لم يكن موجوداً؟ فإن جز إثبات صفة تكون عند وجود العالم علما بأنه كائن، وفعله بأنه سيكون وبعده بأنه كان وقبله بأنه سيكون، وهو لا يتغير عبر عنه بالعلم بالعالم والعلمية، جاز ذلك في السمع والسمعية والبصر والبصرية. وإن صدر من فلسفي فهو منكر لكونه عالماً بالحادثات المعينة الداخلة في الماضي والحال والمستقبل، فسبيلنا أن ننقل الكلام إلى العلم ونثبت عليه جواز علم قديم متعلق بالحادثات كما سنذكره، ثم إذا ثبت ذلك في العلم قسنا عليه السمع والبصر. وأما المسلك العقلي، فهو أن نقول: معلوم أن الخالق أكمل من المخلوق، ومعلوم أن البصير أكمل ممن لا يبصر، والسميع أكمل ممن لا يسمع، فيستحيل أن يثبت وصف الكمال للمخلوق ولا نثبته للخالق. وهذان أصلان يوجبان الإقرار بصحة دعوانا ففي أيهما النزاع؟ فإن قيل: النزاع في قولكم واجب أن يكون الخالق أكمل من المخلوق. قلنا: هذا مما يجب الاعتراف به شرعاً وعقلاً، والأمة والعقلاء مجمعون عليه، فلا يصدر هذا السؤال من معتقد. ومن اتسع عقله لقبول قادر يقدر على اختراع ما هو أعلى وأشرف منه فقد انخلع عن غريزة البشرية ونطق لسانه بما ينبو عن قبوله قلبه إن كان يفهم ما يقوله، ولهذا لا نرى عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد. فإن قيل: النزاع في الأصل الثاني، وقو قولكم إن البصير أكمل وإن السمع والبصر كمال. قلنا: هذا أيضاً مدرك ببديهة العقل، فإن العلم كمال والسمع والبصر كمال ثان للعلم، فإنا بينا أنه استكمال للعلم والتخيل، ومن علم شيئاً ولم يره ثم رآه استفاد مزيد كشف وكمال فكيف يقال إن ذلك حاصل للمخلوق وليس بحاصل للخالق أو يقال إن ذلك ليس بكمال، فإن لم يكن كمالاً فهو نقص أو لا هو نقص ولا هو كمال، وجميع هذه الأقسام محال، فظهر ان الحق ما ذكرناه.

فإن قيل: هذا يلزمكم في الإدراك الحاصل بالشم والذوق واللمس لأن فقدها نقصان ووجودها كمال في الإدراك، فليس كمال علم من علم الرائحة ككمال علم من أدرك بالشم، وكذلك بالذوق فأين العلم بالطعوم من إدراكها بالذوق. والجواب إن المحققين من أهل الحق صرحوا بإثبات أنواع الإدراكات مع السمع والبصر والعلم الذي هو كمال في الإدراك دون الأسباب التي هي مقترنة بها في العادة من المماسة والملاقاة، فإن ذلك محال على الله تعالى. كما جوزوا ادراك البصر من غير مقابلة بينه وبين المبصر، وفي طرد هذا القياس دفع هذا السؤال ولا مانع منه ولكن لما لم يرد الشرع إلا بلفظ العلم والسمع والبصر فلم يمكن لنا إطلاق غيره. وأما ما هو نقصان في الإدراك فلا يجوز في حقه تعالى البتة، فإن قيل يجر هذا إلى إثبات التلذذ والتألم، فالخدر الذي لا يتألم بالضرب ناقص، والعنين الذي لا يتلذذ بالجماع ناقص، وكذا فساد الشهوة نقصان، فينبغي أن نثبت في حقه شهوة، قلنا هذه الأمور تدل على الحدوث وهي في أنفسها إذا بحث عنها نقصانات، وهي محوجة إلى أمور توجب الحدوث، فالألم نقصان، ثم هو محوج إلى سبب هو ضرب، والضرب مماسة تجري بين الأجسام، واللذة ترجع إلى زوال الألم إذا حققت أو ترجع إلى درك ما هو محتاج إليه ومشتاق إليه، والشوق والحاجة نقصان، فالموقوف على النقصان ناقص، ومعنى الشهوة طلب الشيء الملائم ولا طلب إلا عند فقد المطلوب ولا لذة إلا عند نيل ما ليس بموجود، وكل ما هو ممكن وجوده لله فهو موجود فليس يفوته شيء حتى يكون بطلبه مشتهياً وبنيله ملتذاً، فلم تتصور هذه الأمور في حقه تعالى وإذا قيل إن فقد التألم والإحساس بالضرب نقصان في حق الخدر، وإن إدراكه كمال وإن سقوط الشهوة من معدته نقصان، وثبوتها كمال أريد به أنه كمال بالإضافة إلى ضده الذي هو مهلك في حقه، فصار كمالاً بالإضافة إلى الهلاك لأن النقصان خير من الهلاك فهو إذاً ليس كمالاً في ذاته بخلاف العلم وهذه الادراكات. الصفة السابعة الكلام ندعي أن صانع العالم متكلم كما أجمع عليه المسلمون، واعلم أن من أراد إثبات الكلام بأن العقل يقضي بجواز كون الخلق مرددين تحت الأمر والنهي وكل صفة جائزة في المخلوقات تستند إلى صفة واجبة في الخالق، فهو في شطط، إذ يقال له: إن أردت جواز كونهم مأمورين من جهة الخلق الذين يتصور منهم الكلام، فمسلم، وإن أردت جوازه على العموم من الخلق والخالق فقد أخذت محل النزاع مسلماً في نفس الدليل وهو غير مسلم، ومن أراد إثبات الكلام بالإجماع أو بقول الرسول فقد سام نفسه خطة خسف لأن الإجماع يستند إلى قول الرسول عليه السلام ومن أنكر كون

الباري متكلماً فبالضرورة ينكر تصور الرسول، إذ معنى الرسول المبلغ لرسالة المرسل، فإن لم يكن للكلام متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصور الرسول؟ ومن قال أنا رسول الأرض أو رسول الجبل إليكم فلا يصغى إليه لاعتقادنا استحالة الكلام والرسالة من الجبل والأرض، ولله المثل الأعلى، ولكن من يعتقد استحالة الكلام في حق الله تعالى استحال منه أن يصدق الرسول إذ المكذب بالكلام لا بد أن يكذب بتبليغ الكلام، والرسالة عبارة عن تبليغ الكلام، والرسول عبارة عن المبلغ، فلعل الأقوم منهج ثالث وهو الذي سلكناه في اثبات السمع والبصر في أن الكلام للحي أما أن يقال هو كمال أو يقال هو نقص، أو يقال لا هو نقص ولا هو كمال، وباطل أن يقال هو نقص أو هو لا نقص ولا كمال فثبت بالضرورة أنه كمال، وكل كمال وجد للمخلوق فهو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى كما سبق. فإن قيل: الكلام الذي جعلتموه منشأ نظركم هو كلام الخلق، وذلك إما أن يراد به الأصوات والحروف أو يراد به القدرة على ايجاد الأصوات والحروف في نفس القادر أو يراد به معنى ثالث سواهما، فإن أريد به الأصوات والحروف فهي حوادث ومن الحوادث ما هي كمالات في حقنا ولكن لا يتصور قيامها في ذات الله سبحانه وتعالى، وإن قام بغيره لم يكن هو متكلماً به بل كان المتكلم به المحل الذي قام به؛ وإن أريد به القدرة على خلق الأصوات فهو كمال ولكن المتكلم ليس متكلماً باعتبار قدرته على خلق الأصوات فقط بل باعتبار خلقه للكلام في نفسه، والله تعالى قادر على خلق الأصوات فله كمال القدرة ولكن لا يكون متكلماً به إلا إذا خلق الصوت في نفسه، وهو محال إذ يصير به محلاً للحوادث فاستحال أن يكون متكلماً؛ وإن أريد بالكلام أمر ثالث فليس بمفهوم وإثبات ما لا يفهم محال. قلنا: هذا التقسيم صحيح والسؤال في جميع أقسامه معترف به إلا في إنكار القسم الثالث، فإنا معترفون باستحالة قيام الأصوات بذاته وباستحالة كونه متكلماً بهذا الاعتبار. ولكنا نقول الإنسان يسمى متكلماً باعتبارين أحدهما بالصوت والحرف والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت وحرف، وذلك كمال وهو في حق الله تعالى غير محال، ولا هو دال على الحدوث. ونحن لا نثبت في حق الله تعالى إلا كلام النفس، وكلام النفس لا سبيل إلى إنكاره في حق الإنسان زائداً على القدرة والصوت حتى يقول الانسان زورت البارحة في نفسي كلاماً ويقال في نفس فلان كلام وهو يريد أن ينطق به ويقول الشاعر: لا يعجبنك من أثير خطه ... حتى يكون مع الكلام أصيلا إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

وما ينطق به الشعراء يدل على أنه من الجليات التي يشترك كافة الخلق في دركها فكيف ينكر. فإن قيل: كلام النفس بهذا التأويل معترف به ولكنه ليس خارجاً عن العلوم الإدراكات وليس جنساً برأسه البتة، ولكن ما يسميه الناس كلام النفس وحديث النفس هو العلم بنظم الألفاظ والعبارات وتأليف المعاني المعلومة على وجه مخصوص فليس في القلب إلا معاني معلومة وهي العلوم وألفاظ مسموعة هي معلومة بالسماع، وهو أيضاً علم معلوم اللفظ. وينضاف إليه تأليف المعاني والألفاظ على ترتيب. وذلك فعل يسمى فكراً وتسميه القدرة التي عنها يصدر الفعل قوة مفكرة. فإن أثبتم في النفس شيئاً سوى نفس الفكر الذي هو ترتيب الألفاظ والمعاني وتأليفها، وسوى القوة المفكرة التي هي قدرة عليا وسوى العلم بالمعاني مفترقها ومجموعها، وسوى العلم بالألفاظ المرتبة من الحروف مفترقها ومجموعها فقد أثبتم أمراً منكراً لا نعرفه. وإيضاحه أن الكلام إما أمر أو نهي أو خبر أو استخبار. أما الخبر فلفظ يدل على علم في نفس المخبر، فمن علم الشيء وعلم اللفظ الموضوع للدلالة على ذلك الشيء كالضرب مثلاً فإنه معنى معلوم يدرك بالحس، ولفظ الضرب الذي هو مؤلف من الضاد والراء والباء الذي وضعته العرب للدلالة على المعنى المحسوس وهي معرفة أخرى، فكان له قدرة على اكتساب هذه الأصوات بلسانه، وكانت له إرادة للدلالة وإرادة لاكتساب اللفظ ثم منه قوله ضرب ولم يفتقر إلى أمر زائد على هذه الأمور. فكل أمر قدرتموه سوى هذا فنحن نقدر نفيه، ويتم مع ذلك قولك ضرب ويكون خبراً وكلاماً، وأما الاستخبار فهو دلالة على أن في النفس طلب معرفة، وأما الأمر فهو دلالة على أن في النفس طلب فعل المأمور وعلى هذا يقاس النهي وسائر الأقسام من الكلام ولا يعقل أمر آخر خارج عن هذا وهذه الجملة، فبعضها محال عليه كالأصوات وبعضها موجود لله كالارادة والعلم والقدرة، وأما ما عدا هذا فغير مفهوم. والجواب أن الكلام الذي نريده معنى زائد على هذه الجملة ولنذكره في قسم واحد من أقسام الكلام وهو الأمر حتى لا يطول الكلام. فنقول: قول السيد لغلامه قم، لفظ يدل على معنى، والمعنى المدلول عليه في نفسه هو كلام، وليس ذلك شيئاً مما ذكرتموه، ولا حاجة إلى الإطناب في التقسيمات وإنما بتوهم رده ما أراد إلى الأمر أو إلى إرادة الدلالة ومحال أن يقال إنه إرادة الدلالة، لأن الدلالة تستدعي مدلولاً والمدلول غير الدليل وغير إرادة الدلالة، ومحال أن يقال إنه إرادة الآمر.. لأنه قد يأمر وهو لا يريد الامتثال بل يكرهه، كالذي يعتذر

عند السلطان الهام بقتله توبيخاً له على ضرب غلامه، بأنه إنما ضربه لعصيانه، وآيته أنه يأمره بين يدي الملك فيعصيه، فإذا أراد الاحتجاج به وقال للغلام بين يدي الملك قم فإني عازم عليك بأمر جزم لا عذر لك فيه ولا يريد أن تقوم فهو في هذا الوقت آمر بالقيام قطعاً، وهو غير مريد للقيام قطعاً، فالطلب الذي قام بنفسه الذي دل لفظ الأمر عليه هو الكلام وهو غير إرادة القيام وهذا واضح عند المصنف. فإن قيل هذا الشخص ليس بآمر على الحقيقة ولكنه موهم أنه أمر، قلنا: هذا باطل من وجهين: أحدهما، أنه لو لم يكن آمراً لما تمهد عذره عند الملك ولقيل له أنت في هذا الوقت لا يتصور منك الأمر لأن الأمر هو طلب الامتثال ويستحيل أن تريد الآن الامتثال وهو سبب هلاكك، فكيف تطمع في أن تحتج بمعصيتك لأمرك وأنت عاجز عن أمره إذ أنت عاجز عن إرادة ما فيه هلاكك وفي امتثاله هلاكك؟ ولا شك في أنه قادر على الاحتجاج وأن حجته قائمة وممهدة لعذره، وحجته بمعصية الأمر، فلو تصور الأمر مع تحقق كراهة الامتثال لما تصور احتجاج السيد بذلك البتة، وهذا قاطع في نفسه لمن تأمله. والثاني، هو أن هذا الرجل لو حكى الواقعة للمفتيين وحلف بالطلاق الثلاث إني أمرت العبد بالقيام بين يدي الملك بعد جريان عقاب الملك فعصى، لأفتى كل مسلم بأن طلاقه غير واقع وليس للمفتي أن يقول أنا أعلم أن يستحيل أن تريد في مثل هذا الوقت امتثال الغلام وهو سبب هلاكك، والأمر هو إرادة الامتثال فإذا ما أمرت هذا لو قاله المفتي فهو باطل بالاتفاق، فقد انكشف الغطاء ولاح وجود معنى هو مدلول اللفظ زائداً على ما عداه من المعاني، ونحن نسمي ذلك كلاماً وهو جنس مخالف للعلوم والإرادات والاعتقادات، وذلك لا يستحيل ثبوته لله تعالى بل يجب ثبوته فإنه نوع كلام فإذا هو المعني بالكلام القديم. وأما الحروف فهي حادثة وهي دلالات على الكلام والدليل غير المدلول ولا يتصف بصفة المدلول، وإن كانت دلالته ذاتية كالعالم فإنه حادث ويدل على صانع قديم فمن أين يبعد أن تدل حروف حادثة على صفة قديمة مع أن هذه دلالة بالاصطلاح؟ ولما كان كل كلام النفس دقيقاً زل عى ذهن أكثر الضعفاء فلم يثبتوا إلا حروفاً وأصواتاً ويتوجه لهم على هذا المذهب أسئلة واستبعادات نشير إلى بعضها ليستدل بها على طريق الدفع في غيرها. الاستبعاد الأول: قول القائل كيف سمع موسى كلام الله تعالى؛ أسمع صوتاً وحرفاً؟ فإن قلتم ذلك فإذا لم يسمع كلام الله فإن كلام الله ليس بحرف، وإن لم

يسمع حرفاً ولا صوتاً فكيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت؟ قلنا: سمع كلام الله تعالى وهو صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى ليس بحرف ولا صوت، فقولكم كيف سمع كلام الله تعالى كلام من لا يفهم المطلوب من سؤال كيف، وإنه ماذا يطلب به وبماذا يمكن جوابه فلتفهم ذلك حتى تعرف استحالة السؤال. فنقول: السمع نوع إدراك، فقول القائل كيف سمع كقول القائل كيف أدركت بحاسة الذوق حلاوة السكر، وهذا السؤال لا سبيل إلى شفائه إلا بوجهين أحدهما أن نسلم سكراً إلى هذا السائل حتى يذوقه ويدرك طعمه وحلاوته، فنقول أدركت أنا كما أدركته أنت الآن وهذا هو الجواب الشافي والتعريف التام. والثاني أن يتعذر ذلك إما لفقد السكر أو لعدم الذوق في السائل للسكر، فنقول: أدركت طعمه كما أدركت أنت حلاوة العسل فيكون هذا جواباً صواباً من وجه وخطأ من وجه. أما وجه كونه صواباً فإنه تعريف بشيء يشبه المسؤول عنه من وجه، وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه وهو أصل الحلاوة، فإن طعم العسل يخالف طعم السكر وإن قاربه من بعض الوجوه وهو أصل الحلاوة، وهذا غاية الممكن. فإن لم يكن السائل قد ذاق حلاوة شيء أصلاً تعذر جوابه وتفهيم ما سأل عنه وكان كالعنين يسأل عن لذه الجماع وقط ما أدركه فيمتنع تفهيمه، إلا أن نشبهه له الحالة التي يدركها المجامع بلذة الأكل فيكون خطأ من وجه إذ لذة الجماع والحالة التي يدركها المجامع لا تساوي الحالة التي يدركها الآكل إلا من حيث أن عموم اللذة قد شملها فإن لم يكن قد التذ بشيء قط تعذر أصل الجواب. وكذلك من قال كيف سمع كلام الله تعالى فلا يمكن شفاؤه في السؤال إلا بأن نسمعه كلام الله تعالى القديم وهو متعذر، فإن ذلك من خصائص الكليم عليه السلام، فنحن لا نقدر على إسماعه أو تشبيه ذلك بشيء من مسموعاته وليس في مسموعاته ما يشبه كلام الله تعالى، فإن كل مسموعاته التي ألفها أصوات والأصوات لا تشبه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه، بل الأصم لو سأل وقال كيف تسمعون أنتم الأصوات وهو ما سمع قط صوتاً لم نقدر على جوابه، فإنا إن قلنا كما تدرك أنت المبصرات فهو إدراك في الاذن كإدراك البصر في العين كان هذا خطأ، فإن إدراك الأصوات لا يشبه إبصار الألوان، فدل أن هذا السؤال محال بل لو قال القائل كيف يرى رب الأرباب في الآخرة، كان جوابه محالاً لا محالة لأنه يسأل عن كيفية ما لا كيفية له، إذ معنى قول القائل كيف هو أي مثل أي شيء هو مما عرفناه، فإن كان ما يسأل عنه غير مماثل لشيء مما عرفه، كان الجواب محالاً ولم يدل ذلك على عدم ذات الله تعالى، فكذلك تعذر هذا لا يدل على عدم كلام الله تعالى بل ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه

صفة قديمة ليس كمثلها شي، كما أن ذاته ذات قديمة ليس كمثلها شيء، وكما ترى ذاته رؤية تخالف رؤية الأجسام والأعراض ولا تشبهها فيسمع كلامه سماعاً يخالف الحروف والأصوات ولا يشبهها. الاستبعاد الثاني: أن يقال كلام الله سبحانه حال في المصاحف أم لا، فإن كان حالاً فكيف حمل القديم في الحادث؟ فإن قلتم لا، فهو خلاف الإجماع، إذ احترام المصحف مجمع عليه حتى حرم على المحدث مسه وليس ذلك إلا لأن فيه كلام الله تعالى. فنقول: كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب مقروء بالألسنة، وأما الكاغد والحبر والكتابة والحروف والأصوات كلها حادثة لأنها أجسام وأعراض في أجسام فكل ذلك حادث. وإن قلنا إنه مكتوب في المصحف، أعني صفة تعالى القديم، لم يلزم أن تكون ذات القديم في المصحف، كما أنا إذا قلنا النار مكتوبة في الكتاب لم يلزم منه أن تكون ذات النار حالة فيه، إذ لو حلت فيه لاحترق المصحف، ومن تكلم بالنار فلو كانت ذات النار بلسانه لاحترق لسانه، فالنار جسم حار وعليه دلالة هي الأصوات المقطعة تقطيعاً يحصل منه النون والألف والراء، فالحار المحرق ذات المدلول عليه لا نفس الدلالة، فكذلك الكلام القديم القائم بذات الله تعالى هو المدلول لا ذات الدليل والحروف أدلة وللأدلة حرمة إذ جعل الشرع لها حرمة فلذلك وجب احترام المصحف لأن فيه دلالة على صفة الله تعالى.

الاستبعاد الثالث: إن القرآن كلام الله تعالى أم لا؟ فإن قلتم لا فقد خرقتم الإجماع، وإن قلتم نعم فما هو سوى الحروف والأصوات، ومعلوم أن قراءة القارئ هي الحروف والأصوات. فنقول: ها هنا ثلاثة ألفاظ: قراءة، ومقروء، وقرآن. أما المقروء فهو كلام الله تعالى، أعني صفته القديمة القائمة بذاته، وأما القراءة: فهي في اللسان عبارة عن فعل القارئ الذي كان ابتدأه بعد أن كان تاركاً له، ولا معنى للحادث إلا أنه ابتدأ بعد أن لم يكن، فإن كان الخصم لا يفهم هذا من الحادث فلنترك لفظ الحادث والمخلوق، ولكن نقول: القراءة فعل ابتدأه القارئ بعد أن لم يكن يفعله وهو محسوس. وأما القرآن، فقد يطلق ويراد به المقروء فإن أريد به ذلك فهو قديم غير مخلوق وهو الذي أراده السلف رضوان الله عليهم بقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، أي المقروء بالألسنة، وإن أريد به القراءة التي هي فعل القارئ ففعل القارئ لا يسبق وجود القارئ وما لا يسبق وجود الحادث فهو حادث. وعلى الجملة: من يقول ما أحدثته باختياري من الصوت وتقطيعه وكنت ساكتاً عنه قبله فهو قديم، فلا ينبغي أن يخاطب ويكلف بل ينبغي أن يعلم المسكين أنه ليس يدري ما يقوله، ولا هو يفهم معنى الحرف، ولا هو يعلم معنى الحادث، ولو علمهما لعلم أنه في نفسه إذا كان مخلوقاً كان ما يصدر عنه مخلوقاً، وعلم أن القديم لا ينتقل إلى ذات حادثة. فلنترك التطويل في الجليات فإن قول القائل بسم الله إن لم تكن السين فيه بعد الباء لم يكن قرآناً بل كان خطأ، وإذا كان بعد غيره ومتأخراً عنه فكيف يكون قديماً ونحن نريد بالقديم ما لا يتأخر عن غيره أصلاً. الاستبعاد الرابع: قولهم: أجمعت الأمة على أن القرآن معجزة للرسول عليه السلام وأنه كلام الله تعالى، فإنه سور وآيات ولها مقاطع ومفاتح؟ وكيف يكون للقديم مقاطع ومفاتح؟ وكيف ينقسم بالسور والآيات؟ وكيف يكون القديم معجزة للرسول عليه السلام والمعجزة هي فعل خارق للعادة؟ وكل فعل فهو مخلوق فكيف يكون كلام الله تعالى قديماً؟ قلنا: أتنكرون أن لفظ القرآن مشترك بين القراءة والمقروء أم لا؟ فإن اعترفتم به فكل ما أورده المسلمون من وصف القرآن بما هو قديم، كقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، أرادوا به المقروء وكل ما وصفوه به مما لا يحتمله القديم، ككونه سوراً وآيات ولها مقاطع ومفاتح، أرادوا به العبارات الدالة على الصفة القديمة التي هي قراءة، وإذا صار الاسم مشتركاً امتنع التناقض، فالاجماع منعقد على أن لا قديم إلا الله تعالى، والله تعالى يقول حتى عاد كالعرجون القديم. ولكن نقول:

اسم القديم مشترك بين معنيين، فإذا ثبت من وجه لم يستحل نفيه من وجه آخر، فكذا يسمى القرآن وهو جواب عن كل ما يوردونه من الإطلاقات المتناقضة فإن أنكروا كونه مشتركاً، فنقول: أما إطلاقه لإرادة المقروء دل عليه كلام السلف رضي الله عنهم إن القرآن كلام الله سبحانه غير مخلوق، مع علمهم بأنهم وأصواتهم وقراءاتهم وأفعالهم مخلوقة وأما إطلاقه لإرادة القراءة فقد قال الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحاً وقرآنا يعني القراءة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن والترنم يكون بالقراءة. وقال كافة السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقالوا: القرآن معجزة، وهي فعل الله تعالى إذ علموا أن القديم لا يكون معجزاً فبان أنه اسم مشترك. ومن لم يفهم اشتراك اللفظ ظن تناقضاً في هذه الاطلاقات. الاستبعاد الخامس: أن يقال: معلوم أنه لا مسموع الآن إلا الأصوات، وكلام الله مسموع الآن بالإجماع وبدليل قوله تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فنقول: إن كان الصوت المسموع للمشرك عند الإجارة هو كلام الله تعالى القديم القائم بذاته فأي فضل لموسى عليه السلام في اختصاصه بكونه كليماً لله على المشركين وهم يسمعون؟ ولا يتصور عن هذا جواب إلا أن نقول: مسموع موسى عليه السلام صفة قديمة قائمة بالله تعالى، ومسموع المشرك أصوات دالة على تلك الصفة. وتبين به على القطع الاشتراك إما في اسم الكلام وهو تسمية الدلالات باسم المدلولات، فإن الكلام هو كلام النفس تحقيقاً، ولكن الألفاظ لدلالتها عليه أيضاً تسمى كلاماً كما تسمى علماً؛ إذ يقال سمعت علم فلان وإنما نسمع كلامه الدال على علمه. وأما في اسم المسموع فإن المفهوم المعلوم بسماع غيره قد يسمى مسموعاً، كما يقال: سمعت كلام الأمير على لسان رسوله ومعلوم أن كلام الأمير لا يقوم بلسان رسوله بل المسموع كلام الرسول الدال على كلام الأمير. فهذا ما أردنا أن نذكره في إيضاح مذهب أهل السنة في كلام النفس المعدود من الغوامض، وبقية أحكام الكلام نذكرها عند التعرض لأحكام الصفات.

القسم الثاني من هذا القطب في أحكام الصفات عامة ما يشترك فيها أو يفترق وهي أربعة أحكام الحكم الأول إن الصفات السبعة التي دللنا عليها ليست هي الذات بل هي زائدة على الذات، فصانع العالم تعالى عندنا عالم بعلم وحي بحياة وقادر بقدرة، هكذا في جميع الصفات، وذهبت المعتزلة والفلاسفة إلى إنكار ذلك. وقالوا: القديم ذات واحدة قديمة ولا يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة، وإنما الدليل يدل على كونه عالماً قادراً حياً لا على العلم والقدرة والحياة. ولنعين العلم من الصفات حتى لا نحتاج إلى تكرير جميع الصفات، وزعموا أن العلمية حال للذات وليست بصفة، لكن المعتزلة ناقضوا في صفتين إذ قالوا إنه مريد بإرادة زائدة على الذات ومتكلم بكلام هو زائد على الذات، إلا أن الإرادة يخلقها في غير محل والكلام يخلقه في جسم جماد ويكون هو المتكلم به. والفلاسفة طردوا قياسهم في الإرادة. وأما الكلام فإنهم قالوا إنه متكلم بمعنى أنه يخلق في ذات النبي عليه السلام سماع أصوات منظومة، إما في النوم وإما في اليقظة، ولا يكون لتلك الأصوات وجود من خارج البتة، بل في سمع النبي، كما يرى النائم أشخاصاً لا وجود لها، ولكن تحدث صورها في دماغه، وكذلك يسمع أصواتاً لا وجود لها حتى أن الحاضر عند النائم لا يسمع، والنائم قد يسمع، ويهوله الصوت الهائل ويزعجه وينتبه خائفاً مذعوراً. وزعموا أن النبي إذا كان عالي الرتبة في النبوة ينتهي صفاء نفسه إلى أن يرى في اليقظة صوراً عجيبة ويسمع منها أصواتاً منظومة فيحفظها، ومن حواليه لا يرون ولا يسمعون. وهذا المعني عندهم برؤيه الملائكة وسماع القرآن منهم، ومن ليس في الدرجة العالية في النبوة فلا يرى ذلك إلا في المنام. فهذا تفصيل مذاهب الضلال، والغرض إثبات الصفات والبرهان القاطع هو أن من ساعد على أنه تعالى عالم فقد ساعد على أن له علماً، فإن المفهوم من قولنا عالم ومن له علم واحد، فإن العاقل يعقل ذاتاً ويعقلها على حالة وصفة بعد ذلك، فيكون قد عقل صفة وموصوفاً والصفة علم مثلاً. وله عبارتان: إحداهما طويلة وهي أن نقول هذه الذات قد قام بها علم والأخرى وجيزة أوجزت بالتصريف والاشتقاق. وهي أن الذات عالمة كما نشاهد الانسان شخصاً ونشاهد نعلاً ونشاهد دخول رجله في النعل، فله عبارة طويلة

وهو أن نقول هذا الشخص رجله داخلة في نعله أو نقول هو منتعل ولا معنى لكونه منتعلاً إلا أنه ذو نعل وما يظن من أن قيام العلم بالذات يوجب للذات حالة تسمى عالمية، هوس محض، بل العلم هي الحالة، فلا معنى لكونه عالماً إلا كون الذات على صفة وحال تلك الصفة الحال وهي العلم فقط، ولكن من يأخذ المعاني من الألفاظ فلا بد أن يغلط. فإذا تكررت الألفاظ بالاشتقاقات فاشتقاق صفة العالم من لفظ العلم أورث هذا الغلط، فلا ينبغي أن يغتر به. وبهذا يبطل جميع ما قيل وطول من العلة والمعلول وبطلان ذلك جلي بأول العقل لمن لم يتكرر على سمعه ترديد تلك الألفاظ، ومن علق ذلك بفهمه فلا يمكن نزعه منه إلا بكلام طويل لا يحتمله هذا المختصر. والحاصل هو أنا نقول للفلاسفة والمعتزلة: هل المفهوم من قولنا عالم عين المفهوم من قولنا موجوداً وفيه إشارة إلى وجود وزيادة. فإن قالوا لا، فإذاً كل من قال هو موجود عالم، كأنه قال هو موجود وهذا ظاهر الاستحالة، وإذا كان في مفهومه زيادة فتلك الزيادة هل هي مختصة بذات الموجود أم لا؟ فإن قالوا لا فهو محال إذ يخرج به عن أن يكون وصفاً له وإن كان مختصاً بذاته فنحن لا نعني بالعلم إلا ذلك وهي الزيادة المختصة بالذات الموجودة الزائدة على الوجود التي يحسن أن يشتق للموجود بسببه منه اسم العالم، فقد ساعدتم على المعنى وعاد النزاع إلى اللفظ، وإن أردت إيراده على الفلاسفة قلت: مفهوم قولنا قادر مفهوم قولنا عالم أم غيره؟ فإن كان هو ذلك بعينه فكأنا قلنا قادر قادر، فإنه تكرار محض، وإن كان غيره فإذا هو المراد فقد أثبتم مفهومين أحدهما يعبر عنه بالقدرة والآخر بالعلم ورجع الإنكار إلى اللفظ. فإن قيل: قولكم أمر مفهومه عين المفهوم من قولكم آمر وناه ومخبر أو غيره، فإن كان عينه فهو تكرار محض، وإن كان غيره فليكن له كلام هو أمر وآخر هو نهي وآخر هو خبر. وليكن خطاب كل شيء مفارقاً لخطاب غيره. وكذلك مفهوم قولكم إنه عالم بالأعراض أهو عين مفهوم قولكم إنه عالم بالجواهر أو غيره؟ فإن كان عينه فليكن الإنسان العالم بالجوهر عالماً بالعرض بعين ذلك العلم، حتى يتعلق علم واحد بمتعلقات مختلفة لا نهاية لها، وإن كان غيره فليكن لله علوم مختلفة لا نهاية لها وكذلك الكلام والقدرة والإرادة وكل صفة لا نهاية لمتعلقاتها ينبغي أن لا يكون لأعداد تلك الصفة نهاية، وهذا محال، فإن جاز أن تكون صفة واحدة تكون هي الأمر وهي النهي وهي الخبر وتنوب عن هذه المختلفات جاز أن تكون صفة واحدة تنوب عن العلم والقدرة والحياة وسائر الصفات. ثم إذا جاز ذلك جاز أن تكون الذات بنفسها

كافية ويكون فيها معنى القدرة والعلم وسائر الصفات من غير زيادة وعند ذلك يلزم مذهب المعتزلة والفلاسفة. والجواب أن نقول: هذا السؤال يحرك قطباً عظيماً من اشكالات الصفات ولا يليق حلها بالمختصرات. ولكن إذا سبق القلم إلى إيراده فلنرمز إلى مبدأ الطريق في حله، وقد كع عنه أكثر المحصلين وعدلوا إلى التمسك بالكتاب والإجماع، وقالوا هذه الصفات قد ورد الشرع بها، إذ دل الشرع على العلم وفهم منه الواحد لا محالة والزائد على الواحد لم يرد فلا يعتقده. وهذا لا يكاد يشفي فإنه قد ورد بالأمر والنهي والخبر والتوراة والإنجيل والقرآن فما المانع من أن يقال: الأمر غير النهي والقرآن غير التوراة وقد ورد بأنه تعالى يعلم السر والعلانية والظاهر والباطن والرطب واليابس وهلم جرا إلى ما يشتمل القرآن عليه.. فلعل الجواب ما نشير إلى مطلع تحقيقه وهو أن كل فريق من العقلاء مضطر إلى أن يعترف بأن الدليل قد دل على أمر زائد على وجود ذات الصانع سبحانه، وهو الذي يعبر عنه بأنه عالم وقادر وغيره. والاحتمالات فيه ثلاثة: طرفان وواسطة، والاقتصاد أقرب إلى السداد. أما الطرفان فأحدهما في التفريط وهو الاقتصار على ذات واحدة تؤدي جميع هذه المعاني وتنوب عنها كما قالت الفلاسفة. والثاني طرف الإفراط وهو إثبات صفة لا نهاية لآحادها من العلوم والكلام والقدرة، وذلك بحسب عدد متعلقات هذه الصفات؛ وهذا إسراف لا صائر إليه إلا بعض المعتزلة وبعض الكرامية. والرأي الثالث هو القصد والوسط. وهو أن يقال: المختلفات لاختلافها درجات في التقارب والتباعد؛ فرب شيين مختلفين بذاتيهما كاختلاف الحركة والسكون واختلاف القدرة والعلم الجوهر والعرض، ورب شيئين يدخلان تحت حد وحقيقة واحدة ولا يختلفان لذاتيهما وإنما يكون الاختلاف فيهما من جهة تغاير التعلق؛ فليس الاختلاف بين القدرة والعلم كالاختلاف بين العلم بسواد والعلم بسواد آخر أو بياض آخر، ولذلك إذ حددت العلم تجد دخل فيه العلم بالمعلومات كلها، فنقول: الاقتصاد في الاعتقاد أن يقال: كل اختلاف يرجع إلى تباين الذوات بأنفسها فلا يمكن أن يكفي الواحد منها، وينوب عن المختلفات. فوجب أن يكون العلم غير القدرة وكذلك الحياة وكذا الصفات

السبعة، وأن تكون الصفات غير الذات من حيث أن المباينة بين الذات الموصوفة وبين الصفة أشد من المباينة بين الصفتين. وأما العلم بالشيء فلا يخالف العلم بغيره إلا من جهة تعلقه بالمتعلق، فلا يبعد أن تتميز الصفة القديمة بهذه الخاصية وهو أن لا يوجب تباين المتعلقات فيها تبايناً وتعدداً. فإن قيل فليس في هذا قع دابر الإشكال، لأنك إذ اعترفت باختلاف ما بسبب اختلاف المتعلق، فالإشكال قائم، فما لك وللنظر في سبب الاختلاف بعد وجود الاختلاف.. فأقول: غاية الناصر لمذهب معين أن يظهر على القطع ترجيح اعتقاده على اعتقاد غيره، وقد حصل هذا على القطع، إذ لا طريق إلا واحد من هذه الثلاث، أو اختراع رابع لا يعقل. وهذا الواحد إذا قوبل بطرفيه المتقابلين له علم على القطع رجحانه، وإذ لم يكن بد من اعتقاد ولا معتقد إلا هذه الثلاث، وهذا أقرب الثلاث، فيجب اعتقاده وإن بقي ما يحبك في الصدر من اشكال يلزم على هذا. واللازم على غيره أعظم منه وتعليل الإشكال ممكن إما قطعه بالكلية والمنظور فيه هي الصفات القديمة المتعالية عن افهام الخلق فهو أمر ممتنع إلا بتطويل لا يحتمله الكتاب، هذا هو الكلام العام. وأما المعتزلة فإنا نخصهم بالاستفراق بين القدرة والإرادة. ونقول لو جاز أن يكون قادراً بغير قدرة جاز أن يكون مريداً بغير إرادة ولا فرقان بينهما. فإن قيل: هو قادر لنفسه فلذلك كان قادراً على جميع المقدورات ولو كان مريداً لنفسه لكان مريداً لجملة المرادات، وهو محال، لأن المتضادات يمكن إرادتها على البدل لا على الجمع، وأما القدرة فيجوز أن تتعلق بالضدين. والجواب أن نقول: قولوا إنه مريد لنفسه ثم يختص ببعض الحادثات المرادات كما قلتم قادر لنفسه ولا تتعلق قدرته إلا ببعض الحادثات، فإن جملة أفعال الحيوانات والمتولدات خارجة عن قدرته وإرادته جميعاً عندكم، فإذا جاز ذلك في القدرة جاز في الإرادة أيضاً. وأما الفلاسفة فإنهم ناقضوا في الكلام وهو باطل من وجهين. أحدهما قولهم إن الله تعالى متكلم مع انهم لا يثبتون كلام النفس ولا يثبتون الأصوات في الوجود، وإنما يثبتون سماع الصوت بالحلق في اذن النبي من غير صوت من خارج. ولو جاز أن يكون ذلك بما يحدث في دماغ غيره موصوفاً بأنه متكلم لجاز أن يكون موصوفاً بأنه مصوت ومتحرك لوجود الصوت والحركة في غيره، وذلك محال،

والثاني أن ما ذكروه رد للشرع كله؛ فإن ما يدركه النائم خيال لا حقيقة له، فإذا رددت معرفة النبي لكلام الله تعالى إلى التخيل الذي يشبه اضغاث أحلام فلا يثق به النبي ولا يكون ذلك علماً. وبالجملة هؤلاء لا يعتقدون الدين والاسلام وإنما يتجملون بإطلاق عبارات احتراز من السيف والكلام معهم في أصل الفعل، وحدث العالم والقدرة فلا تشتغل معهم بهذه التفصيلات. فإن قيل أفتقولون إن صفات الله تعالى غير الله تعالى؟ قلنا: هذا خطأ فإنا إذا قلنا الله تعالى، فقد دللنا به على الذات مع الصفات لا على الذات بمجردها، إذ اسم الله تعالى لا يصدق على ذات قد أخلوها عن صفات الالهية، كما لا يقال الفقه غير الفقيه ويد زيد غير زيد ويد النجار غير النجار، لأن بعض الداخل في الاسم لا يكون عين الداخل في الاسم، فيد زيد ليس هو زيد ولا هو غير زيد بل كلا اللفظين محال، وهكذا كل بعض فليس غير الكل ولا هو بعينه الكل، فلو قيل الفقه غير الانسان فهو تجوز ولا يجوز أن يقال غير الفقيه، فإن الانسان لا يدل على صفة الفقه، فلا جرم يجوز أن يقال الصفة غير الذات التي تقوم بها الصفة، كما يقال العرض القائم بالجوهر هو غير الجوهر على معنى ان مفهوم اسمه غير مفهوم اسم الآخر، وهذا حصر جائز بشرطين: أحدهما، أن لا يمنع الشرع من اطلاقه، وهذا مختص بالله تعالى، والثاني، أن لا يفهم من الغير ما يجوز وجوده دون الذي هو غيره بالإضافات إليه، فإنه إن فهم ذلك لم يمكن أن يقال سواد زيد غير زيد، لأنه لا يوجد دون زيد، قد انكشف بهذا ما هو حظ المعنى وما هو حظ اللفظ فلا معنى للتطويل في الجليات. الحكم الثاني في الصفات: ندعي أن هذه الصفات كلها قائمة بذاته لا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته، سواء كان في محل أو لم يكن في محل. وأما المعتزلة فإنهم حكموا بأن الإرادة لا تقوم بذاته تعالى، فإنها حادثة وليس هو محلاً للحوادث، ولا يقوم بمحل آخر لأنه يؤدي إلى أن يكون ذلك المحل هو المريد به، فهي توجد لا في محل، وزعموا أن الكلام لا يقوم بذاته لأنه حادث ولكن يقوم بجسم هو جماد حتى لا يكون هو المتكلم به، بل المتكلم به هو الله سبحانه، أما البرهان على أن الصفات ينبغي أن تقوم بالذات فهو عند من فهم ما قدمناه مستغنى عنه، فإن الدليل لما دل على وجود الصانع سبحانه دل بعده على أن الصانع

تعالى بصفة كذا ولا نعني بأنه تعالى على صفة كذا، إلا أنه تعالى على تلك الصفة، ولا فرق بين كونه على تلك الصفة وبين قيام الصفة بذاته. وقد بينا أن مفهوم قولنا عالم واحد وبذاته تعالى علم واحد، كمفهوم قولنا مريد، وقامت بذاته تعالى إرادة واحدة، ومفهوم قولنا لم تقم بذاته إرادة وليس بمريد واحد. فتسميته الذات مريدة بإرادة لم تقم به كتسميته متحركاً بحركة لم تقم به. وإذا لم تقم الارادة بة فسواء كانت موجودة أو معدومة فقول القائل إنه مريد لفظ خطأ، لا معنى له، وهكذا المتكلم، فإنه متكلم باعتبار كونه محلاً للكلام، إذ لا فرق بين قولنا هو متكلم وبين قولنا قام الكلام به، ولا فرق بين قولنا ليس بمتكلم وقولنا لم يقم بذاته كلام، كما في كونه مصوتاً ومتحركاً. فإن صدق على الله تعالى قولنا لم يقم بذاته كلام صدق قولنا ليس بمتكلم لأنهما عبارتان عن معنى واحد. والعجب من قولهم إن الإرادة توجد لا في محل، فإن جاز وجود صفة من الصفات لا في محل فليجز وجود العلم والقدرة والسواد والحركة، بل الكلام فلم قالوا يخلق الأصوات في محل فلتخلق في غير محل. وإن لم يعقل الصوت إلا في محل لأنه عرض وصفة فكذا الارادة. ولو عكس هذا لقيل إنه خلق كلاماً لا في محل وخلق إرادة في محل لكان العكس كالطرد. ولكن لما كان أول المخلوقات يحتاج إلى الإرادة، والمحل مخلوق، لم يمكنهم تقدير محل الارادة موجوداً قبل الإرادة؛ فإنه لا محل قبل الإرادة إلا ذات الله تعالى ولم يجعلوه محلاً للحوادث. ومن جعله محلاً للحوادث أقرب حال منهم فإن استحالة وجود إرادة في غير محل، واستحالة كونه مريداً بإرادة لا تقوم به، واستحالة حدوث إرادة حادثة به بلا إرادة تدرك ببديهة العقل أو نظره الجلي فهذه ثلاثة استحالات جلية. واما استحالة كونه محلاً للحوادث فلا يدرك إلا بنظر دقيق كما سنذكر. الحكم الثالث إن الصفات كلها قديمة، فإنها إن كانت حادثة كان القديم سبحانه محلاً للحوادث، وهو محال. أو كان يتصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة، كما سبق، ولم يذهب أحد إلى حدوث الحياة والقدرة وإنما اعتقدوا ذلك في العلم بالحوادث وفي الإرادة وفي الكلام ونحن نستدل على استحالة كونه محلاً للحوادث من ثلاثة أوجه: الدليل الأول: إن كل حادث فهو جائز الوجود، والقديم الأزلي واجب الوجود، ولو تطرق الجواز إلى صفاته لكان ذلك مناقضاً لوجوب وجوده فإن الجواز والوجوب يتناقضان. فكل ما هو واجب الذات فمن المحال أن يكون جائز

الصفات وهذا واضح بنفسه. الدليل الثاني: وهو الأقوى، أنه لو قدر حلول حادث بذاته لكان لا يخلو إما أن يرتقي الوهم إلى حادث يستحيل قبله حادث، أو لا يرتقي إليه، بل كان حادث، فيجوز أن يكون قبله حادث، فإن لم يرتق الوهم إليه لزم جواز اتصافه بالحوادث أبداً، ولزم منه حوادث لا أول لها. وقد قام الدليل على استحالته. وهذا القسم ما ذهب إليه أحد من العقلاء وإن ارتقى الوهم إلى حادث استحال قبله حدوث حادث فتلك الاستحالة لقبول الحادث في ذاته، لا تخلو إما أن تكون لذاته أو لزائد عليه. وباطل أن يكون لزائد عليه، فإن كل زائد يفرض ممكن تقدير عدمه، فيلزم منه تواصل الحوادث أبداً وهو محال، فلم يبق إلا أن استحالته من حيث أن واجب الوجود يكون على صفة يستحيل معها قبول الحوادث لذاته. فإذا كان ذلك مستحيلاً في ذاته أزلاً. فإن ذلك يبقى فيما لا يزال لأنه لذاته لا يقبل اللون باتفاق العقلاء. ولم يجز أن تتغير تلك الاستحالة إلى الجواز فكذلك سائر الحوادث. فإن قيل: هذا يبطل يحدث العالم، فإنه كان ممكناً قبل حدوثه ولم يكن الوهم يرتقي إلى وقت يستحيل حدوثه قبله ومع ذلك يستحيل حدوثه أزلاً ولم يستحل على الجملة حدوثه. قلنا هذا الإلزام فاسد؛ فإنا لم نحل إثبات ذات تنبو عن قبول حادث لكونها واجبة الوجود، ثم تتقلب إلى جواز قبول الحوادث. والعالم ليس له ذات قبل الحدوث موصوفة بأنها قابلة للحدوث أو غير قابلة حتى ينقلب إلى قبول جواز الحدوث، فيلزم ذلك على مساق دليلنا، نعم، يلزم ذلك المعتزلة حيث قالوا للعالم ذات في العدم قديمة، قابلة للحدوث، يطرأ عليها الحدوث بعد أن لم يكن، فأما على أصلنا فغير لازم، وإنما الذي نقوله في العالم أنه فعل وقدم الفعل محال، لأن القديم لا يكون فعلاً. الدليل الثالث: هو أنا نقول: إذا قدرنا قيام حادث بذاته فهو قبل ذلك إما أن يتصف بضد ذلك الحادث أو بالانفكاك عن ذلك الحادث. وذلك الضد أو ذلك الانفكاك إن كان قديماً استحال بطلانه وزواله لأن القديم لا يعدم وإن كان حادثاً كان قبله حادث لا محالة، وكذا قبل ذلك الحادث حادث يؤدي إلى حوادث لا أول لها وهو محال، ويتضح ذلك بأن تفرض في صفة معينة كالكلام مثلاً، فإن الكرامية قالوا إنه في الأزل متكلم، على معنى أنه قادر على خلق الكلام في ذاته. ومهما أحدث شيئاً في غير ذاته أحدث في ذاته قوله كن ولا بد أن يكون قبل إحداث هذا

القول ساكتاً، ويكون سكوته قديماً. وإذا قال جهم أنه يحدث في ذاته علماً فلا بد أن يكون قبله غافلاً وتكون غفلته قديمة. فنقول: السكوت القديم والغفلة القديمة يستحيل بطلانهما لما سبق من الدليل على استحالة عدم القديم. فإن قيل السكوت ليس بشيء إنما يرجع إلى عدم الكلام، والغفلة ترجع إلى عدم العلم والجهل وأضداده، فإذا وجد الكلام لم يبطل شيء إذ لم يكن شيء إلا الذات القديمة، وهي باقية، ولكن انضاف إليها موجود آخر وهو الكلام والعلم. فأما أن يقال: انعدم شيء فلان ويتنزل ذلك منزلة وجود العالم، فإنه يبطل العدم القديم ولكن العدم ليس بشيء حتى يوصف بالقدم ويقدر بطلانه. والواجب من وجهين أحدهما أن قول القائل السكوت هو عدم الكلام وليس بصفة والغفلة عدم العلم وليست بصفة، كقوله البياض هو عدم السواد وسائر الألوان وليس بلون. والسكون هو عدم الحركة وليس بعرض، وذلك محال. والدليل الذي دل على استحالته بعينه يدل على استحالة هذا، والخصوم في هذه المسألة معترفون بأن السكون وصف زائد على عدم الحركة، فإن كل من يدعي أن السكون هو عدم الحركة لا يقدر على اثبات حدوث العالم. فظهور الحركة بعد السكون إذاً دل على حدوث المتحرك، فكذلك ظهور الكلام بعد السكوت يدل على حدوث المتكلم، من غير فرق. إذ المسلك الذي به يعرف كون السكون معنى هو مضاد للحركة بعينه يعرف به كون السكوت معنى يضاد الكلام، وكون الغفلة معنى يضاد العلم، وهو أنا إذا أدركنا تفرقة بين حالتي الذات الساكنة والمتحركة فإن الذات مدركة على الحالتين. والتفرقة مدركة بين الحالتين ولا نرجع التفرقة إلى زوال أمر وحدوث أمر فإن الشيء لا يفارق نفسه، فدل ذلك على أن كل قابل للشيء فلا يخلو عنه، أو عن ضده وهذا مطرد في الكلام، وفي العلم. ولا يلزم على هذا الفرق بين وجود العلم وعدمه، فإن ذلك لا

يوجب ذاتين. فإنه لم تدرك في الحالتين ذات واحدة يطرأ عليها الوجود بل لا ذات للعالم قبل الحدوث، والقديم ذات قبل حدوث الكلام، علم على وجه مخالف للوجه الذي علم عليه بعد حدوث الكلام، يعبر عن ذلك الوجه بالسكوت وعن هذا بالكلام، فهما وجهان مختلفان أدركت عليهما ذات مستمرة الوجود في الحالتين وللذات هيئة وصفة وحالة بكونه ساكتاً، كما أن له هيئة بكونه متكلماً، وكما له هيئة بكونه ساكتاً ومتحركاً وأبيض وأسود وهذه الموازنة مطابقة لا مخرج منها. الوجه الثاني في الانفصال هو أن يسلم أيضاً أن السكوت ليس بمعنى، وإنما يرجع ذلك إلى ذات منفكة عن الكلام، فالانفكاك عن الكلام حال للمنفك لا محالة ينعدم بطريان الكلام، فحال الانفكاك تسمى عدماً أو وجوداً أو صفة أو هيئة، فقد انتفى الكلام والمنتفي قديم. وقد ذكرنا أن القديم لا ينتفي سواء كان ذاتاً أو حالاً أو صفة، وليست الاستحالة لكونه ذاتاً فقط بل لكونه قديماً، ولا يلزم عدم العالم، فإنه انتفى مع القديم لأن عدم العالم ليس بذات ولا حصل منه حال لذات حتى يقدر تغيرها وتبدلها على الذات والفرق بينهما ظاهر. فإن قيل الأعراض كثيرة والخصم لا يدعي كون الباري محل حدوث شيء منها كالألوان والآلام واللذات وغيرها، وإنما الكلام في الصفات السبعة التي ذكرتموها ولا نزاع من جملتها في الحياة والقدرة، وإنما النزاع في ثلاثة: في القدرة والإرادة والعلم، وفي معنى العلم السمع والبصر عند من يثبتهما. وهذه الصفات الثلاثة لا بد أن تكون حادثة، ثم يستحيل أن تقوم بغيره، لأنه لا يكون متصفاً بها فيجب أن تقوم بذاته فيلزم منه كونه محلاً للحوادث. أما العلم بالحوادث فقد ذهب جهم إلى أنها علوم حادثة وذلك لأن الله تعالى الآن عالم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا، وهو في الأزل إن كان عالماً بأنه كان قد وجد كان هذا جهلاً لا علماً، وإذا لم يكن عالماً بأنه قد وجد كان جهلاً لا علماً، وإذا لم يكن عالماً وهو الآن عالم فقد ظهر حدوث العلم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا. وهكذا القول في كل حادث. وأما الإرادة فلا بد من حدوثها فإنها لو كانت قديمة لكان المراد معها. فإن القدرة والارادة مهما تمتا وارتفعت العوائق منها وجب حصول المراد، فكيف يتأخر المراد عن الإرادة والقدرة من غير عائق؟ فلهذا قالت المعتزلة بحدوث إرادة في غير محل وقالت الكرامية بحدوثها في ذاته وربما عبروا عنه بأنه يخلق ايجاداً في ذاته عند وجود كل موجود وهذا راجع إلى الارادة.

وأما الكلام فكيف يكون قديماً وفيه إخبار عما مضى، فكيف قال في الأزل " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه " ولم يكن قد خلق نوحاً بعد، وكيف قال في الأزل لموسى " فاخلع نعليك " ولم يخلق بعد موسى، فكيف أمر ونهى من غير مأمور ولا منهي. وإذا كان ذلك محالاً ثم علم بالضرورة أنه آمر وناه، واستحال ذلك في القدم، علم قطعاً أنه صار آمراً ناهياً بعد أن لم يكن، فلا معنى لكونه محلاً للحوادث إلا هذا. والجواب أنا نقول: مهما حللنا الشبهة في هذه الصفات الثلاثة انتهض منه دليل مستقل على إبطال كونه محلاً للحوادث، إذ لم يذهب إليه ذاهب إلا بسبب هذه الشبهة، وإذا انكشف كان القول بها باطلاً كالقول بأنه محل للألوان وغيرها مما لا يدل دليل على الاتصاف بها. فنقول: الباري تعالى في الأزل علم بوجود العالم في وقت وجوده وهذا العلم صفة واحدة مقتضاها في الأزل العلم بأن العالم يكون من بعد، وعند الوجود العلم بأنه كائن وبعده العلم بأنه كان، وهذه الأحوال تتعاقب على العالم ويكون مكشوفاً لله تعالى تلك الصفة وهي لم تتغير. وإنما المتغير أحوال العالم، وإيضاحه بمثال وهو أنا إذا فرضنا للواحد منا علماً بقدوم زيد عند طلوع الشمس وحصل له هذا العلم قبل طلوع الشمس ولم ينعدم بل بقي ولم يخلق له علم آخر عند طلوع الشمس فما حال هذا الشخص عند الطلوع،. أيكون عالماً بقدوم زيد أو غير عالم؟ ومحال أن يكون غير عالم لأنه قدر بقاء العلم بالقدوم عند الطلوع، وقد علم الآن الطلوع فيلزمه بالضرورة أن يكون عالماً بالقدوم، فلو دام عند انقضاء الطلوع فلا بد أن يكون عالماً بأن كان قد قدم والعلم الواحد أفاد الاحاطة بأنه سيكون وإنه كائن وأنه قد كان فهكذا ينبغي أن يفهم علم الله القديم الموجب بالاحاطة بالحوادث، وعلى هذا ينبغي أن يقال السمع والبصر، فإن كل واحد منهما صفة يتصف بها المرئي والمسموع عند الوجود من غير حدوث تلك الصفة ولا حدوث أمر فيها، وإنما الحادث المسموع والمرئي. والدليل القاطع على هذا هو أن الاختلاف بين الأحوال شيء واحد في انقسامه إلى الذي كان ويكون وهو كائن لا يزيد على الاختلاف بين الذوات المختلفة. ومعلوم أن العلم لا يتعدد بتعدد الذوات فكيف يتعدد بتعدد أحوال ذات واحدة. وإذا كان علم واحد يفيد الإحاطة بذوات مختلفة متباينة فمن أين يستحيل أن يكون علم واحد يفيد إحاطة بأحوال ذات واحدة بالاضافة إلى الماضي والمستقبل، ولا شك أن جهماً ينفي النهاية عن معلومات الله تعالى ثم لا يثبت علوماً لا نهاية لها فيلزمه أن يعترف بعلم واحد يتعلق بمعلومات مختلفة فكيف يستبعد ذلك في أحوال معلوم واحد يحققه أنه لو حدث له علم بكل حادث لكان ذلك العلم لا يخلو إما أن

يكون معلوماً أو غير معلوم، فإن لم يكن معلوماً فهو محال، لأنه حادث، وإن جاز حادث لا يعلمه مع أنه في ذاته أولى بأن يكون متضحاً له فبان يجوز ألا يعلم الحوادث المباينة لذاته أولى، وإن كان معلوماً فإما أن يفتقر إلى علم آخر وكذلك العلم يفتقر إلى علوم أخر لا نهاية لها، وذلك محال. وإما أن يعلم الحادث والعلم بالحادث نفس ذلك العلم فتكون ذات العلم واحدة ولها معلومان: أحدهما ذات، والآخر ذات الحادث، فيلزم منه لا محالة تجويز علم واحد يتعلق بمعلومين مختلفين فكيف لا يجوز علم واحد يتعلق بأحوال معلوم واحد مع اتحاد العلم وتنزهه عن التغير، وهذا لا مخرج منه؛ فأما الإرادة فقد ذكرنا أن حدوثها بغير إرادة أخرى محال، وحدوثها بإرادة بتسلسل إلى غير نهاية، وإن تعلق الإرادة القديمة بالأحداث غير محال. ويستحيل أن تتعلق الإرادة بالقديم فلم يكن العالم قديماً لأن الإرادة تعلقت باحداثه لا بوجوده في القدم. وقد سبق إيضاح ذلك. وكذلك الكرامي إذا قال يحدث في ذاته إيجاداً في حال حدوث العالم بذلك يحصل حدوث العالم في ذلك الوقت، فيحتاج إلى مخصص آخر فيلزمهم في الإيجاد ما لزم المعتزلة في الإرادة الحادثة، ومن قال منهم إن ذلك الإيجاد هو قوله كن، وهو صوت، فهو محال من ثلاثة أوجه، أحدها: استحالة قيام الصوت بذاته، والآخر: أن قوله كن حادث أيضاً، فإن حدث من غير أن يقول له كن فليحدث العالم من غير أن يقال له كن، فإن افتقر قوله كن في أن يكون، إلى قول آخر، افتقر القول الآخر إلى ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل إلى غير نهاية. ثم لا ينبغي أن يناظر من انتهى عقله إلى أن يقول يحدث في ذاته بعدد كل حادث في كل وقت، قوله كن فيجتمع آلاف آلاف أصوات في كل لحظة. ومعلوم أن النون والكاف لا يمكن النطق بهما في وقت واحد بل ينبغي أن تكون النون بعد الكاف لأن الجمع بين الحرفين محال وإن جمع ولم يرتب لم يكن قولاً مفهوماً ولا كلاماً، وكما يستحيل الجمع بين حرفين مختلفين فكذلك بين حرفين متماثلين، ولا يعقل في أوان ألف ألف كاف كما لا يعقل الكاف والنون فهؤلاء حقهم أن يسترزقوا الله عقلاً وهو أهم لهم من الاشتغال بالنظر. والثالث: أن قوله كن خطاب مع العالم في حالة العدم أو في حالة الوجود، فإن كان في حالة العدم فالمعدوم لا يفهم الخطاب، فكيف يمتثل بأن يتكون بقوله كن؟ وإن كان في حالة الوجود فالكائن كيف يقال له كن؟ فانظر ماذا يفعل الله تعالى بمن ضل عن سبيله فقد انتهى ركاكة عقله إلى أن لا يفهم المعني بقوله تعالى " إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وأنه كناية عن نفاذ القدرة وكمالها حتى انجر بهم إلى هذه المخازي، نعوذ بالله من الخزي والفضيحة يوم الفزع الأكبر يوم تكشف الضمائر وتبلى السرائر فيكشف إذ ذاك ستر الله عن خبائث الجهال، ويقال للجاهل الذي اعتقد في الله تعالى وفي صفاته غير الرأي السديد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. انتهى عقله إلى أن يقول يحدث في ذاته بعدد كل حادث في كل وقت، قوله كن فيجتمع آلاف آلاف أصوات في كل لحظة. ومعلوم أن النون والكاف لا يمكن النطق بهما في وقت واحد بل ينبغي أن تكون النون بعد الكاف لأن الجمع بين الحرفين محال وإن جمع ولم يرتب لم يكن قولاً مفهوماً ولا كلاماً، وكما يستحيل الجمع بين حرفين مختلفين فكذلك بين حرفين متماثلين، ولا يعقل في أوان ألف ألف كاف كما لا يعقل الكاف والنون فهؤلاء حقهم أن يسترزقوا الله عقلاً وهو أهم لهم من الاشتغال بالنظر. والثالث: أن قوله كن خطاب مع العالم في حالة العدم أو في حالة الوجود، فإن كان في حالة العدم فالمعدوم لا يفهم الخطاب، فكيف يمتثل بأن يتكون بقوله كن؟ وإن كان في حالة الوجود فالكائن كيف يقال له كن؟ فانظر ماذا يفعل الله تعالى

بمن ضل عن سبيله فقد انتهى ركاكة عقله إلى أن لا يفهم المعني بقوله تعالى " إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وأنه كناية عن نفاذ القدرة وكمالها حتى انجر بهم إلى هذه المخازي، نعوذ بالله من الخزي والفضيحة يوم الفزع الأكبر يوم تكشف الضمائر وتبلى السرائر فيكشف إذ ذاك ستر الله عن خبائث الجهال، ويقال للجاهل الذي اعتقد في الله تعالى وفي صفاته غير الرأي السديد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وأما الكلام فهو قديم، وما استبعدوه من قوله تعالى " فاخلع نعليك " ومن قوله تعالى " إنا أرسلنا نوحاً " استبعاد مستنده تقديرهم الكلام صوتاً وهو محال فيه، وليس بمحال إذ فهم كلام النفس. فإنا نقول يقوم بذات الله تعالى خبر عن إرسال نوح العبارة عنه قبل إرساله: إنا نرسله، وبعد إرساله: إنا أرسلنا، واللفظ يختلف باختلاف الأحوال والمعنى القائم بذاته تعالى لا يختلف، فإن حقيقته أنه خبر متعلق بمخبر ذلك الخبر هو إرسال نوح في الوقت المعلوم وذلك لا يختلف باختلاف الأحوال كما سبق في العلم، وكذلك قوله اخلع نعليك لفظة تدل على الأمر والأمر اقتضاء وطلب يقوم بذات الأمر وليس شرط قيامه به أن يكون المأمور موجوداً ولكن يجوز أن يقوم بذاته قبل وجود المأمور، فإذا وجد المأمور كان مأموراً بذلك الاقتضاء بعينه من غير تحدد اقتضاء آخر. وكم من شخص ليس له ولد ويقوم بذاته اقتضاء طلب العلم منه على تقدير وجوده، إذ يقدر في نفسه أن يقول لولده اطلب العلم وهذا الاقتضاء يتنجز في نفسه على تقدير الوجود، فلو وجد الولد وخلق له عقل وخلق له علم بما في نفس الأب من غير تقدير صياغة لفظ مسموع، وقدر بقاء ذلك الاقتضاء على وجوده لعلم الابن أنه مأمور من جهة الأب بطلب العلم في غير استئناف اقتضاء متجدد في النفس، بل يبقى ذلك الاقتضاء نعم العادة جارية بأن الابن لا يحدث له علم إلا بلفظ يدل على الاقتضاء الباطن، فيكون قوله بلسانه أطلب العلم، دلالة على الاقتضاء الذي في ذاته سواء حدث في الوقت أو كان قديماً بذاته قبل وجود ولده. فهكذا ينبغي أن يفهم قيام الأمر بذات الله تعالى فتكون الألفاظ الدالة عليه حادثة والمدلول قديماً ووجود ذلك المدلول لا يستدعي وجود المأمور بل تصور وجوده مهما كان المأمور مقدر الوجود، فإن كان مستحيل الوجود ربما لا يتصور وجود الاقتضاء ممن يعلم استحالة وجوده. فلذلك لا نقول إن الله تعالى يقوم بذاته اقتضاء فعل ممن يستحيل وجوده، بل ممن علم وجوده، وذلك غير محال. فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر وناه، فإن قلتم أنه آمر فكيف يكون آمر لا مأمور له؟ وإن قلتم لا فقد صار آمراً بعد أن لم يكن.

قلنا: واختلف الأصحاب في جواب هذا، والمختار أن تقول هذا نظر يتعلق أحد طرفيه بالمعنى والآخر بإطلاق الاسم من حيث اللغة. فأما حظ المعنى فقد انكشف وهو أن الاقتضاء القديم معقول وإن كان سابقاً على وجود المأمور كما في حق الولد ينبغي أن يقال اسم الأمر ينطلق عليه بعد فهم المأمور ووجوده أم ينطلق عليه قبله؟ وهذا أمر لفظي لا ينبغي للناظر أن يشتغل بأمثاله، ولكن الحق أنه يجوز اطلاقه عليه كما جوزوا تسمية الله تعالى قادراً قبل وجود المقدور، ولم يستبعدوا قادراً ليس له مقدور موجود بل قالوا القادر يستدعي مقدوراً معلوماً لا موجوداً فكذلك الآمر يستدعي مأموراً معلوماً موجوداً والمعدوم معلوم الوجود قبل الوجود، بل يستدعي الأمر مأموراً به كما يستدعي مأموراً ويستدعي آمراً أيضاً والمأمور به يكون معدوماً ولا يقال إنه كيف يكون آمر من غير مأمور به، بل يقال له مأمور به هو معلوم وليس يشترط كونه موجوداً، بل يشترط كونه معدوماً بل من أمر ولده على سبيل الوصية بأمر ثم توفي فأتى الولد بما أوصي به يقال امتثل أمر والده والأمر معدوم والأمر في نفسه معدوم ونحن مع هذا نطلق اسم امتثال الأمر، فإذا لم يستبعد كون المأمور ممتثلاً للأمر ولا وجود للأمر ولا للآمر ولم يستبعد كون الأمر أمراً قبل وجود المأمور به، فمن أين يستدعي وجود المأمور؟ فقد انكشف من هذا حظ اللفظ والمعنى جميعاً ولا نظر إلا فيهما. فهذا ما أردنا أن نذكره في استحالة كونه محلاً للحوادث إجمالاً وتفصيلاً. الحكم الرابع إن الأسامي المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبعة صادقة عليه أزلاً وأبداً، فهو في القدم كان حياً قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً، وأما ما يشتق له من الأفعال كالرازق والخالق والمعز والمذل فقد اختلف في أنه يصدق في الأزل أم لا. وهذا إذا كشف الغطاء عنه تبين استحالة الخلاف فيه. والقول الجامع أن الأسامي التي يسمى بها الله تعالى أربعة: الأول: أن لا يدل إلا على ذاته كالموجود، وهذا صادق أزلاً وأبداً. الثاني: ما يدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم، فإنه يدل على وجود غير مسبوق بعدم أزلاً، والباقي فإنه يدل على الوجود وسلب العدم عنه آخراً وكالواحد فإنه يدل على الوجود وسلب الشريك، وكالغنى فإنه يدل على الوجود وسلب الحاجة فهذا أيضاً يصدق أزلاً وأبداً لأن ما يسلب عنه يسلب لذاته فيلازم الذات على الدوام.

الثالث: ما يدل على الوجود وصفة زائدة من صفات المعنى كالحي والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم وما يرجع إلى هذه الصفات السبعة كالآمر والناهي والخبير ونظائره، فذلك أيضاً يصدق عليه أزلاً وأبداً عند من يعتقد قدم جميع الصفات. الرابع: ما يدل على الوجود مع إضافة إلى فعل من أفعاله كالجواد والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله، وهذا مختلف فيه، فقال قوم هو صادق أزلاً إذ لو لم يصدق لكان اتصافه به موجباً للتغير وقال قوم لا يصدق إذ لا خلق في الأزل فكيف خالقاً. والكاشف للغطاء عن هذا أن السيف في الغمد يسمى صارماً وعند حصول القطع به وفي تلك الحالة على الاقتران يسمى صارماً، وهما بمعنيين مختلفين، فهو في الغمد صارم بالقوة وعند حصول القطع صارم بالفعل وكذلك الماء في الكوز يسمى مروياً وعند الشرب يسمى مروياً وهما إطلاقان مختلفان فمعنى تسمية السيف في الغمد صارماً أن الصفة التي يحصل بها القطع في الحال لقصور في ذات السيف وحدته واستعداده بل لأمر آخر وراء ذاته. فبالمعنى الذي يسمى السيف في الغمد صارماً يصدق اسم الخالق على الله تعالى في الأزل فإن الخلق إذ أجري بالفعل لم يكن لتجدد أمر في الذات لم يكن، بل كل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود في الأزل. وبالمعنى الذي يطلق حالة مباشرة القطع للسيف اسم الصارم لا يصدق في الأزل فهذا حظ المعنى. فقد ظهر أن من قال إنه لا يصدق في الأزل هذا الاسم فهو محق وأراد به المعنى الثاني، ومن قال يصدق في الأزل فهو محق وأراد به المعنى الأول. وإذا كشف الغطاء على هذا الوجه ارتفع الخلاف. فهذا تمام ما أردنا ذكره في قطب الصفات وقد اشتمل على سبعة دعاو، وتفرع عن صفة القدرة ثلاثة فروع، وعن صفة الكلام خمسة استبعادات، واجتمع من الأحكام المشتركة بين الصفات أربعة أحكام، فكان المجموع قريباً من عشرين دعوى هي أصول الدعاوى وإن كان تنبني كل دعوى على دعاوى بها يتوصل إلى اثباتها فلنشتغل بالقطب الثالث من الكتاب إن شاء الله تعالى.

القطب الثالث في أفعال الله تعالى وجملة أفعال جائزة لا يوصف شيء منها بالوجوب وندعي في هذا القطب سبعة أمور: ندعي أنه يجوز لله تعالى أن لا يكلف عباده، وأنه يجوز أن يكلفهم ما لا يطاق، وأنه يجوز منه إيلام العباد بغير عوض وجناية؛ وأنه لا يجب رعاية الأصلح لهم، وأنه لا يجب عليه ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وأن العبد لا يجب عليه شيء بالعقل بل بالشرع، وأنه لا يجب على الله بعثه الرسل، وأنه لو بعث لم يكن قبيحاً ولا محالاً بل أمكن اظهار صدقهم بالمعجزة، وجملة هذه الدعاوى تنبني على البحث عن معنى الواجب والحسن والقبيح، ولقد خاض الخائضون فيه وطولوا القول في أن العقل هل يحسن ويقبح وهل يوجب. وإنما كثر الخبط لأنهم لم يحصلوا معنى هذه الألفاظ واختلافات الاصطلاحات فيها وكيف تخاطب خصمان في أن العقل واجب وهما بعد لم يفهما معنى الواجب، فهما محصلاً متفقاً عليه بينهما، فلنقدم البحث عن الاصطلاحات ولا بد من الوقوف على معنى ستة ألفاظ وهي: الواجب، والحسن، والقبيح، والعبث، والسفه، والحكمة؛ فإن هذه الألفاظ مشتركة ومثار الأغاليط إجمالها، والوجه في أمثال هذه المباحث أن نطرح الألفاظ ونحصل المعاني في العقل بعبارات أخرى ثم نلتفت إلى الألفاظ المبحوث عنها وننظر إلى تفاوت الاصطلاحات فيها، فنقول: أما الواجب فإنه يطلق على فعل لا محالة، ويطلق على القديم إنه واجب، وعلى الشمس إذا غربت إنها واجبة، وليس من غرضنا. وليس يخفى أن الفعل الذي لا يترجح فعله على تركه ولا يكون صدوره من صاحبه أولى من تركه لا يسمى واجباً وإن ترجح وكان أولاً لا يسميه أيضاً بكل ترجيح بل لا بد من خصوص ترجيح. ومعلوم أن الفعل قد يكون بحيث يعلم أنه يعلم أنه نستعقب تركه ضرراً، أو يتوهم، وذلك الضرر إما عاجل في الدنيا وإما آجل في العاقبة، وهو إما قريب محتمل وإما عظيم لا يطاق مثله. فانقسام الفعل ووجوه ترجحه لهذه الأقسام ثابت في العقل من غير لفظ

فلنرجع إلى اللفظ فنقول: معلوم أن ما فيه ضرر قريب محتمل لا يسمى واجباً؛ إذ العطشان إذا لم يبادر إلى شرب الماء تضرر تضرراً قريباً ولا يقال إن الشرب عليه واجب. ومعلوم أن ما لا ضرر فيه أصلاً ولكن في فعله فائدة لا يسمى واجباً، فإن التجارة واكتساب المال والنوافل فيه فائدة ولا يسمى واجباً، بل المخصوص باسم الواجب ما في تركه ضرر ظاهر فإن كان ذلك في العاقبة أعني الآخرة، وعرف بالشرع فنحن نسميه واجباً، وإن كان ذلك في الدنيا وعرف بالعقل فقد يسمى أيضاً ذلك واجباً، فإن من لا يعتقد الشرع قد يقول واجب على الجائع الذي يموت من الجوع أن يأكل إذا وجد الخبز ونعني بوجوب الأكل ترجح فعله على تركه بما يتعلق من الضرر بتركه، ولسنا نحرم هذا الاصطلاح بالشرع فإن الاصطلاحات مباحة لا حجر فيها للشرع ولا للعقل، وإنما تمنع منه اللغة إذا لم يكن على وفق الموضوع المعروف فقد تحصلنا على معنيين للواجب ورجع كلاهما إلى التعرض للضرر وكان أحدهما أعم لا يختص بالآخرة، والآخر أخص وهو اصطلاحنا، وقد يطلق الواجب بمعنى ثالث وهو الذي يؤدي عدم وقوعه إلى أمر محال، كما يقال: ما علم وقوعه فوقوعه واجب، ومعناه أنه إن لم يقع يؤدي إلى أن ينقلب العلم جهلاً وذلك محال، فيكون معنى وجوبه أن ضده محال، فليسم هذا المعنى الثالث الواجب. وأما الحسن فحظ المعنى منه أن الفعل في حق الفاعل ينقسم إلى ثلاثة أقسام أحدها أن توافقه أي تلائم غرضه، والثاني أن ينافر غرضه، والثالث أن لا يكون له في فعله ولا في تركه غرض. وهذا الانقسام ثابت في العقل؛ فالذي يوافق الفاعل يسمى حسناً في حقه ولا معنى لحسنه إلا موافقته لغرضه، والذي ينافي غرضه يسمى قبيحاً ولا معنى لقبحه إلا منافاته لغرضه، والذي لا ينافي ولا يوافق يسمى عبثاً أي لا فائدة فيه أصلاً، وفاعل العبث يسمى عابثاً وربما يسمى سفيهاً، وفاعل القبيح أعني الفعل الذي ينضر به يسمى سفيهاً واسم السفيه أصدق منه على العابث، وهذا كله إذا لم يلتفت إلى غير الفاعل أو لم يرتبط الفعل بغرض غير الفاعل، فإن ارتبط بغير الفاعل وكان موافقاً لغرضه سمي حسناً في حق من وافقه وإن كان منافياً سمي قبيحاً، وإن كان موافقاً لشخص دون شخص سمي في حق أحدهما حسناً وفي حق الآخر قبيحاً إذ اسم القبيح والحسن بأن الموافقة والمخالفة، وهما أمران إضافيان، مختلفان بالأشخاص ويختلف في حق شخص واحد بالأحوال ويختلف في حال واحد بالأعراض؛ فرب فعل يوافق الشخص من وجه ويخالفه من وجه فيكون حسناً من وجه قبيحاً من وجه، فمن لا ديانة له

يستحسن الزنا بزوجة الغير ويعد الظفر بها نعمة ويستقبح فعل الذي يكشف عررته ويسميه غمازاً قبيح الفعل والمتدين يسميه محتسباً حسن الفعل، وكل بحسب غرضه يطلق اسم الحسن والقبح بل يقتل ملك من الملوك فيستحسن فعل القاتل جميع أعدائه ويستقبحه جميع أوليائه، بل هذا القاتل في الحسن المخصوص جار، ففي الطباع ما خلق مايلاً من الألوان الحسان إلى السمرة، فصاحبه يستحسن الأسمر ويعشقه، والذي خلق مايلاً إلى البياض المشرب بالحمرة يستقبحه ويستكرهه ويسفه عقل المستحسن المستهتر به؛ فبهذا يتبين على القطع أن الحسن والقبيح عبارتان عن الخلق كلهم عن أمرين إضافيين يختلفان بالإضافات عن صفات الذوات التي لا تختلف بالإضافة. فلا جرم جاز أن يكون الشيء حسناً في حق زيد قبيحاً في حق عمرو ولا يجوز أن يكون الشيء أسود في حق زيد أبيض في حق عمرو لما لم تكن الألوان من الأوصاف الإضافية؛ فإذا فهمت المعنى فافهم أن الاصطلاح في لفظ الحسن أيضاً ثلاثة: فقائل يطلقه على كل ما يوافق الغرض عاجلاً كان أو آجلاً؛ وقائل يخصص بما يوافق الغرض في الآخر وهو الذي حسنه الشرع أي حث عليه ووعد بالثواب عليه وهو اصطلاح أصحابنا، والقبيح عند كل فريق ما يقابل الحسن، فالأول أعم وهذا أخص، وبهذا الاصطلاح قد يسمي بعض من لا يتحاشى فعل الله تعالى قبيحاً إذ كان لا يوافق غرضهم، ولذلك تراهم يسبون الفلك والدهر ويقولون خرف الفلك وما أقبح أفعاله ويعلمون إن الفاعل خالق الفلك؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر؛ وفيه اصطلاح ثالث إذ قد يقال فعل الله تعالى حسن كيف كان مع إنه لا غرض في حقه؛ ويكون معناه أنه لا تبعة عليه فيه ولا لائمة وأنه فاعل في ملكه الذي لا يساهم فيه ما يشاء. وأما الحكمة فتطلق على معنيين: أحدهما الاحاطة المجردة بنظم الأمور ومعانيها الدقيقة والجليلة والحكم عليها بأنها كيف ينبغي أن تكون حتى تتم منها الغاية المطلوبة بها، والثاني أن تنضاف إليه القدرة على إيجاد الترتيب والنظام واتقانه وإحكامه

فيقال حكيم من الحكمة، وهو نوع من العلم، ويقال حكيم من الأحكام وهو نوع من الفعل، فقد اتضح لك معنى هذه الألفاظ في الأصل ولكن ههنا ثلاث غلطات للوهم يستفاد من الوقوف عليها الخلاص من إشكالات تغتر بها طوائف كثيرة: الغلطة الأولى: أن الإنسان قد يطلق اسم القبيح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره، ولكنه لا يلتفت إلى الغير، فكل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر ما عداه ولذلك يحكم على الفعل مطلقاً بأنه قبيح وقد يقول أنه قبيح في عينه، وسببه أنه قبيح في حقه بمعنى أنه مخالف لغرضه، ولكن أغراضه كأنه كل العالم في حقه فيتوهم أن المخالف لحقه مخالف في نفسه، فيضيف القبح إلى ذات الشيء ويحكم بالاطلاق؛ فهو مصيب في أصل الاسقباح ولكنه مخطيء في حكمه بالقبح على الاطلاق؛ وفي إضافة القبح إلى ذات الشيء ومنشؤه غفلته عن الالتفات إلى غيره، بل عن الالتفات إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسن في بعض أحواله غير ما يستقبحه مهما انقلب موافقاً لغرضه. الغلطة الثانية فيه: أن ما هو مخالف للأغراض في جميع الأحوال إلا في حالة نادرة، فقد يحكم الإنسان عليه مطلقاً بأنه قبيح لذهوله عن الحالة النادرة ورسوخ غالب الأحوال في نفسه واستيلائه على ذكره، فيقضي مثلاً على الكذب بأنه قبيح مطلقاً في كل حال وأن قبحه لأنه كذب لذاته فقط لا لمعنى زائد، وسبب ذلك غفلته عن ارتباط مصالح كثيرة بالكذب في بعض الأحوال، ولكن لو وقعت تلك الحالة ربما نفر طبعه عن استحسان الكذب لكثرة إلفه باستقباحه، وذلك لأن الطبع ينفر عنه من أول الصبا بطريق التأديب والاستصلاح، ويلقي إليه أن الكذب قبيح في نفسه وأنه لا ينبغي أن يكذب قط، فهو قبيح ولكن بشرط يلازمه في أكثر الأوقات وإنما يقع نادراً، فلذلك لا ينبه على ذلك الشرط ويغرس في طبعه قبحه والتنفير عنه مطلقاً. الغلطة الثالثة: سبق الوهم إلى العكس، فإن ما رئي مقروناً بالشيء يظن أن الشيء أيضاً لا محالة يكون مقروناً به مطلقاً ولا يدري أن الأخص أبداً يكون مقروناً بالأعم، وأما الأعم فلا يلزم أن يكون مقروناً بالأخص. ومثاله ما يقال من أن السليم، أعني الذي نهشته الحية، يخاف من الحبل المبرقش اللون، وهو كما قيل، وسببه أنه أدرك المؤذي وهو متصور بصورة حبل مبرقش، فإذا أدرك الحبل سبق الوهم إلى العكس وحكم بأنه مؤذ فينفر الطبع تابعاً للوهم والخيال وإن كان العقل مكذباً به، بل الانسان قد ينفر عن أكل الخبيض الأصفر لشبهه بالعذرة، فيكاد يتقيأ عند قول القائل إنه عذرة، يتعذر عليه تناوله مع كون العقل مكذباً به، وذلك لسبق الوهم إلى العكس فإنه أدرك المستقذر رطباً أضفر فإذا رأى الرطب الأصفر حكم بأنه

مستقذر، بل في الطبع ما هو أعظم من هذا فإن الأسامي التي تطلق عليها الهنود والزنوج لما كان يقترن قبح المسمى به يؤثر في الطبع ويبلغ إلى حد لو سمى به أجمل الأتراك والروم لنفر الطبع عنه، لأنه أدرك الوهم القبيح مقروناً بهذا الاسم فيحكم بالعكس، فإذا أدرك الأسم حكم بالقبح على المسمى ونفر الطبع. وهذا مع وضوحه للعقل فلا ينبغي أن يغفل عنه لأن إقدام الخلق وإحجامهم في أقوالهم وعقائدهم وأفعالهم تابع لمثل هذه الأوهام. وأما اتباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقاً وقواهم على اتباعه، وإن أردت أن تجرب هذا في الاعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت له إنه مذهب الأشعري رضي الله عنه لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذباً بعين ما صدق به مهما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا. وكذلك تقرر أمراً معقولاً عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود لي التكذيب. ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين باسم العلم؛ فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل فهم في نظرهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كلى ما يوافقه، وإنما الحق ضده؛ وهو أن لا يعتقد شيئاً أصلاً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقاً ونقيضه باطلاً وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقديم الإلفه والتخلق بأخلاق منذ الصبا. فإذا وقفت على هذه المثارات سهل عليك دفع الاشكالات. فإن قيل: فقد رجع كلامكم إلى أن الحسن والقبيح يرجعان إلى الموافقة والمخالفة للأغراض، ونحن نرى العاقل يستحسن ما لا فائدة له فيه ويستقبح ما له فيه فائدة. أما الاستحسان فمن رأى إنساناً أو حيواناً مشرفاً على الهلاك استحسن إنقاذه ولو بشربة ماء معأنه ربما لا يعتقد الشرع ولا يتوقع منه غرضاً في الدنيا ولا هو بمرآى من الناس حتى ينتظر عليه ثناء بل يمكن أن يقدر انتفاء كل غرض ومع ذلك يرجح جهة الانقاذ على جهة الاهمال بتحسين هذا وتقبيح ذلك. وأما الذي يستقبح مع الأغراض، كالذي يحمل على كلمة الكفر بالسيف والشرع قد رخص له في اطلاقها، فإنه قد يستحسن منه الصبر على السيف وترك النطق به. أو الذي لا يعتقد الشرع وحمل بالسيف على نقض عهد، ولا ضرر عليه في نقضه وفي

الوفاء به هلاكه، فإنه يستحسن الوفاء بالعهد والامتناع من النقض. فبان أن الحسن والقبح معنى سوى ما ذكرتموه. والجواب أن في الوقوف على الغلطات المذكورة ما يشفي هذا الغليل. أما ترجيح الانقاذ على الاهمال في حق من لا يعتقد الشرع فهو دفع للأذى الذي يلحق الانسان في رقة الجنسية، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه. ولأن الانسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره قادراً على انقاذه مع الإعراض عنه، ويجد من نفسه استقباح ذلك فيعود عليه ويقدر ذلك من المشرف على الهلاك في حق نفسه فينفره طبعه عما يعتقده من أن المشرف على الهلاك في حقه، فيندفع ذلك عن نفسه بالانقاذ، فإن فرض ذلك في بهيمة لا يتوهم استقباحها أو فرض في شخص لا رقة فيه ولا رحمة فهذا مجال تصوره، إذ الانسان لا ينفك عنه فإن فرض على الاستحالة فيبقى أمر آخر وهو الثناء بحسن الخلق والشفقة على الخلق، فإن فرض حيث لا يعلمه أحد فهو ممكن أن يعلمه، فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى أيضاً ترجيح في نفسه وميل يضاهي نفرة طبع السليم عن الخبل، وذلك أنه رأى الثناء مقروناً بمثل هذا الفعل على الاطراد، وهو يميل إلى الثناء فيميل إلى المقرون به. وإن علم بعقله عدم الثناء. كما إنه لما رأى الأذى مقروناً بصورة الخبل. وطبعه ينفر عن الأذى فينفر عن المقرون به، وإن علم بعقله عدم الأذى بل الطبع إذا رأى من يعشقه في موضع وطال معه أنسه فيه فإنه يحس من نفسه تفرقة بين ذلك الموضع وحيطانه وبين سائر المواضع ولذلك قال الشاعر: تصوره، إذ الانسان لا ينفك عنه فإن فرض على الاستحالة فيبقى أمر آخر وهو الثناء بحسن الخلق والشفقة على الخلق، فإن فرض حيث لا يعلمه أحد فهو ممكن أن يعلمه، فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى أيضاً ترجيح في نفسه وميل يضاهي نفرة طبع السليم عن الخبل، وذلك أنه رأى الثناء مقروناً بمثل هذا الفعل على الاطراد، وهو يميل إلى الثناء فيميل إلى المقرون به. وإن علم بعقله عدم الثناء. كما إنه لما رأى الأذى مقروناً بصورة الخبل. وطبعه ينفر عن الأذى فينفر عن المقرون به، وإن علم بعقله عدم الأذى بل الطبع إذا رأى من يعشقه في موضع وطال معه أنسه فيه فإنه يحس من نفسه تفرقة بين ذلك الموضع وحيطانه وبين سائر المواضع ولذلك قال الشاعر: أمر على جدار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وقال ابن الرومي منبهاً على سبب حب الناس الأوطان ونعم ما قال: وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وإذا تتبع الانسان الأخلاق والعادات رأى شواهد هذا خارجة عن الحصر، فهذا هو السبب الذي هو غلط المغترين بظاهر الأمور، الذاهلين عن أسرار أخلاق النفوس، الجاهلين بأن هذا الميل وأمثاله يرجع إلى طاعة النفس بحكم الفطرة والطبع بمجرد الوهم. والخيال الذي هو غلط يحكم العقل ولكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام والتخيلات بحكم اجراء العادات، حتى إذا تخيل الإنسان طعاماً طيباً بالتذكر أو بالرؤية سال في الحال لعابه وتحلبت أشداقه، وذلك بطاعة القوة التي سخرها الله تعالى لإفاضة اللعاب المعين على المضغ للتخيل والوهم، فإن شأنها أن تنبعث بحسب التخيل وإن

كان الشخص عالماً بأنه ليس يريد الإقدام على الأكل بصوم أو بسبب آخر وكذلك يتخيل الصورة الجميلة التي يشتهي مجامعتها، فكما ثبت ذلك في الخيال انبعثت القوة الناشرة لآلة الفعل وساقت الرياح إلى تجاويف الأعصاب وملأتها، وثارت القوة المأمورة بصب المذي الرطب المعين على الوقاع، وذلك كله مع التحقيق بحكم العقل للامتناع عن الفعل في ذلك الوقت. ولكن الله تعالى خلق هذه القوى بحكم طرد العادة مطيعة مسخرة تحت حكم الخيال، والوهم ساعد العقل الوهم أو لم يساعده، فهذا وأمثاله منشأ الغلط في سبب ترجيح أحد جانبي الفعل على الآخر. وكل ذلك راجع إلى الأغراض، فأما النطق بكلمة الكفر وإن كان كذلك فلا يستقبحه العاقل تحت السيف البتة بل ربما يستقبح الاصرار، فإن استحسن الاصرار فله سببان: أحدهما، اعتقاده أن الثواب على الصبر والاستسلام أكثر، والآخر، ما ينتظر من من الثناء عليه بصلابته في الدين، فكم من شجاع يمتطي متن الخطر ويتهجم على عدد يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله بما يعتاضه عنه من لذة الثناء والحمد بعد موته وكذلك الامتناع عن نقض العهد بسببه ثناء الخلق على من يفي بالعهد، وتواصيهم به على مر الأوقات لما فيها من مصالح الناس. فإن قدر حيث لا ينتظر ثناء فسببه حكم الوهم من حيث أنه لم يزل مقروناً بالثناء الذي هو لذيذ، والمقرون باللذيذ لذيذ، كما أن المقرون بالمكروه مكروه كما سبق في الأمثلة، فهذا ما يحتمله هذا المختصر من بث أسرار هذا الفصل، وإنما يعرف قدره من طال في المعقولات نظره، وقد استفدنا بهذه المقدمة إيجاز الكلام في الدعاوى فلنرجع إليها. الدعوى الأولى: ندعي أنه يجوز لله تعالى أن لا يخلق الخلق، وإذا خلق فلم يكن ذلك واجباً عليه، وإذا خلقهم فله أن لا يكلفهم، وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجباً عليه. وقالت طائفة من المعتزلة يجب عليه الخلق والتكليف واجب، غير مفهوم؛ فإنا بينا أن المفهوم عندنا من لفظ الواجب ما ينال تاركه ضرر، إما عاجلاً وإما آجلاً، أو ما يكون نقيضه محال، والضرر محال في حق الله تعالى. وليس في ترك التكليف وترك الخلق لزوم محال، إلا أن يقال كان يؤدي ذلك إلى خلاف ما سبق به العلم في الأزل وما سبقت به المشيئة في الأزل، فهذا حق وهو بهذا التأويل واجب، فإن الإرادة

إذا فرضت موجودة، أو العلم إذا فرض متعلقاً بالشيء، كان حصول المراد والمعلوم واجباً لا محالة. فإن قيل: إنما يجب عليه ذلك لفائدة الخلق لا لفائدة ترجع إلى الخالق سبحانه وتعالى، قلنا: الكلام في قولكم لفائدة الخلق للتعليل، والحكم المعلل هو الوجوب، ونحن نطالبكم بتفهيم الحكم فلا يعنيكم ذكر العلة؛ فما معنى قولكم إنه يجب لفائدة الخلق وما معنى الوجوب ونحن لا نفهم من الوجوب إلا المعاني الثلاثة، وهي منعدمة، فإن أردتم معنى رابعاً ففسروه أولاً ثم اذكروا علته، فإنا ربما لا ننكر أن للخلق في الخلق فائدة، وكذا في التكليف، ولكن ما فيه فائدة غيره لم يجب عليه إذا لم يكن له فائدة في فائدة غيره. وهذا لا مخرج عنه أبداً، على أنا نقول إنما يستقيم هذا الكلام في الخلق لا في التكليف، ولا يستقيم في هذا الخلق الموجود بل في أن يخلقهم في الجنة متنعمين، من غير هم وضرر وغم وألم، وأما هذا الخلق الموجود فالعقلاء كلهم قد تمنوا العدم، وقال بعضهم: ليتني كنت نسياً منسياً، وقال آخر ليتني لم أك شيئاً، وقال آخر ليتني كنت تبنة رفعها من الأرض، قال آخر يشير إلى طائر ليتني كنت ذلك الطائر. وهذا قول الأنبياء والأولياء وهم العقلاء، فبعضهم يتمنى عدم الخلق وبعضهم يتمنى عدم التكليف بأن يكون جماداً أو طائراً، فليت شعري كيف يستجيز العاقل في أن يقول: للخلق في التكليف فائدة وإنما معنى الفائدة نفي الكلفة، والتكليف في عينه إلزام كلفة وهو ألم، وإن نظر إلى الثواب فهو الفائدة، وكان قادراً على إيصاله إليهم بغير تكليف، فإن قيل: الثواب إذا كان باستحقاق كان ألذ وأوقع من أن يكون بالامتنان والابتداء، والجواب: أن الاستعاذة بالله تعالى من عقل ينتهي إلى التكبر على الله عز وجل والترفع من احتمال منته وتقدير اللذة في الخروج من نعمته أولى من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ وليت شعري كيف يعد من العقلاء من يخطر بباله مثل هذه الوساوس، ومن يستثقل المقام أبد الآباد في الجنة من غير تقدم تعب وتكليف أخس من أن يناظر أو يخاطب. هذا لو سلم أن الثواب بعد التكليف يكون مستحقاً، وسنبين نقيضه. ثم ليت شعري الطاعة التي بها يستحق الثواب من أين وجدها العبد؟ وهل لها سبب سوى وجوده وقدرته وإرادته وصحة أعضائه وحضور أسبابه؟ وهل لكل ذلك مصدر إلا فضل الله ونعمته؛ فنعوذ بالله من الانخلاع عن غريزة العقل بالكلية، فإن هذا الكلام من هذا النمط، فينبغي أن يسترزق الله تعالى عقلاً لصاحبه ولا يشتغل بمناظرته.

الدعوى الثانية: إن لله تعالى أن يكلف العباد ما يطيقونه وما لا يطيقونه، وذهب المعتزلة إلى انكار ذلك، ومعتقد أهل السنة أن التكليف له حقيقة في نفسه وهو أنه كلام وله مصدر وهو المكلف، ولا شرط فيه إلا كونه متكلماً، وله مورد وهو المكلف وشرطه أن يكون فاهماً للكلام فلا يسمى الكلام مع الجماد والمجنون خطاباً ولا تكليفاً، والتكليف نوع خطاب وله متعلق وهو المكلف به وشرطه أن يكون مفهوماً فقط، وأما كونه ممكناً فليس بشرط لتحقيق الكلام فإن التكليف كلام، فإذا صدر ممن يفهم مع من يفهم فيما يفهم وكان المخاطب دون المخاطب سمي تكليفاً، وإن كان مثله سمي التماساً، وإن كان فوقه سمي دعاء وسؤالاً، فالاقتضاء في ذاته واحد وهذه الأسامي تختلف عليه باختلاف النسبة، وبرهان جواز ذلك أن استحالته لا تخلو إما أن تكون لامتناع تصور ذاته، كاجتماع السواد والبياض، أو كان لأجل الاستقباح، وباطل أن يكون امتناعه لذاته، فإن السواد والبياض لا يمكن أن يفرض مجتمعاً، وفرض هذا ممكن إذ التكليف لا يخلو إما أن يكون لفظاً وهو مذهب الخصم وليس بمستحيل أن يقول الرجل لعبده الزمن قم، فهو على مذهبهم أظهر وأما نحن فإنا نعتقد أنه اقتضاء يقوم بالنفس. وكما يتصور أن يقوم اقتضاء القيام بالنفس من قادر فيتصور ذلك من عاجز بل ربما يقوم ذلك بنفسه من قادر ثم يبقى ذلك الاقتضاء ونظر الزمانة والسيد لا يدري. ويكون الاقتضاء قائماً بذاته وهو اقتضاء قائم من عاجز في علم الله تعالى، وإن لم يكن معلوماً عند المقتضي فإن علمه لا يحيل بقاء الاقتضاء مع العلم بالعجز عن الوفاء وباطل أن يقال بطلان ذلك من جهة الاستحسان، فإن كلامنا في حق الله تعالى، وذلك باطل في حقه لتنزهه عن الأغراض ورجوع ذلك إلى الأغراض. أما الانسان العاقل المضبوط بغالب الأمر فقد يستقبح ذلك وليس ما يستقبح من العبد يستقبح من الله تعالى. فإن قيل: فهو مما لا فائدة فيه وما لا فائدة فيه فهو عبث والعبث على الله تعالى محال. قلنا: هذه ثلاث دعاوى: الأولى: إنه لا فائدة فيه، ولا نسلم، فلعل فيه فائدة لعباد اطلع الله عليها. وليست الفائدة هي الامتثال والثواب عليه بل ربما يكون في إظهار الأمر وما يتبعه من اعتقاد التكليف فائدة، فقد ينسخ الأمر قبل الامتثال كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الامتثال، وأمر أبا جهل بالايمان وأخبر أنه لا يؤمن وخلاف خبره محال.

الدعوى الثانية: إن ما لا فائدة فيه فهو عبث، فهذا تكرير عبارة؛ فإنا بينا أنه لا يراد بالعبث إلا ما لا فائدة فيه فإن أريد به غيره فهو غير مفهوم. الدعوى الثالثة: إن العبث على الله تعالى محال، وهذا فيه تلبيس، لأن لأن العبث عبارة عن فعل لا فائدة فيه ممن يتعرض للفوائد، فمن لا يتعرض لها فتسميته عابثاً مجاز محض لا حقيقة له يضاهي قول القائل الريح عابثة بتحيكها الأشجار إذ لا فائدة لها فيه، ويضاهي قول القائل الجدار غافل أي هو خال عن العلم والجهل وهذا باطل لأن الغافل يطلق على القابل للجهل والعلم إذا خلا عنهما، فاطلاقهما على الذي لا يقبل العلم مجاز لا أصل له، وكذلك اطلاق اسم العابث على الله تعالى واطلاق العبث على أفعاله سبحانه وتعالى، والدليل الثاني في المسألة، ولا محيص لأحد عنه، أن الله تعالى كلف أبا جهل أن يؤمن وعلم أنه لا يؤمن، وأخبر عنه بأنه لا يؤمن، فكأنه أمر بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، إذ كان من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنه لا يؤمن وكان هو مأموراً بتصديقه، فقد قيل له صدق بأنك لا تصدق، وهذا محال. وتحقيقه أن خلاف المعلوم محال وقوعه ولكن ليس محالاً لذاته، بل هو محال لغيره، والمحال لغيره في امتناع الوقوع كالمحال لذاته، ومن قال إن الكفار الذين لم يؤمنوا ما كانوا مأمورين بالايمان فقد جحد الشرع، ومن قال كان الايمان منهم متصوراً مع علم الله سبحانه وتعالى بأنه لا يقع، فقد اضطر كل فريق إلى القول بتصور الأمر بما لا يتصور امتثاله، ولا يغني عن هذا قول القائل إنه كان مقدوراً عليه وكان للكافر عليه قدرة، أما على مثلنا فلا قدرة قبل الفعل ولم تكن لهم قدرة إلا على الكفر الذي صدر منهم، وأما عند المعتزلة فلا يمتنع وجود القدرة ولكن القدرة غير كافية لوقوع المقدور بل له شرط كالارادة وغيرها، ومن شروطه أن لا ينقلب علم الله تعالى جهلاً. والقدرة لا تراد لعينها بل لتيسيير الفعل بها، فكيف يتيسر فعل يؤدي إلى انقلاب العلم جهلاً؟ فاستبان أن هذا واقع في ثبوت التكليف بما هو محال لغيره، فكذا يقاس عليه ما هو محال لذاته إذ لا فرق بينهما في إمكان التلفظ ولا في تصور الاقتضاء ولا في الاستقباح والاستحسان. الدعوى الثالثة: ندعي أن الله تعالى قادر على إيلام الحيوان البريء عن الجنايات ولا يلزم عليه ثواب. وقالت المعتزلة إن ذلك محال لأنه قبيح، ولذلك لزمهم المصير إلى أن كل بقة وبرغوث أو ذي بعرة أو صدمة فإن الله عز وجل يجب عليه أن يحشره ويثيبه عليه

بثواب، وذهب ذاهبون إلى أن أرواحها تعود بالتناسخ إلى أبدان أُخر وينالها من اللذة ما يقابل تعبها؛ وهذا مذهب لا يخفى فساده، ولكنا نقول: أما إيلام البريء عن الجناية من الحيوان والأطفال والمجانين فمقدور بما هو مشاهد محسوس، فيبقى قول الخصم إن ذلك يوجب عليه الحشر والثواب بعد ذلك فيعود إلى معنى الواجب، وقد بان استحالته في حق الله تعالى، وإن فسروه بمعنى رابع فهو غير مفهوم، وإن زعموا أن تركه يناقض كونه حكيماً فنقول: إن الحكمة إن اريد بها العلم بنظام الأمور والقدرة على ترتيبها كما سبق فليس في هذا ما يناقضه، وإن أريد بها أمراً آخر فليس يجب له عندنا من الحكم إلا ما ذكرناه، وما وراء ذلك لفظ لا معنى له. فإن قيل فيؤدي إلى أن يكون ظالماً وقد قال: " وما ربك بظلام للعبيد " قلنا: الظلم منفي عنه بطريق السلب المحض كما تسلب الغفلة عن الجدار والعبث عن الريح، فإن الظلم إنما يتصور ممن يمكن أن يصادف فعله ملك غيره، ولا يتصور ذلك في حق الله تعالى أو يمكن أن يكون عليه أمر فيخالف فعله أمر غيره، ولا يتصور من الانسان أن يكون ظالماً لما في ملك نفسه بكل ما يفعله إلا إذا خالف أمر الشرع فيكون ظالماً بهذا المعنى، فمن لا يتصور منه أن يتصرف في ملك غيره ولا يتصور منه أن يكون تحت أمر غيره كان الظلم مسلوباً عنه لفقد شرطه المصحح له لا لفقده في نفسه، فلتفهم هذه الدقيقة فإنها مزلة القدم، فإن فسر الظلم بمعنى سوى ذلك فهو غير مفهوم ولا يتكلم فيه بنفي ولا إثبات. الدعوى الرابعة: ندعي أنه لا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده، بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، خلافاً للمعتزلة فإنهم حجروا على الله تعالى في أفعاله وأوجبوا عليه رعاية الأصلح. ويدل على بطلان ذلك ما دل على نفي الوجوب على الله تعالى كما سبق وتدل عليه المشاهدة والوجود، فإنا نريهم من أفعال الله تعالى ما يلزمهم الاعتراف به بأنه لا صلاح للعبيد فيه، فإنا نفرض ثلاثة أطفال مات أحدهم وهو مسلم في الصبا، وبلغ الآخر وأسلم ومات مسلماً بالغاً، وبلغ الثالث كافراً ومات على الكفر، فإن العدل عندهم أن يخلد الكافر البالغ في النار، وأن يكون للبالغ المسلم في الجنة رتبة فوق رتبة الصبي المسلم، فإذا قال الصبي المسلم: يا رب لم حططت رتبتي عن رتبته؟ فيقول: لأنه بلغ فأطاعني وأنت لم تطعني بالعبادات بعد البلوغ، فيقول: يا رب لأنك

أمتني قبل البلوغ فكان صلاحي في أن تمدني بالحياة حتى أبلغ فأطيع فأنال رتبته فلم حرمتني هذه الرتبة أبد الآبدين وكنت قادراً على أن توصلني لها؟ فلا يكون له جواب إلا أن يقول: علمت أنك لو بلغت لعصيت وما أطعت وتعرضت لعقابي وسخطي فرأيت هذه الرتبة النازلة أولى بك وأصلح لك من العقوبة، فينادي الكافر البالغ من الهاوية ويقول: يا رب أو ما علمت أني إذا بلغت كفرت فلو أمتني في الصبا وأنزلتني في تلك المنزلة النازلة لكان أحب إلي من تخليد النار وأصلح لي، فلم أحييتني وكان الموت خيراً لي؟ فلا يبقى له جواب البتة، ومعلوم أن هذه الأقسام الثلاثة موجودة، وبه يظهر على القطع أن الأصلح للعباد كلهم ليس بواجب ولا هو موجود. الدعوى الخامسة: ندعي أن الله تعالى إذا كلف العباد فأطاعوه لم يجب عليه الثواب، بل إن شاء أثابهم وإن شاء عاقبهم وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم، ولا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين، ولا يستحيل ذلك في نفسه ولا يناقض صفة من صفات الإلهية، وهذا لأن التكليف تصرف في عبيده ومماليكه، أما الثواب ففعل آخر على سبيل الابتداء، وكونه واجباً بالمعاني الثلاثة غير مفهوم ولا معنى للحسن والقبيح، وإن أريد له معنى آخر فليس بمفهوم إلا أن يقال إنه يصير وعده كذباً وهو محال، ونحن نعتقد الوجوب بهذا المعنى ولا ننكره. فإن قيل: التكليف مع القدرة على الثواب وترك الثواب قبيح، قلنا: إن عنيتم بالقبح أنه مخالف غرض المكلف فقد تعالى المكلف وتقدس عن الأغراض، وإن عنيتم به أنه مخالف غرض المكلف مسلم لكن ما هو قبيح عند المكلف لم يمتنع عليه فعله إذا كان القبيح والحسن عنده وفي حقه بمثابة واحدة. على أنا لو نزلنا على فاسد معتقدهم فلا نسلم أن من يستخدم عبده يجب عليه في العادة ثواب، لأن الثواب يكون عوضاً عن العمل فتبطل فائدة الرق وحق على العبد أن يخدم مولاه لأنه عبده، فإن كان لأجل عوض فليس ذلك خدمة، ومن العجائب قولهم: إنه يجب الشكر على العباد لأنهم عباد، قضاءً لحق نعمته، ثم يجب عليه الثواب على الشكر وهذا محال؛ لأن المستحق إذا وفى لم يلزمه فيه عوض، ولو جاز ذلك للزم على الثواب شكر مجدد وعلى هذا الشكر ثواب مجدد ويتسلسل إلى غير نهاية، ولم يزل العبد والرب كل واحد منهما أبداً مقيداً بحق الآخر، وهو محال. وأفحش من هذا قولهم: إن كل من كفر فيجب على الله تعالى أن يعاقبه أبداً ويخلده في النار، بل كل من قارف كبيرة ومات قبل التوبة يخلد في النار،

وهذا جهل بالكرم والمروءة والعقل والعادة والشرع وجميع الأمور، فإنا نقول: العبادة قاضية والعقول مشيرة إلى أن التجاوز والصفح أحسن من العقوبة، والانتقام وثناء الناس على العافي أكثر من ثنائهم للمنتقم، واستحسانهم للعفو أشد، فكيف يستقبح العفو والإنعام ويستحسن طول الانتقام! ثم هذا في حق من أذته الجناية وغضت من قدره المعصية، والله تعالى يستوي في حقه الكفر والايمان والطاعات والعصيان فهما في حق إلاهيته وجلاله سيان، ثم كيف يستحسن أن سلك طريق المجازاة واستحسن ذلك تأييد العقاب خالداً مخلداً في مقابلته العصيان بكلمة واحدة في لحظة. ومن انتهى عقله في الاستحسان إلى هذا الحد كانت دار المرضى أليق به من مجامع العلماء. على أنا نقول: لو سلك سالك ضد هذا الطريق بعينه كان أقوم قيلا وأجرى على قانون الاستحسان والاستقباح الذي تقضي به الأوهام والخيالات كما سبق، وهو أن نقول: الانسان يقبح منه أن يعاقب على جناية سبقت وجناية تداركها إلا لوجهين: أحدهما، أن يكون في العقوبة زجر ورعاية مصلحة في المستقبل فيحسن ذلك خيفة من فوات غرض في المستقبل، فإن لم يكن فيه مصلحة في المستقبل أصلاً فالعقوبة بمجرد المجازاة على ما سبق قبيح لأنه لا فائدة فيه للمعاقب ولا لأحد سواه، والجاني متأذ به ودفع الأذى عنه أحسن، وإنما يحسن الأذى لفائدة ولا فائدة، وما مضى فلا تدارك له فهو في غاية القبح. والوجه الثاني، أن نقول: إنه إذا تأذى المجني عليه واشتد غيظه فذلك الغيظ مؤلم وشفاء الغيظ مريح من الألم، والألم بالجاني أليق، ومهما عاقب الجاني زال منه ألم الغيظ واختص بالجاني فهو أولى، فهذا أيضاً له وجه ما وإن كان دليلاً على نقصان العقل وغلبة الغضب عليه. فأما إيجاب العقاب حيث لا يتعلق بمصلحة في المستقبل لأحد في عالم الله تعالى ولا فيه دفع أذى عن المجني عليه ففي غاية القبح، فهذا أقوم من قول من يقول إن ترك العقاب في غاية القبح، والكل باطل واتباع الموجب الأوهام التي وقعت بتوهم الأغراض، والله تعالى متقدس عنها ولكنا أردنا معارضة الفاسد ليتبين به بطلان خيالهم. الدعوى السادسة: ندعي أنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة الله تعالى وشكر نعمته، خلافاً للمعتزلة، حيث قالوا إن العقل بمجرده موجب، وبرهانه أن نقول: العقل يوجب النظر وطلب المعرفة لفائدة مرتبة عليه أو مع الاعتراف بأن وجوده وعدمه

في حق الفوائد عاجلاً وآجلاً بمثابة واحدة، فإن قلتم: يقتضي بالوجوب مع الاعتراف بأنه لا فائدة فيه قطعاً عاجلاً وآجلاً فهذا حكم الجهل لا حكم العقل، فإن العقل لا يأمل بالعبث، وكلما هو خال عن الفوائد كلها فهو عبث، وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود تعالى وتقدس عن الفوائد، وإن رجعت إلى العبد فلا يخلو أن يكون في الحال أو في المآل، أما في الحال فهو تعب لا فائدة فيه وأما في المآل فالمتوقع الثواب. ومن أين علمتم أنه يثاب على فعله بل ربما يعاقب على فعله، فالحكم عليه بالثواب حماقة لا أصل لها.. فإن قيل: يخطر بباله أن له رباً إن شكره أثابه وأنعم عليه وإن كفر أنعمه عاقبه عليه، ولا يخطر بباله البتة جواز العقوبة على الشكر والاحتزاز عن الضرر الموهوم في قضية العقل كالاحتراز عن العلوم. قلنا: نحن لا ننكر أن العاقل يستحثه طبعه عن الاحتراز من الضرر موهوماً ومعلوماً، فلا يمنع من إطلاق اسم الايجاب على هذا الاستحثاث فإن الاصطلاحات لا مشاحة فيها، ولكن الكلام في ترجيح جهة الفعل على جهة الترك في تقرير الثواب بالعقاب مع العلم بأن الشكر وتركه في حق الله تعالى سيان لا كالواحد منا فإنه يرتاح بالشكر والثناء ويهتز له ويستلذه ويتآلم بالكفران ويتأذى به، فإذا ظهر استواء الأمرين في حق الله تعالى فالترجيح لأحد الجانبين محال، بل ربما يخطر بباله نقيضه وهو أنه يعاقب على الشكر لوجهين: أحدهما، أن اشتغاله به تصرف في فكره وقلبه باتعابه صرفه عن الملاذ والشهوات وهو عبد مربوب خلق له شهوة ومكن من الشهوات، فلعل المقصود أن يشتغل بلذات نفسه واستيفاء نعم الله تعالى وأن لا يتعب نفسه فيما لا فائدة لله فيه فهذا الاحتمال أظهر. الثاني، أن يقيس نفسه على من يشكر ملكاً من الملوك بأن يبحث عن صفاته وأخلاقه ومكانه وموضع نومه مع أهله وجميع أسراره الباطنة مجازاة على إنعامه عليه، فيقال له أنت بهذا الشكر مستحق لحز الرقبة، فما لك ولهذا الفضول ومن أنت حتى تبحث عن أسرار الملوك وصفاتهم وأفعالهم وأخلاقهم، ولماذا لا تشتغل بما يهمك، فالذي يطلب معرفة معرفة الله تعالى كأنه إن تعرف دقائق صفات الله تعالى وأفعاله وحكمته وأسراره في أفعاله وكل ذلك مما لا يؤهل له إلا من له منصب فمن أين عرف العبد أنه مستحق لهذا المنصب؟ فاستبان أن ما أخذهم أنهام رسخت منهم من العادات، تعارضها أمثالها ولا محيص عنها. فإن قيل: فإن لم يكن مدركاً لوجوب مقتضى العقول أدى ذلك إلى إفحام

الرسول، فإنه إذا جاء بالمعجزة وقال انظروا فيها، فللمخاطب أن يقول إن لم يكن النظر واجباً فلا اقدم عليه وإن كان واجباً فيستحيل أن يكون مدركه العقل، والعقل لا يوجب، ويستحيل أن يكون مدركه الشرع، والشرع لا يثبت إلا بالنظر في المعجزة ولا يجب النظر قبل ثبوت الشرع فيؤدي إلى أن لا يظهر صحة النبوة أصلاً. والجواب أن هذا السؤال مصدره الجهل بحقيقة الوجوب، وقد بينا أن معنى الوجوب ترجيح جانب الفعل على الترك بدفع ضرر موهوم في الترك أو معلوم، وإذا كان هذا هو الوجوب فالموجب هو المرجح وهو الله تعالى، فإنه إذا ناط العقاب بترك النظر ترجح فعله على تركه، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه واجب مرجح بترجح الله تعالى في ربطه العقاب بأحدهما. وأما المدرك فعبارة عن جهة معرفة الوجوب لا عن نفس الوجوب، وليس شرط الواجب أن يكون وجوبه معلوماً، بل أن يكون علمه متمكناً لمن أراده. فيقول النبي إن الكفر سم مهلك والإيمان شفاء مسعد بأن جعل الله تعالى أحدهما مسعداً والآخر مهلكاً، ولست أوجب عليك شيئاً، فزن الايجاب هو الترجيح والمرجح هو الله تعالى وإنما أنا مخبر عن كونه سم ومرشد لك إلى طريق تعرف به صدقي وهو النظر في المعجزة، فإن سلكت الطريق عرفت ونجوت؛ وإن تركت هلكت. ومثاله مثال طبيب انتهى إلى مريض وهو متردد بين دوائين موضوعين بين يديه، فقال له أما هذا فلا تتناوله فإنه لهلك للحيوان وأنت قادر على معرفته بأن تطعمه هذا السنور فيموت على الفور فيظهر لك ما قلته. وأما هذا ففيه شفاؤك وأنت قادر على معرفته بالتجربات وهو إن تشربه فتشفى فلا فرق في حقي ولا في حق أُستاذي بين أن يهلك أو يشفى فإن أُستاذي غني عن بقائك وأنا أيضاً كذلك، فعند هذا لو قال المريض هذا يجب علي بالعقل أو بقولك وما لم يظهر لي هذا لم أشتغل بالتجربة كان مهلكاً نفسه ولم يكن عليه ضرر، فكذلك النبي قد أخبره الله تعالى بأن الطاعة شفاء والمعصية داء وأن الإيمان مسعد والكفر مهلك وأخبره بأنه غني عن العالمين سعدوا أم شقوا فإنما شأن الرسول أن يبلغ ويرشد إلى طريقة المعرفة وينصرف، فمن نظر فلنفسه ومن قصر فعليها، وهذا واضح. فإن قيل: فقد رجع الأمر إلى أن العقل هو الموجب من حيث أنه بسماع كلامه ودعواه يتوقع عقاباً فيحمله العقل على الحذر ولا يحصل إلا بالنظر فيوجب عليه النظر، قلنا: الحق الذي يكشف الغطاء في هذا من غير اتباع وهم وتقليد أمر هو أن الوجوب كما بأن عبارة عن نوع رجحان في الفعل، والموجب هو الله تعالى لأنه هو المرجح، والرسول مخبر عن الترجيح، والمعجزة دليل على صدقه في الخبر، والنظر

سبب في معرفة الصدق، والعقل آلة النظر والفهم معنى الخبر، والطبع مستحث على الحذر بعد فهم المحذور بالعقل، فلا بد من طبع يخالفه العقوبة للدعوة ويوافقه الثواب الموعود ليكون مستحثاً، ولكن لا يستحث ما لم يفهم المحذور ولم يقدره ظناً أو علماً، ولا يفهم إلا بالعقل والعقل لا يفهم الترجيح بنفسه بل بسماعه من الرسول، والرسول لا يرجح الفعل على الترك بنفسه بل الله هو المرجح والرسول مخبر، وصدق الرسول لا يظهر بنفسه بل المعجز، والمعجزة لا تدل ما لم ينظر فيها، والنظر بالعقل، فإذاً قد انكشفت المعاني، والصحيح في الألفاظ أن يقال: الوجوب هو الرجحان والموجب هو الله تعالى، والمخبر هو الرسول، المعرف للمحذور وصدق الرسول هو العقل، والمستحث على سلوك سبب الخلاص وهو الطبع، وكذلك ينبغي أن يفهم الحق في هذه المسألة ولا يلتفت إلى الكلام المعتاد الذي لا يشفي الغليل ولا يزيل الغموض. لفهم معنى الخبر، والطبع مستحث على الحذر بعد فهم المحذور بالعقل، فلا بد من طبع يخالفه العقوبة للدعوة ويوافقه الثواب الموعود ليكون مستحثاً، ولكن لا يستحث ما لم يفهم المحذور ولم يقدره ظناً أو علماً، ولا يفهم إلا بالعقل والعقل لا يفهم الترجيح بنفسه بل بسماعه من الرسول، والرسول لا يرجح الفعل على الترك بنفسه بل الله هو المرجح والرسول مخبر، وصدق الرسول لا يظهر بنفسه بل المعجز، والمعجزة لا تدل ما لم ينظر فيها، والنظر بالعقل، فإذاً قد انكشفت المعاني، والصحيح في الألفاظ أن يقال: الوجوب هو الرجحان والموجب هو الله تعالى، والمخبر هو الرسول، المعرف للمحذور وصدق الرسول هو العقل، والمستحث على سلوك سبب الخلاص وهو الطبع، وكذلك ينبغي أن يفهم الحق في هذه المسألة ولا يلتفت إلى الكلام المعتاد الذي لا يشفي الغليل ولا يزيل الغموض. الدعوى السابعة: ندعي أن بعثة الأنبياء جائز، وليس بمحال ولا واجب، وقالت المعتزلة إنه واجب، وقد سبق وجه الرد عليهم. وقالت البراهمة إنه محال، وبرهان الجواز أنه مهما قام الدليل على أن الله تعالى متكلم وقام الدليل على أنه قادر لا يعجز على أن يدل على كلام النفس بخلق ألفاظ وأصوات ورقوم أو غيرها من الدلالات، وقد قام دليل على جواز إرسال الرسل، فإنا لسنا نعني به إلا أن يقوم بذات الله تعالى خبر عن الأمر النافع في الآخرة والأمر الضار بحكم إجراء العادة، ويصدر منه فعل هو دلالة الشخص على ذلك الخبر وعلى أمره بتبليغ الخبر، ويصدر منه فعل خارق للعادة مقروناً

بدعوى ذلك الشخص الرسالة، فليس شيء من ذلك محالاً لذاته، فإنه يرجع إلى كلام النفس وإلى اختراع ما هو دلالة على الكلام وما هو مصدق للرسول وإن حكم باستحالة ذلك من حيث الاستقباح والاستحسان، فقد استأصلنا هذا الأصل في حق الله تعالى ثم لا يمكن أن يدعي قبح إرسال الرسول على قانون الاستقباح، فالمعتزلة مع المصير إلى ذلك لم يستقبحوا هذا فليس إدراك قبحه ولا إدراك امتناعه في ذاته ضرورياً فلا بد من ذكر سببه. وغاية ما هو به ثلاثة شبه: الأولى: قولهم: إنه لو بعث النبي بما تقتضيه العقول ففي العقول غنية عنه وبعثة الرسول عبث، وذلك وعلى الله محال، وإن بعث بما يخالف العقول استحال التصديق والقبول. الثانية: إنه يستحيل العبث لأنه يستحيل تعريف صدقه، لأن الله تعالى لو شافه الخلق بتصديقه وكلمهم جهاراً فلا حاجة إلى رسول، وإن لم يشافه به فغايته الدلالة على صدقه بفعل خارق للعادة، ولا يتميز ذلك عن السحر والطلسمات وعجائب الخواص وهي خارقة للعادات عند من لا يعرفها، وإذا استويا في خرق العادة لم يؤمن ذلك فلا يحصل العلم بالتصديق. الثالثة: إنه إن عرف تمييزها عن السحر والطلسمات والتخيلات فمن أين يعرف الصدق؟ ولعل الله تعالى أراد إضلالنا وإغواءنا بتصديقه ولعل كل ما قال النبي إنه مسعد فهو مشقي، وكلما قال مشقي فهو مسعد، ولكن الله أراد أن يسوقنا إلى الهلاك ويغوينا بقول الرسول، فإن الإضلال والإغواء غير محال على الله تعالى عندكم، إذ العقل لا يحسن ولا يقبح؛ وهذه أقوى شبهة ينبغي أن يجادل بها المعتزلي عند رومه إلزام القول بتقبيح العقل، إذ يقول: إن لم يكن الاغواء قبيحاً فلا يعرف صدق الرسل قط ولا يعلم أنه ليس باضلال. والجواب أن نقول: أما الشبهة الأولى فضعيفة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرد مخبراً بما لا تشتغل العقول بمعرفته، ولكن تستقل بفهمه إذا عرف، فإن العقل لا يرشد إلى النافع والضار من الأعمال والأقوال والأخلاق والعقائد، ولا يفرق بين المشقى والمسعد، كما لا يستقل بدرك خواص الأدوية والعقاقير، ولكنه إذا عرف فهم وصدق وانتفع بالسماع فيجتنب الهلاك ويقصد المسعد، كما ينتفع بقول الطبيب في معرفة الداء والدواء، ثم كما يعرف صدق الطبيب بقرائن الأحوال وأمور أُخر، فكذلك يستدل على صدق الرسول عليه السلام بمعجزات وقرائن وحالات فلا فرق. فأما الشبهة الثانية، وهو عدم تمييز المعجزة عن السحر والتخيل، فليس كذلك. فإن أحداً من العقلاء لم يجوز انتهاء السحر إلى إحياء الموتى، وقلب العصا ثعباناً،

وفلق القمر، وشق البحر، وإبراء الأكمه والأبرص، وأمثال ذلك. والقول الوجيز إن هذا القائل إن ادعى أن كل مقدور لله تعالى فهو ممكن تحصيله بالسحر فهو قول معلوم الاستحالة بالضرورة، وإن فرق بين فعل قوم وفعل قوم فقد تصور تصديق الرسول بما يعلم أنه ليس من السحر ويبقى النظر بعده في أعيان الرسل عليهم السلام وآحاد المعجزات وأن ما أظهروه من جنس ما يمكن تحصيله بالسحر أم لا، ومهما وقع الشك فيه لم يحصل التصديق به ما لم يتحد به النبي على ملأ من أكابر السحرة ولم يمهلهم مدة المعارضة ولم يعجزوا عنه، وليس الآن من غرضنا آحاد المعجزات. وأما الشبهة الثالثة، وهو تصور الإغواء من الله تعالى والتشكيك لسبب ذلك، فنقول: مهما علم وجه دلالة المعجزة على صدق النبي، علم أن ذلك مأمون عليه، وذلك بأن يعرف الرسالة ومعناها ويعرف وجه الدلالة فنقول: لو تحدى إنسان بين يدي ملك على جنده أنه رسول الملك إليهم وأن الملك أوجب طاعته عليهم في قسمة الأرزاق والاقطاعات، فطالبوه بالبرهان والملك ساكت، فقال: أيها الملك إن كنت صادقاً في ما ادعيته فصدقني بأن تقوم على سريرك ثلاث مرات على التوالي وتقعد على خلاف عادتك؛ فقام الملك عقيب التماسه على التوالي ثلاث مرات ثم قعد، حصل للحاضرين على ضروري بأنه رسول الملك قبل أن يخطر ببالهم أن هذا الملك من عادته الإغواء أم يستحيل في حقه ذلك. بل لو قال الملك صدقت وقد جعلت رسولاً ووكيلاً لعلم أنه وكيل ورسول، فإذا خالف العادة بفعله كان ذلك كقوله أنت رسولي، وهذا ابتداءً نصب وتولية وتفويض، ولا يتصور الكذب في التفويض وإنما يتصور في الإخبار، والعلم يكون هذا تصديقاً وتفويضاً ضرورياً، ولذلك لم ينكر أحد صدق الأنبياء من هذه الجهة، بل أنكروا كون ما جاء به الأنبياء خارقاً للعادة وحملوه على السحر والتلبيس أو أنكروا وجود رب متكلم آمر ناه مصدق مرسل، فأما من اعترف بجميع ذلك واعترف بكون المعجزة فعل الله تعالى حصل له العلم الضروري بالتصديق. فإن قيل: فهب أنهم رأوا الله تعالى بأعينهم وسمعوه بآذانهم وهو يقول هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم، فما الذي يؤمنكم أنه أغوى الرسول والمرسل إليه وأخبر عن المشقى بأنه مسعد وعن المسعد بأنه مشقى فإن ذلك غير محال إذا لم تقولوا بتقبيح العقول؟ بل لو قدر عدم الرسول ولكن قال الله تعالى شفاهاً وعياناً ومشاهدة: نجاتكم في الصوم والصلاة والزكاة وهلاككم في تركها، فبم نعلم صدقه؟ فلعله يلبس علينا ليغوينا ويهلكنا، فإن الكذب عندكم ليس قبيحاً لعينه وإن كان قبيحاً فلا يمتنع على الله تعالى ما هو قبيح وظلم، وما فيه فيه هلاك الخلق أجمعين.

والجواب: إن الكذب مأمون عليه، فإنه إنما يكون في الكلام وكلام الله تعالى ليس بصوت ولا حرف حتى يتطرق إليه التلبيس بل هو معنى قائم بنفسه سبحانه، فكل ما يعلمه الإنسان يقوم بذاته خبر عن معلومه على وفق علمه ولا يتصور الكذب فيه، وكذلك في حق الله تعالى. وعلى الجملة: الكذب في كلام النفس محال وفي ذلك الأمن عما قالوه. وقد اتضح بهذا أن الفعل مهما علم أنه فعل الله تعالى وأنه خارج عن مقدور البشر واقترن بدعوى النبوة حصل العلم الضروري بالصدق وكان الشك من حيث الشك في أنه مقدور البشر أم لا، فأما بعد معرفته كونه من فعل الله تعالى لا يبقى للشك مجال أصلاً البتة. فإن قيل فهل تجوزون الكرامات؟ قلنا: اختلف الناس فيه، والحق ذلك جائز فإنه يرجع إلى خرق الله تعالى العادة بدعاء إنسان أو عند حاجته وذلك مما لا يستحيل في نفسه لأنه ممكن، ولا يؤدي إلى محال آخر، فإنه لا يؤدي إلى بطلان المعجزة لأن الكرامة عبارة عما يظهر من غير اقتران التحدي به، فإن كان مع التحدي فإنا نسميه معجزة ويدل بالضرورة على صدق المتحدي؛ وإن لم تكن دعوى فقد يجوز ظهور ذلك على يد فاسق لأنه مقدور في نفسه؛ فإن قيل: فهل من المقدور إظهار معجزة على يد كاذب؟ قلنا: المعجزة مقرونة بالتحدي منه سبحانه نازلة منزلة قوله صدقت وأنت رسول، وتصديق الكاذب محال لذاته وكل من قال له أنت رسولي صار رسولاً وخرج عن كونه كاذباً، فالجمع بين كونه كاذباً وبين ما ينزل منزلة قوله أنت رسولي محال لأن معنى كونه كاذباً أنه ما قيل له أنت رسولي، ومعنى المعجزة أنه قيل له أنت رسولي؛ فإن فعل الملك على ما ضربنا من المثال كقوله أنت رسولي بالضرورة، فاستبان أن هذا غير مقدور لأنه محال والمحال لا قدرة عليه. فهذا تمام هذا القطب ولنشرع في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات ما اخبر هو عنه والله أعلم.

القطب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات ما أخبر هو عنه وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في اثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. الباب الثاني: في بيان إن ما جاء به من الحشر والنشر والصراط والميزان وعذاب القبر حق، وفيه مقدمة وفصلان. الباب الثالث: فيه نظر في ثلاثة أطراف. الباب الرابع: في بيان من يجب تكفيره من الفرق ومن لا يجب، والاشارة إلى القوانين التي ينبغي أن يعول عليها في التكفير، وبه اختتام الكتاب.

الباب الأول في اثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما نفتقر إلى إثبات نبوته، على الخصوص، وعلى ثلاثة فرق: الفرقة الأولى، العيسوية: حيث ذهبوا إلى أنه رسول إلى العرب فقط لا إلى غيرهم، وهذا ظاهر البطلان فإنهم اعترفوا بكونه رسولاً حقاً، ومعلوم أن الرسول لا يكذب، وقد ادعى هو أنه رسول مبعوث إلى الثقلين، وبعث رسوله إلى كسرى وقيصر وسائر ملوك العجم وتواتر ذلك منه فما قالوه محال متناقض. الفرقة الثانية، اليهود: فإنهم انكروا صدقه لا بخصوص نظر فيه وفي معجزاته، بل زعموا أنه لا نبي بعد موسى عليه السلام، فأنكروا نبوة محمد وعيسى عليهما السلام. فينبغي أن تثبت عليهم نبوة عيسى لأنه ربما يقصر فهمهم عن درك إعجاز القرآن ولا يقصرون عن درك إعجاز إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فيقال لهم ما الذي حملكم على التفريق بين من يستدل على صدقه بإحياء الموتى وبين من يستدل بقلب العصا ثعباناً؟ ولا يجدون إليه سبيلاً البتة، إلا أنهم ضلوا بشبهتين: إحداهما، قولهم: النسخ محال في نفسه لأنه يدل على البدء والتغيير وذلك محال على الله تعالى، والثانية لفهم بعض الملحدة أن يقولوا: قد قال موسى عليه السلام: عليكم بديني ما دامت السموات والأرض، وإنه قال إني خاتم الأنبياء. أما الشبهة الأولى فبطلانها بفهم النسخ، وهو عبارة عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت المشروط استمراره بعد لحقوق خطاب يرفعه، وليس من المحال أن يقول السيد لعبده قم مطلقاً، ولا يبين له مدة القيام، وهو يعلم أن القيام مقتضى منه إلى وقت بقاء مصلحته في القيام، ويعلم مدة مصلحته ولكن لا ينبه عليها، ويفهم العبد أنه مأمور بالقيام مطلقاً وأن الواجب الاستمرار عليه أبداً إلا أن يخاطبه السيد بالقعود؛ فإذا خاطبه بالقعود قعد ولم يتوهم بالسيد أنه بدا له أو ظهرت له مصلحة كان لا يعرفها، والآن قد عرفها، بل يجوز أن يكون قد عرف مدة مصلحة القيام وعرف أن الصلاح في أن لا ينبه العبد عليها ويطلق الأمر له إطلاقاً حتى يستمر على الامتثال، ثم إذا تغيرت مصلحته أمره بالقعود، فهكذا ينبغي أن يفهم اختلاف

أحكام الشرائع. فإن ورود النبي ليس بناسخ لشرع من قبله بمجرد بعثته، ولا في معظم الأحكام، ولكن في بعض الأحكام كتغير قبلة وتحليل محرم وغير ذلك، وهذه المصالح تختلف بالأعصار والأحوال فليس فيه ما يدل على التغير ولا على الاستبانة بعد الجهل ولا على التناقض. ثم هذا إنما يستمر لليهود إذ لو اعتقدوا أنه لم يكن شريعة من لدن آدم إلى زمن موسى لم ينكروا وجود نوح وإبراهيم وشرعهما، ولا يتميزون فيه عمن ينكر نبوة موسى وشرعه وكل ذلك إنكار ما علم على القطع بالتواتر. وأما الشبهة الثانية فسخيفة من وجهين. أحدهما، أنه لو صح ما قالوه عن موسى لما ظهرت المعجزات على يد عيسى، فإن ذلك تصديق بالضرورة، فكيف يصدق الله بالمعجزة من يكذب موسى وهو أيضاً مصدق له، أفتنكرون معجزة عيسى وجوداً أو تنكرون إحياء الموتى دليلاً على صدق المتحدي؟ فإن أنكروا شيئاً منهم لزمهم في شرع موسى لزوماً لا يجدون عنه محيصاً، وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب من نقل إليهم من موسى عليه السلام قوله إني خاتم الأنبياء. والثاني: أن هذه الشبهة إنما لقنوها بعد بعثة نبينا محمد عليه السلام وبعد وفاته، ولو كانت صحيحة لاحتج اليهود بها وقد حملوا بالسيف على الاسلام، وكان رسولنا عليه السلام مصدقاً بموسى عليه السلام وحاكماً على اليهود بالتوراة في حكم الرجم وغيره، فلا عرض عليه من التوارة ذلك، وما الذي صرفهم عنه ومعلوم قطعاً أن اليهود لم يحتجوا به لأن ذلك لو كان لكان مفحماً لا جواب عنه ولتواتر نقله، ومعلوم أنهم لم يتركوه مع القدرة عليه ولقد كانوا يحرصون على الطعن في شرعه بكل ممكن حمايةً لدمائهم وأموالهم ونسائهم، فإذا ثبت عليهم نبوة عيسى أثبتنا نبوة نبينا عليه السلام بما نثبتها على النصارى. الفرقة الثالثة، وهم يجوزون النسخ ولكنهم ينكرون نبوة نبينا من حيث أنهم ينكرون معجزته في القرآن. وفي إثبات نبوته بالمعجزة طريقتان: الطريقة الأولى، التمسك بالقرآن، فإنا نقول: لا معنى للمعجزة إلا ما يقترن بتحدي النبي عند استشهاده على صدقه على وجه يعجز الخلق عن معارضته، وتحديه على العرب مع شغفهم بالفصاحة وإغراقهم فيها متواتر، وعدم المعارضة معلوم، إذ لو كان لظهر، فإن أرذل الشعراء لما تحدوا بشعرهم وعورضوا ظهرت المعارضات والمناقضات الجارية بينهم، فإذاً لا يمكن إنكار تحديه بالقرآن ولا يمكن إنكار اقتدار العرب على طريق الفصاحة ولا يمكن انكار حرصهم على دفع نبوته بكل ممكن حماية لدينهم ودمهم ومالهم وتخلصاً من سطوة المسلمين وقهرهم، ولا يمكن إنكار عجزهم

لأنهم لو قدروا لفعلوا، فإن العادة قاضية بالضرورة بأن القادر على دفع الهلاك عن نفسه يشتغل بدفعه، ولو فعلوا لظهر ذلك ونقل. فهذه مقدمات بعضها بالتواتر وبعضها بجاري العادات وكل ذلك مما يورث اليقين فلا حاجة إلى التطويل. وبمثل هذا الطريق تثبت نبوة عيسى ولا يقدر النصراني على إنكار شيء من ذلك؛ فإنه يمكن أن يقابل بعيسى فينكر تحديه بالنبوة أو استشهاده باحياء الموتى أو وجود إحياء الموتى أو عدم المعارضة أو يقال عورض ولم يظهر، وكل ذلك مجاحدات لا يقدر عليها المعترف بأصل النبوات، فإن قيل: ما وجه إعجاز القرآن؟ قلنا الجزالة والفصاحة مع النظم العجيب والمنهاج الخارج عن مناهج كلام العرب في خطبهم وأشعارهم وسائر صنوف كلامهم، والجمع بين هذا النظم وهذه الجزالة معجز خارج عن مقدور البشر، نعم ربما يرى للعرب أشعار وخطب حكم فيها بالجزالة، وربما ينقل عن بعض من قصد المعارضة مراعاة هذا النظم بعد تعلمه من القرآن، ولكن من غير جزالة بل مع ركاكة كما يحكى عن ترهات مسيلمة الكذاب حيث قال: الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فهذا وأمثاله ربما يقدر عليه مع ركاكة يستغثها الفصحاء ويستهزؤون بها، وأما جزالة القرآن فقد قضى كافة العرب منها العجب ولم ينقل عن واحد منهم تشبث بطعن في فصاحته، فهذا إذاً معجز وخارج عن مقدور البشر من هذين الوجهين، أعني من اجتماع هذين الوجهين، فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به، والجواب أن ما ذكروه هوس، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف مع ما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي وشن الغارات، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات، فلو قال نبي آية صدقي أني في هذا اليوم أحرك أصبعي ولا يقدر أحد من البشر على معارضتي، فلم يعارضه أحد في ذلك اليوم، ثبت صدقه، وكان فقد قدرتهم على الحركة مع سلامة الأعضاء من أعظم المعجزات. وإن فرض وجود القدرة ففقد داعيتهم وصرفهم عن المعارضة من أعظم المعجزات، مهما كانت حاجتهم ماسةً إلى الدفع باستيلاء النبي على رقابهم وأموالهم، وذلك كله معلوم على الضرورة. فهذا طريق تقدير نبوته على النصارى، ومهما تشبثوا بانكار شيء من هذه الأمور الجليلة فلا تشتغل إلا بمعارضتهم بمثله في معجزات عيسى عليه السلام.

الطريقة الثانية: أن تثبت نبوته بجملة من الأفعال الخارقة للعادات التي ظهرت عليه، كانشقاق القمر، ونطق العجماء، وتفجر الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى في كفه، وتكثير الطعام القليل، وغيره من خوارق العادات، وكل ذلك دليل على صدقه. فإن قيل: آحاد هذه الوقائع لم يبلغ نقلها مبلغ التواتر. قلنا: ذلك أيضاً إن سلم فلا يقدح في العرض مهما كان المجموع بالغاً مبلغ التواتر، وهذا كما أن شجاعة علي رضوان الله عليه وسخاوة حاتم معلومان بالضرورة على القطع تواتراً، وآحاد تلك الوقائع لم تثبت تواتراً، ولكن يعلم من مجموع الآحاد على القطع ثبوت صفة الشجاعة والسخاوة، فكذلك هذه الأحوال العجيبة بالغة جملتها مبلغ التواتر، لا يستريب فيها مسلم أصلاً. فإن قال قائل من النصارى: هذه الأمور لم تتواتر عندي لا جملتها ولا آحادها. فيقال: ولو انحاز يهودي إلى قطر من الأقطار ولم يخالط النصارى وزعم أنه لم تتواتر عنده معجزات عيسى، وإن تواترت فعلى لسان النصارى وهم مهتمون به، فبماذا ينفصلون عنه؟ ولا انفصال عنه إلا أن يقال: ينبغي أن يخالط القوم الذين تواتر ذلك بينهم حتى يتواتر ذلك إليك، فإن الأصم لا تتواتر عنده الأخبار، وكذا المتصامم، فهذا أيضاً عذرنا عند إنكار واحد منهم التواتر على هذا الوجه.

الباب الثاني في بيان وجوب التصديق بأمور ورد بها الشرع وقضى بجوازها العقل وفيه مقدمة وفصلان، أما المقدمة: فهو أن ما لا يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشرع، وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما. أما المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وارادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت لم يثبت الشرع، إذ الشرع يبنى على الكلام فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع. فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه ونفس الكلام أيضاً فيما اخترناه لا يمكن اثباته بالشرع. ومن المحققين من تكلف ذلك وادعاه كما سبقت الاشارة إليه. وأما المعلوم بمجرد السمع فتخصيص أحد الجائزين بالوقوع فإن ذلك من موافق العقول، وإنما يعرف من الله تعالى بوحي والهام ونحن نعلم من الوحي إليه بسماع كالحشر والنشر والثواب والعقاب وأمثالهما، وأما المعلوم بهما فكل ما هو واقع في مجال العقل ومتأخر في الرتبة عن إثبات كلام الله تعالى كمسألة الرؤية وانفراد الله تعالى بخلق الحركات والأغراض كلها وما يجري هذا المجرى، ثم كلما ورد السمع به ينظر، فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال، وجب التصديق بها ظناً إن كانت ظنية، فإن وجوب التصديق باللسان والقلب عمل يبنى على الأدلة الظنية كسائر الأعمال فنحن نعلم قطعاً إنكار الصحابة على من يدعي كون العبد خالقاً لشيء من الأشياء وعرض من الأعراض، وكانوا ينكرون ذلك بمجرد قوله تعالى " خالق كل شيء " ومعلوم أنه عام قابل للتخصيص فلا يكون عمومه إلا مظنوناً، إنما صارت المسألة قطعية بالبحث على الطرق العقلية التي ذكرناها، ونعلم أنهم كانوا ينكرون ذلك قبل البحث عن الطرق العقلية ولا ينبغي أن يعتقد بهم أنهم لم يلتفتوا إلى المدارك الظنية إلا في الفقهيات بل اعتبروها أيضاً في التصديقات الاعتقادية والقولية.

وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول، وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع بل هو قابل للتأويل، فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضاً لأدلة السمع فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة، وليس يشترط اشتماله على القضاء لتجويز، وبين الرتبتين فرق ربما يزل ذهن البليد حتى لا يدرك الفرق بين قول القائل: اعلم أن الأمر جائز، وبين قوله: لا أدري إنه محال أم جائز، وبينهما ما بين السماء والأرض، إذ الأول جائز على الله تعالى والثاني غير جائز، فإن الأول معرفة بالجواز والثاني عدم معرفة بالاحالة، ووجوب التصديق جائز في القسمين جميعاً فهذه هي المقدمة. أما الفصل الأول ففي بيان قضاء العقل بما جاء الشرع به من الحشر والنشر وعذاب القبر والصراط والميزان أما الحشر فيعنى به إعادة الخلق وقد دلت عليه القواطع الشرعية، وهو ممكن بدليل الابتداء. فإن الاعادة خلق ثان ولا فرق بينه وبين الابتداء وإنما يسمى إعادة بالاضافة إلى الابتداء السابق، والقادر على الانشاء والابتداء قادر على الاعادة وهو المعني بقوله: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإن قيل فماذا تقولون: أتعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعاً، أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات. وأحد الوجهين أن تنعدم الأعراض ويبقى جسم الانسان متصوراً بصورة التراب مثلاً، فتكون قد زالت منه الحياة واللون والرطوبة والتركيب والهيئة وجملة من الأعراض، ويكون معنى إعادتها أن تعاد إليها تلك الأعراض بعينها وتعاد إليها أمثالها، فإن العرض عندنا لا يبقى والحياة عرض والموجود عندنا في كل ساعة عرض آخر، والانسان هو ذلك الانسان باعتبار جسمه فإنه واحد لا باعتبار أعراضه، فإن كل عرض يتجدد هو غير الآخر، فليس من شرط الإعادة فرض إعادة الأعراض، وإنما ذكرنا هذا لمصير بعض الأصحاب إلى استحالة إعادة الأعراض، وذلك باطل، ولكن القول في إبطاله يطول ولا حاجة إليه في غرضنا هذا. والوجه الآخر أن تعدم الأجسام أيضاً ثم تعاد الأجسام بأن تخترع. مرة ثانية،

فإن قيل: فيم يتميز المعاد عن مثل الأول؟ وما معنى قولكم أن المعاد هو عين الأول ولم يبق للمعدوم عين حتى تعاد؟ قلنا: المعدوم منقسم في علم الله إلى ما سبق له وجود وإلى ما لم يسبق له وجود، كما أن العدم في الأزل ينقسم إلى ما سيكون له وجود وإلى ما علم الله تعالى أنه لا يوجد؛ فهذا الانقسام في علم الله لا سبيل إلى انكاره، والعلم شامل والقدرة واسعة، فمعنى الإعادة أن نبذل بالوجود العدم الذي سبق له الوجود، ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعدم لم يسبق له وجود، فهذا معنى الإعادة، ومهما قدر الجسم باقياً ورد الأمر إلى تجديد أعراض تماثل الأول حصل تصديق الشرع ووقع الخلاص عن إشكال الإعادة وتمييز المعاد عن المثل، وقد أطنبنا في هذه المسألة في كتاب التهافت، وسلكنا في إبطال مذهبهم تقرير بقاء النفس التي هي غير متحيز عندهم وتقدير عود تدبيرها إلى البدن سواء كان ذلك البدن هو عين جسم الانسان أو غيره، وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده؛ فإن ذلك الكتاب مصنف لابطال مذهبهم لا لاثبات المذهب الحق، ولكنهم لما قدروا أن الانسان هو ما هو باعتبار نفسه وأن اشتغاله بتدبير كالعارض له والبدن آلة لهم، ألزمناهم بعد اعتقادهم بقاء النفس وجوب التصديق بالاعادة وذلك برجوع النفس إلى تدبير بدن من الأبدان، والنظر الآن في تحقيق هذا الفصل ينجر إلى البحث عن الروح والنفس والحياة وحقائقها، ولا تحتمل المعتقدات التغلغل إلى هذه الغايات في المعقولات، فما ذكرناه كاف في بيان الاقتصاد في الاعتقاد للتصديق بما جاء به الشرع، وأما عذاب القبر فقد دلت عليه قواطع الشرع إذ تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم بالاستعاذة منه في الأدعية واشتهر قوله عند المرور بقبرين: إنهما ليعذبان ودل عليه قوله تعالى " وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً " الآية، وهو ممكن، فيجب التصديق به. ووجه إمكانه ظاهر، وإنما تنكره المعتزلة من حيث يقولون إنا نرى شخص الميت مشاهدة وهو غير معذب وإن الميت ربما تفترسه السباع وتأكله، وهذا هوس؛ أما

مشاهدة الشخص فهو مشاهدة لظواهر الجسم والمدرك للعقاب جزء من القلب أو من الباطن كيف كان وليس من ضرورة العذاب ظهور حركة في ظاهر البدن، بل الناظر إلى ظاهر النائم لا يشاهد ما يدركه النائم من اللذة عند الاحتلام ومن الألم عند تخيل الضرب وغيره، ولو انتبه النائم وأخبر عن مشاهداته وآلامه ولذاته من لم يجر له عهد بالنوم لبادر إلى الانكار اغتراراً بسكون ظاهر جسمه، كمشاهدة إنكار المعتزلة لعذاب القبر وأما الذي تأكله السباع فغاية ما في الباب أن يكون بطن السبع قبراً، فاعادة الحياة إلى جزء يدرك العذاب ممكن، فما كل متألم يدرك الألم من جميع بدنه، وأما سؤال منكر ونكير فحق، والتصديق به واجب لورود الشرع به وامكانه، فإن ذلك لا يستدعي منهما إلا تفهيماً بصوت أو بغير صوت، ولا يستدعي منه إلا فهماً، ولا يستدعي الفهم إلا حياة، والإنسان لا يفهم بجميع بدنه بل بجزء من باطن قلبه، واحياء جزء يفهم السؤال ويجيب ممكن مقدور عليه، فيبقى قول القائل إنا نرى الميت ولا نشاهد منكراً ونكيراً ولا نسمع صوتهما في السؤال ولا صوت الميت في الجواب، فهذا يلزمه منه أن ينكر مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام وسماعه كلامه وسماع جبريل جوابه ولا يستطيع مصدق الشرع أن ينكر ذلك، إذ ليس فيه إلا أن الله تعالى خلق له سماعاً لذلك الصوت ومشاهدة لذلك الشخص، ولم يخلق للحاضرين عنده ولا لعائشة رضي الله تعالى عنها وقد كانت تكون عنده حاضرة في وقت ظهور بركات الوحي، فانكار هذا مصدره الإلحاد وإنكار سعة القدرة، وقد فرغنا عن إبطاله ويلزم منه أيضاً إنكار ما يشاهده النائم ويسمعه من الأصوات الهائلة المزعجة، ولولا التجربة لبادر إلى الانكار كل من سمع من النائم حكاية أحواله، فتعساً لمن ضاقت حوصلته عن تقدير اتساع القدرة لهذه الأمور المستحقرة بالاضافة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، مع ما فيهما من العجائب. والسبب الذي ينفر طباع أهل الضلال عن التصديق بهذه الأمور بعينه منفر عن التصديق بخلق الانسان من نطفة قذرة مع ما فيه من العجائب والآيات أولاً أن المشاهدة تضطره إلى التصديق فإذاً ما لا برهان على إحالته لا ينبغي أن ينكر بمجرد الاستبعاد. والإنسان لا يفهم بجميع بدنه بل بجزء من باطن قلبه، واحياء جزء يفهم السؤال ويجيب ممكن مقدور عليه، فيبقى قول القائل إنا نرى الميت ولا نشاهد منكراً ونكيراً ولا نسمع صوتهما في السؤال ولا صوت الميت في الجواب، فهذا يلزمه منه أن ينكر مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام وسماعه كلامه وسماع جبريل جوابه ولا يستطيع مصدق الشرع أن ينكر ذلك، إذ ليس فيه إلا أن الله تعالى خلق له سماعاً لذلك الصوت ومشاهدة لذلك الشخص، ولم يخلق للحاضرين عنده ولا لعائشة رضي الله تعالى عنها وقد كانت تكون عنده حاضرة في وقت ظهور بركات الوحي، فانكار هذا مصدره الإلحاد وإنكار سعة القدرة، وقد فرغنا عن إبطاله ويلزم منه أيضاً إنكار ما يشاهده النائم ويسمعه من الأصوات الهائلة المزعجة، ولولا التجربة لبادر إلى الانكار كل من سمع من النائم حكاية أحواله، فتعساً لمن ضاقت حوصلته عن تقدير اتساع القدرة لهذه الأمور المستحقرة بالاضافة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، مع ما فيهما من العجائب. والسبب الذي ينفر طباع أهل الضلال عن التصديق بهذه الأمور بعينه منفر عن التصديق بخلق الانسان من نطفة قذرة مع ما فيه من العجائب والآيات أولاً أن المشاهدة تضطره إلى التصديق فإذاً ما لا برهان على إحالته لا ينبغي أن ينكر بمجرد الاستبعاد. وأما الميزان فهو أيضاً حق وقد دلت عليه قواطع السمع، وهو ممكن فوجب التصديق به. فإن قيل: كيف توزن الأعمال وهي أعراض وقد انعدمت، والمعدوم لا يوزن؟ وإن قدرت إعادتها وخلقها في جسم الميزان كان محالاً لاستحالة إعادة الأعراض. ثم كيف تخلق حركة يد الانسان وهي طاعته في جسم الميزان؟ أيتحرك بها الميزان فيكون ذلك حركة الميزان لا حركة يد الانسان أم لا تتحرك فتكون الحركة قد فاتت بجسم

ليس هو متحركاً بها، وهو محال؟ ثم إن تحرك فيتفاوت من الميزان بقدر طول الحركات وكثرتها لا بقدر مراتب الأجور، فرب حركة بجرء من البدن يزيد إثمها على حركة جميع البدن فراسخ فهذا محال. فنقول: قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: " توزن صحائف الأعمال فإن الكرام الكاتبين يكتبون الأعمال في صحائف هي أجسام، فإذا وضعت في الميزان خلق الله تعالى في كفتها ميلاً بقدر رتبة الطاعات وهو على ما يشاء قدير ". فإن قيل: فأي فائدة في هذا؟ وما معنى المحاسبة؟ قلنا: لا نطلب لفعل الله تعالى فائدة: " لا يسأل عما يفعل وهو يسألون ". تم قد دللنا على هذا. ثم أي بعد في أن تكون الفائدة فيه أن يشاهد العبد مقدار أعماله ويعلم أنه مجزي بها بالعدل أو يتجاوز عنه باللطف، ومن يعزم على معاقبة وكيله بجنايته في أمواله أو يعزم على الإبراء فمن أين يبعد أن يعرفه مقدار جنايته بأوضح الطرق ليعلم أنه في عقوبته عادل وفي التجاوز عنه متفضل. هذا إن طلبت الفائدة لأفعال الله تعالى، وقد سبق بطلان ذلك. وأما الصراط فهو أيضاً حق، والتصديق به واجب، لأنه ممكن. فإنه عبارة عن جسر ممدود على متن جهنم يرده الخلق كافة، فإذا توافوا عليه قيل للملائكة " وقفوهم إنهم مسؤولون " فإن قيل: كيف يمكن ذلك وفيما روى أدق من الشعر وأحد من السيف، فكيف يمكن المرور عليه؟ قلنا هذا إن صدر ممن ينكر قدرة الله تعالى، فالكلام معه في إثبات عموم قدرته وقد فرغنا عنها. وإن صدر من معترف بالقدرة فليس المشي على هذا بأعجب من المشي في الهواء، والرب تعالى قادر على خلق قدرة عليه، ومعناه أن يخلق له قدرة المشي على الهواء ولا يخلق في ذاته هوياً إلى أسفل، ولا في الهواء انحراف، فإذا أمكن هذا في الهواء فالصراط أثبت من الهواء بكل حال. الفصل الثاني: في الاعتذار عن الإخلال بفصول شحنت بها المعتقدات فرأيت الإعراض عن ذكرها أولى لأن المعتقدات المختصرة حقها أن لا تشتمل إلا على المهم الذي لا بد منه في صحة الاعتقاد.

أما الأمور التي لا حاجة إلى إخطارها بالبال، وإن خطرت بالبال فلا معصية في عدم معرفتها وعدم العلم بأحكامها، فالخوض فيها بحث عن حقائق الأمور وهي غير لائقة بما يراد منه تهذيب الاعتقاد، وذلك الفن تحصره ثلاثة فنون: عقلي، ولفظي، وفقهي. أما العقلي، فالبحث عن القدرة الحادثة أنها تتعلق بالضدين أم لا، وتتعلق بالمختلفات أم لا، وهل يجوز قدرة حادثة تتعلق بفعل مباين لمحل القدرة وأمثال له. وأما اللفظي فكالبحث عن المسمى باسم الرزق ما هو، ولفظ التوفيق والخذلان والايمان ما حدودها ومسبباتها. وأما الفقهي فكالبحث عن الأمر بالمعروف متى يجب، وعن التوبة ما حكمها، إلى نظائر ذلك. وكل ذلك ليس بمهم في الدين، بل المهم أن ينفي الانسان الشك عن نفسه في ذات الله تعالى، على القدر الذي حقق في القطب الأول، وفي صفاته وأحكامها كما حقق في القطب الثاني، وفي أفعاله بأن يعتقد فيها الجواز دون الوجوب كما في القطب الثالث، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرف صدقه ويصدقه في كل ما جاء به كما ذكرناه في القطب الرابع، وما خرج عن هذا فغير مهم. ونحن نورد من كل فن مما أهملناه مسألة ليعرف بها نظائرها ويحقق خروجها عن المهمات المقصودات في المعتقدات. أما المسألة الأولى العقلية: فكاختلاف الناس في أن من قتل هل يقال إنه مات بأجله؟ ولو قدر عدم قتله هل كان يجب موته أم لا؟ وهذا فن من العلم لا يضر تركه، ولكنا نشير إلى طريق الكشف فيه. فنقول: كل شيئين لا ارتباط لأحدهما بالآخر، ثم اقترنا في الوجود، فليس يلزم من تقدير نفي أحدهما انتفاء الآخر. فلو مات زيد وعمرو معاً ثم قدرنا عدم موت زيد لم يلزم منه لا عدم موت عمرو ولا وجود موته، وكذلك إذا مات زيد عند كسوف القمر مثلاً، فلو قدرنا عدم الموت لم يلزم عدم الكسوف بالضرورة، ولو قدرنا عدم الكسوف لم يلزم عدم الموت إذ لا ارتباط لأحدهما بالآخر، فأما الشيئان اللذان بينهما علاقة وارتباط فهما ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون العلاقة متكافئة كالعلاقة بين اليمين والشمال والفوق والتحت، فهذا مما يلزم فقد أحدهما عند تقدير فقد الآخر لأنهما من المتضايفان

التي لا يتقوم حقيقة أحدهما إلا مع الآخر. الثاني: أن لا يكون على التكافؤ، لكن لأحدهما رتبة التقدم كالشرط مع المشروط. ومعلوم أنه يلزم عدم الشرط، فإذا رأينا علم الشخص مع حياته وإرادته مع علمه فيلزم لا محالة من تقدير انتفاء الحياة انتفاء العلم، ومن تقدير انتفاء العلم انتفاء الارادة، ويعبر عن هذا بالشرط وهو الذي لا بد منه لوجود الشيء ولكن ليس وجود الشيء به بل عنه ومعه. الثالث: العلاقة التي بين العلة والمعلول. ويلزم من تقدير عدم العلة عدم المعلول إن لم يكن للمعلول إلا علة واحدة، وإن تصور أن تكون له علة أخرى فيلزم من تقدير نفي كل العلل نفي المعلول، ولا يلزم من تقدير نفي علة بعينها نفي المعلول مطلقاً، بل يلزم نفي معلول تلك العلة على الخصوص. فإذا تمهد هذا المعنى رجعنا إلى القتل والموت؛ فالقتل عبارة عن حز الرقبة وهو راجع إلى أعراض هي حركات في يد الضارب والسيف وأعراض هي افتراقات في أجزاء رقبة المضروب، وقد اقترن بها عرض آخر وهو الموت، فإن لم يكن بين الحز والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحز نفي الموت فإنهما شيئان مخلوقان معاً على الاقتران بحكم إجراء العادة لا ارتباط لأحدهما بآخر، فهو كالمقترنين اللذين لم تجر العادة باقترانهما وإن كان الحز علة الموت ومولده، وإن لم تكن علة سواه لزم من انتفائه انتفاء الموت، ولكن لا خلاف في أن للموت عللاً من أمراض وأسباب باطنة سوى الحز عند القائلين بالعلل، فلا يلزم من نفي الحز نفي الموت مطلقاً ما لم يقدر مع ذلك إنتفاء سائر العلل، فنرجع إلى غرضنا فنقول: من اعتقد من أهل السنة أن الله مستبد بالاختراع بلا تولد، ولا يكون مخلوق علة مخلوق، فنقول: الموت أمر استبد الرب تعالى باختراعه مع الحز، فلا يجب من تقدير عدم الحز عدم الموت وهو الحق؛ ومن اعتقد كونه علة وانضاف إليه مشاهدته صحة الجسم وعدم مهلك من خارج اعتقد أنه لو انتفى الحز وليس ثم علة أخرى وجب انتفاء المعلول لانتفاء جميع العلل، وهذا الاعتقاد صحيح لو صح اعتقاد التعليل وحصر العلل فيما عرف انتفاؤه فإذاً هذه المسألة يطول النزاع فيها، ولم يشعر أكثر الخائضين فيها بمثارها فينبغي أن نطلب هذا من القانون الذي ذكرناه في عموم قدرة الله تعالى وإبطال التولد. ويبنى على هذا أن منق تل ينبغي أن يقال إنه مات بأجله لأن الأجل عبارة عن الوقت الذي خلق الله تعالى فيه موته سواء كان معه حز رقبة أو كسوف قمر أو نزول مطر أو لم يكن، لأن كل هذه عندنا مقترنات وليست مؤثرات ولكن اقتران بعضها

يتكرر بالعادة، وبعضها لا يتكرر، فأما من جعل الموت سبباً طبيعياً من الفطرة وزعم أن كل مزاج فله رتبة معلومة في القوة إذا خليت ونفسها تمادت إلى منتها مدتها، ولو فسدت على سبيل الاحترام كان ذلك استعجالاً، بالإضافة إلى مقتضى طباعها، والأجل عبارة عن المدة الطبيعية، كما يقال الحائط مثلاً يبقى مائة سنة بقدر إحكام بنائه، ويمكن أن يهدم بالفأس في الحال، والأجل يعبر به عن مدته التي له بذاته وقوته، فيلزم من ذلك أن يقال إذا هدم بالفأس لم ينهدم بأجله وإن لم يتعرض له من خارج حتى انحطت أجزاؤه فيقال انهدم بأجله، فهذا اللفظ ينبيء على ذلك الأصل. المسألة الثانية وهي اللفظية: فكاختلافهم في أن الايمان هل يزيد وينقص أم هو على رتبة واحدة. وهذا الاختلاف منشؤه الجهل بكون الاسم مشتركاً، أعني اسم الايمان، وإذا فصل مسميات هذا اللفظ ارتفع الخلاف. وهو مشترك بين ثلاثة معان: إذ قد يعبر به عن التصديق اليقين البرهاني، وقد يعبر به عن الاعتقاد التقليدي إذا كان جزماً، وقد يعبر به عن تصديق معه العمل بموجب التصديق ودليل اطلاقه على الأول أن من عرف الله تعالى بالدليل ومات عقيب معرفته فإنا نحكم بأنه مات مؤمناً. ودليل اطلاقه على التصديق التقليدي أن جماهير العرب كانوا يصدقون رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم بمجرد إحسانه إليهم وتلطفه بهم ونظرهم في قوانين أحواله من غير نظر في أدلة الواحدانية ووجه دلالة المعجزة، وكان يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وقد قال تعالى " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق، ولم يفرق بين تصديق وتصديق، ودليل إطلاقه على الفعل، قوله عليه السلام: لا يزني الزاني وهو مؤمن حين يزني وقوله عليه السلام: الايمان بضعة وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق فنرجع إلى المقصود ونقول: إن أطلق الإيمان بمعنى التصديق البرهاني لم يتصور زيادته ولا نقصانه، بل اليقين إن حصل بكماله فلا مزيد عليه. وإن لم يحصل بكماله فليس بيقين، وهي خطة واحدة ولا يتصور فيها زيادة ونقصان إلا أن يراد به زيادة وضوح أي زيادة طمأنينة النفس إليه بأن النفس تطمئن إلى اليقينيات النظرية في الابتداء إلى حل ما، فإذا تواردت الأدلة على شيء واحد أفاد بظاهر الأدلة زيادة طمأنينة. وكل من مارس العلوم أدرك تفاوتاً في طمأنينية نفسه إلى العلم الضروري،

وهو العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وإلى العلم يحدث العالم وإن محدثه واحد، ثم يدرك أيضاً تفرقة بين آحاد المسائل بكثرة أدلتها وقلتها. فالتفاوت في طمأنينية النفس مشاهد لكل ناظر من باطنه، فإذا فسرت الزيادة به لم يمنعه أيضاً في هذا التصديق. أما إذا أطلق بمعنى التصديق التقليدي فذلك لا سبيل إلى جحد التفاوت فيه؛ فإنا ندرك بالمشاهدة من حال اليهودي في تصميمه على عقده ومن حال النصراني والمسلم تفاوتاً، حتى أن الواحد منهم لا يؤثر في نفسه وحل عقد لمبه التهويلات والتخويفات ولا التحقيقات العلمية ولا التخيلات الإقناعية، والواحد منهم مع كونه جازماً في اعتقاده تكون نفسه أطوع لقبول اليقين، وذلك لأن الاعتقاد على القلب مثل عقدة ليس فيها انشراح وبرد يقين. والعقدة تختلف في شدتها وضعفها فلا ينكر هذا التفاوت منصف وإنما ينكره الذين سمعوا من العلوم والاعتقادات أساميها ولم يدركوا من أنفسهم ذوقها، ولم يلاحظوا اختلاف أحوالهم وأحوال غيرهم فيها. وأما إذا أطلق بالمعنى الثالث وهو العمل مع التصديق، فلا يخفى بطرق التفاوت إلى نفس العمل، وهل يتطرق بسبب المواظبة على العمل تفاوت إلى نفس التصديق، هذا فيه نظر، وترك المداهنة في مثل هذا المقام أولى والحق أحق ما قيل. فأقول: إن المواظبة على الطاعات لها تأثير في تأكيد طمأنينة النفس إلى الاعتقاد التقليدي ورسوخه في النفس، وهذا أمر لا يعرفه إلا من سبر أحوال نفسه وراقبها في وقت المواظبة على الطاعة وفي وقت الفترة ولاحظ تفاوت الحال في باطنه، فإنه يزداد بسبب المواظبة على العمل أنسة لمعتقداته، ويتأكد به طمأنينته، حتى أن المعتقد الذي طالت منه المواظبة على العمل بموجب اعتقاده أعصا نفساً على المحاول تغييره وتشكيكه ممن لم تطل مواظبته، بل العادات تقضي بها، فإن من يعتقد الرحمة في قلبه على يتيم فإن أقدم على مسح رأسه وتفقد أمره صادف في قلبه عند ممارسة العمل بموجب الرحمة زيادة تأكيد في الرحمة، ومن يتواضع بقلبه لغيره فإذا عمل بموجبه ساجداً له أو مقبلاً يده ازداد التعظيم والتواضع في قلبه ولذلك تعبدنا بالمواظبة على أفعال هي مقتضى تعظيم القلب من الركوع والسجود ليزداد بسببها تعظيم القلوب، فهذه أمور يجحدها المتحذلقون في الكلام الذين أدركوا ترتيب العلم بسماع الألفاظ ولم يدركوها بذوق النظر. فهذه حقيقة المسألة، ومن هذا الخبر اختلافهم في معنى الرزق. وقول المعتزلة: إن ذلك مخصوص بما يملكه الإنسان حتى ألزموا أنه لا رزق لله تعال على البهائم، فربما قالوا هو مما لم يحرم تناوله، فقيل لهم فالظلمة ماتوا وقد عاشوا عمرهم لم يرزقوا، وقد قال أصحابنا إنه

عبارة عن المنتفع به كيف كان، ثم هو منقسم إلى حلال وحرام، ثم طولوا في حد الرزق وحد النعمة وتضييع الوقت بهذا وأمثاله دأب من لا يميز بين المهم وغيره ولا يعرف قدر بقية عمره، وإنه لا قيمة له فينبغي أن يضيع العمر إلا بالمهم وبين يدي الأنظار أمور مشكلة البحث عنها أهم من البحث عن موجب الألفاظ ومقتضى الإطلاقات، فنسأل الله أن يوفقنا للاشتغال لما يعنينا. المسألة الثالثة الفقهية: فمثل اختلافهم في أن الفاسق هل له أن يحتسب؟ وهذا نظر فقهي، فمن أين يليق بالكلام ثم بالمختصرات. ولكنا نقول الحق أن له أن يحتسب وسبيله التدرج في التصوير؛ وهو أن نقول: هل يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كون الآمر والناهي معصوماً عن الصغائر والكبائر جميعاً؟ فإن شرط ذلك كان خرقاً للاجماع، فإن عصمة الأنبياء عن الكبائر إنما عرفت شرعاً، وعن الصغائر مختلف فيها، فمتى يوجد في الدنيا معصوم؟ وإن قلتم إن ذلك لا يشترط حتى يجوز للابس الحرير مثلاً وهو عاص به أن يمنع من الزنى وشرب الخمر، فنقول: وهل لشارب الخمر أن يحتسب على الكافر ويمنعه من الكفر ويقاتله عليه؟ فإن قالوا لا، خرقوا الاجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على العصاة والمطيعين ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، فإن قالوا نعم، فنقول: شارب الخمر هل له أن يمنع من القتل أم لا؟ فإن قيل لا، قلنا: فما الفرق بين هذا وبين لابس الحرير إذا منع من الخمر والزاني إذا منع من الكفر؟ وكما أن الكبيرة فوق الصغيرة فالكبائر أيضاً متفاوتة، فإن قالوا نعم، وضبطوا ذلك بأن المقدم على شيء لا يمنع من مثله ولا فيما دونه وله أن يمنع مما فوقه، فهذا الحكم لا مستند له إذ الزنى فوق الشرب ولا يبعد أن يزني ويمنع من الشراب ويمنع منه، ربما يشرب ويمنع غلمانه وأصحابه من الشرب، ويقول: ترك ذلك واجب عليكم وعلي والأمر بترك المحرم واجب علي مع الترك فلي أن أتقرب بأحد الواجبين، ولم يلزمني مع ترك أحدهما ترك الآخر، فإذن كما يجوز أن يترك الآمر بترك الشرب وهو بتركه يجوز أن يشرب ويأمر بالترك فهما واجبان فلا يلزم بترك أحدهما ترك الآخر.

فإن قيل: فيلزم على هذا أمور شنيعة وهو أن يزني الرجل بامرأة مكرهاً إياها على التمكين، فإن قال لها في أثناء الزنى عند كشفها وجهها باختيارها لا تكشفي وجهك فاني لست محرماً لك، والكشف لغير المحرم حرام، وأنت مكرهة على الزنى مختارة في كشف الوجه فأمنعك من هذا، فلا شك من أن هذه حسبة باردة شنيعة لا يصير إليها عاقل؛ وكذلك قوله إن الواجب علي شيئان العمل والأمر للغير، وأنا أتعاطى أحدهما وإن تركت الثاني كقوله: إن الواجب علي الوضوء دون الصلاة وأنا أصلي وإن تركت الوضوء، والمسنون في حقي الصوم والتسحر وأنا أتسحر وإن تركت الصوم، وذلك محال، لأن السحور للصوم والوضوء للصلاة، وكل واحد شرط الآخر وهو متقدم في الرتبة على المشروط، فكذلك نفس المرء مقدمة على غيره، فليهذب نفسه أولا ثم غيره أما إذا أهمل نفسه واشتغل بغيره كان ذلك عكس الترتيب الواجب، بخلاف ما إذا هذب نفسه وترك الحسبة وتهذيب غيره، فإن ذلك معصية ولكنه لا تناقض فيه. وكذلك الكافر ليس له ولاية الدعوة إلى الاسلام ما لم يسلم هو بنفسه، فلو قال الواجب علي شيئان ولي أن أترك أحدهما دون الثاني لم يكن منه، والجواب أن حسبة الزاني بالمرأة عليها ومنعها من كشفها وجهها جائزة عندنا، وقولكم إن هذه حسبة باردة شنيعة فليس الكلام في أنها حارة أو باردة مستلذة أو مستبشعة، بل الكلام في أنها حق أو باطل وكم من حق مستبرد مستثقل وكم من باطل مستحلى مستعذب، فالحق غير اللذيذ والباطل غير الشنيع، والبرهان القاطع فيه هو أنا نقول: قوله لها لا تكشفي وجهك فإنه حرام، ومنعه إياها بالعمل قول وفعل، وهذا القول والفعل إما أن يقال هو حرام أو يقال واجب أو يقال هو مباح، فإن قلتم إنه واجب فهو المقصود، وإن قلتم إنه مباح فله أن يفعل ما هو مباح، وإن قلتم إنه حرام فما مستند تحريمه؟ وقد كان هذا واجباً قبل اشتغاله بالزنى فمن أين يصير الواجب حراماً باقتحامه محرماً، وليس في قوله الأخير صدق عن الشرع بأنه حرام، وليس في فعله إلا المنع من اتحاد ما هو حرام، والقول بتحريم واحد منهما محال. ولسنا نعني بقولنا للفاسق ولاية الحسبة إلا أن قوله حق وفعله ليس بحرام، وليس هذا كالصلاة والوضوء فإن الصلاة هي المأمور بها وشرطها الوضوء، فهي بغير وضوء معصية وليست بصلاة، بل تخرج عن كونها صلاة وهذا القول لم يخرج عن كونه حقاً ولا الفعل خرج عن كونه منعاً من الحرام، وكذلك السحور عبارة عن الاستعانة على الصوم بتقديم الطعام ولا تعقل الاستعانة من غير العزم على ايجاد المستعان عليه. وأما قولكم أن تهذيبه نفسه أيضاً شرط لتهذيبه غيره، فهذا محل النزاع. فمن أين عرفتم ذلك؟ ولو قال قائل: تهذيب نفسه عن المعاصي شرط للغير ومنع الكفار، وتهذيبه نفسه عن الصغائر شرط للمنع عن الكبائر كان قوله مثل قولكم، وهو خرق للاجماع. وأما الكافر فإن حمل كافراً آخر بالسيف على الإسلام فلا يمنعه منه، ويقول عليه أن يقول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن يأمر غيره به ولم يثبت أن قوله شرط لأمره، فله أن يقول وأن يأمر وإن لم ينطق. فهذا غور هذه المسألة، وإنما أردنا إيرادها لتعلم أن أمثال هذه المسائل لا تليق بفن الكلام ولا سيما بالمعتقدات المختصرة والله أعلم بالصواب. يجاد المستعان عليه. وأما قولكم أن تهذيبه نفسه أيضاً شرط لتهذيبه غيره، فهذا محل النزاع. فمن أين عرفتم ذلك؟ ولو قال قائل: تهذيب نفسه عن المعاصي شرط للغير ومنع الكفار، وتهذيبه نفسه عن

الصغائر شرط للمنع عن الكبائر كان قوله مثل قولكم، وهو خرق للاجماع. وأما الكافر فإن حمل كافراً آخر بالسيف على الإسلام فلا يمنعه منه، ويقول عليه أن يقول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن يأمر غيره به ولم يثبت أن قوله شرط لأمره، فله أن يقول وأن يأمر وإن لم ينطق. فهذا غور هذه المسألة، وإنما أردنا إيرادها لتعلم أن أمثال هذه المسائل لا تليق بفن الكلام ولا سيما بالمعتقدات المختصرة والله أعلم بالصواب.

الباب الثالث في الامامة النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات، ثم إنها مثار للتعصبات والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض بل وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ! ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد فإن القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديدة النفار، ولكنا نوجز القول فيه ونقول: النظر فيه يدور على ثلاثة أطراف: الطرف الأول: في بيان وجوب نصب الإمام. ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل، فإنا بينا أن الوجوب يؤخذ من الشرع إلا أن يفسر الواجب بالفعل الذي فيه فائدة وفي تركه أدنى مضرة، وعند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، ولكنا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع ونقول: نظام أمر الدين مقصود لصاحب الشرع عليه السلام قطعاً، وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع فيحصل من المقدمتين صحة الدعوى وهو وجوب نصب الإمام. فإن قيل: المقدمة الأخيرة غير مسلمة وهو أن نظام الدين لا يحصل إلا بإمام مطاع، فدلوا عليها. فنقول: البرهان عيه أن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع، فهاتان مقدمتان ففي أيهما النزاع؟ فإن قيل لم قلتم إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، بل لا يحصل إلا بخراب الدنيا، فإن الدين والدنيا ضدان والاشتغال بعمارة أحدهما خراب الآخر، قلنا: هذا كلام من لا يفهم ما نريده بالدنيا الآن، فإنه لفظ مشترك قد يطلق على فضول التنعم والتلذذ والزيادة على الحاجة والضرورة، وقد يطلق على جميع ما هو محتاج إليه قبل الموت. وأحدهما ضد الدين والآخر شرطه، وهكذا يغلط من لا يميز

بين معاني الألفاظ المشتركة. فنقول: نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات، والأمن هو آخر الآفات، ولعمري من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وليس يأمن الإنسان على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة، فإذن بان نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين. وأما المقدمة الثانية وهو أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حياً، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا وراءهم ولمي كن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك. الطرف الثاني: في بيان من يتعين من سائر الخلق لأن ينصب إماماً. فنقول: ليس يخفى أن التنصيص على واحد نجعله إماماً بالتشهي غير ممكن، فلا بد له من تميز بخاصية يفارق سائر الخلق بهذا، فتلك خاصية في نفسه وخاصية من جهة غيره. أما من نفسه فأن يكون أهلاً لتدبير الخلق وحملهم على مراشدهم. وذلك بالكفاية والعلم والورع، وبالجملة خصائص القضاة تشترط فيه مع زيادة نسب قريش؛ وعلم هذا الشرط الرابع بالسمع حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش فهذا تميزه عن أكثر الخلق ولكن ربما يجتمع في قريش جماعة موصوفون بهذه الصفة فلا بد من خاصية أخرى

تميزه، وليس ذلك إلا التولية أو التفويض من غيره، فإنما يتعين للإمامة مهما وجدت التولية في حقه على الخصوص من دون غيره، فيبقى الآن النظر في صفة المولى فإن ذلك لا يسلم لكل أحد بل لا بد فيه من خاصية وذلك لا يصدر إلا من أحد ثلاثة: إما التنصيص من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما التنصيص من جهة إمام العصر بأن يعين لولاية العهد شخصاً معيناً من أولاده أو سائر قريش، وإما التفويض من رجل ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة، وذلك قد يسلم في بعض الأعصار لشخص واحد مرموق في نفسه مرزوق بالمتابعة مسؤول على الكافة، ففي بيعته وتفويضه كفاية عن تفويض غيره لأن المقصود أن يجتمع شتات الآراء لشخص مطاع وقد صار الإمام بمبايعة هذا المطاع مطاعاً، وقد لا يتفق ذلك لشخص واحد بل لشخصين أو ثلاثة أو جماعة فلا بد من اجتماعهم وبيعتهم واتفاقهم على التفويض حتى تتم الطاعة. بل أقول: لو لم يكن بعد وفاة الإمام الاقرشي واحد مطاع متبع فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق بشوكته وكفايته وكان موصوفاً بصفات الأئمة فقد انعقدت إمامته ووجبت طاعته، فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته، وفي منازعته إثارة الفتن إلا أن من هذا حاله فلا يعجز أيضاً عن أخذ البيعة من أكابر الزمان وأهل الحل والعقد، وذلك أبعد من الشبهة فلذلك لا يتفق مثل هذا في العادة إلا عن بيعة وتفويض. فإن قيل: فإن كان المقصود حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الآراء ويمنع الخلق من المحاربة والقتال ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد، فلو انتهض لهذا الأمر من فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم فماذا ترون فيه، أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟ قلنا: الذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته لأن ما يفوتنا من المصارفة بين كونه عالماً بنفسه أو مستفتياً من غيره دون ما يفوتنا بتقليد غيره إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها. وربما يؤدي ذلك إلى هلاك النفوس والأموال، وزيادة صفة العلم إنما تراعى مزية وتتمة للمصالح فلا يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشوق إلى مزاياها وتكملاتها، وهذه مسائل فقهية فيلون المستعبد لمخالفته المشهود على نفسه استبعاده ولينزل من غلوائه فالأمر أهون مما يظنه، وقد استقضينا تحقيق هذا المعنى في الكتاب الملقب بالمستظهري المصنف في الرد على الباطنية،

فإن قيل فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها، فأي أحواله أحسن: أن يقول القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار، فهو بين ثلاثة أمور إما أن يمنع الناس من الأنكحة والتصرفات المنوطة بالقضاة وهو مستحيل ومؤدي إلى تعطيل المعايش كلها ويفضي إلى تشتيت الآراء ومهلك للجماهير والدهماء أو يقول إنهم يقدمون على الأنكحة والتصرفات ولكنهم مقدمون على الحرام، إلا أنه لا يحكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة الحال، وإما أن نقول يحكم بانعقاد الإمامة مع فوات شروطها لضرورة الحال ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالاضافة، ويجب على العاقل اختياره، فهذا تحقيق هذا الفصل وفيه غنية عند البصير عن التطويل ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته وإنما يثبت بطول الألفة في سمعه فلا تزال النفرة عن نقيضه في طبعه إذ فطام الضعفاء عن المألوف شديد عجز عنه الأنبياء فكيف غيرهم. أبعد قريب، وأهون الشرين خير بالاضافة، ويجب على العاقل اختياره، فهذا تحقيق هذا الفصل وفيه غنية عند البصير عن التطويل ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته وإنما يثبت بطول الألفة في سمعه فلا تزال النفرة عن نقيضه في طبعه إذ فطام الضعفاء عن المألوف شديد عجز عنه الأنبياء فكيف غيرهم. فإن قيل: فهلا قلتم إن التنصيص واجب من النبي والخليفة كي يقطع ذلك دابر الاختلاف كما قالت بعض الإمامية إذ ادعوا أنه واجب، قلنا: لأنه لو كان واجباً لنص عليه الرسول عليه السلام، ولم ينص هو ولم ينص عمر أيضاً بل ثبتت إمامة أبو بكر وإمامة عثمان وإمامة علي رضي الله عنهم بالتفويض، فلا تلتفت إلى تجاهل من يدعي أنه صلى الله عليه وسلم نص على علي لقطع النزاع ولكن الصحابة كابروا النص وكتموه، فأمثال ذلك يعارض بمثله ويقال: بم تنكرون على من قال إنه نص على أبي بكر فأجمع الصحابة على موافقته النص ومتابعته، وهو أقرب من تقدير مكابرتهم النص وكتمانه، ثم إنما يتخيل وجوب ذلك لتعذر قطع الاختلاف وليس ذلك بمعتذر، فإن البيعة تقطع مادة الاختلاف والدليل عليه عدم الاختلاف في زمان أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم، وقد توليا البيعة، وكثرته في زمان علي رضي الله عنه ومعتقد الإمامية أنه تولى بالنص.

الطرف الثالث: في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. اعلم أن للناس في الصحابة والخلفاء إسراف في أطراف؛ فمن مبالغ في الثناء حتى يدعي العصمة للأئمة، ومنهم متهجم على الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة. فلا تكونن من الفريقين واسلك طريق الاقتصاد في الاعتقاد. واعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار وتواترت الأخبار بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة، كقوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وكقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وما من واحد إلا وورد عليه ثناء خاص في حقه يطول نقله، فينبغي أن تستصحب هذا الاعتقاد في حقهم ولا تسيء الظن بهم كما يحكى عن أحوال تخالف مقتضى حسن الظن، فأكثر ما ينقل مخترع بالتعصب في حقهم ولا أصل له وما ثبت نقله فالتأويل متطرق إليه ولم يجز ما لا يتسع العقل لتجويز الخطأ والسهو فيه، وحمل أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه. والمشهور من قتال معاوية مع علي ومسير عائشه رضي الله عنهم إلى البصرة والظن بعائشة أنها كانت تطلب تطفئة الفتنة ولكن خرج الأمر من الضبط، فأواخر الأمور لا تبقى على وفق طلب أوائلها، بل تنسل عن الضبط، والظن بمعاوية أنه كان على تأويل وظن فيما كان يتعاطاه وما يحكى سوى هذا من روايات الآحاد فالصحيح منه مختلط بالباطل والاختلاف أكثره اختراعات الروافض والخوارج وأرباب الفضول الخائضون في هذه الفنون. فينبغي أن تلازم الإنكار في كل ما لم يثبت، وما ثبت فيستنبط له تأويلاً. فما تعذر عليك فقل: لعل له تأويلاً وعذراً لم أطلع عليه. واعلم أنك في هذا المقام بين أن تسيء الظن بمسلم وتطعن عليه وتكون كاذباً أو تحسن الظن به وتكف لسانك عن الطعن وأنت مخطئ مثلاً، والخطأ في حسن الظن بالمسلم أسلم من الصواب بالطعن فيهم، فلو سكت إنسان مثلاً عن لعن ابليس أو لعن أبي جهل أو أبي لهب أو من شئت من الأشرار طول عمره لم يضره السكوت، ولو هفا هفوة بالطعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض

للهلاك، بل أكثر ما يعلم في الناس لا يحل النطق به لتعظيم الشرع الزجر عن الغيبة، مع أنه إخبار عما هو متحقق في المغتاب. فمن يلاحظ هذه الفصول ولم يكن في طبعه ميل إلى الفضول آثر ملازمته السكوت وحسن الظن بكافة المسلمين وإطلاق اللسان بالثناء على جميع السلف الصالحين. هذا حكم الصحابة عامة. فأما الخلفاء الراشدون فهم أفضل من غيرهم، وترتيبهم في الفضل عند أهل السنة كترتيبهم في الإمامة، وهذا لمكان أن قولنا فلان أفضل من فلان أن معناه إن محله عند الله تعالى في الآخرة أرفع، وهذا غيب لا يطلع عليه إلا الله ورسوله إن أطلعه عليه، ولا يمكن أن يدعي نصوص قاطعة من صاحب الشرع متواترة مقتضية للفضيلة على هذا الترتيب، بل المنقول الثناء على جميعهم. واستنباط حكم الترجيحات في الفضل من دقائق ثنائه عليهم رمي في عماية واقتحام أمر آخر أغنانا الله عنه، ويعرف الفضل عند الله تعالى بالأعمال مشكل أيضاً وغايته رجم ظن، فكم من شخص متحرم الظاهر وهو عند الله بمكان ليس في قلبه وخلق خفي في باطنه، وكم من مزين بالعبادات الظاهرة وهو في سخط الله لخبث مستكن في باطنه فلا مطلع على السرائر إلا الله تعالى. ولكن إذا ثبت أنه لا يعرف الفضل إلا بالوحي ولا يعرف من النبي إلا بالسماع وأولى الناس بالسماع ما يدل على تفاوت الفضائل الصحابة الملازمون لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وهم قد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم. وليس يظن منهم الخيانة في دين الله تعالى لغرض من الأغراض، وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف به مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب. فهذا ما أردنا أن نقتصر عليه من أحكام الإمامة والله أعلم وأحكم.

الباب الرابع بيان من يجب تكفيره من الفرق اعلم أن للفرق في هذا مبالغات وتعصبات، فربما انتهى بعض الطوائف إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي يعزى إليها، فإذا أردت أن تعرف سبيل الحق فيه فاعلم قبل كل شيء أن هذه مسألة فقهية، أعني الحكم بتكفير من قال قولاً وتعاطى فعلاً، فإنها تارة تكون معلومة بأدلة سمعية وتارة تكون مظنونة بالاجتهاد، ولا مجال لدليل العقل فيها البتة، ولا يمكن تفهيم هذا إلا بعد تفهيم قولنا: إن هذا الشخص كافر والكشف عن معناه، وذلك يرجع إلى الإخبار عن مستقره في الدار الآخرة وأنه في النار على التأبيد، وعن حكمه في الدنيا وأنه لا يجب القصاص بقتله ولا يمكن من نكاح مسلمة ولا عصمة لدمه وماله، إلى غير ذلك من الأحكام، وفيه أيضاً إخبار عن قول صادر منه وهو كذب، أو اعتقاد وهو جهل، ويجوز أن يعرف بأدلة العقل كون القول كذباً وكون الاعتقاد جهلاً، ولكن كون هذا الكذب والجهل موجباً للتكفير أمر آخر، ومعناه كونه مسلطاً على سفك دمه وأخذ أمواله، ومعنى كونه مسلطاً على سفك دمه وأخذ أمواله ومبيحاً لإطلاق القول بأنه مخلد في النار؛ وهذه الأمور شرعية ويجوز عندنا أن يرد الشرع بأن الكذاب أو الجاهل أو المكذب مخلد في الجنة وغير مكترث بكفره، وإن ماله ودمه معصوم ويجوز أن يرد بالعكس أيضاً نعم ليس يجور أن يرد بأن الكذب صدق وأن الجهل علم، وذلك ليس هو المطلوب بهذه المسألة بل المطلوب أن هذا الجهل والكذب هل جعله الشرع سبباً لإبطال عصمته والحكم بأنه مخلد في النار؟ وهو كنظرنا في أن الصبي إذا تكلم بكلمتي الشهادة فهو كافر بعد أو مسلم؟ أي هذا اللفظ الذي صدر منه وهو صدق، والاعتقاد الذي وجد في قلبه وهو حق، هل جعله الشرع سبباً لعصمة دمه وماله أم لا؟ وهذا إلى الشرع. فأما وصف قوله بأنه كذب أو اعتقاده بأنه جهل، فليس إلى الشرع، فإذاً معرفة الكذب والجهل يجوز أن يكون عقلياً وأما معرفة كونه كافر أو مسلماً فليس إلا شرعياً، بل هو كنظرنا في الفقه في أن هذا الشخص رقيق أو حر، ومعناه أن السبب الذي جرى هل نصبه الشرع مبطلاً

لشهادته وولايته ومزيلاً لأملاكه ومسقطاً للقصاص عن سيده المستولي عليه، إذا قتله، فيكون كل ذلك طلباً لأحكام شرعية لا يطلب دليلها إلا من الشرع. ويجوز الفتوى في ذلك بالقطع مرة وبالظن والاجتهاد أخرى، فإذا تقرر هذا الأصل فقد قررنا في أصول الفقه وفروعه أن كل حكم شرعي يدعيه مدع فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع من إجماع أو نقل أو بقياس على أصل، وكذلك كون الشخص كافراً إما أن يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الأصل، والأصل المقطوع به أن كل من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فهو كافر أي مخلد في النار بعد الموت، ومستباح الدم والمال في الحياة، إلى جملة الأحكام. إلا أن التكذيب على مراتب. الرتبة الأولى: تكذيب اليهود والنصارى وأهل الملل كلهم من المجوس وعبدة الأوثان وغيرهم، فتكفيرهم منصوص عليه في الكتاب ومجمع عليه بين الأمة، وهو الأصل وما عداه كالملحق به. الرتبة الثانية: تكذيب البراهمة المنكرين لأصل النبوات، والدهرية المنكرين لصانع العالم. وهذا ملحق بالمنصوص بطريق الأولى، لأن هؤلاء كذبوه وكذبوا غيره من الأنبياء، أعني البراهمة، فكانوا بالتكفير أولى من النصارى واليهود، والدهرية أولى بالتكفير من البراهمة لأنهم أضافوا إلى تكذيب الأنبياء إنكار المرسل ومن ضرورة إنكار النبوة، ويلتحق بهذه الرتبة كل من قال قولاً لا تثبت النبوة في أصلها أو نبوة نبينا محمد على الخصوص إلا بعد بطلان قوله. الرتبة الثالثة: الذين يصدقون بالصانع والنبوة ويصدقون النبي، ولكن يعتقدون أموراً تخالف نصوص الشرع ولكن يقولون أن النبي محق، وما قصد بما ذكره إلا صلاح الخلق ولكن لم يقدر على التصريح بالحق لكلال أفهام الخلق عن دركه، وهؤلاء هم الفلاسفة. ويجب القطع بتكفيرهم في ثلاثة مسائل وهي: إنكارهم لحشر الأجساد والتعذيب بالنار، والتنعيم في الجنة بالحور بالعين والمأكول والمشروب والملبوس. والأخرى: قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث وإنما يعلم الكليات، وإنما الجزئيات تعلمها الملائكة السماوية.

والثالثة: قولهم إن العالم قديم وإن الله تعالى متقدم على العالم بالرتبة مثل تقدم العلة على المعلول، وإلا فلم تر في الوجود إلا متساويين. وهؤلاء إذا أوردوا عليهم آيات القرآن زعموا أن اللذات العقلية تقصر الأفهام عن دركها، فمثل لهم ذلك باللذات الحسية وهذا كفر صريح، والقول به إبطال لفائدة الشرائع وسد لباب الاهتداء بنور القرآن واستبعاد للرشد من قول الرسل، فإنه إذا جاز عليهم الكذب لأجل المصالح بطلت الثقة بأقوالهم فما من قول يصدر عنهم إلا ويتصور أن يكون كذباً، وإنما قالوا ذلك لمصلحة. فإن قيل: فلم قلتم مع ذلك بأنهم كفرة؟ قلنا لأنه عرف قطعاً من الشرع أن من كذب رسول الله فهو كافر وهؤلاء مكذبون ثم معالمون للكذب بمعاذير فاسدة وذلك لا يخرج الكلام عن كونه كذباً. الرتبة الرابعة: المعتزلة والمشبهة والفرق كلها سوى الفلاسفة، وهم الذين يصدقون ولا يجوزون الكذب لمصلحة وغير مصلحة، ولا يشتغلون بالتعليل لمصلحة الكذب بل بالتأويل ولكنهم مخطئون في التأويل، فهؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد. والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وهذه الفرق منقسمون إلى مسرفين وغلاة، وإلى مقتصدين بالإضافة إليهم، ثم المجتهد يرى تكفيرهم وقد يكون ظنه في بعض المسائل وعلى بعض الفرق أظهر.

وتفصيل آحاد تلك المسائل يطول ثم يثير الفتن والأحقاد، فإن أكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع تكفير المكذب للرسول، وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلاً ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه، وثبت أن العصمة مستفادة من قول لا إله إلا الله قطعاً، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع. وهذا القدر كاف في التنبيه على أن إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان فإن البرهان إما أصل أو قياس على أصل، والأصل هو التكذيب الصريح ومن ليس بمكذب فليس في معنى الكذب أصلاً فيبقى تحت عموم العصمة بكلمة الشهادة. الرتبة الخامسة: من ترك التكذيب الصريح ولكن ينكر أصلاً من أصول الشرعيات المعلومة بالتواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقول القائل: الصلوات الخمس غير واجبة، فإذا قرئ عليه القرآن والأخبار قال: لست أعلم صدر هذا من رسول الله، فلعله غلط وتحريف. وكمن يقول: أنا معترف بوجوب الحج ولكن لا أدري أين مكة وأين الكعبة، ولا أدري أن البلد الذي تستقبله الناس ويحجونه هل هي البلد التي حجها النبي عليه السلام ووصفها القرآن. فهذا أيضاً ينبغي أن يحكم بكفره لأنه مكذب ولكنه محترز عن التصريح، وإلا فالمتواترات تشترك في دركها العوام والخواص وليس بطلان ما يقوله كبطلان مذهب المعتزلة فإن ذلك يختص لدركه اؤلوا البصائر من النظار إلا أن يكون هذا الشخص قريب العهد بالاسلام ولم يتواتر عنده بعد هذه الأمور فيمهله إلى أن يتواتر عنده، ولسنا نكفره لأنه أنكر أمراً معلوماً بالتواتر، وإنه لو أنكر غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة أو أنكر نكاحه حفصة بنت عمر، أو أنكر وجود أبي بكر وخلافته لم يلزم تكفيره لأنه ليس تكذيباً في أصل من أصول الدين مما يجب التصديق به بخلاف الحج والصلاة وأركان الإسلام، ولسنا نكفره بمخالفة الاجماع، فإن لنا نظرة في تكفير النظام المنكر لأصل الاجماع، لأن الشبه كثيرة في كون الاجماع حجة قاطعة وإنما الاجماع عبارة عن التطابق على رأي نظري وهذا الذي نحن فيه تطابق على الأخبار غير محسوس، وتطابق العدد الكبير على الأخبار غير محسوس على سبيل التواتر الموجب للعلم الضروري، وتطابق أهل الحق والعقد على رأي واحد نظري لا يوجب العلم إلا من جهة الشرع ولذلك لا يجوز أن يستدل على حدوث العالم بتواتر الأخبار من النظار الذين حكموا به، بل لا تواتر إلا في المحسوسات.

الرتبة السادسة: أن لا يصرح بالتكذيب ولا يكذب أيضاً أمراً معلوماً على القطع بالتواتر من أصول الدين ولكن منكر ما علم صحته إلا الاجماع، فأما التواتر فلا يشهد له كالنظام مثلاً، إذ أنكر كون الاجماع حجة قاطعة في أصله. وقال: ليس يدل على استحالة الخطأ على أهل الاجماع دليل عقلي قطعي ولا شرعي متواتر لا يحتمل التأويل، فكلما تستشهد به من الأخبار والآيات له تأويل بزعمه، وهو في قوله خارق لإجماع التابعين؛ فإنا نعلم إجماعهم على أن ما أجمع عليه الصحابة حق مقطوع به لا يمكن خلافه فقد أنكر الإجماع وخرق الإجماع وهذا في محل الاجتهاد، ولي فيه نظر، إذ الاشكالات كثيرة في وجه كون الاجماع حجة فيكاد يكون ذلك الممهد للعذر ولكن لو فتح هذا الباب انجر إلى أمور شنيعة وهو أن قائلاً لو قال: يجوز أن يبعث رسول بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيبعد التوقف في تكفيره ومستند استحالة ذلك عند البحث تستمد من الاجماع لا محالة فإن العقل لا يحيله وما نقل فيه من قوله: لا نبي بعدي ومن قوله تعالى: خاتم النبيين فلا يعجز هذا القائل عن تأويله فيقول: خاتم النبيين أراد به أولي العزم من الرسل، فإن قالوا النبيين عام، فلا يبعد تخصيص العام. وقوله لا نبي بعدي لم يرد به الرسول، وفرق بين النبي والرسول والنبي أعلى رتبة من الرسول إلى غير ذلك من أنواع الهذيان. فهذا وأمثاله لا يمكن أن ندعي استحالته من حيث مجرد اللفظ فإنا في تأويل ظواهر التشبيه قضينا باحتمالات أبعد من هذه ولم يكن ذلك مبطلاً للنصوص، ولكن الرد على هذا القائل أن الأمة فهمت بالإجماع من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً وعدم رسول الله أبداً وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص فمنكر هذا لا يكون إلا منكر الإجماع، وعند هذا يتفرع مسائل متقاربة مشتبكة يفتقر كل واحد منها إلى نظر، والمجتهد في جميع ذلك يحكم بموجب ظنه يقيناً وإثباتاً والغرض الآن تحرير معاقد الأصول التي ياتي عليها التكفير وقد نرجع إلى هذه المراتب السلتة ولا يعترض فرع إلا ويندرج تحت رتبة من هذه الرتب، فالمقصود التأصيل دون التفصيل. فإن قيل: السجود بين يدي الصنم كفر، وهو فعل مجرد لا يدخل تحت هذه الروابط، فهل هو أصل آخر؟ قلنا: لا، فإن الكفر في اعتقاده تعظيم الصنم، وذلك تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم

والقرآن ولكن يعرف اعتقاده تعظيم الصنم تارة بتصريح لفظه، وتارةً بالإشارة إن كان أخرساً، وتارة بفعل يدل عليه دلالة قاطعة كالسجود حيث لا يحتمل أن يكون السجود لله وإنما الصنم بين يديه كالحائط وهو غافل عنه أو غير معتقد تعظيمه، وذلك يعرف بالقرائن. وهذا كنظرنا أن الكافر إذا صلى بجماعتنا هل يحكم باسلامه، أي هل يستدل على اعتقاد التصديق؟ فليس هذا إذن نظراً خارجاً عما ذكرناه. ولنقتصر على هذا القدر في تعريف مدارك التكفير وإنما أوردناه من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا له والمتكلمون لم ينظروا فيه نظراً فقهياً، إذ لم يكن ذلك من فنهم، ولم ينبه بعضهم بها لقرب المسألة من الفقهيات، لأن النظر في الأسباب الموجبة للتكفير من حيث أنها أكاذيب وجهالات نظر عقلي، ولكن النظر من حيث أن تلك الجهالات مقتضية بطلان العصمة وإنما الخلود في النار نظر فقهي وهو المطلوب. ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد وحذفنا الحشو والفضول المستغنى عنه، الخارج من أمهات العقائد، وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه على الجلي الواضح الذي لا تقصر أكثر الأفهام عن دركه، فنسأل الله تعالى ألا يجعله وبالاً علينا، وأن يضعه في ميزان الصالحات إذا ردت إلينا أعمالنا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً آمين.==

 التبر المسبوك في نصحية الملوك أبو حامد

 الغزالي 

التبر المسبوك في نصيحة الملوك أبو حامد الغزالي المحتوايات: أصول الإيمان وأصول العدل والإنصاف عشرة بيان العينين اللتين هما مشرب شجرة الإيمان في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم في سياسة الوزارة وسيرة الوزراء في ذكر الكتاب وآدابهم في سمو همم الملوك في ذكر حلم الحكماء في شرف العقل والعقلاء في ذكر النساء أصول الإيمان ابتداء قاعدة الاعتقاد الذي هو أصل الإيمان إعلم أيها السلطان أنك مخلوق ولك خالق وهو خالق العالم وجميع ما في العالم، وأنه لا شريك له، فرد لا مثل له، كان في الأزل وليس لكونه زوال، ويكون مع الأبد وليس لبقائه فناء، وجوده في الأبد والأزل وما للعدم إليه سبيل، وهو موجود بذاته، وكل أحد محتاج إليه وليس له إلى أحد احتياج، وجوده به ووجود كل شيء به. الأصل الثاني في تنزيه الخالق تعالى إعلم أن البارئ، تعالى ذكره، ليس له صورة ولا مثل، وأنه لا ينزل ولا يحل في قالب، وأنه تعالى منزّه عن الكيف والكم، وعن لماذا وكم، وأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبه شيء، وكلما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التخيل والتمثيل والتكيف فانه منزّه عن ذلك، لأن ذلك من صفات المخلوقين وهو خالقها فلا يوصف بها، وأنه تعالى جدّه ليس في مكان ولا على مكان، فإن المكان لا يحصره، وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه، وعرشه تحت قدرته وتسخيره، وأنه قبل العرش كان فترها عن المكان وليس العرش بحامل له بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، واستواؤه على العرش كما قال، وعلى الوجه الذي قال وبالمعنى الذي أراد، استواء منزهاً عن الاستقرار والمماسة والتمكن والحلول والانتقال، وهو سبحانه فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب الى البعيد والقريب من حبل الوريد، وهوعلى كل شيء قدير وشهيد، فعّال لما يريد لا يزال في نعوت الجمال، وصفات الجلال، منزهاً عن الزوال والانتقال، مستعيناً عن زيادة الاستكمال، وأنه منزه عن الحاجة إلى المكان قبل خلقه العرش وبعد خلقه العرش، وأنه متّصف بالصفة التي كان عليها في الأزل، ولا سبيل إلى التغير والانقلاب إلى صفاته، وهو سبحانه مقدّس عن صفات المخلوقين ومنزّه عنهم، وهو في الدنيا معلوم وفي الآخرة مرئي كما نعلمه ي الدنيا بلا مثل ولا شبيه، لأن تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. الأصل الثالث في القدرة وأنه تعالى على كل شيء قدير وملكه في نهاية الكمال، ولا سبيل إلى العجز والنقصان بل ما شاء وما يشاء يفعل، وأن السموات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش في قبضة قدرته وتحت قهره وتسخيره ومشيئته، وهو مالك لا ملك إلا ملكه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الأصل الرابع في العلم وأنه تعالى عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء، فليس شيء في العلا إلى الثرى إلا قد أحاط به علمه لأن الأشياء جميعها بعلمه ظهرت وبإرادته خلقها وبقدرته كونها، وأنه تعالى يعلم عدة رمال القفار، وقطرات الأمطار، وورق الأشجار، وغوامض الأفكار، وما دارت عليه الرياح والهواء في علمه ظاهر مثل عدد نجوم السماء. وأن جميع ما في العالم بإرادته ومشيئته وليس شيء من قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو ضر، زيادة أو نقصان، راحة أو تعب، صحة أو صب، إلا بحكمه وتدبيره، ومشيئته وتقديره. لو اجتمع الأنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحرَكوا في العالم ذرة أو يسكنوها أو ينقصوا منها أو يزيدوا فيها بغير إرادته وحوله وقوته لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا، وما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، ولا ترد مشيئته ومهما كان ويكون أو هو كائن فإنه بتدبيره وأمره وتسخيره. الأصل الخامس والسادس في أنه سميع بصير وكما أنه عالم بجميع المعلومات فإنه سميع لكل مسموع، بصير لكل مبصر، وأنه بسمع واحد وبصر واحد يرى دبيب النملة في الليلة المظلمة، ولا يخفى عن سمعه صوت الدود تحت أطباق الأرض، وأن سمعه ليس بأذن وبصره ليس بعين. وكما أن علمه لا يصدر عن فكرة ففعله بغير آلة وعدة يقول للشيء كن فيكون. الأصل السابع في الكلام وأن أمره تعالى على جميع الخلق نافذ واجب مهما أخبره من وعد ووعيد فانه حق وأمره كلامه. وكما أنه عالم مريد قدير سميع بصير فهو متكلم وكلامه بغير حلق ولا لسان، ولا فم ولا أسنان، والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزَلة على الأنبياء، عليهم السلام جميعها، كلامه. وكلامه صفته وكل صفاته قديمة، وكما أن الكلام عند الآدمي حرف وصوت فكلام الله منزَه عن الأصوات والحروف. الأصل الثامن في أفعاله تعالى

 

وأن جميع ما في العالم مخلوق له تعالى وليس معه شريك ولا خالق بل هو الخالق الواحد، ومهما خلقه من تعب ومرض وفقر وعجز وجهل فعدل منه، ولا يمكن الظلم في أفعاله لأن الظالم هو الذي يتصرف في ملك غيره، والخالق تعالى لا يتصرف إلا في ملكه، وليس معه مالك سواء، وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له، وهو المالك بلا شبيه ولا شريك، وليس لأحد عليه اعتراض بلم وكيف، ولكن له الحكم والأمر في كل أفعاله وما لأحد غير التسليم والنظر إلى صنعه والرضا بقضائه. الأصل التاسع في ذكر الآخرة وأنه تعالى خلق العالم من نوعين جسد وروح، وجعل الجسد منزلاً للروح لتأخذ زاداً لآخرتها من هذا العالم، وجعل لكل روح مدة مقدّرة تكون في الجسد، فآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان، فإذا جاء الأجل فرّق بين الروح والجسد، وإذا وضع الميت في قبره أعيدت روحه إلى جسده ليجيب سؤال منكر ونكير، وهما شخصان هائلان عظيمان فيسألانه من ربك ومن نبيك فإن استعجم ولم يجب عذّباه وملآ قبره حيات وعقارب. ويوم القيامة، يوم الحساب والمكافأة والمناقشة والمجازاة، تردّ الروح إلى الجسد وتنشر الصحف وتعرض الأعمال على الخلائق، فينظر كل إنسان في كتابه فيرى أعماله، ويشاهد أفعاله، ويعلم مقدار طاعته ومعصيته، وتوزن أعماله في ميزان الأعمال ثم يؤمر بالجواز على الصراط. والصراط أدق من الشعرة وأحدّ من الشفرة فكل من كان في هذا العالم على الطريقة المستقيمة الصالحة، وسلوك المحجة الواضحة، عبر على الصراط وجازه في راحة واستراحة، وإن لم يكن على السيرة المحمودة، والأعمال الصالحة الرشيدة وعصي مولاه، واتَبع هواه، فأنه لا يجد الطريق على الصراط ولا يهتدي إلى الجواز ويقع في جهنم. والكل يوقفون على الصراط ويُسألون عن أفعالهم؛ فيُسأل الصادقون عن صدقهم ويمتحن المراؤون والمنافقون ويفضحون، فمن الناس قوم يدخلون الجنة بغير حساب وجماعة يحاسبون بالرفق والمسامحة، وجماعة يحاسبون بالصعوبة والمناقشة والمحاققة، ثم يسحب الكفار إلى نار جهنم بحيث لا يجدون خلاصاً، ويدخل أهل الجنة ويؤمر بالعصاة إلى النار، وكل من نالته شفاعة الأنبياء والعلماء والأكابر عُفي عنه، وكل من ليس له شفيع عوقب بمقدار إثمه وعُذب بقدر جرمه، ثم يدخل الجنة إن كان قد سلم معه أيمانه. الأصل العاشر في ذكر رسول الله (ﷺ ) ولما قدّر الله تعالى هذا التقدير وجعل الإنسان وأحواله، واكتسابه وأعماله، منها ما هو سبب لسعادته، ومنها ما هو سبب لشقاوته،والإنسان لا يقدر أن يعرف ذلك من تلقاء نفسه، خلق الله تعالى، بحكم فضله ورحمته، وطوله ومنته، ملائكة وبعثهم إلى أشخاص قد حكم لهم بالسعادة في الأزل وهم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فأرسلهم إلى الخلق ليوضحوا لهم طرق السعادة والشقاوة لئلا يكون للناس على الله حجة، وأرسل نبينا محمداً ﷺ آخراً، وجعله بشيراً ونذيراً، فأوصل نبوّته إلى درجة الكمال، فلم يبقَ للزيادة فيه مجال، ولهذا جعله خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، وأمر الخلائق من الأنس والجن بطاعته واتباعه وجعله سيد الأولين والآخرين، وجعل أصحابه خير أصحاب الأنبياء، صلوات اللّه عليهم أجمعين. ذكر فروع شجرة الإيمان إعلم أيها السلطان أن كل ما كان في قلب الإنسان من معرفة واعتقاد فذلك أصل الإيمان، وما كان جارياً على أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع الإيمان. فإذا كان الفرع ذاوياً دلّ على ضعف الأصل فإنه لا يثبت عند الموت، وعمل البدن عنوان إيمان القلب. والأعمال التي هي فروع الإيمان هي تجنب المحارم وأداء الفرائض، وهما قسمان: أحدهما بينك وبين الله تعالى مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة واجتناب شرب الشراب والعفة عن الحرام. والأخرى بينك وبين الخلق وهي العدل في الرعية والكف عن الظلم. والأصل في ذلك أن تعمل فيما بينك وبين الخالق تعالى من طاعة أمره والازدجار بزجره، وما تختار أن تعتمده عبيدك في حقك، وأن تعمل فيما بينك وبين الناس ما تؤثر أن يعمل معك من سواك إذا كان غيرك السلطان وكنت من رعيته.

 

واعلم أنّ ما كان بينك وبين الخالق سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة.

 

وأصول العدل والإنصاف عشرة الأصل الأول من ذلك هو أن تعرف أولاً قدر الولاية وتعلم خطرها فإن الولاية نعمة من نعم الله عز وجل، من قام بحقّها نال من السعادة ما لا نهاية له ولا سعادة بعده، ومن قصّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى. والدليل على عظم قدرها، وجلالة خطرها، ما روي عن رسول الله، ﷺ، أنه قال:)عدل السلطان يوماً واحداً أحب إلى الله من عبادة سبعين سنة.( وقال عليه الصلاة والسلام: )إذا كان يوم القيامة لا يبقى ظل ولا ملجأ إلا ظل الله ولا يستظل بظله ألا سبعة أناس: سلطان عادل ي رعيته، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل يكون في السوق وقلبه في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل ذكر الله في خلوته فأذرى دمعه من مقلته، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال ومال إلى نفسها فقال إني أخاف الله، وجل يتصدق سراً بيمينه ولم تشعر بها شماله( . وقال عليه الصلاة والسلام:)أحب الناس إلى الله تعالى وأقربهم إليه السلطان العادل، وأبغضهم إليه وأبعدهم منه السلطان الجائر( .وقال عليه الصلاة والسلام: )والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء من العمل مثل عمل جملة الرعية، وكل صلاة يصلّيها تعدل سبعين ألف صلاة( . فإذا كان كذلك فلا نعمة أجلّ من أن يعطى العبد درجة السلطنة ويجعل ساعة من عمره بجميع عمر غيره، ومن لم يعرف قدر هذه النعمة واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه أن يجعله الله من جملة أعدائه. ومما يدلّ على خطر الولاية ما روي عن ابن عباس أن رسول الله، ﷺ، أتى بعض الأيام فلزم حقه باب الكعبة، وكان في البيت نفر من قريش فقال: )يا سادات قريش عاملوا رعاياكم وأتباعكم بثلاثة أشياء: إذا سألوكم الرحمة فارحموهم، وإذا حكموكم فاعدلوا فيهم، واعملوا بما تقولون؛ فمن لم يعمل بهذا فعليه لعنة الله وملائكته لا يقبل الله منه فرضاً ولا نفلاً( .وقال عليه الصلاة والسلام: )من حكم بين إثنين بظلم فلعنة الله على الظالمين( ، وقال عليه الصلاة والسلام: )ثلاثة لا ينظر الله إليهم: سلطان كجائز كاذب، وشيخ زانٍ، وفقير متكبر، يعني أنه متكبر للطمع( . وقال عليه الصلاة والسلام يوماً للصحابة: )سيأتي عليكم يوم تفتحون فيه جانبي الشرق والغرب ويصير في أيديكم، وكل عمال تلك الأماكن في النار إلا من اتقى الله وسلك سبيل التقوى وأدّى الأمانة( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ما من عبد ولاّه الله أمر رعية فغشهم ولم ينصح لهم ولم يشفق عليهم الا حرَم الله عليه الجنة( . وقال عليه الصلاة والسلام: )من ولَي أمور المسلمين ولم يحفظهم كحفظة أهل بيته فقد تبوأ مقعده من النار(. وقال عليه الصلاة والسلام: )رجلان من أمتي يحرمان شفاعتي: ملك ظالم ومبتدع غال في الدين يتعدى الحدود( . وقال عليه الصلاة والسلام: )أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة السلطان الظالم( . وقال عليه الصلاة والسلام: )خمسة قد غضب الله عليهم إن شاء أمضى غضبه ومقرهم النار: أمير قوم يطيعونه يأخذ حقه منهم ولا ينصفهم من نفسه ولا يرفع الظلم عنهم، ورئيس قوم يطيعونه ولا يساوي بين القوي والضعيف ويحكم بالميل والمحاباة، ورجل لا يأمر أهله وأولاده بطاعة الله ولا يعلمهم أمور الدين ولا يبالي من أين أطعمهم، ورجل استأجر أجيراً فتمم عمله ومنعه أجرته، ورجل ظلم زوجته في صداقها( . ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبع يوماً جنازة فتقدم رجل فصلى عن الجنازة فلما دفن الميت وضع ذلك الرجل يده على القبر وقال: اللهم إن عذبته فبحقك لأنه عصاك وأن رحمته فإنه فقير إلى رحمتك، وطوبي لك أيها الميت إن لم تكن أميراً أو عريفاً أو كابتاً أوعوانياً أو جابياً. فلما تكلم بهذه الكلمات غاب شخصه عن عيون الناس فأمر عمر بطلبه فلم يوجد، فقال عمر: هذا الخضر عليه السلام.

 

وقال النبي ﷺ: )ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للعوانية فإنهم أقوام يعلقون من السماء بذوائبهم في القيامة، ويسحبون على وجوههم إلى النار، يودون لو لم يعلموا عملاً قط( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ما من رجل ولي أمر عشرة من الناس إلا وجيء به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن كان عمله صالحاً فكّ الغل عنه، وإن كان عمله سيئاً زيد عليه غل آخره( . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء حين يلقاه إلا من عدل وقضى بالحق ولم يحكم بالهوى ولم يمل مع أقاربه ولم يبدل حكماً لخوف أو طمع، لكن يجعل كتاب الله مرآته ونصب عينيه ويحكم بما فيه. وقال رسول الله ﷺ: )يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الله جلّ وعلا: )أنتم كنتم رعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي( . ثم يقول لأحدهم: )لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به( . فيقول: يا رب لأنهم عصوك وخالفوك. فيقول جلّ جلاله: )لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي( . ثم يقول للآخر: )لم ضربت عبادي أقل من الحد الذي أمرت به( ? فيقول: يا رب رحمتهم. فيقول تعالى: )كيف تكون أرحم مني خذوا الذي زاد والذي نقص فاحشوا بهما زوايا جهنم(.

 

قال حذيفة بن اليمان: أنا لا أثني على أحد من الولاة سواء كان صالحاً أو غير صالح، لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: )يؤتي بالولاة العادلين والظالمين يوم القيامة فيوقفون على الصراط فيوحي الله إلى الصراط أن ينفضهم إلى النار مثل من جار في الحكم أو أخذ رشوة على القضاء أو أعار سمعه لأحد الخصمين دون الآخر، فيسقطون من الصراط فيهوون سبعين سنة في النار حتى يصلوا إلى قرارها( . وقد جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان يخرج ليلاً متنكراً بحيث لا يعرفه أحد، وكان يسأل كل من يلقاه عن حال داود سراً، فجاءه جبريل في صورة رجل فقال له داود: ما تقول في داود? فقال: نعم العبد، إلا أنه يأكل من بيت المال ولا يأكل من كدّه وتعب يديه. فعاد داود إلى محرابه باكياً حزيناً وقال : إلهي علمني صنعة آكل بها من كدي وتعب يدي. فعلمه الله تعالى صنعة الزرد. وكان عمر بن الخطاب يخرج كل ليلة يطوف مع العسس حتى يرى خللاً يتداركه وكان يقول: لوتركت عنزاً جرباء على جانب ساقية لم تدهن لخشيت أن أسئل عنها في القيامة. فانظر أيها السلطان إلى عمر مع احتياطه وعدله وما وصل أحد إلى تقواه وصلاته كيف يتفكر ويتخوف من أهوال يوم القيامة وأنت قد جلست لاهياً عن أحوال رعيتك غافلاً عم أهل ولايتك. قال عبد الله بن عمر وجماعة من أهل بيته: كنا ندعو الله أن يرينا عمر في المنام، فرأيته بعد أثني عشر كأنه قد اغتسل وهو متلفع فقلت: يا أمير المؤمنين كيف وجدت ربك وبأي حسناتك جازاك? فقال: يا عبد الله كم لي منذ فارقتك? فقلت: إثنتا عشرة سنة. فقال: منذ فارقتكم في الحساب وخفت أن أهلك إلا أن الله غفور رحيم، جواد كريم. فهذا حال عمر ولم يكن له من دنياه شيء من أسباب الولاية سوى درة. حكاية: أرسل قيصر ملك لروم رسولاً إلى عمر بن الخطاب لينظر أحواله ويشاهد فعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم? قالوا: ليس لنا ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة. فخرج الرسول في طلبه فوجده نائماً في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة تحت رأسه والعرق يسقط منه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل تكون جميع ملوك الأرض لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالة، ولكنك يا عمر عدلت فأمنت فنمت وملكنا يجور لا جرم أنه لا يزال ساهراً خائفاً. أشهد أن دينكم لدين الحق ولولا أني أتيت رسولاً لأسلمت، ولكن سأعود بعد هذا وأسلم. أيها السلطان خطر الولاية عظيم، وخطبها جسيم، والشرح في ذلك طويل، ولا يسلم الوالي الا بمقارنة عملاء الدين ليعلموه طرق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر. الأصل الثاني أن يشتاق أبداً إلى رؤية العلماء

 

ويحرص على استماع نصحهم، وأن يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا فإنهم يثنون عليك، ويغرونك ويطلبون رضاك طمعاً فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام، ليحصلوا منه شيئاً بالمكر والحيل. والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال، ومنصفك في الوعظ والمقال. كما يقال أن شقيقاً البلخي دخل على هارون الرشيد فقال له: أنت شقيق الزاهد? فقال: أنا شقيق ولست بزاهد. فقال له: أوصني. فقال: إن الله تعالى قد أجلسك مكان الصديق، وأنه يطلب منك مثل صدقة، وأنه أعطاك موضع عمر بن الخطاب الفاروق، وأنه يطلب منك الفرق بين الحق والباطل مثله، وأنه أقعدك موضع عثمان بن عفان ذي النورين وهو يطلب منك مثل حيائه وكرمه، وأعطاك موضع علي بن أبي طالب وهو يطلب منك مثل العلم والعدل كما يطلب منه. فقال له: زدني من وصيتك. فقال: نعم. اعلم أنا لله تعالى داراً تعرف بجهنم، وأنه قد جعلك بواب تلك الدار وأعطاك ثلاثة أشياء بيت المال والسوط والسيف، وأمرك أن تمنع الخلق من دخول النار بهذه الثلاثة فمن جاء محتاجاً فلا تمنعه من بيت المال، ومن خالف أخر ربه فأدبه بالسوط، ومن قتل نفساً بغير حق فاقتله بالسيف بإذن ولي المقتول، فإن لم تفعل ما أمرك فأنت الزعيم لأهل النار، والمتقدم إلى البوار. فقال له: زدني. فقال: إنما مثلك كمثل معين الماء، وسائر العلماء في العالم كمثل السواقي، فإذا كان المعين صافياً لا يضر كدر السواقي، وإذا كان المعين كدراً لا ينفع صفاء السواقي.

 

حكاية: خرج هارون الرشيد والعباس ليلاً زيارة الفضيل بن عياض، فلما وصلا إلى بابه وجداه يتلو هذه الآية: )أم حَسِبَ الذين إجتَرحوُا السيئَات أن نجَعلُهُم كالذِينَ آمنَوُا وعَمِلوُا الصَالِحاتِ( ومعناها: أيظن الذين اكتسبوا الخطايا ويعملون الأعمال المذمومة أن نسوي بينهم في الآخرة، وبين الذين يعملون الخيرات وهم مؤمنون. كلا ساء ما يحكمون. فقال هارون: إن كنا جئنا للموعظة فكفى بهذه موعظة. ثم أمر العباس أن يطرق عليه الباب فطرق بابه فقال: افتح الباب لأمير المؤمنين. فقال الفضيل: ما يصنع عندي أمير المؤمنين? فقال: أطِع أمير المؤمنين وافتح الباب. وكان ليلاً والمصباح يتقد فأطفأه، وفتح الباب، فدخل الرشيد وجمل يَطوف بيده ليصافح بها الفضيل، فلما وقعت يده عليه قال: الويل لهذه اليد الناعمة، إن لم تنج من العذاب في القيامة. ثم قال له: يا أمير المؤمنين استعد لجواب الله تعالى، فانه يوقفك مع كل واحد مسلم على حدة يطلب منك إنصافك إياه. فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً وضمه إلى صدره. فقال له العباس: مهلاً فقد قتلته. فقال الرشيد للعباس: ما جعلك هامان إلا وجعلني فرعون. ثم وضع الرشيد بين يديه ألف دينار وقال له: هذه من وجه حلال من صداق أمي وميراثها. فقال له الفضيل: أنا آمرك أن ترفع يديك عما فيها وتعود إلى خالقك وأنت تلقيه إليّ. فلم يقبلها وخرج من عنده. نكتة: سأل عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل. فقال: كل مسلم أكبر منك سناً فكن له ولداً، ومن كان أصغر منك فكن له أباً، ومن كان مثلك فكن له أخاً، وعاقب كل مجرم على قدر جرمه، وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن ذلك يصيرك إلى النار. نكتة: حضر بعض الزهاد بين يدي خليفة، فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه فسمعته يقول يوماً وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته، ولكن الشكر لله إذ بصري سالم. وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس ثوباً أحمر. فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصمائه. فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة فأنظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك. نكتة أخرى: حضر أبو قلابة مجلس عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني قال: من عهد آدم إلى وقتنا هذا لم يبق خليفة سواك. فقال: زدني. فقال: أنت أول خليفة يموت. فقال: زدني. فقال: إن كان الله معك فممن تخاف وإن لم يكن معك فإلى من تلتجىء. قال: حسبي ما قلت. حكمة: كان سليمان بن عبد الملك خليفة فتفكر يوماً وقال: قد تنعمت في الدنيا طويلاً فكيف حالي في الآخرة? وأتى إلى أبي حازم، وكان عالم أهل زمانه وزاهد أوانه، وقال: أنفذ لي شيئاً من قوتك الذي تفطر عليه. فأنفذ له قليلاً من نخالة وقد شواها، فقال: هذا فطوري. فلما رأي سليمان ذلك أفطر الليلة الثالثة على تلك النخالة المشوية، فيقال إنه في تلك الليلة تغشى أهله فكان منها عبد العزيز وجاء منه عمر بن عبد العزيز. وكان واحد زمانه في عدله وإنصافه وزهده وإحسانه، وكان على طريقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل أن ذلك ببركة نيته وصيامه وأكله من ذلك الطعام. نكتة: سئل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك? قال: كنت أضرب يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة، فعمل ذلك الكلام في قلبي. نكتة أخرى: رأى بعض الأكابر هارون الرشيد في عرفات وهو حافٍ حاسر قائم على الرمضاء الحارة، وقد رفع يديه وهو يقول: إلهي أنت أنت وأنا أنا الذي دأبي كل يوم أعود إلى عصيانك ودأبك أن تعود إليّ برحمتك. فقال بعض الكبراء: انظروا إلى تضرع جبار الأرض بين يديّ جبار السماء. نكتة أخرى: سأل عمر بن عبد العزيز يوماً حازم الموعظة فقال له أبو حازم: إذا نمت فضع الموت تحت رأسك وكل ما أحببت أن يأتيك الموت وأنت عليه مصرّ فالزمه، وكل مالا تريد أن يأتيك الموت وأنت عليه فاجتنبه، فربما كان الموت منك قريباً. فينبغي لصاحب الولاية أن يجعل هذه الحكاية نصب عينيه، وأن يقبل المواعظ التي وعظ بها غيره فكلما رأى علماً سأله أن يعظه، وينبغي للعلماء أن يعظوا الملوك بمثل هذه المواعظ ولا يغرّوهم ولا يدّخروا عنهم كلمة الحق وكل من غرّهم فهو مشارك لهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. الأصل الثالث من ذلك ينبغي أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم لكن تهذّب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك، فلا ترضى لهم بالظلم فإنك تُسأل عن ظلمهم كما تُسأل عن ظلم نفسك. نكتة: كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى عامله أبي موسى الأشعري: )أما فإن أسعد الولاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته. فإياك والتبسّط فإن عمالك يقتدون بك، وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضراً فأكلت كثيراً حتى سمنت فكان سمنها سبب هلاكها لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل( . وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كان ذلك الظلم منسوباً إليه وأخذ به وعوقب عليه. وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحدُ أشد غبناً ممن باع دينه وآخرته بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فانهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم من الشهوات. وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه في النار ليصلوا إلى أعراضهم، وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى في هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على الرعية أن يرتّب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار، وينظر فيها كما ينظر في أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولاً من باطنه؛ وذلك أن لا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه. ويجب أن يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ، جلّت قدرته، وأن الشهوة والغضب من جند الشيطان. فمن يجعل جند الله وملائكته أسرى جند الشيطان كيف يعدل في غيرهم? وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل شعاعها إلى الرعية، ومن طلب الشعاع في غير الشمس فقد طلب المحال، وطمع فيما لا ينال.

 

واعلم أيها السلطان وتبيّن أن ظهور العدل من كمال العقل، وكمال العقل أن ترى الأشياء على ما هي، وتدرك حقائق باطنها ولا تغتر بظاهرها. مثلاً إذا كنت تجور على الناس لأجل الدنيا فينبغي أن تنظر أي شيء مقصودك من الدنيا، فإن كان مقصودك من الدنيا أكل الطعام الطيب فيجب أن تعلم أن هذه شهوة بهيمة في صورة آدمي، لأن الشهوة إلى الأكل من طباع البهائم، وإن كان مقصودك لبس التاج فإنك امرأة في صورة رجل لأن التزين والرعونة من أعمال النساء، وإن كان مقصودك أن تمضي غضبك على أعدائك فأنت أسد أو سبع في صورة آدمي لأن إحضار الغضب للقلب من طباع السباع، وإن كان مقصودك أن تخدمك الناس فأنت جاهل في صورة عاقل فإنك لو كنت عاقلاً لعلمت أن الذين يخدمونك إنما هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم وإن خدمتهم وسجودهم لأنفسهم لا لك وعلامة ذلك أنهم لو سمعوا إرجافاً بأن الولاية تؤخذ منك وتعطى لسواك أعرضوا بأجمعهم عنك وفي أي موضع علموا الدرهم خدموا وسجدوا لذلك الموضع، فعلى الحقيقة ليست هذه خدمة وإنما هي ضحكة.

 

والعاقل من نظر أرواح الأشياء وحقائقها ولا يغتر بصورها، وحقيقة هذه الأعمال ما ذكره وأوضحناه، فكل من لم يتيقن ذلك فليس بعاقل ومن لم يكن عاقلاً لم يكن عادلاً ومن لم يكن عادلاً مأواه جهنم، فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل. الأصل الرابع إن الوالي في الأغلب يكون متكبراً ومن التكبر يحدث عليه السخط الداعية إلى الانتقام، والغضب غول العقل وعدوه وآفته، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الغضب في ربع المهلكات. وإذا كان الغضب غالباً فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء، ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع والدواب. حكاية: يقال أن أبا جعفر المنصور أمر بقتل رجل، والمبارك بن الفضل حاضر فقال: يا أمير المؤمنين أسمع خبراً قبل أن تقتله: روى الحسن البصري عن رسول الله ﷺ أنه قال: )إذا كان يوم القيامة وجمع الخلائق في صعيد واحد، نادي منادٍ من كان له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا عن الناس، فقال أطلقوه فأني قد عفوت عنه( . وأكثر ما يكون غضب الولاة على من ذكرهم وطوّل لسانه عليهم فيسعون في سفك دمه. قال عيسى عليه السلام ليحيى بن زكريا عليهما السلام: إذا ذكرك أحد بشيء وقال فيك صحيحاً فاشكر الله، وإن قال فيك كذباً فازدد من ذكر الشكر، فإنه يزيد في ديوان أعمالك وأنت مستريح، يعني أن حسناته تكتب لك في ديوانك. وذكر عند رسول الله ﷺ رجل فقيل إن فلاناً رجل قوي شجاع فقال: كيف ذاك? فقالوا: يقوى بكل أحد وما صارع أحداً إلا صرعه فقال عليه الصلاة السلام: )القوي الشجاع من قهر نفسه لا من صرع غيره( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ثلاث من كانت فيه فقد كمل إيمانه من كظم غيظه وأنصف في حال رضاه وغضبه وعفا عند المقدرة( . وقال عمر ابن الخطاب: لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب. حكاية: قيل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقاً مملوأً من التمر الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى الحسين ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله? قال: خذه فأنه بلغني عنك إنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا. حكاية أخرى: خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله ﷺ.

 

ويروى أن زين العابدين استدعى غلاماً له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي? فقال: بلى قد سمعت، قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ? قال: أمنت وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي. ويروى عنه أنه كان له غلام فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا? قال: فعلته غمداً لأغيظك، قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس أذهب فأنت حر لوجه الله تعالى. ويروى أن رجلاً سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول.

 

وقال رسول الله ﷺ: )قد يبلغ الرجل بحلمه وعفوه درجة الصائم القائم، ويكون رجل يكتب في جريدة الجائرين ولا ولاية له ولا حكم إلا على أهل منزله( . ويروى أن إبليس رأى موسى عليه السلام فقال: يا موسى أعلمك ثلاثة أشياء وتطلب لي من الله حاجة واحدة، فقال: وما الثلاثة أشياء? فقال يا موسى أحذر من الغضب والحرد، فإن الحَردان يكون خفيف الرأس وأنا ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة، وأحذر من البخل فإني أفسد على البخيل دنياه ودينه، وأحذر من النساء فإني ما نصبت للخلق شركاً اعتمد عليه مثل النساء. وقال عليه الصلاة والسلام: )من كظم غيظه وهو قادر على أن لايكظمه ملأ الله قلبه بالإيمان، ومن لم يلبس ثوباً طويلاً خوفاً من التكبر والخيلاء ألبسه الله تعالى حلل الكرامة( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ويل لمن يغضب وينسى غضب الله( . جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: علمني عملاً ادخل به الجنة، فقال: لا تغضب. قال: ثم ماذا? قال: استغفر الله قبل صلاة العصر سبعين مرة لتكفر عنك ذنوب سبعين سنة، فقال: ما لي ذنوب سبعين سنة، فقال: لأمك، قال: وما لأمي ذنوب سبعين سنة، قال: لأبيك، قال: وما لأبي ذنوب سبعين سنة قال: لأخوتك? قال: نعم. وروى ابن مسعود أن رسول الله ﷺ كان يقسم يوماً مالاً فقال له رجل: ما هذه القسمة? يعني أنها ليست بإنصاف، فحكيت ذلك لرسول الله ﷺ فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئاً سوى أن قال: رحم الله أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى. فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل إيمانهم ثابتاً اثر فيه هذا القدر، فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم من الإيمان، وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان. عامل يتناول من أموال المسلمين في كل سنة كذا وكذا ألف درهم ويبقى في ذمته، ويطالب بها في القيامة ويحصل بمنفوعها ويبؤ بالعقوبة والعذاب يوم المرجع والمآب كيف تؤثر عنده هذه الأسباب? وهذا نهاية الغفلة، وقلة الدين وضعف النحلة. الأصل الخامس إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية وإن الوالي سواك فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك. روي أن رسول الله ﷺ كان قاعداً يوم بدر في ظل فهيط الأمين جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أتقعد في الظل وأصحابك في الشمس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: )من أحب النجاة من النار والدخول إلى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين( . وقال عليه الصلاة والسلام: )من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم( . مس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: )من أحب النجاة من النار والدخول الى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين( . وقال عليه الصلاة والسلام: )من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم( . الأصل السادس أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك وأحذر من هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات.

 

نكتة: كان يوماً عمر بن عبد العزيز يقضي حوائج الناس فجلس إلى الظهر وتعب فدخل بيته ليستريح من تعبه فقال له ولده: وما الذي يؤمنك أن يأتيك الموت في هذه الساعة وعلى بابك منتظر حاجة وأنت مقصر في حقه? فقال: صدقت. ونهض فعاد إلى مجلسه.

 

الأصل السابع أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة، لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة. نكتة: سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعض الصالحين فقال: هل رأيت من حلاي شيئاً تكرهه? قال: سمعت أنك وضعن على مائدتك رغيفين وأن لك قميصين أحدهما لليل والآخر للنهار، فقال: غير هذين شيء? فقال: لا. قال: والله إن هذين لا يكونان أبداً. الأصل الثامن إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف. قال ﷺ: )كل والٍ لا يرفق برعيته لا يرفق الله به يوم القيامة(. ودعا عليه الصلاة والسلام يوماً: )اللهم الطف بكل والٍ يلطف برعيته واعنف على كل والٍ يعنف على رعيته(. وقال عليه الصلاة والسلام: )الولاية والإمرة حسنتان لمن قام بحقهما سيئتان لمن قصر فيهما(. نكتة: كان هشام بن عبد الملك من خلفاء بني أمية فسأل يوماً أبا حازم وكان من العلماء: ما التدبير في النجاة من أمور الخلافة? قال: أن تأخذ الدرهم الذي تأخذه من وجه حلال، وان تضعه في موضع حق. قال: من يقدر عل هذا? قال: من يرغب في نعيم الجنان، ويرهب من عذاب النيران. الأصل التاسع أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع قال النبي ﷺ لأصحابه: )خير أمتي الذين يحبونكم وتحبونهم، وشر أمتي الذين يبغضونكم وتبغضونهم ويلعنونكم وتلعنونهم، وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه، وأن لا يعتقد أن الرعية مثله راضون عنه، وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه، بل ينبغي ترتيب معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس(. الأصل العاشر إن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه. كان عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: إني لأصبح ونصف الخلق علي ساخط، ولابد لكل من يؤخذ منه الحق أن يسخط، ولا يمكن أن يرضى الخصمين، وأكثر الناس جهلاً من ترك الحق لأجل رضا الخلق. كتب معاوية إلى عائشة، رضي الله عنهما، أن عظيني عظة مختصرة، فكتبت إليه تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: )من طلب رضا الله تعالى في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط الخلق عليه، مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع الأجير أجرته والمرأة مهرها، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس( بيان العينين اللتين هما مشرب شجرة الإيمان وإذ قد عرفت أصول شجرة الإيمان، وعرفت فروعها، فاعلم أن هناك عينين للعلم تستمد الشجرة منهما الماء. العين الأولى في معرفة الدنيا ولم أوجد فيها الإنسان

 

إعلم يا سلطان العالم أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار، والإنسان مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره، وإنما وطنه وقراره ومكثه واستقراره بعدها. فكل سنة تنقضي من الإنسان فكالمرحلة، وكل شهر ينقضي منه فكاستراحة المسافر في كريقه، وكل أسبوع فكقرية تلقاه، وكل يوم فكفر سوف يقطعه، وكل نفس كخطوة يخطوها، وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة. وهذه الدنيا قنطرة فمن عمر القنطرة واستعجل بعمارتها فني فيها زمانه، ونسى المنزلة التي هي مصيره ومكانه، وكان جاهلاً غير عاقل، وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا لاستعداده لمعاده، ويكتفي منها بقدر الحاجة ومهما جمعه فوق كفايته كان سماً ناقعاً، ويتمنى أن تكون جميع خزائنه وسائر ذخائره رماداً وتراباً لا فضة ولا ذهباً، ولو جمع مهما جمع فإن نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه، وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه نزعه عند موته فحلالها حساب، وحرامها عذاب، أن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب، وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب، وكان إيمانه صحيحاً سالماً لحضرة الديان، فلا وجه ليأسه من الرحمة والرضوان، فإن الله جواد كريم، غفور رحيم.

 

واعلم أيها السلطان أن راحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب، مشوب بالنصب، وبسببها تفوت راحة الآخرة التي هي الدائمة الباقية والملك الذي لا نهاية له ولا فناء، فيسهل على العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء. نكتة: لو كان للإنسان معشوقة وقيل له إن صبرت عنها هذه الليلة سلمت إليك ألف ليلة بلا تعب ولا نصب، وإن كنت تزورها فإنك لا تراها أبداً فإنه كان عشقه لها عظيماً وصبره عنها أليماً لكن يهون عليه صبره على البعد عنها ليلة واحدة لينال الآخرة، بل الدنيا ليست بشيء في جنب الآخرة، ولا شبه بينهما لأن الآخرة لا نهاية لها، ولا يُدرك بالوهم طولها. وقد أفردنا في صفة الدنيا كتاباً لكنا نقتنع الآن بما نورده من حال الدنيا، وقد أوضحنا حالها على عشرة أمثلة. المثال الأول في بيان سحر الدنيا: وقد قال ﷺ: )أحذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت؛ وأول سحرها أنها تريك أنها ساكنة عندك مستقرة معك، وإذا تأملتها خلتها وهي هاربة منك نافرة عنك عل الدوام، وإنما تتسلسل عل التدريج ذرة ذرة ونفساً نفساً(. ومثل الدنيا مثل الظل إذا رأيته حسبته ساكناً وهو يمر دائماً، وكذلك عمر الإنسان يمر بالتدريج عل الدوام وينقص كل لحظة، وكذلك الدنيا تودعك وتهرب عنك وأنت غافل لا تخبر وذاهل لا تشعر، ولذلك قال بعض الشعراء في المعني. وما الدُنيَا وإن كثُرت وطابَت بها اللذاتُ إلا كالـسَـرابِ يمُرُ نعيمُها بـعـدُ اِلـتـذاذِ ويمضِي ذاهباً مرّ السحابِ المثال الثاني من ذلك: ومن سحرها أنها تظهر لك محبة لتعشقها، وتريك أنها لك مساعدة وأنها لا تنتقل عنك إلى غيرك ثم تعود عدوة لك على غفلة. ومثلها مثل امرأة فاجرة خداعة للرجال حتى إذا رأوها عشقوها ودعتهم إلى بيتها فاغتالتهم وأهلكتهم. نكتة: رأى عيسى عليه السلام الدنيا في بعض مكاشفاته وهي على صورة عجوز هرمة فقال لها: كم كان لك من زوج? فقالت: لا يحصون كثرة، فقال عيسى: ماتوا أم طلقوك? فقالت: بل أنا قتلتهم وأفنيتهم، فقال: يا عجباً ومن دواهيك هذا صنعك بأهلك وهم فيك راعبون، وعليك يقتتلون، وبمن مضى لا يعتبرون.

 

المثال الثالث من ذلك: ومن سحرها أنها تزين ظاهرها بمحاسنه، وتخفي محنتها وقواتلها في باطنها، لتغر الجاهل بما يرى من ظاهرها ومثلها كمثل عجوز قبيحة المنظر تخفي وجهها وتلبس حسن الثياب وتتزين وتتجمل لتفتن الخلق من بعد فإذا كشفوا عنها غطاءها وخمارها، والقوا عنها إزارها ندموا على محبتها لما شاهدوه من فضائح، وعاينوه من قبائحها. وقد جاء في الخبر أن الدنيا يؤتى بها يوم القيامة في صورة عجوز قبيحة مشوهة زرقاء العين وحشة الوجه قد كشّرت عن أنيابها، فإذا رآها الخلائق قالوا نعوذ بالله من هذه القبيحة المشوهة، فيقال لهم هذه الدنيا التي كنتم عليها تتحاسدون ولأجلها كنتم تتحاقدون وتسفكون الدماء بغير حق وتقطعون أرحامكم وتغترون زخرفها، ثم يؤمر بها إلى النار فتقول: إلهي أين أحبابي فيؤمر بهم فيلقون في نار جهنم.

 

المثال الرابع من ذلك: إن الإنسان يحسب كم كان في الأزل قبل أن يوجد في الدنيا وكم يكون مدة عدمه بالموت وكم قدر هذه المدة التي بين الأبد والأزل وهي مدة حياته في الدنيا، فيعلم أن مثال الدنيا كطريق المسافر أوله المهد، وآخره اللحد، وفيما بينهما منازل معدودة، وأن كل سنة كمنزل وكل شهر لفرسخ، وكل يوم كميل، وكل نفس كخطوة وهو يسير دائماً فيبقى لواحد من طريقه فرسخ ولآخر أكثر وهو قاعد ذاهل، وساكن غافل، كأنه مقيم لا يبرح وقد اشتغل بتدبير أعمال لا يحتاج إليها بعد عشر سنين وربما يحصل بعد عشرة أيام تحت التراب. المثال الخامس من ذلك: إعلم أن مثل الدنيا تتحف أهلها فيها بشهواتهم ولذاتهم من الأمور الفضائح التي يشاهدونها في الآخرة كمثل إنسان أكل فوق حاجته من طعام حلو سمين إلى أن هاض هاضت معدته فرأى فضيحته من هلاك معدته ونتونة نفسه وكره برازه وحاجته فندم بعد ذهاب لذته وبقاء فضيحته من هلاك معدته. وكذلك كلّما ألف الإنسان لذات الدنيا وتبين له ذلك كانت عاقبته أصعب، ويبتلي بمثل ذلك عند نزعه خروج روحه كمن كان له نعم كثيرة وذهب وفضة وجوار وغلمان وكروم وبساتين وفارقه كان ألم فراق روحه عليه أصعب ممن ليس له إلا القليل فإن ذلك الألم والعذاب لا يزول بالموت بل يزيد لأن تلك المحبة صفة القلب والقلب بحاله لا يموت. المثال السادس من ذلك: إعلم أيها السلطان أن أمور الدنيا أول ما تبدو يظنها الإنسان قريبة مختصرة وأن شغلها لا يدوم،وربما كان من بعض أشغالها وأحوالها أمر يتسلسل منه أمر وينفق فيه بضاعة العمر، فإن عيسى عليه السلام قال: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ولهباً فلا يزال يشرب حتى يهلك ولا يروى. قال النبي ﷺ: )كما لا يمكن من خاض البحر أن لا يناله البلل كذلك لا يمكن من دخل في أمور الدنيا أن لا يتدنس(. المثال السابع من ذلك: مثل من حصل في الدنيا كمثل ضيف دُعي إلى مائدة ومن عادة المضيف أن يزين داره للأضياف ويدعو إليها قوماً بعد قوم، وفوجاً بعد فوج، ويضع بين يدي أضيافه طبقاً من ذهب مملوءاً بالجوهر ومجمرة من فضة من عود وبخور ليتطيبوا ويتبخروا وينالهم طيب رائحتها، ثم يعاودون الطبق والمجمرة بحالهما لمالكهما ليدعو غيرهم كما دعاهم. فمن كان عاقلاً عارفاً برسم الدعوات وضع من ذلك البخور على النار وتطيب وانصرف ولم يطمع أن يتناول الطبق والمجمرة وتركهما بطيبة من قلبه، وشكر لصاحب البيت وربه. ومن كان أبله أحمق توهم أن ذلك الطبق والمجمرة قد أعدا له وهم يريدون أن يهبوهما له فلما همّ بالخروج أخذ الطبق والمجمرة فلم يمكن من الخروج بهما واستعادوهما منه فضاق صدره وتعب قلبه، وطلب الأقالة إذ ظهر ذنبه، فالدنيا كمثل طريق المسافر ودار الضيافة ليتزودوا منها لطريقهم ولا يطمعوا في الدار. المثال الثامن: مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالهم، واهتمامهم بأحوالها، ونسيان الآخرة وإهمالها كمثل قوم ركبوا مركباً في البحر فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة وقضاء الحاجة، فنزلوا إلى الجزيرة والملاّح يناديهم لا تطيلوا المكث لئلا يفوت الوقت ولا تشتغلوا بغير الوضوء والصلاة فإن المركب سائر، فمضوا وتفرّقوا في الجزيرة وانتشروا في نواحيها، فالعقلاء منهم لم يمكثوا وشرعوا في الطهارة وعادوا إلى المركب فأصابوا الأماكن خالية فجلسوا في أطهر الأماكن وأوفقها وأرفعها.

 

ومنهم قوم نظروا إلى عجائب تلك الجزيرة ووقفوا يتنزهون في زهرتها وثمارها، وروضاتها وأشجارها؛ ويسمعون طيب ترنّم أطيارها، ويتعجبون من حصبائها الملونة وأحجارها، فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا موضعاً ولا رأوا متسعاً فقعدوا في أضيق مواضعه وأظلمها.

 

ومنهم قوم لم يقنعوا بالنزهة ولم يقتصروا على الفرجة لكنهم جمعوا من تلك الحصباء الملونة ثم حملوها معهم إلى المركب فلم يجدوا مكاناً ولا فرجة فقعدوا في أضيق المواضع وحملوا ما استصحبوا من تلك الأحجار على أعناقهم فلم يمض إلا يوم أو يومان حتي تغيرت ألوان تلك الأحجار واسودت وفاح منها أكره رائحة ولم يجدوا مخلصاً من الزحام ليلقوا ثقلها عن أعناقهم فندموا عل ما فعلوا، وحصلوا بثقل الأحجار عل أعناقهم إذ كانوا بتحصيلها اشتغلوا. ومنهم قوم وقفوا مع عجائب تلك الجزيرة وتنزهوا، وفي الرجوع لم يتفكروا حتى سار المركب فبعدوا عنه وانقطعوا في أماكنهم وتخلفوا إذ لم يصيحوا إلى المنادي ولم يسمعوا، فمنهم من أكلته السباع وتهشه الضباع. فالقوم المتقدمون هم القوم المؤمنون المتقون، والقوم المتخلفون الهالكون هم الكفار المشركون، الذين نسوا الله ونسوا الآخرة سلموا كليتهم إلى الدنيا وركنوا إليها كما قال عز من قائل: )ذلك بِأنهم اِستحَبُوا الحَياة الدُنيا على الآخرةِ( أي ركنوا إليها. وأما الجماعة المتوسطون فهم العصاة الذين حفظوا أصل الإيمان لكنهم لم يكفوا أيديهم عن الدنيا فمنهم من تمتع بغناه ونعمته ومنهم من تمتع مع فقره وحاجته إلى أن غلبت أوزارهم، وكثرت أوساخهم وأوضارهم. المثال التاسع: روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: )يا أبا هريرة أتريد أن أريك الدنيا?( قلت: نعم يا رسول الله. فأخذ بيدي وانطلق حتى وقف بي على مزبلة فيها رؤوس الآدميين وبقايا عظام نخرة وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين فقال:)يا أبا هريرة هذه الرؤوس التي تراها كانت مثل رؤوسكم مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا. كانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون، فاليوم قد تغيرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها وقت الرعونة والتجمل والتزين قد ألقتها الريح في النجاسات، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها وينهبها بعضهم من بعض قد القوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها؛ فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى فمن أراد أن يبكي علي الدنيا فليبكِ فإنها موضع البكاء(. قال أبو هريرة: فبكى جملة الحاضرين. المثال العاشر: كان في زمن عيسى عليه السلام ثلاثة سائرين في طريق فوجدوا كنزاً فقالوا: قد جعنا فليمضِ واحد منا ويبتاع لنا طعاماً. فمضى أحدهم ليأتيهم بطعام فقال: الصواب أن أجعل لهما سماً قاتلاً في الطعام ليأكلا منه فيموتا وانفرد بالكنز دونهما، ففعل ذلك وسم الطعام. واتفق الرجلان الآخران أنه إذا وصل إليهما قتلاه وانفردا بالكنز دونه. فلما وصل ومعه الطعام المسموم قتلاه وأكلا من الطعام فماتا. فاجتاز عيسى عليه السلام بذلك الموضع فقال للحواريين: هذه الدنيا كيف قتلت هؤلاء الثلاثة وبقيت من بعدهم، ويل لطلاب الدنيا من الدنيا. العين الثانية معرفة النفس الأخير إعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان: طائفة نظروا إلى شاهد حال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله? وهذه الفكرة واجبة على الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً أزعجوا قلوب الخلائق وأنفذوا إلى الناس الغلمان بالسيئات وأفزعوا الخليقة وأدخلوا في قلوبهم الرعب، فإن بحضرة الحق تعالى غلاماً اسمه عزرائيل لا مهرب لأحد من مطالبته وتشتيته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وفضة وطعاماً وصاحب هذا التوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع، وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون إليه اليوم والليلة والساعة وهذا الموكل لا يمهل نفساً واحداً وعجائب أحواله كثيرة إلا أنّا نذكر من أحواله خمس حكايات. الحكاية الأولى وهو ما رواه وهب بن منبه وكان من علماء اليهود وأسلم، روى أنه كان ملك عظيم أراد أن يركب يوماً في جملة أهل مملكته ويري الخلق عجائبه وزينته فأمر أمراءه وحجابه وكبراء دولته رتبة بالركوب ليظهر للناس سلطنته، فأمر بإحضار فاخر الثياب وأمر بعرض خيوله المعروفة، وعتاقه الموصوفة، فاختار من جملتها جواداً يعرف السبق فركبه بالمركب والطوق المرصع بالجوهر وجعل يركض الحصان في عسكره، ويفتخر بتيهه وتجبره، فجاء إبليس فوضع فمه في منخره ونفخ هواء الكبر في أنف أنفته فقال في نفسه من في العالم مثلي? وجعل يركض بالكبرياء، ويزهو بالخيلاء، ولا ينظر إلى أحد من تيهه وكبره، وعجبه وفخره، فوقف بين يديه رجل عليه ثياب رثة فسلم عليه فلم يرد عليه سلامه فقبض على عنان فرسه فقال له الملك: إرفع يدك فإنك لا بدري بعنان من قد أمسكت? فقال: لي إليك حاجة، فقال: اذكر حاجتك، فقال: إنها سرُ ولا أقولها إلا في أذنك، فأصغي إليه بسمعه فقال: أنا ملك الموت أريد أن أقبض روحك، فقال: أمهلني بقدر ما أعود إلى بيتي وأودّع أولادي وزوجتي، فقال: كلا لا تعود تراهم أبداً فإنك قد فنيت مدة عمرك، وأخذ روحه وهو عل ظهر الفرس فخر ميتاً. وعاد ملك الموت من هناك فأتي رجلاً صالحاً قد رضي ربه عليه فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: لي إليك حاجة وهي سر، فقال الصالح: قل حاجتك في أذني، فقال: أنا ملك الموت، فقال: مرحباً بك الحمد لله عل مجيئك فإني كنت كثير الترقّب لوصولك، ولقد طالت علي غيبتك وكنت مشتاقاً إلى قدومك، فقال له ملك الموت: إن كان لك شغل فاقضِه، فقال: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عز وجل، فقال: كيف تحب أن أقبض روحك فإني أمرت أنا سجدت فخذ روحي وأنا ساجد، ففعل ملك الموت ما أمره به ونقله الى رحمة ربه جل وعلا. الحكاية الثانية روي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفّه نفسه، ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعماً طائلة وبني قصراً عالياً، مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء، والأكابر والعظماء، وركّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان الأجلاد، والحرسة والأجناد، والبوابين كما أراد. وأمر ببعض الأيام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهل مملكته وحشمه، وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده، وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته، واتكأ عل وسادته، وقال: يا نفس قد جمعت نعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي بالك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل. فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة خلقة، ومخلاته في عنقه معلقة، على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزعزع القصر وتزلزل، وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا: يا ضعيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر حتى نأكل ونطعمك مما يفضل، فقال لهم: قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم، وأمر ملم. فقالوا تنح أيها الضعيف من أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك? فقال: أنتم عرّفوه ما ذكرت، فلما عرّفوه من الطرقة الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوا فصاح بهم صيحة وقال: إلزموا أماكنكم فأنا ملك الموت، فارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم، ورعبت قلوبهم، وطاشت عقولهم، فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني، وعوضاً عني. فقال: ما آخذ إلا أنت ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين هذه النعم التي خولتها. فقال: لعن الله هذا المال الذي غرني وأضرني، ومنعني عن عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني، فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي. فأنطق الله المال حتى قال: لأي شيء تلعنني، إلعن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدّق بي على الفقراء، وتتزكي بي على الضعفاء، ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون لك عوناً فى اليوم الآخر، وأنت جمعتني وخزنتني، وفي هواك أنفقتني، ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لاعدائك، وأنت بحسرتك وضرائك. فأي ذنب لي حتى تلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام، فسقط عن سريره صريع الحمام. الحكاية الثالثة قال يزيد الرقاشي: كان في زمن بني إسرائيل جبار من الجبارة، وكان في بعض الأيام جالساً على سرير ملكه فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة، فلشدة خوفه من هجومه، وهيبة قدومه، وثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل? ومن أمرك بالدخول إلى داري? فقال: صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا أحتاج في دخولي على ملك إلى إذن ولا أرهب من سياسة سلطان، ولا يفزعني جبار، ولا لأحد من قبضتي فرار. فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده فقال له: أنت ملك الموت? قال: نعم. قال: أقسم بالله عليك ألا ما أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي، وأطلب العذر من ربي، وأرد الأموال التي أودعتها خزانتي، فلا أتحمل مشقة عذابها في الآخرة. فقال: كيف أمهلك، وأيام عمرك محسوبة، وأوقاته مثبوتة مكتوبة? فقال: أمهلني ساعة. فقال: إن الساعات في الحساب، وقد عبرت وأنت غافل، وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد. فقال:من يكون عندي، إذا نقلتني إلى لحدي? قال: لا يكون عندك سوى عملك. فقال: مالي عمل. قال: لا جرم يكون مقيلك إلى النار، مصيرك إلي غضب الجبار. ثم قبض روحه فخر من سريره ووقه، وعلا الضجيج من أخل مملكته وارتفع، ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم اكثر وعويلهم أوفر. الحكاية الرابعة يقال أن ملك الموت دخل على سليمان بن داود عليهما السلام فجعل يحد نظره، ويطيل بصره، إلى رجل من ندمائه، فلما خرج قال ذلك الرجل: يا بني الله من كان ذلك الرجل الذي دخل? فقال: ملك الموت. فقال: أخاف أن يريد قبض روحي فخلصني من يده. فقال: كيف أخلصك? فقال: تأمر الريح أن تحملني في هذه الساعة إلى بلاد الهند، لعله يضل عني ولا يجدني.

 

فأمر سليمان الريح فحملته في الوقت والحال، فعاد ملك الموت ودخل على سليمان بن داود، عليهما السلام،فلما دخل عليه قال له: لأي سبب كنت تطيل النظر إلى ذلك الرجل? قال: كنت أتعجب منه لأني أُمرت أن أقبض روحه في أرض الهند، وكان بعيداً عنها إلى أن اتفق بحمل الريح له إلى هناك، فكان ما قدره الله تعالى.

 

الحكاية الخامسة يروى أن ذا القرنين مر بقوم لا يملكون شيئاً من أسباب الدنيا، وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم، وهم كل يوم يتعمّدون تلك القبور يكنّسونها وينظّفونها وينخرونها ويزورونها ويعبدون الله فيها، وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض. فبعث إليهم ذو القرنين رجلاً فدعا ملكهم فلم يجبه، وقال: ما لي وله. فجاء ذو القرنين، وقال: كيف حالكم? فإني لا أرى لكم شيئاً من ذهب ولا فضة، ولا أرى عندكم شيئاً من نعم الدنيا? قال: لأن نعم الدنيا لا يشبع منها أحد قط. وقال: لم حفرتم القبور على أبوابكم? فقال: لتكون نصب أعيننا فننظر إليها، ويتجدد لنا ذكر الموت، ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا، فقال: ولم تأكلون الحشيش? فقال: لأنا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً للحيوانات، ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق. ثم مد يده إلى طاقة فاخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال: يا ذا القرنين، أتعرف من كان صاحب هذا? قال: كان صاحب هذا القحف ملكاُ من ملوك الدنيا، وكان يظلم رعيته ويجور عليهم وعلى الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا، فقبض الله روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه، ثم مد يده إلى الطاقة وأخرج قحفاً آخر فوضعه بين يديه وقال له: أتعرف من كان صاحب هذا? قال: كان هذا ملكاً عادلاً مشفقاً على رعيته محباُ لأهل مملكته فقبض الله روحه وأسكنه جنته، ورفع درجته، ثم انه وضع يده على رأس ذي القرنين وقال: ترى أىّ هذين الرأسين يكون هذا الرأس? فبكى ذو القرنين بكاء شديداً وضمه إلى صدره، فقال: هيهات ما لي رغبة في ذلك. قال: ولم? قال: لأن الناس جميعاً أعداؤك بسبب المال والمملكة، وكلهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة، فالله تعالى معك فالآن يجب أن تعرف حكايات النفس الأخير وتتيقن معرفتها. واعلم أن أهل الغفلة المغتربين لا يحبون استماع حديث الموت لئلا يبرد حب الدنيا في قلوبهم، وتتنغص عليهم لذة مأكولهم ومشروبهم. وقد جاء في الخبر أن من أكثر ذكر الموت وظلمة اللحد كان قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي الموت وغفل عن ذكره كان قبره حفرة من النار، وكان رسول الله ﷺ يوماً يصف أجر الشهداء وثواب السعداء الذين قتلوا في معركة حرب الكفار فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هل ينال ثواب الشهداء من لم يمت شهيداً? فقال عليه الصلاة والسلام: )من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة كان له مثل أجر الشهداء ودرجتهم(. وقال عليه الصلاة والسلام: )أكثر من ذكر الموت فإنه يمحو الذنوب ويبرد الدنيا في القلوب(. سئل عليه الصلاة والسلام: من أعقل الناس وأحزمهم? فقال: أعقل الناس أكثرهم للموت ذكراً وأحزمهم أحسنهم له استعداداً. له شرف الدنيا وكرامة الآخرة فمن عرف الدنيا كما ذكره وكرر في قلبه ذكر النفس الأخير سهلت عليه أمور دنياه، وقوي أصل شجرة الإيمان في قلبه وأخذ في النمو والزيادة ونمت فروع شجرة الإيمان عنده ولقي الله وإيمانه سالم. والله جلت قدرته، وعلت كلمته، ينّور بصيرة سلطان العالم ليرى الأشياء على ما هي عليه ويجتهد في آخرته، ويحسن إلى عباد الله وبريته، فإن في رعيته ألف ألف من الخلائق إذا عدل فيهم كان الكُل شفعاءه ومن شفع فيه من هؤلاء الخلائق من المؤمنين كان آمناً يوم القيامة من العذاب وإن ظلمهم كان الكل خصماءه وعاد أمره عظيم الخطر، شديد الغرر، وإذا صار الشفيع خصماً أشكل الأمر. في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم

 

إعلم وتيقّن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل، واختار الملوك لفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض، وملكهم أزمة الإبرام والنقض، فربط بهم مصالح خلقه في معايشهم بحكمته، وأحَلّهم أشرف محل بقدرته، كما يسمع في الأخبار السلطان ظل الله في أرضه.فينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته. قال الله تعالى: )يا أيُها الذين آمنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرسُول وأوُلي الأمرَ مِنكُم( فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يعطيهم فيما يأمرون ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنه يؤتي ملكه من يشاء كما قال في محكم تنزليه: )تُؤتِي المُلك مَن تشَاء وتنزَع المُلك مِمن تشَاء وتُعِزُ مَن تشَاء وتُذِلُ مَن تشَاء بيدِك الخير إنِك على كُل شيء قَدير(. والسلطان العادل من عدل بين العباد، وحذر من الجور والفساد، والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم، لأن النبي ﷺ يقول: )الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم( . وفي التواريخ أن المجوس ملكوا العالم أربعة آلاف سنة وكانت المملكة فيهم وإنما دامت المملكة بعدلهم في الرعية، وحفظهم بالسوية، وإنهم ما كانوا يرون الظلم والجور في دينهم وملتهم جائز وعمروا بعدلهم البلاد، وأنصفوا العباد. وقد جاء في الخبر أن الله جلّ ذكره أوحى إلى داود عليه السلام أن آنْهِ قومك عن سب ملوك العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي. فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلاً عمرت الدنيا وأمنت الرعايا كما كانت عليه في عهد أزدشير وأفريدون وبهرام كور وكسرى أنو شروان. وإذا كان السلطان جائراً خربت الدنيا كما كانت في عهد الضحاك وافراسيان وبرزدكنها الخاطىء وأمثال هؤلاء، وهكذا إلى أن استولى أهل الإسلام وغلبوا العجم وأزاحوهم عن بلادهم وعن الملك وقويت دولة دين الإسلام، ببركة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأعلم وتيقَن أن هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم كانوا أصحاب الدنيا وملوك الأرض وأنهم بلغوا من الدنيا مرادهم، وصرفوا باللذات أوقاتهم، ومضوا وبقيت أسماؤهم وسماتهم، كما عددناه من أفعالهم، وأوردناه من خصالهم، لتعلم أن الناس إنما هم الحديث الذي يبقي بعدهم فكل إنسان يذُكر بالذي كان يفعله، وينسب إليه ما كان يعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيجب على الإنسان أن يزرع بذر الإحسان، وأن يبقى عن نفسه العيوب الفاحشات، والخطايا الموبقات، لا سيما الملوك ليبقى بعدهم حسن الإِسم، وصالح الرسم، لئلا يذكر بالقبيح، وقد حل بالضريح، كما قال الشاعر: اهرُب مِن الذَنبِ وتُب يا فَتَى وإن بَدا مِنك فـعُـد وانـدم وانفِ عن نفسِك ما شَانَـهـا ومن مساوُي الدهرُ خِف تسَلم وبُعدُك يُبقِى الذِكرَ لا غَـيره فكُن حَديثاً حسنـاً تـغـنـمُ يقال أن ذكر الرجال بعدهم حياتهم الثانية في الدنيا فواجب على العقلاء قراءة أخبار الملوك والنظر في أحوال هذه الدنيا القليل وفاؤها، والكثير بلاؤها، وأن لا يعقلوا قلوبهم بأمانيها فإنها لا يبقى عليها صالح، ولا يسلم فيها طالح. وليجتهد العاقل أن لا يكثر خصومه فإن أمر الخصوم صعب هائل، والباري تعالى حاكم عادل، لا بد أن ينصف يوم القيامة بين الخصوم، ويأخذ من الظالم للمظلوم، فلا تساوي الدنيا بأسرها، أن تجعل الناس خصوماً لأجلها كما جاء في الحكاية. حكاية: كان أبو علي بن إلياس إسفهسلار نيسابور فحضر يوماً عند الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله وكان زاهداً زمانه، وعالم أوانه. فقعد على ركبتيه، بين يديه، وقال له: عظني. فقال له أبو علي: أيها الأمير، أسألك مسألة وأريد الجواب عنها بغير نفاق. فقال: أجل أجيبك. فقال: أيها الأمير أيما أحب إليك المال أو العدو? فقال: المال أحب إليّ من العدو. فقال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتصطحب العدو الذي لا تحبه معك? فبكى الأمير ودمعت عيناه وقال: نعم الموعظة هذه. وجميع الوصايا والحكم تحت هذا الكلام. والخالق سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمداً ﷺ أخيراً حتى عادت ببركته دار الكفر دار الإيمان، وأظهره في أسعد وقت وأوان، وعمر الدنيا بشريعته، وختم الأنبياء بنبوّته. وكان الملك في ذلك الزمان كسرى أنو شروان. وهو الذي فاق ملوك إيران، بعدله ونصفته، وتدبيره وسياسته، وذلك جميعه ببركات نبينا محمد ﷺ، لأنه ولد في زمانه، ووجد في أوانه. وعاش أنو شروان بعد مولده ﷺ سنتين، والنبي ﷺ افتخر بأيامه فقال: ولدت في زمن الملك العادل كسرى والإسم الجيد خير الأشياء. والملوك الذين كانوا قبله كانت همتهم في عمارة الدنيا والعدل بين الرعية وحفظ الجسم بالسياسة وحسن الإنالة وآثار عمارتهم التي أثروها إلى اليوم ظاهرة في العالم وكل بلد يعرف بإسم ملكه لأنهم عمروا المواضع، وبنوا الضياع والمزارع، واستخرجوا القنوات والمصانع واظهروا ما كان خافياً من مياه العيون وجميع ما ذكرناه كان أنو شروان يعمره بعدله وإنصافه، مع تجنبه الإسراف في عفافه. حكاية: يقال أن أنو شروان العادل أظهر يوماً من أيام ملكه انه مريض وأنفذ ثقافته وأمناءه أن يطوفوا أقطار مملكته، وأكناف ولايته وأن يتطلبوا له لبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها. وذكر لأصحابه أن الأطباء وصفوا له ذلك فمضوا وطافوا جميع ولايته وعادوا فقالوا: ما وجدنا مكاناً خراباً ولا لبنة عتيقة. ففرح أنو شروان وشكر إلَهه وقال: إنما أردت هذا لأجرب ولايتي، وأختبر مملكتي، ولأعلم هل بقي في الولاية موضع خراب لأعمره فالآن لم يبق مكان إلا هو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال، ووصلت العمارة إلى درجة الكمال. واعلم: أن أولئك الملوك القدماء همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم. روي أنه كلما كانت الولاية أعمر، كانت الرعية أوفى وأشكر. وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء، ونطقت به الحكماء، صحيح لا ريب فيه وهو قولهم: إن الدين بالملك، والملك بالجند، والجند بالمال والمال بعمارة البلاد، وعمارة البلاد بالعدل في العباد. فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم، ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم، علماً منهم أن الرعية لا تثبت على الجور وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون، ويتفرق أهل الولايات ويهربون في ولايات غيرها ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل وتخلو الخزائن من الأموال ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائراً، ولا يزال دعاؤهم عليه متواتراً، فلا يتمتع بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته. قال مؤلف الكتاب: الظلم نوعان: أحدهما: ظلم السلطان لرعيته وجور القوي على الضعيف والعني على الفقير. والثاني: ظلمك لنفسك وذلك من شؤم معصيتك فلا تظلم ليُرفع عنك الظلم كما جاء في الخير.

 

حكاية: يقال أنه كان في بني إسرائيل رجل يصيد السمك ويقوت من صيده أطفاله وزوجته فكان في بعض الأيام يتصيد فوقعت في شبكته سمكة كبيرة ففرح بها وقال: أمضي بهذه السمكة وأبيعها وأخرج ثمنها في نفقة العائلة، فلقيه بعض العوانية في طريقه وقال له: أتبيع هذه السمكة? فقال في نفسه: إن قلت له نعم أخذها بنصف ثمنها، فقال له: ما أبيعها. فضربه العواني بخشبة كانت معه على صلبه ضربة موجعة وأخذ السمكة منه غصباً فدعا الصياد عليه وقال: إلَهي خلقتني مسكيناً ضعيفاً، وخلقته قوياً عنيفاً. اللهم فخذ بحقي منه في الدنيا فإني لا أصبر إلى الآخرة. ثم إن الغاصب انطلق بالسمكة إلى منزله وسلمها إلى زوجته وأمرها أن تشويها فلما شوتها وضعتها بين يديه على المائدة فمد يده ليأكل منها ففتحت السمكة فاها ونكزت أصبعه نكزة سلبت قراره، وأزالت لشدة نكزتها اصطبارة. فشكا حاله إلى الطبيب وذكر ما ناله فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع هذه الأصبع لئلا يسري الألم إلى جميع الكف. فقطع أصبعه فانتقل الألم إلى الكف وازداد تألمه وارتعدت من خوفه فرائضه، فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع اليد من المعصم لئلا يسري الألم إلى الساعد فقطع يده من المعصم فانتقل الألم إلى ساعده فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع الساعد لئلا يسرى الألم إلى الكتف. فقطع الساعد فانتقل الألم إلى الكتف وتوجع فخرج هائماً على وجهه داعياً إلى ربه، ليكشف ما نزل به فرأى شجرة فانكفأ إليها فأخذه النوم. فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: يا مسكين إلى كم تقطع يدك، امضِ إلى خصمك وأرضه. فانتبه وتفكر وتذكر وقال: إنني أخذت السمكة غصباً، وأوجعت الصياد ضرباً، وهي التي نكزتني. فنهض وقصد المدينة وطلب الصياد فوجده فوقع بين يديه والتمس الإقالة وأعطاه شيئاً من ماله وتاب من فعله، فرضي عنه خصمه، ففي الحال سكن ألمه، وبات تلك الليلة على فراشه وتاب واقلع عما كان يصنع، ونام على توبة خالصة، ففي اليوم الثاني تداركته رحمة ربه ورد يده كما كانت بقدرته فنزل الوحي على موسى عليه السلام: أن يا موسى وعزتي وجلالي وقدرتي لولا أن الرجل أرضى خصمه لعذبته مهما امتدت به حياته.

 

حكاية: كان موسى عليه السلام يناجي ربه عز وجل على الطور فقال في مناجاته: إلَهي أرني عدلك وإنصافك. فقال له: أنت رجل عجول حاد جريء لا تقدر أن تصبر. فقال: أقدر علىالصبر بتوفيقك. فقال: اقصد العين الفلانية واختف بأزائها وانظر إلى قدرتي وعلمي بالغيوب. فمضى موسى وصعد إلى تل بأزاء تلك العين وقعد مختفياً فوصل إلى العين فارس فنزل عن فرسه وتوضأ من العين وشرب من مائها وحل من وسطه همياناً فيه ألف دينار فوضعه إلى جانبه وصلى، ثم ركب ونسى الهميان في موضعه وسار فجاء صبي صغير فشرب من العين وأخذ الهميان فجاء بعد الصبي شيخ أعمى فشرب من الماء وتوضأ ووقف في الصلاة فذكر الفارس الهميان فعاد من طريقه إلى العين فوجد الشيخ فلزمه وقال: إني نسيت همياناً فيه ألف دينار في هذا الموضع هذه الساعة وما جاء إلى هذا المكان سواك. فقال الأعمى: تعلم أني رجل أعمى فكيف أبصرت هميانك? فغضب الفارس من كلامه وجذب السيف فضرب الأعمى فقتله وفتشه عن الهميان فلم يجده فمضى وتركه فعند ذلك قال موسى: إلَهي وسيدي قد نفد صبي وأنت عادل فعرّفني كيف هذه الأحوال? فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا موسى الباري تعالى يقول: أنا عالم الأسرار أعلم ما لا تعلم. أما الصبي الصغير الذي أخذ الهميان فأخذ حقه وملكه وذلك أن أبا الصبي كان أجيراً لذلك الفارس فاجتمع عليه بقدر ما في الهميان فالذي أخذه الصبي حقه. وأما ذلك الأعمى فإنه قبل أن يعمى قتل أبا ذلك الفارس فقد اقتص منه ووصل كل ذي حق إلى حقه وعدلنا وإنصافنا دقيق. فلما علم موسى ذلك تحير واستغفر. وهذه الحكاية أوردناها ليعلم العقلاء، ويتصور الألّباء، أن الله جلّ ذكره لا يخفي عليه شيء وأنه يتصف من الظالم في الدنيا ولكن نحن غافلون عما جاءنا لا ندري من أين أتانا.

 

سئل ذو القرنين فقيل له: أي شيء أنت به أكثر سرواً? فقال: شيئان أحدهما العدل والإنصاف. والثاني أن أكافىء من أحسن إلى بأكثر من إحسانه. وقال النبي ﷺ: )إن الله تعالى يحب الإحسان في كل شيء حتى إنه يحب إنساناً إذا ذبح شاة أن يمهي لها المدية ليعجل خلاصها من ألم الذبح(. وقال موسى عليه السلام: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً في الأرض أفضل من العدل، والعدل ميزان الله في أرضه من تعلق به أوصله الجنة. وقال رسول الله ﷺ: )إن للمحسنين في الجنة منازل حتى المحسن إلى أهله وأتباعه( . وقال قتادة في تفسير هذه الآية )ألا تطَغوُا فِي المِيزَانِ( قال: أراد به العدل: فقال يا ابن آدم أعدل كما تحب أن يعدل فيك.

 

وعن عمر أن رسول الله ﷺ قال: )إن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى إليه أربع كلمات وقال: يا آدم علمك وعلم جميع ذريتك على هذه الكلمات الأربع وهي كلمة لي، وكلمة لك، وكلمة بيني وبينك وبين الناس. أما الكلمة التي لي فهي أن تعبدني لا تشرك بي شيئاً. وأما التي هي لك فأنا أجازيك بعملك . وأما الكلمة التي هي بيني وبينك، فمنك الدعاء ومني الإجابة. وأما الكلمة التي بينك وبين الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم( . وقال قتادة: الظلم ثلاثة أضرب: ظلم لا يغفر لصاحبه، وظلم لا يدوم وظلم يغفر لصاحبه. فأما الذي لا يغفر لصاحبه فهو الشرك بالله تعالى قال الله تعالى: )إن الشِركَ لظُلمٍ عَظيم( . وأما الظلم الذي لا يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض. وأما الظلم الذي يغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه بارتكاب الذنوب ثم يرجع إلى ربه فإن الله يغفر له برحمته، ويدخله الجنة بفضله. نكتة: الدين والملك توأمان مثل أخوين ولدا من بطن واحد فيجب أن يهتم ويجتنب الهوى، والبدعة والمنكر والشبهة وكل ما يرجع بنقصان الشرع وإن علم أن في ولايته من يتهم بدينه ومذهبه أمر بإحضاره وتهديده، وزجره ووعيده، فإن تاب، وإلا أوقع عليه العقاب، ونفاه عن ولايته ليطهر الولاية من إغوائه وبدعته، وتخلو من أهل الأهواء ويعز الإسلام ويستديم عمارة الثغور بإنفاذ العساكر والحماة إليها ويجتهد في إعزاز الحق وإعادة رونق السنة النبوية، والسيرة المرضية لتحمد عند الله طريقته، وتعظم في الخلق هيبته، وتخاف سطوته أعداوه، ويعلو قدره وبهاؤه ومنزلته ويكبر في عين أضداده، ويعظم عند أنداده. ويجب أن يعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك فينبغي للملك أن ينظر في أمور الرعية ويقف على قليلها وكثيرها، وعظيمها وحقيرها ولا يشارك رعيته في الأشياء المذمومة، والأفعال المشؤومة. ويجب عليه احترام الصالحين وأن يثيب على الفعل الجميل، ويمنع من الفعل الرديء الوبيل ويعاقب على ارتكاب القبيح ولا يحابي من أصر على المعصية ليرغب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات. ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهي المفسد عن فساده، ويتركه على مراده، أفسد في سائر بلاده. وقالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك لأن العامة إنما ينتحلون ويركبون الفساد وتضيق أعينهم اقتداء بالكبراء فإنهم يتعلمون منهم ويلزمون طباعهم . ألا ترى أنه قد ذكر في التواريخ أن الوليد بن عبد الملك من بني أمية كان مصروف الهمة إلى العمارة وإلى الزراعة. وكان سليمان بن عبد الملك همته في كثرة الأكل وطيب المطعم وقضاء الأوطار والمهمات وبلوغ الشهوات، وكانت همة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة. قال محمد بن علي بن الفضل: ما كنت اعلم أن طباع الرعية تجري على عادة ملوكها حتى رأيت الناس في أيام الوليد قد اشتغلوا بعمارة الكروم والبساتين واهتموا ببناء الدور. وعمارة القصور، ورأيتهم في زمن سليمان ابن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب المطعم حتى كان الرجل يسأل صاحبه أي لون اصطنعت وما الذي أكلت ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات، وإعطاء الصدقات، ليعلم أن في كل زمن يقتدون بأفعاله، من القبيح والجميل، وإتباع الشهوات وإدراك الإرادات. حكاية

 

ذكروا أن في زمن الملك العادل كسرى انو شروان ابتاع رجل من رجل أرضاً فوجد فيها كنزاً فمضى سريعاً إلى البائع وأخبره بذلك فقال: إنما بعتك ولم أعلم ما فيها والكنز الذي وجدته فهو لك ومبارك عليك فقال: لا أريده ولا أطمع في أموال الناس فترافعا بهذه الدعوى إلى الملك العادل انو شروان ففرح انو شروان بذلك وقال هل لكما أولاد فقال أحدهما لي ابن وقال الآخر لي بنت فقال انو شروان أحب أن يكون بينكما قرابة ووصلة وإن تزوجا الولد بالبنت وتنفقا هذا الكنز في جهازهما ليكون لكما ولولديكما ففعلا ما أمر به وتراضيا ما رسم لهما ولو أن الرجلين كانا في زمن سلطان جائر لقال كل واحد منهما الكنز لي ولكنهما لما علما أن ملكهما عادل طلباً الحق، وآثرا الصدق. وقالت الحكماء الملك كالسوق فكل أحد يحمل إلى السوق ما يعلم أنه فيه نافق وما يعلم أنه كاسد لا يحمله إلى ذلك السوق. والرجلان اللذان وجدا الكنز وترافعا إلى السلطان علما إن الزهد والعدل والصدق يعزعند الملك وأن الحق عنده نفاق فلذلك حملاه إليه، وعرضاه عليه. وأما الآن في هذا الزمان فكلما يجري على يد أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤنا واستحقاقنا كما إننا رديئو الأعمال، قبيحو الأفعال، ذوو خيانة وقلة أمانة. فأمراؤنا ظلمة جائرون، وغشمة معتدون. )كما تكونوا يول عليكم( فقد صح بهذا الحديث أن أفعال الخلق عائدة إلى أفعال الملك، أما ترى أنه إذا وصف بعض البلاد بالعمارة وأن أهله في أمان وراحة ودعة وغبطة فإن ذلك دليل على عدل الملك وعقله وسداده وحسن نيته في رعيته، ومع أهل ولايته، وأن ليس ذلك من الرعية، فقد صح ما قالته الحكماء )الناس بملوكهم أشبه منهم بزمانهم( . وقد جاء في الخبر أيضاً )الناس على دين ملوكهم( . وكان من سياسة انو شروان أن بحيث لو أن رجلاً ألقى في مكان حملاً من ذهب وبقي مهما بقي في موضعه لم يقدر أحد على إزالته من مكانه إلا صاحبه وكان يونان وزير انو شروان متقدماً عنده فقال له يوماً: أيها الملك لا تركن للأشرار فتخرب ولايتك وتفقر رعيتك فيصير حينئذ ملكك إلى الخراب وسلطانك إلى الفقر ويقبح إسمك في الدنيا فكتب انو شروان إلى عماله: إن أخبرت أنه قد بقى في جميع مملكتي أرض خراب سوى أرض سبخة لا تقبل الزرع صلبت عامل تلك الأرض. وخراب الأرض من شيئين: أحدهما عجز الملك. والثاني جوره. وكان الملوك في ذلك الزمان يتفاخرون بالعمارة ويتحاسدون على إجتماع المملكة. حكاية: أرسل ملك هندوستان رسولاً إلى الملك العادل كسرى انو شروان فقال أنا أولى بالملك منك فأنفذ لي خراج ولايتك فأمر أنو شروان بإنزال الرسول ثم جمع في اليوم الثاني أرباب دولته وأعيان مملكته وأذن للرسول في الدخول إليه فلما مثل بين يديه قال له أسمع جواب رسالتك ثم أمر أنو شروان بإحضار صندوق ففتحه وأخرج منه صندوقاً صغيراً وأخرج منه قبضة من كبر وسلمه إلى الرسول وقال هل في بلادكم من هذا قال نعم من هذا عندنا كثير فقال أنو شروان: أرجع وقل لملك الهند يجب عليك أن تعمر ولايتك فإنها خراب ثم تطمع بعد ذلك في ولاية عامرة فإنك لو طفت جميع ولايتي وطلبت أصلاً واحداً من كبر لم تجده ولو سمعت أن في موضع من ولايتي أصلاً واحداً من كبر لصلبت تلك الولاية على الملك أن سيلك طريق الملوك الذين تقدموه ويعمل على سننهم ويقرأ كتب مواعظهم وقضاياهم فإنهم كانوا أطول أعماراً، وأكثر تجارب وإعتباراً، وإنهم فرقوا بين الجيد والرديء، وعرفوا الجلّي من الخفي. وكان أنو شروان مع حسن سيرته يقرأ كتب مواعظهم ويطلب إستماع حكايتهم ويمضي على مناهجهم وسننهم وملوك هذا الزمان أجدر أن يفعلوا ذلك. حكاية: سأل أنو شروان العادل يوماً وزيره يونان وقال أريد أن تخبرني بسيرة الملوك المتقدمين فقال له يونان تريد أن أمدحهم بثلاثة أشياء أم بشيئين أم بشيء واحد فقال أنو شروان أمدحهم بالثلاثة فقال يونان ما وجدت لهم في شغل من الأشغال ولا عمل من الأعمال قط كذباً. ولا رأيت لهم بشيء جهلاً. ولا رأيت لهم في حال من الأحوال غضباً. فقال أنوشروان أمدحهم بالشيئين فقال يونان كانوا دائماً يسارعون إلى الخبر وعمله. وكانوا دائماً يحذرون من أعمال الشر. فقال أمدحهم بشيء واحد فقال كانت سلطنتهم وجرأتهم على أنفسهم أكثر مما كانت على غيرهم فطلب أنو شروان الكأس وقال ولهذا سرور بالكرام الذين يأتون بعدنا ويملكون تاجنا وتختنا ويذكروننا كما نذكر نحن من تقدمنا. وأشقى الناس من إغتر بملكه وعمر الدنيا وهو لا يدري كيف ينبغي أن يعيش فيها فيعبر دنياه بالتعب ويحصل في آخراه بالندم السرمد، والعذاب المؤبد. وإنما كان قصد أولئك الملوك وإجتهادهم في عمارة الدنيا ليبقى فيها بعدهم طيب الذكر، مدى الأيام والدهر. كما جاء في الحكاية. حكاية: كان لأنو شروان كرم يعرف بهزاركام فإجتمع يوماً فيه قيصر ملك الروم ويعفورجين ملك هندوستان في ضيافة أنو شروان فتكلم كل واحد منهم بكلمة حكمة. فقال قيصر الروم ليس شيء في هذه الدنيا أجود من فعل الخير والإسم الصالح والذكر الطيب فإنه يذكر به صاحبه دائماً فيقال بعده لم لا نكون نحن مثله. فقال أبو شروان تعالوا حتى نفعل الخير ونتفكر في الخير فقال قيصر إذا تفكرت في الخير عملت الخير وإذا عملت الخير نلت المراد فقال يعفورجين أعاذنا الله من فكرة إن نحن أظهرناها استحييناها وأن ذكرناها خجلنا وأن أخفيناها ندمنا فقال قيصر لأنو شروان أي شيء أحب إليك قال أحب الأشياء إلى أن أقضي حاجة من رآني أهلاً لقضاء حاجته فقال قيصر بل أنا أحب أن لا أذنب حتى لا أخاف ملوكاً كان هذا كلامهم. أنظر كيف كانت سيرتهم مع رعيتهم يا سلطان الإسلام فيجب أن تسمع أقوال هؤلاء وتنظر أعمالهم وتقرأ حكاياتهم من الكتب وما ينظر فيها من نعت عدلهم وإنصافهم وحسن سيرتهم وطيب خبرهم وذكرهم الجاري على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة. كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من العدل والسياسة إلى حد أقام فيه الحد والعقاب على ولده حتى مات. وكان إذا أنفذ عمالاً إلى أعمال قال لهم إشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إلى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج. قال عبد الرحمن ابن عوف دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال قد نزل بباب المدينة قافلة وأخاف عليهم إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته. وقال عمر رضي الله عنه يجب علي أن أسافر لأقضي حوائج الناس في أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرن على قصدي في حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال وأسير سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين فلا يكون في سنيّ عمر أبرك من هذه السنة.

 

حكاية: قال زيد بن أسلم رأيت ليلة عمر بن الخطاب يطوف مع العسس فتبعته وقلت أتأذن لي أن أصاحبك قال نعم فلما خرجنا من المدينة رأينا ناراً من بعد فقلنا ربما يكون قد نزل هناك مسافر فقصدنا النار فرأينا إمرأة أرملة ومعها ثلاثة أطفال وهم يبكون وقد وضعت لهم قدراُ على النار وهي تقول الَهي أنصفني من عمر وخذ لي منه بالحق فإنه شبعان ونحن جياع فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك تقدم وسلم عليها وقال أتأذنين أن أدنو إليك فقالت أن دنوت بخير فبسم الله فتقدم وسألها عن حالها وحال جياع وقد بلغ مني ومنهم الجهد والجوع، وقد منعهم عن الهجوع، فقال عمر وأي شيء في هذه القدر فقالت تركت فيها ماء لأشاغلهم به ليظنوا أنه طعام فيصبروا. قال زياد فعاد أمير المؤمنين وقصد دكان الدسم فإبتاع منه دسماً ومضى إلى دكان الدقيق فإبتاع منه ملء جراب ثم وضع الجميع على كاهله ومضى به يطلب المرأة والأطفال. فقلت يا أمير المؤمنين ناولنيه لأحمله عنك فقال إن حملته عني فمن يحمل عني ذنوبي ومن يحول بيني وبين دعاء تلك المرأة والأطفال عليّ وجعل يسعى وهو يبكي إلى أن وصلنا إلى المرأة فقالت المرأة جزاك الله عنا خير الجزاء فأخذ عمر جزأ من الدقيق وشيئاً من الدسم فوضعهما في القدر وجعل يوقد النار وكلما أرادت أن تخمد نفخها والرماد يسقط على وجهه ومحاسنه إلى أن إنطبخت القدر فوضع الطبيخ في القصعة وقال للمرأة كلي فأكلت المرأة والأطفال فقال عمر أيتها المرأة لا تدعين على عمر فإنه لم يكن عنده منك ولا من أطفالك خبر.

 

وأول من دُعي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن أبا بكر رضي الله عنه دعوه بخليفة رسول الله ﷺ فلما وصل الأمر إلى عمر كانوا يقولون يا خليفة خليفة رسول الله فكان يطول ذلك فقال يا أيها المؤمنون سموني أميراً فإني أميركم وإن دعوتموني أمير المؤمنين فأنا ذلك عمر بن الخطاب. حكاية: سئل خازن بيت المال هل إنبسط عمر في بيت المال فقال كان في أول الأمر إذا لم يكن له شيء يتقوت به أخذ قليلاً برسم القوت فإذا حصل عنده شيء أعاده إلى بيت المال. وخطب يوماً فقال أيها الناس قد كان الوحي ينزل عي عهد رسول الله ﷺ فكنا نعرف به ظاهر الناس وباطنهم وجيدهم ورديئهم والآن قد إنقطع الوحي عنا فنحن ننظر من كل أحد إلى علانيته والله أعلم بسريرته وأنا على الجهد وعمالي أن لا نأخذ شيئاً بغير حق ولا تعطي شيئاً بغير حق. فإن شئت أن تعلم أن عدل السلطان وتقيته سبب لجميل ذكره، ونيل فخره، فإنظر في أخبار عمر بن عبد العزيز فإنه لم يكن لأحد من بني أمية وبني مروان مثل مدحه ومحمدته ولا يدعي إلا له ولا يثني إلا عليه لأنه كان عادلاً تقياً كريماً حسن السيرة، تقي السريرة. حكاية: كان في زمن عمر بن عبد العزيز قحط عظيم فوفد عليه قوم من العرب فإختاروا منهم رجلاً لخطابه فقال ذلك الرجل يا أمير المؤمنين أنا أتيناك من ضرورة عظيمة وقد يبست جلودنا على أجسادنا لفقد الطعام وراحتنا في بيت المال وهذا المال لا يخلو من ثلاثة أقسام: أما أن يكون لله، أو لعباد الله، أو لك. فإن كان لله فالله غني عنه، وإن كان لعباد الله فآتهم إياه وأن كان لك فتصدق به علينا إن الله يجزي المتصدقين. فتغرغرت عينا عمر ابن عبد العزيز بالدموع وقال هو كما ذكرت وأمر بحوائجهم فقضيت من بيت المال فهم الأعرابي بالخروج فقال له عمر أيها الإنسان لحر كما أوصلت إلي حوائج عباد الله وأسمعتني كلامهم فأوصل كلامي وارفع حاجتي إلى الله تعالى فحول الأعرابي وجهه قبل السماء وقال إلَهي أصنع مع عمر ابن عبد العزيز كصنيعه في عبادك فما استتم الأعرابي كلامه حتى إرتفع غيم فأمطر مطراً غزيراً وجاء في المطر بردة كبيرة فوقعت على آجرة فإنكسرت فخرج منها كاغد عليه مكتوب هذه براءة من الله العزيز لعمر ابن عبد العزيز من النار. حكاية: يقال أن عمر بن عبد العزيز كان ينظر ليلاً ف يقصص الرعية وروزناتهم في ضوء السراج فجاء غلام له فحدثه في سبب كان يتعلق ببيته فقال له عمر أطفيء السراج وحدثني فإن هذا الدهن من بيت مال المسلمين فلا يجوز إستعماله إلا في اشغال المسلمين. كذا يكون حذر السلطان وتوقيه إذا كان عادلاً كما جاء في الحكاية.

 

حكاية: كان لعمر بن عبد العزيز غلام وكان خازناً لبيت المال وكان لعمر بنات جئنه يوم عرفة وقلن له غداً العيد ونساء الرعية وبناتهم يلمننا وقلن أنتن بنات أمير المؤمنين ونراكن عريانات لا أقل من ثياب بيضاء تلبسنها وبكين عنده فضاق صدر عمر فدعا غلامه الخازن وقال له أعطني مشاهرتي لشهر واحد فقال الخازن يا أمير المؤمنين تأخذ المشاهرة من بيت المال سلفاً أتظن أن لك عمر شهر فتأخذ مشاهرة شهر فتحير عمر وقال نعم ما قلت أيها الغلام بارك الله فيك ثم التفت إلى بناته وقال اكظمن شهواتكن فإن الجنة لا يدخلها أحد إلا بمشقة.

 

حكمة: لما كان الأمراء كذلك كان حواشيهم وخدعهم على قاعدتهم والعدل التام هو أن تساوي بين المجهول الذي لا يعرف وبين المحتشم صاحب الجاه المعروف في مقام واحد في الدعاوي وتنظر أيضاً بعين واحدة ولا تفضل أحدهما على الآخر لأجل أن أحدهما فقير والاخر غني فإن الجوهر والخزف في الآخرة بسعر واحد، ولا يحرق عاقل نفسه بالنار، لحشمة الأغيار. وإذا كان لرجل ضعيف على سلطان من السلاطين دعوى فينبغي أن يقوم من صدر مملكته ويعمل بحكم الله تعالى وينصف ذلك العبد الضعيف ويرضيه ولا يحيف عليه ولا يسحي من الحق ويعمل بقول الله )إن الله يأمُر بِالعَدَلِ والإحسَان( وحقيقة ذلك إن كان للملك على آخر حق أن يسامحه ويمن به عليه ويأمر عماله الثقات أن يقتدوا بمثاله ويعملوا بسيرته لئلا يسئل عنه يوم القيامة. فقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال كل راع يسئل عن غنمه وكل إنسان يسئل عن رعيته والحال على هذه الصفة والمآل. حكاية: يقال أن إسماعيل بن أحمد أمير خراسان نزل بمرو وكان رسمه في كل موضع ينزله أن يامر المنادي أن ينادي في العسكر إن الجند ما لهم في الرعية شغل فمضى رجل من الخرنبدية ودخل مبطخة قوم فتناول من البطيخ قدراً يسيراً فجاءوا إلى باب الملك واستغاثوا فأمر بإحضاره فأحضر بين يديه فقال له ما حملك على أن آذيت رعيتي قال أخطأت قال لا أقدر لأجل خطئك على دخول النار ثم أمر به فقطعت يده. حكاية: يحكى عن إسماعيل الساماني في كتاب سير الملوك أنه كان ينزل بحذاء موليان وكان يصل كل وقت إلى مدينة كغد ويأمر المنادي أن ينادي في الناس وكان يرفع الحجاب ويزيح البواب ليجيء كل من له ظلامة ويقف على جانب البساط ويخاطبه ويعود مقضي الحاجة. وكان يقضي بين الخصوم مثل الحكام إلى أن تفي الدعاوي ثم يقوم من موضعه ويقبض على محاسنه ويوجه وجهه نحو السماء ويقول: إلَهي هذا جهدي وطاقتي قد بذلتهما وأنت عالم الأسرار تعلم نيتي ولا أعلم على أي عبد من عبادك حفت، ولا لأيهم ظلمت . وماأنصفت أنا واحداً من أصحابي فأغفر لي يا ألَهي من ذلك ما لا أعلم. فلما كان نقي النية، جميل الطوية، لا جرم علا أمره، وارتفع قدره وكان عسكره ألف فارس معتدين بالسلاح مقنعين بالحديد وببركة ذلك العدل والأنصاف ظفره الله تعالى بعمرو بن ليث حتى قبض عليه وفتح خراسان. ثم أن عمرو ابن ليث أنفذ إليه من السجن فقال: لي بخراسان أموال كثيرة وكنوز موفورة. وأنا أسلم الجميع إليك وأطلقني من السجن فلما سمع إسماعيل ذلك ضحك وقال إلى الآن لم يستقم معي عمرو ابن ليث يريد أن يجعل المظالم التي احتقبها. والمآثم التي ارتكبها، في عنقي ويتخلص من ثقل أوزارها ي القيامة قولوا له مالي في مالك حاجة. ثم أنه أخرجه من السجن وأنفذه رسولاً إلى بغداد فنال من أمير المؤمنين الخلع والتشريق. وجلس إسماعيل في مملكته بخراسان آمناً فارغ البال، حسن الحال. وبقيت المملكة في عنصر السامانية مائة وثلاثين سنة فلما إنتقل الأمر إلى أصاغرهم وصبيانهم ظلموا الخلق، وتعدوا الحق فزال ملكهم. قال رسول الله ﷺ )عدل السلطان يوماً واحداً خير من عبادة سبعين سنة(. وقال عليه الصلاة والسلام )من سل سيف الجور سل عليه سيف الغلبة ولازمه الغم( كما قال الشاعر: تَقَطُب مِنك طَلق الوجه يَوماً ترى بِالعَدلِ عن جُور جَزاء فَقُل لِلنَاسِ ما تهوَى إستماَعاَ ولا تقتل أن اختَرتُ البقـاءِ جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان ينظر يوماً فرأى شيئاً ينزل من السماء مثل النخالة فقال: إلَهي ما هذا قال هذه لعنتي أنزلها على بيوت الجائرين.

 

حكاية: لما قعد انو شروان في المملكة كتب إليه يونان الوزير فقال إعلم أيها السطان أن أمور الملك على ثلاثة أشياء: أما أن ينصف رعيته ولا ينتصف منهم وذلك هو الدرجة العليا. أو ينتصف وينصف أيها الملك إلى هذه الثلاثة وأختر أيها أردت وأنا أعلم أن مولانا يختار الأولى كما قال الشاعر:

 

من أنصفَ الناسَ ولم ينتَصِف بفضلهِ منهُم فـذاك الأمـير ومن يرِد إنصَافِهم مِثـلـمَـا أنصفَ أضحَى مالهُ من نظيرِ ومن يُرِد إنصَـافـه وهـو لا ينصَفهُم فهو الدنيُء الحقـيرُ )نصيحة وموعظة( دخل شبيب بن شيبة يوماً على المهدى فقال يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك الدنيا فأعط رعيتك قسطاً من طيب عيشك فقال المهدي وما الذي ينبغي أن تعطي الرعية فقال العدل فإنه إذا نامت الرعية في أمن منك نمت آمناً في قبرك. وقال أحذر يا أمير المؤمنين من يوم لا ليلة بعده ومن ليلة لا يوم بعدها وأعدل ما استطعت فإنك تجازي بالعدل عدلاً وبالجور جوراً وزين نفسك بالتقوى فإنك في الحشر لا يعيرك أحد زينته كما قال الشاعر. فحلِ نفَسك بِالتـقَـوى وزينَـهـا فلن يُعارَ تقيُ في النَاسِ من رجلِ وليس ُتبلى يدُ المعروفِ فاحظ بها تربح كثيراً ورأسُ المالِ لـم يزَل حكاية: وصل كتاب من قيصر ملك الروم إلى الملك العادل أنوشروان يقول بماذا يكون دوام الملك فكتب إليه في الجواب جواب ذلك أني لا أعمل شيئاً بجهالة وإذا أمرت بأمر تممته ولا أتركه لخوف ولا لرجاء، يريد أنني إذا أمرت بشيء لا أبطله لأجل من يرجوني أو يخافني وأن لا أغير شيئاً أمرت به. حكمة: سئل ارسطاطاليس هل يجوز أن يدعي أحد ملكاً غير الله تعالى فقال من وجدت فيه هذه الخصال وإن كانت عارية: العلم والعدل والسخاء والحلم والرقة وما ناسبها لأن الملوك إنما كانوا ملوكاً بالظل الإلَهي وضياء الحس، وطهارة النفس وتزايد العقل، والعلم وقدم الدولة وشرف الأصل والدولة التي كانت في محتدهم وأصولهم فبذلك كانوا ملوكاً وسلاطين ومعنى قولهم )فرابرذي( وهو الظل الإلَهي يظهر في ستة عشر شيئاً العقل والعلم وحدة الذكاء وتدارك الأشياء والصور التامة والألمعية والفروسية والشجاعة والإقدام والتأني وحسن الخلق وإنصاف الضعيف ومحبة الرعية وإظهار الزعامة والإحتمال والمدارة في مكانها والرأى والتدبير في الأمور والإكثار من قراءة الأخبار وحفظ سير الملوك والفحص عن الأحوال والأعمال التي اعتمدوها الملوك وعملوا بها لأن هذه الدنيا بقية دول المتقدمين الذين تملكوها ثم مضوا وانقضوا وصاروا تذكاراً للناس يذكر كل إنسان بفعله. وللآخرة كنز، وللدنيا كنز هذه الدنيا حسن الثناء وطيب الذكر، وكنزالآخرة العمل الصالح واكتساب الأجر. حكمة: كان الاسكندر في بعض الأيام قد ركب في مركب مملكته فقال رجل من مقدمي عسكره إن الله تعالى أعطاك ملكاً عظيماً فاستكثر من النساء لتكثر أولادك فتذكر بهم بعدك فقال ليس ذكر الرجال بعدهم بكثرة الأولاد لكن بحسن السيرة وعدل النية ورجل غلب رجال الدنيا لا يجوز أن تغلبه النساء. حكمة: سأل الإسكندر ارسطاطاليس أيما أفضل للملوك الشجاعة أم العدل فقال ارسطاطاليس إذا عدل السلطان لم يحتج إلى شجاعة. حكاية: عزل الإسكندر عاملاً من عماله من عمل كثير خطير، وولاه أمر عمل خفيف حقير، فجاء في بعض الأيام ذلك الرجل إلى الدركاه فقال له الأسكندر كيف تجد عملك فقال أطال الله بقاء الملك الرجال لا تشرف بالأعمال، بل الأعمال تشرف بالرجال، وذلك بحسن السيرة والإنصاف والعدل وتجنب الإسراف. فأحسن الأسكندر مقاله، وأعاد إليه أعماله. حكمة: قال سقراط العالم مركب من العدل فإذا جاء الجور لا يثبت ولا يستقر. حكمة أخرى: سئل بزرجمهر فقيل بأي شيء يظهر عز الملك? فقال بثلاثة أشياء: حفظ الأطراف مع دفع العدو عن الحوزة، وإكرام العلماء وإعزازهم وحب أهل الفضل لأنه كلما جار السلطان خاف أهل الأطراف وإن كانت نعمهم كثيرة فإنها مع الخوف لا تنساغ وإن كانت النعم قليلة إنساغت مع الأمن كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه إنقطع رجل من قافلة الحج وضل الطريق ووقع في الوحل فجعل يسير إلى أن وصل إلى خيمة فرأى إمراة عجوزاً ورأى على باب الخيمة كلباً نائماً فسلم الحاج على العجوز وطلب منها طعاماً فقالت العجوز امض إلى ذلك الوادى واصطد من الحيات بقدر كفايتك لأشوي لك منها واطعمك فقال الرجل أنا لا أجسر أن أصطاد الجيات فقالت العجوز أنا أتصيد معك فلما مضت وأياه وتبعهما الكلب فأخذا من الحيات بقدر كفايتهما فأتت العجوز وجعلت تشوي له الحيات فلم ير الحاج من الأكل بداً وخاف أن يهلك من الجوع والهزال فأكل ثم أنه عطش وطلب منها الماء ليشرب فقالت له دونك والعين فأشرب فمضى إلى العين فوجد ماء مالحاً مراً ولم يجد من شربه بداً فشرب وعاد إلى العجوز وقال اعجب منك أيتها العجوز ومن مقامك في هذا الموضع فقالت كيف تكون بلادكم فقال يكون في بلادنا الدور الرحيبة الواسعة، والفواكه اللذيذة اليانعة، والمياه العذبة، والأطعمة الطيبة، واللحوم السمينة والغنم الكثيرة، والعيون الغزيرة. فقالت العجوز قد سمعت هذا كله فقل لي هل تكونون تحت يد سلطان يجور عليكم وإذا كان لكم ذنب أخذ أموالكم واستأصل أحوالكم وأخرجكم عن مسرتكم فقال قد يكون ذلك فقالت إذاً يعود ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، والنعم اللذيذة مع الجور والظلم سماً ناقعاً وتعود أطعمتنا مع الأمن، درياقاً نافعاً أو ما سمعت أن اجل النعم بعد نعمة الإسلام الصحة والأمن. والأمن إنما يكون مع سياسة السلطان. فيجب على السلطان أن يعمل بالسياسة وأن يكون مع السياسة عادلاً لأن السلطان خليفة الله ويجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية خافوا ولو كانوا بعيداً، وسلطان هذا الزمان ينبغي أن يكون له أوى سياسة وأتم هيبة أن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين فإن زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسفهاء، وأهل القسوة والشحناء. وإذا كان السلطان منهم ضعيفاً أو كان غير ذي سياسة وهيبة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد وأن الخلل يعود إلى الدين والدنيا، وفي الأمثال جور السلطان مائة عام ولا جور الرعية بعضهم على بعض سنة واحدة وإذا جارت الرعية سلط الله عليها سلطاناً جائراً وملكاً قاهراً كما جاء في الحكاية. حكاية: أُعطي الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض الأيام قصة مكتوب فيا اتق الله ولا تجر على عباد الله كل هذا الجور فرقى الحجاج المنبر وكان فصيحاً فقال أيها الناس إن الله سلطني عليكم بأعمالكم فإن أنا مت فلا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيئة فإن الله تعالى خلق أمثالي كثيراً وإذا لم أكن أنا كان من هو أكثر من . قال الشاعر: وما مِن يدٍ إلا يدُ اللهِ فوقَها ولا ظالمُ إلا سيُبلى بأظلمِ حكمة: سئل بزرجمهر أي الملوك أطهر فقال من أمنه الطاهرون وخاف منه الخطاؤؤن. وأما السلطان الذي لا سياسة له فليس له في أعين الناس خطر ولا محل بل يكون الخلق عليه ساخطين ثم يذكرونه كل وقت بالقبيح ألا ترى أن الإنسان إذا كان من عوام الولاية وتولى عليها وأراد أن يطلب الحساب من الرعية أول ما يكلمهم بالهيبة ويظهر جاهه بالسياسة لعلمه أن الرعية إنما ينظرونه بالعين الأولى.

 

 

 

وفي هذا الباب حكاية عجيبة كان لأبي سفيان بن الحارث ولد وكان يدع زياد بن أبيه وكان قد ولد في أيام الجاهلية ونفاه وتبرأ منه وقال ما هو لي بولد فلما وصل الأمر إلى معاوية قربه وأدناه وولاه ولاية العراق فلما وصل إلى العراق وجد أهل العراق قوماً عابثين يفسدون ويسرقون فقصد زيارة المسجد الجامع ورقى المنبر وخطب خطبة ثم قال بعد خطبته والله لئن خرج أحد بعد العشاء الآخرة لآخذن رأسه عن جسده فليعلم الشاهد الغائب. ثم أمر منادياً بذلك ثلاثة أيام فلما كان في الليلة الرابعة خرج زياد وقد مضى من الليل ثلثه فركب وجعل يطوف محال البلد فرأى إعرابياً ومعه غنم له وهو قائم فسأله زياد ما تصنع هاهنا فقال أتيت مساء ولم أجد موضعاً أستقر فيه فنزلت مكاني إلى أن أصبح وأبيع غنمي فقال له زياد أنا أعلم إنك صادق وأن أطلقتك خفت أن يذيع الخبر عني أن زياداً يقول ما لا يفعل فتفسد سياستي وتنكسر هيبتي والجنة خير لك مما هنا ثم ضرب عنقه وجعل يسير فكل من رآه ضرب عنقه وحز رأسه فلما أصبح من الغد كان قد أخذ رؤوس ألف وخمسمائة رجل ثم جعلها على باب داره مثل البيدر فتهوله الناس وحزعوا لما رأوا من فعله كان الليل خرج وطاف فلقي ثلاثمائة رجل فأخذ رؤوسهم فلم يقدر أحد بعد ذلك أن يخرج من منزله بعد العشاء الآخرة. فلما كان يوم الجمعة رقى المنبر وقال أيها الناس لا يغلق أحد منكم دكانه بالليل ومهما سرق منكم كان غرامته على فلم يجسر أحد منهم أن يغلق دكانه تلك الليلة فلما كان من الغد أتاه رجل صيرفي وقال قد سرق مني البارحة أربعمائة دينار فقال له زياد تقدر أن تحلف على صحة قولك فقال نعم فحلفه وغرم له أربعمائة دينار وقال له اكتم هذا الأمر ولا تشعر به أحداً فلما كان في الجمعة الثانية اجتمع الناس لصلاة الجمعة وصعد زياد المنبر وقال اعلموا أنه قد سرق من دكان الصيرفي أربعمائة ديناراً وأنتم كلكم حاضرون فإن رددتم ذلك فقد عاد إلى الرجل ماله وإن لم تردوا ذلك فقد أمرت أن لا يمكن أحد منكم أن يخرج من الجامع وأمرت بقتلكم في هذه الساعة ففي الحال لوموا من كان يتهمونه بالسرقه وقدموه بين يديه فرد الذهب الذي كان سرقه فأمر بصلبه في الحال. ثم أنه سأل بعد ذلك أي محلة في البصرة ليس فيها أمن فقيل محلة بني الأزد فأمر أن يترك فيها ثوب ديباح له قيمة ثقيلة ليلاً بحيث لا يراه أحد فبقي أياماً ملقى بحاله ولم يكن لأحد جسارة أن يقربه ولا يرفعه من مكانه فقال له أقاربه بعد ذلك أن السياسة خير الأشياء إلا أنك لم ترحم المسلمين أولاً أهلكت خلقاً كثيراً فقال قد أخذت عليهم الحجة قبل ذلك بثلاثة أيام ومن شؤم مخالفتهم لم ينتهوا والذي أصابهم كان من شؤم أعمالهم. فصل ولا ينبغي للسلطان أن يشتغل دائماً بلعب الشطرنج والنرد، وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد، لأن ذلك يمنعه ويشغله عن أمور الرعية فإن لكل عمل وقتاً فإذا فات الوقت عاد الربح خسراناً فإن الملوك القدماء قسموا النهار أربعة أقسام. قسم منها لطاعة الله وعبادته، وقسم للنظر في الرعية وإنصاف المظلومين والجلوس بين العلماء والعقلاء ولتدبير الأمور وسياسة الجمهور وتنفيذ المراسم والأوامر وكتابة الكتب وإرسال الرسل، وقسم للأكل والشرب والتزود من الدنيا وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور، وقسم للصيد ولعب الشطرنج والكرة وما أشبه ذلك. حكمة: يقال أن بهرام كور قسم نهاره قسمين وجعله شطرين. ففي النصف الأول كان يقضي حوائج الناس، وفي النصف الثاني كان يطلب الراحة ويقال أنه في جميع عمره ما أشتغل يوماً تاماً بعمل واحد. وكان أنو شروان العادل يامر أصحابه الثقات أن يصعدوا إلى أعلى مكان في البلد فينظروا إلى بيوت الناس فكل بيت لا يخرج منه دخان نزلوا وسألوا عن حال أولئك القوم وما خطبهم فإن كانوا في غم أعملوا الملك فكان يحمل ويزيل هموهم. ويجب على السلطان أن لا يرضى لغلمانه أن يتناولوا شيئاً من الرعية بغير حق كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه كان قد ولى أنو شروان عاملاً فأنفذ العامل إليه زيادة في الخراج ثلاثة آلاف درهم فأمر شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل. وكل سلطان أخذ من الرعية شيئاً بالجور والغصب وخزنه في خزائنه كان مثله رجل عمل أساس حائط ولم يصبر حتى يجف ثم وضع البنيان عليه فلم يبق الأساس ولا الحائط. ينبغي للسلطان أن يأخذ ما يأخذه من الرعية وأن يهب ما يهبه بقدره لأن لكل واحد من هذين حداً محدوداً كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن المأمون ولى يوماً أربعة نفر ولايات فأعطى لواحد منهم منشور خراسان خلع عليه ثلاثة آلاف دينار وولى الآخر ولاية مصر وخلع عليه خلعة مثلها، وولى الآخر ولاية ارمينية وأعطاه خلعة مثلها ثم إستدعى يومئذ موبذان وقال يا دهقان هل كان لملوك العجم مثل هذه الخلع فإنه بلغني أن خلعهم ما كانت تبلغ أكثر من أربعة آلاف درهم فقال الموبذان أطال الله بقاء أمير المؤمنين كان لملوك العجم ثلاثة ليست لكم )أحدها( أنهم كانوا يأخذون ما يأخذونه من الرعية بقدر ويعطونه بقدر )والثاني( أنهم كانوا يأخذون من موضع يجوز الأخذ منه ويعطون لمن ينبغي أن يعطى )والثالث( أنهم ما كان يخافهم إلا أهل الريب فقال المأمون صدقت ولم يعد عليه جواباً. ولأجل هذا لما كشف المأمون تربة كسرى أنو شروان وفتح تابوته وفتشه وجد صورته وهي بمائها ما بليت، والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت، والخاتم في يده ياقوت أحمر كثير الثمن ما رأى المأمون قبله فصاً مثله وكان على فصه مكتوب به مه نه مه به. ومعنى ذلك الأجود أكبر وليس الأجود أكبر فأمر أن يغطى بثوب نسج من الذهب وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون فلما علم به أعاده وأمر بإهلاك الخادم وقال كاد يفضحني بحيث يقال عني إلى يوم القيامة إن المأمون كان نباشاً وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه. حكاية: سأل الاسكندرية يوماً حليماً من حكمائه وكان قد عزم على سفر فقال أوضحوا لي من الحكمة سبيلاً أحكم فيه أشغالى، وأتقن فيه أعمالي. فقال كبير الحكماء أيها الملك لا تدخل قلبك حب شيء ولا بغضه لأن القلب خاصته كإسمه وإنما سُميَ قلباً لتقبله وأعمل الفكر وإتخذه وزيراً واجعل العقل صاحباً ومشيراً، واجهد أن تكون متيقظاً ولا تشرع في عمل أمر بغير مشورة وتجنب الميل والمحابة في وقت العدل والإنصاف فإذا فعلت ذلك جرت الأشياء على آثارك، وتصرفت فيها بإختيارك، وينبغي أن يكون الملك وقوراً حليماً، وإن لا يكون طائشاً عجولاً. قالت الحكماء ثلاثة أشياء قبيحة وهي ف ثلاثة أقبح: الحدة في الملوك، والحرص في العلماء، والبخل في الأغنياء. حكاية: كتب الوزير يونان إلى الملك العادل أن شروان وصايا ومواعظ فقال ينبغي يا ملك العالم أن يكون معك أربعة أشياء دائمة: العقل، والعدل، والصبر، والحياء، وينبغي يا ملك الزمان أن تنفي عنك الحسد والكبر وضيق الصدر ويريد به البخل والعداوة، واعلم يا ملك الزمان أن الذين كانوا قبلك من الملوك مضوا والذين يأتون من بعدك لم يصلوا فاحتهد أن يكون جميع ملوك الزمان محييك ومشتاقيك. حكاية: يقال أن أنو شروان ركب يوماً من أيام الربيع على سبيل الرجة فجعل يسير في الرياض المخضرة، ويشاهد الأشجار المثمرة، وينظر إلى الكروم العامرة فنزل عن فرسه، وسجد شكراً لربه وخر ساجداً ووضع خده على التراب زماناً طويلاً فلما رفع رأسه قال لأصحابه إن خصب السنين من عدل السلاطين، وحسن نيتهم إلى رعيتهم. فالمنة لله تعالى الذي أظهر حسن نيتنا في سائر الأشياء وإنما قال ذلك لأنه جربه في الأوقات.

 

حكاية: يقال أن أنو شروان الملك العادل خرج يوماً إلى الصيد فإنفرد من عسكره خلف الصيد فرأى ضيعة بالقرب منه وكان قد عطش فقصد الضيعة وأتى باب دار قوم وطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت فدقت قصبة واحدة من قصب السكر ومزجت ما عصرته منها بالماء ووضعته في القدح فرأى فيه تراباً وقذى فشرب منه قليلاً قليلاً حتى انتهى لآخره وقال للصبية )سادناس( أي نعم الماء لولا قذى كدره فقالت )يا شرهيك( أنا عمداً ألقيت فيه القذى فقال ولم فعلت ذاك فقالت رأيتك شديد العطش ولو لم يكن فيه القذى لشربته نوبة واحدة وقد يضرك شربه فتعجب أنو شروان من كلامها وعلم أنها قالته عن ذكاء وفطنة. ثم قال لها من كم عصرت ذلك الماء فقالت من قصبة واحدة فتعجب أنو شروان وأضمر في نفسه أنع إذا عاد يأمر بزيادة الخراج على تلك الناحية. ثم عاد إلى تلك الناحية بعد وقت آخر واجتاز على ذلك الباب منفرداً وطلب ماء فخرجت إليه تلك الصبية بعينها فعرفته ثم عادت لتخرج الماء فأبطأت عليه فأستعجلها أنو شروان وقال لأي شيء أبطأت قالت لأنه لم يخرج من قصبة واحدة قدر حاجتك وقد دققت ثلاث قصبات ولم يخرج منها قدر ما كان يخرج من قصبة واحدة فقال أنو شروان وما سبب ذلك العجز? فقالت سببه تغير نية السلطان فقد قيل أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم طارت بركتهم، وقلت خيراتهم فضحك أنو شروان وعجب من قول الصبية وأزال من نفسه ما كان أضمره لهم وتزوج الصبية لحسن ذكائها وفصاحة كلامها.

 

حكمة: يقال أن الصادقين من الناس ثلاثة الأنبياء والملوك والمجانين وقيل السكر جنون وإن المجنون يخاف من السكران لأن المجنون سكره باطن والسكران جنونه ظاهر والويل لمن يبقى في سكر الغفلة دائماً كما قال الشاعر: من أسكرَتُه الخمرُ في عقلِه ليس عليهِ إن صحاَ من خجلِ ومن يكُن بالمُلكِ ذا سـكـرة يصح إذا ما الملكُ عنه انتقلَ والقليل جداً من كان من سكر سلطنته صاحياً وكان المقدم على أعماله ثقة نصوحاً معيناً. وعلامة سكر السلطان أن يسلم وزارته إلى محتاج ومعوز ثم يستديمه ويتمسك به إلى أن تزول حاجته، وتنقضي فاقته، ثم يعزله وينصب غيره فيكون مثله مثل من يربي طفلاً صغيراً إلى أن يصير بالغاً كبيراً يصلح للأشغال، وإمضاء الأعمال، ثم يقتله ويستأصله. قيل أربعة أشياء على الملوك من جملة الفرائض وهي إبعاد الأدنياء عن مملكتهم، وعمارة المملكة بتقريب العقلاء، وحفظ المشايخ وأُولى الحكمة والتجربة والزيادة في أمر الملك بالإقلال من الأعمال المذمومة. إشارة لطيفة: لما تولى الأمر عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري أن أعني بأصحابك فكتب إليه الحسن البصري أما طالب الدنيا فلا ينصح لك، وأما طالب الآخرة فلا يرغب فيك، ولا يجوز للسلطان أن يسلم وزارته ولا عملاً من أعماله إلى من ليس بأهل فإن سلم الأعمال إلى ذلك الرجل فقد أفسد ملكه وظهر له الخلل الوافر من كل وجه ومن كل جانب كما قال الشاعر: البيتُ إذا مـا حـانَ خَـرَابـه ظهَر التخلخُلُ مِن أساسِ الحائطِ وإذا تولىَ المُلكُ غير رِجـالـهُ ولُوا الأمورَ لكُلِ فدم سـاقـطِ وينبغي لمن خدم الملوك أن يكون كما قال الشاعر: إذا خدمَت الملوكَ فـالـبـس مِن التوقِي اعـزَ مـلـبـس وأدخُل إذا ما دخلَت أعـمـى واخرُج إذا ما خرجَت أخرسَ وأما من تبسط مع السلطان فقد ظلم نفسه ولو كان ولد السلطان فليس للانبساط معهم في خدمتهم وجه كقول الشاعر: إذا كُنت للسُلطَانِ نجـلاً فـداره وخف مِنه إن أحبَبَت رأسك تسلمُ ومثل من تبسط مع السلطان كمثل الحواء الذي يكون دهره مع الحيات يأكل معها وينام معها، أو كرجل في البحر بين التماسيح التي تبلع الناس فلا يزال مخاطراً. حكمة: قيل ويل لن ابتلى بصحبة السلاطين فإنهم ليس لهم صديق ولا قرابة ولا خادم ولا ولد ولا احترام إلا من كانوا محتاجين إليه لعلمه أو لشجاعته فإذا أخذوا حاجتهم منه لم يبق لهم عنده مودة ولم يبق له عندهم وفاء ولا حياء وأكثر أشغالهم رياء يستصغرون كبار ذنوبهم وسيتعظمون صغار ذنوب غيرهم. قال سفيان لا تصحب السلطان وإياك وخدمته لأنك إن كنت له مطيعاً أتعبك، وإن خالفته قتلك وأعطيك. حكاية: يقال أن يزدجر بن شهريار دخل على والده في وقت لم يكن لأحد إذن في الدخول فقال شهريار لبهرام أمض وأضرب الحاجب الفلاني ثلاثنين خشبة واطرده عن الدركاه وأقم عوضه فلانا الحر. وكان عمر يزدجرد يومئذ ثلاث عشرة سنة فعزل ذلك الحاجب الأول عن الباب فعاد يزدجرد في بعض الأيام وأراد أن يدخل على والده شهريار فجعل الحاجب يده في صدره ورده على عقبه وقال إن عدت ورأيتك ههنا ضربتك ستين خشبة ثلاثين لأجل الحاجب المعزول وثلاثين لئلا تعود تدخل على الملك في غير وقت الآذن وإن كنت ولده لئلا تجلب إلى الضرب والهوان والطرد. وأصلح الأشياء للملك أن لا يباشر الأسباب بنفسه ويحفظ ناموسه لأن كثيراً من الأرواح يتعلق بروحه وصلاح الرعية في حياته. وكذا ينبغي أن لا يجور على نفسه ولا يجور على الناس. ولا ينبغي للملك أن يجازف في الأشغال ولا يتساهل فيها. ويجب عليه أن ينيم على فراشه كل ليلة غيره ويتحول بنفسه عن ذلك الموضع حتى إذا قصده عدو لاتلاف نفسه وجد في مكانه غيره فلا تصل يد عدوه إليه كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه انهزم خسروبن ابرويز من بهرام جور وقال خربت وإن كان هربي عيباً لاخلص بهربي أرواح جماعة من أصحابي لأني إن هلكت بسببي ألوف من الخلائق. والمقصود من المقال أن زماننا هذا غير موافق والناس فيه بين قبيح الفعل وعاقل الملوك مشغولون بالدنيا وحب المال ولا يجوز الإهمال والتغافل بين أناس السوء. في أمثال العرب )العبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة( وهذا المثل يضرب في من له أصل ومن لا أصل له وقد كان للناس وقت وزمان يؤمن فيه رجل واحد جميع أهل الدنيا ويسخرهم بدرة كان يحملها على عاتقه وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه والفضل في ذلك الزمان للوقت والرعية مشغولون ولو عوملوا بتلك المعاملة لم يحتملوا ولبدا فيها الفساد. لكن ينبغي للسلطان في هذا الوقت أن يكون له أتم سياسة وهيبة ليشتغل كل إنسان بشغله ويأمن الناس بعضهم من بعض. ونحن الآن نورد خبراً يستفيد به القارىء والسامع: سئل أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه لأي شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق فقال الخبر المعروف أن رسول الله ﷺ لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث وقال لا تسألوني عن حال أولئك فقال قوم من الصحابة أشار إلى ثلاثة أشهر وقال قوم إلى ثلاث سنين وقال قوم إلى ثلاثين سنة وقال قوم ثلاثمائة سنة يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال فإذا قال النبي ﷺ لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ فيهم. وسئل عن هذا السؤال فقال كان الناس في ذلك الوقت نياماً وكان العلماء أيقاظاً واليوم العلماء نيام والخلق موتى فأي نفع لكلام النائم مع الميت. أما زماننا هذا فهو الزمان الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد خبثت أعمال الناس ونياتهم وإذا لم يكن فيه للسلطان سياسة على الخلائق لا هيبة لم يثبتوا على الطاعة والصلاح. وقد قال النبي ﷺ العدل من الدين وفيه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وفيه يكون خير الرعية وأمنهم وعافيتهم وكل الأعمال توزن بميزان العدل. وقال عز وجل في موضع آخر: )الذي أنزلَ الكِتَابَ بِالحقِِ والمِيزانِ( وأحق الناس بالجاه والمملكة من كان في قلبه مكان للعدل، وبيته مقر ذوي الدين والفضل، ورأيه من أرباب الدين والعقل، وصحبته مع العقلاء، ومشورته مع ذوي الآراء. كما قال الشاعر: يدُه خِـزَانة جُـودِه والقلبُ خازنُ قصدهِ قد رتبًـت أبـوابـهَ أبداً لطلبِ عـدلـهِ قال الحسن البصرى كل ملك عظم أمر الدين كان عند رعيته مهيباً عظيم القدر والأمر ومن عرف الله تعالى تعرف الخلق به واختاروا أن يكونوا معارفه كما قال الشاعر:

 

من عرفَ اللَهُ تعالىَ اسُمَهِ آثرَ كُلُ الخلق عرفـاتَـه طُوبي لمن أول ما حـازهُ معرفة الخالق سُبحـانـه قال بزر جمهر ينبغي للملك أن لا يكون في مملكته أقل من البستاني ف حفظ بستانه إذا زرع الريحان ونبت بينه الحشيش إستعجل في قلع الحشيش كيلاً يضبط أماكن الريحان. قال أفلاطون علامة السلطان لامظفر على العدو أن يكون قوياً في نفسه لازماً لصمته مفكراً في رأيه وتدبيره بقلبه وان يكون عاقلاً في ملكه شريفاً في نفسه حلواً في قلوب الرعية رفيقاً في سائر أعماله، مجرباً لعهد من تقدمه خبيراً بأعمال من هو أقدم منه صلباً في دينه وعزمه. وكل ملك تجمعت فيه هذه الخلال، وحصلت له هذه الخصال، كان في عين عدوه مهيباً، ولا يجد العائب له معيباً، إذا كان الملك يرى أن حوله وقوته بالله جلت قدرته وإن كان عدوه قوياً فإنه يظفر به وينتصر عليه، مثاله قول الله عز وجل )كم مِن فئةٍ قليلةِ غلبًت فئةً كثيرة بإذنِ اللهِ والُله مع الصابرينَ( . نكتة: قال سقراط الحكيم علامة السلطان الذي يدوم ملكه أن يكون الدين والعقل منه حيين في قلبه ليكون في قلوب الرعية محبوباً، وأن يكون العقل قريباً، وأن يكون طالباً للعلم ليعلم من العلماء وأن يكون فضله غزيراً، وبيته كبيراً، ليعظم عند الفضلاء، ويربي الأدباء ليتفرع عنه الأدباء، وأن يبعد عن مملكته متطلبي العيوب لتبعد عنه العيوب. وكل ملك لم يكن له مثل هذه الخصال لا يفرح بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته، ويتلف أقرباؤه على يده وجلساؤه لأن القيل يظهر من عدم العقل كما قال الشاعر: يقولُ الحكيمُ المقـالَ الأسـدَ دع المُزح إذ لستُ فيهِ أسدِ تحفظُ بنفسِك مع مُفلـتِـي ك فعينك للملكِ تجني الحردِ وخف أن تنازعَه مُـلـكـهُ وفي حالةِ السخطِ عنه ابتعدِ سمِعًتُ عن الخمرِ أن المليكَ يسكرُ مِنها قُـبـيل الأمـدِ إشارة وحكمة: سأل معاوية الأحنف بن قيس فقال يا أبا يحيى كيف الزمان فقال الزمان أنتا إن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. وقال الأحنف بن قيس أن الدنيا عمرت بالعدل فكذلك تخرب بالجور لأن العدل يصفو نوره، وتلوح تباشيره، من مسيرة ألف فرسخ والجور يتراكم ظلامه، ويسود قتامه من مسيرة ألف فرسخ. وقال الفضيل بن عياض لو كان دعائي مستجاباً لم أدع به لغير السلطان العادل لأن السلطان العادل صلاح العباد، وزينة البلاد، وقد جاء في الخبر، عن سيد البشر صلوات الله وسلامه )عليه المقسطون على منابر اللؤلؤ يوم القيامة( . حكاية: كان الاسكندر يوماً على تخت مملكته وقد وقع الحجاب فقدم بين يديه لص فأمر فقال أيها الملك سرقت ولم يكن لي شهوة السرقة ولم يطلبها قلبي فقال له الاسكندر لا جرم تصلب ولا يطلب قلبك الصلب ولا يريده، فواجب على السلطان أن يعدل وينظر غاية النظر فيما يأمر به من السياسة لينفذ ذلك في أصحابه مثل وزيره وحاجبه ونائبه وعامله لأن كثيراً من سياسة السلطان وعدله ونظره وحسن تأمله يغطي عليه بالبراطيل ويغرب وقته وذلك من تغافل الملك وتهاونه فينبغي أن يجتهد غاية الاجتهاد في تدارك ذلك كما جاء في الحكاية. حكاية: كان للملك كستاشب وزير اسمه راشت روش وبهذا الاسم كان يظن كستاشب أنه تقي صالح وما كان يسمع فيه كلام أحد يقدح فيه ولم يكن يخبر حاله فقال راشت روش لخليفة الملك أن الرعية قد بطرت الآن من كثرة عدلنا فيهم وقلة تأديبنا لهم وقد قيل إذا عدل السلطان جارت الرعية والآن قد قامت منهم رائحة الفساد ويجب علينا أن نؤدبهم ونزجرهم ونبعد المعتدين ونقرب الصالحين ثم إنه كان كل من ألزمه الخليفة أن يؤدبه ارتشى منه راشت روش وأطلقه إلى أن ضعفت الرعية وضاقت بها الأحوال، وخلت الخزائن من الأموال، فظهر لكستاشب عدو فاعتبر خزائنه فلم يجد فيها شيئاً يصلح به أمور عسكره فركب يوماً في شغل عليه وسار في البرية فرأى من بعد قطيع غنم فقصده فرأى خيمة مضروبة والأغنام نيام ورأى كلباً مصلوباً فلما قرب من الخيمة خرج إليه شاب فسلم عليه وسأله النزول فأكرمه وقدم بين يديه ما حضر كما وجب فقال كستاشب اخبرنا عن حال هذا الكلب وصلبه قال يا مولانا كان هذا الكلب أميناً لي على أعنامي فصادف ذئبة فكان ينام معها ويقوم معها والذئبة كل يوم تأتي من الغنم رأساً بعد رأس فجاء في بعض الأيام صاحب الموضع وطلب مني حق المرعى فقعدت اتفكر واحسب حساب الغنم وهي تنقص في الحساب ورأيت ذئباً أخذ شاة والكلب ساكت مكانه فعلمت أنه كان سبب تلف الغنم وانه كان يخون أمانته فلزمته وصلبته فاعتبر كستاشب جعل يتفكر في نفسه وقال رعيتنا أغنامنا فيجب أن نسأل نحن أيضاً عنها لنصل إلى حقيقة أمرها فرجع إلى دراه فجعل ينظر في الوزمجات فإذا جميعها شفاعات راشت روش فضرب مثلاً وقال من اغتر بالاسم من ذوي الفساد، بقي بغير زاد، ومن خان في الزاد بقي بلا روح ثم أمر بصلب الوزير وهذه الحكاية مكتوبة في كتاب بادركارنامه وفيها يقول الشاعر: وما أنا بالمُغتـرِ بـاسـمـكِ إنـمـا تسميتُ كي تحَتال في طلبِ الـرزقِ ومن يجعل الأسماءَ فـخـاً لِـرزقِـه يُعد غيرَ ذي روحِ على الجذعِ مستلقيِ حكاية: يقال أنه كان لعمرو بن ليث نسيب يعرف بأبي جعفر بن زيدويه وكان عمرو به حفياً ومن جملة محبته له أنه كان يصله من هراة في كل سنة مائة جمل حمر الوبر على كل جمل حمل من الحوائج فانفذ عمرو من كل حاجة حملاً إلى دار أبي جعفر بن زيدويه وقال ليوسع عليه في مطبخه فقيل لعمرو بن ليث أن أبا جعفر قد بطح علاماً له وقد ضربه عشرين خشبة فأمر أن يحضر ثم أمر بكل سيف في خزائنه فقال يا أبا جعفر اختر من هذه السيوف أجودها واعزله ناحية فجعل أبو جعفر يتخير وينتقي إلى أن أفرد منها مائة سيف فقال اختر الآن منها سيفين فاختار أبوجعفر منها سيفين أجودها فقال عمرو ارسم الآن أن يجعلا في قراب واحد فقال أبو جعفر أيها الأمير كيف يمكن أن يكون سيفان في قراب واحد فقال عمرو بن ليث فكيف يمكن أن يكون أميران في بلد واحد فعلم أبو جعفر أنه أخطأ فقبل الأرض والتمس العفو والإقالة فقال عمرو بن ليث لولا حق القرابة ما جئت بيتك فخل عن هذا الأمر لنا فقد عفونا هذه النوبة عنك. حكمة: قال ازدشير إذا كان الملك عاجزاً عن اصلاح خواصه ومنعهم عن الظلم فكيف يقدر على رد العوام الى الصلاح قال الله تعالى: )وأنذر عشيرتك الأقربين( فالعرب تقول أنه ليس شيء أضيع للملك وأفسد للرعية من تعذر الإذن في الدخول وتكاثر الحجاب، وصعوبة الحجاب. وإذا كان الملك سهل الحجاب لم يكن للعمال أن يجوروا على الرعايا وخافت الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على سائر العمال اطلاع. لا يجوز للسلطان أن يكون غافلاً لتكون الهيبة من ناموس المملكة باقية ويستريح من الهموم الحادثة عن الغفلة. حكاية: يقال أن ازدشير كان متيقظاً ذا فطنة بالأمور بحيث إذا جاءه ندماؤه من الغد حدث كل واحد منهم بما صنعه وكان يقول لأحدهم انك البارحة فعلت الشيء الفلاني ونمت مع زوجتك ومع جاريتك الفلانية ويظنون أن ملكاً من السماء يأتي ويعرفه بأفعالهم وكذلك كان السلطان محمود بن سبكتكين رحمه الله. حكمة: قال أرسطاطاليس خير الملوك من كان في حدة نظره على مثال العقاب وكان الذين حوله كعقبان لا كالجيف يعني إذا كان السلطان جيد النظر ذا يقظة بالأمور ذا فكرة في العاقبة وكان المقربون منه وخواص دولته بهذه الصفة انتظمت أحوال مملكته واستقامت أمور أهل ولايته. حكمة: قال الاسكندر خير الملوك من بدل السنة السيئة بالسنة الحسنة وشر الملوك من بدل السنة الحسنة بالسنة السيئة. حكمة: قال أبرويز ثلاثة لا يجوز للملك التجاوز عنهم ولا يصفح عن ذنوبهم: من قدح في ملكه، أو أفسد حرمه، أو أفشى سره. قال سفيان الثوري خير الملوك من جالس أهل العلم ويقال أن جميع الأشياء تتجمل بالناس يتجملون بالعلم وتعلو أقدراهم بالعقل وليس شيء خيراً من العقل والعلم فإن العلم بقاء العز ودوامه، والعقل بقاء السرور ونظامه. ومن اجتمع العلم والعقل فيه فقد اجتمعت فيه اثنتا عشرة خصلة: العفة، والأدب، والتقى، والأمانة، والصحة، والحياء، والرحمة، وحسن الخلق، والوفاء، والصبر، والحلم، والمدارة في مكانها وهذه من خواص آداب الملك. وينبغي أن يكون مع العقل العلم كما أن مع النعمة الشكر، ومع الصباحة الحلاوة، ومع الاجتهاد الدولة فإذا جاءت الدولة حصل المراد جميعه. حكاية: قال عبد الله بن ظاهر أن يعقوب بن ليث علا أمره وارتفع قدره، وظهر اسمه وذكره، وملك كرمان وفارس وخورستان وقصر الواق وكان الخليفة في ذلك الزمان المعتمد فكتب إليه المعتمد انك كنت رجلاً صفاراً فمن أين تعملت تدبير الملك فكتب إليه يعقوب جواباً وقال إن المولى الذي آتاني الدولة آتاني التدبير. وف عهد ازدشير كتوب كل عزيز لا يضع قدمه على بساط العلم كانت عاقبته ذلاً وكل عبد ليس معه خوف من الله تعالى وإن كان تاماً فإن مصيره إلى الندم. حكمة: قال عبد الله بن طاهر يوماً لأبيه كم تبقى هذه الدولة فينا وتبقى في بيتنا قال مادام بساط العدل والإنصاف مبسوطاً في هذه الإيوان. حكمة: كان المأمون قد جلس في بعض الأيام لفصل الدعاوى والأحكام فرفعت إليه فسلم القصة إلى وزيره الفضل بن سهل وقال اقض قصته ارفع هذه القصة في هذه الساعة فإن الفلك في سرعة دروانه قل أن يثبت على حاله. قال مؤلف الكتاب يجب على الملوك العقلاء، والافاضل الألباء أن ينظروا في هذه الأخبار ليأخذوا نصيباً من أيام دولتهم وينصفوا المظلومين ويقضوا حوائج السائلين، ويتيقنوا أن هذا الفلك لا يثبت على دور واحد لأنه لا اعتماد على الدولة وإن القضاء سماوي لا يرد بالعساكر، وكثرة الأموال والذخائر، وإذا انحلت الدولة وتلاشت الأموال، وتفانت الرجال، فلا ينفع الندم إذا زلت القدم كما جاء في الحكاية. حكاية: أن مروان آخر خلفاء بني أمية عرض العسكر فكان ثلاثمائة ألف رجل بالعدد الكاملة فقال وزيره إن هذا لمن أعظم الجيوش فقال له مروان اسكت فإنه إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة وإذا نزل القضاء السماوي وإن كان العسكر عظيماً كثيراً بان قليلاً حقيراً، ولو ملكنا الدنيا بأسرها فلا بد أن تنزع منا ولمن وفت الدنيا حتى تفي لنا. حكمة: قال أبو الحسن الاهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب فخذ زاداً من يومك لغدك فلا يبقى يوم عليك ولا غد. ويقال أنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوباً هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه: سَلامُ عَلىَ أهلِ القُبُورِ الدوارِس كأنُهم لم يجلِسُوا فِي المجَالِـسِ ولم يشَربُوا مِن بارِدِ الماءِ شربة ولم يأكلُوا ما بين رطبٍ ويابِسِ فقد جاءنِي الموتُ المهولُ بِسكرةٍ فلم تَغن عنِي ألف آلافِ فارِسِ فياَ زائرُ القبرِ اتعظ واعتبر بِنـا ولا تك فِي الدُنيا هُدِيتَ بآنـسِ خُرَاسان نحويها وأطرافُ فارسِ وما كُنتَ عن مُلكِ العِراقِ بآيسِ سَلامُ علىَ الدُنيا وطِيبِ نعِيمٍهـا كأن لم يكُن يعقُوبُ فِيها بِجالسِ

 

سؤال وجواب: سئل ملك كان قد زال عنه الملك فقيل لاي سبب انتقلت الدولة عنك وسلمت إلى غيرك وسلبت منك? فقال لاغتراري بالدولة والقوة ورضاي برايي وعلمي وغفلتي عن المشورة وتوليتي لآصاغر العمال، على اكابر الأعمال، وتضييعي الحيلة في وقتها وقلة تفكري في الحيلة وإعمالها وقت الحاجة إليها والتباطؤ والوقفة في مكان العجلة والفرصة والاشتغال عن قضاء الحوائج. وقيل أي الاشرار أكثر شراً فقال الرسل الخونة الذين يخونون في الرسالة لاجل اطماعهم فكل خراب المملكة منهم كما قال ازدشير ف يحقهم كم سفكوا من الدماء وكم هزموا من الجيوشن وكم هتكوا من أستار ذوي الحرمات الاحرار، وكم من يمين كذبوها بخيانتهم، وكم من عهود نقضوها بقلة أمانهم وكم اجتاحوا من الأموال، وكان ملوك العجم يتحرزن وما كانوا ينفذون رسولاً إلا بعد أن يجربوه ويمتحنوه.

 

حكمة: يقال أن ملوك العجم كانوا إذا أرسلوا رسولاً إلى الملوك أرسلوا معه جاسوساً ليكتب ما قال وما سمعه فإذا عاد الرسول قابلوا كلامه بالنسخة التي كتبها الجاسوس فإن صح مقاله علموا أنه صادق فكانوا يرسلونه بعد ذلك إلى الأعداء. حكاية: أرسل الاسكندر رسولاً إلى الملك دارا فلما عاد الرسول وأعاد الجواب شك الاسكندر في كلمة من كلامه فلزمها عليه فقال الرسول يا مولاي أنا سمعت هذه الكلمة منه بأذني هاتين فأمر الاسكندر أن يكتب ذلك اللفظ بعينه وأنفذه على يد رسول آخر إلى دارا بن دارا فلما وصل وعرض المكتوب عليه قرأه وطلب سكيناً وقطع تلك الكلمة من الكتاب وأعاده إلى الاسكندر وكتب إليه أن إسّ الملك على حسن نية الملك وصحة طبعه وأساس صحة السلطان على صحة لفظ السفراء وصدق مقالة الرسل الأمناء لأن الرسول يقول ما قاله عن لسان الملك ويسمع ما يسمعه من الجواب بسمع املك والآن فقد قلعت تلك الكلمة من الكتاب لآنها لم تكن من كلامي ولم أجد سبيلاً إلى قطع لسان رسولك فلما عاد الرسول وأعاد الجواب إلى الاسكندر استدعى الرسول وصاح عليه وقال له ويلك من وضعك وقال إنه قصر في حقي وأسخطني فقال اسكندر سبحان الله ظننت أنا أرسلناك لتصلح أمورك أو تسعى في حقوق الناس إلينا ثم أمر به فسل لسانه من قفاه. فصل يجب على السلطان أنه متى وقعت رعيته في ضائقة أو حصلوا في شدة وفاقه أن يعينهم لا سيما في أوقات القحط وغلاء الأسعار حيث يحجزون عن التعيش ولا يقدرون علىالاكتساب فينبغي حينئذ للسلطان أن يعينهم بالطعام ويساعدهم من خزائنه بالمال ولا يمكن أحداً من حشمه وخدعه وأتباعه أن يجور على رعيته لئلا يضعف الناس وينتقلوا إلى غير ولايته، ويتحولوا إلى سوى مملكته، فينكسر إرتفاع السلطان، ويقل حاصل اليوان، وتعود المنفعة على ذوي الاحتكار، الذين يسرون بغلاء الأسعار، ويقبح ذكر الملك ويدعى عليه ولاجل هذا كان الملوك المتقدون يحذرون من هذا غاية الحذر ويراعون الرعايا من خزائنهم، ويساعدونهم من ذخائرهم ودفائنهم.

 

حكاية: يقال أنه كان رسم ملوك العجم أنياذنوا لرعاياهم في الدخول إليهم في أيام النوروز والمهرجان وكان المنادي ينادي قبل ذلك بثلاثة أيام أن استعدوا لليوم الفلاني ليأخذ كل من الناس أهبته، ويصلح أمره ويكشف قصته، ويتيقن حجته، ومن كان له خصم يعلم أنه يتألم منه عند الملك طلب رضاه فإذا كان ذلك اليوم وقف المنادي على باب الملك ونادى أن منه إنسان إنساناً من الدخول على الملك كان الملك بريئاً من دمه ثم كانت تؤخذ القصص من الناس وتوضع بين يدي الملك وكان ينظر في كل واحدة منها على الانفراد وموبذان قاعد عن يمينه وموبذان بلسانهم قاضي القضاة وإن كان في القصص قصة يتألم فيها من الملك قام الملك من مقامه وبرك بين يدي موبذموبذان مقابل خصمه وقال انصف أولاً هذا الرجل مني ولا تخلد إلى الميل والمجاباة ولا تخترني عن نفسك لأن الله إذا أهدى الحظوظ إلى عباده اختار لهم وولى عليهم خير خلقه وإذا أراد أن يرى عباده أي قدر لذلك الخليفة عنده اطلق على لسانه ما لم يطلق على لسانك ثم كان ينظر الموبذان فإن كان بين الملك وخصمه دعوى صحيحة وقامت البينة على الملك أخذ الحق منه بتمامه وكماله، وإن لم يكن بين الملك وخصمه دعوى صحيحة وكانت دعواه باطلة لا يثبت على صحتها حجة أمر بعقوبة ونادى عليه هذا جزاء من يريد عيب الملك والمملكة وكان الملك إذا فرغ من الدعاوي واستوى على سرير ملكه وضع التاج على مفرقه وأقبل على جماعته وخاصته وقال إنما انصفت من نفسي لئلا يطمع أحد منكم في الظلم والجور على أحد فلك من كان له منكم خصم فليرضه وكان يبعد في ذلك اليوم كل من كان قريباً منه ومن كان قوياً ضعف عنده وكانت الملوك على هذا السبيل وعلى هذا المذهب إلى أيام يزدجرد الاثيم فانه عبر قواعد بني ساسان وظلم الخلق وافسد حتى جاء في بعض الأيام فرسه في غاية الجودة والكمال بحيث أنه لم ير أحد في ذلك الزمان مثله في حسن خلقته، وجمال هيئته، فدخل من باب الدار واجتهد جميع من في عسكره أن يلزموه فامتنع منهم ولم يقدروا على إمساكه حتى وصل قريباً من يزدجرد فوقف إلى جانب الايوان ساكناً فقال يزدجرد تنحوا عن هذا الفرس فلا يقربه أحد منكم فإنه هدية من الله تعالى خاصة لي فنهض من مكانه وجعل يمسح وجهه قليلاً ثم أمر يده على ظهر الفرس والفرس ساكن لا يتحرك فاستدعى يزدجرد السرج فأسرجه بيده وجذب حزامه وأوثقه وانحرف نحو كفله ليضع التفر فيه فرفسه الفرس على فؤاده رفسة محكمة فخر ميتاً في الحال وخرج الفرس ولم يعلم أحد من أين جاء ولا إلى أين ذهب فقال الناس كان هذا الفرس ملكاً أرسله الله تعالى ليهلكه ويخلصنا من جوره وظلمه.

 

حكاية: قال القاضي أبو يوسف حضر عندي ف مجلس حكمي يحي ابن خالد البرمكي مع خصم له مجوسي فادعي المجوسي عليه فطلب منه الشاهد فقال مالي شاهد فحلفه فحلفت يحي بن خالد وأرضيت خصمه بأحلافه وساويت في الحكم بين يحيى وبين الجوسي لعزة الإسلام وما ملت قط مع أحد ولا حابيت أحداً خوفاً أن يسألني الله تعالى عن ذلك بل يجب أن يعرفوا قدر الزعماء والأكابر وينبغي أن لا يظلموا أصاغرهم وإن يعظموا أمر الحق ويطيعوا أمر السلطان ولا يعصوه في حال ليكونوا قد عملوا بقول الله تعالى: )أطيِعُوُا الَلهَ وأطيعُوُا الرَسولَ وأولِي الأمرِ مِنكُم( ومن يجعل الله له هذه المرتبة الشريفة، والدرجة المنيفة، ويقرن طاعته بطاعته جل اسمه وطاعة رسوله ﷺ فالواجب على الخلق أن يطيعوه ويخافوه ويجب على السلطان شكر هذه النعمة والطاعة لربه تعالى وامتثال ما أمره به من العدل والإحسان والرأفة بالمظلومين. فقد قيل احذروا من دعاء المظلومين وخافوا من ظلم من لا ينتصر من ظلمه إلا بدمع عينيه فما دون دعاء المظلوم حجاب، ودعاؤه مستجاب، لا سيما الدعاء في الأسحار، والتضرع في هدوء الليالي إلى الجبار، كما قال الشاعر: فلا تعجلن بالجُورِ ما دُمتَ قادراً فآخره إثـمُ وخـوفُ عـذابِ تنامُ وما المظلومُ عنـك بـنـائمِ ودعوته لا تنثني بـحـجـابِ وقال رسول الله ﷺ )تأسفت على موت أربعة من الكفار على أنوشروان لعدله وحاتم الطائي لسخائه وأمرىء القيس لشعره وأبي طالب لبره( . الباب الثاني: في سياسة الوزارة وسيرة الوزراء

 

اعلم أن السلطان يرتفع ذكره ويعلو قدره بالوزير إذا كان صالحاً كافياً عادلاً لأنه لا يمكن لأحد من الملوك أن يصرف زمانه ويدير سلطانه بغير وزير ومن انفرد برأيه زل من غير شك. ألا ترى أن النبي ﷺ مع جلالة قدره وعظم درجته وفصاحته أمره الله تعالى بالمشاورة لأصحابه العقلاء العلماء فقال عز من قائل: )وشَاوِرِهُم فيِ الأمرِ( . وأخبر في موضع آخر عن موسى عليه السلام: )واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري واشركه في أمري( وإذا لم يستغن الأنبياء عليهم السلام عن الوزراء واحتاجوا اليهم كان غيرهم من الناس أحوج.

 

سئل ازدشير بن بابك أي الأصحاب أصلح للملك? فقال الوزير العاقل المتقن الأمين الصالح التدبير ليدبر معه أمره ويشير اليه بما في نفسه. وعلى السلطان أن يعامل الوزير بثلاثة أشياء. أحدها: إذا ظهرت منه زلة وجدت منه هفوة لا يعاجله بالعقوبة الثاني: إذا استغنى في خدمته وأينع ظله في دولته لا يطمع في ماله وثروته. الثالث: إذا سأله حاجة لا يتوقف في قضاء حاجته وينبغي أن لا يمنعه من ثلاثة أشياء وهي متى أحب أن يراه لا يمنعه من رؤيته وأن لا يسمع في حقه كلام مفسد، ولا يكتم عنه شيئاً من سره لأن الوزير الصالح حافظ سر السلطان ومدبر أحوال المملكة وعمارة الولايات والخزائن وزينة المملكة وشدة الهيبة والقدرة وله الكلام على الأعمال واستماع الأجوبة وبه يكون سرور الملك وقمع أعدائه وهو أحق الناس بالاستماع له وتفخيم القدر، وتعظيم الأمر. وقال لقمان لابنه أكرم وزيرك لأنه إذا رآك على أمر لا يجوز أن يوافقك عليه. وينبغي للوزير أن يكون مائلاً في الأمور إلى الخير متوقياً من الشر وإذا كان سلطانه حسن الاعتقاد، مشفقاً على العباد، كان له عوناً على ذلك وأمره بالازدياد،وإذا كان سلطانه ذا حنق أو كان غير ذي سياسة كان على الوزير أن يرشده قليلاً قليلاً بألطف وجه ويهديه إلى الطريق المحمودة، وينبغي أن يعلم أن دوام الملك بالوزير وان دوام الدنيا بالملك، وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز له أن يهتم بغير الخير ويعلم أنه أول إنسان يحتاج إليه السلطان. وسئل بهرام جور إلى كم يحتاج السلطان حتى تتم سلطنته وتتكامل بالسرور دولته. فقال إلى ستة من الأصحاب: الوزير الصالح ليظهر إليه سره، ويدبر معه رأيه ويسوس أمره، والفرس الجواد لينجيه يوم الحاجة إلى النجاة والسيف القاطع والسلاح الحصين، والمال الكثير الذي يخف حمله ويثقل ثمنه كالجوهر واللؤلؤ والياقوت، والزوجة الحسناء لتكون مؤنسة لقلبه، مزيلة لكربه، والطباخ الخبير الذي إذا أمسك شيئاً دبره بلطفه. حكمة: قال ازدشير: حقيق على الملك أن يكون طالباً لأربعة فإذا وجدهم احتفظ بهم: الوزير الأمين والكاتب العالم، والحاجب المشفق، وإذا كان الكاتب عالماً دل على عقل الملك ورزانته، وإذا كان الحاجب مشفقاً دل على رضا الملك عن رعيته، ولم يغضب على أهل مملكته، وإذا كان النديم صالحاً دل على انتظام الأمر وصلاحه. حكمة: قال موبذان في عهد أنو شروان أنه لا يمكن حفظ السلطنة إلا بالأصحاب الناصحين المساعدين ولا ينفع خير الأصحاب إلا إذا كان الملك تقياً أنه ينبغي أن يكون الأصل جيداً ثم الفرع، ومعنى تقوى السلطان وصدقه وصحته أن يكون صحيحاً في سائر الأمور يأمر بالصحة بأقواله وأفعاله ليصح بصحته سائر حشمه ورعيته وأن يكون واثقاً بالله تعالى وأن يرى أن قوته وقدرته وظفره بأعدائه ونصرته ووصوله إلى مرداه من الله تعالى وأن لا يعجب بنفسه فإن أعجب خشي عليه الهلاك كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال ان سليمان عليه السلام كان جالساً على سرير ملكه وقد حملته الريح في الجو فنظر سليماه إلى مملكته وطاعة الإنس والجن وانقيادهم لعظيم هيبته وسياسته فاضطرب السرير وهم بالانقلاب فقال سليما للسرير استقم فنطق السرير وقال استقم أنت حتى نستقيم نحن كما قال عز من قائل: )إن اللهَ لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروُا ما بأنفسِهمِ( وقال أبو عبيدة في أمثاله )من سلك منهج الجد أمن العثار( ويجب أن يكون الوزير عالماً عاقلاً شيخاً لأن الشاب وإن كان عاقلاً لا يكون في التجربة كالشيخ والذي يتعلمه الناس من تجارب الأيام لا يتعلم إلا من المشايخ والوزير زين السلطن والزين يجب أن يكون صالحاً طاهراً من الشين ويحتاج الوزير إلى خمسة أشياء لتحمد خبرته، وتحسن سيرته، التيقظ ليظهر في كل أمر يدخل فيه له وجه المخرج منه، والعلم حتى تتضح له الأمور الحقيقية، والشجاعة حتى لا يخاف من شيء في غير موضع الخوف، والصدق لئلا يعمل مع أحد غير الصحيح وكتمان سر السلطان إلى أن يدركه الموت. قال أزدشير بابك يجب أن يكون الوزير ساكناً متمهلاً شجاعاً واسع الصدر حسن المقال مليح الوجه مستحيياً صامتاً حيث يحسن الصمت ومتكلماً إذا حسن الكلام ومع ذلك يجب أن يكون تقياً حسن المذهب ليطهر نفسه وينفي عنها كل ما لا يليق ولا بد من حسن الاعتقاد، وينبغي أن يكون ذا تجارب ليسهل الأمور على الملك متيقظاً لينظر عواقب الأمور، ويخاف عليه من تصاريف الدهور ويتحفظ أن يصيبه عيب الزمان وكل ملك كان وزيره له محباً وعليه مشفقاً كان ذلك الوزير كثير الأعداء وكان أعداؤه أكثر من أصدقائه، ولا يجوز للسلطان أن يسمع في وزيره كلام المحرضين عليه الساعين به إليه ليحسده أصدقاؤه، وتنكبت أعداؤه. ويجب أن يكون الوزير محمود الطريقة حتى إذا رأى ي الملك خلة مذمومة غير رشيدة رده إلى العادة المستقيمة الحميدة من غير غلظة شديدة، لأن الملك إذا كان على ما لا يريده وسمع ما يكرهه منه من التقريع عمل شراً من ذلك، والدليل على ذلك أن البارىء تعالى لما أرسل موسى إلى فرعون بأمره قال عز من قائل: )فقُولا لهُ قولاً ليناً( وإذا كان الحق سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه السلام أن يقول لعدوه قولاً ليناً فالناس أجدر أن يلينوا أقوالهم، وإن كان السلطان يخشن كلامه فلا يجوز للوزير أن يحقد بما يريد. وإذا كان الوزير محباً للملك صحيح المقال، حسن الفعال كان له عوناً على ذلك وأمره بالملازمة لذلك، ولا يجوز أن يعلم الوزير وسائر خاصة الملك انهم مهما فعلوه من حسن فإن ذلك بإقبال الملك وببركة ظله انفعل فالمنة حينئذ تصلح أن تكون له على الناس، وأعظم فساد ينشأ في دولة الملك يكون من أمرين أحدهما من الوزير الخائن، والثاني من نية الملك الرديئة الفاسدة. قال أنو شروان شر الوزراء من جرأ السلطان على الحرب وجرأه على القتال في موضع يمكن أن ينصلح الحال بغير حرب لأن الحرب في سائر الأحوال تفني ذخائر الأموال، وفيها تبذل كرائم النفوس ومصونات الأرواح. وقال أيضاً كل ملك كان وزيره جاهلاً فمثله كمثل الغيم الذي يبدو ويظهر، ولا يندي ولا يمطر. حكمة: في كتاب وصايا أرسطاطاليس: كل أمر ينقضي على يد غيرك بلا حرب ولا خشونة فهو خير مما تقضيه بيدك.

 

وترتيب الوزراء انهم متى أمكنهم أن يحاربوا بالكتب فليحاربوا وان لم تتأت الأمور بالاحتيال والتدبير فليحتالوا في تأتيها بعطاء الأموال، وبذل الصلات والنوال، ومتى انهزم عسكر عفوا عن جنود الجند ولا يستعدجلوا بقتلهم لأنه قد يمكن قتل الأحياء ولا يمكن أحياء القتلى فإن الرجل يصير رجلاً في أربعين سنة ومائة رجل يكون رجل يصلح لخدمة الملوك وان أسر احد من الجند م أصحاب الملك كان على الوزير ان يفكه ويفديه ويخلصه ويشتريه ليسمع الجند بصنيعه فتقوى قلوبهم إذا باشروا حروبهم، وعلى الوزير أن يحفظ أرزاق الجند كل إنسان على قدره وإن يدرب الرجال الشجعان بألات الحرب، وان يخاطبهم بأحسن كلام ويلين لهم في الخطاب، ويلطف بهم في الجواب، فان الجند قد قتلوا كثيراً من الوزراء في قديم الأيام، وسالف الأعوام، ومن سعادة السلطان ويمن طالعه وتوحده أن يسهل الله له وزيراً صالحاً، ومشيراً ناصحاً. وقال رسول الله ﷺ: )إذا أراد الله بأمير خيراً قيض له وزيراً نصيحاً صادقاً صبيحاً، إن نسي ذكره وإن إستعان به أعانه.

 

قال المؤلف الكتاب إن الله سبحانه وتعالى يظهر قدرته في كل حين وزمان، ووقت وأوان، ويصطفي جماعة يختارهم من عباده مثل السلاطين والوزراء وأكابر العلماء ليعمر بهم الدنيا. ومن عجائب الزمان حديث البرامكة الذين لم يوجد لهم في الدنيا نظير في الكرم والعطاء، وبذل المعروف والسخاء. وكان تحت حكمهم الولايات الوافرة المرتفعات وبعد انقراضهم فسدت أحوال الوزراء ولم يبق لخدمة الملوك رونق ولا نضارة إلى أن أوجد الله تعالى بركات آل سلجوق وظل دولتهم إلى النظام وأوصلهم إلى درجة الوزراء المتقدمين وأرفع بحيث أنه لم يبق أحد في الدنيا من أهل الفضل والادباء، وأبناء السبيل الغرباء، من شريف ووضيع إلا هو مشمول بإحسانهم، مغمور بامتنانهم ولم يكن أحد من خيرهم محروماً وإنما ذكرنا هذا ليعلم من يقرأ كتابنا هذا الفرق بين الصالح وغير الصالح. حكمة: قال بزرجمهر: لا تقاس الأشياء بعضها ببعض لأن جوهر الناس أجل من كل جوهر وانما زينة الدنيا جميعها بالناس، والباري تعالى لا ينسب إلى الخطأ وهو واهب الصلاح لمن يشاء وأنه يؤتي كل أحد ما يصلح له ويليق به فينبغي أن يكون وزراء الملوك ومدبرو دولتهم على هذه الصفة وأن يحفظوا رسوم المتقدمين وطرائفهم وأن يلتمسوا الأموال التي تؤخذ من الرعية في أوقاتها وأحيانها، وعند وجوبها واتيانها، وليعرفوا الرسم ويحملوا الرعية بحسب طاقتها وقدرتها، وأن يكونوا في تصيدهم كصائد الكركي لا قاتل العصفور. ولا يجوز أن يحرصوا على تناول أموال المواريث مادام الوارث موجوداً فالطمع في ذلك مشؤوم غير جائز ويجب عليهم استمالة قلوب الرعية والحشم، بهبات الفوائد والنعم، ليعلموا أن كفايتهم وسمو مرتبتهم وصلاحهم، منوط بصلاح الرعية ليحسن ذكرهم في الدنيا وينالوا جزيل الثواب في العقبى. الباب الثالث : في ذكر الكتاب وآدابهم قالت العلماء ليس شيء أفضل من القلم لأنه به يمكن اعادة السالف والماضي. ومن فضل القلم وشرفه أ الله تعالى اقسم به فقال عز من قائل: )ن والَقلَم وما يسطرَون( . وقال تعالى: )اِِقرَأ ورُبكَ الأكَرمُ الذِي عَلَمَ بِالَقلمِ عَلَمَ الِإنسانِ ما لم يعَلم( . وقال رسول الله ﷺ )أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو سائر إلى يوم القيامة الحديث( . قال عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام: )اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم( . قال معناه كاتب حاسب. وقال إن القلم صائغ الكلام. حكمة: قال ابن المعتز القلم معدن والعقل جوهر والقلم صائغ والخط صناعة. قال جالينوس القلم طبيب الكلام. قال بليناس القلم طلسم كبير. قال اسكندر الدنيا تحت شيئين السيف والقلم والسيف تحت القلم والقلم أدب المتعملين وبضاعتهم وبه يعرف رأي كل إنسان من قريب وبعيد ومهما كان الرجل مجرباً للزمان فانه ما لم ينظر في الكتب لا يكون كامل العقل لأن مدة عمر الإنسان معلومة ومعلوم أيضاً أن في هذه المدة القريبة والعمر قصير كم يمكنه أن يدرك بتجربته ومعلوم أيضاً كم يمكنه أن يحفظ بقلبه. السيف والقلم حاكمان في جميع الأشياء، ولولا السيف والقلم ما قدمت الدنيا.

 

وأما الكتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الاكابر. وقالت الحكماء والملوك القدماء: ينبغي أن يكون الكاتب عالماً بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض، ومعرفة استخراج الافتاء، ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم، ومعرفة الاجتماع والاستقبال، والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية، ومعرفة ريح الجنوب ولشمال، وعلم الشعر والقوافي. ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالماً ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وان يحرس نفسه أن يكون مجتمعاً متصلاً. وأن يكون الخط مبنياً ويعطي كل حرف حقه كما يحكى أنه كان لامير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنع عامل فكتب إلى عمرو بن العاص كتاباً لم يظهر سين سم الله الرحمن الرحيم فاستدعاه عمرو وقال له اظهر أولاً سين بسم الله ثم توجه بعد ذلك إلى عملك. وأول ما ينبغي للكاتب أن يعلم براية القلم فإن الإنسان إذا كان يحسن الخط ويعرف أن يبري قلمه فإن الخط على كل حال يجيء صالحاً.

 

حكاية: كان لشاهنشاه عشرة من الوزراء وكان في حملتهم لصاحب إسماعيل بن عباد فاجتمع الوزراء على تنكيسه واتفقوا على التضريب عليه وقالوا أن الصاحب لا يقدر أن يبري قلمه فلما علم بذلك شاهنشاه جمعهم وقالوا أن الصاحب أي أدب فيكم ليس لي مثله حتى تتجاسروا أن تتحدثوا عني بحضرة شاهنشاه وأن أبي علمني الوزارة ولم يعلمني التجارة أقل أدبي براية القلم وهل فيكم من يقدر أن يكتب كتاباً تاماً بقلم مكسور الرأس فجز الجماعة عن ذلك فقال له شاهنشاه اكتب أنت فأخذ الصاحب قلماً وكسر رأسه وكتب به درجاً تاماً فأقر الجماعة بفضله، واعترفوا بسداده ونبله، وأجود الأقلام ما كان مستقيماً أصفر اللون رقيق الوسط، والقلم المحرف من جانبه الايمن يصلح للخط العربي والفارسي والعبري واللسان الدري يجب أن يكون قلمه محرفاً من الجانب الأيسر، وخير الأقلام ما وصفه يحيى بن جعفر البرمكي في كتاب كتبه إلى يحيى بن ليث قلم لا غليظ ولا رقيق وسطه دقيق، يجب أن تكون السكين التي يبرى بها الأقلام في غاية الحدة وان تكون براية القلم على شكل منقار الكركي محرفاً من الجانب الايمن، وينبغي أن يكون المقط الذي يقط عليه في غاية الصلابة، ويجب أن تكون الانقاش فارسية خفيفة الوزن والكاغد صقيلاً متساوياً وان يجوز مده لانه يتوحش بذلك الخط وأن تكون صور الحروف يشبه بعضها بعضاً ولا يقدر ذلك إلا حكيم عاقل أو من تعودت بذلك أنامله. وكان عبد الله بن رافع كاتباً لامير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال كنت أكتب يوماً فقال لي أمير المؤمنين ألق دواتك وأطل جلفة قلمك ووسع ما بين السطور واجمع ما بين الحروف وكان عبد الله بن جبلة كاتباً محسناً فقال لغلمانه لتكون أقلامكم بحرية فإن لم تكن بحرية فلتكن صفراً واقطعوا عقد الأقلام لئلا تنعقد الأمور، ولا يجوز انفاذ كتاب بغير ختم فإن كرم الكتاب ختمه. وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: )أنِي ألقِي إِلي كِتَابٍ كَرِيمٍ( . أي مختوم.وأمر النبي ﷺ أن يكتب كتاباً إلى العجم وقال انهم لا يريدون كتاباً بغير ختم فختمه بخاتمه المبارك وكان عليه ثلاثة أسطر محمد رسول الله. خبر روى صخر بن عمرو أن رسول الله ﷺ لما كتب كتاباً إلى النجاشي رماه على التراب ثم أنفذه فلا جرم أنه أسلم. ولما كتب كتاباً إلى كسرى أنوشروان لم يلقه على التراب لا جرم أنه لم يسلم وقال ﷺ تربوا كتبكم فإنه أنجح لحوائجكم. وقال تربوا الكتاب فإن التراب مبارك وإذا كتب الكتاب فليقرأ قبل طيه فإن رأى فيه خطأ تدراكه وأصلحه. وينبغي أن يجتهد الكاتب أن يكون الكلام قصيراً والمعنى طويلاً، وأن لا يكرر كلمة يكتبها، وأن يحترز من الألفاظ الثقيلة الغثة ليكون كاتبها محموداً. وفي باب الكتابة كلام طويل كثير ان ذكرناه طال الكتاب ونقتنع منه بهذا القدر فقد قيل خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل. الباب الرابع: في سمو همم الملوك

 

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فاني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته. وقال عمرو بن العاص المرء حيث وضع نفسه يريد إن أعز نفسه علا أمره، وان أذله ذل وهان قدره. وتفسير معنى الهمة أن يرفع نفسه فإن أنفة القلب من همم الاكابر لانهم يعرفون قدر أنفسهم فيعزونها ولا يرفع قدر أحد حتى يكون هو الرافع لقدر نفسه. واعزاز المرء نفسه أن لا يختلط بالاراذل ولا يشرع في عمل ما لا يجوز لمثله أن يعمله ولا ما يعاب به والهمة والآنفة للملوك لأن الله ركب فيهم الخصلة ليتعلمها منهم الوزراء والندماء كما جاء في الحكاية.

 

حكاية: أمر أبو الدوانيق لرجل بخمسمائة درهم فقال أحمد بن الخصيب لا يجوز للملك أن يهب ما دون الألف من الاعداد. وكان هارون الرشيد يوماً راكباً في موكبه فسقط فرس رجل من عسكره فقال هارون ليعط خمسمائة درهم فأشار إليه يحيى بعينه وقال هذا خطأ فلما نزلوا قال الرشيد أي خطأ بدا مني حتى أشرت ألي بعينك فقال لا يجوز أن يجري على لسان أحد من الملوك أقل من الألف من الاعداد فقال الرشيد فإن اتفق أمر لا يجوز أن يعطى فيه أكثر من خمسمائة درهم مثل هذا فكيف يقال قل ليعطى فرساً فيدفع إليه فرس على جاري العادة والرسم وتكون قد نزهت همتك عن ذكر الحقير. ولهذا خلع المأمون ولده من ولاية عهده وذلك أن المأمون اجتاز بحجرة العباس فسمعه يقول لغلامه يا غلام قد رأيت بباب الرصافة بقلاً حسناً فخذ نصف درهم وصل إلى باب الرصافة وائتني بشيء منه فناداه المأمون من الآن علمت أن للدرهم نصفاً فأنت لا تصلح لولاية العهد وتدبير المملكة ولا يأتي منك صلاح ولا فلاح. حكمة: في وصية نامةأزدشير لولده إذا أردت أن تهب لاحد من ولدك شيئاً فاجتهد أن لا يكون عطاؤك أقل من دخل ولاية أو قرية أو قيمة بلد أو رستاق يستغني به الشخص الذي تهبه تزول حاجته ويستغني اعقابه به وأولاده ما عاشوا فيحصل بذلك في حساب الاحياء لا في حساب الأموات واجتهد انك لا ترغب في التجارة بوجه من الوجود فإن ذلك يدل على دناءة همة الملك. حكمة: يقال أنه كان الملك هرمز بن سابور وزير فكتب إليه كتاباً يذكر فيه أنه وصل من جانب البحر تجار معهم اللؤلؤ والياقوت والجواهر النفيسة القيمة وانني ابتعت منهم برسم الخزانة بمبلغ ألف دينار والآن قد حضر فلان التاجر وهو يطلب الجوهر بربح كثير فإن رغب مولانا فليرسم بما يرى. فكتب هرمز جوابه وقال مائة ألف ومائة ألف مثلها وأمثالها ليس لها في أعيننا خطر ولا نرغب فيها بوجه من الوجوه لنفسك ولا تعد لمثل هذا الكلام ولا تخلط في أموالنا درهماً واحداً ولا دانقاً فرداً من أرباح التجارة فإن ذلك يسقط قيمة الملك ويزري بحسن اسمه، ويعود بقبح قاعدته ورسمه، ويضر بصيته في حال حياته وبعد وفاته. حكاية: حكى أن الأمير عمارة بن حمزة كان في بعض الأيام جالساً في مجلس الخليفة المنصور وكان يوم نظره في المظالم فنهض رجل على قدميه وقال انا مظلوم فقال من ظلمك فقال عمارة بن حمزة اغتصب ضياعي وابتز ملكي وعقاري فأمره المنصور أن يقوم من مقامه ويساوس خصمه للمحاكمة فقال عمارة يا أمير المؤمنين ان كانت الضياع له فما أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ومالي حاجة في محاكمته وما ابيع مكاني الذي أكرمن به أمير بضياع ولا غيرها فتعجب الأكابر الحاضرون من علو همته، وشرف نفسه ومروءته، الهة والنهمة على شكل واحد وكل إنسان له منهما نصيب فواحد بالسخاء وإطعام الطعام وآخر بالعلم وآخر بالعبادة والقناعة والزهادة، وترك الدنيا، وطلب العقبى وآخر بطلب الزيادة. وأما الهمة بالسخاء وبذل المال، واسداء النوال فينبغي أن تكون كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن يحيى بن خالد خرج يوماً من دار الخلافة راكباً إلى داره فرأى على باب الدار رجلاً فلما قرب نهض قائماً وسلم عليه وقال يا أبا جعفر أنا محتاج إلى ما في يدك وقد جعلت الله وسيلتي اليك فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وان يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من طعامه المختص به فبقي على ذلك شهراً كاملاً فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى في ذلك فقال والله لو أقام مدة عمره، وطول دهره، ما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي.

 

حكاية: كان لجعفر بن موسى الهادي جارية عوادة تعرف ببدر الكبرى ولم يكن في زمانها أحسن وجهاً منها ولا أحذق بصناعة الغناء وضرب الأوتار منها وكانت في غاية الكمال، ونهاية الجمال، فسمع بخبرها محمد ابن زبيدة الأمين فالتمس منه أن يبيعها له فقال له جعفر أنه لا يجيء من مثلي بيع الجواري، ولا المساومة في السراري، ولولا أنها مزينة داري، لأنفذتها إليك، ولم أبخل بها عليك. ثم بعد ذلك بأيام جاء محمد ابن زبيدة إلى داره فرتب مجلس الشراب وأمر بدراً أن تغني له وتطربه فأخذ محمد في الشراب والطرب ومال على جعفر بكثرة الشرب حتى اسكره وأخذ الجارية معه ألى داره ولم يمد اليها يده من شرف نفسه وهمته ثم رسم من الغد باستدعاء جعفر فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني من وراء الستر فسمع جعفر غناءها فلم ينطق من شرف نفسه ولم يظهر تغيراً في محاضرته ثم أمر محمد الأمين أن يملأ ذلك الزورق الذي ركب فيه جعفر أليه دراهم فكانت الفي ألف بدرة وجملتها عشرون ألف الف درهم حتى استغاث الملاحون وقالوا ما بقي الزورق يحمل شيئاً آخر وأمر بحمله ألى دار جعفر والجارية أيضاً. هكذا كانت همم الأكابر. وسئل بعض الحكماء من أعلا الناس حالاً فقال أعلاهم همة وأكثرهم علماً، وأغزرهم فهماً واصفاهم حالاً فقيل له فمن ينبغي أن يتوصل ليخلص من نحوسة حظه وضائقته فقال بالملوك والأكابر وذوي الهمم العالية، والنفوس الشريفة السامية، كما قيل جاور بحراً أن ملكاً.

 

حكاية: قال سعد بن سالم الباهلي اشتدت بي الحال في زمن الرشيد واجتمع علي ديون يعجزني بعض قضائها، وعسر علي أداؤها، واحتشد ببابي أرباب الديون، وتزاحم الطالبون، ولازمني الغمرماء فضاقت حيلتي، وازدادت فكرتي فقصدت عبد الله بن مالك الخزاعي التمست منه أن يمدني برأيه وإن يرشدني ألى باب الفرج فقال عبد الله لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك، وضائقتك وغمكم، ألا البرامكة فقلت ومن يقدر على احتمال تكبرهم، والصبر على تيههم وتجبرهمز فقال تصبر على ذلك لمصلحة أحوالك فنهضت إلى الفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد فقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما غصتي. فقالا أعانك الله وأقام لك الكفاية فعدت إلى عبد الله ابن مالك ضيق الصدر، منقسم الفكر، منكسر القلب وأعدت عليه ما قالاه فقال يجب أن تكون عندنا اليوم لننظر ما يقدره الله تعالى فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل فقال عبد الله أرجو أن يكون قد جاء الفرج فقم وانظر ما الشأن فنهضت وأسرعت عدواً فرأيت ببابي رجلاً معه رقعة مكتوب فيها انك لما عدت من عندنا مضيت إلى الخليفة وعرفته ما قد أفضت بك الحال أليه يصرفها إلى غرمائه فمن أين يقيم وجوه نفقاته فأمر بثمانمائة ألف درهم أخرى وقد حملت أنا من خاصتي الف الف درهم فصارت الجملة الفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم أصلح بها أحوالك. حكاية: يقال انه كان لانو شروان نديم وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع باللؤلؤ والجواهر النفيسة فسرقه النديم ونظر اليه انو شروان فرآه وهو يخفيه فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام مرصع بالجواهر فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام فقال أنو شروان مكنهم من الخروج فإن الذي سرق الجام لا يرده والذي رآه لا يقر عليه فأين كان السخاء وعلو الهمة كانت الراحة والخير ولكن من ينكر الاحسان، ويحجد الامتنان لا أصل له ومن لا أصل له لا يقدر أن يستر فكره.

 

حكاية: يقال أن الرشيد استدعى صالحاً في التاريخ الذي تغير فيه علىالبرامكة وقال صالح صر إلى منصور بن زياد وقل له لنا عليك عشرة الآف ألف درهم نريد أن تحصلها في هذه الساعة وان لم يحصلها ألى المغرب فخذ رأسه عن جسده وأتني به واياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح فصرت إلى منصور وعرفته ما ذكره الرشيد من سياسته فقال له هلكت وحلف أن جميع أسبابه وأملاكه لا يقوم بمائة ألف درهم فمن أين يقوم بتحصيل عشرة الآف ألف درهم قال صالح فقلت له دبر حيلة في امرك فاني لا أقدر أن أمهل احابي فيما أمر به أمير المؤمنين فقال احملني إلى بيتي أودع أولادي وأهلي وصبيتي وأوصي أقاربي فجعل منصور يودع أهل بيته وارتفع ف منزله البكاء والاستغاثة والصراخ. قال صالح فقلت له ربما يكون لك فرج على أيدي البرامكة فامض بنا اليهم فأخذ يبكي ويصرخ حتى أتينا يحيى بن خالد فقصصت عليه القصة وشرحت عليه ما ناله فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساكناً زماناً ثم رفع رأسه ثم استدعى خازنه وقال له كم في خزانتنا من الدراهم فقال مقدار ألف ألف درهم فأمر باحضارها وأنفذ قاصداً إلى الفضل ولده فقال للرسول قل له انه عرض بيع ضياع جليلة فانفذ ما عندك من الدراهم فانفذ ألفي ألف درهم وأنفذ بآخر إلى جعفر وقال للرسول قل له اتفق لنا شغل ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فانفذ جعفر ألفي ألف درهم فقال منصور يا مولاي قد تمسكت بك وما اعرف خلاصي إلا منك واتمام بقية ديني فاطرق يحيى إلى الأرض وبكى وقال يا غلام إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان وهب جاريتنا العوادة منانير وجوهرة عظيمة القيمة فامض إليها وقل لها تنفذ تلك الجوهرة فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال يحيى يا صالح أنا ابتعت هذه لامير المؤمنين من التجار بمائتي ألف درهم ووهبها أمير المؤمنين لدنانير العوادة وإذا رآها عرفها وقد بم الآن مال مصارة منصور يا صالح قل لامير المؤمنين ليهب لنا منصوراً. قال صالح فحملت المال والجوهرة إلى الخليفة فبينما نحن في الطريق أنا ومنصور إذ سمعته يتمثل ببيت من الشعر فتعجبت من ردائته وفساده. وخبث أصله وميلاده، وهو هذا البيت.

 

فما استوهبَتَنِي مُتمَسكاً بِي ولكن خفت مِن ألمِ النِبالِ قال صالح فحردت عليه وقلت ما على الأرض خير من البرامكة ولا شر منك اشتروك وانقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم وتحمدهم ولم تفعل فعل الاحرار وقلت ما قلت ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وعرفته ما جرى وكتمت عنه ما جرى من منصور من خبث الطوية مخافة على نفسه من الرشيد فعند ذلك تعجب وأمر برد تلك الجوهرة وقال شيء وهبناه لا يجوز ان نعود فيه فأعدتها إلى يحيى وقصصت عليه القصة وما جرى من منصور من سوء فعله. قال يحيى إذا كان الإنسان مقلاً وجعل يطلب العذر لمنصور. قال صالح فبكيت وقلت لا يعود الفلك الدائريخرج رجلاً مثلك في الوجود، فوا أسفاً كيف يتوارى رجل مثلك له خلق مثل أخلاقك تحت التراب.

 

حكاية: يقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الحزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى ابعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما فولى الرشيد ولاية أومينية لعبد الله وسيره إليها. ثم أن رجلاً من أهل العراق كان له أدب وذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله، واختل عليه حاله، فزور كتاباً عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلم الكتاب إلى بعض حجابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك ففضه وقرأه وتدبره وعلم أنه مزور فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئني بكتاب مزور ولكن طب نفساً فانا لا نخيب سعيك فقا الرجل أطال الله بقاء الأمير إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي لحجة فأرض الله واسعة والرازق حي متين والكتاب الذي وصل صحيح غير مزور. فقال عن حال هذا الكتاب الذي اتيت به فأن الف درهم مع الفرس والجنيب والحلة والتشريف. وان كان الكتاب مزوراً أمرت أن تضرب مائتي خشبة وان تحلق محاسنك. ثم أمر عبد الله أن يحمل إلى حجرة الحبس وان يحمل اليه ما يحتاج اليه وكتب كتاباً الى وكيله ببغداد أنه قد وصل الينا رجل معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد وأن سيء الظن في هذا الكتاب فيجب أن تتحقق الحال في هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرفني الجواب فلما وصل كتاب عبد الله الى وكيله ركب ومضى الى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالساً فسلم الكتاب إليه فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل عد الينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت الى ندمائه وقال لهم ما جزاء من حمل عني كتاباً مزوراً الى عدوي فقال كل واحد منهم شيئاً يصف نوعاً من العذاب، ويذكر جنساً من العقاب، فقال يحيى كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خسة الأصل ودنائته وكلكم تعرفون قرب عبد الله من أمير المؤمنين وتعرفون ما بيني وبينه من البغض والآن قد سبب الله هذا الرجل وجعله متوسطاً في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا، وتنصلح بواسطته شؤوننا وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه واكتب له كتاباً إلى عبد الله ليتوفر على اكرامه، واعزازه واحترامه وسمو همته. ثم إنه طلب الكاغد والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده. بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسررت بسلامتك،وابتهجت باستقامتك، وكان ظنك أن ذلك الحر زور عني كتاباً، ولفق عني خطاباً، وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته، وليس بمزور عني، وتوقعي من كرمك، وحسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله، وتعرف له حرمة قصده، وان تخصه منك بغامر الإحسان، ووافر الامتنان، فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه. ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه الى الوكيل فأنفذه الوكيل الى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر الرجل وقال

 

أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحب الي فامر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المحلاة وخمسة بالحلال وعشرين تختاً من الثياب وعشرة مماليك ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة من الثياب وسيره بصحبة مأمونه الى بغداد فلما وصل الى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان، فاذن له في الدخول فدخل اليه، وقبل الأرض بين يديه. فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتاً من جور الزمان، وغدر الحدثان، فنشرتني واحييتني، أنا الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك ووهب لك. فقال من بركاتك وظلك، وكرمك وهمتك وفضلك أعطاني، ونولني وأغنائي، وقد حملت جميع عطيته وها هي ببابك والأمر اليك، والحكم في يديك، فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك على المنة العظيمة، واليد الجسيمة، إذ بدلت تلك العداوة التي كانت بين وبينك وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهب من المال مثل ما وهب لك. ثم أمر له من المال بمثل ما اعطاه عبد الله ابن مالك. وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم من يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همته عالية لا يضيع أبداً كما لم يضع ذلك الرجل ولو كان خسيس الطبع لالتجأ ألى عمل دنيء وتعلق بلئام الناس ولكنه لما كانت له همة سامية تهور وأقدم، وخاطر مع رجل محتشم، كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، فوصل بذلك التهور الى مراده. انظر الى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين، وإلى سمو همتهما بماذا عاملاه، وبماذا قابلاه، ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه وتخلص من شدة زمانه وضائقته، وأفلت من شر محنته وعاد ذا نعمة سنية، ورتبة علية وحصل بجميل الذكر على جزيل الأجر. حكاية: يقال أنه تفاخر عبدان: عبد لبني هاشم وعبد لبني أمية فكل واحد منهما قال موالي أكرم من مواليك فقالا نمضي ونجرب فمضى مولى بني أمية إلى واحد من مواليه وشكا حالته وضائقته وتألم من فاقته فأعطاه عشرة آلاف درهم حتى طاف على عشرة من مواليه فاجتمع له مائة ألف درهم فأخذها وأحضرها بين يدي مولى بني هاشم وقال امض أنت الى بني هاشم وجربهم وانظر كرمهم فأتى مولى بني هاشم الى الحسين بن علي رضي الله عنهما وشكا حاله وذكر فقره وما أفضى به الحال إليه فأمر له بمائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن جعفر وشكا اليه فأعطاه مائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن ربيعة فأعطاه مائة ألف درهم فمضى بالمال الى مولى بني أمية وقال له: إن مواليك تعلموا الكرم من موالي، ولكن عد بنا اليهم لنجربهم ثايناً ونعيد المال إليهم فمضى مولى بني أمية الى مواليه وقال لهم قد استغنيت عن هذا المال وقد سهل الله تعالى لي من مكان ما أسدّ به فقري ولم يبق لي في هذه الدراهم حاجة وقد اعدتها فأخذ كل واحد منهم دراهمه، وحمل مولى هاشم الدراهم الى مواليه قال لهم قد تيسر لي من مكان ما زالت به حاجتي وانقضت وقد أعدت المال الذي أخذت منكم فاستعيدوه فقالوا نحن لا نأخذ شيئاً قد وهبناه ولاتعود هباتنا تختلط بأموالنا. حكمة: قال بعض الحكماء اجلال الأكابر من الكرم وحسن الخلال، واحتقار الناس من لؤم الأصل وقبح الخلال، والهمة بغير آلة خفة وإنما الهمة مع الجد تجمل وتلطف، وتحسن وتظرف، لأن الرجل إذا كان ذا همة وجدة غير مساعد لم يكن له من همته سوى الانحطاط لأنه يجب أن تكون الهمة علوية والجد عالياً، وقد قيل أيضاً الكلام بالدرجة والعمل بالقدرة. وينبغي أن تكون الهمة الى بغداد والزاد الى فرسخين وكذا الجلال.

 

حكاية: كان عبد العزيز بن مروان أميراً بمصر فركب ذات يوم واجتاز بموضع وإذا برجل ينادي ولده يا عبد العزيز فسمع الأمير نداءه فأمر له بعشرة الآف درهم لينفقها على ذلك الولد الذي هو سميه ففشا الخبر بمدينة مصر فكل من ولد في تلك السنة ولد سماه عبد العزيز.وبضد ذلك كان الحاجب تاش الأمير الكبير بخراسان فإنه اجتاز يوماً بصيارف بخارى ورجل ينادي غلامه وكان اسم الغلام تاس فأمر بإزالة الصيارف ومصادرتهم وقال إنما أردتم الاستخفاف باسمي. فانظر الآن بين الحر القرشي وبين المتشرف بالدراهم. وفي هذا الباب كلام طويل ونكتفي بهذا لئلا يطول الكتاب.وينبغي أن تعلم أن الهمة وإن تأخرت فإنها توصل صاحبها الى مراده يوماً من الزمان قال الشاعر:

 

سَعيي لِمجدِ ولولاَ صِدقُ معَرفتـي انِي سأَدرك ما قد كُنتُ أطلُـبـه لو كُنتُ فِي خِدمةِ السُلطانِ ذا طلبِ للِزَادِ ما كُنت مِن حَامِيهِ أخَطُبـه وإنما المحمود في الرجال أن لا يتجاوز بهمته، فوق قدره وقدرته، لئلا يعيش مغتماً طول زمانه ومدته، كما قال الشاعر: لو كُنتَ تَقَنعُ بِالكِفَايةِ لَم يكُن بِالدَهرِ أرفَه مِنكَ عَيشاً فِيه أو كُنتَ يُوَماً َفوقَ ذَلِكَ طَامعَاً لم تكفِك الدُنيَا بِما تَـحـوِيه ماذا يَفيد عُلو هِمَتـكَ الـذِي لا يسَتجيب لِنيلِ ما تَبـغِـيِه الباب الخامس: في ذكر حلم الحكماء أما الحكمة فإنها عطاء من الله جلت قدرته يؤتيها من يشاء من عباده. قال سقراط مثل من أعطاه الله الحكمة وهو يعرف قدرها وهو بحرصه يعمل للدنيا وللمال الكثير كمثل من يكون في صحة وسلامة فيبيعها بالتعب والنصب فإن ثمرة الحكمة الراحة والعلاء، وثمرة المال التعب والبلاء. قال ابن المقفع كان لملوك الهند كتب كثيرة بحيث كانت تحمل على الفيلة فامروا حكماءهم أن يختصروها فاتفق العلماء في اختصارها فاختصروها على أربعة كلمات أحداها للملوك وهي العدل، والثانية للرعية وهي الطاعة، والثالثة للنفس وهي الامساك عن الطعام الى وقت الجوع، والرابعة للانسان وهي أن لا ينظر الى غير نفسه. حكمة: قال بعض الحكماء الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري وذلك ناس فذكروه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فاحذروه. )حكمة( سئل بعض الحكماء أي شي أقرب فقال الأجل فقيل أي شيء أبعد قال الأمل. حكمة: قال لقمان الحكيم لولده: شيئان إذا حفظتهما لا تبالي بما ضيعت بعدهما درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. حكمة: سأل أنو شروان بزر جمهر لاي شيء يمكن أن يجعل العدو صديقاً قال لأن تخريب العامر أسهل من عمارة الخراب وكسر الزجاج إذا كان صحيحاً أسهل من تصحيحه إذا كان مكسوراً. وقال صحة الجسم خير من شرب الأدوية، وترك الذنب خير من الاستغفار، وكظم الشهوات خير من كظم الحزن، ومخالفة الهوى في الاستكبار خير من دخول النار. حكمة: كان رجل من الحكماء المتقدمين يطوف البلاد عدة سنين وكان يعلم الناس هذه الكلمات الست وهي: من ليس له علم فليس له عز في الدنيا ولا في الآخرة، ومن ليس له صبر فما له سلامة في دينه، ومن كان جاهلاً لم ينتفع بعمله، ومن لا تقوى له فما له عند الله كرامة، ومن لا سخاء له فما له من ماله نصيب، ومن لا طاعة له فما له عند الله حجة. حكمة: سئل بزر جمهر أي عز يكون بالذل متصلاً فقال العز في خدمة السلطان، والعز مع الحرص والعز مع السفه. حكمة: سئل بزر جمهر بماذا يؤدب البله فقال بان يؤمروا بكثرة الأعمال، ويستخدموا في مشقات الأشغال، بحيث لا يجعل لهم الى الفضول طريقاً ولا فراغاً، قيل وبماذا يؤدب الاخساء فقال باهانتهم واحتقارهم، ليعرفوا وضاعة أقدارهم. قيل فبماذا يؤدب الاحرار قال بالتوقف في قضاء حوائجهم. وسئل أيضاً من الكريم فقال الذي يهب ولا يذكر أنه وهب. حكمة: قيل لاي سبب تتلف الناس نفوسهم لاجل المال فقال لانهم يظنون أن المال خير الأشياء ولا يعلمون أن الذي يراد من أجله المال خير من المال.

 

حكمة: قيل له أيكون شيء أعز من الروح بحيث تعطي الناس فيه أرواحهم ولا يبالون فقال ثلاثة هي أعز من الروح الدين والعقل والخلاص من الشدائد. وسئل أيضاً في أي شيء يكون العلم والكرم والشجاعة فقال زينة العلم الصدق وزينة الكرم البشر وزينة الشجاعة العفو عند القدرة.

 

حكمة: قال يونان الوزير أربعة أشياء من عظيم البلاء: كثرة العيال مع قلة المال والجار المسيء الجوار، والمرأة التي لا تقية لها ولا وقار. واتفق أهل الدنيا على أن أعمال الخلائق كلها خمسة وعشرون وجهاً: خمسة منها بالقضاء والقدر وهي طلب الزوجة، والولد، والمال، والملك، والحياة، وخمسة منها بالكسب والاجتهاد وهي العلم، والكتابة، والفروسية ودخول الجنة، والنجاة من النار. وخمسة منها بالطبع وهي الوفاء، والمداراة والتواضع والسخاء. وخمسة منها بالعادة وهي المشي في الطريق، والأكل والنوم والجماع والبول والتغوط. وخمسة منها بالإرث وهي الجمال، وطيب الخلق وعلو الهمة، والتكبر، والدناءة. حكمة: ستة أشياء تساوي الدنيا: الطعام السائغ، والولد السليم الأعضاء والصاحب الموافق، والأمير المشفق، والكلام الصحيح النظام، والعقل التام. حكمة: قال الحكيم خمسة أشياء ضائعة: السراج في الشمس والمطر في السباخ المالحة، والمرأة الحسناء عند الأعمى، والطعام الطيب يقدم بين يدي الشبعان، وكلام الله سبحانه في صدر الظالم. حكمة: سئل الاسكندر لم تكرم معلمك فوق كرامة أبيك فقال ان أبي سبب حياتي الفانية ومعلمي سبب حياتي الباقية. حكمة: قال الحكيم إذا كنت بقسمة الله تجري الأمور، فالاجتهاد محظور، وتاركه مشكور. وقال إذا لم يمش معك الزمان كما تريد، فامش مع الزمان كما يريد، فإن الإنسان عبد الزمان، والزمان عدو الإنسان، وكل تنفس تنفسه فبقدره عن الحياة ويقرب من الممات. حكمة: سأل قوم من الحكماء بزر جمهر فقالوا عرفنا من أبواب الحكمة ما ينفع أرواحنا وأشباحنا لنجتهد فيه وما يضرنا فيه وما يضرنا للبعد عنه فقال اعلموا وتيقنوا أن أربعة من الأشياء تزيد ف نور العين وتحد النظر. واربعة تنقص نورها وأربعة تسمن الجسم وتخصبه، وأربعة تضعفه وتهزله، وأربعة أشياء تحيي القلب، وأربعة تميتهن وأربعة يصح بها الجسم دائماً،وأربعة تكسر البدن. أما الأربعة التي تزيد في نور العين فهي الخضرة، والماء الجاري، والشراب الصافي والنظر الي وجوه الأحباب. وأما الأربعة التي تنقصه فهي أكل المالح واللحم القديد، وصب الماء على الرأس، والنظر الدائم في عين الشمس، ورؤية العدو. وأما الأربعة التي تسمن الجسم وتخصبه فهي الثوب الناعم، وخلو البال من الأحزان، والرائحة الزكية، والنوم في المكان الساخن. وأما الأربعة التي تضعفه وتهزله فأكل اللحم القديد، وكثرة الجماع، وطول المكث في الحمام، ونوم العشايا. وأما الأربعة التي يصح به الجسم فأكل الطعام في قته، وحفظ مقادير الأشياء ومجانية الأعمال الشاقة، وترك الحزن على غير موجب. وأما الأربعة التي تكسر البدن دائماً فسلوك الطريق الصعب، وركوب الفرس الحرون، والمشي على التعب، ومجامعة العجائز، وأما الأربعة التي تحيي القلب فالعقل النافع، والأستاذ العالم والشريك الأمين والزوجة الموافقة، والصديق المساعد. وأما الأربعة التي تميته فبرد الزمهرير وحر السموم والدخان الكريه ومخافة العدو. وقال سقراط الحكيم خمسة أشياء يهلك الأنسان فيها نفسه: خديعة الاصدقاء، والالتفات عن العلماء، واحتقار الرجل نفسه، وتكبر من لا يسوى واتباع الهوى. حكمة: قال سقراط خمسة أشياء لا يشبع منها خمس: عين من نظر، وأنثى من ذكر، وأذن من خبر، ونار من حطب، وعالم من علم. حكمة: سئل حكيم ما أمر الأشياء في الدنيا وما أحلاها فقال أمر الأشياء استماع الحسن ممن لا قيمة له والدين الفادح وضائقة اليد وأحلى الأشياء الولد والكلام الطيب واليسار. حكمة: سئل حكيم ما الموت وما النوم فقال النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل. حكمة: سئل حكيم ما الغنى فقال القناعة والرضا فقيل ما العشق فقال مرض الروح وموت في حسرة. حكمة: سئل ارسطاطاليس أي صديق أوثق وأي صاحب أشفق فقال الصديق الأصيل أوثق والصاحب القديم أشفق وتدبير العقلاء أفضل.

 

حكمة: قال حالينوس سبعة أشياء تجلب النسيان: استماع الكلام الخشن ولا يصوره القلب، والحجامة على خرزة العتق، والبول في الماء الراكد وأكل الحوامض، والنظر في وجه الميت، والنوم الكثير، والنظر في الأماكن الخراب. وقال أيضاً في كتاب الأدوية أن النسيان يحدث من سبعة أشياء وهي البلغم، وضحك القهقهة، وأكل المالح واللحم السمين وكثرة الجماع، والسهر مع التعب، وسائر البرودات والرطوبات فإن أكلها يضر ويجلب النسيان.

 

حكمة: قال أبو القاسم الحكيم فتن الدنيا تنشأ من ثلاثة نفر من قائل الأخبار، وطالب استماع الأخبار ومتلقي الأخبار وهؤلاء الثلاثة لا يخلصون من الندامة. حكمة: قيل ثلاثة أشياء لا تجتمع مع ثلاثة أكل الحلال مع اتباع الشهوات والشفقة مع ارتكاب الغضب وصدق المقال مع كثرة الكلام. حكمة: قال بزر جمهر الحكيم إن شئت إن تصبر من جملة الابدال فحول أخلاقك الى أخلاق الصبيان الأطفال. فقيل كيف ذلك فقال في الأطفال خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالاً وهي أنهم لا يغتمون للرزق، وإذا مرضوا لم يشكوا من خالقهم تعالى، وانهم يأكلون الطعام فيجتمعون، وإذا تخاصموا لم يتحاقدوا ويساعون الى الصلح، وانهم يخوفون فيخافون بأدنيى تخويف وتدمع أعينهم. حكمة: قال وعب بن منبه ف التوراة أربع كلمات مكتوبة وهي كل عالم لم يكن متورعاً فهو كاللص وكل رجل خلا عن العقل فهو والبهيمة على مثال واحد. حكمة: قال بعض الحكماء أصل الزعامة العطف وأصل الذنب العجلة، وأصل الذل البخل. حكمة: قال الحكيم ينبغي أن لا يكون الانسان لقلبه خادماً وبقلبه متقدماً وبعادته أبله أي يتجاوز عن الجيد والرديء وينبغي أن يسمع كلام الحكمة من غير حكيم فإنه قد يصيب الغرض من لم يكن رامياً. حكمة: قال الاحنف بن قيس لا صديق لملول، ولا وفاء لكذوب ولا راحة لحسود، ولا مروءة لدنيء ولا زعامة لسيء الخلق. حكمة: قال ذو الرياستين اشتكى رجل من خصم له الى الاسكندر فقال له الاسكندر أتحب أن أسمع كلامك فيه بشرط أن أسمع كلامه فيك فخاف الرجل وأمسك فقال الاسكندر كفوا أنفسكم عن الناس لتأمنوا من أناس السوء. حكمة: قال بزر جمهر العوافي أربعة وهي عافية الدين، وعافية المال عافية الجسم وعافيت الأهل. فأما عافية الدين ففي ثلاثة أشياء.: أن لا تتابع الهوى وأن تعمل بأوامر الشرع وأن لا تحسد أحداً. وعافية المال في ثلاثة أشياء: انعام النظر، وأداء الأمانة واخراج الحق من المال. وعافية الجسم في ثلاثة قلة الكلام، والاقلال من الكلام، والاقلال من النوم. وعافية الأهل في ثلاثة القناعة، وحسن العشرة، وحفظ طاعة الله تعالى. وسئل حاتم الأصم لأي شيء لا نجد ما وجده المتقدمون فقال: لأنكم فاتكم خمسة أشياء: المعلم الناصح، والصاحب الموافق، والجهد الدائم والكسب الحلال والزمان المساعد. خبر: جاء في الخبر ان رسول الله ﷺ قال يا علي أقبل على بوجهك واخل إلى قلبك وسمعك، كل وغط، واجمع وهب، وتشدد فقال علي ما معنى هذه الكلمات يا رسول الله فقال كل الغضب وغط عيب أخيك وهب ظلم الظالم وأجمع لذلك القبر المظلم وتشدد في دين الإسلام. حكمة: سئل حكيم أي شيء أكثر بين الخلق فقال: كثرة التدبير وليس قدرة ومع الاستكثار لا تزول الحاجة والعبد يحرص على كل شيء الا على الفقر فليس يحرص عليه أحد لأن الخلق كلهم يطلبون الغنى ولا يحرص أحد على الغم لأن الكل يطلبون السرور ويحرصون على الفرح لا يحرص أحد على الموت لانهم يحرصون على الحياة. حكمة: قال أبو القاسم الحكيم هلاك العبد في شيئين المعصية والانفراد بالرأي. حكمة: قال الحكيم بلاء الخلق من ثلاثة: العلماء المضلين، والقراء البله، والعوام الحسدة. وقيل لا تطلب صحبة من طامع، ولا تطلب وفاء من خسيس الأصل. وقال الحكيم شيئان غريبان في هذا الزمان الدين والفقر. حكمة: قال الحكيم اربعة أحوال ان حفظتها كنت من جملة الرجال: أحدها سرك يجب أن يكون بحيث إذا علمه الناس رضيت والثاني علانيتك يجب أن تكون بحيث لو اقتدى بك الناس جاز لك. والثالث أن تعامل الناس بما لو عاملوك به اخترته لنفسك. والرابع أن تكون حالتك للناس بحيث لو كانت لك رضيت بها.

 

حكمة: قال الحكيم ينبغي أن تنظر ثلاثة أشياء بعين ثلاثة وهي أن تنظر الفقراء بعين التواضع لا بعين التكبر وأن تنظر الأغنياء بعين النصح لا بعين الحسد. وأن تنظر النساء بعين الشفقة لا بعين الشهوة.

 

حكمة: قال وهب بن منبه: في التوراة مكتوب أن أم المعاصي ثلاثة الكبر والحرص والحسد وانها نتيجة خمسة أشياء الأكل والنوم وراحة الجسم وحب الدنيا ومدح الناس. وقال من خلص من ثلاثة أشياء فمأواه الجنة وهي المنة والمؤونة والملامة إذا أحسن لم يمن باحسانه،وأن يخفف مؤونته عن الناس وإذا رأى في أحد عيباً لم يلمه. حكمة: يقال ان ابن القرية دخل على الحجاج وكان من أكابر أهل زمانه فطنة وعلماً فسأله الحجاج وقال له ما الكفر قال البطر بالنعمة، والاياس من الرحمة. فقال ما الرضى قال الثقة بقضاء الله والصبر على المكاره فقال ما الحلم قال اظهار الرحمة عند القدرة والرضى عند الغضب. فقال ما الصبر قال كظم الغيظ والاحتمال لما يراد. فقال ما الكرم قال حفظ الصديق وقضاء الحقوق. قال ما القناعة قال الصبر على الجوع والعري عن اللباس. قال ما الغنى قال استعظام الصغير واستكثار القليل. فقال ما الرفق قال اصابة الأشياء الكبيرة بالآلة الصغيرة الحقيرة. فقال ما الحمية قال الوقوف على رأس من هو دونك. قال ما الشجاعة قال الحملة في وجوه الاعداء والكفار، والثبات في موضع الفرار. فقال ما العقل قال صدق المقال وارضاء الرجال فقال ما العدل قال ترك المراد وصحة السيرة والاعتقاد. فقال ما الانصاف قال المساواة عند الدعاوي بين الناس. فقال ما الذل قال المرض من خلو اليد والانكسار من قلة الرزق. فقال ما الحرص قال حدة الشهوة عند الرجال. فقال ما الأمانة قال قضاء الواجب. فقال: ما الخيانة قال التراخي مع القدرة قال فما الفهم قال التفكر وإدراك الأشياء على حقائقها. حكمة: قال الحكيم ثمانية تجلب الذل على أصحابها وهي جلوس الرجل على مائدة لم يدع اليها، ومن تأمر على صاحب البيت والطامع في الاحسان من اعدائه، والمصغي الى حديث اثنين لم يدخلاه بينهما، ومحتقر السلطان، ومن جلس فوق مرتبته ومن تكلم عند من لا يستمع ومن صادق من ليس بأهل. حكمة: سئل بزر حمهر أي شيء يقبح بالانسان ذكره وإن كان صحيحاً قال مدح الإنسان نفسه لأنك لا تجد بخيلاً ممدوحاً، ولا ذا غضب مسروراً، ولا عاقلاً حريصاً، ولا ترى كريماً حاسداً، ولا قنوطاً عتياً، ولا تجد لملول صديقاً. حكمة: قال الحكيم خمسة يفرحون بخمس ثم يندمون بعدها الكسلان إذا فاتته الأمور والمنقطع عن اخوانه إذا نالته شدة، ومن أمكنته فرصة على اعدائه ثم عجز عن انتهازها، ومن ابتلى بامرأة سوء وتذكر المرأة الصالحة قبلها، والرجل الصالح يندم على ارتكاب الذنوب. حكمة: سئل بزر جمهر هل يقلب المال قلوب العلماء من الرجال فقال من قلب المال قلبه فليس بعالم. حكمة: قال الحكيم العتاب الظاهر خير من الحقد الباطن. حكمة: قال بزرجمهر أصحاب الغم والحزن في الدنيا ثلاثة: محب فارق حبيبه، ووالد شفوق ضل عنه ولده، وغني عاد فقيراً. حكمة: قال عمرو بن معدي كرب الكلام اللين يلين القلوب التي هي أقسى من الصخر، والكلام الخشن يخشن القلوب التي هي أنعم من الحرير. حكمة: قال الحكيم الحزن مرض الروح كما ان الوجع مرض الجسد والفرح غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد. وطلب حكيم من رجل أن يدينه ديناراً فلم يفعل فقال الحكيم لم يكن من منعك إياي الا أن احمر وجهي من الحياء مرة واحدة ولوأعطيتني لم يصفر وجهي من مطالبتك مرة بل الف مرة. حكمة: قال الحكيم من يزرع وطينه رطب لم يساو قيمته شيئاً. وقال من ليس له لب ولا خطر فهو شجر بلا ثمر. وقال من سل سيف الجور قتل به، ومن لم ينصف من نفسه لم يخلص من حسرته، ومن أطلق يده بالعطاء أشرق وجهه بالضياء. وقال من لم يجترز من ذنبه فقد تعلق به. وقال الشباب رضيع الجنون، والشيب قرين التوفيق والسكون. وقال تزود طاهر الزاد، ولا تخف من الاضداد.

 

عظة: قال لقمان كنت أسير في طريق فرأيت رجلاً عليه مسح فقلت ما انت أيها الرجل فقال آدمي فقلت ما اسمك فقال حتى انظر بماذا اسمى فقلت ماذا تصنع قال ترك الأذى فقلت ماذا تأكل قال الذي يطعمني ويسقيني فقلت من أين يطعمك فقال من حيث شاء فقلت طوبى لك وقرة عين فقال ما الذي يمنعك عن هذه الطوبى وقرة العين.

 

حكمة: قيل ثلاثة تذهب عن القلب العمى: صحبة العالم، وقضاء الدين، ومشاهدة الحبيب. وقيل شيئان يجلبان الحزن الى القلب: الطمع في وجود البخلاء، والمراء مع الوضعاء. حكمة: قال الحكيم تجنب أربعة أشياء تخلص من أربعة أشياء: تجنب الحسد لتخلص من الحزن ولا تجالس جليس السوء وقد تخلصت من الملامة ولا ترتكب المعاصي وقد خلصت من النار، ولا تجمع المال وقد خلصت من العداوة. حكمة: قال الحكيم أربعة أعمال مذمومة يعملها الناس فيجازون بها في الدنيا والآخرة. الغيبة فقد قيل فارس يلحق سريعاً، والثاني احتقار العلماء لأن من احتقر عالماً عاد حقيراً، والثالث كفران نعم الله عز وجل، والرابع قتل النفس بغير حق، وللأكابر والحكماء مثل قديم كل قاتل مقتول ولو بعد حين. قال الشاعر: إذَا مكَنتَ بِالسَكِـينِ كَـفـاً لِقتلِ النَاسِ فاذكَر الَسبـيلا رأى عِيسَى قَتِيلاً فِي طَريِقِ فعَضَ عَلى أنَامِلِهِ طَـويلاً وقاَلَ لِمن قَتلَت نَراَك حَتـى غَدوت كَما أرى مُلقَى قَتِيلاً وَقاتلك الـذي ارَادك أيضَـاً يَذوُقَ القَتلَ فَاليطل العويلا الباب السادس: في شرف العقل والعقلاء إن الله سبحانه وتعالى خلق العقل على أحسن صورة وقال له أقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت في خلقي شياً أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب. والدليل على صحة هذا أن الله تعالى على العباد شيئين وكلاهما موقوفان على العقل وهما الأمر والنهي كما جاء في محكم التنزيل قوله جل ذكره: )فاتقوا الله يا أولي الألباب( . وهم ذوو العقول، واشتقاق العقل من العقال، والمعقل المنيع القلعة على رأس الجبل لا يصل إليها يد أحد لامتناعها وقوتها واحكامها. سئل حكيم الفرس لم سمي العاقل عاقلاً فقال للعاقل أربع علامات يعرف بها. وهي أن يتجاوز عن ذنب من ظلمه، وان يتواضع لمن دونه، وان يسابق الى فع الخير لمن هو أعلى منه، وان يذكر ربه دائماً وان يتكلم عن العلم ويعرف منفعة الكلام في موضعه وإذا وقع في شدة التجأ الى الله تعالى. وكذلك الجاهل له علامات وهو أن يجور على الناس ويظلمهم ويعسف بمن دونه وأن يتكبر على الزعماء والتقدمين وأن يتكلم بغير علم، وأن يسكت عن خطأ وإذا وقع في شدة أهلك نفسه وإذا رأى أعمال الخير لفت عنها وجهه. حكمة: قال سعيد بن جبر: ما رأيت للإنسان لباساً أشرف من العقل إن انكسر صححه، وان وقع أقامه وان ذل أعزه وإن سقط في هوة جذبه بضبعه منها واستنقذه منها وان افتقر أغناه وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل كما جاء في الحكاية.

 

حكاية: يقال انه ما كان في خلفاء بني العباس اعلم من المأمون في جميع العلوم فكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة الفقهاء وكان يجتمع عنده الفقهاء والمناظرون، والعلماء والمتكلمون، فدخل في بعض الأيام الى مجلسه رجل غريب عليه ثياب بياض رثة فجلس في أواخر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول فلما ابتدأوا في المسائل وكان رسمهم يديرون المسألة على جماعة أهل المجلس فكل من وجد زيادة لطيفة او نكتة غريبة ذكرها فدارت المسألة الى ان وصلت الى ذلك الرجل الغريب فتكلم بكلام عجيب فاستحسنه المأمون فأمر أن يرفع الى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم فأمر أن يرفع الى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابيين الأولين فأمر المأمون أن يجلس قريباً منه فلما اتقضت المناظرة أحضر الماء وغسلوا أيديهم ثم أحضر الطعام فأكلوا ثم نهض الفقهاء وخرجوا وقرب المأمون ذلك الرجل وأدناه وطيب قلبه ووعده بالاحسان إليه والإنعام عليه. ثم عبي مجلس الشراب ونضد وحضر الندماء الملاح، ودارت الراح. فلما وصل الدور الى الرجل نهض قائماً وقال ان أذن أمير المؤمنين تكلمت بكلمة واحدة فقال قل ما تشاء فقال قد علم الرأي العالي زاده الله علواً ان العبد كان في مجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس، وان أمير المؤمنين بقدر يسير من العقل الذي أبداه جعله مرفوعاً على درجة غيره وبلغ به الغاية التي لم تسم اليها همته وإن العبد إذا شرب الشراب تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه فعاد الى تلك الدرجة ووقع في اعين الناس كما كان ذليلاً فإن رأى الرأي العالي أن لا يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثرة بعد القلة بمنه وفضله وكرمه، وسيادته وحسن شيمه، فعل متطولاً، وأنعم متفضلاً. فلما سمع المأمون منه ذلك مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووفره وأمر له بمائة ألف درهم وحمله على فرس وأعطاه ثياب تجمل وكان كل مجلس يرفعه على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجة، وأعلى منزلة. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأجل نعت العقل لأن العقل يوصل صاحبه الى درجة عالية، ومرتبة سامية، وان الجهل يحط صاحبه عن درجته ويهبط به من علو مكانته.

 

حكاية: يقال أنه جاء في بعض الأيام رجل الى باب الخليفة المنصور فقال أيها الحاجب أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من أهل العلم واسمه عاصم وهو يذكر أنه كان في الزمن الماضي بينه وبين أمير المؤمنين صحبة مدة سنة وأكثر بالشام في التعليم والدرس وقد وصل الأن للسلام، ولتجديد العهد بالامام. فلما عرفه الحاجب أذن له فلما دخل وسلم عليه ثقل قدومه ووصوله على قلب أبي الوانيق لغاثة منطقه وسوء أدبه فأجلسه وسأله وقال له في أي حاجة قدمت فقال لرؤية أمير المؤمنين بوسيلة تلك الصحبة القديمة فأمر له بألف درهم فأخذها الرجل وانصرف ثم عاد بعد سنة أخرى وكان قد مات للمنصور ولد وهو جالس في العزاء فدخل الرجل وسلم عليه ودعا له فقال فيم قدمت قال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام وقد قدمت معزياً برزيتك، ومؤدياً حق تعزيتك، فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ثم عاد بعد سنة أخرى فلم يجد حجة يحتج بها في الدخول إلا أنه دخل في جملة الناس وسلم فقال له الخليفة لأي سبب وصلت فقال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام في التعليم والدرس وكتابة الأخيار واستماع الأحاديث وكنت قد كتبت معك دعاء الحاجة وان كل من دعا به في حاجة قضى الله حاجته وقد ضاع المنصور لا تتعب في طلب ذلك الدعاء فانه غير أخلص ولو كان مستحباً لتخلصت منك فخجل ذلك الرجل لما سمع هذا الكلام. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأن الإنسان إذا كان عالماً ولم يكن له عقل سقط جاهه ومرتبته.

 

حكاية: كان في ذلك العصر وصل رجل من مدينة الرسول ﷺ الى المنصور بحكم الصداقة التي كانت بينهما قديماً فلما وصل خليفة الزمان قدم عليه، ووفد إليه، وكان الرجل عاقلاً لبيباً ولم يكن عالماً. فلما رآه المنصور قربه وأدناه، وأزلفه واستدعاه. فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أنا محب لك شديد المحبة والولاء مخلص في الطاعة والدعاء غير انني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزروك بحيث لا يظهر مني سوء انني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزورك بحيث لا يظهر مني سوء أدب فقال المنصور أخر الزيارة وإذا زرتني فاجعل بين زيارتك وانقطاعك مدة إذا غبت فيها لم أنسك وإذا حضرت لم أملك وازدادت محبتك عندي عما كانت عليه أولاً. وإذا دخلت فاجلس بعيداً مني حتى يقربك الحاجب بالتدريج ولا تطل جلوسك فتنسب الى سوء الأدب ولا تسأل حاجتك لئلا تثقل على قلبي، وإذا أحسنت اليك فاشكرني في كل محلة تحلها ومنزلة تنزل بحيث إذا بلغني سررت بشكرك، وازددت في برك، ولا تذكر في المجالس ما جرى بيني وبينك في الزمان الماضي. فامتثل الرجل هذه الوصايا فكان في كل سنة يمضي الى سلامه مرتين وكان المنصور يعطيه في كل مرة يسلم عليه ألف درهم. وانما ذكرت هذه الحكاية ليعلم أن من كان له عقل وان لم يكن عالماً فان عقله يكون له دليلاً، ومن كان ذا علم وليس له عقل عادت أموره كلها منعكسة منقلبة، ومن كان تام العقل والعلم كان في الدنيا نبياً أو حكيماً أو إماما فان جمال الانسان وعزه ومرتبته وصلاح أحوال دنياه وآخرته بالعقل وتمامه، فتتكامل صفاته وأقسامه كما قال الشاعر:

 

بِالعَقلِ يَنَالُ المَرءُ أوَجَ البَـدرِ والَعقلُ بِه الجَاه وسَامِي القَدرِ والعَقَلُ بِه يُغسَلُ عَارَ الـوِزرِ فِي العَقلِ التَاجُ مَع نَفاذِ الأمرِ والعقل أول الإيمان ووسط الإيمان وآخر الإيمان. قال بعض القدماء ليس العقل أن الإنسان إذا وقع في أمر اجتهد في حسن خلاصه منه بل العقل ان لا يوقع نفسه في أمر يحتاج الى الخلاص منه. حكمة: قال أبرويز الملك لولده احفظ الرعية ليحفظك العقل واصرف آفتك عن الرعية ليصرف العقل آفته عنك. واعلم انك حكم بين الناس والعقل حكم جليل فكما ينبغي أن يقبل الناس أمرك فكذلك ينبغي أن تقبل أمر العقل. حكمة: كتب يونان الوزير كتاباً الى الملك العادل كسرى انو شروان وأدى رسائل في باب العقل وما يأمر به العقل فشكره أنو شروان وأمر الكاتب أن يكتب اليه جواباً وقال أيها الحكيم لقد أحسنت في تأدية رسالة العقل لأننا ومن تقدمنا من الملوك إنما تحلينا بالعقل فكيف يمكننا مخالفته فان العاقل أقرب الناس الى الله تعالى والعقل كالشمس في الدنيا وهو قلب الحسنات والعقل حسن في كل واحد وهو في الأكابر والزعماء أحسن كالرطوبة في الشجرة مادامت طرية رطبة كان الناس من رائحتها ونشر أزهارها وطيب ثمارها ونضارتها وطراوتها في سرور وغيظة ونزهة وفرحة فاذا جفت رطوبتها وقحلت نضارتها فلا تصلح حينئذ لسوى القلع وكذلك الإنسان مادام عقله قويماً، وجسمه سليماً، صحبته مباركة ومواصلته حسنة نافعة فاذا زال عقله، وغلب عليه جهله. فحينئذ لا يصلح للحياة، ولا يستره غير الوفاة. وقال أنو شروان كيف يسعني أن أخالف العقل ولا أفعل ما يامرني به العقل وأنه ليس لملك ولا رعية خير من العقل فان بضيائه يفرق بين المليح والقبيح والجيد والردئ والحق والباطل والصدق والكذب. قال بزرجمهر شيئان لا يمكن وجودهما في شخص كاملين العقل والشجاعة. حكمة: قال لقمان الحكيم مهما كان الرجل عالماً فانه لا ينتفع بعلمه ما لم يكن العقل لعلمه مصاحباً. حكمة: سأل أنو شروان بزرجمهر من تحب أن يكون أعقل الناس فقال العدو إذا عاداني فقال لم? قال لآمن اساءته وكل شيء إذا كثر هان إلا العقل فإنه كلما كان أكثر كان صاحبه أعز. حمكمة: قيل لبزرجمهر أي شيء لا بد للإنسان منه ولا مندوحة له عنه فقال العقل فقيل له ما قدر العقل فقال شيء لا يوجد في الإنسان كاملاً كيف يعرف قدره.

 

حكمة: قال بعض الحكماء جميع الأشياء مفتقرة الى العقل والعقل مفتقر الى التجربة ولا غنى أعم من العقل ولا فقر أشد من الجهل وكل من كان علمه أكثر كانت حاجته الى العقل أوفر، والمرء في هذا كراع ضعيف معه قطيع كبير يضرب للعالم الذي لا عقل له.

 

حكمة: قالت العلماء العقل أمير وله جنود وجنوده التمييز والحفظ والفهم. وسرور الروح العقل لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل ثم ينبسط في جميع الجسد والعاقل لا يغتم أبداً لأنه لا يفعل ما يوجب الاغتنام ولا يشرع في أمر لا يجوز لمثله الاهتمام به. حكمة: سئل ابن عباس العقل أم الأدب? فقال لأن العقل من الله تعالى والأدب تلكيف من العبد. وسئل عبد الله بن المبارك العقل خير أخ الأدب فقال العقل فقيل له ما العقل فقال العقل تعلم العلم والعمل بالعلم أن تعلم أنه ينبغي أن تعمل والعقل أنك متى علمت عملت. وقال النبي ﷺ: ما قسم الله لعباده خيراً من العقل ونوم العاقل خير من عبادة الجاهل والعاقل المفطر خير من الجاهل الصائم، وضحك العاقل خير من بكاء الجاهل. حكمة: قال رجل لأقليدس لا أستريح أو أتلف روحك فقال أنا لا أستريح أو أخرج الحقد من قلبك. حكمة: قال الحكيم كما تفوح من الميتة الرائحة المكروهة يفوح من الجاهل نتونة الجهل فتضرّ به وبجيرانه وأهله وأقاربه. حكمة: سئل الحكيم ما العقل فقال سداد وعقد بين ثلاثة وعشرين شيئاً فلولا هذه العقود لاختلط الجيد بالردىء. أولاً هو عقد بين التوحيد والشرك، وبين الايمان والكفر، وبين الحقد والتهور، وبين الإسلام والغفلة، وبين اليقين والشك وبين العاقبة والبلاء، وبين الكرم والبخل، وبين حسن الخلق والقباحة وبين التواضع والتكبر، وبين الصداقة والعداوة، وبين العلم والجهل، وبين الحياء والوقاحة، وبين الحق والباطل ، وبين الرزانة والخفة، وبين الظلمة والضياء، وبين الكرامة والزلة، وبين الطاعة والمعصية، وبين ذكر الله تعالى والغفلة، وبين النصيحة والحسد، وبين السنة والبدعة، وبين الرحمة والقساوة، وبين الحلم والحمق. وقال صاحب الكتاب رحمه الله تعالى جميع محاسن الدنيا في العقل وسائر العلوم والأعمال مرجعها الى العقل كما جاء في الحكاية. حكاية: روي أن الريح حملت كرسي سليمان بن داود عليهما السلام وجعلت تسير به فلاح لسليمان بلد فامر الريح أن تحطه فنزل على باب ذلك البلد فرأى على بابه مكتوباً: أجرة اجتهاد يوم واحد درهم، والحسن والجمال أجرتهما في يوم مائتا مثقال وعلم ساعة واحدة لا تحصى قيمته وجميع الأشياء منوط بالعلم والعلم أسير والتدبير مع العقل توأمان ون آتاه الله العقل فقد آتاه خيراً كثيراً كما قال الشاعر: ان كُنتَ مِن أصلِ جُوهَرٍ مَنسوُب أو يُوسف الحَسَن ولدُ يَعـقُـوب ما أنَت مُجَالسُ بِعقِلكَ المحبُـوبِ فِي النَاسِ سِوى مُحقرُ معـيوبِ لتعلم أيها الأخ كنه العقل ونفاسته وعلو قيمته فيجب عليك أيها العاقل الحمد والشكر لواهب الشكر الباري جلت قدرته. الباب السابع : في ذكر النساء خير النساء وأبركهن الحسناء الولود الخفيفة المهر. قال عليه الصلاة والسلام )عليكم بالمرأة الحرة فإنها أطهر وأبرك( . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه )التجئوا الى الله عز وجل من شرار النساء واحذورا خيارهن( . قال صاحب الكتاب من أراد صلاحه وتدبيره ولم يجد المرأة الحسناء يلهو بها فعليه بالمرأة الدينة فذات الدين خير وأبرك وإذا جاءت الديانة أتى المال وكان أبرك لأن المرأة لا دين لها فما لها أصل لا معها بركة وببركة الديانة يوجد كل خير كما في الحكاية.

 

حكاية: كان بمدينة مرو رجل اسمه نوح بن مريم وكان رئيس مرو وقاضيها وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة وكانت له ابنة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال، قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء وذوي النعمة والثروة فلم ينعم بها لأحد منهم وتحير في أمرها ولم يدر لأيهم يزوجها وقال ان زوجتها لفلان أسخطت فلاناً وكان له غلام هندي تقي اسمه مبارك وكان له كرم عامر الأشجار والفاكهة والثمار. فقال للغلام أريد أن تمضي وتحفظ الكرم لينظره فقال له يا مبارك ناولني عنقود عنب فناوله عنقوداً من العنب فوجده حامضاً فقال له سيده أعطني غير هذا فناوله عنقوداً حامضاً فقال له سيده ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض فقال لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو فقال له سيده سبحان الله لك في هذا الكرم شهر كامل ما تعرف الحامض من الحلو فقال وحقك أيها السيد انني ما ذقته ولم أعلم أحامض أم حلو فقال له لم لا أكلت منه فقال لأنك أمرتني بحفظه ولم تأمرني بأكله فما كنت أخونك فعجب القاضي منه فقال له حفظ الله عليك أمانتك وعلم القاضي أن الغلام غزير العقل فقال له القاضي أيها الغلام قد وقع لي رغبة فيك وينبغي أن تفعل ما آمرك به فقال الغلام أنا مطيع لله لك فقال القاضي: إعلم أن لي بنتاً جميلة وقد خطبها كثير من الرؤساء والتقدمين ولا أعلم لمن أزوجها فأشر علي بما ترى فقال الغلام: إن الكفار في زمن الجاهلية كانوا يريدون الأصل والنسب والبيت والحسب واليهود والنصارى يطلبون الحسن والجمال وفي عهد رسول الله ﷺ كان الناس يطلبون الدين والتقى. أما وفي زماننا هذا فالناس يطلبون المال فاختر من هذه الأربعة ما تريد فقال القاضي قد اخترت الدين والأمانة، وجربت منك العفة والصيانة. فقال الغلام أيها السيد أنا عبد رقيق هندي أسود أبتعتني بمالك كيف تزوجني بإبنتك وترضاني فقال له القاضي قم بنا إلى البيت لندبر هذا الأمر فلما صارا الى المنزل قال القاضي لزوجته اعلمي أن هذا الغلام الهندي دين تقي وقد رغبت في صلاحه وأريد أن أزوجه ابنتي فما تقولين فقالت الأمر إليك ولكن أمضي الى الصبية وأخبرها وأعيد عليك جوابها فجاءت المرأة الى الصبية وأدت إليها رسالة أبيها فقالت مهما أمرتماني به فعلته ولا أخرج من تحت حكمكما ولا أعاندكما بالمخالفة بل أبركما فزوج القاضي ابنته بالمبارك واعطاهما مالاً عظيماً فأولدها المبارك ولداً وسماه عبد الله وهو معروف في جميع العالم وهو عبد الله بن المبارك صاحب العلم والزاهد ورواية الأحاديث فما دامت الدنيا يحدث عنه يروى.

 

نعم أيها الأخ إذا تزوجت فاطلب ذات الدين ولا تطلب ذات الصيت والمال فإن المال يعود وبالاً ولا تعطيكه المرأة وإذا أردت أن تطلب زوجة فلا تطلبها وتخطبها لأجل بلوغ الشهوة وارغب فيها بنية أنها دينة وصالحة لتكون في خدرك وطاعتك وتكون لك ستراً من النار.

 

حكاية: نزل بعبد الله بن المبارك في بعض الأيام عشرة من العلماء ولم يكن عنده ما يضيفهم به وما كان يملك سوى فرس يحج عليها سنة ويغزو سنة فذبح ذلك الفرس وطبخ منه وقدمه بين يدي أضيافه فقالت له زوجته سبحان الله ما كنت تملك سوى هذا الفرس من الدنيا فلم ذبحته فدخل سريعاً الى بيته وأخرج من متاع بيته بقدر مهرها وطلقها في وقته وساعته وقال امرأة تبغض الأضياف لا تصلح لنا فأتاه بعد ذلك بأيام رجل وقال له يا امام المسلمين لي بنت وقد توفيت أمها وهي في كل يوم تمزق دست ثياب حزناً وغماً واليوم تريد أن تقصد مجلسك فقل في تسليتها شيئاً لعل قلبها يرق فلما جلس على المنبر ذكر من هذا الباب ما تسلت به الصبية عن أمها فلما عادت الى البت قالت يا أبت قد تبت ولا أعود أسخط الله تعالى ولكن لي اليك حاجة قال وما حاجتك قالت أنت تقول دائماً أرباب الأحوال وأبناء الدنيا يطلبونك ويخطبونك فناشدك الله لاتزوجني لغير عبد الله بن المبارك فإن كان ماله دنيا فإن لنا دنيا فزوجها أبوها بعبد الله بن المبارك وحمل اليه جهازاً كثيراً ومالاً كبيراً وأنفذ اليه عشرة أفراس ليجاهد عليها في سبيل الله فرأى عبد الله في بعض الليالي في منامه قائلاً يقول ان كنت طلقت من أجلنا عجوزاً فقد أعطيناك صبية بكراً وان كنت ذبحت فرساً واحداً فقد أعطيناك عشرة أفراس وعوضها لتعلم أن الحسنة بعشر أمثالها عندنا ولا يضيع عندنا أجر المحسنين وما عاملنا احد فخسر ولا يخسر كما جاء في الحكاية.

 

حكاية: حكى أبو سعيد أنه كان في بني اسرائيل رجل صالح وله زوجة دينة تقية ذات رأي وحزم فأوحى الله تعالى الى نبي الزمان أن قل لذلك العبد الصالح أني قدرت له أن يمضي نصف عمره بالغنى ونصفه بالفقر فإن اختار أن يكون غناه في شبيبته اغنيناه وإن اختار أن يكون في شيخوخته قدرنا له ذلك فيسرناه له. لما أعلم الرجل ذلك اخبر به زوجته وقال لها قد جاء خطاب من الله تعالى وقص عليه ما سمعه وقال لها ما تريد فقالت له الاختيار اليك فقال الرجل قد رأيت الفقر في الشبيبة فإذا كنت شاباً فقيراً احتملت وصبرت عليه فإذا صرت كبيراً غنياً كان لي ما أتقوت به وأشتغل بطاعة ربي وعبادته فقالت المرأة أيها الرجل إذا كنا في الشبيبة في ضنك ولم نقدر على طاعة ربنا تعالى ولم تصل أيدينا الى فعل الخيرات واعطاء الصدقات فالواجب أن تختار الغنى في زمان الشباب فيكون لنا شباب وغنى وطاعة فنقدر حينئذ على عبادته باجسمامنا وأموالنا فقال الرجل نعم ما رأيت وكذلك نفعل فنزل الوحي على ذلك النبي عليه السلام فقال قل لذلك الرجل إذا آثرت طاعتنا واستفرغت جهدك في عبادتنا واتفقت نيتك ونية زوجتك على طاعتنا فقد قضيت وقدرت أن أقضي جميع عمرك في الغنى وكن أنت وزوجتك على عبادتي ومهما رزقتكما فتصدقا به على بريتي ليكون لكما حظ الدنيا والآخرة. قال صاحب الكتاب وما أوردنا هذه الحكاية إلا لتعلم قدر الزوجة الصالحة وما فيها من النعمة من الله تعالى. فصل واعلم أن ديانة المرأة وسترها نعمة من نعم الله تعالى على عباده وهيهات أن يقدر على المرأة العفيفة طامع كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه اراد رجل فاسق أن يكابر امرأة عفيفة فقال لها امضي وأغلقي أبواب الدار جميعها واحكمي اغلاقها فمضت المرأة ثم عادت فقالت قد أغلقت سائر الأبواب وأوثقت اغلاقها سوى باب واحد فقال أي الأبواب ذلك الباب فقالت تلك الأبواب التي بيننا وبين الخلق قد أغلقتها وقد بقي الباب الذي بيني وبين الخالق جلت عظمته ما قدرت عليه ولا استطعت أن أغلقه وهو بحاله مفتوح فرقع في نفس هذا لرجل من هذا الكلام الهيبة فاخلص لله التوبة وأقلع عن ذنبه وعاد الى طاعة ربه الأعلى.

 

حكاية مثلها: يقال أنه كان رجل علوي بسمرقند في بعض الأيام قائماً على باب داره فاجتازت عليه امرأة ذات حسن وجمال وكان الدرب خالياً فقبض العلوي على زند المرأة وجذبها الى داخل الدار وهم أن يفسد معها فقالت له المرأة أسألك مسألة اجبني عنها وافعل ما بدا لك فقال اذكري ما تريدين فقالت إذا أنت وطئتني حراماً وحبلت منك وولدت ولداً هل يكون ذلك الولد علوياً أو خبيثاً عامياً فقال إنه يكون علوياً فقالت المرأة لا شك أنك أنت من خبيثي العلويين ولو لم تكن خبيثاً لم تفعل مثل هذا فخجل العلوي في الحال ورفع يده عنها ونذر على نفسه لله نذراً أنه لا يعود ينظر الى امرأة محرمة عليه نظرة فساد. وينبغي أن يكون الرجل صاحب حمية وغيرة على حرمه وناسه فإن الحمية من الدين الى حد أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يسمع دق المرأة الأجنبية بالهاون وإذا دق رجل أجنبي باب الدار فلا يحل للمرأة أن تجيبه بلين وسهولة لأن قلوب الرجال تتعلق بأقل الأشياء وأكثرها وان كان لابد للمرأة أن تجيبه فلتضع أصبعها في فمها ولتجبه ليصير صوتها شبيهاً بصوت العجائز ولايجوز للنساء أن ينظرن الى الرجال الأجانب ولو كان المنظور أعمى. وجاء في الخبر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل الى بيت عائشة رضي الله عنها فرأى عبد الله بن أم مكتوم قاعداً النساء فقال يا عائشة لا يحل للمرأة أن تقعد عند غير ذي محرم فقالت يا رسول الله إنه أعمى فقال ان كان لا يراك فانك تريه.

 

حكاية: يقال أن الحسن البصري رحمة الله عليه قصد زيارة رابعة العدوية رضي الله عنها في جماعة من اصحابه فلما وصلوا الباب قالوا اتأذنين لنا في الدخول فقالت تمهلوا ساعة وجعلت الكساء بينها وبينهم ستراً وأذنت لهم فدخلوا وسلموا عليها فأجابتهم من وراء الستر فقالوا لم علقت بيننا وبينك ستراً فقالت أمرت بذلك في قوله تعالى: )فَاسألَوُهِن مِن وَراَء حِجَابِ( وواجب على الرجل أن لا ينظر الىامرأة أجنيبة بحال فإنه قبل أن يجازي به في الآخرة يجازي به في الدنيا كما جاء في الحكاية. حكاية: كان بمدينة بخارى رجل سقاء يحمل الماء الى دار رجل صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة في نهاية الحسن والجمال والظرف والكمال، معروفة بالديانة، موصوفة بالستر والصيانة. فجاء السقاء على عادته يوماً وقلب الماء في البات وكانت المرأة قائلة في وسط الدار فدنا منها واخذ بيدها ولواها وفركها وعصرها ثم مضى وتركها. فلما جاء زوجها من السوق قالت له أريد أن تعرفني أي شيء صنعت اليوم في السوق لم يكن لله تعالى فيه رضا فقال الرجل ما صنعت شيئاً فقالت المرأة ان لم تصدقني وتعرفني فلا أقعد في بيتك ولا تعود تراني ولا أراك فقال اعلمي أن في يومنا هذا اتت امرأة الى دكاني فصنعت لها سواراً من ذهب فأخرجت المرأة يدها ووضعت السوار في ساعدها فحيرت من بياض يدها وحسن زندها فتذكرت هذا المثنوي. فِي سَاعِدِهَا سُوارُ تِبـرِ وأرَى كنَارَ يَلُوحُ فَوَقَ ماءٍ جَـارِي هل يَخطُر فِي هَواجِسِ الأفَكارِ ماء ولهُ منَطقَـه مِـن نَـارِ ثم أخذت يدها فعصرتها ولويتها فقالت المرأة الله أكبر لم فعلت مثل هذا الحال? لا جرم أن ذلك الرجل الذي كان يدخل البيت منذ ثلاثين سنة ولم نر منه خيانة أخذ اليوم يدي فعصرها ولواها فقال الرجل الأمان أيتها المرأة مما بدا مني فاجعلني في حل فقالت المرأة الله المسؤول أن يجعل عاقبة أمرنا الى خير فلما كان من الغد جاء الرجل السقاء اجعليني في حل فإن الشيطان أضلني وأغواني فقالت المرأة امض في حال سبيلك فأن ذلك الخطأ لم يكن منك وانما كان من ذلك الشخص صاحب الدكان فاقتص الله منه في الدنيا. وكذلك ينبغي أن تكون المرأة مع زوجها ظاهرها وباطنها واحد وتقنع معه بالقليل إن لم يقدر على الكثير وتقتدي بعائشة وفاطمة رضي الله عنهما من أهل الجنة كما جاء في الحكاية.

 

حكاية: كانت فاطمة رضي الله عنها تطحن الجاروشة الى أن أدمت أناملها فشكت ذلك في بعض الأيام الىبعلها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال قولي لأبيك يبتع لك خادمة فأتت رسول الله ﷺ وقالت يا رسول الله إني مفتقرة الى خادمة تعينني على اشغالي وتحمل عني بعض اثقالي فقال عليه الصلاة والسلام ألا أعلمك ما هو خير لك من خادم وأعز من سبع سموات وسبع أرضين فقالت يا رسول الله علمني فقال ﷺ اذا أردت فقولي قبل منامك ثلاث مرات سبحان الله والحمد لله ولا آله الا الله والله اكبر. وفي الأخبار انهم لم يكن لهم في البيت إلا كساء كانوا إذا غطوا به رؤوسهم انكشفت أرجلهم، وفي الليلة التي كانت فاطمة عروساً وزفت الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان تحتها جلد شاة وكانا ينامان عليه وما كان لفاطمة من متاع البيت سوى كساء ومخدة من أدم حشوها ليف لاجرم ينادي لها يوم القيامة يا أهل الموقف غضوا أبصاركم حتى سيدة النساء فاطمة الزهراء.

 

والمرأة تعز عند زوجها وتنو محبتها في قلبه باكرامها له وكاعتها لامره وقت خلوته ومجامعته لها وبحفظها منافعه واجتنابها مضاره وتربيتها ولده واكتنافها في بيته وقلة خروجها من خدرها وأن تكون عنده كاتمة للسر محتملة للأمر وأن تحفظ وقت طعامه ومهما علمت أن يشتهيه اصطنعته بطلاقة وجه وبشر وان لا تكلفه حاجة ثقيلة وان لا تكون لجوجة وان تستر نفسها عند منامها وان تحفظ سر زوجها في غيبته وحضوره. قال صاحب الكتاب وواجب على الرجال أن يؤدوا حق النساء العورات وأن يتحفظوا بهن من وجه الرحم والإحسان والمدارة ومن أحب أن يكون مشفقاً على زوجته رحيماً لها فليذكر عشرة أشياء من أحوالها لينصفها بها. أولها أ المرأة لا تقدر أن تطلقه بغير اذن وهو قادر على ذلك متى شاء، وانها لا تقدر ان تأخذ شيئاً بغير اذنه وهو يقدر على ذلك، وانها ما دامت في حباله لا تقدر على زوج سواه وهو يقدر على الزواج عليها، وانها لا يجوز لها أن تخرج من البيت بغير إذنه وهو يجوز له ذلك، وانها لا يمكنها ان تعزي وهو يمكنه ذلك، وانها تخاف منه وهو لا يخافها، وأنها تفارق أمها وأباها وجميع أقاربها، وإنها تخدمه دائماً وهو لايخدمها دائماً، وإنها تتلف نفسها إذا كان مريضاً وهو لايغتم لو ماتت. فلهذه الوجوه التي ذكرناها يجب على العقلاء أن يكونوا رحماء على النساء ولا يظلمونهن ولا يجوروا عليهن فإن المرأة أسير الرجل ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن وبسبب نقص عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر برأيهن ولا يتلفت إلى أقوالهن ومن اعتمد على آرائهن ودبر نفسه بمشورتهن كان كما جاء في الحكاية.

 

حكاية: يقال أن خسرو بن أبرويز كان يحب أكل السمك فكان يوماً جالساً وشيرين معه فجاء الصياد ومعه سمكة كبيرة فأهداها لخسرو ووضعها بين يديه فأعجبته فأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت شيرين بئس ما فعلت فقال ولم فقالت لأنك إذا أعطيت أحداً من حشمك بعد هذا مثل هذه العطية احتقرها وقال أعطاني مثل ما اعطى الصياد فقال الملك لقد صدقت ولكن يقبح بالملك استرجاع ما وهبه وقد فات ذلك الأمر فقالت شيرين أنا أدبر هذا الحال فقال وكيف ذاك فقالت تدعو الصياد وتقول له هذه السمكة ذكر أم أنثى فإن قال أنثى فقل إنما أردت ذكراً وان قال ذكر فقل إنما أردت أنثى فنودي الصياد وكان ذا ذكاء وفطنة فقال خسرو هذه السمكة ذكر أم أنثى فقبل الصياد الأرض وقال أدام الله إقبال الملك هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على كاهله وهم بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم والملك وشيرين ينظران إليه فقالت شيرين لخسروا أرايت إلى خسة هذا الصياد وسفالته سقط منه درهم واحد فألقى عن عنقه ثمانية آلاف درهم وانحنى على ذلك الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه فكان يأخذه بعض غلمان الملك فحرد خسرو من ذلك ثم أعاد الصياد إليه وقال له يا ساقط الهمة ألست بإنسان وضعت مثل هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه فكان يتبلغ به بعض الصعاليك فقبل الصياد الأرض وقال أطال الله إقبال الملك لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على أحد وجهيه اسم الملك وعلى وجهه الآخر صورته فخشيت أن يجيء أحد بغير علم فيضع قدمه عليه فيكون ذلك استخفافاً باسم الملك وصورته فاكون أنا المأخوذ بهذا الذنب فعجب خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم وأمر خسرو منادياً ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء فإن من تدبر بآرائهن أو ائتمر بمشورتهن خسر درهمه درهمين.

 

قال صاحب الكتاب رضي الله عنه عمارة الدنيا وتناسل بني آدم بالنساء والعمارة لا تصح بغير رأي وتدبير وقيل شاورهن وخالفوهن ويجب على الرجل الفاضل المتيقظ أن يحتاط في خطبة النساء وطلبهن وليزوج البنت لا سيما إذا بلغت لئلا يقع في الغدر والعيب ومرض الروح وتعب القلب. وعلى الحقيقة كلما ينال الرجل من البلاء الهلاك والمحن فبسبب النساء كما قال الشاعر: مِن فِتنَةِ النِسوانِ قَد يَعصِى الَفتَى الر اللصُ لـولاهِـن لَـم يك بَـائِعـاً مِنُـهـن قَـرَعَ آدَمُ مـعَ يُوسِـفُ وكذاَك هَارُوت بِبَابِـلِ مُـنَـكَـسُ مَجنُونُ عَامِرِ هَامَ مِن أجلِ النِـسَـا كُل البلا منِـهُـن يأتِـي والـوفَـا ==

مشكاة الأنوار أبو حامد الغزالي

المحتويات

المقدمة

محتوى الكتاب

الفصل الأول

خاتمة

الفصل الثاني

خاتمة واعتذار

القطب الثاني

الفصل الثالث

مشكاة الأنوار

بسم الله الرحمن الرحيم

رب أنعمت فزد بفضلك

أول الكتاب

الحمد لله فائض الأنوار وفاتح الأبصار. وكاشف الأسرار ورافع الأستار. والصلاة على محمد نور الأنوار وسيد الأبرار وحبيب الجبار وبشير الغفار ونذير القهار، وقامع الكفار وفاضح الفجار؛ وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الأخيار.

أما بعد فقد سألتني أيها الأخ الكريم قيضك الله لطلب السعادة الكبرى، ورشحك للعروج إلى الذروة العليا، وكحل بنور الحقيقة بصيرتك، ونقى عما سوى الحق سريرتك، أن أبث إليك أسرار الأنوار الإلهية مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظاهر الآيات المتلوة والأخبار المروية مثل قوله تعالى )اللَهُ نورُ السَمَواتِ وَالأَرضِ( ومعنى تمثيله ذلك بالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت والشجرة، مع قوله عليه السلام (إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة وإنه لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره).

ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقىً صعباً تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين؛ وقرعت باباً مغلقا لا يفتح إلا للعلماء الراخسين. ثم ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار

ولقد قال بعض العارفين (إفشاء سر الربوبية كفر) بل قال سيد الأولين والآخرين ﷺ (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه الا العلماء بالله). فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله، ومهما كثر أهل الاغترار وجب حفظ الأسرار على وجه الإسرار. لكني أراك مشروح الصدر بالله بالنور، منزه السر عن ظلمات الغرور فلا أشح عليك في هذا الفن بالإشارة إلى لوامع ولوائح والرمز إلى حقائق ودقائق.

فليس الخوف في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إلى غير أهله.

فَمَن مَنَحَ الجُّهالَ عِلماً أَضاعَهُ

وَمَن مَنَعَ المَستوجِبينَ فَقَد ظَلَمَ

فاقنع بإشارات مختصرة وتلويحات موجزة؛ فإن تحقيق القول فيه يستدعي تمهيد أصول وشرح فصول ليس يتسع الآن لها وقتى، وليس ينصرف إليه همي وفكرتي. ومفاتيح القلوب بيد الله يفتحها إذا شاء كما شاء بما يشاء. وإنما الذي ينفتح في الوقت فصول ثلاثة.

الفصل الأولفي بيان أن النور الحق هو الله تعال وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له

وبيانه بأن يعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام، ثم بالوضع الثاني عند الخواص، ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص. ثم تعرف درجات الأنوار المذكورة المنسوبة إلى خواص الخواص وحقائقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقي وحده لا شريك له فيه.

أما الوضع الأول عند العامي فالنور يشير إلى ظهوره، والظهور أمر إضافي: إذ يظهر الشيء لا محالة الإنسان ويبطن عن غيره: فيكون ظاهرا بالإضافة وباطنا بالإضافة. وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة. وأقوى الإدراكات وأجلاها عند العوام الحواس، ومنها حاسة البصر.

والأشياء بالإضافة إلى الحس البصري ثلاثة أقسام: منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة.

ومنها ما يبصر بنفسه ولا يبصر به غيره كالأجسام المضيئة كالكواكب وجمرة النار إذا لم تكن مشتعلة.

ومنها ما يبصر بنفسه ويبصر به أيضا غيره كالشمس والقمر والسراج والنيران المشتعلة.

والنور اسم لهذا القسم الثالث. تم تارة يطلق على ما يفيض من الأجسام على ظاهر الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الأرض ونور السراج على الحائط والثوب. وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة لأنها أيضا في نفسها مستنيرة.

وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس. هذا حده وحقيقته بالوضع الأول. دقيقة

لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفا على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا: إذ النور هو الظاهر المظهر؛ وليس شيء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مظهرا. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركنا لا بد منه للإدراك ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر.

وأطلقوا إسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمى إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة بلون السواد وجعل العين محفوفة بها لتجمع ضوء العين. وأما البياض فيفرق ضوء العين ويضعف نوره، حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق، بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما ينمحق الضعيف في جنب القوى.

فقد عرفت بهذا أن الروح الباصر سمى نورا، وأنه لم سمّى نورا، وأنه لم كان بهذا الإسم أولى. وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص. دقيقة

إعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بعد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب.

ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيرا في إبصاره: فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا.

فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هو أولى باسم النور أم لا.

واعلم أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني. ودع عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهمت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني. فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه (عقلا) متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالما وقادرا: ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراء سر يطول شرحه.

والثاني أن العين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب منها قربا مفرطا: والعقل يستوي عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هربا. بل إذا حقت الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معاني القرب والبعد الذي يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله عليه السلام (إن الله خلق آدم على صورته) فلست أرى الخوض فيه الآن.

الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السموات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعني بدنه الخاص. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل. وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان. وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.

الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها من خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معنى جمع وركب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته، إلى مباحث أُخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.

الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة: أعني قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعة مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها.

فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعدها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها لكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هي جاسوس من جواسيسه وكله بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ.

والحواس الخمس جواسيسه. وله في الباطن جواسيس سواها من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الخاص يستسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول.وقد ذكرناه في كتاب (عجاب القلب) من كتاب الإحياء.

السادس ان العين لاتبصر ما لانهاية له،فاإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لاتتصور إلامتناهية.والعقل يدرك المعلومات،والمعلومات لايتصور ان تكون متناهيه.

نعم إذا لاحظ العلوم المفصله فلا يكون الحاظر الحاصل عنده إلا متناهيا.لكن في قوته إدراك ما لانهاية له.وشرح ذلك يطول.

فإن أردت له مثالا فخذه من الجليات، فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الإثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية. ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهي عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشيء، وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.

السابع أن العين تبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مجن والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق. والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما، والكواكب تتحرك في كل لحظ أميالا كثيرة كما قال ﷺ لجبريل عليه السلام: (أزالت الشمس) فقال لا: نعم قال كيف قال (منذ قلت لا إلى أن قلت نعم،: قد تحرك مسيرة خمسمائة سنة).

وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها. فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاما واعتقادات يظنون أحكامها أحكام العقل؛ فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب (معيار العلم) وكتاب (محك النظر).

فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط؛ بل رأى الأشياء على ما هي عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شر محضرا؛ ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعنده يقال، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم وغيرهما؛ وعنده يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة )رَبَّنا أَبصَرنا وَسَمِعنا فَاَرجِعنا نَعمَل صالِحاً( الآية.

فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين. بل بينهما من التفاوت ما يصح معه أن يقال إنه أولى بل الحق أنه المستحق للاسم دونه. دقيقة

اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديما حادثا ولا يكون موجودا معدوما، والقول الواحد لا يكون صدقا وكذبا، وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود: فإذا وجد السواد فقد وجد اللون، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل، إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد ولا من وجود الحيوان وجود لإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات. ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات. وإنما ينبهه كلام الحكمة، فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى. ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار. فبالحرىّ أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا فمثال القرآن نور الشمس ومثال العقل نور العين. وبهذا نفهم معنى قوله: )فَآمِنوا بِاللَهِ وَرَسولِهِ وَالنورِ الَّذي أَنزَلنا)، وقوله: (قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِكُم وَأَنزَلنا إِليكُم نوراً مُّبيناً(. تكملة هذه الدقيقة

فقد فهمت من هذا أن العين عينان: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت. ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة. والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله تعالى المنزلة.

ومهما انكشف لك هذا انكشافا تاما فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت. وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة. وإن لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعد، محروم عن خاصية الإنسانية؛ بل أضل من البهيمة إذ لم تسعد البهيمة بأجنحة الطيران إلى هذا العالم. ولذلك قال الله تعالى: (أُولَئِكَ كالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ).

وأعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، كالسفل بالإضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني. وفي مقابلته السفلي والجسماني والظلماني.

ولا تظن أنّا نعني بالعالم العلوي السموات فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتيا إلا ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسموات فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السموات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل السافلين، ومنه يترقى إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدوس، ومنها يشرفون إلى العالم الأسفل. ولذلك قال عليه السلام (إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره) وقال: (إن لله ملائكة هو أعلم بأعمال الناس منهم) والأنبياء إذا بلغ معراجهم المبلغ الأقصى وأشرقوا منه إلى السفل ونظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضا على قلوب العباد وأشرفوا على جملة من علوم الغيب: إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله تعالى - )وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ( أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة؛ وعالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم، يجري منه مجرى الظل بالإضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات لا توجد إلا من الأسباب، ولذلك كان عالم الشهادة مثالا لعالم الملكوت كما سيأتي في بيان المشكاة والمصباح والشجرة: لأن المسبب لا يخلو عن موازاة السبب ومحاكاته نوعا من المحاكاة على قرب أو على بعد.

وهذا لأن له غورا عميقا ومن اطلع على كنه حقيقته انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر. دقيقة ترجع إلى حقيقة النور

فنقول إن كان ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يبصر به غيره أيضا مع أنه يبصر نفسه وغيره، فهو أولى، باسم النور من الذي لا يؤثر في غيره أصلا، بل بالحري أن يسمى سراجا منيرا لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية توجد للروح القدسي النبوي إذ تفيض بواسطته أنواع المعارف على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمدا عليه السلام سراجا منيرا. والأنبياء كلهم سرج، وكذلك العلماء. ولكن التفاوت بينهم لا يحصى. دقيقة

إذا كان اللائق بالذي يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجا منيرا فالذي يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار. وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية. فالروح القدسي النبوي يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نورا على نور إذا مسته النار.

وبالحرىّ أن يكون مقتبس الأرواح الأرضية هي الروح الإلهية العلوية التي وصفها علي وابن عباس رضي الله عنهما فقالا: (إن لله ملكا) له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها) وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة )يَومَ يَقومُ الرّوحُ والمَلائِكةُ صَفّاً( فهي إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السّرج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار، وذلك لا يؤانس إلا من جانب الطور.

دقيقة

الأنوار السماوية التي تقتبس منها الأنوار الأرضية إن كان لها ترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبه في عالم الشهادة لا تدركه إلا بأن يفرض ضوء القمر داخلا في كوة بيت واقعا على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكسا منها إلى حائط آخر في مقابلتها ثم منعطفا منه إلى الأرض بحيث تستنير الأرض. فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع لما في القمر، وما في القمر تابع لما في الشمس: إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها أعلى وأكمل من بعض، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها.

فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك، وأن المقرب هو الأقرب إلى النور الأقصى. فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل، وأن فيهم الأقرب لقرب درجته من حضرة الربوبية التي هي منبع الأنوار كلها، وأن فيهم الأدنى، وبينهما درجات تستعصي على الإحصاء. وإنما المعلوم كثرتهم وترتيبهم في مقاماتهم وصفوفهم، وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذ قالوا: )وَإِنّا لَنَحنُ الصافّون. وَإِنّا لَنَحنُ المُسَبِحونَ(. دقيقة

إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب فاعلم أنه لا يتسلسل إلى غير نهاية، بل يرتقي إلى منبع أول هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره، ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره، أو بالنير في ذاته المنير لكل ما سواه فما عندي أنه يخفى عليك الحق فيه. وبه يتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذي لا نور فوقه، ومنه ينزل النور إلى غيره. حقيقة

بل أقول ولا أبالي إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض: إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له: بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارى بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض. أفترى أن من استعار ثيابا وفرسا ومركبا وسرجا، وركبه في الوقت الذي أركبه المعير، وعلى الحد الذي رسمه، غنى بالحقيقة أو بالمجاز? وأن المعير هو الغنى أو المستعير? كلا، بل المستعير فقير في نفسه كما كان. وإنما الغنى هو المعير الذي منه الإعارة والإعطاء، وإليه الاسترداد والانتزاع. فإذن النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولا والإدامة ثانيا. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكا. وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا وألبتة.

مهما عرفت أن النور يرجع إلى الظهور وإلإظهار ومراتبه، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من كتم العدم: لأن المظلم سمى مظلما لأنه ليس للإبصار إليه وصول، إذ ليس يصير موجودا للبصير مع أنه موجود في نفسه.

فالذي ليس موجودا لا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة وفي مقابلته الوجود فهو النور: فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره.

والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ماله من غيره. وما له الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه. بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغنى. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى. حقيقة الحقائق

من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن )كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إِلّا وَجهَهُ( لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلا وأبدا لا يتصور إلا كذلك، فإن كل شيء سواه إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجودا لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط. فلكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء الباري تعالى )لِّمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَهِ الواحِدِ القَهّارِ( بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أدبا. ولم يفهموا من معنى قوله (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه؛ بل بيس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية. بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه. فالموجود وجهه فقط. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبيا كان أو ملكا. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولا ما، وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقيق ذكرناه في كتاب (المقصد الأسنى) في معاني أسماء الله الحسنى). إشارة

العارفون- بعد العروج إلى سماء الحقيقة- اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفانا علميا، ومنهم من صار له ذلك حالا ذوقيا. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكرا دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم (أنا الحق) وقال الآخر (سبحاني ما أعظم شأني) وقال آخر (ما في الجبة إلا الله) وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التي رآها هي صورة المرآة متحدة بها، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفا ورسخ فيه قدمه استغفر وقال:

رَقَ الزُجاجُ وَراقَتِ الخَمرُ

فَتَشابَها فَتَشاكَـلَ الأَمَـرُ

فَكَأَنّما خَـمـرٌ وَلا قَـدحٌ

وَكَأَنّما قَدحٌ وَلا خَـمـرُ

وفرق بين أن يقول: الخمر قدح، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة (فناء) بل (فناء الفناء): لأنه فنى عن نفسه وفنى عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا يعدم شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه. وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحادا أو بلسان الحقيقة توحيدا. ووراء هذه الحقائق أيضا أسرار يطول الخوض فيها.

خاتمة

لعلك تشتهي أن تعرف وجه إضافة نوره إلى السموات والأرض، بل وجه كونه في ذاته نور السموات والأرض، فلا ينبغي أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار، وأنه النور الكلي، لأن النور عبارة عما ينكشف به الأشياء، وأعلى منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقي منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقي منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده: بل ذلك له في ذاته من ذاته لذاته لا من غيره. ثم عرفت أن هذا لن يتصف به إلا النور الأول.

ثم عرفت أن السموات والأرض مشحونة نورا من طبقتي النور: اعني المنسوب إلى البصر والبصيرة: أي إلى الحس والعقل. أما البصرى فما نشاهده في السموات من الكواكب والشمس والقمر، وما نشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على كل ما على الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصا في الربيع، وعلى كل حال في الحيوانات والمعادن وأصناف الموجودات. ولولاها لم يكن للألوان ظهور، بل وجود. ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرك تبعا للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها.

وأما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها، وهي جواهر الملائكة، والعالم الأسفل مشحون بها وهي الحياة الحيوانية ثم الإنسانية.

وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهر نظام عالم العلو. وهو المعنى بقوله )أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها( وقال تعالى: )لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرض( وقال: )وَيَجعَلَكُم خُلَفاءَ الأَرضِ(، وقال: )إِنّي جاعِلٌ في الأَرضِ خَليفَة(.

فإذا (عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج وأن السراج هو الروح النبوي القدسي، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور؛ وأن العلويات بعضها مقتبسة من البعض، وأن ترتيبها ترتيب مقامات. ثم ترقى جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقي نوره فقط؛ وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذن لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذي يليه لا من ذاته. فوجه كل ذي وجه إليه ومولّ شطره: )فَأَينَما تُوَلّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَهِ( فإذن لا إله الا هو: فإن الإله عبارة عما الوجه موليه نحوه بالعبادة والتأله: أعني وجوه القلوب فإنها الأنوار. بل كما لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو: لأن (هو) عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه. بل كل ما أشرت إليه فهو بالحقيقة إشارة عليه وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التي ذكرناها. ولا إشارى إلى نور الشمس بل إلى الشمس. فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس. فإذن (لا إله إلا الله) توحيد العوام، و (لا إله إلا هو) توحيد الخواص، لأن هذا أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية. وليس وراء ذلك مرقي: إذ الترقي لا يتصور إلا بكثرة: فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الارتقاء وما إليه الارتقاء. وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الإضافات وطاحت الإشارات ولم يبق علو وسفل ونازل ومرتفع: واستحال الترقي فاستحال العروج. فليس وراء الأعلى علو، ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج، فإن كان من تغير حال. فالنزول إلى سماء الدنيا: أعني بالإشراف من علو إلى سفل لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى. فهذه هي غاية الغايات ومنتهى الطلبات: يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله. وهو من العلم الذي هو كهيئة المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله. ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ملك: فقد توهم العلماء ما هو أبعد منه؛ إذ قال هذا المستغرق بالفردانية أيضا له نزول إلى السماء الدنيا: فإن 1ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء. وإليه الإشارة بقوله (صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به) فإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه، فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره؛ وإليه الإشارة بقوله: (مرضت فلم تعدني) الحديث.

فحركات هذا الموحد من السماء الدنيا وإحساساته كالسمع والبصر من سماء فوقه، وعقله فوق ذلك. وهو يترقي من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلائق. ومملكة الفردانية تمام سبع طبقات ثم بعده يستوي على عرش الوحدانية، ومنه يدبر الأمر لطبقات سمواته.

فربما نظر الناظر إليه فأطلق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، إلى أن يمعن النظر فيعلم أن ذلك تأويل كقول القائل (أنا الحق) و (سبحاني) بل كقوله لموسى عليه السلام: (مرضت فلم تعدني) و (كنت سمعه وبصره ولسانه) وأرى الآن قبض البيان فما أراك تطيق من هذا القدر أكثر من هذا القدر. (مساعدة) لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك، بل تقصر دون ذروته همتك، فخذ إليك كلاما أقرب إلى فهمك وأوفق لضعفك.

واعلم أن معنى كونه نور السموات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهر البصري. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلا في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر على هذا قوم فزعموا أن النور لا معنى له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذي يبصر في نفسه ويبصر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفى. وقد يكون الظهور سبب الخفاء. والشيء إذا جاوز حده انعكس علي ضده.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئا إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) لأن منهم من يرى الأشياء به ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: )أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنّهُ عَلى كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ(؛ وعلى الثاني الإشارة بقوله تعالى: )سَنُريهِم آَياتِنا في الآَفاقِ( فالأَول صاحب مشاهدة، والثاني صاحب الاستدلال عليه، والأول درجة الصديقين، والثاني درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهما إلا درجة الغافلين المحجوبين.

وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شيء لا يفارقه ثم يظهر كل شيء، كما أن النور مع كل شيء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائما، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصور غيبته لانهدت السموات والأرض، ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع التفريق وخفي الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره. وربما لم يفهم أيضا كنه هذا الكلام بعض القاصرين، فيفهم من قولنا (إن الله مع كل شيء كالنور مع الأشياء (أنه في كل مكان؛ تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل لعل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول إنه قبل كل شيء؛ وإنه فوق كل شيء؛ وإنه مظهر كل شيء. والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة صاحب البصيرة فهو الذي نعني بقولنا عنه مع كل شيء. ثم لا يخفى عليك أيضا أن المظهر وفوقه مع أنه معه بوجه: لكنه معه بوجه وقبله بوجه.فلا تظنن أنه متناقض، واعتبر بالمحسوسات التي هي درجتك في العرفان؛ وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضا.

ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم، فلكل علم رجال؛ وكل ميسر لما خلق له.

الفصل الثاني

في بيان مثال المشكاة والمصباح

والزجاجة والشجرة والزيت والنار

ومعرفة هذا يستعدي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود. لكني أشير إليهما بالرمز والاختصار: أحدهما في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعاني بقوالب الأمثلة، ووجه كيفية المناسبة بينها، وكيفية الموازنة بين عالم الشهادة التي منها تتخذ طينة الأمثال، وعالم الملكوت الذي منه تستنزل أرواح المعاني.

والثاني في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنوارها؛ فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك؛ إذ قرأ ابن مسعود (مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة) وقرأ أبي بن كعب: (مثل نور قلب من آمن). الأول في سر التمثيل ومنهاجه

اعلم أن العالم عالمان: روحاني وجسماني: وإن شئت قلت: حسي وعقلي؛ وإن شئت علوي وسفلي. والكل متقارب، وإنما تختلف باختلاف الاعتبارات: فإذا اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسماني وروحاني، وإن اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت حسي وعقلي. وإن اعتبرتهما بإضافة أحدهما إلى الآخر قلت علوي وسفلى. وربما سميت أحدهما عالم الملك والشهادة والآخر عالم الغيب والملكوت. ومن نظر إلى الحقائق من الألفاظ ربما تحير عند كثرة الألفاظ وتخيل كثرة المعاني. والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلا والألفاظ تابعا. وأمر الضعيف بالعكس؛ إذ يطلب الحقائق من الألفاظ. وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى: )أَفَمَن يَمشي مُكِبّاً عَلى وَجهِهِ أَهدى أَم مَن يَمشي سَوياً عَلى صِراطٍ مُّستَقيم).

وإذ قد عرفت معنى العالمين فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب؛ إذ هو غائب عن الأكثرين. والعالم الحسي عالم شهادة إذ يشهده الكافة. والعالم الحسي مرقاة إلى العقل. فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لانسد طريق الترقي إليه. ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى حضرة الربوبية والقرب من الله تعالى. فلم يقرب من الله تعالى أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس.

والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذي نعنيه بعالم القدس. فإذا اعتبرنا جملته بحيث لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس. وربما سمينا الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس (الوادي المقدس). ثم هذه الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعانا في معاني القدس. ولكن لفظ الحظيرة يحيط بجميع طبقاتها. فلا تظنن أن هذه الألفاظ طامات غير معقولة عند أرباب البصائر. واشتغالي الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدني عن المقصد. فعليك التشمير لفهم هذه الألفاظ فأرجع إلى الغرض وأقول: لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت، وكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي؛ وقد يعبر عنه بالدين وبمنازل الهدى- فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر- جعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت: فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم. وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة. وإنما يكون مثالا إذا ماثله نوعا من المماثلة، وطابقه نوعا من المطابقة. وإحصاء تلك الأمثلة يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها، ولن تفي به القوة البشرية وما اتسع لفهمه القوة البشرية. فلا تفي بشرحه الأعمار القصيرة. فغايتي أن أعرفك منها أنموذجا لتستدل باليسير منها على الكثير، وينفتح لك باب الاستعبار بهذا النمط من الأسرار فأقول: إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها بالملائكة، منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية، ولأجلها قد تسمى أربابا، ويكون الله تعالى رب الأرباب لذلك، ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة، فبالحرىّ أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب.

والسالك للطريق أولا ينتهي إلى ما درجته درجة الكواكب فيتضح له إشراق نوره وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره؛ ويتضح له من جماله وعلو درجته ما يبادر فيقول: (هذا ربي) ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر، رأى دخول الأول في مغرب الهوى بالإضافة إلى ما فوقه فقال: (لا أحب الآفلين) وكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر وأعلى، فيراه قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه. والمناسبة مع ذي النقص نقص وأفول أيضا. فمنه يقول: )وَجَهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَمَواتِ وَالأَرضَ حَنيفاً( ومعنى (الذي) إشارة مبهمة لا مناسبة لها: إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم (الذي) لم يتصور أن يجاب عنه. فالمتنزه عن كل مناسبة هو الأول الحق. ولذلك لما قال بعض الأعراب لرسول الله ﷺ: (ما نسب الإله?) نزل في جوابه )قُل هُوَ اللَهُ أَحَدٌ. اللَهُ الصَمَدُ. لَم يَلِد وَلَم يولَد) إلى آخرها، معناه أن التقدس والتنزه عن النسبة نسبته. ولذلك لما قال فرعون لموسى: )وَما رَبُّ العالَمينَ( كالطالب لماهيته لم يجب إلا بتعريفه بأفعاله، إذ كانت الأفعال أظهر عند السائل فقال: )رَّبِّ السَمَواتِ وَالأَرضِ(، فقال فرعون لمن حوله )أَلا تَسمَعونَ( كالمنكر عليه في عدوله في جوابه عن طلب الماهية، فقال موسى: )رَبُكُم وَرَبُّ آبائِكُمُ الأَولينَ( فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال والماهية؛ وهو يجيب عن الأفعال، فقال: )إِنَّ رَسولَكُمُ الَّذي أُرسِلَ إِلَيكُم لَمَجنونٌ(.

ولنرجع إلى الأنموذج فنقول علم (التعبير) يعرفك منهاج ضرب المثال؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة. أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان، لما بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني- وهو الإستعلاء على الكافة مع فيضان الآثار على الجميع. والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها كما يفيض السلطان أنواره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان. وأن من يرى أنه في يده خاتم يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فتعبيره أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح في رمضان. وأن من يرى أنه يصب الزيت في الزيتون فتعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو لا يعرف. واستقصاء أبواب التعبير يزيك أنسا بهذا الجنس، فلا يمكنني الاشتغال بعدها: بل أقول: كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر والكواكب، فكذلك فيها ما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت منه أوصاف أُخر سوى النورانية.

فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير وعظيم لا يستصغر، ومنه ينفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائس المكاشفات فمثاله (الطور)؛ وإن كان ثم موجودات تتلقى تلك النفائس بعضهم أولى من بعض فمثالها الوادي. وإن كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجري من قلب إلى قلب، فهذه القلوب أيضا أودية. ومفتتح الوادي قلوب الأنبياء ثم العلماء ثم من بعدهم. فإن كانت هذه الأودية دون الأول وعنها تغترف، فبالحرىّ أن يكون الأول هو الوادي الأيمن لكثرة يمنه وعلو درجته. وإن كان الوادي الأدون يتلقى من آخر درجات الوادي الأيمن فمغترفه شاطىء الوادي الأيمن دون لجته ومبدئه. وإن كان روح النبي سراجا منيرا، وكان ذلك الروح مقتبسا بواسطة وحي كما قال: )أَوحينا إِليكَ روحاً مِن أَمرِنا( فما منه الإقتباس مثاله النار، وإن كان المتلقنون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد لما سمعه، وبعضهم على حظ من البصيرة، فمثال حظ المقلد الخبر، ومثال حظ المستبصر الجذوة والقبس والشهاب. فإن صاحب الذوق مشارك للنبي في بعض الأحوال. ومثال تلك المشاركة الإصطلاء. وإنما يصطلي بالنار من معه النار، لا من يسمع خبرها. وإن كان أول منزل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال، فمثال ذلك المنزل الوادي المقدس.

وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا باطراح الكونين- أعني الدنيا والآخرة- والتوجه إلى الواحد الحق، ولأن الدنيا والآخرة متقابلتان متحاذيتان وهما عارضان للجوهر النوراني البشري يمكن اطراحهما مرة والتلبس بهما أخرى، فمثال اطراحهما عند الإحرام للتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين. بل نترقي إلى حضرة الربوبية مرة أخرى ونقول:

إن كان في تلك الحضرة شيء بواسطته تنتقش العلوم المفصلة في الجواهر القابلة لها فمثاله (القلم). وإن كان في تلك الجواهر القابلة ما بعضها سابق إلى التلقي، ومنها تنتقل إلى غيرها، فمثالها (اللوح المحفوظ) و (الرق المنشور). وإن كان فوق الناقش للعلوم شيء هو مسخر فمثاله (اليد) وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله (الصورة) وإن كان يوجد للصورة الإنسية نوع ترتيب على هذه الشاكلة، فهي على صورة الرحمن. وفرق بين أن يقال (على صورة الرحمن) وبين أن يقال (على صورة الله) لأن الرحمة الإلهية هي التي صورت الحضرة الإلهية بهذه الصورة.

ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة من العالم مختصرة. وصورة آدم- أعني هذه الصورة- مكتوبة بخط الله. فهو الخط الإلهي الذي ليس برقم حروف، إذ تنزه خطه عن أن يكون رقما وحروفا كما تنزه كلامه عن أن يكون صوتا وحرفا، وقلمه عن أن يكون خشبا وقصبا، ويده عن أن تكون لحما وعظما. ولولا هذه الرحمة لعجز الآدمي عن معرفة ربه: إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه. فلما كان هذا من آثار الرحمة صار على صورة الرحمن لا على صورة الله: فإن حضرة الإلهية غير حضرة الرحمة وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية. ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال: )قُل أَعوذُ بِرَبِّ الناسِ، مَلِكِ الناسِ، إِلَهِ الناسِ( ولولا هذا المعنى لكان ينبغي أن يقول على صورته واللفظ الوارد في الحديث الصحيح على صورة الرحمن.

ولأن تمييز حضرة الملك عن الإلهية والربوبية يستدعي شرحا طويلا فلنتجاوزه، ويكفيك من الأنموذج هذا القدر، فإن هذا بحر لا ساحل له. فإن وجدت في نفسك نفورا عن هذه الأمثال فآن قلبك بقوله تعالى: )أَنزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً فَسالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِها( الآية، وأنه كيف ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والقرآن والأودية القلوب.

خاتمة واعتذار

لا تظنن من هذا الأنموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في رفع الظاهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان، ولم يسمع الخطاب بقوله: (اخلع نعليك) حاش لله فإن إبطال الظواهر رأى الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنة بين العالمين، ولم يفهموا وجهه. كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية.

فالذي يجرد الظاهر حشوى، والذي يجرد الباطن باطني. والذي يجمع بينهما كامل. ولذلك قال عليه السلام: (للقرآن ظاهر وباطن وحدٌ ومطلع) وربما نقل هذا عن علىّ موقوفا عليه. بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين اطراح الكونين فامتثل الأمر ظاهرا بخلع نعليه، وباطنا باطراح العالمين. وهذا هو (الاعتبار) أي العبور من الشيء إلى غيره، ومن الظاهر إلى السر. وفرق بين من يسمع قول رسول الله ﷺ: (لا يدخل الملائكة بيتا فيه كلب) فيقتنى الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا، بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب لأنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة: إذا الغضب غول العقل، وبين من يمتثل الأمر في الظاهر ثم يقول: الكلب ليس كلبا لصورته بل لمعناه- وهو السبعية والضراوة- وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عن صورة الكلب، فبأن يجب حفظ بيت القلب- وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص- عن شر الكلبية أولى. فأنا أجمع بين الظاهر والسر جميعا، فهذا هو الكامل: وهو المعنى بقولهم (الكامل من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه) ولذلك ترى الكامل لا تسمح نفسه بترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرة. وهذه مغلطة منها وقع بعض السالكين إلى الإباحة وطى بساط الأحكام ظاهرا، حتى أنه ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائما في الصلاة بسره. وهذا سوى مغلطة الحمقى من الإباحية الذين مأخذهم ترهات كقول بعضهم (إن الله غني عن عملنا) وقول بعضهم إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته ولا يطمع في استئصال الغضب والشهوة لظنه أنه مأمور باستئصالها: وهذه حماقات.

فأما ما ذكرناه فهو كبوة جواد وهفوة سالك حسده الشيطان فدلاّه بحبل الغرور. وأرجع إلى حديث النعلين فأقول: ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين. فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة. وأهل هذا التنبيه هم الذين بلغوا درجة الزجاجة كما سيأتي معنى الزجاجة؛ لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار؛ ولكن إذا صفا حتى صار كالزجاج الصافي غير حائل عن الأنوار، بل صار مع ذلك مؤديا للأنوار، بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الرياح. وستأتيك قصة الزجاجة.

فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء زجاجة ومشكاة للأنوار ومصفاة للأسرار، ومرقاة إلى العالم الأعلى. وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر. وقس على هذا (الطور) و (النار) وغيرهما. دقيقة

إذا قال الرسول عليه السلام: (رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا) فلا تظنن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك، بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه؛ وإن كان عبد الرحمن مثلا نائما في بيته بشخصه، فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهي، فإن الحواس شاغلة له وجاذبة إياه إلى عالم الحس، وصارفة وجهه عن عالم الغيب والملكوت. وبعض الأنوار النبوية قد يستعلي ويستولي بحيث لا تستجره الحواس إلى عالمها ولا تشغله، فيشاهد في اليقظة ما يشاهد غيره في المنام. ولكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة، بل عبر منها إلى السر فانكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الذي يعبر عنه بالجنة؛ والغنى والثروة جاذب إلى الحياة الحاضرة وهي العالم الأسفل. فإن كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى أو مقاوما للجاذب الآخر صد عن المسير إلى الجنة. وإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسرا وبطئا في سيره؛ فيكون مثاله من عالم الشهادة (الحبو) فكذلك تتجلى له أنوار الأسرار من وراء زجاجات الخيال. ولذلك لا يقتصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورا عليه، بل يحكم به على كل من قويت بصيرته واستحكم إيمانه، وكثرت ثروته كثرة تزاحم الإيمان لكن لا تقاومه لرجحان قوة الإيمان.

فهذا يعرفك كيفية إبصار الأنبياء الصورة وكيفية مشاهدتهم المعاني من وراء الصور. والأغلب أن يكون المعنى سابقا إلى المشاهدة الباطنة ثم يشرق منها على الروح الخيالي فينطبع الخيال بصورة موازنة للمعنى محاكية له. وهذا النمط من الوحي في اليقظة يفتقر إلى التأويل، كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير. والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. والواقع في اليقظة نسبته أعظم من ذلك. وأظن أن نسبته إليه نسبة الواحد إلى الثلاثة. فإن الذي انكشف لنا من الخواص النبوية ينحصر شعبها في ثلاثة أجناس، وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة.

القطب الثانيفي بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن

فالأول منها الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس الخمس، وكأنه أصل الروح الحيواني وأوله، إذ به يصير الحيوان حيوانا. وهو موجود للصبي الرضيع.

الثاني الروح الخيالي، وهو الذي يستثبت ما أورده الحواس ويحفظه مخزونا عنده ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه. وهذا لا يوجد للصبي الرضيع في بداية نشوئه: ولذلك يولع بالشيء ليأخذه، فإذا غاب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر قليلا فيصير بحيث إذا غُيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله. وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد النار لشغفه بضياء النهار: فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نفسه عليه فيتأذى به. لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة بعد مرة. ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر مرة به فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة، فإذا رأى الخشبة بعد ذلك من بعد هرب.

الثالث الروح العقلي الذي به تدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال، وهو الجوهر الإنسي الخاص، ولا يوجد لا للبهائم ولا للصبيان. ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين.

الرابع الروح الفكري، وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف شريفة. ثم إذا استفاد نتيجتين مثلا، ألف بينهما مرة أخرة واستفاد نتيجة أخرى. ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير نهاية.

الخامس الروح القدسي النبوي الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء، وفيه تتجلى لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السموات والأرض، بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري. وإليه الإشارة بقوله تعالى: )وَكَذَلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحاً مِّن أَمرِنا ما كُنتَ تَدري ما اَلكِتابُ ولا الإيمانُ، وَلَكِن جَعَلناهُ نوراً نَّهدي بِهِ) الآية. فلا يبعد أيها العاكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل، كما لا يبعد كون العقل طورا وراء التمييز والإحساس تنكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز.

ولا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك. وإن أردت مثالا مما نشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إحساس وإدراك، ويحرم عنه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات التي منها المحزن ومنها المطرب ومنها المنوم ومنها المضحك ومنها المجنن ومنها القاتل، ومنها الموجب للغشى. وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق. وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو يتعجب من صاحب الوجد والشغى. ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.

فهذا مثال في أمر خسيس لكنه قريب إلى فهمك. فقس به الذوق الخاص النبوي واجتهد أن تصير من أهل الذوق بشيء من ذلك الروح: فإن للأولياء منه حظا وافرا. فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التي ذكرناها والتنبيهات التي رمزنا إليها من أهل العلم بها. فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها: و )يَرفَعُ اللَهُ الَّذينَ آَمَنوا مِنكٌم وَالَّذَينَ أُوتوا العِلمَ دَرَجاتٍ(. والعلم فوق الإيمان، والذوق فوق العلم. فالذوق وجدان والعلم قياس والإيمان قبول مجرد بالتقليد. وحسن الظن بأهل الوجدان أو بأهل العرفان.

فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فاعلم أنها بجملتها أنوار لأنها تظهر أصناف الموجودات، والحسى والخيالي منها، وإن كان يشارك البهائم في جنسها، لكن الذي للإنسان منه نمط آخر أشرف وأعلى؛ وخلق الإنسان لأجل غرض أجل وأسمى. أما الحيوانات فلم يخلق ذلك لها إلا ليكون آلتها في طلب غذائها في تسخيرها للآدمي. وإنما خلق للأدمي ليكون شبكة له يقتنص بها من العالم الأسفل مبادىء المعارف الدينية الشريفة. إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصا معينا اقتبس عقله منه معنى عاما مطلقا كما ذكرنا في مثال حبو عبد الرحمن بن عوف. وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض الأمثلة.

بيان أمثلة هذه الآية

اعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله، لكني أوجزه وأقتصر على التنبيه على طريقه فأقول: أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من ثقب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرها. وأوفق مثال له من عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالي فنجد له خواص ثلاثا: إحداهما: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف: لأن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة. وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو بعد. ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد.

الثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفّى ودقق وهذّب وضبط صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها، غير حائل عن إشراق نورها منها.

الثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جدا ليضبط به المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشارا يخرج عن الضبط. فنعم المعين المثالات الخيالية للمعارف العقلية. وهذه الخواص الثلاث لا نجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة الا للزجاجة: فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صفى ورقق حتى لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة. فهي أول مثال له.

وأما الثالث وهو الروح العقلي الذي به إدراك المعارف الشريفة الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح. وقد عرفت هذا فيما سبق من بيان كون الأنبياء سرجا منيرة.

وأما الرابع وهو الروح الفكري فمن خاصيته أنه يبتدىء من أصل واحد ثم تتشعب منه شعبتان، ثم من كل شعبة شعبتان وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم يفضي بالآخرة إلى نتائج هي ثمراتها. ثم تلك الثمرات تعود فتصير بذورا لأمثالها: إذ يمكن أيضا تلقيح بعضها بالبعض حتى يتمادى إلى ثمرات وراءها كما ذكرناه في كتاب القسطاس المستقيم. فبالحرىّ أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة. وإذ كانت ثمراته مادة لتضاعف أنوار المعارف وثباتها وبقائها فبالحرىّ ألا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها، بل من جملة سائر الأشجار بالزيتونة خاصة: لأن لب ثمرها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، ويختص من سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق مع قلة الدخان. وإذا كانت الماشية التي يكثر نسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة، فالتي لا يتناهى ثمرتها إلى حد محدود أولى أن تسمى شجرة مباركة. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد، فالبالحرىّ أن تكون لا شرقية ولا غربية.

وأما الخامس: وهو الروح القدسي النبوي المنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية الصفاء والشرف وكانت الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف، وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه يتنبه بنفسه من غير مدد من خارج، فبالحرىّ أن يعبر عن الصافي البالغ الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيء، ولو لم تمسسه نار: إذ من الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء؛ وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة. فهذا المثال موافق لهذا القسم.

وإذا كانت هذه الأنوار مترتبة بعضها على بعض: فالحسى هو الأول، وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالي، إذ لا يتصور الخيالي إلا موضوعا بعده؛ والفكري والعقلي يكونان بعدهما؛ فبالحرى أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة: فيكون المصباح في زجاجة، والزجاجة في مشكاة.

وإذ كانت هذه كلها أنواراً بعضها فوق بعض فبالحرىّ أن تكون نورا هذا المثال إنما يتضح لقلوب المؤمنين أو لقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب الكفار: فإن النور يراد للهداية. فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة، بل أشد من الظلمة: لأن الظلمة لا تهدي إلى الباطل كما لا تهدي إلى الحق. وعقول الكفار انتكست، وكذلك سائر إدراكاتهم وتعاونت على الإضلال في حقهم. فمثالهم كرجل في (بَحرٍ لُّجِّىٍّ يَغشاهُ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعضَها فَوقَ بَعضٍ) والبحر واللّجىِّ هو الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة والأشغال المردية والكدورات المعمية.

والموج الأول موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية والإشتغال باللذات الحسية وقضاء الأوطار الدنيوية حتى إنهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام. وبالحرىّ أن يكون هذا الموج مظلما لأن حب الشيء يعمى ويصم. والموج الثاني موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر. وبالحري أن يكون مظلما لأن الغضب غول العقل. وبالحري أن يكون هو الموج الأعلى: لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتى إذا هاج أذهل عن الشهوات وأغفل عن اللذات المشتهاة. وأما الشهوة فلا تقاوم الغضب الهائج أصلا.

وأما السحاب فهو الاعتقادات الخبيثة، والظنون الكاذبة، والخيالات الفاسدة التي صارت حجبا بين الكافرين وبين الإيمان ومعرفة الحق والاستضاءة بنور شمس القرآن والعقل: فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس.

وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض. وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضلا عن البعيدة، ولذلك حجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبي عليه السلام مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل، فبالحرى أن يعبر عنه بأنه لو أخرج يده لم يكد يراها. وإذا كان منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق كما سبق بيانه فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن (وَمَن لَّم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فَما لَهُ مِن نّورٍ) فيكفيك هذا القدر من أسرار هذه الآية فاقنع به.

الفصل الثالث

في معنى قوله عليه السلام إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره

وفي بعض الروايات سبعمائة، وفي بعضها سبعين ألفا: فأقول: إن الله تعالى متجل في ذاته لذاته، ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة؛ وإن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام: منهم من حجب بمجرد الظلمة؛ ومنهم من حجب بالنور المحض؛ ومنهم من حجب بنور مقرون بظلمة.

وأصناف هذه الأقسام كثيرة أتحقق كثرتها، ويمكنني أن أتكلف حصرها في سبعين، لكن لا أثق بما يلوح لي من تحديد وحصر، إذ لا أدري أنه المراد بالحديث أم لا. أما الحصر إلى سبعمائة وسبعين ألفا فذلك لا يستقل به إلا القوة النبوية، مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة للتكثير لا للتحديد؛ وقد تجري العادة بذكر عدد ولا يراد به الحصر بل التكثير. والله أعلم بتحقيق ذلك، فذلك خارج عن الوسع. وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل قسم فأقول: القسم الأول

وهم المحجوبون بمحض الظلمة، وهم الملحدة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. وهم الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا وهؤلاء صنفان: صنف تشوف إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله إلى الطبع: والطبع عبارة عن صفة مركوزة في الأجسام حالة فيها؛ وهي مظلمة إذ ليس لها معرفة وإدراك ولا خبر لها من نفسها ولا مما يصدر منها؛ وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضا.

والصنف الثاني: هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يفرغوا لطلب السبب أيضا، بل عاشوا عيش البهائم، فكان حجبهم نفوسهم الكدرة، وشهواتهم المظلمة، ولا ظلمة أشد من الهوى والنفس: ولذلك قال الله تعالى: )أَفَرأَيتَ مَن اِتَخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ( وقال رسول الله ﷺ : (الهوى أبغض إله عبد في الأرض) وهؤلاء انقسموا فرقا: فرقة زعمت أن غاية الطلب في الدنيا هي قضاء الأوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم وملبس. فهؤلاء عبيد اللذة، يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادات: رضوا لأنفسهم أن يكونوا بمنزلة البهائم بل أخس منها. وأي ظلمة أشد من ذلك فقد حجب هؤلاء بمحض الظلمة.

وفرقة رأت أن غاية السعادات هي الغلبة والاستيلاء والقتل والسبى والأسر، وهذا مذهب الأعراب والأكراد وكثير من الحمقى، وهم محجوبون بظلمة الصفات السبعية لغلبتها عليهم وكون إدراكها مقصود أعظم اللذات. وهؤلاء قنعوا بأن يكونوا بمنزلة السباع بل أخس.

وفرقة ثالثة رأت أن غاية السعادات كثرة المال واتساع اليسار لأن المال هو آلة قضاء الشهوات كلها، وبه يحصل للإنسان الاقتدار على قضاء الأوطار. فهؤلاء همتهم جمع المال واستكثار الضياع والعقار والخيل المسومة والأنعام والحرث وكنز الدنانير تحت الأرض. فترى الواحد يجتهد طول عمره يركب الأخطار في البوادي والأسفار والبحار ويجمع الأموال ويشح بها على نفسه فضلا عن غيره: وهم المرادون بقوله عليه السلام: (تعس عبد الدراهم، تعس عبد الدنانير). واي ظلمة أعظم مما يلبس على الإنسان? إن الذهب والفضة حجران لا يرادان لأعيانهما. وهي إذا لم يقض بها الأوطار ولم تنفق فهي والحصباء بمثابة، والحصباء بمثابتها.

وفرقة رابعة ترقت عن جهالة هؤلاء وتعاقلت، وزعمت أن أعظم السعادات في اتساع الجاه والصيت وانتشار الذكر وكثرة الأتباع ونفوذ الأمر المطاع. فتراها لا همّ لها إلا المراءاة وعمارة مطارح أبصار الناظرين حتى إن الواحد قد يجوع في بيته ويحتمل الضر ويصرف ماله إلى ثياب يتجمل بها عند خروجه كي لا ينظر إليه بعين الحقارة. وأصناف هؤلاء لا يحصون، وكلهم محجوبون عن الله تعالى بمحض الظلمة، وهي نفوسهم المظلمة.

ولا معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع التنبيه على الأجناس. ويدخل في جملة هؤلاء جماعة يقولون بلسانهم (لا إله إلا الله)، لكن ربما حملهم على ذلك خوف أو استظهار بالمسلمين وتجمل بهم أو استمداد من مالهم؛ أو لأجل التعصب لنصرة مذهب الآباء. فهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فلا تخرجهم الكلمة من الظلمات إلى النور، بل )أَولِياؤُهُمُ الطاغوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ النورِ إِلى الظُّلُماتِ(. أما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئته وسرته حسنته فهو خارج عن محض الظلمة وإن كان كثيرا المعصية. القسم الثاني

طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة وهم ثلاثة أصناف: صنف منشأ ظلمتهم من الحس، وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال، وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة.

الصنف الأول المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائف لا يخلو واحد منهم عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوف إلى معرفة ربه. وأول درجاتهم عبدة الأوثان وآخرهم الثنوية، وبينهما درجات. فالطائفة الأولى عبدة الأوثان: علموا على الجملة أن لهم ربا يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة، واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن يجاوزوا العالم المحسوس فاتخذوا من أنفس الجواهر كالذهب والفضة والياقوت أشخاصا مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة. فهؤلاء محجوبون بنور العزة والجمال، والعزة والجمال من صفات الله وأنواره، ولكنهم ألصقوها بالأجسام المحسوسة وصدهم عن ذلك ظلمة الحس، فإن الحس ظلمة بالإضافة إلى العالم الروحاني العقلي كما سبق.

الطائفة الثانية جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ولا شريعة يعتقدون أن لهم ربا وأنه أجمل الأشياء، فإذا رأوا إنسانا في غاية الجمال أو شجرا أو فرسا أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا. فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس، وهم أدخل في ملاحظة النور من عبدة الأوثان لأنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص فلا يخصصونه بشيء؛ ثم يعبدون الجمال المطبوع لا المصنوع من جهتهم وبأيديهم.

وطائفة ثالثة قالوا ينبغي أن يكون ربنا نورانيا في ذاته بهيا في صورته، ذا سلطان في نفسه، مهيبا في حضرته، لا يطاق القرب منه، ولكن ينبغي أن يكون محسوسا؛ إذ لا معنى لغير المحسوس عندهم. ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا. فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة والبهاء: وكل ذلك من أنوار الله تعالى.

وطائفة رابعة زعموا أن النار نستولى عليها نحن بالإشعال والإطفاء، فهي تحت تصرفنا فلا تصلح للإلهية، بل ما يكون بهذه الصفات ولم يكن تحت تصرفنا ثم نكون نحن تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفا بالعلو والارتفاع. ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها. فمنهم من عبد الشّعرى، ومنهم من عبد المشتري إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات. فهؤلاء محجوبون بنور العلو والإشراف والإستيلاء، وهي من أنوار الله تعالى. وطائفة خامسة ساعدت هؤلاء في المأخذ ولكن قالت لا ينبغي أن يكون ربنا موسوما بالصغر والكبر بالإضافة إلى الجواهر النورانية، بل ينبغي أن يكون أكبرها، فعبدوا الشمس وقالوا هي أكبر. فهؤلاء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية الأنوار مقرونا بظلمة الحس.

وطائفة سادسة ترقوا عن هؤلاء فقالوا: النور كله لا ينفرد به الشمس بل لغيرها أنوار، ولا ينبغي للرب شريك في نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع أنوار العالم وزعموا أنه رب العالم والخيرات كلها منسوبة إليه. ثم رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيها له عن الشر، فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة، وأحالوا العالم إلى النور والظلمة، وربما سموهما (يزدان) و (أهرمن)، وهم الثنوية. فيكفيك هذا القدر تنبيها على هذا الصنف، فهم أكثر من ذلك.

الصنف الثاني المحجوبون ببعض الأنوار مقرونا بظلمة الخيال، وهم الذين جاوزوا الحس، وأثبتوا وراء المحسوسات أمرا، لكن لم يمكنهم مجاوزة الخيال، فعبدوا موجودا قاعدا على العرش. وأخسهم رتبة المجسمة ثم أصناف الكرامية بأجمعهم. ولا يمكنني شرح مقالاتهم ومذاهبهم فلا فائدة في التكثير. لكن أرفعهم درجة من نفى الجسمية وجميع عوارضها الا الجهة المخصوصة بجهة فوق: لأن الذي لا ينسب إلى الجهات ولا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لم يكن عندهم موجودا إذ لم يكن متخيلا. ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوز النسبة إلى الجهات.

الصنف الثالث المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا مريدا حيا، منزها عن الجهات، لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم.

وربما صرّح بعضهم فقال: (كلامه صوت وحرف ككلامنا) وربما ترقي بعضهم فقال: (لا بل هو كحديث نفسنا ولا هو صوت ولا حرف) وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلا معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى. ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا. وإنها طلب وقصد مثل قصدنا. وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها. فهؤلاء محجوبون بجملة من الأنوار مع ظلمة المقايسات العقلية. فهؤلاء أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة. وبالله التوفيق. القسم الثالث

ثم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن إحصاؤهم: فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم.

الأول- طائفة عرفوا معاني الصفات تحقيقا وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر؛ فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرّف موسى عليه السلام في جواب قول فرعون: (وَما رَّبُّ العالَمينَ) فقالوا إن الرب المقدس المنزه عن معاني هذه الصفات هو محرك السموات ومدبرها).

والصنف الثاني ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة، وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى ملكا، وفيهم كثرة، وإنما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية نسبة الكواكب. ثم لاح لهم أن هذه السموات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة فالرب هو المحرك للجرم الأقصى المنطوي على الأفلاك كلها إذ الكثرة منفية عنه.

والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى ملكا: نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر في الأنوار المحسوسة. فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك؛ ويكون الرب تعالى محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة. ثم في تقسيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب.

فهؤلاء الأصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة. وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا (المطاع) موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر لا يحتمل هذا الكتاب كشفه: وأن نسبة هذا (المطاع) نسبة الشمس في الأنوار. فتوجهوا من الذي يحرك السموات ومن الذي يحرك الجرم الأقصى، ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السموات وفطر الجرم الأقصى وفطر الآمر بتحريكها، فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر من قبلهم فأحرقت سبحات وجهه الأول الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم فإذا وجدوه مقدسا منزها عن جميع ما وصفناه من قبل.

ثم هؤلاء انقسموا: فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى، لكن بقي هو ملاحظا للجمال والقدس وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية. فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر. وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذاتهم ولم يبق لهم لحظ إلى أنفسهم لفنائهم عن أنفسهم. ولم يبق إلا الواحد الحق. وصار معنى قوله: )كل شىء هالك الا وجهه) لهم ذوقا وحالا.

وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه. فهذه نهاية الواصلين.

ومنهم من لم يتدرج في الترقي والعروج على التفصيل الذي ذكرناه ولم يطل عليهم الطريق فسبقوا في أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه، فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخراً، وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية. ويشبه أن يكون الأول طريق (الخليل) والثاني طريق الحبيب ﷺ، والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما.

فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين، ولا يبعد أن يبلغ عدههم إذا فصلت المقالات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا. ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منها خارجا عن الأقسام التي حصرناها: فإنهم إنما يحجبون بصفاتهم البشرية، أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل، أو بالنور المحض كما سبق. فهذا ما حضرني في جواب هذه الأسئلة، مع أن السؤال صادفني والفكر متقسم، والخاطر متشعب، والهم إلى غيرها هذا الفن منصرف، ومقترحي عليه أن يسأل الله تعالى العفو عما طغى به القلم، أو زلّت به القدم؛ فإن خوض غمرة الأسرار الإلهية خطير، واستشفاف الأنوار الإلهية من وراء الحجب البشرية عسير غير يسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القرآن الكريم : وورد

  القرآن الكريم :  سورة الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِ...