الأحد، 28 مايو 2023

كتاب العلم للحافظ أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي + وشفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل أبو حامد الغزالي

كتاب العلم لأبي خيثمة كتاب العلم

للحافظ أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي

كتاب العلم

( بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي الا بالله أخبرنا الشيخ الامام العالم الزاهد عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري أيده الله في شهر رمضان من سنة أربع عشرة وست مائه بالموصل برباط أخيه قال أنا الشيخ الامام العالم مجد الدين أبو الفرج يحيى بن محمود بن سعد الأصفهاني قال أنا الشيخ الامام أبو الفتح إسماعيل بن الفضل بن أحمد بن الإخشيد السراج في سنة ثمان عشرة وخمس مئه وسنة اثنين وعشرين وخمس مئه قال أنا الشيخ أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم قال انا أبو حفص عمر بن إبراهيم بن أحمد الكتاني المقرىء نا أبو القاسم عبد الله بن محمد عبد العزيز البغوي )

1 - حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ثنا وكيع ثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن أبي عبيدة قال قال عبد الله: « اغد عالما أو متعلما ولا تغد بين ذلك »

2 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسحاق بن سليمان الرازي قال سمعت حنظلة يحدث عن عون بن عبد الله قال قلت لعمر بن عبد العزيز يقال إن استطعت أن تكون عالما فكن عالما فان لم تستطع فكن متعلما فان لم تكن متعلما فأحبهم فان لم تحبهم فلا تبغضهم فقال عمر سبحان الله لقد جعل له مخرجا.

3 - حدثنا أبو خيثمة نا جرير عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن أبي عبيدة قال قال عبد الله: « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين »

4 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: « يا أيها الناس تعلموا فمن علم فليعمل »

5 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان بن عيينة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال أتيت صفوان بن عسال المرادي فقال ما جاء بك قلت طلب العلم فقال: « إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا لم يطلب »

6 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن خازم ثنا الأعمش عن شمر عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال: « إن الذي يعلم الناس الخير يستغفر له كل دابة حتى الحوت في البحر »

7 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا بشر بن منصور عن ثور عن عبد العزيز بن ظبيان قال: قال المسيح بن مريم: « من تعلم وعمل فذاك يدعا عظيما في ملكوت السماء »

8 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن خازم ثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: « تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يختلف إليه »

9 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معاذ بن معاذ ثنا بن عون عن الأحنف قال: قال عمر: « تفقهوا قبل أن تسودوا »

10 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن خازم ثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله: « والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون » قال الأعمش فقال لي الحكم لو كنت سمعت بهذا الحديث منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي.

11 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن خازم ثنا الأعمش عن رجاء الأنصاري عن عبد الرحمن بن بشر الأزرق قال: دخل رجلان من أبواب كندة وأبو مسعود الأنصاري جالس في حلقة فقال أحدهما الارجل ينظر بيننا فقال رجل في الحلقة أنا قال فأخذ أبو مسعود كفا من حصى فرماه به وقال له إنه كان يكره التسرع الى الحكم.

12 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن خازم ثنا الأعمش عن صالح بن خباب عن حصين بن عقبة عن سلمان قال: « علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه »

13 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش قال بلغني عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه قال: « فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع »

14 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن سليم عن حذيفة قال: « بحسب المرء من العلم أن يخشى الله تعالى وبحسبه من الكذب أن يقول أستغفر الله وأتوب إليه ثم يعود »

15 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: « بحسب الرجل من العلم أن يخشى الله تعالى وبحسب الرجل من الجهل أن يعجب بعلمه »

16 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبي خالد الشيخ من أصحاب عبد الله قال: بينما نحن في المسجد إذ جاء خباب بن الأرت فجلس فسكت فقال له القوم إن أصحابك قد اجتمعوا إليك لتحدثهم أو لتأمرهم قال: بم آمرهم فلعلي آمرهم بما لست فاعلا.

17 - حدثنا أبو خيثمة ثنا أبو سنان سعيد بن سنان حدثني عنترة قال سمعت بن عباس يقول: « ما سلك رجل طريقا يلتمس فيه علما إلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة »

18 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن مسعر عن معن بن عبد الرحمن قال: « إن استطعت أن تكون أنت المُحَدث فافعل »

19 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة قال: كان الناس يأتون سلمان فيستمعون حديثه فيقول هذا خير لكم وشر لي.

20 - حدثنا عبد الله ثنا أبو خيثمة ثنا سفيان بن عيينة عن يونس عن الحسن قال: « إن كان الرجل ليجلس مع القوم فيرون أن به عيّا وما به من عي إنه لفقيه مسلم »

21 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى « قال أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﷺ من الأنصار ما منهم أحد يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدثه حديثا إلا ود أن أخاه كفاه »

22 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان عن الزهري قال: « كان عروة يتألف الناس على حديثه »

23 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان قال قال عمرو:، « لما قدم مكة - يعني عروة - قال ائتوني فتلقوا مني »

24 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال قيل لعلقمة: ألا تقعد في المسجد فيجمع إليك وتسأل ونجلس معك فإنه يسأل من هو دونك قال فقال علقمة: إني أكره أن يوطأ عقبي يقال هذا علقمة هذا علقمة.

25 - حدثنا جرير والضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ فيما أرى قال جرير: « من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه »

26 - حدثنا أبو خيثمة زهير ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة قال: أراد عمر أن يكتب السنة ثم كتب في الناس من كان عنده شيء من ذلك فليمحه.

27 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: إن كان الرجل يكتب إلى بن عباس يسأله عن الأمر فيقول للرجل الذي جاء بالكتاب أخبر صاحبك بأن الأمر كذا و كذا فإنا لا نكتب في الصحف إلا الرسائل والقرآن.

28 - حدثنا أبو خيثمة نا بن فضيل عن بن شبرمة عن الشعبي قال: « ما كتبت سوداء في بيضاء ولا سمعت من رجل حديثا فأردت أن يعيده علي »

29 - حدثنا أبو خيثمة نا بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد واجعلنا للمتقين إماما،[1] قال: فأتم بهم ونقتدي بهم حتى يقتدي بنا من بعدنا.

30 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن رجل عن ليث عن مجاهد[2] { وجعلني مباركا أينما كنت } قال: « معلما للخير »

31 - حدثنا أبو خثيمة ثنا جرير عن مغيرة قال قيل لسعيد بن جبير تعلم أحدا أعلم منك قال نعم عكرمة فلما قتل سعيد بن جبير قال إبراهيم ما خلف بعده مثله قال وقال الشعبي لما بلغه موت إبراهيم، أهلك الرجل قال فقيل له نعم قال لو قلت أنعي العلم ما خلف بعده مثله والعجب أنه بفضل بن جبير على نفسه وسأخبركم عن ذلك إنه نشأ في أهل بيت فقه فأخذ فقههم ثم جالسنا فأخذ صفوة حديثنا إلى فقه أهل بيته فمن كان مثله.

32 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان بن عيينة ثنا أيوب الطائي قال سمعت الشعبي يقول: « ما رأيت أحدا من الناس أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق »

33 - حدثنا أبو خيثمة ثنا هشيم ثنا سيار عن جرير بن حيان أن رجلا رحل إلى مصر في هذا الحديث فلم يحل رحله حتى رجع إلى بيته: « من ستر على أخيه في الدنيا ستر الله عليه في الآخرة »

34 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان عن بن جريج قال: أملى علي نافع.

35 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة قال أملى علي المغيرة وكتبته بيدي.

36 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش قال ذكر إبراهيم فريضة أو حديثا فقال: « احفظ هذا لعلك تسأل عنه يوما من الدهر »

37 - حدثنا أبو خيثمة ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن إبراهيم قال: « كانوا يكرهون أن يظهر الرجل ما عنده »

38 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عثام بن علي العامري قال سمعت الأعمش يقول: « ما سمعت إبراهيم يقول في شيء برأيه قط »

39 - حدثنا أبو خيثمة ثنا بن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير « يبخلون ويأمرون الناس بالبخل قال هذا من العلم »

40 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن ليث قال: كان أبو العالية إذا جلس إليه أربعة قام.

41 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الله بن العلاء قال سمعت مكحولا قال: « كنت لعمرو بن سعيد العاصي أو لسعيد بن العاص فوهبني لرجل من هذيل بمصر فأنعم علي بها فما خرجت من مصر حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته ثم قدمت المدينة فما خرجت منها حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته ثم لقيت الشعبي فلم أر مثله رحمه الله »

42 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن المسلم حدثني تميم بن عطية العنسي قال سمعت مكحولا يقول: « اختلف إلي شريح أشهرا فلم أسأله عن شيء اكتفى بما أسمعه يقضي به »

43 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال: « تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها فقام فيهم أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله ﷺ حتى أصبح »

44 - حدثنا أبو خيثمة نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي عن مكحول قال: « إن لم يكن في مجالسة الناس ومخالطتهم خير فالعزلة أسلم »

45 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية حدثني أبو كبشة أن عبد الله بن عمرو حدثه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: « بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار »

46 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: « بحسب المرء من العلم أن يخشى الله وبحسبه جهلا أن يعجب بعلمه »

47 - حدثنا أبو خيثمة ثنا يحيى بن يمان ثنا الأعمش عن إبراهيم قال: « كان عبد الله لطيفا فطنا »

48 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جعفر بن عون نا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق قال قال عبد الله « لو أن بن عباس أدرك أسناننا ما عشره منا أحد قال وكان يقول نعم ترجمان القرآن بن عباس رضي الله عنه »

49 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال قال عبد الله « إن من العلم أن يقول الذي لا يعلم الله أعلم »

50 - حدثنا أبو خيثمة نا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: « ما نسأل أصحاب محمد من شيء إلا علمه في القرآن إلا أن علمنا يقصر عنه »

51 - حدثنا أبو خيثمة نا جرير عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال قال أبو الدرداء « معلم الخير والمتعلم في الأجر سواء وليس في سائر الناس خير بعد »

52 - حدثنا أبو خيثمة عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن بن لبيد قال: ذكر رسول الله ﷺ شيئا قال « وذاك عند أوان ذهاب العلم » قالوا يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبنائهم قال: « ثكلتك أمك بن أم لبيد أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون منها بشيء »

53 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال قال بن عباس: أتدرون ما ذهاب العلم من الأرض؟ قال قلنا لا قال أن يذهب العلماء.

54 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن العلاء عن حماد عن إبراهيم قال قال عبد الله « اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة »

55 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن قابوس قال: قلت لأبي كيف تأتي علقمة وتدع أصحاب محمد ﷺ قال يا بني إن أصحاب محمد ﷺ كانوا يسألونه.

56 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن عمارة بن القعقاع قال قال لي إبراهيم حدثني عن أبي زرعة فإني سألته عن حديث ثم سألته عنه بعد سنتين فما أخرم منه حرفا.

57 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير قال: « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده فيه »

58 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري حدثني شيخ من عبس قال: صحبت سلمان فأردت أن أعينه وأتعلم منه وأن أخدمه قال فجعلت لا أعمل شيئا إلا عمل مثله قال فانتهينا إلى دجلة وقد مدت وهي تطفح فقلنا لو سقينا دوابنا قال فسقيناها ثم بدا لي أن أشرب فشربت فلما رفعت رأسي قال يا أخا بني عبس عد فاشرب قال فعدت فشربت وما أريده إلا كراهية أن أعصيه ثم قال لي كم تراك نقصتها قال قلت يرحمك الله وما عسى أن ينقصها شربي قال: « وكذلك العلم تأخذه ولا تنقصه شيئا فعليك من العلم بما ينفعك »

59 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: « جالست أصحاب رسول الله ﷺ فكانوا كالاخاذ يروي الراكب والاخاذ يروي الراكبين والاخاذ يروي العشرة والاخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم وإن عبد الله من تلك الاخاذ »

60 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل قال قال عبد الله: « لو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه »

61 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم قال قال عبد الله « إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم »

62 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن مجاهد في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال « أولي الفقه والعلم »

63 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش قال: « كنت أسمع الحديث فأذكره لإبراهيم فإما أن يحدثني به أو يزيدني فيه »

64 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن مسعود بن مالك قال: « قال لي علي بن الحسين تستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير قال قلت أشياء أريد أن أسأله عنها إن الناس يأبنونا بما ليس عندنا »

65 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن ليث عن مجاهد « أن عمر نهى عن المكايلة يعني المقايسة »

66 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الأعمش عن الحسن قال: « إن لنا كتبا نتعاهدها »

67 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق قال كنا عند عبد الله جلوسا وهو مضطجع بيننا نراه فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصا عند أبواب كندة يزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام فقال عبد الله وجلس وهو غضبان: « يأيها الناس اتقوا الله فمن علم منكم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل الله أعلم فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين »

68 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسحاق بن سليمان الرازي قال سمعت أبا جعفر يذكر عن الربيع بن أنس قال: « مكتوب في الكتاب الأول بن آدم علم مجانا كما علمت مجانا »

69 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن مجاهد قال: « ذهب العلماء فلم يبق إلا المتكلمون وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم »

70 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الوليد بن مسلم قال سمعت الأوزاعي قال سمعت بلال بن سعد يقول: « عالمكم جاهل وزاهدكم راغب وعابدكم مقصر »

71 - حدثنا عبد الله ثنا أبو خيثمة ثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن أبو يحيى ثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: « تذاكروا الحديث فإن حياته ذكره »

72 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن فضيل ثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: « إحياء الحديث مذاكرته فذاكروه » قال فقال عبد الله بن شداد: يرحمك الله كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات.

73 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء قال: « كنا نجمع الصبيان فنحدثهم »

74 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن فضيل عن عطاء عن أبي البختري عن حذيفة قال: « إن أصحابي تعلموا الخير وأنا أتعلم الشر قيل وما يحملك على هذا قال إنه من تعلم مكان الشر يتقه »

75 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا موسى بن علي عن أبيه قال: « كان زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شيء قال آلله لكان هذا؟ فإن قال نعم تكلم فيه وإلا لم يتكلم »

76 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن عن سفيان عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي عن مسروق قال: « سألت أبي بن كعب عن شيء فقال أكان بعد؟ قلت لا قال فأجمنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا »

77 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: « كره رسول الله ﷺ المسائل وعابها »

78 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن ثنا سفيان عن زبيد قال: « ما سألت إبراهيم عن شيء قط إلا رأيت فيه الكراهية »

79 - حدثنا أبو خيثمة ثنا هشيم ثنا حجاج عن عطاء وابن أبي ليلي عن عطاء قال: « كنا نكون عند جابر بن عبد الله فيحدثنا فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه فكان أبو الزبير من أحفظنا للحديث »

80 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان قال: « صلينا يوما خلف أبي ظبيان صلاة الأولى ونحن شباب كلنا من الحي إلا المؤذن فإنه شيخ فلما سلم التفت إلينا ثم جعل يسأل الشباب من أنت من أنت فلما سألهم قال إنه لم يبعث نبي إلا وهو شاب ولم يؤت العلم خير منه وهو شاب »

81 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: « ما أوتي شيء إلى شيء أزين من الحلم إلى علم »

82 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: « كان يقول أدنوا يا بني فروخ فلو كان العلم معلقا بالثريا لكان فيكم من يتناوله »

83 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن سهيل قال: كان أبو هريرة إذا نظر إلى أبي صالح قال « ما كان على هذا أن يكون من بني عبد مناف »

84 - حدثنا أبو خيثمة ثنا يحيى بن يمان عن الأعمش عن أبي صالح قال: « ما كنت أتمنى من الدنيا إلا ثوبين أبيضين أجالس فيهما أبا هريرة »

85 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير قال قال قابوس عن أبيه عن بن عباس في قوله كونوا قوامين بالقسط شهداء - إلى قوله - فإن الله كان بما تعلمون خبيرا، قال: « الرجلان يقعدان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه إلى أحد الرجلين على الأخر »

86 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن قابوس عن بن عباس قال: « قال موسى حين كلم ربه رب أي عبادك أحب إليك قال أكثرهم لي ذكرا قال رب أي عبادك أحكم قال الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس قال رب أي عبادك أغنى قال الراضي بما أعطيته »

87 - حدثنا أبو خيثمة ثنا بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: « كان بن عباس يسأل عن الشيء فيقول إن هذا لفي الزبر الأولى »

88 - حدثنا أبو خيثمة ثنا حفص بن غياث ثنا عاصم عن أبي عثمان قال قلت له: إنك تحدثنا بالحديث فربما حدثتناه كذلك وربما نقصت قال: « عليكم بالسماع الأول »

89 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الله بن إدريس ثنا ليث عن عدي بن عدي عن الصنابحي عن معاذ قال: « لا تزول قدم بن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وعن علمه ما عمل فيه »

90 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الفضل بن دكين أنا سفيان عن يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم بن محمد قال: « لأن يعيش الرجل جاهلا خير له من أن يفتي بما لا يعلم »

91 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: « كان يقال أزهد الناس في عالم أهله »

92 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش قال قال لي مجاهد: « لو كنت أطيق المشي لجئتك »

93 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل عن بن عون أن محمدا كره كتاب الأحاديث في الأرضين.

94 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عباد بن العوام عن الشيباني عن الشعبي قال: « كان يؤخذ العلم عن ستة من أصحاب رسول الله ﷺ فكان عمر وعبد الله وزيد يشبه علمهم بعضهم بعضا وكان يقتبس بعضهم من بعض وكان علي وأبي والاشعري يشبه علمهم بعضهم بعضا وكان يقتبس بعضهم من بعض قال فقلت له وكان الأشعري إلى هؤلاء قال كان أحد الفقهاء »

95 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري عن أبي نضرة قال: « قلت لأبي سعيد إنك تحدثنا أحاديث معجبة وإنا نخاف أن نزيد أو تنقص فلو اكتتبناه قال لن نكتبكم ولن نجعله قرآنا ولكن احفظوا عنا كما حفظنا »

96 - حدثنا أبو خيثمة ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن الأعرج قال سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ﷺ والله الموعد، كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله ﷺ على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالاسواق وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم فقال رسول الله ﷺ: « من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئا سمعه مني فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه ثم ضممتها إلي فما نسيت شيئا سمعته بعد »

97 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال قال رجل لمطرف: أفضل من القرآن تريدون؟ قال: لا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا.

98 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن ثنا أبو خلدة قال سمعت أبا علية يقول: حدث القوم ما حملوا، قال قلت ما حملوا؟ قال: ما نشطوا.

99 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن عن شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت أبا الأحوص يقول: « كان عبد الله يقول لا تملوا الناس »

100 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن ثنا شريك عن سماك عن جابر بن سمرة قال: « كنا إذا انتهينا إلى النبي ﷺ جلس أحدنا حيث ينتهي »

101 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عمرو بن شعيب قال: « كان النبي ﷺ يكره أن يوطأ عقبه ولكن عن يمين وشمال »

102 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن عطاء بن السائب قال: « كان أبو عبد الرحمن يكره أن يسأل وهو يمشي »

103 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن عن عبد الله بن المبارك عن رياح بن زيد عن رجل عن بن منبه قال: « إن للعلم طغيانا كطغيان المال »

104 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معن بن عيسى ثنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن وائلة قال: « إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم »

105 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معن ثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي الدرداء « قال كان إذا حدث بالحديث عن رسول الله ﷺ قال اللهم إلا هكذا أو كشكله »

106 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معن ثنا أبو أويس بن عم مالك بن أنس قال سمعت الزهري يقول: « إذا أصبت المعنى فلا بأس »

107 - حدثنا أبو خيثمة ثنا حجاج بن محمد عن بن جريج أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة والناس يسألونه يقول: « لولا آية أنزلت في سورة البقرة لما أخبرت بشيء فلولا أنه قال إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون »

108 - حدثنا أبو خيثمة ثنا بن فضيل عن أبيه قال: « كنا نجلس أنا وابن شبرمة والحارث العكلي والمغيرة والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر »

109 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن عبد الله بن يزيد يعني الصهباني عن كميل بن زياد عن عبد الله قال: « إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وإن بعدكم زمانا كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل »

110 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن مجاهد قال: « لا بأس بالسمر في الفقه »

111 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن الحسن بن عمرو وعن إبراهيم النخعي قال: « من طلب شيئا من العلم يبتغي به الله تعالى آتاه الله تعالى به ما يكفيه »

112 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن أبي يزيد المرادي قال: « لما حضر عبيدة الموت دعا بكتبه فمحاها »

113 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن بن عبد الله قال قال عبد الله « رحم الله من سمع منا حديثا فرواه كما سمعه فإنه رب محدث أوعى من سامع »

114 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير بن عبد الملك بن عمير بن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: « العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه »

115 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزعراء عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: « إن أحدا لا يولد عالما والعلم بالتعلم »

116 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن أبي سنان عن سهل الفزاري قال قال عبد الله « اغد عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكونن الرابع فتهلك »

117 - حدثنا أبو خيثمة ثنا يحيى بن سعيد عن عثمان بن غياث عن أبي السليل قال: « كان الرجل من أصحاب النبي ﷺ يحدث الناس فيكثر عليه فيصعد فوق بيت فيحدثهم »

118 - حدثنا أبو خيثمة عن يحيى بن عمير قال سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال: « يرفع العلم ويظهر الجهل ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل »

119 - حدثنا أبو خيثمة نا روح بن عباد نا الربيع عن الحسن قال: « أفضل العلم الورع والتفكر »

120 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة بن عبد الله قال كان أنس يقول لبنيه: « يا بني قيدوا العلم بالكتاب »

121 - حدثنا أبو خيثمة نا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ « إن الله لا يقبض العلم إنتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا »

122 - حدثنا أبو خيثمة ثنا يعقوب نا أبي عن صالح قال قال بن شهاب ولكن عروة يحدث عن حمران أنه قال يوما فلما توضأ عثمان قال: والله لاحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكموه إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يتوضأ رجل فيحسن الوضوء ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي يصليها » قال عروة الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

123 - حدثنا أبو خيثمة ثنا حجاج بن محمد عن شعبة عن الهيثم عن عاصم بن ضمرة « أنه رأى أناسا يتبعون سعيد بن جبير فنهاهم وقال إن صنيعكم هذا مذلة للتابع وفتنة للمتبوع »

124 - ثنا أبو خيثمة ثنا حجاج بن محمد ثنا يونس عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي هريرة قال: « إن الله وملائكته يصلون على أبي هريرة وجلسائه »

125 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن حبيب بن الشهيد عن بن طاوس عن أبيه قال قال عمر: « إنا لا نحل أن نسأل عما لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن »

126 - أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مهدي بن ميمون عن غيلان قال قلت للحسن: الرجل يحدث بالحديث لا يألوا فيكون فيه الزياده والنقصان قال: ومن يطيق ذلك.

127 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثني عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهبا يقول: « لا يكون البطال من الحكماء ولا يرث الزناة ملكوت السماء »

128 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ثنا عبد الصمد يعني بن معقل قال: قدم عكرمة الجند فأهدى له طاوس نجيبا بستين دينارا فقيل لطاوس ما يصنع هذا العبد بنجيب بستين دينارا قال أتروني لا أشتري علم بن عباس لعبد الله بن طاوس بستين دينارا.

129 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن عن سفيان عن نسير يعني بن دعلوق قال: « كان الربيع بن خيثم إذا أتوه قال أعوذ بالله من شركم »

130 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن أن عليا عليه السلام مر بقاص فقال أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت.

131 - حدثنا أبو خيثمة نا قبيصة بن عقبة قال سفيان بن سعيد ثنا عن أبي حصين قال: أتيت إبراهيم أسأله عن مسألة فقال: « ما كان بيني وبينك أحد تسأله غيري »

132 - حدثنا أبو خيثمة نا يزيد بن هارون أنا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال قال عبد الله « إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها »

133 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا محمد بن عمرو بن علقمة ثنا أبو سلمة عن بن عباس قال: « وجدت عامة علم رسول الله ﷺ عند هذا الحي من الأنصار إن كنت لأقيل عند باب أحدهم ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه »

134 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن عبد الله ثنا بن عون قال: « كان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حيوة يحدثون الحديث على حروفه وكان الحسن وإبراهيم والشعبي يحدثون بالمعاني »

135 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا بن عون قال: دخلت على إبراهيم فدخل علينا حماد فجعل يسأله ومعه أطراف قال فقال ما هذا قال إنما هي أطراف قال ألم أنه عن هذا.

136 - عن جرير عن منصور عن إبراهيم قال: « لا بأس بكتاب الأطراف »

137 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معاذ نا عمران عن أبي مجلز عن بشير بن نهيك قال: « كنت أكتب الحديث عن أبي هريرة فلما أردت أن أفارقه أتيته بالكتاب فقلت هذا سمعته منك قال نعم »

138 - حدثنا أبو خيثمة ثنا معاذ نا أشعث عن الحسن قال قال رسول الله ﷺ « من الصدقة أن يعلم الرجل العلم فيعمل به ويعلمه » قال الأشعث ألا ترى أنه بدأ بالعلم قبل العمل.

139 - حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال سمعت القاسم بن محمد يقول: « إنكم تسألونا عما لا نعلم والله لو علمناه ما كتمناه ولا استحللنا كتمانه »

140 - حدثنا أبو خيثمة ثنا محمد بن مصعب ثنا الأوزاعي عن أبي كثير قال سمعت أبا هريرة يقول: « إن أبا هريرة لا يكتم ولا يكتب »

141 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن ليث عن مجاهد عن بن عباس أحسبه رفعه إلى النبي ﷺ قال: « منهومان لا يقضي واحد منهم نهمته منهوم في طلب العلم لا يقضي نهمته ومنهوم في طلب الدنيا لا يقضي نهمته »

142 - حدثنا أبو خيثمه ثنا جرير عن ليث عن عطاء قال قال أبو هريرة: « من كتم علما ينتفع به ألجم بلجام من نار »

143 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن ليث عن يحيى عن علي قال: « ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يرخص للمرء في معاصي الله ولا يدع القرآن رغبه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا خير في علم لا فقه فيه ولا خير في قراءة لا تدبر معها »

144 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن ليث عن مجاهد عن بن عمر قال: « يا أيها الناس لا تسألوا عما لم يكن فإن عمر كان يلعن أو يسب من يسأل عما لم يكن »

145 - حدثنا أبو خيثمة ثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن حبيب بن أبي ثابت قال: « من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعا ولا يخص أحدا دون أحد »

146 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن أبي كيران قال سمعت الشعبي قال: « إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في الحائط »

147 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع ثنا أبي عن عبد الله بن حنش قال: « لقد رأيتهم يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء »

148 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن بن عباس قال: « قيدوا العلم بالكتاب، من يشتري مني علما بدرهم »

149 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع حدثني المنذر بن ثعلبة عن علباء قال قال علي عليه السلام: من يشتري مني علما بدرهم؟ قال أبو خيثمة: يقول يشتري صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم.

150 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن بن عون عن محمد قال: « قلت لعبيدة أكتب ما سمعت قال لا قلت إن وجدت كتابا أقرؤه قال لا »

151 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن شريك قال سمعت شيخا فحليته فقالوا ذاك أبو ضمرة قال رأيت حمادا يكتب عند إبراهيم عليه كساء له أنبجاني وهو يقول: « والله ما نريد به دنيا »

152 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع ثنا الحكم بن عطية عن بن سيرين قال: « كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها »

153 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة قال: كتبت عن أبي كتابا فظهر علي فأمر بمركن فقال بكتبي فيها فغسلها.

154 - حدثنا أبو خيثمة ثنا وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز عن بشير بن نهيك قال: كتبت عن أبي هريرة كتابا فلما أردت أفارقه قلت يا أبا هريرة إني كتبت عنك كتابا فأرويه عنك قال نعم اروه عني.

155 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال قال عبد الله « إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في ذوي أسنانكم فإذا كان العلم في الشباب أنف ذو السن أن يتعلم من الشباب »

156 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الفضل بن دكين نا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: « ما سمعته وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة »

157 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عبد الله بن عبيد قال: « العلم ضالة المؤمن كلما أصاب منه شيئا حواه وابتغى ضالة أخرى »

158 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال: « كانوا يكرهون أن توطأ أعقابهم »

159 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال: « كانوا يجلسون ويتذاكرون العلم والخير ثم يتفرقون لا يستغفر بعضهم لبعض ولا يقول يا فلان ادع لي »

160 - حدثنا أبو خيثمة ثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: « كانوا يكرهون الكتاب »

161 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال: « لا بأس بكتاب الأطراف »

162 - حدثنا أبو خيثمة ثنا الحسن بن موسى ثنا بن لهيعة ثنا دراج عن بن حجيرة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ « مثل الذي يعلم العلم ولا يحدث به كمثل رجل رزقه الله مالا فلم ينفق منه »

163 - حدثنا أبو خيثمة ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: « اطلبوا ذكر الحديث لا يدرس »

164 - حدثكم أبي حفص إبراهيم الكتاني المقرئ ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ثنا محمد خلف بن هشام البزار ومنصور بن أبي مزاحم ومحمد بن سليمان الأسدي قالوا ثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس قال: « دخل النبي ﷺ مكة وعلى رأسه المغفر فلما نزعه قيل هذا بن خطل متعلق بأستار الكعبة قال اقتلوه »

165 - حدثنا عبد الله ثنا أبو نصر التمار ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله ﷺ كان يقول: « اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يرفع وقلب لا يخشع وقول لا يسمع »

166 - حدثنا عبد الله ثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن عائشة قالت « كان النبي ﷺ يخرج إلى صلاة الفجر ورأسه يقطر من جماع لا احتلام ثم يصوم »

167 - حدثنا عبد الله ثنا سريج بن يونس ثنا هشيم ثنا حميد عن أنس قال قال ﷺ « لا يتمنى أحدكم الموت فإن أحدكم لا يزداد كل يوم إلا خيرا »

168 - حدثنا عبد الله البغوي ثنا أبو عمران الوركاني ثنا سعيد بن ميسرة البكري عن أنس بن مالك قال: « كان النبي ﷺ إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا »

هامش

أي في تفسير { واجعلنا للمتقين إماما }

في تفسير قوله.

== شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل

شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل-أبو حامد الغزالي 

بسم الله الرحمن الرحيم (وبه استعين) [3 - أ] الحمد لله المسبح بالغدو والآصال، المقدس عن مضاهاة الأمثال، الموصوف بالجمال والجلال، خالق الإنسان من الطين اللازب والصلصال، ومدبر الخلق بين دوري الأدبار والإقبال، وطوري الهداية والضلال، فـ «من يهد [الله] فماله من مضل». و «من يضال [الله] فماله من والٍ». والصلاة على محمد [رسوله] المصطفى وعلى آله خير آل. أما بعد: فإن إلحاحك -إيها المسترشد -في اقتراحك، ولجاجك في إظهار احتياجك، إلى «شفاء الغليل»، في بيان مسالك التعليل: من

المناسب والمؤثر والشبه والطرد والمخيل -صرم لجاجي في التسويف والتساهل، وحل [عقدة] عزمي في المماطلة والتكاسل، فانجررت إلى تحقيق أربك، واستخرت الله تعالى في إسعافك بمطلبك، وأتيت فيه بالعجب العجاب، ولباب الألباب، وكشفت عن وجوه أسراره غمة الحجاب، وقشعت عن مغمضاته غواشي الارتياب. وأنا أنبهك -أيها المسترشد -على شاكلة الصواب، قبل أن أخوض بك في غمرة الكتاب، وأقدم إليك نصيحة مشوبة بخشونة؛

فلا يزوينك عنها مرارة مذاقها، وخشونة ملمسها فنصيحة في تخشين خير من خديعة في لين. وهي: أن هذا الكتاب لن يسمح بمضمون أسراره على مطالع، ولن يجود بمخزون أعواده على مراجع؛ إلا بعد استجماع شرائط أربع: الشريطة الأولى: كمال آلة الدرك: من وفور العقل، وصفاء الذهن، وصحة الغريزة، واتقاد القريحة، وحدة الخاطر، وجودة الذكاء والفطنة. فأما الجاهل البليد، فهو عن مقصد هذا الكتاب بعيد. وهذه شريطة غريزية، وقضية جبلية، وهي من الله تعالى تحفة وهدية، ونعمة وعطية، لا تنال ببذل الجهد والاكتساب، وتنبتر دون دركها وسائل الأسباب. الشريطة الثانية: استكداد الفهم، والاقتراح على القريحة،

[واستعمال الفكر]، واستثمار العقل بتحديق بصيرته إلى صواب الغوامض: بطول التأمل، وإمعان النظر، والمواظبة على المراجعة، والمثابرة على المطالعة، والاستعانة بالخلوة وفراغ البال، والاعتزال عن مزدحم الأشغال. فأما من سولت له نفسه درك البغية بمجرد المشامة والمطالعة: معتلاً بالنظر الأول والخاطر السابق، والفكرة الأولى، مع تقسيم الخواطر، واضطراب الفكر، والتساهل في البحث والتنقير، والانفكاك عن الجد والتشمير -فاحكم عليه بأنه مغرور مغبون، وأخلق به أن يكون من ((الذين لا يعلمون الكتاب إلى أماني وإن هم إلا يظنون)). فصاحب هذه الحالة سيحكم -لا محالة -على لفظ الكتاب بالإخلال: متى استغلق عليه، وعلى معناه بالاختلال: متى لم يبث أسراره إليه.

وكم من عائب قولاً سليماً ... وآفته من الفهم السقيم الشريطة الثالثة: الانفكاك عن داعية العناد، وضراوة الاعتياد، وحلاوة المألوف من الاعتقاد، فالضراوة بالعادة، مخيلة البلادة؛ والشغف بالعناد، مجلبة الفساد؛ والجمود على تقليد الاعتقاد، مدفعة الرشاد. فمن ألف فنا، علما كان أو ظنا: نفر عن نقيضه طبعه، وتجافى عنه سمعه، فلا يزيده دعاؤك إلا فراراً أو نفارا، ولا يفيده ترغيبك إلا إصرارا واستكباراً:

ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ ... يجد مراً به الماء الزلالا الشريطة الرابعة: أن يكون التعريج على مطالعة هذا الكتاب، مسبوقاً بالارتياض بمجاري كلام الفقهاء في مناظراتهم، ومراقي نظرهم في مباحثاتهم، محيطاً بجليات كلام الأصوليين، محتوياً على أطراف هذا العلم، خبيراً بمنهاج الحجاج، كثير الدربة والمران بمصنفات أهل الزمان، متعطشاً إلى درك أسرارٍ شذت عن المصنفات، متشوقاً إلى الإطلاع على حقائق أخفاها عن بني الدهر طارق الآفات. فإني سقت الكلام في هذا الكتاب، على نهاية الانقباض عن التعرض لما اشتمل عليه كتاب «المنخول، من تعليق الأصول»، مع أنه النهاية في الوفاء بطريقة إمامي فخر الإسلام: إمام الحرمين، قدس الله

روحه. وأنحيت على تقرير أمور خلت عنها هذه الطريقة، وقد أحوج إلى استقصائها كلماتٌ تداولتها ألسنة المتلقفين من كتب القاضي أبي زيد الدبوسي رحمه الله، فغلبت على كلام الخصوم في مجاري الجدال والخصام، وقد انسدل على وجهها جلباب من التعقيد والإبهام، فأورث ذلك على المعترضين خبطاً في الكلام. فوقع الكشف عن عوارها، والتنبيه على غوائلها وأغوارها -من الكتاب - بعض المقصد والمرام. * * *

ولقد أتيت فيه باليد البيضاء، والمحجة الغراء، والحجة الزهراء؛ وسيعترف لي به من له [؟ لم] تحركه رذالة الحسد إلى الطعن والإزراء. ولست تعدم -أيها المسترشد -رهطا يستجمعون الشرائط التي قدمتها، ويستخرجون من هذا الكتاب الأسرار التي إياه ضمنتها وأودعتها، ثم يقابلونه بالجحود، والكتمان والكنود، ويستدرون فوائده باطنا وهم في الظاهر يذمون، و ((إن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)). والمعجب بنفسه إذا لاح له الحق [لا يزداد] ما استطاع في غلوائه إلا غلواً. ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً)): يذمون دنيا لا يريحون درها ... فلم أر كالدنيا: تذم وتحلب

فلا يخذلنك -أيها الطالب - خذلانهم، ولا يغرنك جحودهم وكتمانهم: فالدر الأزهر، والياقوت الأحمر، والزبر جد الأخضر، والمسك الأذفر؛ لا يخشى على أسواقها الكساد، بتهجينات] 4 - أ [الحساد. فنسترزق الله الهدى لسبل الرشاد والسداد، ونعوذ به من دواعي الضلال والعناد. وها أنا أفصل لك من مضمون هذا الكتاب تراجمه، ومن مقاصده معاقده ومناظمه. ولقد قدمت لك مقدمة في صدر الكتاب، على نهاية الإيجاز، في بيان معاني القياس والعلة والدلالة. ثم قسمت مقصود كتاب القياس إلى خمسة أركان: الركن الأول: في طرق إثبات علة الأصل. الركن الثاني: في العلة. الركن الثالث: في الحكم. الركن الرابع: في الأصل الذي عليه القياس. الركن الخامس: في الفرع الملحق بالأصل. فأما الركن الأول: فقد نصلت فيه طرق إثبات العلة: بالتنصيص والتنبيه والإيماء، على نهاية الاستقصاء. ثم ذكرت بعده إثبات العلة، بالتأثير، وذكرت معنى المؤثر.

ثم ذكرت [بعده] إثبات العلة: بالمناسبة، وذكرت معنى «المناسب» وحده وأقسامه، وخيال الفرق بينه وبين المؤثر. وأردفته بيان الاستدال المرسل، وكثفت الغطاء فيه بتكثير الأمثلة. ثم ذكرت طريق إثبات العلة: بالاطراد والانعكاس. ثم انحدرت منه إلى بيان «الشبه» وطريق إثباته. ثم نزلت منه إلى بيان «الطرد» وما يتعلق [منه] بالجدال، وما يرتبط بالاجتهاد. ونبهت على غلطات بني الزمان في الفرق بين الشبه والطرد. ثم أتبعت ذلك بباب في بيان ما تعدد العامة من الشبه وليس منه. وذكرت في هذا الباب تفصيل القول في الشبه في جزاء الصيد، والفرق بينه وبين الشبه المعروف في لسان الفقهاء. وذكرت كيفية النظر في التغليب عند ازدحام مناطين للحكم، أو عند تركب المسئلة من شائبتي مناطين متعددين. وأظهرت وجه لفرق بين الجنسين، ووجه انقطاعهما عن قياس الشبه. واختتمت الباب بيان فن من التصرف، عبرت عنه: بتنقيح مناط الحكم. وذكرت في الباب الأخير أشكال المقاييس، وانقسامها

إلى برهان الاعتلال، وبرهان الخلف، وبرهان الاستدلال. وبينت انحصار طرق الأدلة في الاستدلال بالخاصية والنتيجة والنظير. ورددت برهان الاعتلال -على انتشار أقسامه -إلى مقدمتين ونتيجة، و [بينت] أن النزاع إما أن يقع في المقدمة الأولى، وإما أن يقع في الثانية؛ وأنه إن وقع في الأولى: لم يقع الدليل عليه إلا شرعيا، وإن وقع في الثانية: أمكن أن يكون [الدليل] شرعياً عقلياً ولغوياً. وأما الركن الثاني في العلة، [فقد] ذكرت فيه وجه إضافة الحكم إلى العلة، فأفضى سياق الكلام إلى استقصاء مسئلة تخصيص العلة،

ومسئلة الجمع بين العلتين لحكم واحد، ومسئلة العلة القاصرة، ومسئلة تعليل الحكم في محل النص بالعلة. واختتمت هذا الركن ببيان الفرق بين العلة والمحل، وخرجت] 4 - ب [عليه مسئلة شريك الأب، وشراء القريب، ورجوع شهود الإحصان مع شهود الرجم، وتقديم الكفارة على الحنث، واختصاص المردي عن الحافر بالضمان، وتعليق الطلاق بالملك. إلى غير ذلك: من مسائل يتشعب النظر فيها عن هذا الأصل. وأما الركن الثالث -وهو ركن الحكم -[فقد] ذكرت فيه بيان ما يجوز أن يثبت بالقياس: من الأحكام، وما لا يجوز [وأن نصب الأسباب للأحكام أحكام يجوز تعليلها]، على خلاف ما تشبث به المتلقفون عن أبي زيد، فإن ما ذكروه-: من أن الأحكام تناط بالأسباب،

لا بالحكم -لا طائل له. وذكرت فيه طريق الكلام في النفي الأصلي في الأحكام، وأن القول فيه بقياس العلة محال، وأن المسلك فيه محصور في الاستدلال؛ وأن الطريق فيه إما سبر، وإما دلالة، وإما استصحاب. وذكرت طريق الاستصحاب، ووجه التعلق به. وأما الركن الرابع -وهو ركن الأصل -[فقد] ذكرت فيه شرائط الأصل الذي يقاس عليه. وأنه إذا نبت حكمه بالعقل أو اللغة أو القياس: امتنع القياس عليه. وأن الأصل المعدول به عن القياس كيف يقاس عليه. وما معنى قول الفقهاء: «إن هذه المسئلة خارجة عن القياس؟» وأين يجوز أن يدعى ذلك؟ وأين تمتنع هذه الدعوى؟ وأما الركن الخامس -وهو ركن الفرع -[فقد] ذكرت فيه مسئلتين، أحداهما: تقدم الأصل على الفرع كالوضوء مع التيمم. والأخرى: [في] أن شرطه أن لا يكون منصوصاً عليه، وأن قياسنا في كفارة الظهار في شرط الإيمان، وقتل العمد في إيجاب الكفارة -لا يناقض هذا الشرط. وبه وقع اختتام الكتاب. وسميته: شفاء الغليل، في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل. وسأضيف إليه -إن ساعدوني التوفيق -كتاباً على مذاقه: في طرق التخصيص والتأويل.

واقتصرت الآن على مقاصد القياس. وما أخللته من كتاب القياس: مما لم اتعرض له؛ فهو منقسم إلى ما رأيته جليا يستغنى بكتاب المنخول عنه، وإلى ما لا تمس الحاجة إليه في المناظرات إلا نادراً. فقصرت همي على الأغمض، ثم اجتزيت منه بالأهم. وإني لأرجو أن يعم جدواه، وينكشف للطلبة مغزاه، ويفوح

لهم رياه. وآمل من الله غفراناً لا يدرك أقصاه، وعفوا لا ينتهى مداه، إذا عنت الوجوه وخرست الألسن وجفت الشفاه، وخضعت الرقاب، وجحظت الأعين، وسجدت الجباء! فما أحسن عبد بربه ظنه إلا أرضاه، وآتاه سؤله ووفاه، فهو الجواد الكريم الفرد الصميد الإله. * * *

المقدمة المرسومة قبل الأركان الخمس فلابد من ذكر مقدمة في حد القياس وصورته، [وبيان معنى العلة والدلالة]، وبيان قسمته، والتنبيه على مجاري النظر فيه. أما حده، فقد اختلفت فيه الصيغ والعبارات. ولسنا للتطويل في هذا الكتاب، فيما لا يتعلق به كبير فائدة. والعبارة المعرفة للمقصد المطلوب، أن يقال: «القياس: عبارةٌ عن إثبات حكم الأصل في الفرع، لاشتراكهما في علة الحكم».

فهذا القدر كاف في البيان. وإن أردت عبارة محترزة عن الاعتراضات -[التي تهدف الحدود لأمثالها في عبارة المتكلمين وأرباب الصناعات] في الحدود -قلت: هو: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكمٍ أو نفيه، بالاشتراك في صفة أو انتفاء صفة، أو حكم أو انتفاء حكم. فهذا أحوى لجميع أقسام الكلام، وأحصر لجملة الأطراف. وفي الأول غنية عنه: فإنه مفيد للبيان الذي نبغيه، وهو بيان قياس المعنى، إذ هو المشتمل على بيان علة الحكم. فإن أردت أن تضم إليه قياس الشبه والطرد -عدلت إلى العبارة الأخرى: فإن جميع ذلك على شكل القياس وإن كان ينقسم إلى صحيح وفاسد، فإن الفاسد أيضاً قياس. وعلى الجملة [أيضاً] لابد من التسوية بين الشيئين: لتتحقق صورة القياس، فإن مشتق من قول العرب: قاس الشيء بالشيء، إذا حذا به حذوه وسواه عليه، يقال: قاس النعل بالنعل، إذا سواه عليه.

فإن قيل: فهل من فرق بين القياس والعلة؟ قلنا: نعم؛ فإن العلة في تصورها لا تستدعي أصلاً وفرعًا، ولكن إذا ذكرت السبب المؤثر في الحكم، فقد ذكرت [علة الحكم]. والعلة [في الأصل]: عبارة عما يتأثر المحل بوجوده، ولذلك سمي المرض: علة. وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق. نعم: قد يسمى القياس علة، لأنه يشتمل على علة الحكم، وهي الركن الأعظم من مقصود القياس، كما يسمى القياس: نظراً واجتهاداً ودليلاً واعتلالاً؛ لأنه يستدرك بالنظر والاجتهاد، ويدل على الحكم، ويشتمل على ذكر العلة: فيسمى اعتلالاً. وتسمية العلة بمجردها قياساً، لا وجه له. وإن تسامح بعض الفقهاء بإطلاقه، فذلك لتقسيمهم المسائل -في عرفهم - إلى الخبرية والقياسية؛ فما لا يتعلق منه بالخبر تسمى قياسية: لأن الغالب في المسائل التي ليس خبرية، فيعنون بكونه قياسا: أنه ليس خبريا. فإن قيل: فهي من فرق بين الدلالة والعلة؟ قلنا: نعم؛ فكل علة يجوز أن تسمى دلالة، لأنها تدل على الحكم، فالمؤثر أبداً يدل على الأثر. ولا تسمى كل دلالة علة، لأن الدلالة [قد] يعبر بها عن الأمارة التي توجب: فلا تؤثر، فالغيم

الركم دليل على المطر وعلته أيضاً، لأنه يؤثر فيه. والكوكب دليل على القبلة، وليس علة فيها. فما للدلالة حظ في الإيجاب. والعلة موجبة؛ أما العقلية فبذاتها، وأما الشرعية فبجعل الشرع إياها [علة] موجبة، على معنى إضافة الوجوب إليها، كإضافة وجوب القطع إلى السرقة، وإن كنا نعلم أنه إنما يجب بإيجاب الله تعالى؛ ولكن ينبغي أن نفهم الإيجاب كما ورد به الشرع، وقد ورد بأن السرقة توجب القطع، والزنا يوجب الرجم. ففي هذا تفترق الدلالة والعلة. وسنتقصى [وجوه] الدلالات -التي ليست من قبيل الأقيسة، ولا من قبيل العلل -في الباب الثاني [إن شاء الله تعالى].

أما الأمارة، والآية، والبينة، والحجة، والبرهان -فإنها من الأسامي العامة ولا غرض لنا في بيان اشتقاقاتها وحدودها. وإنما [الغرض و] المقصود تمييز العلة عن الدلالة والأمارة. وأما القياس: فإنه مشتمل على العلة، إذا العلة بعض أجزائه، كالبيت: يشتمل على الجدار ويتضمنه. هذا حد القياس وصورته [وما اتصل به: من الفرق بين العلة والدلالة وغيره]. وأما قسمته، فهي -في غرضنا -تنقسم إلى قياس الشبه، وقياس المعنى. والباب معقود لبيان القسمين، وشرائطهما، ووجه الفرق بينهما. والنظر فيهما في خمسة أركان: الأصل، والفرع، والحكم، والوصف الجامع، وطريق معرفة كون الوصف الجامع علة للحكم. لأنا ذكرنا أن القياس عبارة: عن «إثبات حكم الأصل في الفرع، بالاشتراك في علة الحكم» فتعرضنا لهذه الأمور الخمسة. ولابد من استقصاء النظر فيها.

الركن الأول في طريق معرفة كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل حتى يترتب على وجودها الحكم في الفرع فذهب ذاهبون: إلى أن إقامة الدليل على علة الأصل غير واجب. إذ [قد] تحقق صورة القياس بمجرد الجمع؛ والأصل أن كل وصف يذكر في الأصل علة، إلا أن يمنع [منه] مانع. وهذا هذيان لا حاصل له: فإن الأصول تنقسم إلى ما يعلل، وإلى ما لا يعلل. ومع الاتفاق على صحة [تعليل حكم] الأصل، اتفقوا على صحة هذا الانقسام. فيحتمل أن لا يكون الأصل معللاً؛ [وأن كان معللاً: احتمل أن لا يكون معللاً] بهذا الوصف المذكور. فلابد من دليل يميز هذا الوصف عن سائر الأوصاف الموجود في الأصل، لينبني على الاشتراك فيه الاشتراك في الحكم. فإذا تبين أن ذلك لابد منه، فكون الوصف علة لحكم الأصل -يعرف بمسالك: المسلك الأول: النص في جهة الشارع، وذلك: بأن يأتي بصيغة

التعليل، كقوله: العلة كذا، أو الأجل كذا، أو لسبب كذا؛ أو ما يقوم مقامه، ويفيد معناه. فهو صريح في التعليل [به] [وذلك] كقوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، وهذا صريح في التعليل [به]. [و] كقوله عليه السلام في النهي عن لحوم الأضاحي: «إنما نهيتكم لأجل الدافة» وكقوله عليه السلام في الأعرابي المحرم الذي وقصت به راحلته: لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» وهو صريح في التعليل، ولذلك] 6 - أ [نطرده في كل محرم سوى ذلك الأعرابي. ويبطل قول أبي حنيفة رحمه الله: إن ذلك [كان] من

خصائص [ذلك] الأعرابي، إذ اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حاله، على ما أخبر عنه، لنوع ورع وفضيلة اختصت به. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ إذ التخمير والتطييب مأمور به في حق الموتى، ومنهى عنه في حق المحرمين. والذي يسبق إلى الأفهام، أن الموت قاطع للإحرام، وإذا انتفى الإحرام رجع التخمير إلى الأصل المعهود؛ فنهى عن التخمير، وذكر أن علته بقاء الإحرام بعد الموت، فكان التخمير منهيا عنه: لبقاء علته؛ وعرف بقاء العلة [بقوله عليه السلام]: فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا» فإن [الإحرام باق بعد الموت شرعا. وعرف به أيضاً أنه] علل النهي ببقاء الإحرام، ونزل ذلك منزلة قوله -عليه السلام -في الشهداء: «زملوهم بكلومهم

ودمائهم، فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما» فبين أن أثر الشهادة يبقى بعد الموت، وأن المنع من الغسل معلل بتضمنه إبطال أثر الشهادة. وهذا القدر كاف في هذا القسم، فإن صرائح التعليل ليست مما يخفى. ولما كانت العلة الشرعية معلومة بالشرع، ولم تنحصر الطرق الشرعية في البيان والتعريف على النصوص -بل من طرق التنبيهات، ومن طرقه الاستنباط والنظر -: جاز أن يعرف كون الشيء علة بتعريف الشرع بألفاظ وأفعال هي منبهة على العلة وإن لم يكن صريحا [به] وجاز أن يعرف بطرق النظر والاستنباط، كما أن الأحكام في أنفسها لما كانت شرعية: جاز معرفتها بجميع هذه الطرق، فنصب الشيء علة حكم من جهة الشرع، كما أن إثبات الحرمة والحل في فعل من الأفعال حكم [من جهة الشرع] فجاز أن تعرف بكل طريق تعرف به الأحكام. * * *

المسلك الثاني: في إثبات العلل بالتنبيهات من [جهة] الشارع، ووجوهها مختلفة ومراتبها في إفادة الظن متقاربة، وإن كانت لا تنفك عن ضروب من التفاوت في الخفاء والجلاء؛ وهي أنواع: النوع الأول منها: أن يرتب الحكم على الفعل بفاء التعقيب والتسبيب؛ فهو تنبيه على تعليل الحكم بالفعل الذي رتب عليه. كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وكقوله جل من قائل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطع أن يمل هو فليممل وليه العدل} وقوله عليه السلام: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»، وقوله تعالى {ومن لم يستطع منكم

طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم] 6 - ب [المؤمنات}، وقوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فيتمموا} وقوله عليه السلام: «ملكت نفسك فاختاري» وقوله: «لعن الله اليهود: حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها». فدل ذلك على أن القطع معلل بالسرقة، وأنها سببه. وأن سبب الوضوء الصلاة. وسبب تكفل الولي بإملاء الحق ضعف المولى عليه وسفهه وعجزه. وسبب ملك الموات الأحياء. وسبب إباحة نكاح الإماء العجز. وسبب جواز التيمم فقد الماء. [وسبب التخيير العتق. وسبب اللعنة أكلهم أثمان الشحوم].

فكل ذلك تبنيه على إضافة الأحكام إلى الأسباب، ونصب الأسباب عللاً فيها، حتى يقال: تكفل الولي بالإملاء وإن ورد فيه التداين، فالحكم غير مقصور على التداين، بل يجرى في سائر التصرفات المتعللقة بالمصلحة، لتعدي العلة في أمثال ذلك. ومن هذا القسم: دخول الفاء في كلام الراوي، كقوله: «زنا ماعز فرجم» و «سها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فسجد»، و «رضخ يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه».

تدل هذه الصيغة من الراوي، على أنه فهم الحكم، وفهم سببه أيضاً. ولو لم يفهم كون الرجم موجب الزنا، وكون السجود موجب السهو، وكون الرضخ موجب الرضخ -: لما جاز له أن يروى على هذا الوجه، ولكان كلامه كقوله: أكل ماعز فرجم، وقام النبي عليه السلام في الصلاة فسجد. فإذا قيل له: كيف ذلك؟ قال: «أكل ماعز فرجم لا لأجل الأكل، ولكن لأجل الزنا. وسجد لا لأجل القيام، ولكن لأجل السهو. ولكن جرى الرجم والسجود عقيب الأكل والقيام، كما جرى عقيب الزنا والسهو». فقال: هذا من هجر الكلام وألغازه. فالصيغة المذكورة موضوعة للتنبيه على التعليل، فاستعمالها لإرادة الجريان عقيبها من غير تعليل -خبط من الكلام لا يصدر إلا من [غرٍ] غبيٍ، أو ممن يؤتى عن حصرٍ وعيٍ. فإن قيل: بم تنكرون على من يقول: مستند معرفة العلل المناسبة والإخالة والإشعار المعنوي، دون التنبيه اللفظي؛ وهذه الأسباب التي ذكرتموها جميعها مناسب لمسبباتها، ففهم التعليل لذلك، لا للتنبيه من جهة اللفظ؟

قلنا: ليس الأمر كذلك. فإن هذه الصيغ للتعليل بالأسباب المذكورة وإن كانت الأسباب لا تخيل، وهذا كقوله عليه السلام: «من مس ذكره فليتوضأ» [فهو] تنبيه على تعليل الوضوء بالمس ونصبه سبباً فيه، وإن كان لا يخيل. وكذلك إذا قال: من أكل شيئًا مما مسته النار فليتوضأ»، و «من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ». فكل ذلك لا مناسبة فيه: فإن الأكل والمس لا ينبئان عن الوضوء؛ بل خروج المذي من المنفذ لا يناسب غسل الوجه واليدين، فإنه غسل في غير محل النجاسة؛ ويفهم بالصيغة -من حيث التنبيه -

جعله إياه سبباً. وإن أردنا أن نبعد في التصوير، حتى لا يتشوف موسوس في الفكرة إلى تكللف استنباط مناسبة من هذه الصور، فلو قال: من مس ثوباً أو جداراً أو حجراً فليتوضأ، لفهم من السببية كما يفهم من هذه الصور. فدل أن الصيغة بوضع اللغة منبهة على التعليل، دون المناسبة. ولسنا ننكر أنها إذا كانت مناسبة: كان ذلك أظهر في الظن، وأسبق إلى الفهم، وأجدر باجتلاب طمأنينة النفس. ولكن أصل التعليل لابد من فهمه. النوع الثاني: أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمراً حادثاً، فيحكم عقيبه بحكم. فجريان الحكم عقيبه وجودا، كالترتيب عليه بفاء التعقيب. ومثاله: أن يقول له واحد: أفطرت يا رسول الله، فيقول عليه السلام: عليك كفارة. فذكر الكفارة عقيب معرفته بالإفطار بإخباره: تنبيه على أن علة الكفارة هو الإفطار. وقد قال الأعرابي: «[يا رسول الله] هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان». فقال [له النبي]

عليه السلام: «أعتق رقبة» ففهم منه أنه واجب بالوقاع. وهذا مرتبته دون المرتبة السابقة، إذ لا يفهم التعليل في هذا المقام إلا إذا عرف أنه أجاب به عن سؤاله، وأنه لم يذكر ذلك ابتدأ بعد الإعراض عن كلامه .. إذ الغلام المنصوب لا سراج الدابة قد يقول لسيده: دخل فلان، فيقول السيد: أسرج الدابة، أي اشتغل بشغلك، فمالك وذكر ما لا فائدة لك في ذكره، وليس هو من شغلك؟ وذلك يفهم منه بقرينة الحال. فبقرينة الحال يعلم أن المذكور مسبب ما ذكره المبتدى. وقد تكون المناسبة فيه قرينة ظاهرة. وفي هذا، يفارق ذكر الحكم مرتباً على الفعل بفاء التعقيب؛ فإن الفعل المذكور لو لم يكن سبباً: لاختل نظم الكلام؛ وقد انتظم الكلام من [ذكر] الأمرين جميعاً: الفعل والحكم. والمتقاطعات لا يجوز نظمها وترتيبها على هذا الوجه، كما ضربناه: من مثال

الأكل والرجم، والقيام والسجود] 7 - ب [. فأما إذا لم يذكر الشارع إلا أحد القسمين [فقد احتمل أن يكون جواباً]، واحتمل أن يكون ابتداء منقطعاً عن سؤاله. فهذا وجه التفاوت في الرتبة. وهذا كما أن الرجل إذا قال لزوجته: طلقتك على ألف، فقبلت المرأة [ذلك] فقال الرجل: أرددت طلاقاً على غير ألف، ليكون رجعياً: لم يقبل [منه]، لأنه تعطيل لنظم الكلام المصرح به. ولو قالت المرأة: طلقني على ألف، فقال: طلقتك، ثم قال: أرددت بكلامي الابتداء، دون الجواب-: سمع، وكان الطلاق رجعياً: لأنه يحتمله. فإن قيل: إذا احتمل الابتداء واحتمل الجواب، فهو متردد بين التعليل وعدمه. فكيف يجوز التمسك به، ولا يبعد أن يذكر الذاكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإفطار، فلا يجيبه عنه في الحال، ويقول له: كفر، وهو يعني: كفارة وجبت عليه لسبب سابق عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفه المخاطب، وذكر ذلك في معرض الابتداء: تجديدًا لأمر سابق، وابتداء بيان وجوب الكفارة بسبب سابق، اعتماداً -في الاقتصار على قوله كفر -على فهم المخاطب، بقرينة [الحال]، وهذا الاحتمال أيضاً لا يندفع بالمناسبة. فليس كل

ما يذكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -مما ينسب الأحكام -يترتب عليه ما يناسبه. فكم من المناسبات والإخالات [التي] عطلها الشرع، ولم يلتفت إليها، ولم يحكم بموجبها، ولا أقام لها في نظره وزنا؟ قلنا: نعم، المناسبة لا تدفع هذا الاحتمال، ولكنها قد تنتهض قرينة للمشاهد الحاضر. وقد يكون عدم المناسبة معرفاً كونه مبتدئاً غير مجيب، فيبقى قوله: «كفر» في حقه، كما لو ابتدأ بالكلام [و] قال لداخل عليه: كفر؛ فالسامع يعلم أن هذا اعتماداً على فهم المخاطب لأمر سابق. فمن شاهد الحال يحكم عقله وذهنه. وإنما النظر فينا؛ فإنا نعتصم بالمنقول، والقرائن لا تنقل. ومع هذا، يجوز التعلق بمثل هذه الواقعة في التعليل. لأن الراوي شاهد الحال وعرفه؛ فإذا روي لنا: «أن أعرابياً قال: هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال عليه السلام: أعتق رقبة»، فهم من أنه فهم الجواب؛ إذ نقله بهذه الصيغة، وهو: ترتيب كلامه على كلامه بفاء التعقيب.

وإذا قال: «دخل فلان وقال: أفطرت يا رسول الله، فقال عليه السلام: «كفر»؛ أشعر قوله «فقال» إنه قال جواباً فهمه بقرينة الحال، فصار كما لو قال الراوي: «فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «كفر»، ولو نقل صريح الجواب: لفهم التعليل. فإذا قال: «فقال كفر» نبه على أن ما ذكره جواب ولو لم [يكن] جواباً: لكان نظم الكلام من الراوي] 8 - أ [خبطاً؛ كقوله من يقول ابتداء: من أفطر فعليه كفارة؛ ثم قال: لم أرد وجوب الكفارة بالإفطار. فينسب إلى الخبط في الكلام، والعدول عن الطريق الموضوع المتقرر في الأفهام. فإن قيل: فما وجه الإنكار على أبي حنيفة رحمه الله، إذ قال: «الراوي إذا لم يكن فقيهاً، وروى ما يخالف القياس -لم يقبل وإن كان عدلاً» وما ذكرتموه يقرر مذهبه ويوجهه؛ فإن المناسبة -إذا انتهضت -قرينة؛ حتى لم يكن ذكر الكفارة عقيب ذكر السائل حكاية منام -ضرباً للمثل -كذكره عقيب الإفطار الذي هو جناية جدير بأن يمحى

ويكفر، في فهم الحاضر المشاهد. بل إذا جرى عقيب منام حكاه السائل، فهم [أنه ذكره وابتدأ كلاماً]: اعتماداً على معرفة سابقة بينه وبين المخاطب. وإذا كان مناسباً، فهم أنه جواب. فهذا يختص بدركه الفقيه المطلع على المناسبات الشرعية، والمعاني الملائمة لمعتبرات الشرع، والعادات المدركة منه في مصادر أموره وموارده. فأما العامي: فقد ينخدع بخيالٍ يظنه مناسباً، وليس كذلك. فالعدالة لا تعني في هذا المقام، بل لابد من الفقه والعلم ودرك مآخذ الشرع. فإذا نقله العامي، فلينظر: فإن وجد موافقاً لقياس الشرع عمل به؛ لأنه عدل في النقل، وما أدركناه من موافقة القياس [عدلٌ دل على فهمه] أيضاً، وأن ما فهمه كان على وجهه. وإن خالف القياس: ترك عليه، وتطرقت إليه الشبهة؟. قلنا: أبو حنيفة رحمه الله يطرد هذا فيما ينقله الراوي من تمهيدات الشرع وابتداآته، كقوله عليه السلام: «من اشرى مصراة فهو بخير النظرين» إلى آخره. ولا يجري ما ذكره فيه. فإن حفظ الكلام

ونقله على وجهه، لا يفتقر إلا إلى العقل والحفظ والعدالة المانعة من التغيير، فكذلك الجواب والخطاب. وأما ارتباط أحدهما بالآخر فيفهم بالقرائن، ويشترك في دركها كل من له حس سليم، وعقل مستقيم لا خبل ولا عته فيه. ولسنا ننكر مع ذلك تفاوت الناس في درك الأمور؛ ولكن ذلك أمر لا ينضبط؛ فيتطرق إلى العوام فيما يوافق القياس؛ فإنهم يتفاوتون أيضاً في فهمه، وليست القرائن مقصورة على المناسبات. ويتطرق أيضاً إلى الفقهاء فيما ينقلونه على مخالفة القياس. ولذلك قال عليه السلام: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». وقوله عليه السلام، أفقه منه: أشعر بكونه فقيهاً في نفسه، وبين أن المعاني يتفاوت دركها من الألفاظ، بتفاوت الناس في مراتب الفقه، مع الاشتراك في أصل الفقه. والظن بالعدل المتدين أن لا ينقل الشيء إلا كما سمعه، وإن غيره فلا يغيره إلا إذا

كان واثقاً بفهم المعنى. فإن تخيل أنه ربما يثق عند نفسه بفهم المعنى -وكل يعتقد في نفسه غاية الفطنة والذكاء -فهذا الخيار جار في حق الفقهاء؛ ولا سبيل إلى رد أقوالهم بالتهم. فهذا هو الوجه في دفع هذا الخيال. النوع الثالث: أن يذكر الشارع في الحكم وصفاً، ولم يصرح بالتعليل به، ولكن لو قدر ذلك الوصف غير مؤثر في الحكم وغير موجب له: لكان خارجاً عن الإفادة، ولم تظهر لذكر ذلك الوصف فائدة. فيكون ذكر الوصف تنبيهاً على أنه العلة. ولهذا القسم أنواع: أحدها: أن يقع السؤال المذكور في معرض الأشكال بذكر وصف.

كما روي: «أنه [صلى الله عليه وسلم دعي إلى ضيافة فأجاب، ودعي إلى أخرى فأمتنع فروجع في ذلك فقال: إن في تلك الدار كلباً، فقيل له: في تلك الدار هرة، فقال]: إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات». فلم لم يكن للطواف والمخالطة في البيوت تأثير في الحكم، لكن كقوله: إنها ليست صفراء، وما يجري هذا المجرى. وقيل: «إنه قال ذلك لأبي قتادة لما تعجب من إصغائه الإناء لها» [فكان ذكر] هذا الوصف في دفع تعجبه، كذكره في دفع الإشكال.

من هذا القسم: أن يذكر وصفاً في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره، وإن جرى ابتداء. كما روي: «أنه عليه السلام توضأ بنبيذ التمر وقال: تمرةٌ طيبةٌ، وماء طهور». ولو لم يكن ذلك علة مؤثرة في جواز الوضوء الذي صدر منه، لم يكن له فائدة: إذ علم أن أصل النبيذ تمرة طيبة، وماء ظهور. فلم تكن الفائدة في ذكره تعريف عينه، بل هو تعريف كونه علة الجواز. فإن قيل: عندكم أن الحديث صحيح، وإن التوضوء بنبيذ التمر غير جائز [فكيف يجوز التمسك به]؟. قلنا: التوضوء بما توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم جائز، والحديث صحيح، ولكن المراد به: ما نبذ فيه تميرات لاجتذاب

ملوحته، على عادة العرب فيما يعدونه للشراب. فدلت هذه العلة على جواز التوضوء به سفراً وحضراً، وعلى جواز الغسل [به] وإن ورد في الوضوء: لاطراد العلة، إذ لو كان المبيح له هو السفر لما استقام هذا التعليل. ولا يحمل على النبيذ؛ إذ وصفه بهذه الصفة كوصف العصيدة بأنها تمرة طيبة وماء طهور. بل نحمله على ما يتميز فيه التمر بعينه عن الماء، ولم تجر بينهما إلا ملاقاة. ومن هذا القسم: قوله عليه السلام: «لعن الله اليهود: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» نبه على أنه علة اللعن، وتنبهنا به على تحريم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. ولو لم يكن كذلك: لم يكن لذكر اتخاذهم [القبور] مساجد معنىً في هذا المقام. ومن الخيال الباطل، أن يقول القائل: أخبر عن لعنهم وهم ملعونون، ولم يذكر سببه: لأن سببه الكفر؛ وأخبر عن اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. فهما خبران عن مخبرين، لا اتصال لأحدهما بالآخر.

وفساد هذا الخيار غير خاف على ذي بصيرة، إذ فهم [منه] الإنكار عليهم باتخاذهم القبور مساجد، ومستند الفهم اللعن السابق ذكره، ففهم أنهم لعنوا بهذه العلة، وإن لعنوا أيضا بعلة الكفر. ومن هذا القسم، الاستنطاق بوصف مع التقرير عليه. كقوله عليه السلام: «أينقص الرطب إذا جف»؟ فلما قيل: نعم، قال: «فلا إذن». وفيه تنبيه من ثلاثة أوجه، أحدها: بالفاء، إذ قال مرتباً على ما ذكر: فلا [إذن] والآخر بقوله: [لا] إذن فإنه للتعليل. والآخر: بالاستنطاق والتقرير على الوصف المنطقوق به. فلو حذف الفاء وحذف قوله: إذاً، وقال بعد قولهم: «ينقص الرطب»: لا، مقتصراً عليه -كان التنبيه باقياً، إذ لو لم يكن النفي المذكور بقوله: لا، معللاً بالوصف المذكور، لم يكن الاستنطاق [به] فائدة. فقد تراكمت وجوه التنبيهات،

فلأجله ظهر حتى لا يسع خلافه لمنصف عاقل، وترقى في الظهور إلى رتبة التصريح والتنصيص. ومن هذا القسم، أنه يجيب على محل السؤال بذكر نظيره، فيعلم أن وجه التنبيه هو العلة في الحكم، إذ لولاه لم يكن ذكر النظير جواباً. وذلك كقوله عليه السلام لعمر رضوان الله عليه -وقد سأل عن قبلة الصائم -: «أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته»، تنبيهاً على أن القبلة مقدمة قضاء [شهوة الفرج]، وليس فيها قضاء شهوة الفرج، كما أن المضمضة مقدمة قضاء شهوة المعدة [وليس فيها قضاء شهوة المعدة]. فعدم قضاء الشهوة سبب عدم الإفطار، لأن سبب الإفطار قضاء الشهوة، فانتفى الحكم بانتفاء سببه. ففهم على الجملة تأثير الوجه الجامع بين محل السؤال والنظير المذكور في الحكم الواقع على الاشتراك.

[وهذا تنبيه من الشارع -عليه السلام]-على أصل القياس في الشرع. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لامرأة سألته عن الحج عن أبيها: أتجزيه لو أدته. فقال عليه السلام: «أرأيت لو كان على أبيك دينٌ فقضيتيه [أيجزيه ذلك] فقالت: نعم، فقال: «فدين الله أحق بالقضاء». فإن قيل: ألاقيس عليه الصوم والصلاة؛ وكل ذلك دين من جهة الله عز وجل ثابت في الذمة، وقد ظهر علة جواز القضاء بزعمكم، وهو: كونه ديناً؟ قلنا: لأنه شبهه بدين عرف من جهة الشرع تطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أن الحج أيضاً تتطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أن الصوم

والصلاة لا مدخل للنيابة في تبرئة الذمة عنهما؛ فالأدلة المعرفة للجمع والفرق في النيابة تخصص العلة بالحج، وتقطع عنه الصوم والصلاة. وليس في ذلك إبطال العلل. كما أن السرقة خصصت بما فوق النصاب بدليل، ولم يدل ذلك على إبطال العلة. وكذلك كل علة ذكرت في محل واختص المحل بمزيد وصف يؤثر في الحكم، فلا سبيل إلى تعطيل ذلك الوصف. النوع الرابع: أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم، بذكر صفة فاصلة. فهو تبنيه على أن الوصف الفاصل هو الموجب للحكم الذي عرف به المفارقة. وهو ضربان: أحدهما: أن يقتصر في الحال على ذكر أحد القسمين، فيقطعه عن عموم ذكره ومهده. [وهذا] كقوله عليه السلام: «القاتل لا يرث». فإنه

تقرر أن القريب وارث، فإذ أبان أن القاتل لا يرث، علم أن القتل المذكور هو العلة في نفي الإرث، ولولاه لم يكن لإضافة الحكم إليه وتعريف محل الحرمان به، معنى. وليس هذا مأخوذاً من المناسبة. فإنه لو قال: الطويل لا يرث، والأسود لا يرث، لكنا نقول: الطول الفاصل والسواد الفاصل، مناط الفصل، ومتعلق حرمان الميراث. فإن قيل: إذا لم يعقل بين الطول والسواد وبين الحرمان للميراث مناسبة، ولا عرف له تأثير فيه، كيف يقال: إنه علة؟. قلنا: لا سبيل إلى جحد كونه أمارة للحكم ومناطاً له، فإن امتنع ممتنع عن تسميته علة: فلا مشاحة في الاطلاقات؛ والعلل الشرعية أمارات، والمناسب المخيل لا يوجب الحكم بذاته، ولكن يصير موجباً بإيجاب الشرع ونصبه إياه سبباً له. وتأثير الأسباب في اقتضاء الأحكام عرف شرعاً، كما عرف كون مس الذكر وخروج الخارج [من السبيلين] مؤثراً في إيجاب الوضوء وإن كان لا يناسبه، وكما عرف كون القتل والزنا والسرقة أسباباً لأحكامها إلى تناسبها. فإذا كان معرفة الأمارات تنبيهات أو تصريحات: لم يفارق المناسب غير المناسب، إلا أن المناسب أجلى وأسبق إلى الفهم مما لا يناسب.

وقد تكون المناسبة -على تجردها -شرطاً مستقلاً، لكون الحكم المجرد الثابت على وفقها تنبيها على اعتباره والتعليل به -عند فريق من العلماء، دون فريق. فالتنبيه إذا استند إلى مجرد ذكر الحكم، فارق المناسب غير المناسب. فإذا قال الشارع، حرمت عليكم شرب الخمر» فهو تنبيه على أن تحريمه لكونه مسكراً، مزيلاً للعقل: الذي هو ملاك التكليف، ومركب أمانة الشرع، ولا تنبيه على كونه معللاً بحمرتها القانية، ولا برائحتها الفائحة، ولا بتسمية العرب إياها خمراً، لأن هذه الأوصاف لا تناسب، ولا يحصل التنبه عليها بمجرد ذكر الحكم. فهذا مأخذ الفرق لا غير. وكذلك إذا فرق بينهما بذكر الغاية. كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} لو اقتصر عليه. وكذلك قوله جل من قائل: «ولا جنباً إلى عابري سبيل حتى تغتسلوا}. وكقوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} فهذا كله تنبيه على أن ما جعل غاية للحكم مؤثرٌ وسببٌ في ارتباطه. وكذلك ما يجري على صيغة الاستثناء، كقوله سبحانه وتعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم

الأيمان» تنبيه على أن للتعقيد تأثيراً في المؤاخذة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «للراجل سهم، وللفارس سهمان» فهذا يدل على أن المؤثر في التفضيل ما بينهما: من التفرقة. وكذلك لما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بعد العصر والفراغ من فرضه، فقيل له: يا رسول الله، أما كنت نهيتنا عن هذه الصلاة؟ فقال: «هما ركعتان كنت أؤديهما [بعد الظهر] فشغلني عنهما الوفد». [فعلم أنه] ذكره في معرض الفرق بينه وبين

المنهي عنه. فما وقع به التفرقة علة، وهو استنادها إلى سبب أو إلى فوات. فعلم أن كل ما له سبب خارجٌ عن النهي. وليس لقائل أن يدعي اختصاص الاستثناء بركعتي الظهر، إذ شغله عنهما الوفد على الخصوص، فإنه جمود على الصورة، وذهول عن المعقول بالكلية. النوع الخامس: النهي عما يمنع من الواجب، تنبيهاً على أن تحريمه لكونه مانعاً من الواجب. كقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}. فإنه

أوجب السعي، والتعريج على البيع مانع؛ فكان تحريمه لكونه مانعاً. فلا جرم انعقد [البيع] وفارق البيع المنهي عنه لعينه. فإن قيل: وبم عرف هذا، وهلا قيل: السعي إلى الجمعة مقصود بالإيجاب، والمنع من البيع أيضاً مقصود؟ قلنا: فهم ذلك [من] سياق الآية فهما لا يتمارى فيه. فإن قيل: «السياق عبارة مجملة، فما معنى السياق؟ وما مستند هذا الفهم؟ قلنا: المعنى به: أن هذه الآية في سورة الجمعة إنما نزلت وسيقت لمقصد: وهو بيان الجمعة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} الآية، وما نزلت الآية لبيان أحكام البياعات ما يحل منها وما يحرم. فالتعرض للبيع -لأمر يرجع إلى البيع في سياق هذا الكلام -يخبط الكلام ويخرجه عن المقصود، ويصرفه إلى ما ليس مقصوداً به. [وإنما يحسن التعرض للبيع إذا كان متعلقاً بالمقصود]، وليس يتعلق به إلا من حيث كونه مانعاً للسعي الواجب؛ وغالب الأمر في العادات جريان التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع، فإن وقت الجمعة يوافي الخلق وهم منغمسون في المعاملات.

فكان ذلك أمراً مقطوعاً به لا يتمارى فيه. فعقل أن النهي عنه: لكونه مانعاً من السعي الواجب، فلم يقتض ذلك فساداً. ويتعدى التحريم إلى ما عدا البيع: من الأعمال والأقوال وكل شاغل عن السعي، لفهم العلة. ومن هذا القبيل، قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما} فإن الآية سيقت لقصد معلوم، وهو: الحث على توقير الوالدين وإعظامهما واحترامهما، والبر والإحسان إليهما. والتأفيف

إيذاء، والإيذاء يناقض الأعظام الواجب؛ فالضرب وأنواع التعذيب يشتمل على مثل ذلك الإيذاء، فهو بمناقضة الواجب أولى؛ فقد وجد فيها العلة وزيادة؛ فكان ذلك اعتباراً بطريق الأولى. ولقد ثار بين الأصوليين خلاف في مستند هذا الفهم، بأن تحريم الضرب بتحريم التأفيف قياس أم لا؟ فقال قائلون: [هو] قياس. وقال آخرون: لا، بل هو مفهوم من نفس اللفظ. وقال قائلون: مفهوم من فحوى اللفظ. وقال آخرون: مفهوم من سياق الآية: وهو الذي كان يشير إليه إمامي رضي الله عنه. وهذه أقاويل محتملة. والذي يتحصل منه أن يقال: تحريم الضرب معلوم من تحريم التأفيف؛ فيحتل أن يحال [به] على دلالة نفس اللفظ عليه، ويحتمل أن يحال على دلالة معنى اللفظ؛ نعني به علة تحريم التأفيف. فإن استند إلى دلالة نفس اللفظ، فلا وجه لتسميته قياساً. وإن استند إلى فهم علة الملفوظ ووقوع المشاركة بين الضرب والتأفيف

في علة تحريمه، حسن تسميته قياساً، ولم يمنع [منه] كونه جلياً، سابقاً إلى الفهم، مستغنياً عن الاستنباط والنظر -بعد وقوع المشاركة. فكون القياس مظنوناً أو مشكوكاً فيه ليس من حد القياس؛ وإنما القياس عبارة عن «إثبات مثل حكم الأصل في الفرع، لمشاركته إياه في العلة». ثم ينقسم إلى معلوم إلى مظنون؛ والمظنون ينقسم إلى جلي وخفي؛ والمعلوم ينقسم إلى أولي بديهي، وإلى فكري نظري. فما كان مقدماته جلياً سابقاً إلى الفهم: لم يفتقر فيه إلى نظر وتفكر؛ وهذا -إن تخيل -استناد العلم به إلى نفس اللفظ، لا إلى فهم علة حكم الملفوظ [به]. ولم يخل إما أن تكون دلالته من حيث اللغة، وإما أن تكون دلالته من حيث العرف؛ وباطل أن يتخيل دلالته من حيث اللغة، إذ قول القائل: لا تقل له أف؛ ليس موضوعا للنهي عن الضرب لغة، إذ يجوز أن يقول الملك -المستولى على [واحد من] الأكابر -لغلامه: لا تقل له أف، ولا تنهره ولا تقطع يده، ولا تفقأ عينه، واقتله»،

والمعنى به، النهي عن الاستخفاف به مع الأمر بالإهلاك؛ فهو بوضع اللسان غير دال عليه. وإنما مظنة الخيال أن يضاف إليه من حيث العرف. فيقال: هذه الصيغة في العرف موضوعة مستعملة للنهي عن الإيذاء، [فالنهي عنه بصيغة تدل على تحريم الإيذاء في العرف]] 11 - أ [فكأنه قال: لا تؤذ والديك ولا تستخف بهما؛ ولو قال ذلك لكان تحريم الضرب مأخوذاً من اللفظ -: لأنه يندرج تحت عموم الإيذاء -لا من القياس، فإن التأفيف أقل درجات الإيذاء، فالنهي عنه بصيغته يدل على تحريم الإيذاء في جنسه من حيث العرف. وهو كقول القائل: ليس لفلان حبة، يدل على نفي ما فوق الحبة عرفاً، وإن لم يتعرض له. وقوله عز وجل {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره} يدل على أن من يعمل مثقال ذرات خير، يره أيضاً، لا بطريق اللغة والتعليل، بل بطريق العرف. وكذلك قول القائل: «فلان مؤتمن على قنطار» يدل بالعرف على كونه مؤتمناً على [دينار] فما فوقه، بطريق العرف، لا بطريق اللغة والتعليل.

فنقول: دلالة [الألفاظ على الشيء] أما أن تكون بطريق التعليل، أو اللغة، أو العرف؛ ولا يحكم بالإحالة على العرف إلا إذا امتنع إحالته على اللغة والتعليل: لأن التنبيه بطريق التعليل من اللغة، كما أنه بطريق الوضع من اللغة. وأما دعوى كونه مستعملاً من جهة العرف [فهذا تحكم] يصار إليه إذا حصل الفهم وامتنع له مدرك وضعي. وفي مسئلتنا، أمكن الإحالة بالتنبيه على التعليل: لظهور [إيجاب التوقير من الآية، وظهور كون التأفيف مناقضاً له بالعقل والعرف، وظهور] كون الضرب مشتملاً على ذلك الإيذاء وزيادة. فهذه مقدمات أولية استند إليها العلم بتحريم الضرب، وهو القياس بعينه. أما قوله: ليس لفلان حبة [فإنه] ينفي ما فوقه باللفظ؛ لأن ما فوقه حبة وحبات، وفي الحبات حبة، فلو كان له حبات، لكان كلاماً خلفاً، فهو من حيث الوضع دل عليه، لا دلالة له على ما دون الحبة. ولكن ما دون الحبة لا يوصف بالملك، فينتفي لذلك لا للفظ.

وقوله عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره}، من هذا القبيل، لأن في الكثير ذرات، وفي الذرات آحاد، ولا تعرض له لما دون الذرة، ولكن ما دون الذرة كأنه خارج عن التقدير والإمكان والتصوير؛ والذرة أقل القليل الذي لا أقل دونه في مقصود هذا الكلام؛ فما دون الذرة أن تصور في التقدير فهو ملحق به بطريق التعليل، وهو: أن السبب هو المجازاة على الحسنة والسيئة، وما دون الذرة حسنة وسيئة، فقد وجد سبب المجازاة، فيجازى. وقول القائل: فلان مؤتمن على قنطار: يتناول ما دون القنطار، إذ هو في القنطار موجود؛ ولا يتعرض لما فوقه، إذ يحتمل أن يكون الرجل أميناً على مقدارٍ نزرٍ، دون مقدار عظيم، فإن عرف بالقرينة أنه يريد ذكر أمانته مطلقاً، ويذكر القنطار للتكثير والمبالغة، فيكون دليلاً من حيث العرف بالقرينة. وقوله: ليس لفلان نقير ولا قطمير، لا يدل بالوضع على نفي الدراهم [والدنانير] ولا بالتعليل؛ إذ ليس في الدراهم والدنانير نقير ولا قطمير. ولا كالحبات والذرات، فإن فيها حبة وذرة، ففي نفي الآحاد نفي الجملة. ولا وجه للتعليل، إذ المنافي للنقير والقطمير

لا ينافي غيره. فما انحسم المسلكان [علم بالعرف أنه عبارة] عن أقل القليل، ثم إذا انتفى القليل فالكثير منتف لا محالة. فإن قيل: وبم تنكرون على من يقول: [إن] قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف}، عبارة عن النهي عن الإيذاء. قلنا: لأنه تحكم [لا مستند] له، إذ حمله على حقيقته -مع فهم علته، وإلحاق غيره به -ممكن، فتحويله إلى غير حقيقته -من غير ضرورة -لا وجه له، بخلاف النقير والقطمير. فإن قيل: لو كان هذا قياساً لامتنع منه من لا يرى القياس [في الشرع]، ولامتنعنا منه: لو ورد الحجر عن القياس. قلنا: إنما لا يمتنع، لأن هذا القياس معلوم، فإن مقدماته معلومة. فلو ورد الحجر عن القياس المعلوم ووجب الجمود على موضع النص، لقصرنا التحريم على التأفيف، وقلنا: الضرب لم يتعرض له النص. ولكنه يكاد يفضي إلى التناقض، إذ عرف وجوب التعظيم،

وعرف تحريم التأفيف: لكونه ضداً، وعلم أن الضرب أقوى منه في المضادة. ولا سبيل إلى دفع [علم] مقدماته معلومة على القطع. هذا تمام القول في طرق التنبيهات، ولا مطمع في حصر الآحاد: فإنها كثيرة، وقل ما يخلو كلام الشارع عن تنبيهات يفطن لها ذوو البصائر، وتكل عن فهما أفهام معظم المتوسمين بالعلم. وما ذكرناه كاف لتنبيه الفطن على أجناس هذه المدارك؛ والبليد لا يغنيه مزيد الاستقصاء، ولو استوعبت له آحاد الصور. وعلى الجملة: لكل صورة من آحاد هذه الصور مذاق مخصوص، وللعقل فيها مجال مضطرب على وجه يخص تلك الصورة. فخصوص النظر في الآحاد ليس من شأن الأصوليين، وإنما [على الأصوليين] ضبط القواعد، وتأسيس الأجناس. ثم إدخال التفاصيل في الجمل من شأن الفقهاء الناظرين في تفاصيل المسائل. وشفاء الغليل في هذه القاعدة، بذكر خيالات وتنبيهات على وجه الكشف فيها، نوردها في معرض الأسئلة والأجوبة، منعطفة على الأمثلة التي أوردناها. فإن قيل: إذا ذكر الشارع وصفاً، وأضاف الحكم إليه، ونبه على

التعليل به من الوجوه التي أوردتموها -فهي صريحة في التعليل بها؟ أم هي ظاهرة يتطرق التأويل إليها، ويجوز تغييرها بمسالك الأدلة؟ قلنا: جملة الصفات المذكورة في الأمثلة -التي نبهنا عليها، وأشرنا إلى إضافة الحكم إليها -صريح في اقتضاء كون الوصف معتبراً في الحكم على الجملة، فأما اعتباره بطريق كونه علة، أو سبباً متضمناً للعلة بطريق الملازمة والمجاورة، أو شرطاً يظهر الحكم [عنده] لسبب آخر أو يعتبر الوصف على تجرده حتى يعم، أو يضم إليه وصف آخر حتى يختص ببعض المحال -فمطلق الإضافة ليس صريحاً فيها، ولكن قد يكون ظاهراً في وجه ويحتمل غيره، وقد يكون متردداً بين الوجهين. والمتبع في ذلك موجب الأدلة، وإنما الثابت بالإيماء والتنبيه كون الوصف المذكور معتبراً على الجملة في إثبات الحكم على وجه لا يجوز إلغاؤه، بحال؛ ثم [ما] لا يجوز إلغاؤه ويتعين اعتباره فله وجوه؛ وليس من ضرورة الإيماء الدلالة عليه، بل قد يدل عليه، وقد لا يدل عليه. وهذا يحرك جملة من أسرار هذا الفصل، لا تتبين بهذا الإطلاق والإجمال، وإنما ينكشف الغطاء عنها بذكر آحاد الخيالات والأسئلة والانفصال عنها.

خيال وتنبيه: فإن قال قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقض القاضي وهو غضبان» ورأيتم أن ذكر وصف الغضب -بعد ورود الأمر بالقضاء -فاصل بين حالة الإباحة والتحريم، فدل أنه علة التحريم؛ ويتجه [فيه] أن يقال: أن الغضب ليس سبباً للتحرير، ولكن [سبب التحريم] ما يتضمنه الغضب: من اختباط العقل، وما يعتريه: من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، والاهتداء إلى وجه الصواب. حتى أن الغضب اليسير المنفك عن هذا الأثر لا يحرم؛ وحتى يلحق به الحاقن والجائع والذي توالي عليه ألم مبرح مدهش، وغير ذلك من الأحوال المشوشة لنظر العاقل. وفي ذلك إلغاء الغضب بالكلية، وإخراج له عن كونه علة: إذ الحكم صار منوطاً بغيره، وصار الغضب ساقط الاعتبار نفياً وإثباتاً. فكيف قلتم: إنه صريح في أصل الاعتبار؟.

فالجواب: [أن هذا] المسلك في التصرف غير منقطع عن الصفات المذكورة التي أضيف الحكم إليها، ويطرد ذلك في الأحكام المضافة إلى الأسباب: كالقطع المضاف إلى السرقة، وكذلك: الرجم المضاف إلى الزنا، والكفارة المضافة إلى [قتل الخطأ، وكذلك: الأحكام المذكورة عقيب] الأسباب الحادث، كالكفارة عند إخبارا لأعرابي عن جماعة أهله، إلى غير ذلك من الأمثلة التي أوردناها. وليس فيه تعطيل الإيماء، ولا إخراج الوصف المذكور عن كونه معتبراً في الحكم. فأصل التعليل عقل من الإضافة، ولكن احتمل أن يقال: [التحريم معلل بالغضب] لعينه، واحتمل أن يقال: هو معلل به لمعنى بتضمنه ويلازمه لا لعينه، وهو: ضعف العقل في الغضب. وكذلك روي: أنه عليه السلام «سها فسجد» فهو صريح في إضافة السجود إلى السهو وتعليقه به. ولكنه يتعلق بالسهو لعينه، أو لمعنى يتضمنه، وهو: ترك بعضٍ من أبعاض الصلاة، فتنتقص الصلاة بسببه، حتى يتعدى إلى تركه عمداً؟ فإن علق بالسهو لعينه: لم يتعد إلى العامد، وإن تعلق بالنقصان: تعدى إليه.

وكذلك [الزنا: علق الرجم عليه] لكونه زنا، حتى لا يتعدى إل اللواط: إذا لم تثبت تسميته زنا، أو لمعنى يتضمنه، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً، محرم قطعاً؟ وكذلك السرقة: مناط الحكم لعينها، أو لمعنى تتضمنه، هو: أخذ مال محترم من حرز مثله، حتى يتعدى إلى النباش، وإن سلم تقديراً أنه لا يسمى سارقاً؟. وكذلك أوجب الكفارة على الأعرابي المجامع -بالجماع لعينه، أو لمعنى يتضمنه، وهو: إفساد صوم رمضان، حتى يتعدى إلى كل مفطر؛ أو إفسادٌ بجهة مقصودة، حتى يتعدى إلى المأكولات والمشروبات، ولا يتعدى إلى ابتلاع الحصاة والنواة، على ما اختلف فيه المجتهدون من الأئمة؟

وكذلك قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فهو تنبيه على إضافة الإباحة إلى العدم، ولكن [إلى] العدم لعينه حتى يقتصر عليه، أو لمعنى يتضمنه، وهو: العجز الحاصل به، حتى يتعدى إلى من وجد ماء ومنعه [منه] حائل [أو افتقر إليه للسقية] ن أو افتقر في تحصيله إلى تفويت مال [كثير] أو ارتكاب خطر غيره؟ وهلم جراً إلى كل مسلك من مسالك التنبيهات دل على إضافة الحكم إلى وصف، فهذا الوجه من النظر جار فيه، وليس فيه تعطيل. فإنا نقول: الحكم معلل بالغضب، ولكن لا لعينه، بل لمعنى يتضمنه. فأصل التعليل قائم ولكن جعل الغضب -بحكم الدليل -كناية عن ضعف العقل، لأنه يلازمه غالباً. فلم يكن ذكره لغواً، بل كان مفيداً معتبراً بهذا الطريق. وغرضنا أن التنبيه الذي [ذكرناه صريح في أن الوصف] المذكور لا سبيل إلى جعله لغواً، بل لابد من اعتباره. [نعم] لاعتباره طرق، وجعله كناية عن معنى يتضمنه ليس في إلغاؤه، وهذا كما أن النهي عن الشيء مطلقاً صريح في تحريم المنهي [عنه] أو كراهيته؛ ولكن قد يدل

الدليل على أنه لم ينه لعينه، وإنما نهى عنه لغيره، وليس في ذلك إبطال [أصل النهي]. بل النهي في أصله باق، وإنما هو حوالة على معنى يتضمنه. فإن قيل: فإذا ترددت الإضافة [بين جهتين]، فمن المفتقر إلى الدليل؟ الذي يضيفه إلى عينه، أو الذي يضيفه إلى معنى يتضمنه؟ قلنا: الدليل على من يدعي إضافته إلى معنى يتضمنه؛ لأن المنطوق به هو الغضب مثلاً، فالظاهر أنه العلة، فمن يدعي أنه معلل بمعنى يتضمنه الغضب -وهو كالمكنون فيه، وكالمستنبط بالنظر -فعليه إظهاره. وهذا كما أن النهي عن الشيء ظاهره يقتضي التحريم ذلك الشيء لعينه؛ فمن أراد أن يصرفه إلى غيره فعليه الدليل] 13 - أ [والمتعلق بعين الصفة معول على الظاهر. فإن قيل: وما الدليل الذي يجوز الاكتفاء بمثله في ترك هذا الظاهر، وإحالة التعليل إلى المعنى الذي تتضمنه صورة الصفة المصرح بها؟ قلنا: ليس يمكن حصر مدارك الأدلة، فكل مسلك دل على هذا المقصد وجب قبوله. ومداركه مختلفة، ولسنا لذكره، ولكن ننبه بأدنى الدرجات على أعلاها. فقد قال الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فهو

نهى عن البيع، وحكمنا بأنه غير منهي عنه لعينه، بدلالةٍ عرفت من سياق الآية فقط، وهو: أن الآية سيقت لمقصد، وهو: بيان أمر الجمعة، فلا يليق به أن يذكر إباحة البيع [وحظره] لأمرٍ يرجع إلى البيع في إدراجه؛ فكان العرض للبيع من الوجه الذي يتعلق به، وهو: تضمنه ترك السعي الواجب؛ فيتعدى التحريم إلى الإجارة والنكاح والأقوال والأعمال المانعة، مع الحكم بصحة البيع وسائر التصرفات: لأن النهي لا يلاقيها، ولا دليل سوى ما عرف من سياق الآية. ومن الطرق المسلطة على هذا النوع من التصرف، طلب المناسبة. إذ يقال: الغضب لا يخلو، إما أن يناط تحريم القضاء [به] لعينه أو يناط بما يتضمنه: من دهشة وضعف نظر، وتعليله بعينه تحكمٌ محض لا مناسبة فيه، وإضافته إلى ما يتضمنه مناسب لتصرفات الشرع ورعايته مصالح الخلق؛ فكانت الإضافة إلى ما يتضمنه أولى. وهذا القدر من الدليل كاف في مثل هذا المقام. فإن قيل: فهلا رد هذا التصرف: من حيث إنه لا يبعد أن يحكم الشرع باعتبار دهشة تصدر عن الغضب على الخصوص، [كما يحكم

باعتبار مشقة تصدر من السفر] على الخصوص، ولم يلحق به مشقة المرض وغيره؟ قلنا: هذا الخيال فاسد، ولو فتح هذا الباب، لا نحسم مسلك القياس، فيقال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً لزناه، ولكن زنا ماعز على الخصوص [سبب في الحكم] دون زنا غيره -تحكماً -. وجماع الأعرابي أهله سبب [في] الكفارة حتى لا يتعدى إلى جماع غيره، ولا إلى جماع الأجنبية، ولا إلى جماع الأمة؛ ويترقى ذلك إلى التخصيص بالزمان والمكان. ويقال: لعل الشرع يحكم [بأن الزمان والمكان معتبر]. وكذلك: الربا يجري في البر لطعمه أو للكيل، ولكن المتبع الكيل في البر أو طعم البر -تحكماً -. وكل ذلك باطل لا وجه له. أما السفر، فله تأثير خاص لا يشاركه المرض فيه، إذ المجوز للقصر والجمع فيه سبب الحاجة، فإنه لو أدى الصلاة في أوقاتها وأداها بكمالها، فربما انقطع عن الرفقة، فهو سبب الجمع. والتفريق في حق

المريض على الأوقات قد يكون أيسر، إذ حاجته إلى القعود والاضطجاع وترك القيام، لا إلى ترك بعض الركعات، ولا إلى التعجيل والتأخير، فذلك افتراقاً. وأما المسح والتيمم والفطر، فكل ذلك يجوز بعذر المرض، على الوجه الذي يليق به كما في السفر. فإن قيل: أليس صورة السفر تتبع في التسليط على الترخيص وإن لم تتحقق عين المشقة، فلا ينظر إلى المشقة في نفسها، وينظر إلى السبب المتضمن لها؛ فلم يبعد أن ينظر إلى الغضب في صورته، لا في المعنى الذي يتضمنه؟ قلنا: لسنا نبعد ذلك، ولكن الأصل: أن ما علقت علته اتبعت العلة، إلى أن يدل [دليل] على إتباع السبب المتضمن للعلة، دون نفس العلة، وقد دل الدليل في السفر، ولم يدل في هذا المقام. فإن قيل: فالأحكام منقسمة في الشرع إلى ما أديرت على نفس المعاني، وإلى ما أديرت على أسباب المعاني، مع الإعراض عن جوهر المعاني؛ فما الضبط فيها؟ وكيف نفصل أحد القسمين عن الآخر؟

قلنا: هذه مغاصة عظيمة، والخوض فيها جر بنا إلى الخروج عن المقصد الخاص بالفصل الذي تصدينا لبيانه، ولعلنا نعود إلى بيانه ونذكر فيه ما يشفي الغليل: إذا ذكرنا كيفية تحديد مناط الأحكام، وقسمنا الأوصاف إلى ما يلغي ويعطل، وإلى ما يراعى ويعتبر، وذكرنا فيه دستوراً يرجع إليه في مظنة الغموض، فإنه فصل مغبوط تكثر إليه الحاجة، ويقل في كبار أهل العلم من يستقل به. والآن ننعطف على الغرض الذي كنا بصدده، ونقول: إذا ظهرت المناسبة لمتضمن الوصف، وانقطع أثر صورة الوصف، وكان اعتباره على مذاق التحكمات الجامدة التي لا تترشح منه مخايل المعنى -وجب إحالة الحكم على متضمن الوصف. فإن كان للوصف خصوص تأثير، فلا سبيل إلى إلغائه. كما أن الشافعي رضي الله عنه يدعي أن للإفطار بالجماع على

الخصوص تأثيراً في اقتضاء الكفارة، لأنها مشروعة للزجر عما تتشوف النفس إليه، ولا ينزجر الطبع عنه بمجرد تحريم الشرع. وهذه خاصية تثبت للجماع، ولا يشاركه الأكل والشرب. ولا يتمكن أبو حنيفة رحمه الله من تعطيل هذا الوصف، إلا ببيان سقوط هذا الأثر الذي ذكره الشافعي رحمه الله. وكذلك يقول الشافعي وأبو حنيفة جميعاً لمالك -رضي الله عنهم -إذا علق مالك الكفارة بكل مفطر، حتى ابتلاع الحصاة أو النواة: [إن لم يقصد تأثيراً] في تشوف النفس ومسيس الحاجة إلى الزجر. فلا نتجاسر على تعطيل هذا الوصف المؤثر. إلى غير ذلك من الأمثلة. فإن قيل: فإذا كانت المناسبة تسلط على التعليل بالمعنى، حتى يثبت الحكم وإن لم يثبت الوصف المذكور، كما يثبت من تحريم القضاء الآلام المتوالية والجوع] 14 - أ [، المفرط وغيره -: فهل تسلط على نفي

الحكم مع وجود الوصف، لانفكاك الوصف المذكور عن المعنى الذي يتضمنه؟ قلنا: نعم، فإن الغضب اليسير -الذي لا يمنع من استيفاء الفكر -لا يحرم. وأمثال ذلك كثيرة. منها: قوله عليه السلام «القاتل لا يرث»، فإن الصحيح أن القاتل قصاصاً وحداً يرث، لأنا فهمنا من القتل: أن ذلك مخصوص ببعض أنواع القتل، فإنا نقول: ليس يخلو، إما أن يناط الحرمان بالقتل لصورته، أو لمعنى يتضمنه كما ذكرناه؛ وذلك المعنى -إن كان مناسباً -لابد من اعتباره. وقد اضطرب رأي المجتهدين في مناط الحكم من القتل، وفي تعيين المعنى الذي يتضمنه. وظهر ذلك باختباطهم في التفصيل. فالقتل ينقسم إلى عمد وخطأ، والخطأ ينقسم إلى مباشر ومتسبب. فذهب عثمان البتي إلى أن الخاطئ لا يحرم، تشوفاً [منه] إلى رعاية معنى القصد، ومعارضة القاتل بنقيض مقصوده

عند تعديه وتعمده. وخالفه في الشافعي وأبو حنيفة وعامة الفقهاء. ووافقه [فيه] مالك، فقال: لا يحرم إلى من الدية التي لزمت بفعله، [واستبعد أن يكون] هو المأخذ والمصرف، فيصير كالواجب له على نفسه. ثم الخطأ ينقسم إلى مباشر ومتسبب. فالشافعي عمم الحرمان، وأبو حنيفة خصص بالمباشرة، وقال: من حفر بئراً في محل عدوان، فتردى فهي قريبه -لم يحرم ميراثه. فكأنه يقول: ليس قاتلاً تحقيقاً، فإن هلاكه حصل بتخطيه ووقوعه [فيه] لا بالحفر. والشافعي يقول: هو قاتل بدليل الدية والكفارة، فيحرم الميراث. والقتل -في حق القاتل -ينقسم إلى ما يصدر من مكلف، وإلى ما يصدر من غير مكلف. فالشافعي عمم الحرمان بقتل الصبي والمجنون. وأبو حنيفة تخيل أن هذا عقوبة، جزاء على القتل فيشترط أن يكون القاتل أهلاً

لإيجاب الجزاء، وزعم أن الخاطئ أهل بتقصيره، ولذلك يكفر. ثم القتل العمد -أيضاً -ينقسم إلى محظور، وغير محظور؛ فالمحظور -لا محالة -يندرج تحت العموم. وغير المحظور ينقسم إلى مباح: كالقتل قصاصاً، وكدفع الصائل، وقتل العادي الباغي. وإلى واجب: كالقتل حداً من جهة القاضي. فتردد الشافعي في هذه المسائل وقطع بأن كل قتل مضمون -إما بدية، أوكفارة، أو قتل -فهو موجب للحرمان. وما لا يوجب شيئاً [في هدر أو] في معنى الموت في حقه. فيتحمل التوريث، ويحتمل تعميم الحرمان: نظراً إلى الصيغة. ثم ثار -بعد هذا -اختلاف في الوصية للقاتل: فمنهم: من منع؛ وهو رأي «للشافعي»، ومذهب أبي حنيفة.

وهذا زيادة على ما تناولته الصيغة بطريق الإلحاق بالمعنى: إما تشوفاً إلى معنى الاستعجال والمعارضة بنقيض القصد، أو مصيراً إلى أن المال المستحق بالموت المطلق كله باب واحد. ولكن يستحق مرة بقرابة، وأخرى بزوجية، وتارة بوصية. والكل باب واحد. فما كان علة لإسقاط شيء منها، كان علة لإسقاط الكل. ومنهم: من فرق بين الوصية للجارح، وبين جرح [الجارح] الموصى له. نظراً إلى معارضة المستعجل بنقيض قصده. فهذه آراء مختلفة، بعضها: في الزيادة على المنصوص [كما في الوصية]، وبعضها: في النقصان من المنصوص من حيث الصيغة كما ذكرناه. ومستند الزيادة والنقصان معنى فهم من نفس النص. وكل ذلك من سبيل المجتهدين.

فأما أن نقول في جميعها: أنه صواب في حق من أدى اجتهاد إليها، مصيراً إلى تصويب المجتهدين. أو نقول: الحق عند الله واحد لا بعينه، وطريق التعيين محسوم، إذ لا مطمع في العلم ولا في الدليل، وإنما المنتهى أمارة طنية تعبد الخلق باتباعها. وحظ الأصول من جملة ذلك أن شيئاً من هذه المسالك ليس باطلاً على القطع بطريق أصولي، لا في طرف الزيادة ولا في طرف النقصان، وأن شيئاً من هذه المسالك ليس مبطلاً لأصل التعليل الذي وقع عليه التنبيه عليه بإضافة الحكم إلى القتل؛ ولكن رجع حاصل النظر إلى أن الحكم منوط بالقتل لعينه أو لمعنى يتضمنه؟. فإن نيط به لمعنى يتضمنه، فما عين ذلك المعنى وحده، وقد اشتمل القتل على معان؟. وكل ذلك في محل الاجتهاد، وليس خارجاً منه. نعم: للمجتهدين أن يتجاذبوا أطراف الكلام في ترجيح بعض هذه المعاني على بعض. فما لا يناسب من جملة متضمنات القتل -لا يجوز أن يجعل مناطاً، حتى نستخرج بسببه بعض مسميات القتل عن العموم؛ لأن

الربط بما لا يناسب تحكم محض، ومن قنع بالتحكم، فالتعلق بالصيغة أولى معتصم في حقه. فلا يجوز مخالفة الصيغة في ظاهرها بزيادة ولا نقص، إلا بظن غائب [أعلى من الجمود على الصيغة، ولا غلبة للظن إلا على معنى مناسب]. ثم إذا اشترك معنيان في المناسبة، وانتقض أحدهما أو كلاهما -فالمنقوض مردود، والرجوع إلى ظاهر الصيغة متعين. كما يقال لمن اعتبر معارضة المستعجل بنقيض قصده: هذا منقوض بالمستولدة تقتل سيدها، فتعتق وفاقاً، ومستحق الدين يقتل من له الأجل، فيتنجز استحقاقه وفاقاً. فانتقض هذا المعنى. ولو كانت هذه العلة سديدة: لجاز طردها، والقول بموجبها في المستولدة ومن عليه الدين. وإذا لم نوجد بينهما فرقاً معنوياً، انتقض معناه، ولم يصلح التعويل عليه في الفرق بين الوصية للجارح، وجرح الموصى [له]، وجرح الوارث المحجوب بقريب آخر: إذا مات حاجبه، وجرح من ليس محجوباً. ولم يجز اعتماده في إخراج الخطأ عنه، من حيث أنه لا ينسب إلى قصد الاستعجال. ومن يدعي معنى العقوبة: ينتقض كلامه بالخطأ، فإنه غير معاقب

شرعاً، فلم يصلح معناه لإخراج القتل خطأ عن العموم. وكذلك نصنع] 15 - أ [بآحاد المعاني المنقوضة. فإن فرض معنيان مناسبان لا ينتقضان، رجح أحدهما على الآخر] 15 - أ [بالتأثير: بأن يدل دليل آخر في الشرع على كون أحد المعنيين مؤثراً في جنس هذا الحكم، فهو أولى من الآخر. كقول أبي حنيفة رضي الله عنه: إن الحرمان نوع عقوبة، والقتل نوع جناية، فهو محروم بسببه، فيخرج منه القتل المباح، والقتل الواجب، وقتل الصبي»:: إذ العقوبات محطوطة عنه، ولذلك لا يوجب الكفارة عليه، لأن فيها معنى العقوبة. ويوجب الكفارة على الخاطئ: لأن في فعله معنى الجناية. فيترجح هذا على قول من ينظر إلى مقابلة المستعجل بنقيض قصده إن سلم من النقض، ولم يستعمل على طريق العقاب؛ وعلى قول من يقول: الإرث اضطراري، ولو حصل بالقتل لصار كسباً، وكان ذلك تغييراً لوضعه، حتى نطرده في كل قتل مختار مكتسب حقاً كان أو باطلاً. إذ هذه المعاني وإن كانت تناسب بعض المناسبة، فلم يظهر في الشرع

[تأثيرها في قبيل] هذا الحكم، وقد ظهر تأثير جنس القتل في جنس العقوبة. ومن يعلل ذلك بأن القتل يقطع الموالاة، فيمنع الإرث كالرق والكفر-فكأنه يتشوف إلى المعنى المؤثر، ويزعم أن القرابة بمجردها ما عرفت مؤثرة إلا مع قيام الحال المقتضى للمناصرة والمعاضدة والموالاة. واختلاف الدين والرق لما كانا مانعين من الموالاة والمناصرة والمعاضدة عرفاً -امتنع الميراث بهما مع وجود القرابة. فكذلك القتل، لأن معنى المولاة: أن يكونوا -بحكم القرابة -كالشخص الواحد متناصرين في تمهيد أسباب البقاء، ودفع أسباب الشر والهلاك، كما عهد من الأقارب. فإذا باشر القريب القتل وأعدم قريبه وأهلكه، استحال تقدير الموالاة مع ذلك. وهذا تشوف إلى طلب معنى عرف في الشرع -في غير هذا الموضع -تأثيره. ولكنه يكاد أن يكون كلاماً إقناعياً في المسئلة، و [في] الأصل المستشهد به، إذ ليس يتبين تعليل منع الإرث بالرق والكفر لانقطاع الموالاة، ويكاد يخرج هذا المعنى عن الضبط والفهم، فإن أسباب

الموالات وحقيقة الموالاة ليس ما يوقف عليه. وسننبه على وجه الفرق بين الكلام المناسب حقيقة، وبين الكلام الإقناعي المخيل في [مبدأ الإطلاق]-على وجه يتميز عن الطرد الذي لا يناسب، ثم إذا ما سلط البحث عليه: رجع حاصله إلى غير طائل. وليس الآن [من] غرضنا اعتبار هذه المعاني، وبيان الصحيح منها والفاسد، وإنما ذلك موكول إلى نظر المجتهدين. وغرضنا أن كل ذلك من مسالك [التصرفات في الزيادة على النصوص] والنقصان منها. فإن قيل: فلو ظهر في مثل هذا الأصل معنيان مناسبان، ولم يترجح أحدهما على الآخر بالتأثر، أو ترجيح -فهلا علل بهما جميعاً، ولم وجب الترجيح بالتأثير وغيره بعد الصلاح للتعليل، وهما متوافقان في اقتضاء الحكم، ولا تعاند ولا تضادد بينهما؟ قلنا: سنبين -في الركن الثاني من أركان القياس -محل جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين، ووجه النظر فيه: عند البحث عن شرائط الأصل الذي منه الاستنباط. ونأتي فيه بشفاء الغليل إن شاء الله

تعالى. فإن قيل: إن من مشهور كلام الأصوليين: أن كل علة مستنبطة من أصل، عكرت على الأصل بالتخصص -فهي باطلة. وإن من شرط تعليل الحكم أن لا يتضمن تغييراً لحكم المنصوص عليه. ومهما اقتضت الصيغة العموم، ثم تخصصت بعلة مستنبطة منها -فقد تغير حكم النص، وعكرت عليه العلة بالتخصيص. فكيف جاز ذلك؟ قلنا: الكلمات التي تداولتها الألسنة لا سبيل إلى تقليدها، دون البحث عن مداركها وأدلتها، وإنما إتباع صورها دأب العجزة الذين قعدت بهم البلادة عن الارتقاء إلى بقاع المعاني المعقولة، بالرأي الصائب والذوق السليم، فلازموا -بحكم القصور والعجز -حضيض التقليد، وركنوا إلى ما تداولته الألسنة من غير غوصٍ على خفيات أسرارها، وتشوفٍ إلى العثور على أغوارها.

وهذا مزلة قدم لابد من الاتئاد فيه. فنقول أولاً: أظهرنا من تصرفات العلماء في الإرث للقاتل، النقصان من النصوص بالمعنى المفهوم من النص، كما عرف بالاتفاق الزيادة على المنصوص بالمعنى المعقول منها. وأمثلة ذلك كثيرة: من جملتها: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض. وإضافته التحريم إلى عدم القبض، وتنبه على التعليل به -معلوم على القطع. ثم اتفق الناظرون على أنه غير منوط بعدم القبض لصورته، واضطربوا في معناه. فمنهم من قال: هو لتوالي الضمانين بسبب عدم القبض. فيخرج من العموم البيع من البائع: [فإنه لا يؤدي إلى توالي الضمانين.

ومنهم من قال: هو لضعف الملك بسبب عدم القبض. فيخرج البيع من البائع]. ويخرج منه الاستبدال عن بدل المتلفات: فهو جائز وإن كان قبل القبض. وقال أبو حنيفة [هو] لتضمنه غرراً، من حيث [إنه] يتوقع انقلاب الملك إلى البائع الأول، بالتلف قبل القبض، فيتبين بالآخرة كون البائع الثاني [غير مالك بل] بائعاً ملك الغير، فيكون غرراً. فيخرج منه العقار. وهو تشوف منه إلى طلب معنى ظهر بالشرع تأثيره في غير هذا المحل. وهو -أبداً -يطلب للأحكام عللاً بان بشهادة الشرع تأثيرها، ولا يكتفى بالمناسبة. على ما سنذكره في طريق إثبات العلة بالتأثير والمناسبة.

وليس من غرضنا النظر في آحاد الأمثلة، وإنما القصد من نقله: أن النقصان من النصوص -بالمعنى المفهوم من النص -مقول به وفاقاً، كالزيادة عليه بالمعنى المعقول منه: لتركن النفوس إلى قبول هذا من حيث النقل. ثم لاركون إلى الوفاق والخلاف في هذا الفن، وإنما المستند [هو] الدليل [وقضيته]. والذي يظهر لنا في ضبط هذا النوع من التخصيص، وما يجوز منه وما يمتنع -والعلم فيه عند الله تعالى -أن المعاني المفهومة من النصوص، تنقسم: إلى: ما يسبق مع اللفظ إلى الفهم سبقاً لا يتراخي عنه، وقد يكون المعنى أسبق إلى الفهم من اللفظ، وقد يكون مساوياً له، وقد يتراخى عنه قدر التأمل القليل من فهم البصير؛ وإلى ما لا يسبق إلى الفهم، ولكنه يستنبط بالسبر والنظر، ويستبان بدقيق الفكر. وهذا الانقسام في الأصل معلوم، وهو من قبيل الغضب الذي ذكرناه: إذ لا يسبق إلى الفهم منه إلا اضطراب العقل: إذ ذكر مقروناً بتحريم القضاء. وكذلك قال الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} الآية، لا يسبق إلى الفهم من الأكل معنى الأكل، وإنما يسبق

إليه معنى الاحتياج والتفويت للمال، حتى يعلم، -على الارتجال، أو بأدنى تأمل -أن الظلم: بهبة ماله، واعتاقه، والتبرع به، وإتلافه وإحراقه، وإلقائه في البحر، وغير ذلك من وجوه الاتلافات -كالظلم بالأكل. [بل] يكاد يصير الأكل كناية عن الاتلافات، والغضب كناية عن زوال العقل. وكذلك إذا قال: القاتل لا يرث؛ فالسابق إلى الفهم من هذا: الجناية على الروح، والتعدي بالقتل. فيسبق هذا المعنى إلى الفهم من اللفظ. فما يجري هذا المجرى، فتحكيمه في النقصان والزيادة، وتغيير الحكم إلى الخصوص من العموم، وإلى العموم من الخصوص -جائز على نسق واحد: من حيث أن من منع العلة التي تعكر على الأصل بالتخصيص، منع من حيث أن القياس ليس تفسيراً للألفاظ. فيجب معرفة الحكم أولاً، ثم طلب علته. وهذا: فيما يتقدم الحكم في الفهم على العلة [والمعنى] ولا يكون المعنى قرينة. فالمعنى -في هذه الأمثلة ونظائرها -سابق إلى الفهم، وهو قائم مقام القرينة المفسرة للفظ، المقررة لمعناه في الفهم. فلم يكن من ذلك القبيل. ومن هذا الجنس، قوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بولي

وشهود» فإنه يعم العدل وغيره؛ وليس ببعد عندي -لو لم يرد قوله عليه السلام «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» -أن يخصص الحديث بالعدل: من حيث أن ذكر الشهادة مقروناً بالعقد لا يسبق منه إلى الفهم إلا معنى الاحتياط؛ فإخراج المحدود في القذف، ومن لا احتياط في نقله -بهذا النظر -جائز؛ وحاصله يرجع إلى تخصيص اللفظ بقرينة، ولكن صار المعنى المفهوم -السابق إلى الفهم السليم -قرينة. فأما ما لا يسبق إلى الفهم، ويستنبط بالتأمل والنظر -فلا يتجاسر به على كل تخصيص، ولا يحسم أيضاً باب التخصيص به. بل يجوز أن يعتمد [عليه] ويخرج به عن اللفظ، ما يقع موقع النادر البعيد عن الفكر، بالإضافة إلى المراد؛ وهو: الذي لا يخطر بالبال إلا بالإخطار، ويقع نادراً في قبيل ذلك الحكم.

وهذا كقوله عليه السلام: «أيما أهاب دبغ فقط طهر»، فقد ذكر للطهارة سبباً وهو: الدباغ، واقتضى عمومه طهارة جلد الكلب بالدباغ. وقد استنبط الشافعي -رضي الله عنه -من الدباغ معنى، بالنظر الصحيح والفكر المستقيم: وهو أن الدباغ يبعد الجلد عن العفونات، ويعصمه عن الفساد، ويؤثر فيه مثل تأثير الحياة، ويقوم مقامها في التأثير واقتضاء الطهارة. فهذا تعليل هذا السبب، و [هو] نزوله منزلة الحياة: في اقتضاء الطهارة. واقتضى مساق هذا الكلام إخراج جلد الكلب منه، بعد ما [تناوله؛ بدليل] أن الكلب نجس في حال الحياة.

فهذا نوع تخصيص بعلة مستنبطة من المخصوص. وليس أمثاله ممنوعاً: إذ الممنوع التغيير، والتغيير يقع بعد استقرار العموم، وتناول اللفظ للكلب، بمجرد الصيغة، ليس مستقراً معلوماً [حتى] لا يغير إذ العام يطلق ويراد به الخاص، وهو غالب في عادة العرب؛ فكان استقراره في التناول له موقوفاً على أن لا يتبين مدرك آخر لتقرير اللفظ وتنزيله؛ وإذا ظهر المعنى بالتأمل: فخروج بعض ما تناولته الصيغة بعمومها -وهو بعيد عن الفكر -لا يمنع صحة هذا الاستنباط مع ظهوره. فيقال: المعنى مفهوم، والمخرج نادر خارج عن الفكر والذكر، واتباع المعنى أولى من الجمود على محض الصيغة؛ وخروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع -عند التعرض للدباغ -ليس بعيداً، بل هو الغالب الواقع، ونقيضه هو الغريب المستبعد. فتجاسرنا على هذا التخصيص -وإن لم يكن المعنى سابقاً إلى الفهم، جارياً مجرى القرائن المفسرة من حيث إنه تبعد إرادة الكلب، ولم يبق لدخوله مستند سوى مجرد الصيغة مع إمكان إرادة العموم.

وأما ما لا يستنبط من نفس المخصوص، فينقسم: إلى ما يستنبط من أصل ورد مخصصاً وإلى ما يستنبط من قاعدة [لا تتعرض بظاهرها للعموم بالتخصيص، وإنما تتعرض له بمعناها المستنبط منها]. أما ما يستنبط من أصل ورد مخصصاً، فمثاله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من النهي عن الصلاة بعد الفراغ من العصر، فإن ذلك يقتضي عموم النهي في جميع الصلوات، ولكنه عليه السلام روى: «أنه صلى بعد العصر ركعتين، فقالت له أم سلمة رضي الله عنها: أما كنت نهيتنا عن هذه الصلاة؟ فقال: هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلني عنها الوفد». فنبه به على [أن] اشتغاله به سبب اقتضى الصلاة. فيقاس عليه كل صلاة لها سبب؛ ولا سبيل إلى الاقتصار في التخصيص على ركعتي الظهر: إذا شغل عنها الوفد على الخصوص. فما عداها -من الصلوات

التي لها أسباب -دائرة بين أن تكون في محل العموم، أو داخلة في الخصوص؛ فانجذبت إلى المخصوص بالنص، برابطة العلة التي جرى التنبيه عليها. فأخرج عن العموم، وبقى النهي مقصوراً على التبرع بالصلاة المبتدأة التي ليست لها أسباب. وليس يشترط في هذا الجنس أن يكون المستخرج من اللفظ بحكم الخصوص نادراً، والباقي] 17 - أ [غالباً. لأن الحديث المخصص ورد مضاداً للعموم في بعض أطرافه؛ فسقط التعلق بعموم الصيغة، ووجب المصير إلى تقدير قرينة مفهمة مقتضى اللفظ فيما أراده الشارع عليه السلام. فالقرائن قد تحمل الألفاظ على ما يعد نادراً بالإضافة إلى مطلقة، فتأثير القرائن عظيم ظاهر، حتى قد نبعد في تصوير القرائن؛ فإذا ورد حديثان متضادان في ظاهرهما، وافتقرنا في الجمع إلى تقدير قرينة لم تنقل -فعلنا ذلك، وإن كنا لا نتجاسر على مثله بمحض القياس. وهذا كحديث الربا في النقد، فإنه رواه عبادة بن الصامت

وجماعة. وروى أسامة بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: إنما الربا في النسيئة». وهذا صريح في الحصر ونفي الربا في النقد. وإليه ذهب ابن عباس وعامة أصحابه، وسعيد وعروة. ولكن: حديث الربا في النقد رواه أبو سعيد، وأبو

هريرة، وابن عمر، وعبادة بن الصامت. فهم أوثق وأكثر. وهذا وإن لم يكن فيه مطعن أيضاً، ولكن لا ضرورة في جعله ناسخاً، ولا في تكذيب الراوي؛ فنجمع بينهما ونقول: لعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -[سئل عن] صنفين مختلفين: إذا بيع أحدهما بالآخر: من ذهب وفضة، أو تمر وحنطة، متفاضلاً. فقال عليه السلام: «إنما الربا في النسيئة»، وأراد به ما سئل عنه. وهذا وإن كان تقدير قرينة لم تنقل، ولكنه محتمل. وإغفال الراوي لسبب الجواب، واقتصاره في النقل على كلامه -ممكن وإن كان بعيداً؛ فهو أولى من تكذيب العدل، أو نسخ ما هو ثابت في الشرع من غير ثبتٍ. مع أن التأريخ ليس بظهر في التقدم والتأخر، والبعيد يصير قريبا بالإضافة [إلى الأبعد]؛ ويتعين المصير إلى الأقرب فالأقرب، عند تعارض الجهات، ولهذا لا يجوز الهجوم على مثل هذا التقدير، بمحض الرأي والقياس؛ لأن مخالفة القياس ليس بأبعد من مثل هذا التقدير. فليتأمل الطالب المسترشد مراتب النظر، ومدارك الكلام. وليعلم أن إطلاق الكلام بقبول كل تخصيص، أو إبطال كل تخصيص، أو الاقتصار

في التخصيص والإخراج على ما يقع نادراً بالإضافة إلى المستبقي، أو وجوب التخصيص بالمعنى المستنبط من غير النص، لا بالمعنى المفهوم من النص -كل ذلك خلف من الكلام: يطلقه من لا يُحيط بجميع أطراف النظر؛ فتصدى له صورة [حكم فيها] بقضية، فيحكم على الإطلاق بتلك القضية [لكل صورة. وذلك] يورث الضلال والجهل، ويعمى [عن] طرق الصواب والحق. هذا كله فيما يستنبط من نص ورد مخصصاً أو معارضاً [بظاهره] أو بفهم من نفس النص المتصرف فيه بالتخصيص. القسم الآخر: ما لا يستند [المعنى فيه] إلى نفس النص، ولا إلى معنى مستثار من حديث صريح] 17 - ب [في تخصيص النص؛ ولكن يستمد من قاعدة أخرى منفصلة عن مورد النص. فهو التخصيص بالقياس، المطلق في لسان الفقهاء. مثاله ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: «أنه نهى عن بيع

الكلب وثمنه» فاقتضى عمومه تحريم بيع كل كلب. فأراد أبو حنيفة رحمه الله إخراج كلب الصيد والماشية من عموم النهي، وقصر النهي على الكلب الذي لا منفعة فيه: مما يقتني إعجاباً بصورته، واستئناسا بمخالطته، وكذلك سائر الكلاب السلوقية التي لا منفعة فيها. ويستند في هذا التخصيص إلى القياس على سائر السباع والأموال؛ والجامع: أن الكلب مال منتفع به، فجاز بيعه كسائر الأموال، ومعناه: أن المال عبارة عن كل ما يتعلق به غرض الآدمي مما سوى الآدميين [الأحرار]. فبهذا الوصف يصير مالاً، وبه يصير قابلاً للبيع، هذا المعنى جار في الكلب. فهذا قسم من التخصيص: يدور بين الرتبتين السابقتين؛ فلا يشترط فيه أن يكون المخرج نادراً؛ فإن كلب الصيد والماشية لا يقع نادراً في الذكر عند التعرض لبيع الكلب؛ بخلاف المعنى المستنبط بالنظر من نفس النص: فإنه لا يجرى -في غلب الأمر -إلا على إخراج ما يقع نادراً بالإضافة إلى المذكور؛ ولا يحتمل فيه أن يكون المستبقى تحت اللفظ نادراً: بحيث يفتقر في إرادته لعموم اللفظ، إلى قرينة قوية ظاهرة، ليخرج بها عند حد الإجمال بخلاف التخصيص بالنص المعارض

بظاهره، أو بالمعنى المستنبط من النص المخصص للعموم. كما ذكرناه في النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وفي حديث الربا. فهذه مرتبة بين المرتبتين. ونظر أبي حنيفة ليس ببعيد في مسئلة بيع الكلب لأمر يرجع إلى امتناع التخصيص، لأن الشارع عليه السلام نهى عن اقتناء الكلب، وهو مقصور على ما يقتنى إعجاباً بصورته؛ فليس يبعد أن يكون هو المراد بتحريم البيع، كما أنه المراد بتحريم الاقتناء؛ إذ في تحريم اقتنائه إبطال الغرض المتعلق به، وإلحاق له بالخمر وما لا ينفع [به] شرعاً. ولكن في الشافعي رحمه الله يعترض على قياسه، ويبين أن للنجاسة تأثيراً في منع البيع، عرف ذلك بالشرع؛ فيبطل قياسه به، ويمتنع التخصيص لبطلان القياس بنظر آخر وراء [ما ذكره].

وليس ذلك الآن من غرضنا؛ وإنما الغرض التنبيه على هذه المراتب الثلاث. وليس في المقدور بيان آحاد الصور؛ وإنما القدر الممكن ضبط الأقسام الكلية. ثم كل قسم يندرج تحته صور كثيرة، تداني الدرجة الأولى من صورها الدرجة الأخيرة من القسم الذي قبله، وتقارب الدرجة الأخيرة من صورها الدرجة الأولى من القسم] 18 - أ [الذي بعده في الرتبة، فيثير ذلك نوعاً من الاشتباه والامتزاج. وقد يقع الشك في أصل الأقسام: بأن المعنى المفهوم من النص [أهو] من المعاني السابقة إلى الفهم، الصالحة لأن تكون قرينة معرفة للمعنى [مفسرة]؟ أو هو من المعاني المستنبطة بالفكر الذي يترتب استنباطها على فهم حكم اللفظ أولاً وتقريره؟ فكل ذلك إنما يستدرك بالقريحة الصافية، والفطنة المستقيمة. وفي مواقع تشابهها تختلف مسالك الناظرين، وتتباين طرق المجتهدين؛ ويختص [آحادها بدقائق، استدراكها] من شأن الناظر المجتهد في الفروع. وقد ينتهي الأمر فيها -لقدتها وخفائها -إلى منتهى يرجع إلى الحكم بالحدس، ووقوعٍ في النفس، يضيق عن التعبير عنها نطاق

النطق. وكل مجتهد فيها -إذا تحرى الصواب، وهجر التقليد والعناد -مصيب، أو مثاب على جهده وكده في طلبه وإن لم يحكم له بالإصابة. فإن قيل: قد أفضى مساق كلامكم إلى تجويز التصرف في النصوص، بتغيير ظاهرها لمعان مفهومة منها، ومعلوم أن سد الخلة ودفع الحاجة، معنى يسبق إلى الفهم من الزكوات؛ فعلا ساعدتم أبا حنيفة على مصيره إلى تسليط هذا المعنى على الظاهر، بالتغيير في مسئلة أخذ القيم في الزكوات، وفي مسئلة صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية، وغيرها؟ قلنا: لم نساعده، لا لامتناع هذا التصرف؛ ولكن: لأن معنى سد الخلة لم يتمحض اعتباره في الزكاة، بل انضم إليه التعبد، وعرف ذلك بالتنبيه على الأسنان في مراتب الحيوان في الزكوات، والإعراض عن القيمة في الأصل؛ والباب باب العبادة؛ فراعينا المعنى ولم يتمحض اعتباره، بل ضممناه إليه التعبد: لدلالة الأدلة عليه على ما استقصيناه في

تلك المسئلة، وليس ذلك الآن من غرضنا. ولعلنا نضيف إلى هذا الكتاب كتاباً في بيان التخصيص والتأويل، ونأتي فيه بمزيد تفصيل نشفي فيه الغليل. فإن النظر في هذا الفن متعلق بذلك القصد، ومنحرف عن [غرض] القياس؛ وهو الذي ترشحنا لبيانه الآن، وابتدأنا بالكتاب له؛ فلا ننجر إلى ما يخرج بنا عن الغرض الخاص أكثر من ذلك. فنرجع الآن إلى الغرض الذي كنا فيه، وهو: بيان طرق الإيماء وكشف الخالات المتطرقة إليها بالتنبيهات. خيال وتنبيه في أصل الإيماء إلى العلة: فإن قال قائل: قال الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية، وقد ذكرتم أن ترتيب الحكم على الفعل بفاء التعقيب، مشعر بالتسبيب، وهذه الآية تدل على كون الصلاة سبباً لوجوب الوضوء؛ والإجماع منعقد على أن الوضوء يجب بالحدث، وإن القائم إلى الصلاة -إذا كان متوضئًا غير محدث -لا وضوء عليه؛ وهو إخراج للصلاة عن كونها سبباً؛ وقد ذكرتم: أن أصل الايماء في [مثل] ذلك صريح في أصل التعليل، وإن احتمل الإحالة إلى معنى يتضمنه السبب، وليس هذا إحالة إلى معنى [معنى يتضمنه] المذكور، بل هو قطع له عن سببه بالكلية؟ فالجواب أن الوضوء إنما يجب للصلاة؛ ولذلك لا يجب على

المحدث أن يتوضأ قبل وجوب الصلاة عليه؛ فلا تخرج الصلاة عن كونها سبباً، ولكنها سبب في حق المحدث لا في حق المتوضئ، ومعناه: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فاغسلوا وجوهكم. والعلل المفهومة بالإيماء تحتمل التخصيص بالشرائط والمحال، وليس في تخصيصها بشرط دلت الدلال عليه إبطال لها. وهذا كالتعليل بالسرقة من قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، ثم خصص ذلك بالنصاب، ولم يكن إبطالاً للتعليل. وتعرف الأدلة المخصصة للعلل بالمحال والشروط، بما يعرف به تخصيص الألفاظ: من إجماع، ونص، وقياس جلي وغيره. فقد نقل: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان يصلي صلوات بوضوء واحد» فعلم أن الصلاة [سبب لوجوب الوضوء على المحدث]. نعم: يبقى على الناظر نظر في [أن الحدث سبب للوجوب عند الصلاة، أو الصلاة سبب] في حق المحدث، وأن الجاري [منهما] مجرى

العلة، والجاري مجرى [المحل و] الشرط -ماذا؟ وعلى الأحوال كيف ما كان، فلابد من اعتبار الصلاة وإبقائه معتبراً في الحكم -شرطاً أو سبباً. وفيه الوفاء بموجب الإيماء؛ لأن الشرط أيضاً مؤثر في الحكم ولكن بواسطة العلة؛ فلم يكن التخصيص والترتيب بفاء التعقيب لغواً من الكلام، بكل حال. والأولى عندي أن يقال: الصلاة سبب لوجوب الوضوء، والحدث سبب لانتقاضه؛ فالأحداث نواقض، والصلوات أسباب، ثم من توضأ للقيام للصلاة فهو ممتثل، وله أن يؤدي به صلوات، ولا يتكرر عليه الخطاب بعدد آحاد الصلوات، ولكن معناه: إذا أردتم الصلاة فاغسلوا، أي جنس الصلاة، فما دام المصلي بهذه الطهارة فحكم امتثاله مستمر لا يتجدد عليه الأمر إلا إذا انتقضت طهارته بحدث [ظاهر] ناقض؛ فعند ذلك ينقطع حكم الامتثال السابق. فإرادة الصلاة [بعده] والقيام إليها يوجب الوضوء. وقد قال قائلون: من أحدث قبل دخول وقت الصلاة وجبت عليه الطهارة وجوباً موسعاً إلى وقت الصلاة. وقال آخرون: لا، بل ابتدأ الوجوب بدخول وقت الصلاة، ولكن في حق المحدث وهذا هو الأولى.

وعلى الجملة: المفهوم من الإيماء تأثير الصلاة في الوجوب، وكيف ما فرض فلا ينقطع تأثيره بحال. خيال وتنبيه: فإن قيل: من مسالك الإيماء -فيما ذكرتموه -الفرق بين الحالتين بذكر الغاية. مثل قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}، و {.. حتى تغتسلوا}. وقد قال تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} فأشعر ظاهره -بزعمكم: أن المحلل هو النكاح ووطء الزوج الثاني، وأنه الرافع للتحريم. وإذا رفع أثر الثلاث: لزم عليه أن يرفع أثر الواحدة والاثنتين، بطريق الأولى. كما قاله أبو حنيفة. ومسلككم في الرد عليه قولكم: إن التحريم ممدود إلى غاية ينتهي عند انقطاع الغاية؛ ولا تأثير للغاية في القطع حتى يقال: إذا قطع الأكثر، فليقطع الأقل [بل] ينعدم التحريم: لأن الموضوع تحريم قاصر ممدود إلى الوطء، كما أن الصوم الموضوع [تحريم] قاصر ممدود إلى الليل؛ وفي هذا قطع لأثر الغاية، وإخراج لها عن كونها مؤثرة في الانقطاع؟ قلنا: ليس كذلك، فإن الوطء بالاتفاق مؤثر في التحليل؛ ولكن الخلاف في وجه التأثير: فعند أبي حنيفة: هو مؤثر في هدم التحريم وقطعه.

وعندنا: يؤثر في قطع مدة التحريم، والتحريم ينتهي بنفسه عند انتهاء مدته؛ فيكون التحليل ظاهراً بانتهاء التحريم، والتحريم منتهيا لانتهاء مدته؛ والمدة منتهية بالوطء: فإنه الغاية. وما يظهر الحكم عنده، ولا يستغنى في الظهور عنه -فهو معتبر في الحكم، وإن لم يكن على حقائق العلل المؤثرة وكان شرطاً. فالشرط معتبر، كما أن العلة معتبرة. والإيماء صريح في أصل الاعتبار، لا في طريقه. واحتمل أن يكون الوصف الذي إليه الإيماء شرطاً، واحتمل أن يكون علة. وعلى الأحوال كلها، فلا سبيل إلى إلغائه. وتسمية الشرط علة صريحاً جائر بطريق التجوز؛ فإضافة الحكم إليه كيف لا تجوز، والشرط مؤثر في الحكم ولكن بواسطة العلة لا بنفسه؟ كما بينا أن الوطء مؤثر في قطع مدة التحريم تأثيراً من غير واسطة، ثم التحريم ينتهي بانتهاء مدته؛ فيصير الوطء مؤثراً في الحكم بواسطة المدة، وإن لم يكن مؤثراً بنفسه.

وهذا نظر يتعلق بتلك المسئلة؛ والغرض: أن تعطيل الوصف المذكور -للفرق في الحكم -لا سبيل إليه، بعد جريان الفرق والفصل بين القسمين [به]. فإنه صريح في اعتباره، وهو متفق عليه، وإنما النظر في طريق اعتباره؛ والإيماء ليس صريحاً في تعيين طريق الاعتبار، وإنما هو صريح في أصل الاعتبار. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: من طرق الإيماء، ترتيب الحكم على الفعل بفاء التعقيب وترتيبه عليه ترتيب الجزاء على الشرط. وقد قال الله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به». رتب رفع الجناح على الخوف الثائر من الشقاق والنزاع، ولا تأثير له في صحة الخلع. وقد قال تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} في باب الشهادة، ولا تأثير لفقدهما في جواز الاستشهاد بالنساء. وقال عليه السلام: أيما أمرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطلٌ، و [فقد الإذن] لا تأثير له في الإبطال،

بل يبطل النكاح مع الإذن، كما يبطل مع عدمه. فالجواب: أن الإيماء لا يدل على أصل التأثير، وهو يتقرر في الخوف والشقاق: لأن الخلق لا يقع إلا عند الخوف في العادة الغالبة المستمرة؛ والوصف يذكر تارة لتأثيره في حكم الفعل، وتارة لتأثيره في وقوع الفعل. فمعنى التعليل أن يقال: حل الخلع به، وهو الظاهر من المطلق. ومعنى التأويل أن يقال: وقوع الفعل [به]، فإنه سبب وقوع الخلع. فحل الخلع يظهر بوقوع الخلع، ووقوع الخلع يظهر بالشقاق فكان مؤثراً في الحكم بواسطة الفعل. فمطلقه للتأثير بغير واسطة، ولكنه محتمل للتأثير بواسطة. فيجوز المصير إليه [بدليل، وقد يقتصر] في ذلك] 19 - ب [الدليل على القرينة العرفية المفهومة مع اللفظ، فإن جوزنا التصرف في النص بتغيير ظاهره اللفظي لمعنى يسبق إلى الفهم من نفس النص، و [هذا] هو المعنى بقول الفقهاء: إن هذا الكلام خرج مخرج العرف والعادة، وحاصله: إن المذكور مؤثر في الحكم بواسطة الفعل؛ فبقي أصل

التأثير، ورجع النظر إلى طريقه. وهو الجواب عن حديث النكاح بلا ولي، وعن [آية] الشهادة، وعن كل ما يطابق العادة. وفي الشهادة أمر آخر، وهو: أن الآية [سيقت] للإرشاد إلى طريق الاحتياط؛ ومن استشهد النساء مع وجود الرجال، فيحكم في حقه بمخالفة موجب الإرشاد، وكونه مائلاً عن توثيق الحق بكمال الاحتياط؛ فيظهر تأثيره في تحصيل الامتثال لأمر [يرجع إلى] الإرشاد. والأمر قد يجرى للإرشاد، وقد يجرى للإيجاب. فالتأثير ظاهر بالطريق الذي ذكرناه. فإن قيل: فقد قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم: من فتياتكم المؤمنات} الآية. فهلا نزلتم ذلك على تأثيره في الحكم بواسطة الفعل، مصيراً إلى أن الغالب: أن القادر على الحرة لا ينكح الأمة فيرق ولده، ويضيق على نفسه الاستمتاع. ولم رددتم مذهب أبي حنيفة إذ صار إليه؟. قلنا: نظره ليس باطلاً لأن الآية [لا] تحتمل هذه التأويل

ولكنا قد نعول على [المعنى في تلك المسئلة، وهو إرقاق الولد، وقد نعول على] الآية ونبطل دليل الخصم على تأويله -بالطرق المذكورة في تلك المسألة. فأما أصل التأويل، فغير ممتنع في نفسه. فينتج -من ذكر هذه الأمثلة والتنبيهات والخيالات -أن الإيماء صريح في اقتضاء الربط بين الحكم وبين الوصف المذكور؛ وظاهر الكلام لربط الحكم بالوصف من غير واسطة، ولطرد الوصف على العموم وجعله علة من غير تخصيص، ولكن يحتمل التخصيص بشرط ومحل: إذا قام الدليل؛ كما في آية الوضوء والسرقة. ويحتمل إبقاء التأثير مع تخلل واسطة في كلا طرفي الحكم والعلة. أما في طرف العلة، فكما ذكرناه في وصف الغضب واقتضائه تحريم القضاء بواسطة ضعف العقل، ووطء الزوج الثاني واقتضائه الحل بواسطة انتهاء المدة. وأما في طرف الحكم [فـ] كارتباط حل الخلع بالخوف بواسطة الفعل: من حيث ترتب حكم الحل على الفعل، وترتب الفعل في وقوعه

على الخوف. فصار حل الخلع ظاهراً بالخوف. وكل ذلك طريق الاحتمال. والكلام ظاهر في ربط الحكم بالوصف مطلقاً من غير واسطة، ومحتمل لهذه الجهات على موجب قيام الدليل عليها. وفيه تمام البيان الذي يتعلق بالإيماء إلى العلل والتنبيه عليها. فإن قيل: فإذا كان الإيماء يدل على التعليل على وجه لا يحتمل التغيير، فهو إذن نص في أصل التعليل. فما الفرق بينه وبين التصريح بالتعليل، [وما جرى التصريح بالتعليل به تتطرق] إليه هذه الضروب من التصرفات؟ قلنا: لا فرق] 20 - أ [بينهما في إفادة المعرفة، وإنما طريق التعريف هو المختلف [فيه]. وللتعريف طرق، من جملتها: النطق والتنصيص على المقصود بعبارة موضوعة له في الأصل. والتركيب في هذا الجنس يطابق المفردات، ولا يتجدد بالنظم إلا تركيب المفردات. وللعرب وراء ذلك عادات في البيان وتعريف المقصود، دون التعلق بالعبارة الموضوعة في الأصل للدلالة عليه. [فالتعريف بالطرق] المعتادة في البيان كالتعريف بذكر الأسامي الموضوعة بإزاء المسميات. فمن عاداتها: الحذف والإيجاز في بعض المواضع. كقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام

أخر} فمعناه: «فأفطر فعدة»؛ فحذف ذلك إيجازاً، وحصل الفهم كما لو نطق به من غير فرق. وقال جل من قائل: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٌ من صيام} يعني: فحلق ففدية. وقال جل وعز: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى}، أي: فأردتم الإحلال. وقال جل من قائل: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} يعني: فضرب [فانفجرت]. والفائدة في ذلك كله -عند الذكر وتركه -واحد. [ومن عاداتها] في البيان؛ النبيه على الشيء بذكر نظيره، وضرب مثل فيه، دون التعرض له في نفسه. وهو في الإفادة كالتعرض له. كقوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} يعني: أنه محرم كأكل لحم الغير. وقوله عز وجل {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل}، الآية؛ عرف به تضعيف الحسنات في مقابلة الإنفاق، ونزل في الإفادة منزلة تصريحه في قوله عز وجل:

{وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}. ومن هذا الجنس، قوله عليه السلام: «لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» نزل هذا في حقنا منزلة قوله: حرمت عليكم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد»، ولكن عرف التحريم بذكر اللعن الذي هو موجبه، وعرف تعلق التحريم [بنا] بتعيير اليهود بذلك، وأن مثله يذكر في معرض التحذير في العادة. [ومن الألفاظ] والأسامي ما يجري على لسان ذكرها ولا يكون مقصوداً، ويعرف ذلك [بجري العادة] في النظم. كقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركا له في عبد» و «أيما رجل مات أو أفلس» الحديث. فذكر العبد والرجل جرى وفاقاً، لا أثر له في

الحكم، ولكنه سابق إلى اللسان في عادة البيان، بتغليب الذكور -في الذكر -على النساء. ويقرب من هذا الجنس، قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}. فخصص بالتحريم اللحم؛ والشحم والجلد وسائر أجزائه مفهومة منه؛ فنزل في البيان منزلة قوله: والخنزير، وحمل التخصيص فيه على عادة البيان، وهو: أن السابق إلى اللسان ما يعتاد أكله، وهو: اللحم. فهذا ومثاله -من عادات البيان عند نظم الكلام يعرفها من ألفها ومارسها؛ وتبين به أن [التعريف بحكم] المسمى غير موقوف على النطق بالعبارة الموضوعة] 20 - ب [له في أصل الوضع، ولا ينبغي أن يتعجب [الإنسان] من قولنا: إن الإيماء إلى الوصف الذي أضيف الحكم إليه، نص في اعتباره. وإن لم يكن ذلك نطقاً صريحاً. هذا كله كلام منا في الدلالة على كون الوصف علة بالطرق النقلية، التصريحات منها والتنبيهات.

المسلك الثالث: إثبات كون الوصف علة بالإجماع. وما دل الإجماع على كونه مؤثراً في الحكم وموجباً له، فهو مقبول كما دل عليه النص والإيماء، ولذلك أمثلة: منها: أن الأخ للأب والأم يقدم على الأخ للأب في الميراث؛ [يقاس عليه] التقديم في ولاية النكاح؛ والجامع: أن [رجحان أحد السببين]-مع الاشتراك في الأصل -يوجب التقديم، كما في الإرث. فإذا قال المطالب: ولم قلت: إن الاختصاص بمزيد هذا السبب، له تأثير في [هذا] الحكم؟ فنقول: الإجماع منعقد على التقديم في الميراث، وعلى أن التقديم بهذه العلة. فهذه المزية ظهر بالإجماع أثرها في جنس هذا الحكم، في غير محل النزاع. المثال الثاني: أن الجهل بالعوض له تأثير في الإفساد ومنع الثبوت

في الذمة [في البيع]؛ فيقاس عليه المهر، ويقال: عوض مجهول، فيفسد ولا يثبت كالثمن. فإذا قيل: ولم قلتم: إنه يفسد لكونه مجهولاً؟ فنقول: الإجماع منعقد على أن للجهل تأثيراً في إفساد العوض. وإذا أثر في غير محل النزاع بالإجماع، فليؤثر في محل النزاع. المثال الثالث: أن نقول في السارق إذا تلف المال تحت يده: إنه مال تلف تحت اليد العادية، فيضمن كالمغصوب. فإذا قيل: ولم قلتم: إن تلف المال تحت اليد العادية يوجب الضمان؟ قلنا: بالإجماع ظهر تأثير هذا الوصف في إيجاب الضمان، في مسئلة الغصب وجميع الأيدي العادية. المثال الرابع: أن يقول الحنفي في الثيب الصغيرة: إنها صغيرة، فيولي عليها في بضعها كالبكر الصغيرة. فيقال: ولم [قلت: إنها] إذا كانت صغيرة يولي عليها [في بضعها]؟.

فيقول: ظهر بالاتفاق -في غير محل النزاع -تأثير الصغر في الولاية. فإن أراد بذلك البكر الصغير: توجه المنع عليها، فإنها مولي عليها للبكارة عندنا لا للصغر. فيقول: ظهر تأثير ذلك في الابن الصغير، وفي ولاية المال - بالاتفاق؛ وولاية البضع من جنس ولاية المال؛ فإذا أثر في شيء أثر فيما هو من جنسه. فتنقطع المطالبة بهذا القدر.

المثال الخامس: أن يقول الحنفي: المريض إذا أقر بعد أن صار ماله مستغرقاً بالدين بإقراره في الصحة -لم يقبل إقراره، لأنه بالإقرار يفوت حق غرماء الصحة، فيكون محجوراً عليه كما في الهبة. فيقال: ولم قلت: إنه إذا فوت حقهم ينبغي أن يكون محجوراً؟ فيقول: كما في الهبة. فيقال: ولم قلت: إن منع الهبة معلل بذلك؟ فيقول: الإجماع منعقد على أنه إن لم يكن دين مستغرق، نفذت هبته في الثلث. وإنما امتنعت هبته، لما فيه: من تفويت حق الغرماء. وإن أنكر منكر ذلك: وجب التعليل به؛ لأن حق الغير -بالاتفاق -له تأثير في الحجر في الهبة] 21 - أ [كما في الرهن، وكما في التركة إذا تعلق الدين بها. فهذا وصف عهد مؤثراً في الحجر، في الشرع بالاتفاق. وأمثلة ذلك كثيرة. ولعل شطر المسائل القياسية يجري على هذا المنهج. وهو مقبول باتفاق القائلين بالقياس.

خيال وتنبيه: فإن قال قائل: من قدم الأخ من الأب والأم، على الأخ من الأب باختصاصه بالقرابة المخصوصة، مطالب بإثبات العلة؛ ولا يغنيه قوله: إن هذا يؤثر بالاتفاق في التوريث. إذ يقال: إذا سلم لك تأثيره [في التوريث والتقديم فيه] فلم ينبغي أن يؤثر في التقديم في ولاية النكاح؟ وهل وقع النزاع إلا فيه؟ وكذلك يقال للحنفي إذا علل بالصغر: إنه إن سلم لك تأثير الصغر في ولاية المال وفي حق الابن، فلم قلت [إنه] ينبغي أن يؤثر في ولاية البضع وفي حق الثيب؟ وهل النزاع إلا فيه؟. وهلم جرا إلى جميع الأمثلة التي أوردتموها [فإن المعلل لا يخلو إما أن يكون أظهر] تأثيرها في عين الحكم المتنازع فيه، أو في حكم آخر يزعم أنه من جنسه. فإن ظهر تأثيره في عين الحكم المتنازع فيه: لم يتصور الخلاف معه؛ إذ الوصف إذا اتفق على كونه مؤثراً [في إيجاب حكم، كيف يحكم بتخلف الحكم عنه من وافق على كونه مؤثراً] فيه؟ وهل لموافقته على كونه مؤثراً فيه معنى سوى ثبوت الحكم [به] وترتبه عليه؟ وإنما يتصور إظهار الوفاق في غير محل النزاع.

وكذلك الجهل: ظهر أثره في إفساد العوض في عقد البيع؛ فلم ينبغي أن يؤثر في [إفساد] الصداق [في عقد النكاح]؟. وحق الغير: ظهر تأثيره [في الحجر] في الهبة في حق المريض، فلم ينبغي أن يؤثر في الحجر في الإقرار؟ فما وجه التقصي عن هذه المطالبة؟ الجواب: أن هذه المطالبة ساقطة [العبرة] باتفاق القائمين. وفي قبولها حسم باب القياس، فإن التعليل: لتعدية الحكم المنصوص [عليه] إلى غير محل النص. وهذا السؤال يرد على العلل الثابتة بالنص والإيماء وطرق التنبيهات. فيقال: إذا حرم البيع في وقت النداء لكونه تركا للسعي الواجب، فلم يحرم النكاح والإجارة؟ وإن سلم كون ترك السعي موجباً تحريم البيع، فلم يوجب تحريم النكاح؟ وأي بعدٍ في أن يحرم ترك السعي بالبيع، ولا يحرم بالنكاح؟. ويترقى من هذا إلى التخصيص بالشخص والزمان [والمكان]، فيقال: إذا أثر الزنا في حق ماعز، فلم يؤثر في حق غيره؟ وأثر الجماع في إيجاب الكفارة في حق الأعرابي، فلم يؤثر في حق غيره؟

فإن قيل: ظهر على القطع أن لا اختصاص للحكم [بالأعيان والمكان والزمان؛ وعرف هذا بأدلة قطعية في الشرع]. قلنا: [لا مستند] فيه إلا معرفتنا بإتباع الأحكام الأسباب المؤثرة فيها. فأنا لا نقتصر على إلغاء الزمان والمكان، فقد قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فمالكم عليهن من عدة تعتدونها} الآية. ورد ذلك في حق المؤمنات، ويلحق بهم الكافرات؛ لأنه فهم السبب، وهو: الطلاق قبل المسيس، فإذا كان سبباً لسقوط العدة في حق المؤمنة، فكذلك يكون في حق الكافرة. وكذلك قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فإن ذلك في اللمس والغائط، ونحن نطرد ذلك في البول] 21 - ب [والنوم والمذي والمني وجميع الجهات. لأنه فهم بالإيماء أن السبب: فقد الماء، فاتبعنا السبب دون المحل. وعلى الجملة: مثل هذا السؤال يظهر من منكري القياس، وينجر بهم إلى إنكار هذه الأمثلة، وهو خروج عن إجماع الصحابة واتفاق العلماء. وكل ذلك باطل، لأن المعنى المؤثر إذا ظهر: قضت العقول

باتباعه وقطع النظر عن المحال والصور. فإن قيل: أليس ينقدح في الفرق بين التقدم في الميراث، والتقدم في ولاية النكاح -أن يقال: لقرابة الأم مدخل في الإرث، فأثرت في الترجيح؛ وليس لقرابة الأم مدخل في ولاية النكاح؟ قلنا: [القياس لا يحسم] باب الفرق على المعترض، ولكن إبداء التأثير يحسم [عليه] باب المطالبة، ويرهقه إلى بيان مفارقة بين المحلين، بعد جريان الاشتراك فيما ظهر تأثيره. والنظر في هذا يتعلق بالمجتهد، وبالمناظر: أما المجتهد، فعليه أن يبحث عن مدارك الفرق بين الميراث [وبين] ولاية البضع، بطريق السبر والتفحص عما يعن له من الخيال. فإذا لم يظهر له فرق: فقد سلم جمعه عن المعارضة، فيحكم به. وإن ظهر [له] الفرق: نزل ذلك منزلة المعارضة إذا ظهرت. وأما المناظر، فليس عليه -في النظر -التعرض لانحسام مداراك الفرق، بعد إبانة الاشتراك في الوصف المؤثر: لأن الاشتراك في الوصف المؤثر غلب على الظن الاجتماع؛ فعلى الخصم إبداء ما يقابله. أما المطالبة المحضة، دون التنبيه على وجه الإشكال في الفرق، فساقط. فإن قيل: لم قلت: إن [مزية] قرابة الأمومة إذا رجح

قرابة الأبوة فيما لها أثر فيه، فينبغي أن يرجح فيما لا أثر لها [فيه]؟ فهذا السؤال صحيح وإن كان عليه صيغة المطالبة؛ لأنه اشتمل على التنبيه على ما يطرق إشكالاً على الجمع، فإن هذا الوصف له أثر [في الميراث] فلا يبعد أن يكون معتبراً في الترجيح [فيه]. فقد نبه على الفرق ولكن على صيغة المطالبة، وهو الأحسن في إيراد [هذا] السؤال، والأبعد عن الانتهاض للابتداء والتمهيد، والتصدي للذب عن صحة دعوى يذكرها في معرض فرق مطرد منعكس، يطالب بتصحيح كلا طرفيه. فإذا ذكر هذا السؤال، فعلى المناظر المعلل أن يعترض عليه بما يفسده. فإن عجز: كان منقطعاً. وهذا الجنس جار في جميع الأقيسة. فأما المطالبة المحضة -بعد تسليم تأثير الوصف في الحكم في الأصل -فهو دعاء إلى تخصيص العلل بمواردها. وهو حسم لباب القياس. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: حاصل هذا المسك راجع إلى أن الإجماع أظهر تأثيراً لمعنى في حكم، فليكن مؤثراً في جنسه. وللمنازع أن يقول: أنا قائل بموجبه، وهو مؤثر في جنسه؛ ولكن ما الدليل على أن محل النزاع

[من] جنس محل الوفاق؟ فلابد من إقامة الدليل عليه، والخصم لا يسلم أن ولاية النكاح -في استحقاق التقدم فيه -من جنس الميراث، ولا أن ولاية البضع -في حق الصغير -من جنس ولاية المال، ولا أن الصداق -في التأثير بالجهالة] 22 - أ [من جنس الثمن، ولا أن الإقرار -في حق المريض -من جنس التبرع، وهلم جرا إلى نظائره. ولو لم يطالب بإقامة الدليل على ذلك [واكتفى]-بما ادعاه -من التأثير فيما زعم بتحكمه أنه من جنسه -لا تسع مسلك التعليل والإلحاق، ولجاز إبعاد النجعة بالتأليف بين المتباعدات. فيقول القائل ضرباً للمثل: ظهر تأثير الحلول في إبطال الكتابة على أصل الشافعي، فيلكن مؤثراً في إبطال السلم، من غير إقامة دليل على أنه من جنسه. ويقول أيضاً: ظهر تأثير التفرق قبل القبض في إبطال بيع المطعوم بالمطعوم؛ فليظهر في الثياب وسائر الأموال. وكذلك في حكم تحريم الفضل والنساء. وكذلك يقول: الحج يقضى عن الميت، لأنه دين كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتقضى الصلاة والصوم كذلك. إلى غير ذلك:

من أمور بعيدة لا من ارتكابها في نصرة هذا المسلك، ولا وجه لها. فالجواب: أن إقامة البرهان على تجانس الحكمين ليس في المقدور؛ لأن المجانسة تثبت بالاشتراك في جميع الصفات، وانتفاء الصفات الفارقة. وذلك غير متصور؛ فإنه إذا ظهر الاشتراك في صفات، تبقى [صفات فارقة ظاهرة، وتحتمل] صفات فارقة خفية: ينسب مدعي انتفائها إلى التحكم بما لا يعرف. وفي هذا السؤال -أيضاً -حسم باب القياس، كما في التخصيص بالمحل والشخص والزمان والمكان في الأمثلة التي ضربناها. ولكن لو فوض إليه التحكم بدعوى الجنسية: للزم منه نوع آخر من التحرف والاتساع. فإنما الحكم الفصل، والفيصل العدل؛ إبانة التساوي في المناسبة، وبه تنقطع المطالبة. وبيانه أن نقول: قدم الشرع الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب، في الميراث. وليس هو على مذاق التحكمات الجامدة، التي

لا تلائم مسالك العقول في رعاية العدل والنصفة والنظر للجوانب؛ بل عقل أن تقديمه لاختصاصه بهذه المزية المخصوصة من القرابة. فهو سبب الترجيح والتقديم. وهو معنى يناسب التقديم، ويتقاضاه ويستدعيه. ومناسبته للتقديم في ولاية النكاح، كهي في الميراث. فإن التقدم والتقديم والسبب المقدم لا يختلف بما فيه التقديم؛ وإنما الاختصاص يناسب التقديم مطلقاً في كل ما يتصور فيه التساوي والتفضيل. وهذا القدر من التقدير يغلب على الظن الاجتماع، وتنقطع به المطالبة، وعلى الخصم بعده أن ينبه على وجه الفرق، كقوله: إن قرابة الأم لها مدخل في الوارثة، ولا مدخل لها في ولاية النكاح. [فتأثيرها في الترجيح فيما لها فيه مدخل، لا يدل على تأثيرها في الترجيح فيما لا مدخل لها فيه]. فيقول القائس: لا مدخل لقرابة الأم في العصوبة؛ وهذا ترجيح [في الميراث] بطريق العصوبة. فيقول المعترض: الفرض والتعصيب طريقان في الميراث؛ فله -على الجملة -مدخل في جنس الميراث. فيقول القائس: إنها -مع كونها مؤثرة في الفرض -ساقطة التأثير في أصل العصوبة؛ فكيف اعتبرت في الترجيح [بالعصوبة في

الميراث]؟ كذلك يتجاذبان أهداب النظر، وتجري مراتب الكلام على مسالك معقولة المرام، متسقة النظام، فأما الجمود على المطالبة بعد إبداء المشاركة في المناسبة [فـ] لا وجه له. وكذلك الحنفي [إذا قال] في الثيب الصغيرة: إنها صغيرة فيولي] 22 - ب [عليها كالبكر؛ وطولب بإثبات الوصف -فيقول: ظهر تأثير الصغر في ولاية المال؛ وولاية البضع من جنس ولاية المال. فإذا قيل: لم قلت: إنه من جنس ولاية المال؟، كفاه أن يقول: هو من جنسه في مناسبة الصغر إياه؛ لأن التصرف في البضع كالتصرف في المال، لارتباط قوام مصلحة المعيشة [به]؛ والصغر نوع عجز يستدعي نصب قوام مشفق يتولى ما يتعلق بالمصلحة. ففي هذه المناسبة تستوي الولايتان، وليس ربط ولاية المال بالصغر خارجاً عن المعقول، بل هو معقول، وسببه ما ذكرناه. فعلى الشافعي -بعد ذلك -النزول عن المطالبة، والتنبيه على وجه

الفرق بين الولايتين، أما من جهة الإيماء في إضافة هذه الولاية إلى البكارة والثيابة في الأحاديث الواردة؛ [أو] [إلى] الإجماع على تأثير الرضاء في ولاية البضع بالبكارة، دون ولاية المال. يعني [به] الاكتفاء بالصمت؛ أو إلى المناسبة في إفادة الثيابة نوع ممارسة توجب قطع الإجبار عنها. إلى غير ذلك: من طرق الكلام في تلك المسألة. وكذلك: إذا قال الحنفي في مسألة غرماء الصحة والمرض: إن إقراره في المرض يفوت حق الغرماء، فيبطل في حقهم كالهبة؛ فطولب بالإثبات- يكفيه أن يثبت بالسير أن الهبة امتنعت لحقهم [فينبغي أن يمتنع الإقرار]. فإذا سلم له ذلك وقيل له: لم قلت: أن الهبة إذا امتنعت لحقهم، ينبغي أن يمنع الإقرار؟ كان السؤال ساقطا بعد استواء الهبة والاقرار في المناسبة، لآن المقصود عصمة حقوقهم؛ والإقرار كالهبة في التفويت. فعلى الشافعي أن ينبه على وجه الفرق، بأن يقول مثلا: حق الغريم أثر في منع المريض من الهبة المستغنى عنها؛ فلم يؤثر في المنع من الإقرار المفتقر إليه دينا وشرعا وعرفا؟

فيقول الحنفي: إذا ظهر أن المانع حقوق الغرماء، استوى في الممنوع به المحتاج إليه والمستغنى عنه؛ كما في الرهم والتركة: إذا تعلق بها الدين. فيقول الشافعي: حق الغريم ليس كهبة الحقوق، فإنه لا يمنعه من صرفه إلى أوطاره وأغراضه، وأثمان الجواري واستيلادهن، ومهور النساء مع الاستغناء عنهن؛ لأن ذلك في مظنة الحاجة، وكذلك الإقرار ملتحق بها، وينقطع عن الهبة. فهذا تدرج النظر، وترتيب الفكر. فأما المطالبة، فمنقطعة ببيان الاستواء في المناسبة. كما سبق. وأما ما أوردناه- من الأمثلة في تقرير هذا الخيال- فسبيل دفعها أن يقال: أما قول القائل: الحلول أثر في إفساد الكتابة، فليؤثر في إفساد السلم- فهو باطل لأن هذا القدر ينتقض بالبيع وسائر العقود التي لا يشترط فيها الأجل. وإذا قيد بما هو احتراز: توجهت المطالبة بابداء الاستواء في المناسبة. فإن أبدى: يأن كل واحد عقد إرفاق شرع في حق عاجز بالرق

والإفلاس؛ والرفق ينتفي بالحلول- كان هذا على شكل القياس، وانقطعت عنه المطالبة، ولزم أن يعترض عليه إما بالقرض، أو بالفرق بين السلم والكتابة، أو أنه لا قائل لهذا المذهب [23 - أ] وهو: التسوية بين العقدين في الصحة والبطلان؛ فإن كل واحد من الفريقين فرق بينهما، إلا أن يصدر من مذهب ذي مذهب، فيعترض عليه [بطريقة] لا بالمطالبة. وأما القول القائل: التفرق قبل القبض أبطل بيع الطعام بالطعام، فليبطل غيره [فهو] تحكم، ولا يمكنه ابداء الاشتراك في المناسبة. وأبو حنيفة لا يقول باشتراط التقابض إلا في النقود، ويعلل ذلك [بالتحرز] عن بيع الكالئ بالكالئ، ولا يطرد ذلك في سائر الأعيان. والشافعي يعلل تحريم المطعوم بسبب الطعم ومناسبته لتقييد طريق تحصيله بمزيد شرط وتضييق؛ فالمطالبة متوجهة على هذه العلة. وأما قول القائل: إن الصوم دين كالحج، فيقضي عن الميت- فهو على شكل القياس. وكيف لا، وقد علل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

بكونه ديناً، في قوله: «أرأيت لو كان على أبيك دين [فقضيته»] ولكنه منقوض بالصلاة. فإن خالف مخالف مخالف فيهما دميعا: منع من هذا القياس بالفرق لا بالمطالبة؛ وقيل: كونه ديناً أثر في تجويز النيابة للوارث فيما يقبل النيابة شرعا في الحياة، وهو: الحج، فلم يؤثر فيما لا يقبل النيابة أصلا؟ فيكون هذا تنبيها عل وجه الفرق، ويبين أن المطالبة تنقطع بإبداء الاستواء في المناسبة. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: ابداء الاستواء في المناسبة إنما يمكن فيما عقل المعنى في كونه مؤثرا [في حكم] وقد ينصب الشارع سببا مؤثرا في حكم: لا يعقل معناه، ولا ندري: لم أثر فيه؟ وهذا كقوله عليه السلام: «من مس ذكره فليتوضأ»، جعل المس سببا للوضوء، ولا يعقل معناه؛ ومع هذا يقاس عليه مسه.

ذكر الغير, وقد يخرج عن عمومه مسه ذكر نفسه بعد الابانة. وكذلك قال تعالى: {أو لامستم النساء}، فجعل اللمس سببا للوضوء ولا ندري مناسبته [له]، ثم ألحق به الرجل إذا لامسته المرأة إذا لامست الرجل. وكذلك: انعقد الاجماع على أن خروج الخارج من السبيلين يوجب الوضوء، ولا مناسبة له، وألحق الخارج من غير السبيلين [به]. أما أبو حنيفة: فألحق الفصد والحجامة وغيرهما. وأما الشافعي: [فألحق] ما إذا انسد المخرج المعتاد وانفحت ثقبة تحت

المعدة. إلى أمثال له يجري فيها شكل القياس المؤثر، ولا يمكن إبداء المناسبة حتى يظهر به الاستواء في المناسبة. وصورة القياس في هذه المسائل أن يقول: مس الذكر، فينتقض وضوءه، كما إذا مس ذكر نفسه. فإذا طولب، قال: ظهر تاثير مس الذكر في الوضوء بالنص، وهو قوله عليه السلام «من مس ذكره فليتوضأ». فإن قيل له: ظهر تأثير مس ذكره في الوضوء لا مس ذكر غيره؛ فكيف ينفصل عن المطالبة بإبداء الاستواء في المناسبة؛ ولا مناسبة أصلا؟ وكذلك يقيس الملموس على اللامس، ولمس المرأة الرجل على لمس الرجل المرأة؛ ويظهر التأثير بالنص، ويعجز عن إبداء الاستواء في المناسبة. وكذلك: في خروج الخارج من السبيلين. وكذلك: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي، فجعل عتق التشرك سببا لعتق الباقي وغرمه، ولا مناسبة له، ثم تقاس عليه الأمة». إلى غير ذلك: من نظائر لها كثيرة، ترجع جملتها إلى نصب الشارع [23 - ب]، أسبابا مؤثرة في أحكام لا يعقل معنى كونها مؤثرة

في إثبات تلك الأحكام، ويجري فيها القياس. فما سبيل الخروج عن المطالبة دون إبداء المناسبة فيها؟ [أو ما سبيل إبداء المناسبة فيها؟، أو] ما وجه الافتقار إلى المناسبة في الآمثلة السابقة، [إن لم نفتقر إليها في هذه الأمثلة]؟ فالجواب: أن هذه الأمثلة اختلف الأصوليون في تسميتها: فمنهم من عبر عنها: بأنها في معنى الأصل. وهذا عندنا كلام مجمل. والوجه: تسميتها قياسا، ولكن ليس من قبيل الأمثلة السابقة. فإن القائس- في مثل هذه الأمثلة- لا يجعل السبب المؤثر في حكم [مؤثرا في حكم] آخر، حتى يطالب بإثبات المجانسة بين الحكمين، بالاستواء في المناسبة. ولكنه يجعل السبب مؤثرا في عين الحكم الذي ظهر أثره فيه، ولكن في محل آخر غير منصوص عليه إذ [قد] ظهر تأثير اللمس والمس وخروج الخارج، في إيجاب الوضوء؛ وهو يجعلها مؤثرة في إيجاب الوضوء.

نعم، لو قال [قائل]: هذه الأسباب إذا نقضت الطهارة، ينبغي أن تنقض الصوم- لكان هذا وزان الأمثلة السابقة، ولقيل له: لم قلت: إذا ظهر تأثيره في نقض الطهارة ينبغي أن يظهر في نقض الصوم؟ ويضطر إلى إبداء المجانسة بالاستواء في المناسبة. [نعم: نرى] أن يلقب هذا القياس بتنقيح مناط الحكم ومتعلقه. وسنذكر أمثلة هذا الجنس في موضعه. وقد سمى فريق من الأصوليين هذا الجنس: دلالة الخطاب. وسماه آخرون: ما في معنى الأصل. وحاصل ذلك يرجع إلى تنقيح متعلق الحكم ومناطه، بإلغاء ما اقترن [به] وفاقا غير مقصود باضافة الحكم إليه. فإن قوله: «[من] مس ذكره فليتوضأ»؛ إضافة الوضوء إلى مس الذكر لا باعتبار أنه ذكره؛ ولكن جرى ذكر الإضافة إليه وفاقا، لأنه الغالب في المس؛ إذ يبعد أن يمس الإنسان ذكر غيره. وكذلك قوله عليه السلام: «من أعتق شركا له في عبد» [الحديث].

فإعتاق البعض سبب السراية [لإعتاق كل العبد]؛ ولكن جرى ذكر العبد وفاقا: لأنه السابق إلى اللسان في العادة. فهو- بحكم العادة- كناية عن الرقيق. وكان كقوله عليه السلام: «أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه». والمرأة ملحقة بالرجل، ولكن جرى ذكر الرجل وفاقا: لأنه السابق إلى اللسان، فهو- بحكم العادة- كناية عن الإنسان في هذا المقام. وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق يوم يقدم زيد، فقدم ليلا- طلقت عند أكثر الفقهاء، لأن اليوم في هذا المقام- بحكم العرف- كناية عن الوقت، فإنه السابق إلى اللسان.

وكذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لا يبلون أحدكم في الماء الراكد» يتضمن تحريم صب البول من الكوز في الماء؛ لأن المفهوم المنع من تنجيس الماء بإلقاء النجاسة فيه؛ ولكن الإنسان بطبعه ممتنع من إلقاء النجاسات في الماء من غير غرض؛ وإنما يتفق منه البول في الماء؛ فجرى تخصيصه وفاقا بحكم العادة. وهذه أمور تعرف من دلالة الخطاب، وسياق الكلام، وقرينه الحال. فنتجاسر على الإلحاق ونتقصى عن المطالبة في هذا الجنس من الإلحاق، بهذا [24 - أ] الفن في الكلام. والجواب الآخر: أن هذا الجنس- أيضا- غير خارج عن فهم نوع من المعنى. فإن المس نوع هتك: إذ هو مقدمة الإمذاء؛ فإنه يحرك الآلة، ويبعث الشهوة، ويذكر الوقاع؛ فيخرج المذي: فينتقض الوضوء، لكونه سبب خروج المذي وإن لم يخرج. وكذلك: لمس النساء سبب الإمذاء، فينتقض الوضوء وإن لم يمذ.

كما كان النوم سبب خروج الريح، فكان حدثا وإن لم يخرج. وكذلك: التقاء الخانين سبب خروج المني، فجعل جنابة وإن لم يتحقق. وخروج النجاسة- على الجملة- يناسب الاشتغال بالتطهير في محل النجاسة، وفي جميع البدن. ولكن حط استيعاب للعسر، واقتصر على الأعضاء الظاهرة في الغالب. فهذه المعاني تفهم من هذه الأسباب في التخصيص، وفي التعدية: إما بنفسها، وإما بكونها قرينة معينة في فهم مناط الحكم من جهة المذكور، ومنبهة على إلغاء ما لا مدخل له في هذا النوع من التأثير. فهذا طريق تقرير هذا الفن، وقد سمينا هذه الأجوبة: تنبيها، وهي- على التحقيق- خيال في مقابلة خيال؛ وهو: سياق نوع من الجدال، وتمهيد طريق إلى التخييل والاحتيال. وإنما الكشف الشافي ما نذكره الآن، وهو [أن] قول القائل: إذا ظهر تأثير العلة في حكم، فلم ينبغي أن يؤثر في جنس آخر من الحكم؟ إن كان محل التعدية جنسا آخر. وإن كان عين الحكم أو مثله، فكيف تتصور- مع تسليم كونه مؤثرا- المنازعة في الحكم مع وجود المؤثر فيه؟. وهذا خيال لا طائل وراءه: فإن العلة إذا ظهر تأثيرها فيحكم، فلا تستعمل في إثبات حكم آخر- أعني: في إثبات نوع آخر من الحكم-

بل تستعمل لتعدية ذلك الحكم بعينه إلى محل آخر، على لسان الفقهاء. وهو- على التحقيق- إثبات مثل ذلك الحكم في محل آخر. وهو كالأمثلة التي ضرناها في اللمس والمس وخروج الخارج؛ فإنه جمل علة لانتقاض الوضوء: فلا يستعمل إلا في انتقاض الوضوء؛ ولكن في محل آخر غير محل النص: كمس ذكر الغير، ولمس المرأة الرجل، وخروج الدم من غير المخرج المعتاد. وجميع الأقيسة تجري على هذا المثال: فإن القياس لتعدية حكم المنصوص بالعلة المتعدية، وتعميمه لعموم العلة. ولو كان يثبت بالعلة جنس آخر من الحكم: لم يكن هذا تعدية المنصو؛ بل كان ابتداء لحكم على سبيل الاستئناف. فلعتقد هذا في كل قياس. أما المثال الذي ضربناه في تقديم الأخ من الأب والأم في الميراث، وقياس التقديم في ولاية النكاح عليه- فهو من هذا القبيل: لأن الاختصاص بهذه المزية علة التقديم في الإرث، فيعمم التقديم؛ وهو قضية معقولة، ونعديه إلى محل آخر وهو: ولاية النكاح. وتكون نسبة ولاية التزويج إلى الإرث، كنسبة الزبيب إلى التمر في الربا؛ فإن الطعم والكيل حرم الفضل في التمر، فيثبت تحريم الفضل في الزبيب: للاشتراك في العلة. وكذا: الصغر علة ولاية المال، وولاية البضع- في حق الابن، فيجعل علة ولاية البضع في حق الثيب [الصغيرة]، لأنه عقل كونه

علة الإجبار والولاية [في البضع] في حق الابن، وهو محل الحكم، فيعدى إلى البضع في [حق] الثيب؛ والبضع ينزل من المال منزلة نوع من المال مع نوع آخر، ومنزلة الزبيب من التمر في الربا. فالحكم الثابت في محل الإجماع بعينه، يعدى [24 - ب] ويعمم بالقياس. وكذلك نطرد هذا الجنس في جميع الأمثلة التي ذكرناها. وإذا نبهنا على الطريق: لم يخف وجه التقرير في جميع الأمثلة؛ وما خرج من هذا الجنس فليس من القياس في شيء. فإن قيل: أليس جعل الشرع القتل علة الحرمان في الميراث، فجعل [بالقياس علة] بطلان الوصية، وهو حكم آخر. وقد قال تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}، جعل الضعف والسفه علة قضاء الدين، فجعل علة الإجبار في سائر التصرفات: من البيع والإجارة، وغيرهما؟ قلنا: هذا داخل الحد الذي ذكرناه. وإنما المفهوم أن الضعف

بالصغر والسفه سبب نيابة الولي المشفق عنه، فيما تمس حاجته إليه: من قضاء الدين؛ فسائر ما تمس حاجته إليه ينزل من محل النص منزلة سائر المكيلات والمطعومات من المنصوص في الربا. والثابت بالنص في قضاء الدين: [النيابة] بعلة الصغر في محل الحاجة؛ فعديت النيابة إلى كل ما تتعدى إليه الحاجة. وأما الوصية، فمن يبغي الإلحاق: يتكلف التلفيق بهذا الطريق، ويثبت أن استحقاق المال [بمجرد مطلق] الموت نوع خلافه؛ تارة يستفاد بالقرابة، وأخرى بالزوجية، وطوروا بالوصية؛ فالكل باب واحد؛ فيرجع الافتراق إلى العدد كما في الربويات، أو يقول: المفهوم من النص معارضته بنقيض قصده فيما تعدى باستعجاله؛ وفي هذا تشترط الوصية والإرث ويرجع التمييز إلى العدد، وهذا شرط كل قياس. وما خرج عن هذا القياس، فليس من القياس في شيء. يبقى خيال السائل: أنه إذا سلم كونه مؤثرا، فكيف يتصور النزاع في المسألة بعد الإجماع على وجود ما هو المؤثر؟

قلنا: من سلم الإجماع على كون الوصف مؤثرا، وسلم سلامته عن المعارضة في محل النزاع- لم يتصور منه النزاع مع ذلك إلا بجحد أصل القياس. وإنما منشأ النزاع أحد أمرين: إما الاسترابة في كون الوصف مؤثرا بالإجماع والمجاحدة فيه، أو اعتقاد معارضة في الفرع. أما مثال الأول: فكمنازعتنا لأبي حنيفة في دعواه أن المؤثر في إطال هبة المريض حق الغريم؛ فإن من أصحابنا من يعتقد: أنه بطل تصرفه نظرا له في نفسه، وليس من النظر إبطال إقراره؛ وإنما ننازعهم: لأنا لا نسلم كون هذا الوصق مؤثؤا بالإجماع. فطريقه أن يكشف عما يدعيه: من الإجماع؛ وهو إبطال ما ندعيه: من المعنى؛ ليتعين معناه. فإنه حكم لابد من تعليله بما يتضمنه المرض الحادث. والذي يمكن أن يقدر علة [لا يزيد] على المعنيين؛ في بطلان أحدهما إثبات الآخر. فيقول: إبطال تصرف العاقل نظرا له، لا عهد به. وإبطال تصرفه لحق الغير [عهد في الشرع في مواضع بالإجماع؛ فإحالة الحكم في هذا المقام إلى ما] عهد في الشرع اعتباره في إبطال التصرفات أولى؛ لأنه معنى عرف بالإجماع تأثيره في جنس هذا الحكم. فيرجع مثار النزاع إلى أنا لا نعترف بالإجماع أولا، فلو اعترفنا

أولا بالإجماع: لما نازعناه رفي الإقرار إلا بتقدير [25 - أ] دليل في الإقرار يعارض ما ذكروه، وهو قياس الإقرار على النكاح وسائر التصرفات، لرابطة الحاجة؛ ويتبين به أن حق الغريم لا يمنعه إلا عما يستغني عنه في هذا المقام. بخلاف حق الغريم في الرهن والتركة وغيره. وأما الجنس الآخر من المنازعة- بعد تسليم التأثير- فينشأ من تقدير المعارضة: كما ذكرناه على أحد التقديرين في مسألة غرماء المرض والصحة، وكما نعتقد في مسألة الثيب الصغيرة، ويعتقد أبو حنيفة في مسألة غرم السارق. فأما مسألة الصغيرة، فنسلم أن الصغر علة الولاية في حق الابن وفي حق ولاية المال؛ نسلم وجود الصغر في [عين] محل النزاع؛

ولكن نقول: عارض الصغر الثيابة، وهي علة لإسقاط الولاية بنصب الشارع إياها علة، بقوله: «الثيب أحق بنفسها من وليها». ويسلم الخصم وجود علة الضمان [في السارق] ولكن يقول: عرضه وجوب القطع، ومن ضرورته إسقاط الضمان بتقدير انتقال العصمة إلى [اليد] كما قرروه في تلك المسألة. ولو استعمل سائل هذا الاعتراض على طريق المطالبة والممانعة، وقال: لا نسلم أن تلف المال تحت اليد العادية سبب الضمان لمجرده، بل هو مع سقوط القطع هو السبب؛ والصغر مع انتفاء الثيابة هو العلة- فهذا كلام فاسد يضاهي كلام من يقول: العلة ما ذكرته مع

السلامة عن المعارضة [فإذا ذكر وجه السلامة عن المعارضة] فهو مردود عليه؛ والمطالبة متوجهة عليه بإبداء المعارضة، إذا ليس هذا جاريا مجرى أجزاء العلة، بل له منصب الاستقلال. فإن قيل: فبماذا تنقطع المطالبة إذا قال السائل: سلمت تأثير العلة في ذلك المحل، فما دليل تأثيره في محل النزاع؟ قلنا: هذه المطالبة ساقطة بمجرد تسليم التأثي، وكان كقول القائل: سلمت أن الكيل هو المؤثر في تحريم [ربا] الفضل في البر، وسلمت وجود الكيل في الجص؛ ولكن لم قلت: إذا أثر ثم، ينبغي أن يؤثر ها هنا؟ وهذا تشوف إلى حسم باب القياس؛ وليس يحتاج المعلل إلأى إظهار وجه المناسبة بعدما سلم له كون الوصف مؤثرا في الحكم في موضع ما: لأن معنى كونه مؤثرا [هو]: أن الحكم حصل به ومن أثره، وأن الشارع نصبه علة موجبة، وقد عرف ذلك بالإجماع، فصار كما لو عرف ذلك بالنص والإيماء. وقد بينا أنه يستغنى فيه عن إبداء المناسبة، وإن كان يبعد انفكاكه عن مناسبة ما. فقل ما يوجد- من تصرفات الشرع- ما يجري على مذاق التحكم الجامد المحض؛ ولكن: لو وجد وجب اعتباره في غير

محل النص، بحكم الدليل الذي دل على أصل القياس، وكان هذا كما لو قال: لا تبيعوا التمر بالتمر لأنه حلو؛ فيعتر الزبيب به بجامع الحلاوة، بعد أن عرف الشرع كونه علة وإن لم تعرف مناسبته ووجه اقتضاء تحريمه من طريق المصالح. وإذا قال: لا تبيعوا البر بالبر لأنه أيض؛ قيس عليه الأرز وإن لم تعرف مناسبته. ولم نلتفت إلى قول القائل: أن البياض علة في البر لا في غيره، والحلاوة علة في التمر لا في غيره. والسبب في ذلك كله- وهو طريق الرد على منكري القياس-: قضاء العقول باتباع الأسباب، والأعراض عن المحال. فلا فرق في [25 - ب] عقل حملة الشريعة- بين أن يقول الشارع: اقتلوا ما عزا لأنه زان؛ وبين أن يقول: اقتلوه لأنه طويل- في أنا نطرد إيجاب القتل في حق جميع الزناة وجميل الطوال، وان انتفت المناسبة؛ لأن المناسبة طريق يعرف بها كون الوصف منصوبا من جهة الشرع علما على الحكم وعلة له؛ وهي دون النص والإجماع، فإذا ظهر بالنص أو الإجماع: أغنىعلى إظهار المناسبة. ورجع حاصل هذا المسلك إلى أن الوصف إنما يصير علة: إذا علم أن الشارع جعله علة؛ وإنما يعرف جعل الشارع إياه علة: بنصه،

أو بإشارة النص في تنبيهه وإيمائه كما سبق، أو بالإجماع من الأمة. فالإجماع في التعريف كالنص. فالتحق هذا المسلك بالمسالك السابقة، ووقع الاستغناء فيه عن المناسبة كما في المنصوص والمنبه عليه. المسلك الرابع: في الاستدلال على كون الوصف علة بالمناسبة بينه وبين الحكم. وهذا ما اختلف فيه الأصوليون. فالذي ذكره لأبو زيد [الدبوسي]: أن المناسبة لا تكفي في إثبات كون الوصف علة، بل لابد من إظهار التأثير: بالنص، أو الإجماع، كما سبق. فاقتصر على المسالك السابقة، ولم يقنع بما دونه. واستدل عليه: بأن الإخالة يرجع حاصلها إلى الوقوع في النفس، وقبول القلب له، وطمأنينة النفس إليه، وهذا أمر باطن لا يمكن إثباته على الخصم، فإنه إذا قال: غلب

على ظني هذا، فللخصم أن يقول: لم يغلب على ظنى. فتحكيم القلب] إنما يجوز [عند فقد الأدله الظاهرة، وعند تصادم الأدله وانحسام مسالكها، للضروره الداعيه إليه. ثم هو مقيِّد في حق المجتهد، ولا ينتصب حجة على الخصم بحال. وهذا الذي ذكره هو مساعد عليه ولكن ليس المراد بالمعنى المخيِل المناسب ما ظنه وتخيله؛ ولكن نعنى بالمناسبه معنى معقولاً ظاهراً في العقل، يتيسر إثباته على الخصم بطريق النظر العقلي: بحيث ينسب الخصم في جحده-بعد الإظهار بطريقه - إلى النكر والعناد. فإذن منشأ الأشكال بيان حدّ المناسبه؛ والإخالةُ عباره عنها. وقد أطلق الفقهاء المؤثر، والمناسب، والمخلِ، والملائم، والمؤذن بالحكم، والمشعرِ به. واستبهم على جماهير العلماء والأفاضل -إلا من شاء الله-دِرك الميز والفصل بين هذه الوجوه، واعتاص عليهم طريق الوقوف على حقائقها، بحدودها وخواصها. واتصل بأذيال

هذه الأجناس قياس الشبه والطرد، وهي المغاصه الكبرى، والغمره العظمى. فلقد عز على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر، ويُحسن تمييزه عن المخيل والطرد، وإجراءه على نهج لا يمتزج بأحد الفنين. ونحن-] بعون الله وحسن توفيقه [-نفضل هذه الأجناس، -] ونشفى فيه الغليل [ونوجز القول في قياس الشبه. ونندفع الآن في بيان ما ترشحنا له: من-] أنواع [قياس المعنى. فنقول: الحاصل من جمله هذه العبارات ثلاثة] أنواع [. المؤثر، والمناسب، والملائم. أما المشعر والمؤذن والمخيل، فهى فى حكم العبارات المكررة عن] 26 - أ [المناسب. أما المؤثر، فما ذكرناه، وهو: الذي دل النص أو الإجماع على كونه علة الحكم فى محل النص] أو في غير محل النص [. فهذا الذي رأينا تلقيبه: بالمؤثر، ليتميز الجنس] عن الجنس]، وإلا فتسمية المناسب

والملائم مؤثراً وتسميه المؤثر مناسباً وملائماً] متجة. فكان ماجعل عله للحكم، فإنما جعل علة: لأن الشارع جعله علة؛ لا مناسبته [؛ ولكن المناسبه قد تكون تعريفاً وتنبيهاً على جعل الشرع اياه علة - عند بعض العلماء. وما عرف جعل الشرع] اياه [علة، فقد عرف تأثيره: إذ لا معنى للتأثير إلا حصول الحكم من أثره وبسببه. ولكن: لما انقست المعاني ثلاثه أقسام، أحببنا أن نفرد كل قسم - على حسب اصطلاح الفقهاء - بعبارة معرفه. وإنما الغرض تعريف وجه التميز والإنقسام. ثم إذا عرفت: فلتتخذ هذه العبارات أعلاماً معرفه لها. فالعبارات هي التي تتبع المعاني وتُسوى عليها؛ فأما تسويه المعاني على العبارات- فهو من دواعي الخَبَط، وجوالب الضلال. فنقول: هذه المراتب تتبين بضرب الأمثلة: أما المؤثر، فقد ذكرنا مثاله. وأما المناسب، فمثاله: تحريم الخمر، فأنه يظهر تعليله بكونه مسكراً مزيلاً للعقل، حتى يقاس عليه النبيد. ولكن فى الكتاب تعرض للتعليل بهذا المعنى؛ فهو- من هذا الوجه- يلتحق بالمؤثر؛ إذ ظهر بالنص تأثير هذا الوصف: حيث نبَّه على إثارته العداوة والبغضاء، ولكن:

لو لم يكن فى القرآن التعرض لهذا، واقتصر عى ذكر التحريم على تجرده - لكان تعليله بالإسكار وإزالة العقل: تعليلاً بكلام مناسب. ومعنى مناسبته: استدعاء هذا المعنى من وجة المصلحه هذا الحكم، واقتضاؤه له. فإن العقل ملاك أمور الدين والدنيا. فبقاؤه مقصود، وتفويته مفسده. فحرم لما فيه: من الإفضاء الى الفسده. وهذا كلام جلى معقول يمكن إثباته على الخصم. فأين هذا من قول أبى زيد: أنه يرجع الى قبول القلب، وطمأنينه النفس؟. ولا نشك في تمييز هذا عن قول القائل: أنه حرم لرائحته الفائحة المخصومه، أو لحمرته، إذ لا تناسب الحمرة التحريم، ولاتستدعيه، ولا تتقاضاه عقلاً. وهذا يتقاضى التحريم لما ذكرناه؛ فتميز عن الطرد بالمناسبه العقليه بين المعنى وبين الحكم. وتميزه عن المؤثر، بأن يقال: لم يعهد قط في الشرع، في موضع آخر- لا بالنص، ولا بالإجماع- كون الإسكار مؤثراً فى التحريم، حتى يكون التعليل به تعليلاً] بمعنى [عرف تأثيره، ولنقدر عدم انباء النص التعليل بهذه العله، حتى يستدَّ التمثيل، وينقطع عن المؤثر، فإن المستدل بالمناسبه يدعى الإستغناء عن النص وإيمانه ودلالة الإجماع على كونه مؤثراً؛ ويزعم: أن المناسبه كافية في التعريف، على ما سنذكر وجه حصول المعرفه بها. وكذلك إذا قلنا: إن الجماعة قتلوا بالواحد، كيلا يتخذ الظلمة

الاستعانه ذريعة إلى قتل الأعداء-كان ذلك تعليلاً بمخيل مناسب ظهر وجه استدعائه للحكم، واقتضائه له في العقل. ولم يدل دليل على تأثيره: لا من جهة النص؛ ولا من جهة الإجماع. بخلاف التعليل بالصغر فإنه- مع المناسبه المعقولة - ظهر تأثيره في الولاية المالية، وولاية التزويج - في حق الأبن، بالإتفاق. وكذلك إذا قلنا: حط قضاء الصلوات عن الحائض، لما فيه: من الحرج والمشقة والكُلفة مع تكرر الصلاه في اليوم والليله؛ بخلاف قضاء الصوم -كان] هذا [الكلام مناسباً] 26 - ب [مخيلاً، متميزاً عن تعليله: بأن الصوم يقضى لأنه لا تجب فية الطهاره مثلاً، بخلاف الصلاه. فإن هذا الفرق لايناسب، ولا ينسى عن الحكم في قضيه العقل بحال. فهذا بيان المناسب. وليس يتميز عن المؤثر بذاته، وإنما يتميز عن المؤثر بأن ليس من جهة النص والإجماع دلالة على كونه علة، بل لا دلالة عليه سوى مناسبته. وما دل الإجماع على كونه عله] وسبباً]، قد يناسب: كالصفر يناسب الولاية، ومزيد

الاختصاص في القرابة يناسب الترجيح والتقديم، الى غير ذلك مما تقدم: من الأمثله. وقد لا يناسب: كخروج النطفة الطاهره، جُعل سبباً للغسل ولا يناسبه، وكذلك مس الذكر: يبعد تخيل المناسبة فيه. هذا وجه تمييز المناسب عن المؤثر والطرد. أما تمييزه عن الملائم، فوجهه: أن المناسب ينقسم إلى ما يلائم معاني الشرع، ويجانس تصرفاته فى ملاحظة المعاني. والى ما يكون غريباً: لا يلفى له جنس. فالذي ذهب اليه الجماهير: أن المناسب لا يكون علة الا بشرط الملائمه] كما سنذكره. ومنهم من اكتفى بمجرد المناسبة ولم يشترط الملائمة [، فكل مناسب عهد جنسه في تصرفات الشرع: فهو ملائم؛ وما لم يعهد جنسه: فهو المناسب الغريب الذى لا نظير له في تصرفات الشرع. وهذا] الأن [مزله قدم؛ فقد يشتبه على الناظر الفرق بين الملائم والمؤثر، فيقول: المؤثر هو: الذي عهد في الشرع معتبراً كما في الصغر؛ والملائم أيضاً كذلك. فما الفرق بين من شرط التأثير، وبين من شرط الملاءمه مع المناسبه؟ فنقول: الفرق بينهما: أن المؤثر هو: الذى ظهر تأثير، عينه في عين

الحكم المتنازع فيه - بالإجماع أو النص، في محل النزاع، أو غير محل النزاع. كقول الحنفي: إن الثيب الصغيرة تُزوج لصغرها؛ ويبين أن عين الصغر ظهر تأثير بالإجماع في الولاية في حق الأبن، وفي ولاية المال. فقد ظهر تأثير عين هذا المعنى فى عين هذا الحكم، في محل آخر غير محل النزاع؛ فعدى ذلك الحكم بعينه، وهو: الولاية بتلك العلة بعينها، وهي: الصغر - الى محل النزاع، وهو: الثيب الصغيرة. وأما الملائم، فتعنى به: أنه عهد جنسه مؤثراً فى جنس ذلك الحكم، وإن لم يعهد عنه مؤثراً فى عين ذلك الحكم - فى محل آخر. مثاله: أن سقوط قضاء الصلاه إذا علل بالحرج والكلفه، يعلم أنه من جنس معاني الشرع وملائم له، إذ ظهر - على الجمله - إسقاط] الشرع [جملة من التكاليف بأنواع] من [الكلفة: كما في السفر والمرض وغيره؛ ولم يظهر تأثيره عين المعنى فى عين الحكم، وإنما وزان المؤثر من] مثل [هذا الأصل: أن يأمر النبى عليه السلام

-مثلا- عائشة رضى الله عنها بقضاء الصوم الفائت في أيام الحيض، وبترك القضاء فى الصلوات. فيقاس عليها سائر النساء. أو يحكم به في الحرة، فيقاس عليها الرقيقة. فينقدح أن يقال: ظهر تأثير الحيض فى إسقاط الصلاة في حق الحرة، فيعدى عين هذا الحكم لعين هذه العلة، الى الرقيقة. وكذلك: إذا عللنا إنقطاع الولاية عن الثيب بالممارسة الحاصلة لها، وما تستفيده المرأه: من الاختبار والتمييز والإهتداء الى المقاصد؛ وعديناه الى الثيب الصغيرة- كان هذا مناسباً ولكنه غريب. إذ يقال: ليس هذا من جنس تصرفات الشرع فى إثبات الولاية وقطعها، فنقول: هو من جنسه؛ إذ قال عز وجل: "وابتلوا] 27 - أ [اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فأدفعوا اليهم أمواله". فجعل ممارسه اليتيم في المال سبباً، فيصير ملائماً. وهذه المناسبة مع الملاءمة في نهاية الضعف، وليس من غرضنا عينُ هذه

المسئلة؛ وإنما المقصود التمثيل لتعرف الجنس. وكذلك إذا قلنا: قيد الشرع بيع الأشياء الأبعة فى الربا بثلاث شرائط، فكان ذلك معللاً بالطعم المنبئ عن الحرمة والعزة، فإن ما يعز ويحترم يضيق طريق تحصيله، وما يستهان به يتسع الأمر فيه، ويتساهل في أمره؛ فلا يضيق طريقه؛ لأن المضنون به عقلاً وشرعاً: ماظهرت الحاجة اليه، وعظمت حرمته بسببه، والتقييد بالشرائط سد لبعض المسالك؛ وسد بعض الطرق إلى شيء ضنه به. فهذا نوع من الكلام: فيه ضرب مناسبة، ولكنه غريب يزعم] الخصم [أنه لا يلائم تصرفات الشرع، فنقول] لا [بل قيد الشرع إستحلال البضع بشروط: كالعوض والولى والشهادة؛ وميزه عن الأموال. فكان ذلك إظهاراً لشرف البضع، وتخصيصاً له بميزه الإعتناء، وكشفا عن خطره وحرمته، وإشارة إلى اَّن المال مبتذل بالإضافة اليه، وأنه مصون مضنون به بالإضافه الى المال. فقد التحق بما عهد جنسه في الشرع، فصار ملائماً لتصرفاته.

وطريق المعترض: أن يبين أن تقييد النكاح] بهذه الشروط [لم يكن بهذا الطريق، بل كان لحاجة البضع في الصون الى هذه الشروط؛ ولا حاجة في صون الأطعمه الى هذه الشروط، فيعترض بهذا الجنس، ويجاب عنه بطريقه. وغرضنا التمثيل. وكذلك إذا قلنا: القليل الذي لا يسكر- من الأنبذة - محرم قياساً على قليل الخمر؛ وعللنا تحريم قليل الخمر: بأنه داع الى الكثير؛ وأن الطباع تختلف، والقدر الذي يسكر كل شخص في كل حال لا ينضبط؛ فيحسب الباب بحكم المصلحة-كان هذا كلاماً مناسباً: يستوى فيه النبيذ والخمر، وتظهر ملاءمته لتصرفات الشرع: بتحريم الشارع الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، لأنه داع الى الزنا؛ وما يجرى مجراه: من تعميم الشرع] التحريم [على مقدمات المحظورات ودواعها؛ فيكون ملائماً، ولا يكون مؤثراً التأثير الذي غيناه فيما سبق؛ إذ لم يظهر تأثير عين انبعاث داعية الشرب، فى تحريم الشرب. ولا ظهر في مسئلة الربا تأثير عين الطعم وحرمته في اشتراط المماثلة والتقابض

والحلول؛ بل ظهر اعتبار جنس الحرمة، في جنس التقييد بالشروط. فأن قيل: فما مثال المناسب [الغريب] الذي لا يلائم؟ قلنا: قل ما يتفق في المسائل أمثلته، فأن المعاني إذا ظهرت مناسبتها؛ فلا تنفك عن التفات الشرع إلى جنسها في غالب الأمر؛ والذي يظهر لنا الآن من أمثلتها أربعة: المثال الأول: ما ذكرناه: من تعليل سقوط الإجبار عن الثيب بالممارسة. فهذا وأن عددناه في قسم الملائم، فهو- عندنا -من المناسب الغريب الذي لا نظير له. وأما ابتلاء اليتيم في التصرف، فليس من هذا القبيل، وإنما مثاله: وطء الابن زوجته؛ وذلك لا يوجب قطع الإجبار عنه: إذا كان صغيرا. أو وزانه من الأموال: ما إذا تناول جنسا من الطعام وذاقه واستطابه أو استكرهه. وكل ذلك ساقط الأثر في قطع الإجبار، وإسقاط الولاية. وابتلاء اليتيم: لتعرف هدايته إلى المصالح، وانفكاكه عن داعية السفه والتبذير وغباوة الإسراف، والتصاون عن الغبن والخداع؛ حتى إذا عرف ذلك بامتحانه بالبيع والشراء، رد المال إليه بعد [27 - ب] جريان البلوغ: الذي هو السبب الظاهر في قطع الولاية. فوزانه: أن تمتحن المرأة بانتقاء زوج من الأزواج للنكاح، وتراقب أحوالها في اقتراحات مصالح النكاح وما تقترح عليها؛ فننقاد [إلى] الإجابة إلى

ما تقتضيه المصلحة، ونستعصيى فيما ينافي الغبطة. ومثل ذلك لا عهد به في النكاح؛ وإلمام الزوج بها ليس من هذا الجنس بحال؛ وإنما وزانه: تناول الطعام وذوقه، ولبس الثوب، وركوب الدابة. فيبقى هذا نوعا غريبا من الكلام، [وهو- مع كونه غريبا -] ضعيف في نفسه. وكذلك تتفق المعاني الغريبة؛ فأن ما يظهر ويقوى لا ينعدم التفات الشرع إلى جنسه، في غالب الأمر. المثال الثاني: تعليل الربا في المطعومات بعلة الطعم؛ فهو- أيضا -من المعاني الغريبة التي لا تلائم معاني الشرع. وما ذكرناه- من إظهار الملائمة بأمر البضع -ضعيف؛ لأن الخصم لا يسلم اشتراط الولي. نعم: قيد بالشهادة إما صونا له من الفوات بالجحود، أو تمييزا [له] عن السفاح الذي هو فاحشة. وليس في حسم طريق بيع البر بالبر متفاضلا، أو نسيئة، أو دون التقابض في المجلس - ما يصونه عن فوات هو متعرض له، أو يميزه [عن فاحشة] هو بصدد الانتباه بها؛ فلا مجانسة بينهما. فيبقى ذلك معنى- أن سلم مناسبته -غريبا لا نظير له في الشرع. والاعتماد في مسئلة الثيب الصغيرة، وإثبات الثيابة علة - على الإضافة اللفظية، المستفادة من قوله- عليه السلام -: "الثيب أحق بنفسها من وليها". وفي مسئلة الربا، وإثبات الطعم علة - على قوله- عليه السلام -: "لا تبيعوا

الطعام بالطعام"، على ما قررناه في كتاب "مآخذ الخلاف"، وكتاب "تحصين المآخذ" [وقد نبهنا على هذا المسلك الضعيف وطريق تقريره، في هذه الكتب]. المثال الثالث: تعليل بعض العلماء، حرمان القاتل عن الميراث، بمعارضته بنقيض قصده: في استعجال الحق قبل أوانه. وهذا أن لم يستعمل في معرض العقاب على عدوانه، يكون فناً غريبا من المعنى: لا يلفى له نظير. وإذا قيل: القتل جناية، والحرمان عقوبة؛ فكان منوطا به لكونه جناية، وقطع عنه الصبي والمجنون - كان ذلك من قبيل التعليل بالمعنى الملائم؛ فأن تأثير الجنايات في العقوبات والتغليظات، معهود من دأب الشرع.

ولو ثبت معنى المعارضة بنقيض القصد للاستعجال، لكان تعليل [بعض] أصحابنا في تحريم الخل الحاصل من التخليل، بمعارضته بنقيض قصده في استعجاله - من جنس الملائم؛ إذ يصير معهود النظير في القتل، ولكن هذا المعنى- في القتل -غير ثابت ولا مستقيم على السبر والبحث ولا يسلم عن النقض. وغرضنا ضرب الأمثلة، لا أعيان هذه المسائل. المثال الرابع للمناسب الغريب: تخصيص الوضوء في ترتيبه: بتقديم الوجه على اليدين، وذكر ممسوح بين مغسولين؛ حتى قال الشافعي رحمه الله؛ هذا تنبيه على كون الترتيب على هذا الوجه مقصودا؛ إذ لو لم يكن مقصودا: لم يكن هذا الترتيب. وتخصيصه بالذكر- مع إيقاع ممسوح بين مغسولين -أولى من جريانه على ترتيب الخلق: من البداية بالرأس، والانحدار إلى الوجه، والختم بالرجل. إلى غير ذلك: من وجوه الترتيب.

فيمنع الشافعي عن هذا الاستدلال، بأن يقال: سبب هذا الترتيب: تقديم الوجه [28 - أ] لأنه أهم الأعضاء بتحصيل النظافة فيه؛ وتأخير الرجل: لأنه أحرى الأعضاء بالبعد من النظافة، لمخالطة التراب في نقل الأقدام، ومماسة الخف إلى غير ذلك؛ فتبقى اليد والرأس، فكان تقديم اليد أولى: إذ هو آلة التناول ويقع مكشوفا غالبا؛ والرأس في الغالب مستور بكور العمامة؛ ولذلك خفت وظيفته وهو: المسح. فهذا فن من الكلام مناسب، يتميز عن قول القائل: قدم الوجه لأنه على شكل الاستدارة مثلا؛ إلى غير ذلك: من صفات خلقية تنبو عن الحكم. إلا أن مثل هذه المعاني- وإن كانت مناسبة -فغير موثوق بها؛ إذ لم يثبت من [جهة] الشرع ملاحظة جنسها، ويتسع التقدير في أمثالها، ولا يضيق طريقها على أي وجه كان، فأنه لو ذكر الترتيب على عكس المعهود: لأمكن أن يعكس هذا المعنى، ولكان يقال: الوضوء للصلاة، والصلاة تقع بعده؛ فأخره غسل الوجه: لأنه أهم الأعضاء بالنظافة، ليكون العهد به- عند الاشتغال بالصلاة -أقرب؛ ولو ابتدأ بالرأس، ثم بالوجه، ثم باليد، ثم بالرجل: لأمكن أن يقال: سببه

ترتيب الخلقة؛ ولو قدم اليد لأمكن أن يقال: سببه تنظيف الآلة أولا حتى ينظف بها غيرها. وأمثال هذه الخيالات يتسع طريقها، ولا يوثق بها. نعم: هي صالحة في هذا المقام لدفع الاستدلال بالآية؛ فإن الآية ليس فيها صيغة تدل على وجوب الترتيب؛ وإنما يستند المستدل فيها إلى تخصيص البعض بالتقديم والتأخير، ويقول: إذا لم يكن له سبب، فسببه وجوب التقديم. فيقال: هذا إمكان تعلقت به، وهذه الإمكانات تعارضه؛ فتطرق إليه الاحتمال. فهذا ما يعن من أمثلة المناسب الغريب، وقد يتطرق نظر إلى بعض هذه الأمثلة في إلحاقها بأجناسها. وغرضنا حاصل من تعريف الأجناس، ولا غرض في أعيان الأمثلة. فتحصل أن المعاني المناسبة تنقسم: إلى [مؤثرة، وهي: التي ظهر اعتبار عينها] في عين الحكم المنظور فيه، وإلى ملائمة ليست مؤثرة، وهي: التي ظهر اعتبار جنسها في جنس ذلك الحكم، وإلى غريبة: لم يظهر في [في الشرع] اعتبار عينها، ولا اعتبار جنسها، وهي- مع ذلك -تناسب نوعا من المناسبة: تتميز به عن الطرد الذي ينبو عن الحكم نبوة: لا يتقاضاه، ولا يتعلق به. فهذا بيان تمييز الأجناس. فأن قال قائل: ما ذكرتموه بيان انقسام المناسب - بالإضافة إلى ما يدل

على اعتباره من تأثير، أو ملائمة، أو فقد التأثير والملائمة. فما حد المناسب وحقيقته [وإلى ماذا يرجع حاصله] وما المعيار الذي يعرف به كون المعنى مناسبا: إذا وقع فيه الشك للناظر، أو التنازع للمناظر؟ قلنا: المعاني المناسبة: ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراتها. وفي إطلاق لفظ المصلحة [أيضا] نوع إجمال؛ والمصلحة ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. والعبارة الحاوية لها: أن المناسبة ترجع على رعاية أمر مقصود. أما المقصود، فينقسم: إلى ديني، وإلى دنيوي. وكل واحد ينقسم: إلى تحصيل، وإبقاء. وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة. وقد يعبر عن الإبقاء: بدفع المضرة. يعني: [أن] ما قصد بقاؤه: فانقطاعه مضرة، وإبقاءه دفع للمضرة. فرعاية المقاصد عبارة حاوية للإبقاء ودفع القواطع، وللتحصيل على سبيل الابتداء. وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد. وما انفك عن رعاية أمر مقصود، فليس مناسبا. وما أشار إلى رعاية أمر مقصود، فهو: المناسب.

ثم الشيء ينبغي أن يكون مقصودا للشارع، حتى تكون رعايته مناسبة في أقيسة الشرع. فقد علم - على القطع [28 - ب] أن حفظ النفس والعقل والبضع والمال، مقصود في الشرع. فجعل القتل سببا لإيجاب القصاص، لمعنى معقول مناسب، وهو: حفظ النفوس والأرواح المقصود بقاؤها في الشرع، وعرف كونها مقصودة على القطع. وحرم الشرع شرب الخمر: لأنه يزيل العقل؛ وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف. والبضع مقصود الحفظ، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد: لاستبهام الآباء: وفيه التوثب على الفروج بالتشهي [والتغلب] وهي مجلبة الفساد والتقاتل. والأموال مقصودة بالحفظ على ملاكها؛ عرف ذلك بالمنع من التعدي على حق الغير، وإيجاب الضمان، ومعاقبة السارق بالقطع.

وقد نبه الرب تعالى على مقصود القصاص، بقوله:} ولكم في القصاص حياة {، ونبه على فساد الخمر، بقوله:} أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر {. وهي من المضار والمحذورات في أمور الدنيا؛ وقد يقترن به أيضا مفسدة الدين. و [قد] نبه على مصالح [الدين] في قوله في الصلاة:} إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {. [وما يكف عن الفحشاء] فهو جامع لمصالح الدين، وقد تقترن به مصلحة الدنيا أيضا. فجميع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد. إلا أن المقاصد تنقسم مراتبها: فمنها: ما يقع في محل الضرورات؛ ويلتحق بأذيالها ما هو تتمة وتكملة لها. ومنها: ما يقع في رتبة الحاجات؛ ويلتحق بأذيالها ما هو كالتتمة والتكملة لها. ومنها: ما يقع في رتبة التوسعة والتيسير الذي لا ترهق إليه ضرورة، ولا تمس إليه حاجة؛ ولكن تستفاد به رفاهية وسعة وسهولة؛

فيكون لذلك- أيضا -مقصودا في [هذه] الشريعة السمحة السهلة الحنيفية. ويتعلق بأذيالها ولواحقها ما هو في حكم التحسين والتتمة لها. فتصير الرفاهية مهيأة بتكميلاتها. وتختلف مراتب المناسبات في الظهور، باختلاف هذه المراتب: فأعلاها ما يقع في مراتب الضرورات؛ كحفظ النفوس، [فأنه مقصود الشارع، وهو] من ضرورة الخلق، والعقول مشيرة إليه وقاضية به - لولا ورود الشرائع؛ وهو الذي لا يجوز انفكاك شرع عنه: عند من يقول بتحسين العقل وتقبيحه. ونحن وأن قلنا: أن الله- سبحانه وتعالى -أن يفعل ما يشاء بعباده، وأنه لا يجب عليه [رعاية] الصلاح - فلا ننكر إشارة العقول إلى جهة المصالح والمفاسد، وتحذيرها المهالك، وترغيبها في جلب المنافع [والمقاصد] ولا ننكر أن الرسل عليهم السلام بعثوا لمصالح الخلق في الدين والدنيا: رحمة من الله على الخلق وفضلا؛ لا حتما ووجوبا عليه. قال الله تعالى:} وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {، إلى غير ذلك: من الآيات الدالة عليه.

وإنما نبهنا على هذا القدر، كي لا ننسب إلى اعتقاد الاعتزال، ولا ينفر طبع المسترشد عن هذا الكلام: خيفة التضمخ بعقيدة مهجورة، يرسخ في نفوس أهل السنة تهجينها. فليعتقد- على هذا التأويل- أن العقول ترشد إلى الزجر عن القتل بالقصاص. فكل مناسبة يرجع حاصلها إلى رعاية مقصود- يقع ذلك المقصود في رتبة يشير العقل إلى حفظها، ولا يستغنى العقلاء عنها- فهو واقع في الرتبة القصوى في الظهور. مثاله: إيجابنا القصاص بالمثقل محافظة على قاعدة الزجر [والردع] وإلحاقا للمثقل بالجارح. ومن قبيلة قولنا: الأيدي تقطع باليد الواحدة، كما تقتل النفوس بالنفس، حسما لذريعة التوصل إلى الإهدار [29 - أ] بالتعاون [اليسير الهين على أخدان الفساد وأقران السوء] فهذا فن واقع في الرتبة العليا

لا غبار على مناسبتها؛ فأن كان يعترض عليها: فمن طريق آخر لا من طريق المناسبة، وغرضنا ضرب [المثال] لبيان مراتب المناسبات. ومن هذا الفن: تعليلنا تحريم شرب الخمر، بكونه مفسداً للعقل الذي هو ملاك أمور الدنيا والدين. فهذا -أيضا- مما لا يجوز أن تنفك عنه عقول العقلاء، ولا أن يخلو عنه شرع مهد بساطة لرعاية مصلحة الخلق في الدين والدنيا؛ فلم تشتمل ملة قط على تحليل مسكر، وإن اشتملت على تحليل القدر الذي لا يسكر من جنس المسكر. وكذلك القول في مقصود البضع [والمال] وما يقع على هذه الرتبة. وأمثال اللواحق بهذه المراتب والتتمة لها، كقولنا: إن المماثلة مرعية في استيفاء القصاص؛ إذ عقل أن الزجر وتشفى الغيظ مقصود في أصل القتل مراعاته. وتمامه: في رعاية المماثلة في التنكيل بالقاتل المتعدى كما فعل، والإحراق إذا أحرق، والتغريق إذا غرق [وما يجري مجراه].

ومثاله أيضا في الخمر: تحريم اليسير لكونه داعيا إلى الكثير، ومحركا لعطش الشرب، وباعثا على الترقي إلى الحالة المطلوبة للنفوس: من الطرب والهزة؛ وتعديتنا ذلك إلى القليل من سائر المسكرات. فأصل المعنى فيه جلي، وهذا- لاتصاله به، ووقوعه موقع التضبيب والتثمير لذلك الأمر المهم المقصود- وقع ظاهراً لا سبيل إلى إنكار مناسبته. [ورجع حاصل] هذه المناسبات إلى رعاية المقاصد. أما مثال [المرتبة الثانية فإن] الواقع في محل الحاجة: تسليط الولي على تزويج [الصغير والتزويج من الصغيرة]، فإن نصب القوام على الطفل- لحضانته وصيانته، وإنفاق ماله عليه،

[وشراء الطعام له، واستئجار من يقوم بمصلحته]- واقع في محل الضرورة؛ لأن الحاجة إلى النفقة والحضانة [طبيعية] جبلية في حال الصغر؛ وفي الأعراض عنها [سعى في هلاك الصبيان كلهم، وفيه هلاك النفوس وانقطاع الجنس، فهذا يقع موقع الضرورة]، فأما تزويج الصغير، والتزويج منه- فلا ترهق إليه ضرورة، ولا تمس إليه حاجة ناجزة: من شهوة وتوفان؛ ولكن مصلحة المعيشة في العمر تنتظم بأمر النكاح، والاتصال بالعشائر، والتكثر بالأصهار؛ والخاطب الكفء والكريمة المرموقة إذا ظهر: فالمصلحة في تقييده قبل أن يفوت ولا يتفق الظفر بمثله، فيقع ذلك في محل الحاجة. فصارت غبطة الصبي ومصلحته المستغنى عنها مقصوداً من جهة الشرع، كضرورته التي لا غنية له عنها؛ وصار رعاية هذا المقصود مناسباً، كرعاية المقصود الضروري [وما يجرى الضروري]؛ والتحق بتلك الرتبة.

ثم ما يجري مجرى التتمة لهذه الغبطة: كمراعاة الكفاءة، والمحافظة على مهر المثل- على ما اختلف العلماء في وجوبه- يلتحق في المناسبة بالأصل؛ لأنه كالتكملة والتتمة لرعاية هذه الغبطة، وإن كان الأصل الكلي من مقصود النكاح لا يفوت به. فنحن نستعمل هذا المعنى في منع الولي من النقصان عن مهر المثل، وفي منعه من التزويج من غير كفء. وأبو حنيفة وأن صحح النكاح من الأب من غير كفء، فليس يصححه لإنكار هذا المعنى. بل يقول: تفويض الأمر إلى رأي الأب- وهو غير متهم: لشفقته وأبوته- أولى؛ فلعله يتفطن لغبطة خفية؛ توازي غبطة الكفاءة وتزيد عليها. فأصل المعنى لا سبيل إلى جحده، وهو يستعمل أصل المعنى في الثيب الصغيرة، ويقول: تزويجها من مصلحة المعيشة، فلا يعطل، وكذلك في اليتيمة التي ليس لها أب ولا جد، كما في غير اليتيمة، وكما في البكر؛ ويعلل بالصغر، ويبدي فيه وجه المناسبة [29 - ب] كما ذكرناه.

وهو بين لا يعترض عليه من حيث القدح في هذه المناسبة؛ بل يعترض من وجه آخر. ويرجع منشأ النزاع إلى التردد في محل استعمال هذه المعاني، على ما نذكره في هذه المسائل. ثم للشرع -في هذا الجنس- نوع تصرف -فلا ينبغي أن نغفل عنه- وهو: إدارة الحكم على أمارة المصلحة من غير تتبع وجه المصلحة؛ فإن مصلحة الصبي لحاجته إلى قوام، وحاجته لصغره وضعف عقله؛ وقد يقوى عقله عند مراهقة البلوغ؛ ولكن يقطع الشرع غمة الأشكال عن أطراف الأحوال، بإتباع الصغر الذي هو أمارة المصلحة [غالبا؛ فيدار الحكم مرة على عين المصلحة، وأخرى على أمارة المصلحة]. وكل ذلك من نظر الشرع. وفي إتباع الأمارة -أيضا- نوع مناسبة، وهو: عصر الوقوف على عين الحاجة؛ كما [أديرت الرخص] على السفر لا على عين المشقة، وأديرت الولاية على القرابة لا على الشفقة؛ فأنها لا يوقف عليها. وإنما الغرض التنبيه على مراتب المناسب، وأن حاصل جملتها يرجع إلى رعاية المقاصد؛ وأن المقصود قد يقع في محل الحاجة، وقد يقع في محل الضرورة؛ وقد يعلم كونها مقصودا من جهة الشرع على القطع، وقد يظن ذلك. [وكل ذلك] من طرق المناسبات.

المرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة، ولا إلى حاجة؛ ولكن يقع موقع التحسين والتزيين، والتوسعة والتيسير؛ للمزايا والمراتب، ورعاية أحسن المناهج في العبادات والمعاملات، والحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات. ومثال ذلك: حكم الشرع بسلب العبد أهلية الشهادة، وليس إلى سلب أهليته حاجة ولا ضرورة. ولو قبلت شهادته في حال العدالة: [لكان ذلك] كقبول فتواه وروايته؛ ولكن: لما كان الرقيق نازل القدرة والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة؛ بإثبات يد الاستيلاء [عليه] والتسخير؛ وكانت الشهادة ونفوذها على الغير منصبا عليا ومقاما سنيا- لم يكن ذلك لائقا بحاله. فيفهم مقصود الشرع -في سلبه الأهلية- على هذا الوجه؛ ففيه نوع مناسبة تتميز عن قول القائل: أنه لا تقبل شهادته، لأنه لا تجب عليه الجمعة مثلا كالصبي؛ فإن سقوط التكليف بالجمعة لا ينبئ بحال عن سقوط أهلية الشهادة؛ بخلاف ما ذكرناه.

ولو قال قائل، هي ولاية: فلم يكن من أهلها كالولايات- قيل: ولم لم يكن من أهل الولايات، ولا ينسب لها؟ إلا أن تكفل شغل الخلق بولاية القضاء، وتكفل شغل الأولاد بأنواع التفقد- شغل شاغل: يستدعى فراغا واهتماما مصروفا إليه؛ والعبد مستغرق الأوقات بوظائف الخدمة. وهذا المعنى لا يطرد في الشهادة: فأنها كالرواية؛ إذ يرجع حاصلها إلى الأخبار عن المعلوم. ولو استقام التعليل بهذا النوع: لالتحق بالرتبة السابقة، كتعليل سلب الولاية [به]. وكذلك قيد الشرع صحة النكاح [بشرط] الشهادة؛ ولو صح على السبر تخيل مقصود الإثبات عند الجحود: لالتحق بالرتبة الثانية، ولوقع في مظان الحاجة، ولكن: ليس يستقيم الاستغناء عن الأشهاد على رضاء المرأة، مع أن النكاح لا يثبت إلا

عليها؛ فيتخيل [إذن] أن المقصود من حضور الشهود: تمييز النكاح بالإعلان [والإظهار] عن السفاح. ثم مراتب الظهور تضطرب؛ فضبط الشرع ما فيه -من الحيط- بشهادة شخصين لهما أهلية الشهادة، حتى يكون للإظهار عليهما وقع. فهذا أمر لا حاجة إليه، وإنما يجرى التحسين للأمور. وكذلك قيد النكاح بالولي؛ ولو أمكن تعليله بكون المرأة في منظنة الغباوة-[لقصور العقل والنظر] ووفور الشهوة، والمبادرة إلى سوء الاختيار، بأنواع الخداع والاغترار لوقع هذا [30 - أ] المناسب في الرتبة السابقة، ولكن: لا يستتب ذلك في [سلب] عبارتها ولا في التزويج من الكفء، فيقال في تعليله: لو ثبت ذلك بنص مثلا: [لكان] اللائق بذوات المروءات الحياء والانزواء عن مباشرة النكاح، ففيه إظهار الشبق، والمجاهرة بالتشوف إلى الرجال؛ والشرع يحمل على محاسن الأخلاق؛ وفي مباشرتها النكاح بنفسها ما يناقض ذلك، فنقدر محاسن الأخلاق مقصودا من جهة الشرع، ونقدر الاستقلال مناقضا له، فيتراآى منه نوع من المناسبة.

لهذا وأمثاله أمثلة المناسبات الواقعة في الرتبة الأخيرة؛ فأنها من أضعف درجات المناسبات. وسنذكر المحل الذي يجوز الاعتماد فيه على [مثل هذا المعنى]، والموضع الذي لا يعتمد فيه على أمثال هذه المعاني. ومن خاصية هذه الرتبة [أن تغلب فيها المناسبات] الخيالية الإقناعية. وعلى الجملة، المناسب ينقسم: إلى حقيقي عقلي، وإلى خيالي إقناعي. فأما الحقيقي العقلي، فما بيناه في الرتبتين السابقتين، وهو الذي لا يزال يزداد- على البحث [والتنقير] والسبر- وضوحا، ويرتقى -بمزيد التأمل- إلى شكل العقليات. وأما الخيالي الإقناعي، فهو: الذي يخيل في الابتداء مناسبته، فيقطع عن الطرد الذي ينبو عن المخيل؛ وإذا سلط عليه البحث، وسدد إليه النظر- ينحل حاصله، وينكشف عن غير طائل. مثاله: تعليل الشافعي في تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها، وقياس الكلب والسرقين وسائر النجاسات العينية عليه،

ووجه المناسبة في النجاسة: أن حكم الشرع بنجاسته أمر باجتنابه، وإشارة إلى استقذاره، والتجنب عن مخالطته؛ ففي الإقدام على بيعه، ومقابلته بالمال، وإيجاب الضمان على متلفه- إقامة وزن له يناقض ما علم: من خسته بتنجيس الشرع إياه. فهذا الفن واقع في الرتبة الأخيرة؛ اذ لا يتعلق بالمنع من بيعه حاجة ولا ضرورة؛ ولكن: ×× أن في الإقدام على بيعه -بعد تنجيس الشرع إياه- ما يناقض محاسن العادات، وتستوي في هذه القضية سائر النجاسات. والمعنى بكون خيالياً إقناعياً، أن الحاذق يسلط البحث على هذا الكلام، فيقول: هذه ألفاظ جملية ركبت وخيل من مجموعها مناسبة؛ وإذا جرد النظر إلى المعنى في حقيقته وإلى الحكم، انتفت المناسبة. إذ معنى نجاسته: أن الصلاة لا تصح معه لا المنع من استعماله] لنجاسته [و] الكف عن [مخامرته؛ فالانتفاع بالنجاسات جائز بالاتفاق؛ ومعنى البيع: نقل الاختصاص ببدل. ولا مناسبة بين بطلان الصلاة باستصحابه،

وبين المنع من بيعه. فبهذا ينكشف الغطاء، وتنقطع المناسبة. ولا تزال تزداد المناسبة خفاء واندراسا بالبحث. ولكن على الجملة: ليس يبعد -في نظر الشرع- أن يمنع من بيعه: تأكيداً لتنجيسه والكف عن مخامرته. ومثال هذه الاقناعات قد يوجد في الشرع معتبرا، ولكن قد يعتقد اعتباره: إذا دل عليه مسلك نقلي، أما مجرد هذه المناسبة، فربما] لا يجري على دعوى التعليل. وكذلك إذا قلنا: تحريم الربا في الأشياء الأربعة سببه: الطعم وحرمته، تضييقا لطريق التحصيل فيما عز في نفسه؛ فان ما يعز لا ينال إلا بنوع تكلف، وتجثم شروط ومضائق؛ وما سقط حرمته لم يضيق طريقه، بل سهل مناله -كان هذا كلاما إقناعا ضعيفا، ينكشف، -بالبحث- عن غير طائل، إذا يقال: العزيز المحترم يصان عن الإتلاف بالإسراف والتضيع؛ فأما أن يصان عن التحصيل بطريق التملك -فلا؛ بل يمهد إليه طريق التملك، ويوسع مسلكه لشدة الحاجة إليه.

وكذلك إذا قلنا: إن العبد لا يلي أمر ولده، لأنه مولى عليه، ويتناقض] أن [يكون الشخص الواحد وليا] و [موليا عليه -خيل هذا الكلام في مبدأ الأمر مناسبة، ولكن ينحل تعقيده] 30 - ب [بأن يقال: المتناقض أن يكون ولياً فيما هو مولى عليه، فإنها تلي أمورا ويولى عليها في عقد النكاح. فيرجع حاصله إلى أنه المرء بنفسه ثم بمن يعول، وهو ليس متفرغاً لنفسه، فكيف يلي غيره. فيرجع إلى أمر إقناعي: ما لم يذكر وجه تضرر المولى بسبب اشتغال العبد، واستغراقه الأوقات بوظائف خدمة السيد. فهذه أمثلة هذه المناسبات على تفاوت الدرجات. وطريق تركيب الاقناعيات] هو [اقتباس قضايا جملية من أسباب معينة، وبناء الغرض عليها، فنقتبس من النجاسات قضية

جميلة، وهي: الحقارة والخساسة. ونقتبس- من الإقدام على البيع، والمقابلة بالمال- قضية جملية، وهي: تشريف، وإقامة وزن، وإثبات قدر. ثم ينشأ التنافي من القضيتين الجمليتين. وكذلك نقتبس من وصف الطعم حرمة تنبئ عن عزة ومزية، وهي قضية جملية. ونقتبس من التحصيل بجميع الطرق، من غير تضييق ومزيد اعتناء- قضية جملية، وهي: التساهل والتهاون به؛ ونتخيل تنافيا بين القضيتين: فتنتظم منه المناسبة، وهي: المحافظة على القضية المقصودة الثانية، بنفي ما يناقضها. وكذلك نقتبس من رق العبد نوع ذلة وصغار ومهانة؛ ومن قبول الشهادة علو منصب وارتفاع قدر. ونتخيل بينهما تنافيا. فلو رفعت هذه القضايا الجملية التي استثمرت من القضايا المعينة الخاصة، ونسبت القضايا الخاصة بعضها إلى بعض -لم تتناسب، وهي قول القائل: لا تصح الصلاة معه فيبطل بيعه؛ وهو مطعوم يحتاج إليه فيجب فيه القبض في المجلس، ويحرم] فيه [النساء والفضل؛ ومملوك فلا يصدق في قوله مع العدالة. وهذه الأمور لا تناسب بأنفسها، وتناسب بقضاياها الجميلة. فسبيل حل هذه التعقيدات تفصيل ما أجمله المخيل: من القضايا،

وتبين أنها لا تزيد على المعنى] الخاص [الذي قدره موجباً له، فإذا لم يزد عليه: انقطعت المناسبة. فهذا بيان مراتب المناسبات وطرقها، ودرجاتها وأمثلتها. فإن قيل:] قد [ذكرتم حقيقة المناسب وأجناسه وأنواعه؛ فما الدليل على كونه طريقاً إلى التعليل ومعرفا؟ قلنا: هذا هو المقصود بالكلام؛ ولكنا قدمنا الأمثلة: إذا لا يعرف وجه دلالة الدليل من لم يعرف الدليل بنفسه؛ ومناسبة المعنى دليل على كون الحكم ثابا ومعلقا عليه. فنقول أولا: لسنا نعرف خلافا -بين الفقهاء القائسين -في قبول المناسب على التفسير الذي ذكرناه؛ والمعنى بالمخيل هو المناسب. وما ذكره أبو زيد: من أن الاخالة لا يمكن الدلالة عليها مع الخصم؛ فالظن به أنه عنى بذلك ما يرجع إلى شهادة القلب، ووقوع في النفس: يجري مجرى الإلهام الذي يضيق نطاق العبارة عنه. وما ذكرناه -من المناسب- خارج عن الفن الذي ذكره؛ وهو الذي نعنيه بالمخيل أيضا: اذا أطلقناه. ودليل قبوله ما هو الدليل على قبول القياس ×× الذي قدمناه؛ ودليل قبولهما جميعا دليل أصل القياس، وهو: إجماع الصحابة.

والظن بأبي زيد أنه أراد ××: المناسب الملائم؛ ولم يشترط التأثير على التمثيل الذي قدمناه، بل اكتفى بالمناسبة مع الملائمة. ويشهد لذلك ما ضربه: من الأمثلة للقياس؛ إذا قال:] قال [النبي عليه السلام: "أنها من الطوافين عليكم والطوافات"، على لسقوط النجاسة: بضرورة] الطوف علينا [؛ وللضرورات تأثير في إسقاط حكم الخطاب. وهذا ما نعنيه بالمناسبة؛ فإن الحاجة داعية إلى المخالطة، فوق ذلك على الرتبة الثانية من المناسبات التي ذكرناها. وهذا ملائم مجانس لتصرفات الشرع في توسيع الأمر، في مظان الحاجات. ومن أمثلة قوله في مسح الرأس: أنه مسح، فلا يسن تثليثه كمسح الخف.

فهذا سماه مؤثرا؛ وهو واقع في التربة الأخيرة من المناسبات التي] ذكرنا أمثلتها [. ويكاد] 31 - أ [يلتحق -عند تمام البحث- بشبه مجرد، أو بمناسبة اقناعية ضعيفة. وبيانه] هو أن يقال له [: ولم عللت سقوط التكرار في الأصل بكونه مسحا؟ ويطلب بإبداء أثره. فان قال: لأن المسح في ذاته أخف من الغسل، ويلحق الناس في الغسل -من المشقة- ما لا يلحقهم في المسح؛ ولأن صفة المسح قد أثرت في إيجاب تخفيف هذا الركن، متى قوبل بالغسل في حق استيعاب محله. هذا ما ذكره أبو زيد في إبداء تأثيره. ففيه نظر: إذا نسلم أن المسح في ذاته أخف] من الغسل [ولكن: لم يمتنع تكريره؟ وما وجه المناسبة؟ وأين ظهر في الشرع -لخفة الذات- تأثر في منع التكرار؟

يبقى قوله: انه ظهر تأثيره في التخفيف حيث لم يجب استيعاب محله؛ وهذا ×× إلى إظهار] أثر [عين العلة في جنس الحكم المتنازع فيه، وهو: التخفيف، فيقول: إذا عهد المسح مؤثرا في التخفيف من هذا الوجه_: ظهر كونه مؤثرا في الوجه الآخر من التخفيف. فيقال: ومن سلم أن ذلك من أثر كونه مسحا؟ وبم عرفت ذلك: ولم يظهر إلا حكم مقرون بوصف؟ فلم جعلته معللا بذلك الوصف: وليس فيه نص ولا إجماع؟ وبم تنكر على من يقول: المسح على الرأس اكتفى فيه بالأقل: مما ينطلق عليه الاسم، لأنه واقع على الرأس؛ فهذا علته؟. فان قال: يبطل بالمسح على الخف، فانه يساويه في الحكم، وليس واقعاً على الرأس. قيل: هذا عكس، وليس بنقض؛ والعلة فيه: كونه على الخف؛ ويجوز إثبات الحكم في محلين بعلتين. فان قال: وأي مناسبة -لكونه على الرأس، أو على الخف- في الاقتصار] على البعض [؟ قلنا: فهذا اعتراف بأن طريق المعرفة: المناسبة. فإذا ظهر مناسبة المسح للحكم، ولم تظهر مناسبة هذه الأوصاف، وجب التعليل بالمناسب؛ وإلا: فمن يتمكن من إبداء نص أو إجماع في

تعليل الحكم بكونه مسحا؟!. وإنما الطريق هي: المناسبة؛ فطلب التأثير، وطلب المناسبة واحد؛ وهما عبارتان عن معنى واحد. فأما الاقتصار، في الاستدلال، على إثبات العلة بالإجماع أو بالنص -فلا وجه له. وهذه العبارة تداولها ×× من أبي زيد، وهو أن العلة: ما ظهر تأثيره بالنص أو الإجماع. وهذه الأمثلة لا تصير على هذه الترجمة، بل يضطرون إلى تفسير التأثير: بالمناسبة؛ ثم يكتفون بمناسبة ضعيفة؛ ومناسبة المسح للتخفيف في غاية الضعف، وحاصله يرجع إلى أنه خفيف بذاته، فينبغي أن يخف حكمه؛ وهذا تحكم محض، يكاد يلتحق] بأنواع الاقناعيات من [المناسبات، ويتقاعد عنه، وأي بعد في أن يقال: الاقتصار على الأقل نوع تخفيف لا تعقل علته، وليس ذلك لكونه مسحا؟ وان أرادوا الإنصاف، فسببه: أن المسح من المصادر التي لا تقتضي الاستيعاب في اللسان، بخلاف الغسل، فهذا مستنده. وليس من غرضنا عين تلك المسئلة؛ وإنما غرضنا اضطراره -بهذا المثال- إلى القول بالمخيل المناسب، والمنع من الاقتصار -في إثبات العلة-

على الاستدلال بالنص أو الإجماع؛ فإن ذلك يعز وجوده في المسائل القياسية. مثاله الآخر] قوله [: أنا متى قلنا: نكاح الأمة -مع طول الحرة- يجوز: لأنه معنى يجوز معه هذا النكاح للعبد؛ فيجوز للحر: قياسا على] الجهل بالغنا [ووجود حرة رضيت بغير مهر. سمى هذا مؤثرا، وأورده في أمثلة المؤثرات، وأين يتصور ها هنا إثبات العلة] وتأثيرها [بنص أو بإجماع؟ والمطالبة عليه أن يقال: ولم قلت: أن ما لا يمنع العبد لا يصلح أن يكون مانعاً في حق الحر؟ ومن سلم أن] الجهل بالغنا [لا يمنع الحر لأنه لم يمنع العبد؟] بل لم [يمنع العبد: لأنه لم يمنع الحر،] بل [لم يمنع كل واحد منهما] لدليل دل [عليهما على وجه واحد. وهو الإنصاف.

فإن قال: لأن الشرع بني جواز النكاح على الحل، ونصف حكمه بالرق، وجواز] 32 - ب [للحر أربع نساء، وللعبد اثنتين؛ فبقى العبد في النصف، على ما عليه الحر في الكل؛ فلا يفترقان إلا في هذا القدر، ويستويان فيما بقى. هذا ما ذكره أبو زيد من تأثيره. فهو تحكم. أما الفرق في العدد، فمسلم. وأما قوله: بقى في الباقي مسوايا للعبد؛ فتحكم في محل النزاع، وليس ذلك مسلما، وعليه إقامة الدليل. فان قال: استويا في] الجهل بالغنا [، فليستويا في القدرة. قلنا: لم قلت ذلك، ولم يبعد أن يستويا من وجه ويفترقا من وجه، كما في العدد وغيره؟ وإنما استويا -فيما استويا فيه- لاقتضاء الدليل التسوية، لا لاستوائهما في حكم آخر. فما الدليل المقتضي التسوية ها هنا؟ فالمطالبة لا تنقطع عن هذا الكلام أبد الدهر، لأنه حاول تعليل

النفي الأصلي بعلة مؤثرة موجبة؛ وذلك محال كما سنشرحه من بعد. وإنما النافي يستدل أما بعموم أو بدلالة، أو] بسير حاصر لمدارك [الإثبات ونفيه. فإن الشافعي يجعل القدرة على الطول مانعاً؛ فهو المدعى، وكونه مانعاً يفتقر إلى موجب ومقتضى؛ فأما عدم كونه مانعا -وهو البقاء على الأصل- فلا يقتضي موجبا، بلا يكتفي فيه بانتفاء الدليل المغير، وإنما يستدل -في هذا الجنس- بعموم، كقوله تعالى "وانكحوا الأيامى منكم" مثلا؛ إلى أن يبين المدعى أن هذا مخصوص بالموانع، وأن القدرة من] جملة [الموانع. فذكر مأخذه، أو يستدل بطريق الدلالة] عليه [فيقول: لو منع الحر. فهذا الجنس من الدليل جار في النفي، ولكنه -في هذا المقام لا ينفك عن المطالبة. أو يستدل ×× -وهو الطريق الجاري في جميع هذه الأجناس-

فيقول: كونه مانعا إنما يتلقى من السمع، أو من القياس، ووجهه في القياس: افضاؤه إلى الارقاق، أو اقتباسه من منع الحرة تحته نكاح أمة. وهذه الطرق باطلة. وإذا انتفى دليل على تأثيره في المنع، لم يؤثر. فهذا هو الطريق في أجناس ذلك، كما سنذكره. وغرضنا الآن أن نقول: من اجتزأ بمثل هذا الكلام، فكيف يحسن منه أن يترجم مذهبه في العلل، بأن العلة: ما دل النص أو الإجماع على كونه علة. فدل أنه في جميع ذلك يتشوف إلى المناسبة، وقد يشترط معها الملائمة. فكلامه -في هذه الأمثلة- يرجع إلى إظهار الملائمة، وهو مراده بالتأثير. ولذلك أورده في أمثلته عن الشافعي: أن النكاح ليس بمال، فلا يثبت بشهادة النساء وقال: هذا] مؤثر [، لأن المال خلق بذلة،

فتكثر فيه] وجوه [المعاملة؛ وفي تقييد الأمر فيه بالرجال نوع حرج، وهذا ما نعنيه بالمناسب] الملائم. وكذلك قال الشافعي: الزنا فعل يرجم عليه، فلا يساوي النكاح الذي يحمد عليه: في حرمة المصاهرة وقال: هذا مؤثر، وهذا الذي نعنيه بالمناسب [، كما تقدم. وأما ما نقله -من أمثلة المؤثر، عن أبي حنيفة، أنه قال: المحجور] عليه [اذا استودع فاستهلك الوديعة- لا يضمن، لأنه لما أودعه: فقد سلطه عليه. وزعم أن هذا مؤثر -فالأمر على ما قال؛ ولكنه ليس من قبيل اثبات وصف علة الأصل، فإن هذا الكلام لا يفتقر إلى أصل لو ثبت؛ فليس هو على شكل هذا القياس] الذي حددناه: بالجمع بين الأصل والفرع برابطة [] 32 - أ [وإنما هو

من قبيل دخول التفصيل تحت الجملة. وسنذكر جنس هذا الدليل؛ وحاصله يرجع إلى أن التسليط مسقط، والإيداع ها هنا تسليط: فكان مسقطا؛ فهما مقدمتان ونتيجة، لا يتصور الخلاف في النتيجة مع تسليم المقدمات، وهو كقولنا: كل حيوان نام وكل انسان حيوان: فكل انسان نام. ومثاله من الفقه: كل مغصوب مضمون، والعقار مغصوب، فكان مضمونا. فليس هذا على شكل القياس الذي نحن فيه؛ وإنما محل النظر إثبات الغصب في العقار؛ ومأخذه طلب حد الغصب؛ وذلك لا يعرف من القياس؛ ومحل النظر في الإيداع بيان] أن [الإيداع] تسليط [، ومأخذه طلب حد التسليط؛ ولا يؤخذ ذلك من القياس. ومن هذا القبيل، ما أورده من قول أبي حنيفة: إذا اشترى نصف أبيه لم يغرم للبائع؛ لأنه أعتق برضاه. وكذلك ما أورده] عن محمد بن الحسن، من قوله [، إذا قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا، ثم طلقها ثلاثا، ثم عادت إليه، ثم دخلت] الدار [لا تطلق، لأنه حيث طلقها ثلاثا فقد

ذهب طلاق ذلك الملك] كله [، لأن حاصله أن اليمين لم يتناول إلا طلاق ذلك الملك، ولم يبق: فلا يقع. ومن سلم هذه المقدمات، لا يتصور خلافه في النتيجة، نعم: قد ينازع في المقدمات ثم ينجر الكلام -في إثباتها إلى كلام هو على شكل القياس الذي نحن فيه. وقد بان -على الجملة- أن المناسب الملائم مقول به باتفاق القائسين؛ وإنما اختلاف القائسين في المناسب الغريب: الذي لا يلائم؛ أو المناسب الملائم: الذي لم يشهد له أصل معين. وهو الذي يلقب -في لسان الفقهاء- بالاستدلال المرسل؛ يعني به الاعتماد على المعنى المناسب المصلحي] الذي [يظهر في الفرع، من غير استشهاد بأصل معين. ومذهب مالك يشير إلى إتباع المصالح المرسلة؛ وللشافعي فيه تردد رأي. فأما المناسب الغريب -الذي لا يلائم، ولا يشهد له أصل معين- فهو مردود: لا يعرف فيه خلاف. فينحل منه: أن ما لا يناسب

لا يجوز نصبه علة بالرأي؛ وإنما يعرف نصبه علة بدلالة النص أو الإيماء أو الإجماع. فأما ما يناسب، فأربعة أقسام: مناسب جمع شهادة الأصل والملائمة، فهو ×× باتفاق القائسين. ومناسب عدم الملائمة وشهادة الأصل، فليس حجة بالاتفاق. ومناسب شهد له أصل معين، ولكنه غريب لا يلائم. ونعني بشهادة أصل معين: أنه مستنبط منه من حيث أن الحكم ثبت شرعاً على وفقه. ومناسب ملائم] لا [يشهد له أصل معين. وسنذكر أمثلة ذلك في المصالح المرسلة. أما المناسب الغريب الذي لا يشهد له أصل معين، فمثاله ما] ذكرناه: من المناسبات [الغريبة لو قدر ابتداؤها لإثبات الحكم، لا لتعليل الحكم الوارد. كما لو لم يرد قوله: "القاتل لا يرث"،] فقال قائل [: لا نورثه، معارضة له بنقيض قصده في الاستعجال للميراث قبل أوانه. ويزعم أنه مناسب، ويريد إثبات الحكم به. فهذا لا وجه له. والآن، فلابد وأن تفصل القول في المناسب الغريب المستنبط

من محل النص، وفي المناسب الملائم المرسل الذي لا يشهد له أصل] معين [. أما المناسب الغريب، فالاعتماد عليه في محل الاجتهاد. وينقدح لمنكريه التمسك بأمرين: أحدهما: أن مستند القول بالقياس] 32 - ب [إجماع الصحابة؛ والمنقول عنهم: التعليل بالمعاني الملائمة، دون المناسبات الغريبة التي لا نظير لها في الشرع. والثاني: أن نكشف عن مستند المستند، فنقول: حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من] تلقاء [أنفسهم، بل فهموا -من مصادر الشرع وموارده، ومداخل أحكامه ومخارجه ومجاريه ومباعثه-: أنه عليه السلام كان يتبع المعاني، ويتبع الأحكام الأسباب المتقاضية لها: من وجوه المصالح: فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا: أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه: لقوله -عليه السلام- لمعاذ: بم تحكم؟ وتقرير على قوله:

أجتهد رأيي. ولقوله لعمر: "أرأيت لو تمضمضت"؟ ولقوله للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين"؟ ولقوله: "أنها من الطوافين عليكم والطوافات". كل ذلك تنبيه على الحكم بالنظائر، والتسوية بينهما عند الاجتماع في المعاني المعقولة منها. فهذا مستندهم؛ ثم هو واضح فيما نبه على المعنى فيه تصريحا أو تعريضا، نطقا أو إيماء. فأما ما ذكره ولم يذكر علته، فطريق التفطن لعلته: ملاحظة عادته المألوفة في إثبات الأحكام ونفيها. كالواحد منا إذا قال لغلامه: اضرب فلانا لأنه سرق مالي؛ فهم سببه بنصه. فلو قال: اضرب فلانا؛ واقتصر ولم يذكر سببه، ولكن علم الحاضرون أنه] قد [شتمه -غلب على ظنونهم أن الداعي له إلى] الأمر [بالضرب، شتمه. هذا: إذا عرف من دأبه وعادته مقابلة الإساءة بمثلها، على طريق العقاب والزجر والانتقام والتشفي. فأما الرجل الذي عرف من دأبه -على الطرد- مقابلة الإساءة بالإحسان، أو الإغضاء والتجاوز-

فإذا قال: اضرب فلاناً؛ وكنا قد علمنا شتمه، لا يتبين لنا أن ضربه للشتم: فإن الدواعي والصوارف تختلف بالطباع والعادات، فالرجل المنعم المتقي إذا تواضع له رجل: احتمل ذلك أن يكون تبركا منه بتقواه، واحتمل أن يكون طمعاً منه في نعماه، ودنياه. ولا يعرف ذلك إلا بعادة المتواضع. فإن عرف بالتكدي والسؤال وجمع المال، فبهذا الطريق ظهر أن سبب تواضعه ذلك ... وأن عرف من دأبه الزهد في الدنيا والإعراض عنها، والترفع عن التضمخ برذيلة السؤال -وهو مع ذلك ملازم سمت التقوى والسداد- ظهر أن تواضع: لتقواه، لا لغناه] ودنياه [. وان لم يعرف من عادة المتواضع شيء من ذلك، بقى الأمر محتملاً. وكذلك معاني الأحكام، تعقل بمثل هذا الطريق؛ وكل ذلك يستمد من موافقته معاني الشرع وملحوظاته: من المصالح. لأنه كما راعى ضروباً من المصالح، أعرض عن أنواع من المصالح. فهذه المصلحة المناسبة: إذا ظهرت أمكن أن يكون ملحوظاً، و] أمكن [أن لا يكون هو الملحوظ، وإنما] وقع [ذلك مقروناً

بالحكم وفاقاً كسائر الأوصاف. فما الذي رجح جانب الاعتبار، على جانب الإخلال؟ وإلى مثل هذا، ترجع تصرفات الصحابة -رضي الله عنهم -: إذا سبرت مسائلهم. فقد تكملوا في مسئلة الجد مع الأخ، وليس فيها نص؛ واحتمل التقديم، واحتمل التشريك. فعلموا أن الشارع -في الترجيح والتسوية -يلاحظ مراتب القرب، فقالوا: [الجد] أب [الأب]، والأخ ابن الأب؛ فكل واحد يدلي بواسطة واحدة، والواسطة الأب؛ فاستويا: فيشركان. وقال آخرون: كما عرف من دأب الشرع ملاحظة القرب، عرف ملاحظة القوة في الترجيح. ولذلك قدم من تقوت [33 - أ] نسبته بالعصوبة، وقدم ابن العم -وإن سفل -على ابن الأخت وإن قرب وللجدودة قوة إفادة الولاية ليس ذلك للأخوة، والجد أب عند فقد الأب، وليس الأخ أباً؛ فيقدم. وأجيب عنه: بأن البنوة أقوى من الأبوة؛ ولذلك فضل الابن

على الأب في الميراث. والأخ يدلي ببنوة الأب، والجد بأبوته؛ فتعادلت القوة. وهلم جرا إلى جميع نظائره. وكل ذلك عرف من عادة الشرع اعتبارها، وملاحظة جنسها. وإنما تترجح جهة الاعتبار على جهة [التعطيل و] الإهمال، بملاحظة العادة المألوفة؛ وليس ذلك إلا بالملاءمة. هذا طريق تقرير هذا الجانب، والذي نراه -والعلم عند الله تعالى -جواز التعليل بهذا المناسب، وإن لم يكن ملائماً، ولست أقول: إن المسئلة قطيعة، ولكنها اجتهادية. وإنما المقطوع به -في الشرع -أصل القياس. أما الحكم بهذا النوع من القياس، فهو في محل الاجتهاد. والظاهر عندي: جواز التعويل عليه، وأنه ملتحق بالمناسب الملائم وإن كان دونه في الظهور، ولكن للمعاني مراتب ودرجات، يظهر أثر تفاوتها عند التوارد، والتزاحم، والترجيح. فالمؤتر الذي قدمناه، على التفصيل الذي حددناه [القياس] المؤثر به، -وهو: ما دل مسلك نقلي على اعتبار عينه -مقدم على المناسب الملائم.

والملائم مقدم على الغريب. ولكن المناسب الغريب -أيضاً - حجة؛ ويتضح وجهه بالانفصال عما نصرنا به الجانب الآخر. فأما التمسك بإجماع الصحابة، وأنه لم ينقل عنهم هذا الفن -فلا حجة فيه. ولا يستبين ذلك إلا بسبر جميع مسائلهم. وعلى الجملة: المفهوم من الصحابة اتتباع المعاني، والاقتصار في درك المعاني على الرأي الغالب، دون اشتراط درك اليقين؛ فإنهم حكموا في مسائل مختلفة، بمسالك متفاوتة الطرق ومتباينة المناهج؛ لا يجمع جميعها إلا الحكم بالرأي الأغلب الأرجح؛ وهو المراد بالاجتهاد الذي قرر النبي -عليه السلام -معاذاً عليه. فعلينا أن نبين [أن] هذا يفد غلبة الرأي. وأما ما ذكروه -: من أن الدواعي إنما تعرف بالعادة المألوفة، وأن من عرف منه مقابلة الإساءة بالإحسان، لا يعلل أمره بالضرب، بالشتم المعلوم -قلنا: نعم؛ وما عرف -أيضاً -من عادة الشرع نقيضه، فلا يجوز التعليل به. ولكن في هذا المقام ثلاث مراتب، لابد من التنبيه لتقاطعها؛ أحدها: أن يعرف من عادته الضرب والعقاب بجنسه، فيظهر التعليل بالشتم.

والثاني: أن يعرف من عادته مقابلة الإساءة بالإحسان، فيظهر -مع معرفة هذه العادة -بطلان التعليل. والثالث: [أن] لا تعرف له عادة بنفي ولا إثبات؛ فإذا أمره بالضرب، وقد عرف الشتم -: غلب على الظن أنه الداعي إليه. وكذلك عادة الملوك في معاملة الجاسوس منقسم؛ فمنهم: من يقتل الجاسوس للزجر، ومنهم: من [يعرض عنه] لإظهار الاستهانة بالخصم، أو يستميل ليستكشف عورات العدو منه. فلو فرضنا ملكاً حديث العهد بالملك، عثر على جاسوس، فقتله -لم نسترب في أنه قصد [به مقصد] العقاب على تجسسه، ولو أعرض [عنه]-مع العلم والقدرة على العقاب -واستمال، ولم تسترب في أنه قصد به مقصد الاستمالة: للاستكشاف، ويتنبه العقل لداعيه تنبهاً ظنياً، [إن] لم يكن قطعياً. فإن قيل: إنما يعرف ذلك بملاحظة سائر الملوك، وأن الغالب: أن مسالكهم تتفق في ذلك، [وكذلك] الأمر بالضرب للشتائم، يعرف أن

داعيته: جريمة الشتم، ملاحظة [لغالب ((33 - ب)) عادة الخلق]؛ فإن الغالب: أن الناس -في إرادة التشفي والانتقام -لا يتفاوتون، فإن ذلك قضية جبلية [طبيعية]. فلم نستغن في فهم ذلك عن ملاحظة عادة [الناس] وملاءمة الفعل له. قلنا: الملك الواحد: إذا عهد منه مرة قتل جاسوس، وعهد أخرى استمالته؛ فاتفق ثالث فقتله -نعلم أنه سلك مسلك العقاب؛ وإن كانت عاداته متعارضة، وعادات غيره من الملوك متعارضة. ولكن: إذا أثبت الحكم على وفقه، تيقناً أنه أجاب تلك الداعية المعينة. فكذلك الشارع: إذا أثبت حكماً على وفق معنى يتقاضى ذلك الحكم ويستدعيه ويناسبه، غلب على الظن أنه [ملحوظة و] مقصوده، وأنه بحكمه مجيب تلك المناسبة الداعية المتقاضية. فإذا فرض ميراث بين الأخ من الأب والأم والأخ من الأب: احتمل في منهاج النظر -لرعاية النصفة والمعدلة بين الجوانب -ثلاثة احتمالات كلها مناسبة: أحدها [أن] تقديم الأخ من الأب والأم، لاختصاصه بمزيد

القوة، وترادف جهة القرابة عليه. واحتمل أن يقال: لا يحرم الأخ من الأب؛ فإن فيه الحاقة بالأجانب؛ وهو يختص بقرابة لا ينبغي أن تعطل. [فيفصل القسم على تفاوت الأثلاث مثلاً]. واحتمل أن يقال: إذا استويا في الدرجة من جهة الأبوة، وهي الجهة الأقوى في العصوبة؛ والأمومة لا مدخل لها في العصوبة -: فليستويا. فإذا جاء الشرع بالتقديم: عقل [به] أنه سلك به ذلك المسلك؛ وإذا جاء بالتسوية: عقل أنه أسقط ملاحظة الأمومة؛ وإذا جاء بالقسمة مع التفاوت: عقل أنه سلك به المسلك الثالث، فالاحتمالات كلها مناسبة صالحة لأن تكون داعية، وإثبات الحكم على وفقها أمارة على ملاحظة الداعية المتقاضية [له]. فإن قيل: لأن هذا حكم بموجب المصلحة، وقد عرف من [عادة] الشرع ملاحظة المصالح. قلنا: فهذا هو الحجة؛ إذ عرف من دأب الشرع اتباع المعاني

المناسبة، دون التحكمات الجامدة، وهذا غالب عادة الشرع. يدل عليه: أن المصالح المتناقضة في توريث الأخوين، لم تعرف جميعها من عادة الشرع. ثم ما من حكم إلا ولو ورد الشرع به: لعقل أنه إتباع للمناسبة المتقاضية له. كيف: ولو بعث نبي مثلاً، ولم ينقل عنه سوى هذه الواقعة الواحدة، فحكم فيها -فهم: أنه انقاد للمناسبة المتقاضية لها؛ قبل أن تعرف عادته، حتى أنه لو اخترمته المنية، ولم يتفق له حكم سواه -لبقى هذا الظن مستمراً لا محالة. والذي يوضح وجه غلبة الرأي في هذا المقام، هو: أنه إذا ورد [حكم] احتمل أن يقال: أنه تحكم لا سبب [له]، ولا مصلحة فيه، ولا لطف. واحتمل أن يقال: أنه معلل بسبب خفي يستأثر بدركه الشارع -عليه السلام -، ولا يطلع عليه، والآخر أن يقال: أنه معلل [بالمعنى] المناسب الغريب الذي ظهر. وأغلب هذه الظنون هو الأخير. إذ حمل تصرفات الشارع على التحكم، أو على المجهول الذي لا يعرف -نوع ضرورة يرجع إليها

عند العجز. فأما مع ظهور المعنى المناسب، فلا يتحقق العجز؛ فيغلب على الظن أنه اتبع المعنى الذي ظهر. فإن قيل: من تصرفات الشرع، ما لم يعقل معناه، ولم يطلع عليه، فيحتمل أن يكون هذا التصرف من جملته؛ ويكون المناسب قد اقترن به وفاقاً غير مقصود. قلنا: هذا كلام من ينكر أصل القياس؛ فإن هذا السؤال يتطرق إلى الملائم، فلعله وقع وفاقاً وملحوظ الشرع معنى آخر خفي لم يطلع عليه، أو هو تحكم لا سبب له، وقد عضدوا هذا [34 - أ] بأن قالوا: عرف [من] الشارع أن [من] تصرفاته تحكمات لا تعقل معانيها؛ إذ سوى بين مختلفات، وفرق بين متماثلات؛ كحكمه بجواز النظر إلى شعر الأمة، وتحريم النظر إلى شعرة الحرة، ولو لم ينص على تجويز النظر إلى شعر الأمة لقال الفقهاء: الأمة في معنى الحرة، والمعنى [المقتضي] للتحريم، خوف الفتنة، وهما سيان. وقال بغسل الثوب من بول الصبية، وبرش [الماء] على بول الغلام، ولو ذكر أحدهما، واقتصر عليه -لألحق القائسون الجانب

الآخر به. إلى أمثال لذلك ضربوها، وهو وارد على جميع القياسين. ووجه الانفصال؛ أن ذلك يجري من تصرفات الشرع مجرى [الشاذ] النادر. والغالب من عادته في التصرفات إتباع المعاني؛ والواقعة النادرة لا تقطع الغالب المستفاد من العادة المتكررة. كما أن من عرف من عادته المعاقبة على الإساءة، ففعل الإحسان منه مرة لا يقطع ظن الظان سلوكه مسلك الانتقام عند العود. وكذلك من رأى مركب الرئيس على باب السلطان، غلب على ظنه أنه في دار السلطان؛ وإن أمكن أن يكون المركب قد استعاره إنسان أو باعه بجميع آلته، أو أمسكه الركابي لغرض له وهو في دار أخرى. ولا يشوش هذا الظن عليه رؤيته ذلك مستعاراً مرة نادرة.

وكذلك: الغيم الركم الكدر في صميم الشتاء، يغلب على الظن استعقاب المطر؛ وإن كان الناظر قد عهد [في عمره] مرة أو مرتين الغيم الخالي عن المطر، على سبيل الندور. وكذلك: إذا عرف أن عزيزاً من أعزة بيت قد أشرف على الموت. فسمع عند الاجتياز بباب الدار الصياح والصراخ [على الدأب المعتاد عند وفاة المحتضر]-غلب على الظن [أنه قد مات] وإن أمكن أن يكون سببه موت غيره فجاءة من غير مرض. وقد عهدت الفجاءة على الندور بالإضافة إلى المرض. فبان أن الظن مع ما ذكروه حاصل؛ وقد ثبت بإجماع الصحابة إتباع الظن الغالب، ودلت عليه الأحاديث، حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لعمر: ((أرأيت لو تمضمضت [بماء] ...))؟ معناه: هلا عرفت هذا بنظيره؟. فلو قال له: ومن عادتك الفرق بين النظيرين، كما في شعر الأمة والحرة، وبول الصبي والصبية؛ لكان ذلك مستنكراً. وكذلك قوله -عليه السلام: أرأيت لو كان على أبيك دين؟. فعلم

أنه عرفهم تعرف الأحكام بالنظائر، والتناظر؛ والتساوي يعرف بالتناظر في المعنى لا بالصورة، فلا مضاهاة بين القبلة والمضمضة في الصورة، وإنما اشتراكهما في المعنى، وهو: أن كل واحد [منهما] مقدمة قضاء الشهوة، وليس فيه قضاء الشهوة. فقد بان بطلان هذا الملك على منكري القياس [ولا خفاء ببطلان هذا السؤال من القائلين بالقياس]؛ إذ ينعكس عليهم في الملائم والمؤثر، ويقال لهم: بم تنكرون على من يقول: لعل الشارع خصص اعتبارهما بمحل النص تحكماً: فلا تجوز تعديته؛ أو لعل المعنى وقع وفاقاً، والحكم تحكم أو له سبب آخر لا يعرف. فإن قيل: التحكمات - التي لا تعقل معانيها - ليست نادرة، وأنتم بنيتم ما ذكرتموه على ندور التحكم بالإضافة إلى المعاني واتباعها. قلنا: ما يتعلق من الأحكام بمصالح الخلق -: من المناكحات والمعاملات، والجنايات والضمانات؛ وما عدا العبادات - فالتحكم فيها نادر؛ وأما العبادات والمقدرات، فالتحكمات فيها غالبة، واتباع المعنى نادر. لا جرم رأي الشافعي [فيه] الكف عن القياس في العبادات، إلا إذا ظهر المعنى ظهوراً: لا يبقى معه ريب؛ ولذلك لم يقس على التكبير

والتسليم والفاتحة والركوع والسجود - غيرها؛ بل لم يقس على الماء في الطهارات غيره، ولم يقس الأبدال والقيم في الزكوات على المنصوصات، ولم يقس في مسألة الأصناف. ومال في جميع مسائلها إلى الكف عن القياس، ورعاية الاحتياط، لأن مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه [34 - ب]؛ لأنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع - سراً، وفيه نوع لطف وصلاح للخلق، استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم نطلع عليه. فلم نستعمله، واتبعنا فيه الموارد. ولسنا نقول ذلك: لأنا نرى رعاية الصلاح واجباً على الله تعالى، ولكنا عرفنا من أدلة الشرع أن الله تعالى -[ببعثه الرسل، وتمهيد] بساط الشرع - أراد صلاح أمر الخلق في دينهم ودنياهم؛ والله [سبحانه وتعالى منزه] عن التأثر بالأعراض، والتغير بالدواعي والصوارف، ولكنها شرعت لمصالح الخلق، نعقل ذلك من الشرع لا من العقل؛ كيلا يظن بنا ظان استمدادنا - في هذه التصرفات - من معتقدات أرباب الضلال،

وطبقات الاعتزال. فإن قال قائلٌ: فما قولكم في الاقناعيات من المناسبات؟ قلنا: ذلك - أيضاً - من المعتبرات في إثبات الأحكام؛ لأن جميع المناسبات - عند البحث - لا ترجع إلى اقتضاء المعاني الموجبات بذاتها، وإنما هو نوع من المناسبة يستدعى الحكم بالعادات المطردة؛ ولا يرجع ذلك إلى الذوات، مثل العلل في المعقولات، وللعادات التفات إلى المعاني الخطابية الإقناعية؛ وللشرع ملاحظة لجنسه؛ وهو من الدواعي المتقاضية بالعادة أيضاً، فإحالة الحكم عليه أغلب على الظن من اعتقاد التحكم الجامد الذي لا معنى له ولا سبب؛ وكأن العقول مشيرة إلى إحالة كل حكم على معنى؛ والاعتراف بالتحكم ضرورة العجز؛ فإذا فقد وجه سوى الوجوه الخفية الضعيفة، وجب التعليل بها. إلا أن الإقناعيات لا ينتفع بها غالبا في تعدية الأحكام؛ إذ يمكن أن يذكر لاختصاصها بمحل النص، معنى على ذلك المذاق: يخصها، ويمنعها من التعدي.

بيانه: أن من علل تحريم بيع الخمر مثلا بنجاسته، بالطرق الذي قدمناه؛ وعداه إلى السرقين وسائر النجاسات - أمكن أن يقال في معارضته: أن [للشرع اعتناء] بنوع خسة أثبتها للخمر وخصصها بها: تنبيها على فسادها، وتحريضا على استقذارها واجتنابها؛ فتحريم البيع يختص بها ولا يتعدى إلى السرقين: لاختصاصها بهذا المعنى. وكذلك لو علل تحريم بيع الكلب بنجاسته، بالطريق الذي قلنا - أمكن أن يقال في معارضته: أنه معلل بنوع خسة ورذالة تختص بالكلب في العادة؛ ولذلك يشبه الخسيس - من سائر الحيوانات - به: كما يشبه الشجاع بالأسد، والمنافق بالثعلب. فيقابل الاحتمال بهذا القدر، لأن أمثال هذه المعاني لا يصفو عن التخييلات مذاقها، فيتسع نطاقها، ولا تحصل الثقة بها؛ فإن حصل به الثقة، وسلم عن المقابلة بمثله - جاز للمجتهد التعويل عليه: أن رآه؛ فإنا رأينا هذا الجنس في محل الاجتهاد، ويختلف ذلك بآحاد المسائل؛ فيجوز للمناظر الاحتجاج به: أن قدر إيراده في قالب المناسبة وشكله.

هذا ما أردنا أن نذكره في المناسبات المستنبطة من الأصول المنصوصة، ولم نتعرض فيه لأدلة إثبات القياس على منكريه، مقصوداً لغرضين. أحدهما: أن اعتناءنا في هذا الكتاب بما تمس [إليه حاجة] القائسين المتناظرين؛ وقبول أصل القياس - فيما بينهم - كالمفروغ منه. والآخر: أن كلامنا - في هذه الترديدات والمرادات - أشتمل على اللباب من أدلة [إثبات] القياس، فلم يسترب من تأمل في مجارى هذه الكلمات - في مأخذ أصل القياس، وكونه حجة في الشرع. وقد تم غرضنا من بيان المناسب الملائم والغريب: إذا ثبت حكم على وفقه. أما المناسب المرسل: إذا ظهر في نفس المسألة على مذاق المصالح - وهو الذي يعبر عنه الفقهاء: بالاستدلال المرسل؛ وهو: التعلق بمجرد المصلحة من غير استشهاد بأصل معين، - فهذا ما اختلفت فيه رأي العلماء. فالمنقول عن مالك - رحمه الله -: الحكم بالمصالح المرسلة، ونقل عن الشافعي [فيه] تردد. وفي كلام الأصوليين [35 - أ]- أيضاً - نوع

اضطراب فيه. ومعظم الغموض في هذه القواعد منشؤه: الاكتفاء بالتراجم والمعاقد، دون التهذيب بالأمثلة. ونحن نمهد - في مبدأ [هذا] الكلام - قاعدة، ثم نهذبها بالأمثلة. فنقول: قد رتبنا المناسب [فيما تقدم] على ثلاث مراتب، وذكرنا أن منها: ما يقع في رتبة [الضرورات، ومنها: ما يقع في رتبة الحاجات، ومنها: ما يقع في رتبة] التحسينات والتزيينات. فالواقع منها في هذه الرتبة الأخيرة، لا يجوز الاستمساك بها: ما لم يعتضد بأصل معين ورد من الشرع الحكم فيه على وفق المناسبة؛ ثم إذا اتفق لك، فنحه منه على علالة كما قدمناه، فأما إذا لم يرد من الشرع حكم على وفقه، فاتباعه وضع للشرع بالرأي والاستحسان؛ وهو منصب الشارعين، لا منصب المتصرفين في الشرع، وإنما إلينا التصرف في

[هذا] الشرع الموضوع؛ فأما ابتداء الوضع: فليس لأحد من الخلق التجاسر عليه. ومثال هذا الجنس: الحكم بأن ما حكم الشرع بنجاسته مثلا [فنحن نحرم] بيعه، ونقدر عدم وقوع الاتفاق على تحريم بيع بعض النجاسات. وكذلك القول في الأمثلة التي ضربناها لهذه المناسبات: إذا قدر الابتداء بها في الفرع دون الاعتضاد بأصل، أو قدر عدم وجود الأصل. فكل ذلك مثال لهذا الفن. ولا يخفي سقوط التمسك به، فإنا - بأنواع التكليف - توصلنا بإثبات الحكم على وفقه، إلى إثباته؛ وقدرنا الحكم شاهدا له، فإذا انقطعت الشهادة: لم يبق إلا الاستحسان والوضع بالرأي؛ وذلك باطل على القطع. أما الواقع من المناسبات في رتبة الضرورات أو الحاجات، كما فصلناها - فالذي نراه فيها: أنه يجوز الاستمساك بها، أن كان ملائما لتصرفات الشرع. ولا يجوز الاستمساك بها: أن كان غريبا لا يلائم القواعد. ونقسمها نوعا آخر من التقسيم، فنقول: هي تنقسم إلى

ما يلغى في الشرع ملاحظة جنسها، فهو المعتبر. وإلى ما يصادم في محل نصا للشرع، يتضمن اعتباره تغيير الشرع؛ فهو باطل عندنا. وإلى ما تسكت شواهد الشرع ونصوصه عنه - فلا يناقضه نص، ولا يشهد لجنسه شرع - فهي: المصلحة الغريبة التي يتضمن اتباعها أحداث أمر بديع لا عهد بمثله في الشرع. هذا وجه انقسامها: من حيث الإضافة إلى شواهد الشرع. وتنقسم قسمة أخرى: [بالإضافة] إلى مراتبها في الوضوح والخفاء. فمنها: ما يتعلق بمصلحة عامة، في حق الخلق كافة. ومنها: ما يتعلق بمصلحة الأغلب. ومنها: ما يتعلق بمصلحة شخص معين في واقعة نادرة. وتتفاوت هذه المراتب [بتفاوت مصالحها في الظهور]. وكل ذلك حجة: بشرط أن لا يكون غريباً بعيداً، وبشرط أن لا يصدم نصا،

ولا يتعرض له بالتغيير. وهذه التقسيمات تتخايل مجملة إلى الناظر، [ونحن]- أيضاً - نهذبها بالتمثيل والتفصيل. وقل ما تلفى هذه [القاعدة في كتب الأصوليين مفصلة ممثلة] ونحن نشفى [فيها] الغليل ونكشف الغطاء عن محل الغموض، ونستقصى ذلك على وجه ينكشف به المقصود، إن شاء الله. ونرى أن نورد أمثلة القاعدة في معرض الأسئلة، ونتكلم عليها في معرض الانفصال، وننبه على ما يشتمل عليه كل مثال. فإن قال قائل: لم قلتم: إن هذا الجنس حجة؟. وما وجه التمسك؟ وما الدليل عليه؟ وقد اضطربت فيه مسالك العلماء، وقد قطعتم القول بقبوله؟ قلنا إنما دلنا عليه ما دلنا على قبول أصل القياس؛ فإنا بينا أن خاصا، ذلك كله راجع إلى [القول بالرأي الأغلب في] فهم مقاصد الشرع.

وإلى هذا يرجع ما يجوز التمسك به؛ وكل مثال نذكره ففيه دليل على قبوله: إذا أظهرنا وجه الرأي فيه. ويشهد على جنس ذلك أمر كلي، [وهو مثال منقول عن الصحابة: اشتهر بين أئمتهم، وتطابقوا عليه]. وذلك [ما روى]: أن الناس لما تتابعوا في شرب الخمر، واستحقروا الحد المشرع فيه - جمع عمر - رضي الله عنه - الصحابة، واستشارهم [واستطلع آرائهم]، فضربوا فيه بسهام الرأي؛ حتى قال علي - رضي الله عنه -: "من شرب سكر، ومن سكر هذي، ومن هذى افترى؛ فأرى عليه حد المفترى". فأخذوا بقوله واستصوبوه واستمروا عليه. وهذه هي المصلحة المرسلة التي يجوز اتباع مثلها.

فإن قيل: شرطتم في المصالح أن تكون ملائمة؛ وليست هذه ملائمة: فالشرب جناية متميزة عن القذف، وليست كل من يسكر يقذف؛ فايجاب حد جريمة على من [لم يجترمها] أمر غريب [في الشرع]، ولا يشهد له نظير، ولا تلائمه قاعدة. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإنهم أبوا أولاً أن يعاقبوه بعقوبة لم تعهد مشروعة من جهة الشرع؛ ولو كانوا يسوغون ذلك: لما افتقروا إلى التشبيه بحد مشروع ولو كل ذلك إلى رأي الولاة حتى يفعل [كل وال] في كل شخص ما يراه زاجراً في حقه، لائقا بحاله، جامعا لمصلحته؛ فطلبوا أولا حدا مشروعا، وتشوفوا فيه إلى أحط الدرجات في الحدود: اكتفاء بالأقل ما أمكن. ففي شرع العقوبات نوع من الخطر، وألفوا أقل على من لم [يجترمها]: ما لم يطلبوا مناسبة بين جريمته وبين تلك الجريمة؛ فإن ذلك يؤدي إلى إبداع أمر غريب لا يلائم [نظائر] الشرع، فطلبوا المناسبة، بأن قالوا: من سكر وهذى، ومن هذى افترى؛ فعليه حد المفترى: من حيث أن السكر مظنة الهذيان والافتراء وإطلاق اللسان بالسخف. وقد عهد في الشرع إقامة مظان الأمور مقام الأمور المقصودة: في إفادة الأحكام؛ فأقيم النوم - الذي هو مظنة خروج الحدث - مقام الحدث،

و "العينان وكاء السه" فإذا نامت العينان: استطلق الهواء، ثم - سواء استطلق [الوكاء] أو لم يستطلق - ثبت حكم الحدث، ووجب الوضوء. وكذلك تغييب الحشفة مظنة نزول الماء، فعلق به وجوب الغل وإن لم ينزل مع قوله السلام: "الماء من الماء" فكان وجوبه من مظنة الماء، كوجوبه من الماء، فكان مساقه: أن من غيب الحشفة أنزل، ومن أنزل اغتسل؛ فمن غيب اغتسل. وأن من نام أحدث، ومن أحدث توضأ؛ فمن نام توضأ. [كقوله بعينه]: من سكر هذى ومن هذى افترى. وكذلك القول في إقامة مظنة العقل مقال العقل، وهو: البلوغ، وإقامة مظنة شغل الرحم مقام شغل الرحم: في إيجاب العدة، وهو الوطء. [ولو ذهبنا نستقصى نظائر ذلك لسودنا به أوراقا، ولم نذكر منها إلا أطرافاً وآحاداً].

فطلبهم هذه المناسبة هي الدلالة [الظاهرة] على أنهم لم يروا الاختراع للمصالح؛ بل تشوفوا إلى التصرف في موارد الشرع، بضروب من التقريب والمناسبة. فإن قيل: ومن سكر اقتحم جميع الفواحش؛ فلم خصص القذف بالاعتبار؟ قلنا: لمعنيين، أحدهما: التشوف إلى الأقل؛ والثاني: أن خاصية السكر الهذيان وانطلاق اللسان؛ فإنه الفاحشة اللازمة لذات السكران، التي تستتب من غير أداة منفصلة، وآلة زائدة عليه. فالزنا والسرقة والقتل، كل ذلك: يتعلق بالغير، ولا يستتب إلا بأنواع من الحيل عمادها الحزم والعقل. ولا ينتظم ذلك من السكران. فأما الهذيان، فهو الذي يغلب على السكران. فاختلال العقل لا يمنع انطلاق اللسان؛ [وأخص الفواحش بالسكر: الهذيان، والجناية المخصوصة باللسان]؛ فكان مظنة له بهذا الطريق. فإن قيل: فالردة من فواحش اللسان، ومن جملة الهذيان؛ وقل ما ينفك عن اللهج به من غلبه السكر. قلنا: لم يجعل مظنة له من وجهين: أحدهما: أن الواجب بها القتل، وهو أعلى العقوبات، وشرع

القتل خطر عظيم؛ ووقع جناية السكر في الشرع، دون وقع الردة بدرجات، ولا هجوم على سفك الدم [36 - أ] لمقصود الزجر، مع العلم بحصول الزجر - غالباً - بما دون القتل. والآخر: أن عقوبة الردة تسقط بالتوبة؛ والسكران يعاقب بعد الإفاقة؛ وهو في الحال ليس مرتدا، ومن ليس بمرتد لا يقتل وإن سبقت منه الردة، فكيف يقتل: إذا سبقت منه مظنتها؟، وبه يتبين أن عقوبة الردة ليست حدا بإزاء الجريمة؛ وإنما هو إرهاق إلى العود إلى الإسلام؛ فإن عاد: خلى سبيله. فلابد من طلب المناسبة مع حد تجب [عليه] عقوبة. فإن قيل: قد شرطتم في المصلحة المرسلة أن لا تتضمن تغير النص؛ ولقد كان حد الشرب في الشرع أربعين، فزادوا عليه بالمصلحة، فكان ذلك تغييرا للنص. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فلم يكن حد الشرب مقدرا في الشرع، بل "أتى النبي - عليه السلام - بشارب، فأمر حتى ضرب بالنعال وأطراف الثياب وحثى عليه التراب". ولما آل الأمر إلى أبي

بكر - رضي الله عنه -: قدر ذلك بأربعين؛ ورآه قريبا مما كان يأمر به النبي - عليه السلام -، وحكم بذلك عمر مدة؛ ثم توالت عليه الكتب من أطراف البلاد، بتتابع الناس في الفساد وشرب الخمر، واستحقار هذا القدر من الزجر، فجرى ما جرى في معرض الاستصلاح: تحقيقا لزجر الفساق. فإن قيل: فما ذكرتموه -: من أمثلة الشرع في إقامة المظنة مقام الشيء - أصول لهذا القياس؛ فيرجع النظر إلى رد فرع إلى أصل، بمعنى مناسب جامع، وليس ذلك استدلالا مرسلا. قلنا: كل مصلحة ملائمة، فيتصور إيرادها في قالب قياس بجمع متكلف: يعتمد التسوية في قضية عامة لا تتعرض لعين الحكم؛ فإن أراد السائل بما ذكره - من رد الفرع إلى الأصل، بمعنى مناسب - هذا القدر، فهو الذي نريده بالاستدلال المرسل. وكيف لا ينتظم هذا الشكل: وما من مسئلة إلا ويمكن أن يقال: هذه مصلحة على وجه كذا، فينبغي أن تراعي قياسا على مسئلة كذا؛ والمصلحة عبارة تشتمل قضايا مختلفة؛ فيندرج تحتها المتباعدات، وتنتظم بالتحرير فيها صورة القياس.

وهذا غير منكر جريانه في الاستدلال المرسل. وإنما نعني بالقياس تعدية حكم بعينه من محل النص، إلى غير محل النص - بعلة هي الموجبة [للحكم] في محل النص. وهذا لا يساعد في [مثل] هذه الأمثلة، ولا يمتنع - بعدم مساعدتها - الاستدلال. فهذا هو المراد. ووجهه في مسألتنا؛ أن الحكم المنظور فيه: [وجوب] ثمانين جلدة؛ ومحل النص فيه القذف، وشكل القياس أن يقال: وجب ثمانون جلدة في القذف لعلة كذا، وتلك العلة بعينها موجودة في شرب الخمر؛ فتجب تلك الجلدات. ولن يستتب ذلك؛ فإن موجب الثمانين القذف: لكونه جناية على عرض الغير؛ وليس في شرب الخمر [وإيجاره في الحلق وإجرائه إلى المعدة]، نعرض لعرض الغير: [بالجناية]. فعلة محل الاتفاق - في هذا الحكم - لا تشهد لهذا الحكم في محل النظر، وهو: الفرع، فهذا ما أردناه [وقد لاح الغرض، و] بان المراد بالجمع بين شرط الملاءمة، وإبقاء الاستدلال مرسلا من غير أصل معين يشهد [بعلته للحكم] المعين. وعلى الجملة: ليس من غرضنا تقرير عين هذه المسئلة؛ وإنما

نورد [هذه] الأمثلة: للكشف عن مقاصد القاعدة، وشروطها، وحدودها. مثال آخر: فإن قال قائل: نقل: "إن بعض أكابر العلماء دخل على بعض السلاطين، فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صوم شهرين متتابعين؛ فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقال: القادر على إعتاق رقبة كيف يعدل إلى صوم شهرين، والصوم وظيفة المعسرين؛ وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك، ولأعتق عبيدا، وواقع مراراً؛ [فلا يزجره إعتاق الرقبة، ويزجره صوم شهرين متتابعين] ". فما قولكم في اتباع مثل هذه المصلحة، مع العلم بأن الكفارة مقصودها الزجر؛ [وإنما ينزجر الملك بالصوم لا بالعتق]؟ [36 - ب]. قلنا: هذا [عندنا] خروج عن الشرع [بالكلية] وانسلال عن ربقة الدين، وهو متداع إلى هدم قواعد الشرع وتحريف

حدودها وقيودها، وتغيير ذلك بالأشخاص والأزمنة والأحوال؛ والحكم في جميعها على مخالفة النص بموجب الاستصلاح؛ [وذلك أمر باطل على القطع]. وهذا ما عنيناه بقولنا: "إن اتباع المصالح على مناقضة النص باطل"، وهذا من ذلك الفن. وإنما تطلب الأحكام من مصالح تجانس مصالح الشرع: إذا فقدنا تنصيص الشرع على الحكم، فأما إذا صادفناه، فالاستصلاحات وتصرفات الخواطر معزولة مع النصوص، فإذا نص الشارع على أمر: وجب مراعاته، فإن فقد النص: تشوفنا إلى دلاك علة المنصوص، وإثبات الحكم بها. فإن عجزنا: تشوفنا إلى مصالح تضاهي جنس مصالح الشرع. فأما ما تخيله هذا المفتي - من الزجر - ففاسد، وطريق زجر مثله: أن نبين له أن الكفارات [ليست] ممحقات للذنوب، فإن تراب الأرض [لو انقلب] ذهبا، لو أنفقه: لم يقابل جريمته في هتك حرمة شهر الله تعالى المعظم، وهلم جرا، إلى بيان ما يتعرض له: من سخط الله تعالى ولائمته. ولو ذهبنا [نكذب المملوك] على حسب استصلاحهم: ارتقابا لعلاجهم؛ لشوشنا الشريعة، ولم نثق بتحصيل النجح منهم، ولا نتبذ إلى

أسماعهم: أن علماء الشرع يحرفون الفتاوى لأجلهم؛ وسقطت الثقة بقولهم. فلابد من المحافظة على حدود الشريعة والإعراض عن المصالح؛ فإن الفتوى بالمصلحة اجتهاد، وقد قال معاذ: - رضي الله عنه -: أحكم بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله - عليه السلام - فإن لم أجد: أجتهد رأيي". فكيف تصادم النصوص بالمجتهدات. فهذا مثال المصلحة المناقضة للنص. مثال آخر: فإن قال قائل: فما قولكم في الزنديق المستسر إذا تاب؟ هل تقولون: أنه يقتل للمصلحة ولا تقبل توبته؛ فإن من دينه الاستسرار والتماسك عن الإظهار تقية عند الحاجة، ولو كففنا عنه بمجرد التوبة، لم يعجز عن مثلها عند المعاودة؛ وذلك من نفس عقيدته؟ [أم هل تقولون]: أن قتله - بحكم هذه المصلحة - على خلاف نص الشرع في قوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله}. قلنا: هذه مسألة مجتهد فيها؛ ولسنا نقطع ببطلان أحد المذهبين، بخلاف ما ذكرناه في المثال السابق؛ ووجه الانكفاف عن قتله بين من

حيث عموم النص، ومن حيث الاعتبار بكل صنف من أصناف الكفار والمرتدين: إذا تابوا. ووجه قتله: أن المعلوم من الشرع أن الكافر مقتول؛ ونحن نكف عن قتله بتوبته، والمعنى بتوبته: تركه الدين الباطل؛ والزنديق - بالنطق بكلمة الشهادة - ليس تاركا لدينه الباطل؛ بل هو حكم من أحكام دينه. واليهودي والنصراني وكل ملى - يعتقد النطق بكلمتي الشهادة كفراً في دينه وتركا له؛ فإذا أسلم: فموجب دينه أنه تارك لدينه، وموجب دين الزنديق - عند شهادته - أنه مستعمل دينه. فهذا وجه التأويل والنظر؛ وليس فيه إيجاب عقوبة بمصلحة، بل هو قتل بالكفر في حق من نعتقده كافراً مستمراً على كفره. وإنما النظر: في بيان أن شهادته ليس في معنى شهادة الكفار وتوبة المرتدين المنتحلين لبعض الأديان؛ لأن ذلك ترك في دينهم، وهذا استمرار في دينه، فليس هذا من قبيل شرع العقوبة بالمصلحة المجردة.

وينقدح في مقابلة هذا النظر، أن يقال: أعرض النبي عليه السلام - على المنافقين، مع تواتر الوحي بنفاقهم، وعلمهم بهم، وظهور المخايل منهم، وأنكر بناء الأمر على الباطن، وقال: "هلا شققت عن قلبه"، في الحديث المشهور. فإذا ألم المسلمون ببلد من ديار الكفار، فأسلم سكانها: وقد أظلّتهم السيوف [37 - أ] وغلبهم قهر المسلمين وسطوتهم، وتناطقوا بكلمة الشهادة - كففنا عنهم سيوفنا، ورددناها عن الرقاب، إلى القراب، ونعلم قطعا أنهم لم يلهموا الهداية للدين، ولم تنشرح صدورهم لليقين؛ ولكن أقيمت كلمة الشهادة - وهو السبب الظاهر - مقام العقيدة الباطنة التي لا نطلع عليها، كدأب الشرع في نظائره. ويمكن أن يجاب: بأن العوام والمقلدة يبنون الدين على المصلحة،

فيتلبسون بها مختارين، وينتزعون عنها كذلك، وهم في كلا حالتيهم يعتقدون التحول من دين إلى دين. وكذلك يعتقدون الالتزام باللسان مع القهر تركا للدين؛ ولأجله يمتنع المصرّون المصمّمُون في العقائد عن النطق به. وأما المنافقون، فكان يظهر كفرهم [على النفاق] بالمخايل لا بالتصريح، ولا يجوز بناء الأمر على المخايل. وأما الزنديق، فقد جاهر بالالحاد، ثم حاول ستره بتقيه هي من صلب دينه. فهذا مجرى النظر، وعلى الأحوال، لا تصلح المسئلة للتمثيل لما نحن فيه - بحال. مثال آخر: فإن قال قائل: إذا نبغ بين أظهر العوام نابغة من المبتدعة، وكان يدعوهم إلى الضلالات والأهواء الباطلة، والبدع التي لا يكفر بمثلها؛ وكان لا يرعوى بالزجر، ولا يندفع شره إلا بالقتل - فهل ترون حسم مادة فساده بقتله، اتباعًا للمصلحة؟ قلنا: لا سبيل إلى قتله بحال؛ فإنه لم يجر موجب للقتل، ولا مصلحة تقتضيه، وقد شرع الشرع - في أمثال هـ الجنايات - التَّعْزِيرات، وفوَّضها إلى آراء الولاة؛ وناطها باستعوابهم؛ وإليهم زمام الأمر في الإقامة مرة والصفح أخرى، ولا ينبني ذلك على التشهي، بل ينبني على ما يلوح لهم: من المصلحة في حال الجاني، فرب إنسان تتفق

له هفوة، وفي إقالته إياها، ما يكفه عن معاودتها، ورب لئيم لا يزيده الصفح والتجاوز إلا تماديا في الغي، وتتابعا في الفساد. والنظر في كل ذلك يرجع إلى استصلاح الولاة. [و] المختلفون من العلماء في اتباع المصالح، لم يختلفوا في إتباع الولاة للمصالح في أمثال ذلك؛ وقد نيطت بهم نصا وإجماعا، وحُكم في تفصيلها اجتهادهم. وغرضنا أن نبين: أن ما يجري الكلام فيه - من إثبات الأحكام بالمصالح - ليس من هذا الطريق، ولا داخلا في هذا الجنس، وإنما الوظيفة على الولاة: أن لا يزيدوا في التعزيرات على الحدود، وأن يحطوها عنها؛ وإليهم الرأي في تعيين المقادير دونها. فلو قال قائل: رب جان لا يرعوى بالتعزير المحطوط عن الحد، فتقتضي المصلحة الزيادة عليه، وقد رأى مالك الزيادة على الحدود في التعزيرات، ولا يستقيم ضبط الأمر إلا بأنواع من السياسة هذا مقادها. وكذلك المبتدع الذي فرضناه؛ ربما لا يرعوى بالتعزير، وإنما طريق تطفية ثائرته: تطهير وجه الأرض عنه.

فيقال له: ليس الأمر كما ظننت؛ فالحدود مقادير مقدرة من جهة الشرع، والزيادة عليها تحريف للنصوص، [ثم لا جواز لذلك بالمصلحة]. ولو فتحنا هذا الباب، وجلدنا غير الزاني: إذا بدت منه مقدمات المراودات، ومبادئ فاحشة الزنا - لرجمنا الزاني الذي ليس بمحصن للمصلحة، ولتعدينا ذلك إلى جميع الحدود؛ ولاتخذنا دأب الأكاسرة وعادة الملوك الغابرة، قدوتنا في الآيالات: تشوفا إلى رعاية المصلحة، ولا تخذ كل من له مسكة من العقل، ودربة في النظر [والفكر]- عقله: دستوره وأسوته؛ ولا نقلب الشرع ظهرًا لبسطن، حتى لا تبقى له قاعدة مرعية. وهو باطل على القطع، من وضع الشرع. فالأولون والتابعون ومن بعدهم، اتفقوا على أن التحريف للمقادير مهجور، وأن ذلك خارج عن الدين؛ والجنايات - التي ليست فيها عقوبات مقدرة - تجري من الكبائر، التي شرعت الحدود فيها، مجرى الأجزاء من الكل: فلا يساوي الجزء الكل، ولا يزيد عليه، وهي نازلة منزلة الحكومات [37 - ب]: بالنسبة إلى الأروش المقدرة. والمصير إلى أن حكومة جناية على أصبع تزيد على دية الأصبع، مصادمة للتقدير. وهو باطل. وعلى هذا يخرج المنع من قتل المبتدع؛ فإن البدع تجري كلها من

الكفر مجرى الأجزاء من الكل؛ فلا تبلغ مبلغها في العقوبة. كيف: وإنما شرع القتل لمصلحة؛ والمصلحة: في الحاجة إلى القتل؛ والحاجة إليه: إذا لم يحصل الغرض بمساودته؛ ومقصود الزجر حاصل بالتعزيرات المشروعة: إذا أحسن الولاة في وضعها مواضعها؛ وذلك: بنصب المراقبين في الخفية على المبتدع، بعد زجره بجلدات النكال، وصب سياط التعزير عليه. فإن عاود دعوته وبدعته: عاود الإمام عقوبته؛ ولا يزال يفعل كذلك: فتزيد مجموع الضربات - الواقعة في كرات - على مبالغ الحدود؛ وذلك لا منع منه، فإن عسر عليه ذلك: فالحبس نوع من التعزيز - فيه متسع ولا منتهى له؛ وفيه الكف عن كل فساد وعادية في المستقبل - إلى أن تتبين مخايل الرشد. ففي موضوعات الشرع - فيما تعرضت له النصوص - غنية ومندوحة عن كل وجه مخترع بالمصالح؛ وإنما يظن الحاجة إلى غير المشروع [من لم يطلع على وجوه لطف الشرع ومحاسنه، فالتعزير مشروع] والحبس إلى غير منتهى في التعزير مشروع، وفي الحبس الدائم، ومعاودة التعزيرات حالا بعد حال - ما يتضمن الزجر عن كل خبال وضلال.

فتبين بهذا المثال: أنا ما دمنا نجد في المشروعات غنية، نكتفي بها، وندور عليها؛ فلا تتعداها بالمصلحة المتخيلة إلى ما عداها. بل نعلم أن مراسم الشرع - فيما أحاطت به - حاوية لجميع المصالح ومغزاها. مثال آخر: فإن قال قائل: المصلحة داعية إلى الضرب بالتهم في السرقة والقتل وما يجري خفية وغيلة؛ فإن الجاني لا يقر على نفسه مختارا؛ وإقامة الحجج والبينات على الاختزال الجاري في ظلم الليل - ممتنع، وتعطيل الحقوق لا سبيل إليه. وقد رأى مالك ذلك. فما

رأيكم فيه: ولا مصلحة أظهر من هذه؟ إن كان لكم رأي في اتباع المصالح، فتوافقونه عليه - وهو خلاف رأي الشافعي، أو تخالفونه، وفي المخالفة أبطال القاعدة التي مهدتموها في جواز اتباع المصالح؟. قلنا: هذه المصلحة غير معمول بها [عندنا، وليس لأنا] لا نرى اتباع المصالح؛ ولكن: لأنها لم تسلم عن المعارضة بمصلحة تقابلها؛ فإن الأموال والنفوس معصومة؛ وعصمتها تقتضي الصون عن الضياع؛ وأن من عصمة النفوس أن لا يعاقب إلا جان؛ وإن الجناية تثبت بالحجة؛ وإذا انتفت الحجة: انتفت الجناية؛ وإذا انتفت الجناية: استحالت العقوبة. فكان - في المصير إليه - نوع آخر من الفساد: فإن المأخوذ بالسرقة قد يكون بريئا عن الجناية، فالهجوم على ضربه تفويت لحق عصمته من

نفسه ناجزا، لأمر موهوم: يرجع حاصله إلى التشوف إلى تأكيد عصمة المال. فإن كانت مصلحة ذي المال في ضربه، رجاء أن يكون هو الجاني فيقر، فمصلحة المأخوذ: في الكف [عنه] وترك الأضرار به؛ وليس أحدهما - برعاية مصلحته - أولى من الآخر، فوجب الوقوف على جادة الشرع؛ في أن لا عقوبة إلا بجناية، ولا تظهر الجناية [في حقه] [مع الخفاء] إلا ببينة، كيف: وفيه مادة الفساد، وفتح لباب الدعوى على كل من يضمر المرء عليه حقدا. "ولو أعطى الناس بدعاويهم: لا دعى [قوم دماء قوم وأموالهم" كما قال النبي عليه السلام]؟ ولو قيل: أن من ظهرت عدالته لا يعاقب، وإنما [يعاقب متهم]

بأمثال ذلك. لقيل: وبم تعرف وجه التهمة، ولا سبيل إلى تصديق صاحب الحق فيه [38 - أ]: فإنه في الدعوى متهم أيضا، والأغراض متطرقة إليه؟ فإن قيل: [إن] التهمة تثبت بكونه معروفا بالسرقة، وبما يعرف من حاله في الترداد على الموضع الذي جرت فيه السرقة، قبل ذلك الوقت أو بعده؛ أو ما يجري مجراه: من المخايل. فنقول: يستحيل الهجوم على عقوبته بالسرقة السابقة: التي عرف بها، وعوقب عليها. ويستحيل أن يعاقب بما يتوهم عليه: من هذه السرقة المدعاة، فليس من ضرورة كل من سرق شيئًا، أنه يسرق أمثاله. وإن كان من ضرورته: فالزجر بالقطع عن السرقة، شرع: كي لا يسرق ثانيا بعد ما قطعت يمينه، ففيه أكمل مقنع في الزجر. فالهجوم على عقوبته تعرض لحقه الناجز، بالتفويت لأمر هو موهوم. ويعتضد هذا بأمر، وهو: أنا الجنايات قد كثرت في عهد الصحابة: من السرقة وغيرها؛ ولم ينقل عنهم قط إلا الحكم بالإقرار أو بالحجة أو باليمين. فأما العقوبة بالتهمة، فلم يصر إليه منهم صائر، مع كثرة الوقوع. وذلك يدل على أنهم فهموا - من موارد الشرع ومصادره - أن لله تعالى سرا في تضييق طريق الكشف عن الفواحش،

فقد قال عليه السلام: "من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله" وقال عليه السلام - لمن كان يسأله عن السرقة -: "أسرقت؟ قال لا" وقال تعالى: {إن الذين يحبونا، تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} وقضي الشرع: بأن الزنا لا يثبت إلا بأربعة عدول، يشهدون: أنهم رأوا ك منه ي ك منها كالمرود في المكحلة، وكيف يتصور أن يحضر أربعة من المزكين مشهدا تجري فيه الفاحشة، ويحدقون النظر إلى ملتقى الأليتين؟! وهل هذا الأسد لباب الإثبات، أو تضييق له، مع تعظيم أمر الجناية، بشرع العقوبة المتفاقمة فيها: كي ينزجر المتعبد عنها؛ مع إرسال الستر:

بتضييق الأمر [عليه] في الإثبات على فاحشة. وكيف لا يفهم هذا من الشرع: ولما شهد أبو بكرة مع عدلين على زنا المغيرة، وانتهى الأمر إلى الرابع، وكان يصرح بالشهادة - استماله عمر - رضي الله عنه - بالقول اللين اللطيف، واستدرجه بحسن المنطق - حتى طرق إليه شبهة - وقال: "أرى وجها وسيما، وأتوسم سيماء الخير فيك× فما أراك تفضح رجلا من أصحاب النبي عليه السلام"؟ حتى قال: "رأيته مستلقيا على بطنها، ورجلاها تختلج كأنهما قضيبا خيزران" وحكى جميع ما شاهد من الحركات في وقت المباشر، فاستبشر [به] عمر، وأقام الحد على الشهود الثلاثة. فعلم أنهم امتنعوا عن المؤاخذة بالتهم، التفاتا إلى المصلحة التي ذكرناها؛ وعلما بأن الشرع ينهي عن تحسس الفواحش، والسعي بالاستنطاق بها بالحيل.

فهذا ما منعنا من اتباع هذه المصلحة. فالمانع في المثال الذي قبل هذا: أن لا حاجة إلى العقوبة بالقتل، وفي التعزير حصول المصلحة، والمانع في هذا المثال: تقابل المصلحة من الجانبين من الاعتضاد بستر الصحابة، والمخايل الشاهدة لإخفاء الفواحش. وعلى الجملة: هذه المسئلة في محل الاجتهاد؛ ولسنا نحكم ببطلان مذهب مالك - رحمه الله - على القطع، فإذا وقع النظر في تعارض المصالح: كان ذلك قريبا من النظر في تعارض المصالح: كان ك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة التي ذكرناها. مثال آخر: فإن قال قائل: توظيف الخراج على الأراضي ووجوه الارتفاقات مصلحة ظاهرة، لا تنتظم أمور الولاة - في رعاية الجنود، والاستظهار بكثرتهم، وتحصيل شوكة الإسلام - إلا به. ولذلك لم يلف عصر خال عنه. فالملوك - على تفاوت سيرهم، واختلاف أخلاقهم - تطابقوا عليه، ولم يستغنوا عنه؛ فلا تنتظم مصلحة الدين والدنيا إلا بإمام مطاع، ووال متبع؛ يجمع شتات الآراء، ويحمي حوزة الدين وبيضة الإسلام، ويرعى مصلحة المسلمين وغبطة الأنام، وليس يستتب ذلك له إلا بنجدته وشوكته، وجنده وعدته؛ فبهم مجاهدة الكفار، وحماية الثغور، وكف الأيدي الطغاة والمارقين وذبهم عن مد الأيدي إلى الأموال والحرم والأرواح؛ فهم [38 - ب] الحراس للدين عن أن تنحل

دعائمه، وتتخاذل قواه بتواغل الكفار بلاد الإسلام؛ وهم الحماة للدنيا عن أن يختل نظامها: بالتغالب، والتسالب، والتوثب من طغام الناس، بفضل العرامة [والباس ولا يخفي] كثرة مؤنهم، وانشعاب حاجاتهم: في أنفسهم وذرياتهم؛ والمُرصد لهم: خمس [الخمس من المغانم] والفئ؛ وذلك مما يضيق - في غالب الأمر - عن الوفاء بإخراجاتهم، والكفاية لحاجاتهم، وليس يتم ذلك إلا بتوظيف الخراج على الأغنياء. فإن كنتم تتبعون المصالح، فلابد من الترخيص في ذلك مع ظهور وجه المصلحة. قلنا: الذي نراه جواز ذلك عند ظهور [وجه] المصلحة؛ وإنما النظر في بيان وجه المصلحة. فنقول أولا: توظيف الخراج - في عصرنا هذا، وكل عصر هذا مزاجه ومنهاجه - ظلم محض لا رخصة فيه؛ فإن آحاد الجند لو استوفيت جراياتهم، ووزعت على الكافة: لكفاهم برهة من الدهر، وقدرا صالحا من الوقت. وقد تشحوا: بتنعمهم وترفههم في العيش، وتبذيرهم في إفاضة الأموال على العمارات، ووجوه التجمل على سنن الأكاسرة؛

فكيف نقدر احتياجهم إلى توظيف خراج لأمدادهم وإرفاقهم، وكافة أغنياء الدهر فقراء بالإضافة إليهم؟. فأما لو قدرنا أماما مطاعا، مفتقرا إلى تكثير الجنود: لسد الثغور، وحماية الملك: بعد اتساع رقعته، وانبساط خطته؛ وخلا بيت المال عن المال، وأرهقت حاجات الجن د إلى ما يكفيهم، وخلت عن مقدار كفايتهم أيديهم، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال؛ ثم إليه النظر في توظيف ذلك على وجوه الغلات والثمار؛ كي لا يؤدي تخصيص بعض الناس به، إلا إيغار الصدور، وإيحاش القلوب. ويقع ذلك قليلا من كثير: لا يجحف بهم، ويحصل به الغرض. فإن قيل: فهذه مصلحة غريبة لا عهد بها في الشرع ولا بمثلها؛ وحاصلها يرجع إلى مصادرة الخلق في أموالهم؛ وهو محظور: نعلم حظره من وضع الشرع؛ ولذلك لم ينقل [قط] عن الخلفاء الراشدين: قبل أن صارت الخلافة ملكا عضوضا، وإنما أبدعها الملوك المترفون، المائلون عن سمت الشرع.

قلنا: إنما لم ينقل عن الأولين ذلك، لاشتمال بيت المال في زمانهم، واتساع وجوه الرزق على أعوانهم، وقد نقل عن عمر - رضي الله عنه - ضرب الخراج على أراضي العراق. فأصل الضرب ثابت بالاتفاق؛ وإنما اختلاف العلماء في طريقه. ثم الكلام الشافي للغليل، هو: أن السائل أن أنكر وجه المصلحة فيما ذكرناه [أبديناه وآريناه، وقلنا: إن لم يفعل الإمام ذلك]: تبدد الجند، وأنحل النظام، وبطلت شوكة الإمام، وسقطت أبهة الإسلام، وتعرض ديارنا لهجوم الكفار واستيلائهم؛ ولو ترك الأمر كذلك: فلا ينقضي إلا قدر يسير، وتصير أموال المسلمين طعمة للفكار، وأجسادهم دُربة للرماح وهدفا للنبال، ويثور بين الخلق - من التغالب والتوائب - ما تضيع بها الأموال، وتعطل معها النفوس، وتنتهك فيها الحرم. ونظام ذلك شوكة الإمام بعدته، وما يحذر إلمامه - من الدواهي - بالمسلمين: لو انقطعت عنهم شوكة الجند، التي تستحقر - بالإضافة إليها أموالهم. فإذذا رددنا بين احتمال هذا الضرر العظيم، وبين تكليف الخلق حماية أنفسهم بفضلات أموالهم، فلا نتمارى في تعيين هذا الجانب. وهذا مما يعلم قطعا من كلى مقصود الشرع: في حماية الدين والدنيا، قبل أن نلتفت على الشواهد المعينة من أصول الشرع.

على أنا أن حاولنا إظهار هذا من شواهد الشرع، وكشفنا عن ملاءمته لنظره وجدنا في ذلك مضطربا؛ ولكن الحاجة إلى الاعتضاد بالشواهد والملاءمة في اتباع مصلحة مظنونة - يتصور مخالفتها؛ وهذه مصلحة في الصورة التي فرضناها - أن تصورت - قطعية م وضع الشرع: [لا] تفتقر إلى شاهد من الأصول يصدقها، وينزل [مثل] هـ المصلحة - من المصالح المظنونة - منزلة المعلومات بالعيان [39 - أ] أو بأخبار التواتر من المعلومات بأقوال الآحاد؛ وإنما نشترط في الآحاد العدالة لترجيح جهة الصدق على جهة الكذب، وما علم عيانا أو تواترا، وانقطع التردد عنه - استغنى عن الترجيح. ثم خاصية مثل هذه المصالح القطعية: أنها لا تعدم قط شواهد من الشرع كثيرة. فأبعدها عن الشهادة ظاهرا - وهي أقربها تحقيقا - هو: أ، الأب في حق طفله مأمور برعاية الأحسن؛ وأنه ليصرف ماله إلى وجوه من النفقات والمؤن في [الغرامات و] العمارات، وإخراج الماء من القنوات، وهو - في كل ذلك - ينظر له في ماله، لا في حاله، فكل ما يراه سببا لزيادة ماله [في الحال]، أو لحراسته في المال - جاز له بذل المال في تحصيله.

ومصلحة خطة الإسلام وكافة المسلمين، لا تتقاصر عن مصلحة طفل [واحد]. ولا نظر للإمام - الذي هو خليفة الله في أرضه - يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق طفله، فكيف يستجيز منصف انكار ذلك [المعنى]، مع الاعتراف بظهور هذه المصلحة؟ وإن أنكر منكر وجه المصلحة: فعلينا تصويرها، والحكم بالتحريم عند انتفاء المصلحة. وأما الشواهد الظاهرة القريبة من هذا الجنس، [فمنها] أن الكفار لو وطئوا أطراف بلاد الإسلام، يجب على كافة [المسلمين و] الرعايا أن يطيروا إليهم بأجنحة الجد؛ فإذا دعاهم إلى ذلك الإمام: وجب عليهم الإجابة، وفيه أتعاب النفوس وأنفاق المال؛ وليس ذلك إلا لحماية الدين، ورعاية مصلحة المسلمين. فهذا - في هذه الصورة - قطعى. وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا ما إذا لم يهجم الكفار، ولكن كنا نحذر هجومهم، ونتوقع انبعاثهم؛ فلو استشعر الإمام من شوكة الإسلام وهنا وضعفا وتفرقا: لوجب على كافة الخلق إمدادهم؛ كيف: ولو لم

ينبث جنود المسلمين في ديار الكفار: انبتوا في ديارنا [على قرب]. ولطالما قيل: "الروم إذا لم تغز غزت". ومهما سقطت شوكة الإسلام، كان ك متوقعا على قرب من الأيام؛ كيف: والجهاد في كل سنة واجب على الكفاية، على كافة الخلق، وإنما سقوطه باستقلال أقوام من المرتزقة به، فكيف يتمارى في وجوب بذل المال في مثل ذلك؟ وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا - ضربا للمثل - أنبساط أطراف ظل الإسلام على [أقاصي] الغرب والشرق، وأطباق الدين الأرض ذات الطول والعرض؛ حتى لم يبق من الكفار نافخ نار، ولا طالب ثار -: فلا يؤمن هيجان الفتن بين المسلمين، وثوران المحن من نزعات المارقين؛ وهو الداء العضال، وفيه تستهلك النفوس والأموال ولا كاف لأمثالها إلا سطوة الإمام، ولا كاف عن فسادها إلا قهر الوالي المستظهر بجند الإسلام. ولو اتفق شيء من ذلك: لافتقر أهل الدنيا إلى نصب حراس، ونفض أكياس على أجرهم؛ ثم لا يغنيهم ذلك. فه مصلحة ملائمة قطعية، لا يتمارى منصف في وجوب اتباعها.

فإن قيل: في الاستقراض غنية عن المصادرة واستهلاك الأموال، فقد كان النبي عليه السلام - يستقرض: إذا جهز جيشا، وافتقر إلى مال. قلنا: نقل الاستقراض من النبي عليه السلام، ونقل - أيضا - أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه: بأن يخرجوا شيئًا من فضلات أموالهم؛ إلا أنهم كانوا يبادرون - عند إيمائه - إلى الامتثال، مبادرة العطشان إلى الماء الزلال. ولسنا ننكر جواز الاستقراض ووجوب الاقتصار عليه، إذا دعت

المصلحة إليه، ولكن: إذا كان الإمام لا يرتجي أنصباب مال إلى بيت المال، يزيد على مؤن العسكر ونفقات المرتزقة في الاستقبال؛ فعلى ماذا الاتكال في الاستقراض مع خلو اليد في الحال، وانقطاع الأمل في المال؟. نعم: لو كان له مال غائب، أو جهة معلومة تجري مجرى الكائن الموثوق به، فالاستقراض أولى. وينزل [ذلك] منزلة المسلم الواحد: إذا اضطر - في مخمصة - إلى الهلاك، فعلى الغنى أن يسد رمقه، ويبذل من ماله ما يتدارك به حشاشته؛ فإن كان له مال غائب أو حاضر: لم يلزمه [39 - ب] التبرع، ولزمه الإقراض؛ وإن كان فقيرا: لا يملك نقيرا ولا قطميرا، فلا نعرف خلافا في وجوب سد مجاعته، من غير إقراض. وكذلك: إذا أصاب المسلمين قحط وجدب، وأشرف على الهلاك جمع؛ فعلى الأغنياء سد مجاعتهم، ويكون ذلك فرضا على الكفاية؛ يخرج بتركه الجميع، ويسقط بقيام البعض به التكليف؛ وذلك ليس على سبيل الإفراض؛ فإن الفقراء عالة [على] الأغنياء، ينزلون منهم منزلة الأولاد من الآباء؛ ولا يجوز للقريب أن ينفق على قريبه بالإقراض، إلا إذا

كان له مال غائب. فكذلك القول فيما نحن فيه. فهذا وجه المصلحة، وهو من القطعيات: التي لا مرية في اتباعها إذا ظهرت، ولكن النظر في تصوير المصلحة، على الوجه الذي قررناه. فأصل أخذ المال متفق عليه عند العلماء؛ وإنما الاختلاف في وجوب تعيين الاستقراض. وفيما ذكرناه من التفصيل، وما يشفى الغليل. مثال آخر: فإن قال قائل: إذا رأى الأمام جمعاً من الأغنياء يسرفون في الأموال ويبذرون، ويصرفونها إلى وجوه من الترفه والتنعم، وضروب من الفساد؛ فلو رآى المصلحة في معاقبتهم: بأخذ شئ من أموالهم، ورده إلى بيت المال، وصرفه إلى وجوه المصالح فهل له ذلك؟ قلنا: لا وجه له؛ فإن ذلك عقوبة بتنقيص الملك وأخذ المال؛ والشرع لم يشرع المصادرة في الأموال عقوبة على جناية، مع كثرة الجنايات والعقوبات؛ وهذا ابداع [أمر] غريب [لا عهد به، وليست المصلحة فيه متعينة؛ فإن العقوبات والتعزيرات مشروعة بإزاء الجنايات]، وفيها تمام الزجر، فأما المعاقبة بالمصادرة، فليس من الشرع. وليس هذا كالمثال السابق، فإن الأموال مأخوذة بطريق ايجاب الانفاق منهم على جند الإسلام لحماية مصلحة الدين والدنيا، لا بطريق العقاب؛ ومسالك الإنفاق

والإرفاق مقيدة من الشرع؛ أما المعاقبة بالمصادرة فليس مشروعاً؛ والزجر حاصل بالطرق المشروعة، فلا يعدل عنها مع إمكان الوقوف عليها. فإن قيل روى: "أن عمر -رضى الله عنه- شاطر خالد بن الوليد على ماله، حتى اخذ رسوله فردة نعله، وشطر عمامته". قلنا: المظنون بعمر -رضى الله عنه-: أنه لم يدع العقاب بأخذ المال، على خلاص المألوف من الشرع، وإنما ذلك: لعلمه باختلاط ماله بالأموال المستفادة من الولاية؛ واحاطته بتوسعه فيه. ولقد كان عمر يراقب الولاة بعين كالئة ساهرة؛ فلعله خمن الأمر، فرأى شطر ماله من فوائد الولاية وثمراتها؛ فيكون ذلك كالاسترجاع للحق بالرد إلى نصابه، فأما أخذ المال المستخلص للرجل عقاباً على جناية -شرع الشرع فيها عقوبات سوى اخذ المال- فهو مصلحة غريبة لا تلائم قواعد الشرع. فتبين بهذا المثال: أن إبداع أمر في الشرع -لا عهد به- لا وجه

له؛ وأنا -في اتباع المصالح- نتردد على ضوابط الشرع ومراسمه. وقد ذهب إلى [تجويز) ذلك ذاهبون، ولا وجه له. مثال آخر. فإن قال قائل: لو طبق الحرام طبقة الأرض أو خطة ناحية، وعسر الانتقال منها، وانحسمت وجوه المكاسب الطيبة على العباد، ومست حاجتهم إلى الزيادة على قدر سد الرمق من الحرام؛ ودعت المصلحة إليه -فهل يسلطون على [تناول قدر الحاجة] من الحرام، لأجل المصلحة؟ فإن أبيتم ذلك: خالفتم وجه المصلحة، وإن رأيتم ذلك: اخترعتم أمراً بدعاً لا يلائم وضع الشرع. قلنا: إن اتفق ذلك -ولعل مزاج العصر قريب مما صوره السائل - فيجوز لكل واحد أن يزيد على قدر الضرورة، ويترقى إلى قدر الحاجة في الأقوات والملابس والمساكن؛ لأنهم لو اقتصروا على سد الرمق: لتعطلت المكاسب، وانبتر النظام، ولم يزل الخلق في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا. وفيه خراب أمر الدين وسقوط شعائر الإسلام، فلكل [واحد] أن يتناول مقدار الحاجة، ولا ينتهى إلى حد الترفه والتنعم والشبع، [40 - أ]

ولا يقتصرون على حد الضرورة. وقول القائل: إن هذا غير ملائم للشرع؛ فليس الأمر كذلك: فإن الشرع سلط على [أكل] لحم الخنزير، -وهواخبث المحرمات- عند الضرورة؛ ولكن: اختلف العلماء في أنه [هل] يقتصر على سد الرمق، أو يتناول قدر الاستقلال وتلافى القوة؟. والحاجة العامة -في حق كافة الخلق- تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد؛ والحاجة عامة إلى الزيادة على سد الرمق، إذ في الإقتصار عليه وجوه من الضرر: تنقاد إلى بتر النظام، وانصراف الخلق عن إقامة شعائر الشرع، ومصالح النفس. ومنتهى ذلك يقود إلى أن يثبت المرض والسقام، وتتوالى الآلام، ويتداعى ذلك إلى الهلاك. فهذه مصلحة ظاهرة بعمومها وملاءمتها لنظر الشرع، لا مرية فيه. مثال آخر. فإن قال قائل: لو اجتمع جماعة في سفينة، وأشرفت

على الغرق؛ علك أنه لو ألقى أحدهم في البحر: لنجا الكل؛ ولو امتنعوا من ذلك: لعمهم الهلاك، فلا شك [في اقتضاء] المصلحة أن يلقى واحد في البحر بالقرعة؛ لأن فيه استبقاء الباقين، وفي الإمتناع عن ذلك إهلاك الجميع؛ وإبقاء النفوس وتقليل الإهلاك واجب، وقد نقل عن مالك -رضى الله عنه-: قتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها؛ من طريق المصالح، فما رأيكم فيه؟ قلنا: هذه بدعة لا يجوز القول بها؛ والوجه: التوكل على الله تعالى، وارتقاب نفوذ قضائه، فأما الإقراع، والتخصيص بالإهلاك [به]-فمحال؛ لأن فيه قتل من ليس جانياً قصداً؛ ولا عهد في الشرع بتجريد القصد إلى قتل من ليس جانياً، لمصلحة غيره، فمصلحة القتل فاتت، ومصلحة غيره ليست أهم من مصلحته في حقه، ولا تغير مصلحة في حقه بالكثرة، ففي قتله تفويت كل أمره، [وكيف لا ولو] أكره ظالم

شخصين على قتل شخص واحد، لم يبح لهما القتل: لتكثير الإبقاء؛ ولو أكره مسلم على قتل ذمى، أو عالم تقى على قتل فاسق غبي -لم يحل له قتله: لمصلحة إحياء النفس وإبقائها؛ لا بطريق التقديم بالفضل، ولا بطريق التقديم بالكثرة؛ لأن المكره على قتله لا جناية من جهته؛ وحقه مرعى من عصمته في نفسه، فلا يجوز تفويته بالمصلحة. فهذه مصلحة غريبة غير ملائمة لتصرف الشرع؛ فليس في تصرفات الشرع قتل غير الجاني قصداً لمصلحة غيره. فهذا مثال المصلحة الغريبة. فإن قيل: موت هذا الذي يقتل بالقرعة لابد منه على الأحوال كلها، ولنا في الباقين طريقان؛ أحدهما: التخليص، والثاني: الإهلاك، والإهلاك محظور، والإبقاء مقصود؛ وهو ممكن، أما هذا الواحد، فموته- قتل، أو لم يقتل- لابد منه. قلنا: ما يتفق -من الموت بالآفات السماوية، لا عن قصد- فجميع الخلق بصدده؛ والأمر في التقديم والتأخير قريب، وأما تجريد القصد إلى الإهلاك، جناية على الروح قصداً لمصلحة الغير- ففيه تفويت مصلحة القتيل بالكلية.

ومن هذا الجنس؛ ما إذا اضطروا في مخمصة، وعملوا أنهم يهلكون جوعاً لا محالة، وأنهم لو قتلوا واحداً بالقرعة وأكلوه لتخلصوا- فهو محرم [في الشرع] قطعاً، وعليهم الإنقياد لقضاء الله تعالى، فأما التخلص بالقتل: فباطل لا وجه له. نعم: لوورد [حكم] الشرع في صورة السفينة -مثلاً- بالإلقاء بالقرعة، لكان ذلك تنبيها على رعاية هذه المصلحة، حتى نطردها في المضطرين في المخمصة، وبه يتبين أن إثبات الحكم على وفق المناسبة، تنبيه على ملاحظته؛ ولكن: إذا لم يرد الشرع بالحكم على وفقه، ولا رأى ذلك ملائماً لتصرفات الشرع- كان ذلك أمرا [بدعاً] مستحدثاً في الشرع بمحض الرأى، من غير التفات إلى قالب الشرع، وهذا باطل كما قدمنا. مثال آخر: فإن قال قائل: رأيتم قطع الأيدى باليد [الواحدة] قياساً على قتل النفوس بالنفس [الواحدة]. فما مستندكم في قتل

النفوس بالنفس الواحدة؟ أهو المصلحة [أم النص أم الإجماع]؟ فإن اتبعتم] 40 - ب] المصلحة، فما وجه كون هذه المصلحة ملائمة لمصالح الشرع، وفيه قتل من ليس قاتلاً على الكمال، وهو مستبعد؟! قلنا: لم ينقل فيه نص عن الشارع؛ وإنما المأثور عن عمر -رضى الله عنه- في قتيل قتله جماعة، أنه قال: "لة تمالأ عليه أهل صنعاء: لقتلتهم به" فكيف يدعى فيه نص أو إجماع، ومذهب مالك: أنه لا يقتل من جملتهم إلا واحد خرجت القرعة عليه؟

.. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..

فدل أن كل واحد- من الشافعي ومالك- سلك مسلك المصلحة؛ وهو الذي رآه عمر رضى الله عنه. وذلك يدل على اتفاق مسالك العلماء القائسين: في اتباع المصالح المرسلة؛ وإن لم يعتضد بشهادة أصل معين -مهما كام- من جنس مصالح الشرع؛ ووجه المصلحة: أن القتيل معصوم، وقد قتل عمداً؛ وإهداره داع إلى خرم مقصود القصاص، وإتخاذ الظلمة الإستعانة ذريعة إلى [بغيتهم في] سفك الدماء [وقتل الأعداء]. وهذا وجه في المصلحة ظاهر،. ولا يشهد له -بطريق الأصالة- قتل المنفرد، فإنه قاتل -تحقيقاً- على الكمال. ومقابلة النفس بمثلها، لا تدل على مقابلتها بأمثالها. ولكن المقصورد -المعلوم على القطع من أصل القياس- يتقاضى

إلحاق المشتركين بالمنفردين. وقول القائل: إن هذا أمر بدع في الشرع غريب، وهو: قتل غير القاتل. قلنا: ليس كذلك. أما أبو حنيفة، فإنه يزعم: أن كل واحد قاتل على الكمال؛ مصيراً إلى أن حد القتل جرح يتعقبه زهوق الروح. ونحن لا نرى ذلك، وإنما نتبع المصلحة، وإليه يشير مذهب مالك -رحمه الله- في المسئلة، ولكنا -مع ذلك- لم نقتل غير القاتل؛ فإن القتل حاصل، وهو مضاف إلى المتمالئين على الجرح؛ فهم القاتلون، ولم نقتل إلا القاتلين. نعم: لا يسمى كل واحد منهم قاتلاً على الكمال [والتمام]؛ ولكنا نقول: جميعهم في حكم شخص زاحد، والقتل مضاف إليهم إضافته إلى الشخص الواحد؛ فإذا جمعتهم رابطة الغستعانة، فقد صاروا في حكم الشخص الواحد، بالتعاضد على مقصد واحد، ومن جرح إنساناً: فقد قصد قتله؛ فإذا جرحه غيره: فقد أيد قصده، وعضد غرضه؛ ولم يزاحمه عن مقصده، بل مالأه وعاونه عليه، فحسسن تنزيلهم منزلة الشخص الواحد، والقتل مضاف إلى جميعهم تحقيقاً، فلم نقتل إلا جمعاً قاتلاً، وإنما [النظر]: في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد؛ وقد دعت إليه [الحاجة و] المصلحة، وأشار إليه سر المشاكرة؛ فلم يكن ذلك مبتدعاً.

فإن قيل: في مذهب مالك -رحمه الله- ما يحصل الزجر؛ فإن آحادهم إذا كانوا على مخافة من خروج القرعة عليهم، انتهض ذلك وازعاً، وتوقع خروج القرعة على الغير لا يكون سبباً للجرأة على القتل، كتوقع العفو من ولى الدم. قلنا: لم ير الشافعي ذلك: من حيث أن الصارف عن قتل الكل اقتحام قتل من ليس قاتلاً على الكمال؛ وفي قتل الواحد منهم ارتكاب لهذا الأمر المحظور؛ والقرعة لا تؤثر في تكميل جنايته وتخصيصه بالموجب عن غيره؛ وإنما تصلح القرعة: عند تعارض الأسباب الكاملة للتعيين في حق الأشخاص؛ كما إذا لم يملك إلا ستة أعبد، فأعتقهم في المرض: أقرع بينهم، وأعتق اثنان، لأن سبب العتق كامل في حق كل واحد، وضاق المحل عن الوفاء؛ فتوصلنا إلى الترجيح والتعييم، بالقرعة. وفي هذا المقام لم تتكامل الجناية من كل واحد؛ فإذا جاز الأقدام على القتل: فلا فرق بين شخص وشخص. على أن مقصود الزجر غير حاصل به؛ وكل يقدر انحراف القرعة عنه، لا سيما إذا كانوا جمعاً غفيراً؛ وتوقع خروج القرعة عليه لا ينتهض وزاعاً؛ وهو كتوقع الإنسان

الموت فجأة في كل حالة: فإنه ما من شخص إلا ويجوز -في كل وقت- أن يموت [فيه]؛ ولا أثر لذلك على قلبه. وليس ذلك كتوقع العفو من ولى الدم: فإنه -بعد إيغار صدره، وإثارة الحقد والضغينة في [41 - أ] باطنة- يبعد الاتكال عليه. وعلى الجملة: المسألة اجتهادية؛ وإنما هذا نظر: في تعين الطريق في رعاية المصلحة؛ مع الاتفاق على مراعاة المصلحة. فإن قيل: فإذا تعاون رجلان على السرقة، فثقب أحدهما وأخرج الآخر المال- فهلا أوجبتم القطع: رعاية للمصلحة، وحسماً للباب؟ إذ فيه تمهيد ذريعة- هينة الدرك، قريبة المنال- لسرق الأموال، على اختلاف الأحوال؛ وهو الغالب من عادات السراق؟ قلنا: لأنه لم يبن لنا أن القطع مشروع لعصمة المال، كما بأن كون القصاص مشروعاً لعصمة النفس. ودل عليه ثلاثة أمور: أحدها: وجوب القطع مع رد المال بكماله؛ وليس فيه تفويت واتلاف وحاجة إلى جبر. والآخر: أن النفس مثل النفس، ولا مناسبة بين يد ديتها خمسمائة دينار- وفيه تعريض الروح للهلاك- وبين ربع دينار. والآخر: أن القطع لو وجب عصمة للمال، لوجب لمستحق المال: حتى يسقط بإسقاطه كالقصاص؛ فلاح [بهذه الشواهد أن قطع اليد]

عقوبة وجبت لله تعالى، بإزاء فاحشة ارتكبها العبد-؛ لتفاحش الجريمة، وما فيه من هتك المرء حرمه نفسه بالتضمخ بتلك الرذيلة. وإنما الصورة المتفاحشة: السرقة؛ والناقب لم يصدر منه إلا تخريب جدار الغير؛ وهذا وإن كان محظوراً: فلا يتفاحش في العقل والعرف والشرع، تفاحش السرقة؛ وشريكه لم يصدر منه إلا أخذ المال عن مضيعة؛ وليس ذلك على مضاهاة السرقة: في التفاحش. ومراتب القبح في الفواحش تختلف، وتتفاوت بسببها العقوبات الواجبة بها؛ ولا مناسبة بين هذه الصور.

فإن قيل: لو اشترك رجلان في النقب وسرقة المال، بحيث لم يتميز فعل أحدهما عن الآخر- فما قولكم فيهما؟ قلنا: إن بلغ المال نصابين وجب القطع؛ وإن بلغ نصابا واحداً فلا: لأن كل واحد [منهما] لا يخصه نصاب واحد، وما دون النصاب ليس في محل التشوف: لحقارته وخسته؛ فلا يفتقر فيه إلى [شرع] الزاجر، كالمنفرد بما دون النصاب. فإن قيل: فالقطرة الواحدة من النبيذ لا تشتهى، والطباع لا تتشوف إليها: لأن المقصود [منها] الطرب والهزة المستثمرة من استيفاء الأقداح؛ فلم شرعتم فيها الحد؟ قلنا: لم نقتبس ذلك من المصلحة؛ ولكنا ألحقناه باليسير من الخمر، وقد ثبت فيه التحريم نصاً. وسببه: أن قليله داع إلى كثيره؛ ولا وازع من حيث الطبع: فالرجل يستخلى بنفسه في شرب الخمر، ولا حامي ولا عاصم وراءه. أما الأموال [فأنها] مصونة محروسة بالأعين الكالئة، محفوظة

بالقلاع المشيدة [العالية] وفي التسلق عليها: تغرير بالروح، واقتحام [متن] الخطر، مع التردد في قضاء الوطر. فعزازة المال ونفاسته هي الداعية إليه، ثم النظر إلى الشرع في تقدير النفيس، وتمييزه على الخسيس. وهذا وإن كان مناسباً وتنقطع عنه السرقة، فلسنا نراه على مذاق المصالح المستقلة، دون شهادة الأصل. فلو لم يرد الشرع بتحريم قليل الخمر، لما كنا بالذي يحرمه بهذا القدر من المناسبة. ولكن: إذا ورد الشرع بالحكم على وفقه، شهد لملاحظته؛ فنقيس به ما يقاربه وهو النبيذ؛ ولا يستقل بأثبات الحكم، دون شهادة الأصل، وإن كان ملائماً. على ما سبق وجه ملاءمته، ولكنه واقع في الرتبة الأخيرة من المناسبات الجارية مجرى التتمة والتكميلات للقواعد المبنيى على الحاجات أو الضرورات؛ على ما سبق تفصيل القول فيها. فإن قيل: فلم ألحقتم الأيدي بالنفوس في حكم القصاص، ووجه المصلحة في النفوس: عموم التعاون فيه على القتل غالبا، لاستقلال الواحد بدفع الواحد في الأعم الأغلب؟ والتعاون على قطع الأطراف على الوجه الذي يسترطه الشافعي-: من امتزاج الفعلين بحيث لا يتميز [41 - ب] أحدهما عن الآخر- لا يعرض إلا نادراً. فكيف يلحق به بطريق المصالح؟ قلنا: إذا ثبتت قاعدة على مصلحة، لم تتبع آحاد الصور من

القاعدة [على هدمها] بل انسحب الحكم على جميع الأطراف، مع التفاوت في مراتب الحاجة. والشركة في النفوس أيضاً قد تجرى وفاقاً ولا تجرى تواطؤاً؛ وقد تجرى مع الأب والأقارب، وهو نادر، والحكم منسحب. والممكن [فيه رعاية] إمكان الإستعانة، لا رعاية الإستعانة وجوداً؛ والإمكان جار في الأطراف؛ ونحن نحذر انتصاب ذلك ذريعة إلى الإهدار. وإذا علم الناس أن ذلك مدرأة للقصاص: انتحوا ذلك قصداً، وجردواً إليه العمد احتيالاً وصمداً، واتخذوا ذلك طريقاً وصار عاماً. كما صارت صورة مسألة العينة عامة بين الخلق: إذ عرفوا أن ذلك حيلة في الخلاص من الربا. وكل من قصد مقصداً، وكان الطريق إليه محسوماً، وسنحت له حيلة في تيسيرها- انتهض لها بأقصى الجد والتثمير؛ وصارت الحيلة الغريبة بصورتها عامة في الوقوع، بذلك. فهذا طريق الإلحاق، والغرض: بيان وجوه الترداد على المصالح

المرسلة واتباعها؛ فأما أعيان هذه المسائل، فالقول فيها في مظنة الإجتهاد: وكل مجتهد مثاب على ما يتحراه من السداد والصواب. فإن قيل: إيجاب القصاص بالمثقل، هل مبنى على المصلحة وانتهاض ذلك ذريعة عامة؟ قلنا: هذه مصلحة جارية فيه ظاهرة؛ ولكن: انضم فيها الاستشهاد بأصل معين. فإلحاق المثقل [بالجارح] بالمعنى المفهوم من الجارح- جار على شكل الأقسية المعتدة بالأصول الشاهدة المعينة؛ ولكن اتضح القياس وعلت رتبته: لإستمداده من هذه المصلحة، التي لها رتبة الاستقلال [لو قدر انفكاكها عن شهادة الأصل المعين. وإذا اعتضد شكل القياس بمصلحة لها رتبة الاستقلال]: وقع في الرتبة العليا من القوة والظهور. وهذا ما أردنا أن نذكره: من الأمثلة للمصالح التي يعم جدواها، و [تشمل] فائدتها، ولا تخص الواحد المعين. ثم قد تكون أسبابها غالبة في الوقوع، وقد تكون نادرة. ونحن نذكر أمثلة [المصالح التي تظهر] بأسباب نادرة في حق [آحاد] الأشخاص.

مثال [ذلك]: فإن قال قائل: ما قولكم في المفقود زوجها إذا طالت غيبة الزوج عنها وانقطعت الأخبار، واندرست الآثار، وبقيت المرأة محبوسة في حبالة النكاح، مع الفقر والإضاقة وانحسام طريق النفقة، ولا تعرف من زوجها موتاً ولا حياة، ولا تسمع من حديثه همساً؛ فهل تسلط [المرأة] على النكاح: تقديراً للموت في حق زوجها، ورعاية لمصلحتها وتخليصاً لها من هذه الضرورة التي لا منتهى لها إلى منقرض أجلها؟ قلنا: اختلف العلماء [في هذه المسألة] فالذي رآه عمر -رضى الله عنه- أنها تنكح إذا طالت المدة، واندرست الأخبار، وظهرت آثار الوفاة. وإليه ذهب الشافعي في القديم. ونص -في الجديد- على أن لا طريق إلا الاصطبار والانتظار: إلى أن يتحقق الحال بظهور نبئه، أو بإنقضاء مدة يقطع فيها بتصرم عمر الزوج. وليس هذا من الشافعي امتناعاً عن اتباع المصالح، وإنما هو رأى رآه في عين هذه المصلحة: من حيث أن في تسليطها على التزويج خطراً عظيماً؛ ولا ندارس الأخبار أسباب سوى الوفاة: من تنائي المزار، وتباعد الأقطار، وانقطاع الرفاق؛ لا سيما إذا كان الرجل خامل الذكر، ونازل

القدر، ركيك الحال والأمر؛ فبقاؤه في الأحياء ليس بعيداً، وربما يعود يوما من الدهر: وقد سلمنا حليلته إلى فحل يتغشاها ويستولدها، ويلطخ فراشه؛ فيعظم فيه بالخطب، ويتفاقم فيه الأمر، ويستفحل الضرر والمعرة على الزوج. ونحن بين أن تأمرها بالتربص [على النكاح] فنضر بها إن كان زوجها -في علم الله تعالى- ميتاً، أو نسلطها على النكاح: فنضر بالزوج إن كان في علم الله تعالى حياً. والضرر في تربص أيم وتعزبها أهون- وذلك معتاد شرعاً وعرفاً- من الضرر في تسليم زوجة منكوحة إلى واطئ. فأستعظم الشافعي -في الجديد- الخطر في هذا الأمر؛ وانضم إليه ندور [هذه] الواقعة، واختصاص [42 - أ] المضرة بالشخص الواحد. فهذا وجه نظره. وللقول القديم- الموافق برأى عمر رضى الله عنه وجه لا يخفى تقريره.

مثال آخر: إذا كان للمرأة وليان، فأذنت لهما في تزويجها؛ فزوجها كل واحد منهما من إنسان واستبهم السابق [واللاحق]، مع العلم بجريان العقدين على التعاقب؛ وانحسم طريق الكشف والتذكير، وقع الاعتراف بالاشكال- بقيت هذه المرأة محبوسة بين الزوجين مترددة ولا طريق لأحدهما إليها: فلا سبيل لها إلى النكاح، وقد جرى على القطع عقد صحيح. فالمصلحة داعية إلى فسخ العقد الذي جرى في علم الله تعالى، وتسليطها على النكاح، وتخليصها عن هذه الحالة المزمنة طول العمر. وقد اختلف فيها قول الشافعي، وهو دليل ميله إلى المصالح ورعايتها؛ إذ هذه المسألة لا نظير لها: فالعسر الحاصل بالنسيان لم ير قط في الشرع معتبرا في فسخ العقد؛ ولكنه- على الجملة- ملائم لجنس تصرفات الشرع؛ فإن الشرع يرى فسخ العقود: إذا تعذر امضاؤها، وامتنع استيفاؤها؛ فإذا وقع اليأس عن الكشف، فلا شك في اقتضاء المصلحة الفسخ؛ وقد جاز الفسخ بالجب والعنة، دفعا للضرار عنها؛ إذ فيه فوات التحصين؛ وذلك جار فيما نحن فيه؛ إلا أن شهادة هذه المسائل ضعيفة: لأن الضرر

فيها ينشأ من عيوب وأسباب جبلية، لا تقصير فيها من العاقدين، وأما العسر على هذا الوجه بالنسيان [فـ] نادر؛ وسببه: تقصير وترك تحفظ، ومساهلة في احتياط [لا محالة]. فالحاقة بهذه الأسباب ليس سديدا؛ وإنما المعول عليه، المصلحة؛ وهو في محل الاجتهاد والتردد، كما ردد الشافعي قوله هذا فيه: إذا لم يتعين السابق. فلو تعين أولا، ثم نسى- فطريقان: منهم من قطع بأنه لا سبيل إلى الفسخ، ومنهم من طرد القولين: لاستواء المصلحة. وظاهر المذهب- من حيث النقل-: الفرق. وسببه: ظهور التقصير عند النسيان بعد العلم، وبعده عن ملاءمة الأسباب الموجبة للفسخ. مثال آخر: إذا طلقت المرأة الشابة بعد المسيس، ولزمتها العدة، وتربصت الأقراء: فتباعدت حيضتها سنين- فقد قال العلماء: يلزمها التربص إلى سن اليأس، ولا يغنيها الاعتداد بالأشهر. وهذا ضرر عظيم ظاهر، وفيه تعطيل عمرها وشبابها، ومنعها من النكاح. ولكن نرى هذه المسألة مجمعا عليها، وتكاد تهدم اتباع المصالح في المثالين السابقين: فإنها قريبة منهما، ولكن: وجه الرأي فيه- والعلم عند الله- أن الله تعالى قال:

{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}؛ والتربص واجب على كل من تحيض؛ ولسنا نعني [بقولنا]: تحيض، وجود الحيض عند الطلاق؛ فالطاهرة تطلق ويقال: أنها ممن تحيض، فتتربص الحيض. فالمعنى: إمكان الحيض، أما من لا يمكن في حقها الحيض جبلة: كالصغيرة والعجوز الهرمة؛ فلها العدول إلى الأشهر. وما دامت المرأة جارية- في وسط العمر- بين طرفي الوجود: فإمكان الحيض جار في حقها، وقد أمر الشرع بتربص الطاهرة للحيض؛ فعليها أن تنتظر الحيض، وما من لحظة تنقضي إلا وهي على رجاء من هجوم الحيض. نعم: لو علمنا أنها ليست تحيض إلى منتهى الهرم، لكنا نعدل بها إلى الأشهر. ولكن ذلك إن كان: فهو في علم الله تعالى، وهي- في كل ساعة تبغى الشروع في العدة بالأشهر- يتوقع الحيض لها حالا على حال. فإن مضت سنة أو سنتان: لم ينقطع هذا الرجاء؛ فرب امرأة لا تحيض سنين ثم يعاود الحيض؛ ومن لها إلى الانتظار سبيل: فليس لها في الشرع إلا التربص. وإنما الضرر ينتظم تقديره بتمادي الطهر سنين كثيرة. ونحن- في الحال- لا نعلم تراخيها سنين؛ وإنما ندرك ذلك بعد مضيها، ولا سبيل إلى تلافيها. وطريق الرجاء والأمل متسع في المستقبل. فهذا هو السبب والعلم عن

الله تعالى، بخلاف المثال السابق: فإن الشيء إذا نسى على قرب عهد به، استحال في العرف- تجدد علم به، بعد طول العهد بالأمارات. فإن قيل: عقل قطعا أن مقصود العدة براءة الرحم؛ وقد حصل بمضي أربع سنين: فإن مدة الحمل لا تزيد عليها. فهلا اكتفيتم بها؟ قلنا: علم أن البراءة مقصودة من العدة، ولم يعلم أنها المقصود فقط، بل علم أن للشرع وراءها تعبدا في العدة؛ فإنه لو قال لزوجته: إذا استيقنت براءة رحمك فأنت طالق؛ فإذا استيقنت: طلقت ولزمتها العدة. فلم يمكن تجريد النظر إلى معنى البراءة. هذا ما أردنا أن نذكره: من أمثلة المصالح؛ وفيه الكفاية لصاحب الهداية؛ إن شاء الله تعالى [ولله الحمد، وبه التوفيق]. القول في الطرد والعكس المسلك الخامس: في إثبات كون الوصف علة بالاطراد والانعكاس؛ وهو: أن يوجد الحكم بوجوده، ويعدم بعدمه، فيعلم به

أنه مؤثر فيه، وموجب له؛ وأن وجوده بالإضافة إلى الحكم، ليس كعدمه. وهذا قد اختلف فيه الأصوليون اختلافا ظاهرا؛ [فالذي اختاره القاضي أبو بكر: أن ذلك] لا حجة فيه؛ من حيث أن الطرد [المجرد ليس بحجة]، والعكس ليس بشرط في العلل الفقهية: فلا تأثير لوجوده؛ ولأن انتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسئلة، والثبوت عند الثبوت مسئلة أخرى منفصلة عنه؛ فكيف يعتضد أحدهما بالآخر. إلى كلمات مشهورة قررناها في كتاب (المنخول من الأصول). وليس يحصل- في هذه القاعدة- شفاء الغليل، إلا بالتمثيل والتفصيل. فأقول- وبالله التوفيق: الطرد والعكس يذكر من وجهين: أحدهما سديد، والآخر فاسد.

فأما الفاسد، فهو: إظهار وجود الحكم عند وجود وصف في محل، وإظهار عدمه عند عدم ذلك الوصف في محل آخر، كما يقول الحنفي مثلا: الجص مكيل، فيجرى فيه الربا كالبر، فيقال له: ولم قلت: إن العلة في البر هي الكيل؟ فيقول: لأن البر مع الأشياء الثلاثة، لما كان مكيلا مقدرا: جرى فيه الربا، والثياب والعبيد [لما لم تكن] مكيلا مقدرا: لم يجر فيها الربا. فوجد هذا الوصف مع وجود الحكم، وعدم مع عدمه. فهذا وأمثاله فاسد: لأن الحكم يوجد مع أوصاف وفاقية يقارنها، وينعدم عند انعدام أوصاف وفاقية، فلم يستمكن هذا المستدل من أن يقول: وجد الحكم بوجوده وعدم بعدمه؛ بل قال: وجد مع وجوده في موضع، وعدم مع عدمه. وهذا وإن سلم سلامته عن النقض في الطرد والعكس، فلا خير فيه من طريق الأطراد والانعكاس. وقد يمكن التعلق به بطريق الشبه، كما سنذكر وجهه وكيفيته [إن شاء الله تعالى]. هذا وجه في الطرد والعكس. والوجه الثاني: أن يستمكن المستدل من ادعاء وجوده بوجوده، وعدمه بعدمه. وذلك: إذا استقام [فهو] دليل على كون الوصف علة عندنا.

بل نزيد فنقول: إذا سلم قوله: أنه وجد بوجوده؛ كفاه ذلك، ولم يشترط أن يبين انعدامه بعدمه، بعد الوجود؛ إذ في الوجود بوجوده، بيان الانعدام بعدمه؛ إذ كان قبول الوجود منعدما، وكان انعدامه بانعدام ما وجد بوجوده. فهذا القدر كاف. ونحن نضرب لذلك ثلاثة أمثلة، ونرتب الدليل على تقرير وجه الأمثلة: [المثال] الأول، هو أن نقول: العلة في تحريم الخمر: الشدة والإسكار؛ لأنه يوجد بوجودها، إذ كان منعدما: حيث كان عصيرا، فلم يتجدد إلا الشدة فتجدد التحريم ثم صار خلا، فصار حلالا: فانعدم بعدمه. وهذه زيادة لا حاجة إليها؛ إذ في تجدد التحريم، بتجدد الشدة- ما يدل على أن الشدة هي العلة فنقيس بهذه الرابطة سائر الأنبذة، وعلى الخمر. المثال الثاني: [هو] أن يقول الحنفي في الصبي العاقل: أن تنعقد بعبارته العقود، لأنه عاقل: فتنعقد العقود بعبارته، كالبالغ. فقيل [له]: وما الدليل على أن العقل- في حق البالغ- هو المناط لصحة العبارة؟ فيقول: أنه عدم بعدمه، فإنه إذا جن: لم يعدم إلا العقل؛ فإذا

أفاق: لم يتجدد إلا العقل. فقد وجد بوجوده، وعدم بعدمه. المثال الثالث [هو] أن نقول في العبد: أنه رقيق، فينشطر حد الزنا في حقه كالأمة، ونقيس على الأمة: لأن النص وارد في حق الأمة؛ إذ قال تعالى: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. فيقال: وما الدليل على أن الرق علة؟. قلنا: [هو أن] التشطير يعدم بعدمه؛ فإنها لو عتقت: لم ينشطر حدها. ففي هذه الصور: إذا ظهر الوجود بوجود الوصف، كما في الطرف الأول: من شدة الخمر وخلولها؛ [أو] أظهرنا العدم بعدم الوصف، كما في انعدام التشطير بعدم الرق، وانعدام العبارة بعدم العقل عند طريان الجنون- فقد استقل الدليل على كونه علة إلى أن يبين الخصم في المناظرة، أو يتبين للناظر بنظر آخر: أن الحكم لم يحدث بحدوثه، بل حدث بحدوث معنى [آخر] يتضمنه الحادث، أو معنى يجاور الحادث؛ أو حدث به مع وصف آخر سابق عليه في الوجود، أو حدث عنده بعلة أخرى متقدمة في الوجود عليه. وكل هذه الاحتمالات

متطرقة إليه؛ ولكن لا تدرأ دعوى التعليل في مبادئ النظر. وعلى من يدعي شيئا من هذه الاحتمالات، إقامة الدليل، وإظهار المناسبة. فإن قيل: كيف تنفعكم هذه الأمثلة، وإنما نسلم فيها دعوى التأثير بالمناسبة لا بالاطراد والانعكاس؟. فإن وجود العقل وعدمه يناسب إطلاق التصرف وحبسه، ووجود الإسكار يناسب تحريم الشرب، وضعف حال الرقيق يناسب تخفيف العقوبة. فكان الاعتماد على المناسبة. وإذا سلمت المناسبة: سلم بالاتفاق دعوى التعليل؛ فأين تأثير الطرد والعكس؟ قلنا: المناسبة جارية في هذه الأمثلة، ولكن: قبل أن يطلع الناظر [على وجه المناسبة يفهم أن الحكم إنما حدث بحدوث وصف مرتبا عليه؛ فذلك] الوصف هو المؤثر فيه، وهو الموجب لحصوله. هذا ظاهر الظن في أول النظر؛ فإن اعتضد هذا النظر بالمناسبة: ازداد وضوحا، وهو حاصل قبل المناسبة، والدليل عليه ما قدمناه في مسالك الإيماء: أن كل حكم رتب على سبب بفاء التعقيب، أو بصيغة الشرط والجزاء- أشعر بكونه سببا. كقوله: (من جامع في نهار رمضان فليكفر) لو ورد هذا اللفظ. وكقوله الوارد: (من بدل دينه فاقتلوه). وليس يفهم سببه من المناسبة؛ بل يفهم من الإضافة اللفظية، بدليل أنه لو قال: (من مس ذكره فليتوضأ)، [يفهم كونه سببا وإن لم يناسب. ولو قال مثلا:

من مس الجدار فليتوضأ]، لفهم أنه جعل مس الجدار سببا؛ ثم زدنا عليه، وقلنا: إذا حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحكم، عقب واقعة ذكرت له: فالواقعة سبب للحكم، كما قال الأعرابي: [إني] جامعت أهلي نهار رمضان، فقال: (أعتق رقبة)، ففهم [منه] أن الجماع علة الإعتاق؛ ولم يفهم من [طريق] المناسبة: فإنه لا مناسبة. ولو [قدرنا حكاية] أمر لا يناسب، كقول القائل مثلا: رأيت في المنام البارحة أني كنت أشرب ماء في كوز، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: أعتق رقبة؛ لفهم أن رؤياه سبب، ولقضت العقول من سماعه العجب، [وبأية حكمة جعل] سببا ولا مناسبة؟ وإنما التعجب لفهم جعله سببا. وهذا كله ما قدمناه؛ ومستند الفهم فيه: حدوث الحكم عند حدوث الواقعة مرتبا عليه؛ وهو عين الطرد والعكس الذي ندعيه، وإنما المتغير العبارة. فإنا نقول: كان الأعرابي بريء الذمة من الكفارة؛ علم ذلك شرعا، ولم يتجدد منه إلا الجماع، فتجدد لزوم الكفارة، فقد وجد بوجوده؛ وفي ضمنه أنه كان منعدما قبل ذلك بعدمه، فهذا طريق يعرفنا كون الجماع سببا وعلة، حتى نتبع السبب ونقول: ورد ذلك في

الأعرابي، [فيلحق به كافة الخلق، أو: ورد في حق حر، فيلحق به العبد، أو: ورد في حق رجل]: فتلحق به المرأة، على الرأي الأظهر، أو ورد في جماع الأهل، فيلحق به جماع الأمة والأجنبية. ومستند ذلك كله، فهمنا أن الحكم حدث بحدوث الجماع. وليس يستند ذلك إلى المناسبة: إذ هذا الفهم، وهذه التصرفات بعينها والإلحاقات تجري في مثل الرؤيا التي أبعدنا [النجعة في تصويرها]، [لنبعد عن تقدير] المناسبة. وكما عرف هذا في الواقعة المرفوعة إلى النبي عليه السلام، فهو بعينه مفهوم في حدوث الوصف على المحل الخالي عن الحكم. فالعصير لا تحريم في شربه، ولم تتجد إلا الشدة، فتجدد التحريم. فعلم أنه حدث بحدوثه. وكذلك: البالغ: إذا جن امتنعت عبارته، ولم يعدم إلا عقله: فإن البلوغ لم ينعدم به. فعلم- لما انعدم بعدمه- أنه كان قائما بوجوده، وأنه السبب فيه؛ فأي فرق بين أن [يقال للرسول عليه السلام: اشتد العصير، فيقول: حرم] شربه؟ فيفهم كون الشدة سببا، وبين أن نعرف من الشرع والإجماع أنه مهما اشتد [العصير] حرم؟. فإذا كانت الحرمة مقرونة بالشدة وحادثة معها، علم أنها موجبة لها،

وعلامة عليها. وكذلك: لو سئل النبي- عليه السلام-[مثلا] عن شاة ماتت: أتباع؟ فقال: لا؛ لاعتقد أن الموت سبب تحريم البيع: إذ كان عرف جواز البيع قبل الموت ولم يتجدد إلا الموت، فتجدد حرمة البيع، فعرف أنه تجدد بسببه؛ ولو عرف شرعا أن الشاة إذا ماتت حرم بيعها، لحكم بأن الموت هو السبب- كما في صورة السؤال وترتيب الجواب عليه- وهذا دون أن تعرف مناسبة الموت؛ بل لا تعرف له مناسبة. وآية فهم كونه علة: تعديته إلى الإبل والبقر وسائر الحيوانات، قبل البحث عن مناسبته، وقبل الوقوف عليه. نعم، لو قال باحث: ليس معللا بالموت، وإنما هو معلل بخروجه عن المالية؛ فإن المال: ما ينتفع به، وهذا لا منفعة له- فهذا كلام مناسب معقول؛ وبه نتبين أن الموت ليس سببا لعينه، وإنما هو سبب لمعنى يتضمنه، وهو: تفويت المنافع، وإبطال المالية، فيكون مضاهيا لقولنا أن قوله عليه السلام: (لا يقض القاضي وهو غضبان)، مشير إلى التعليل بالغضب في أول النظر؛ ويعرف بالنظر الثاني: أن الغضب ليس سببا لعينه، بل هو سبب لما يتضمنه: من ضعف العقل ودهشته. وضربنا أمثلة ذلك في الأوصاف التي أضيفت [الأحكام إليها]؛ فهذا يجري

هذا المجرى. ثم للمعلل بالموت، أن يبطل هذا المعنى ويقول: لم تبطل منفعته؛ فإن جلده ينتفع به بعد الدباغ، ولحمه يجعل طعمة للجوارح والكلاب. وهو غرض مقصود؛ وقضم الدواب مال لغرض أعلاف الدواب؛ فكذلك طعمة الجوارح؛ فيبطل هذا المعنى، ويرجع [هذا] التعليل إلى عين الموت. ولناظر آخر، أن يقول: سببه ما يتضمنه الموت: من النجاسة؛ فيتعدى إلى كل نجس، ولا يتعدى إلى حيوان مات ولم ينجس: لو تصور ذلك. وهذا [يسلم أن لو كانت] النجاسة مناسبة تحريم البيع؛ فإن لم تكن: عدنا إلى التعلق بعين الموت. فإن قيل: رجع الاستدلال إلى أنه حدث بحدوثه؛ ومن يسلم ذلك؟ وإنما المسلم: حدوثه مع حدوثه أو عند حدوثه، فيلحق هذا بالوجه الآخر الذي رفضتموه، وجعلتم فيه وجود الوصف وفاقيا. قلنا: هذا حكم حادث بحدوث أمر، فوجب إضافته إلى أمر حادث. ولا حادث إلا ما ذكرناه؛ فتعينت الإضافة إليه؛ فنشأ الدليل من أمرين؛ أحدهما: وجوب التعليل بأمر حادث، والآخر: أنه لا حادث إلا ما ذكرناه. فإن قيل: ومن سلم أنه لا حادث إلا ما ذكرتموه؟ فلعله حدث- مع

هذا- معنى آخر خفى عليكم؛ [وذلك] هو السبب؛ وهذا الظاهر جرى وفاقا. قلنا: نحن نجوز ذلك، وعلى مدعيه أن يبديه؛ وتجويزنا ذلك لا يقطع دعوى الإضافة إليه؛ كما أنه لو كان مناسبا: لم ينقطع هذا الإمكان، بل احتمل حدوث وصف خفى أظهر مناسبة مما ظهر؛ فيكون هذا هو العلة والآخر ساقطا، ولكن الظاهر هو الأسبق إلى الظن، فهو متعلق به إلى أن يظهر الأخفى بدقيق النظر؛ وكذلك الحادث الظاهر: يضاف [إليه في] أول النظر؛ وهذا النظر بعرضة الفساد بما يظهر-: من معنى آخر خفى- بالنظر الدقيق. ولكن قبل ظهوره هو متعلق به؛ فهو مرتبة في النظر يستقل به قدم المعلل؛ وشرط اتمامه: أن لا يظهر غيره، أو يفسد ما يظهر سواه. كما في المناسب، وكما في الإضافة اللفظية: إلى الغضب في تحريم القضاء، وإلى القتل في حرمان الميراث، والأمثلة السابقة. فإن قيل: المستند- في تلك الأمثلة-: الإضافة اللفظية؛ وفي الأوصاف المخيلة: المناسبة، فهو الذي يقرر أول قدم المعلل، إلى أن يستنزل عنه بنظر وراء [فما الذي يستقر به قدم المعلل في هذا المقام،

حتى يفتقر المعترض إلى استنزاله عنه بنظر وراءه] يبديه في معارضته؟. قلنا: المستند في هذا المقام: حدوثه مرتبا عليه وعقيب حدوثه؛ كما في حكم النبي- عليه السلام- عند وقوع واقعة: ناسبت الواقعة أو لم تناسب؛ فالظاهر أن الواقعة بصورتها هي السبب، إلى أن يتبين أنها سبب: لما تتضمن من المعنى، لا بعينها ونفسها. فهذا الظن لا ينقطع إلا بتقدير معنى آخر وراء ما ظهر؛ وإمكان ذلك لا يقطع الظن؛ [فإن إمكان مناسب آخر أظهر، ممكن في الأوصاف المناسبة؛ فلم ينقطع الظن] بإمكانها وتجويزها، وإن كان ينقطع بظهورها: إذا ظهرت. ألا ترى أن ظن أبي حنيفة ظاهر في قوله: أن [علة] أهلية العبارة العقل دون البلوغ؛ لأنه لم ينعدم البلوغ بالجنون، وإنما انعدم به العقل؛ إلى أن يقال [له]: لا، بل انعدم شيء سوى العقل، وهو: التكليف. فالصبي غير مكلف؛ فبهذا ينقطع الظن الأول، ويجب رد النظر إلى أن التكليف أصلح لأن يكون مناطا، أو العقل، فإن

التكليف انعدم مع انعدام العقل. وكذلك: لو أظهر المعترض أنه حدث شيء [آخر] سوى الموت، في المثال الذي ضربناه- وجب علينا النظر فيه، وترجيح الموت عليه أو ترك التعليل بالموت. فإن قيل: فهل تجوزون التعليل لتحريم الخمر بالرائحة الفائحة المخصوصة بالخمر، فإنها حدثت مع الشدة؟ فلو قال قائل: التحريم معلل بالرائحة الفائحة [المخصوصة] فإنها حدثت: فحدث الحكم معها. قلنا: لو تصور أن يخفى على ناظر حدوث شيء آخر سوى الرائحة، لكان هذا أول نظره، إلى أن يتبين أنه حدث ما هو مناسب- وهو: الإسكار- فكان أولى منه؛ ولكن هذا ضعيف: لأنه ساوقه معنى [آخر]: أصلح للتعليل، وأظهر للنظر، وأسبق إلى العلم والإحاطة. ونحن نسلم بطلان هذه الإضافة مهما ظهر ما هو أولى منه؛ وذلك لا يدل على أن أول الإضافة ليس على مرتبة في النظر يستقر به القدم؛ كما أن

المناسب الأظهر: إذا ظهر، بطل المناسب الأخفى؛ ونعني [بالمناسب الأظهر]: الأقوى الذي يظهر ثانيا؛ وبالأخفى: الأضعف الذي يظهر أولا. فإن قيل: لو ظهر المعترض [حدوث] معنى آخر لا يناسب فهل يبطل به النظر الأول؟ قلنا: إن كان الأول لا يناسب: اعتدلا؛ ولم يكن أحدهما أولى من الآخر، فعلى المعلل الترجيج والانفصال؛ وإن كان الثاني مناسب: صار- بمجرد مناسبته- مقدما على الأول الظاهر الذي لم يناسب؛ وإن كان الأول مناسبا: اعتدلا، فعلى المعلل الترجيح؛ وإن كان أقوى من الأول: ترجح عليه بقوته، فغير المناسب يعادل- في هذا المقام- غير المناسب- كما أن المناسب يعادل المناسب. وفي هذا المقام يفارق ما نحن فيه-: من الوجود بحدوث الوصف- الإضافة اللفظية؛ فإنه لو قال القائل: ليس الغضب علة لعينه وإنما هو لمعنى يتضمنه أو يجاوره؛ وذلك المعنى أيضا لا يناسب: كالغضب مثلا- فهو ساقط، ونتعلق بالوصف المنطوق به: لأن النطق به حجة. أما ها هنا: فلا نطق؛ وإنما المستند: حدوث الحكم بحدوثه؛ وقد حدث وصفان: فالإضافة إلى أحدهما تحكم. نعم، كأن

يضاف إلى واحد: فإنه الظاهر فقط؛ فإذا نبه الخصم على الوصف الثاني: بطل الظن الأول، واحتيج إلى الترجيح، ولا ترجيح بالحدوث، ولا ترجيح بأن الأولى هو الذي ظهر أولا: فإن التقدم والتأخر في الظهور، يختلف بالأشخاص ووجوه البحث. وذلك لا يرجع إلى قوة المعنى. فالظاهر ثانيا- بعد ظهوره- يساوي الظاهر أولا. فصورة [سؤال الشارع- في هذه القضية- تلتحق] بالإضافة اللفظية، لا بالإضافة الوجودية التي نحن فيها؛ لأن ترتيب الحكم على منطوق السائل، كترتيبه على كلام نفسه، فلا فرق- بين أن يقول السائل: اشتد العصير، فيقول الشارع: حرم وبين قوله: إذا اشتد العصير حرم- في أن الظاهر: كون الشدة سببا وإن لم تناسبه. ولا يقاومه معنى آخر: [لا] يجاوره ولا يناسب؛ لأنه لم يقع منطوقا به. فإن قيل: يحتمل أن يكون السبب في الوصف الحادث مع وصف آخر هو مستمر في هذه العين؛ والحكم المنوط بوصفين: يوجد بطريان أحدهما بعد سبق الأول وينعدم بعدمه؛ ثم لا يتبع ذلك الوصف الفرد، دون انضمام الوصف الآخر [إليه]. ومثاله: أنه لو صرح الشارع بأن العلة شدة عصير العنب لكان الحكم يوجد بوجود

الشدة وينعدم لعدمها؛ ثم لا تتبع الشدة في غير عصير العنب، لأن كونه عصير العنب وصف ذاتي له مستمر، [والآخر عارض يطرأ ويزول]؛ والحكم موقوف على الوصف العارض. وأحد الوصفين إذا كان مستمرا، والآخر عارضا: يطرأ ويزول، فالحكم يدور مع العارض ويزول بزواله؛ فإنه منوط بمجموع الوصفين، وفي حدوثه الاجتماع، وفي زواله زوال الاجتماع. قلنا: هذا مسلم لا ننكره؛ ولكن ليس في تجويزه ما يقطع الظن عن اتباع الوصف الحادث؛ فإن المعنى المناسب- أيضا- لا يمنع أن يكون معه وصف آخر يزيد في المناسبة، ويكون الحكم مرتبا على مجموع الوصفين. ولكن: إذا [ظهر واحد مناسب] انقطعت المطالبة عنه، وعلى الخصم تنبيهه على الزائد المضموم إليه، حتى ينفصل عنه. نعم، إن كان مجتهدا: فينبغي أن يبحث؛ فإن [تعذر ابداء وصف ثان]: اقتصر على الأول؛ وإن كان معللا: ذكر ما ظهر، واستقر قدمه في النظر الأول. وعلى الخصم أن ينبهه على الوصف الثاني، حتى يتكلم عليه.

وكذلك المجتهد في مسئلتنا: يبحث ويتأمل، فلعله يعثر على وصف آخر، فإن لم يعثر: اعتمد على الوصف الحادث؛ وإن كان معللا: كفاه ذلك الوصف الحادث؛ وعلى المعترض أن يقول: ما الذي يؤمنك من كون الوصف الفلاني مضموما إلى وصفك؟ وإذا ذكر هذا القدر: لزمه الانفصال، وإذا لم يذكر، وقال لعل وصفا آخر خفى عليك، هو كامن مضموم إلى وصفك، فما الذي يؤمنك منه؟ فهذا لا يلزمه الجواب عنه، كما في المناسب. فإن قيل: الحكم يظهر بحدوث الشرط عند تقدم العلة، كما يظهر بحدوث العلة؛ فمن اشترى قريبه: عتق عليه؛ وقد حدث العتق بحدوث الشراء والملك [جميعا]؛ وليس الملك علة العتق، وإنما [العلة] القرابة، ولكن القرابة وصف ذاتي مستمر: لا يطرأ ولا يزول؛ والملك يطرأ ويزول، فظهر الحكم بظهور الشرط، وهو محل العلة لا نفس العلة. قلنا: هذا من قبيل السؤال السابق؛ فإن المجتهد يجب عليه أن

يبحث عن الأوصاف الكامنة سوى الوصف الحادث؛ فإن ظهر وصف [ما] يساوي الحادث: جعل العلة مركبة من الوصفين؛ وإن ظهر وصف مناسب: جعله علة، وجعل الحادث شرطاً. كما في شراء القريب، وإن لم يظهر: جعل الوصف الحادث مناطاً للحكم وعلماً له، وأضاف الحكم إليه. وعلى الأحوال، لا يجوز تعطيل الوصف الحادث الذي ظهر الحكم به: إما أن يعتبر وصف علة، أو شرط علة، أو علة؛ والنظر الأول يقتضي الإحالة عليه، وتقدير الاستقلال له بإفادة الحكم، فإن سلم هذا النظر - في المرتبة الثانية، والثالثة - من النظر عما ينقصه: سلم؛ وإلا: حكم بما ظهر ثانياً. والغرض أن العلل تنقطع عنه المطالبة، ولا تتوجه عليه: ما لم ينبه المعترض على وصف آخر مضموم إليه: يقدره وصفاً أو علة مستقلة؛ أو يقدر ذلك الوصف الآخر أصلاً مستقلاً، والحادث مجاوراً وفاقاً. فما لم ينبه على شيء من ذلك: لا تتوجه مطالبته. فهذا هو الغرض. فإنه إن سلم في الرتبة الثانية من النظر، ولم يظهر غيره - جاز للمجتهد

أن يجعل الوصف الحادث علماً على الحكم متبعاً، كما في ترتيب الجواب من الشارع على الواقعة، وكما في الترتيب اللفظي بفاء التعقيب، فإن الإضافة إلى الشرط [لفظاً] جائز، كما يجوز إلى العلة، ولكن الأصل: أن المضاف إليه هو الموجب، إلى أن يظهر وصف هو أولى بالإيجاب منه، فكذلك ما نحن فيه. فإن قيل: إذا جوزتم أن يعلل بالوصف الحادث وإن كان لا يناسب، فم ينكر العلل على المعترض إذا قال له: سلمت لك أنه سبب، ولكنه سبب في هذا المحلل على الخصوص، كقوله: سلمت [لك] أن الشدة سبب، ولكن السبب شدة عصير العنب، [فبم تنكر عليه]: وغايتك أن تقول: هذا تخصيص بوصف أو بمحل لا مدخل له ولا تأثير له في إيجاب الحكم؛ على معنى أنه لا يناسب، فأصل الوصف - أيضاً - غير [45 - أ] مناسب، وإضافة الحكم إليه على مذاق التحكمات التي لا تعقل، ولا فرق بينه وبين التخصيص بهذا المحل. وفيه ما يمنع الإنتفاع بجنس هذا التعليل، ويقصر الحكم على محل النص والإجماع؟. وهذا هو السؤال الأعظم على هذه القاعدة، [و] في دفعة تمهيد هذا الأصل وتقريره. قلنا: نتكلم على هذا السؤال، من وجهين: أحدهما: هو أن يقال: يجب على المعلل أن يبين أن هذا الحكم ليس

مخصوصاً بالمحل ومقتصراً على الذات [التي فيها] الإجماع؛ وإذا بطل ذلك: وجبت الإضافة إلى صفة متعدية. فبطل به الاختصاص. وهذا كقولنا: صوم مفروض، فيفتقر إلى التبييت كالقضاء. فيقول الخصم: لا مناسبة لكونه مفروضاً؛ أن علة وجوب التبييت في القضاء كونه مفروضاً، وهو لا يناسب؟ [لا]، بل العلة فيه كونه قضاء، حتى يقتصر عليه. فيقال: وبالإجماع التبييت ليس مخصوصاً بوصف كونه قضاء، فإن النذر والكفاءة وسائر الصيام يشترط فيه التبييت؛ فبطل التخصيص بالمحل والذات، ووجب التعليل بوصف يتعدى. وكذلك إذا قلنا: أن المستعير يضمن، لأنه أثبت يده على مال غيره لغرض نفسه، من غير استحقاق؛ فيضمن كالمستام. فقيل لنا: هذا الوصف

ليس علة في المستام؛ لأنه لا يناسب، فينبغي أن يقال: أنه غير معقول، ليس علة في السنسام؛ لأنه لا يناسب، فينبغي أن يقال: أنه غير معقول، أو هو مخصوص بمحله وصورته، وهو: يد السوم، فيقال: وبالإجماع ضمان الأيدي غير مقصود على يد السو؛ إذ هو جار في يد الشراء، ويد المستعير من الغاصب، ويد المودع إذا جحد، ويد الغاصب وغيره، فاجتمع أمران، أحدهما: وجوب التعليل؛ [والآخر] الإضافة إلى الوصف الحادث: لأن الحكم حدث بحدوث وصف، وهذا مما يجب تعليله؛ فقد كان الرجل بريء الذمة، تضمن بالأخذ؛ فأضيف إلى الأخذ، ووجب سير صفاته؛ وامتنع تخصيصه بمحله بالإجماع. لذلك فلم يبطل تعليلنا به: لأن ذلك متفوض بالإجماع؛ وكل وصف انتقض بالإجماع فقد بان بالإجماع أنه ليس مناطاً للحكم؛ حتى [لو] عللنا الضمان في يد السوم: بأنه إثبات يد على مال الغير؛ وتركنا خصوص جهة السوم - لبطل بيد الوديعة؛ فلابد أن نزيد، فتقول: أثبت إليه لغرض نفسه؛ احترازاً عن الوديعة. وهو أيضاً منقوض بيد الإجارة، فلابد وأن نزيد قولنا: من غير استحقاق؛ فاستقام التعليل بهذا القدر - وإن كان لا يناسب -: من حيث أن الحكم [حدث] مع حدوث سبب فعرف

ارتباطه [به]. فنظرنا في تنقيح المناط وتهذيبه وتحديده، فاستقام ما ذكرناه بعد وجوب التعدية من محل الإجماع - وهو [جهة] السوم - بطريق المناقضة التي ذكرناها. نعم: لو اقتبس الخصم من يد السوم وصفاً آخر: يطر له أيضاً، ولا يتنقض، ولا يتعدى إلى العارية - كان مقاوماً معارضاً لكلامنا، وعلينا الترجيح. وهذا كقوله: ان المستام إنما ضمن: لأنه أخذ بجهة الشراء، والشراء جهة ضمان: والمأخوذ على جهة الشيء: كالمأخوذ على حقيقته؛ وتعدى هذا إلى يد الرهن، وتقطع عنه يد العارية. فهذا يقاوم كلامنا إلى أن نرجع جانباً بطريقه. وعلى المجتهد البحث عن هذه المعارضات وتعيين واحد منها بالترجيح؛ وليس على المعلل ذلك، بل كفاه أن يذكر وصفاً يدعي ظهوره [له] إلى أن يقابل بغيره: فيتكلم عليه. ولا ينبغي أن يتخيل الناظر [أن النظر] في هذا المثال، استقام: لكون الأوصاف فيها مناسبة؛ إذ لا مناسبة لها؛ وإن ظن ظان أن فيها مناسبة، فهذا المنهاج جار قبل العثور على وجه المناسبة؛ فليقدر عدم المناسبة

التي يتخيلها: فإن غرضنا المثال. وكذلك: قاس الشافعي - رضى الله عنه - تعذر الثمن بإفلاس المشتري، على تعذر العبد المبيع بالإباق؛ وهذا حكم واجب التعليل والإضافة: فإن الخيار حدث بحدوث الإباق، فدل أنه السبب بعينه أو بما يتضمنه، فلم يختص بإباق العيد في البيع - وهو أخص [45 - ب] الصفات - إذ هو جار في إباق الجارية، وجار في نفار الدابة وطيران الطير؛ بل هو جار في غضب المنقولات؛ فوجبت التعدية، فقيل: الشامل لجميع هذه الصور: تعذر العوض. فكان الإباق علة بهذا الاعتبار؛ وقد تعذر الثمن بالإفلاس. ثم هذا القدر يبطل بتعذر إستيفاء الصداق: فإنه لا يثبت الخيار في النكاح؛ وتعذر استيفاء البضع بالإباق لا يوجب الفسخ. فوجب أن نزيد،

فنقول: تعذر عوض في عقد بيع، فيبطل الخصوص بالإجماع، ويجب التعليل للحدوث بحدوث الوصف، فيه يدفع السؤال. ثم الخصم أن يقيد هذا الوصف بقيد آخر: يتعدى محل النص، ولكن لا يتعدى إلى محل النزاع، وهو أن يقول: تعذر في عين، فلا يتعدى إلى الثمن وهو دين؛ وعلينا أن نتكلم عليه بالإبطال أو الترجيح، فنقول: ليس مخصوصاً بالعين؛ إذ يتعدى إلى المسلم فيه: إذا انقطع جنسه، وهو دين؛ فيقول: تعذر في عوض مقصود هو محل العقد، والثمن ليس محلاً للعقد؛ فينكر ذلك، فنقول: بل هو محل العقد؛ فالثمن والمثمن عوضان يتعادلان عندنا، فنذهب في الاستدلال بالشواهد على كونه محل العقد، ويذهب في معارضته. وقد يغير العبارة، ويقول: العلة تعذر في مقصود قبل القبض تعين فيه القبض؛ ويخرج عليه المسلم فيه؛ وتنعكس العلة في الثمن: فإنه لا يتعين فيه القبض؛ إذ يجوز الاعتياض عنه. فنتكلم عليه بالمنع أو بالإبطال أو بالترجيح. هكذا تقوم مراتب النظر بين المتناظرين في الأحكام الحادثة بحدوث الأوصاف؛ وهي التي وجب إضافتها إلى الحادث، ورجع النظر إلى

تعيين وصف من الحادث، أو إلى تنقيح جملته: بإلغاء بعض، وإبقاء بعض. فكل ذلك جار دون المناسبة، وقبل العثور على المناسبة؛ ومعظم الأحكام القياسية من هذا القبيل: فإنها أحكام حدثت بحدوث أسباب موجبة وقع النظر: في تعيين الأوصاف من الموجبات الحادثة، أو في تنقيحها. وقد رجع حاصل هذا الجواب، إلى أن السؤال الدعاي إلى تخصيص الحكم بالمحل لازم، ولكن تبين سقوطه بالإجماع، وهو كمعارضة أخرى تقاوم الوصف المذكور: في أنه [لا] يناسب؛ فإنه يندفع بالنقض: بالإجماع، أو بمسلك من الترجيح، وذلك جار بين الوصف المتعدي وبين الوصف القاصر. وقد قال قائلون: المتعدي أولى من القاصر في العلل، والمتعدي إلى فروع أولى من المتعدي إلى فرع واحد؛ يحصل الترجيح بمجرد التعدية. والجواب الثاني - وهو المختار: أنه إذا اتفق شيء مما ذكرناه في الجواب الأول: من دلالة الإجماع على بطلان التخصيص؛ فهو ظاهر جلي لا شك فيه، ولكن ليس ذلك مشروطاً. وقد شرطه فريق؛ إذ قد نقل عن بشر المريسي وجماعة، أنهم قالوا: لا يجوز القياس على أصل، بمجرد قيام الدليل على أصل تجويز

القياس، بل لابد وأن يدل دليل خاص على أن الأصل - الذي عليه القياس - معمول بعلة، فأنا -[مع] ورود الدليل على أصل القياس - نجوز أن يكون من جملتها أصل لا يعلل، بل يخصص بمورده، فلابد من دليل على كون الأصل معللاً. ولست أعرف لهذا المذهب وجهاً إلا ما ذكرته، فإن الوصف المخصص إذا عادل الوصف المتعدي: في الانفكاك عن المناسبة، تقاوماً. فلابد من دليل على التعدية. فإن خصص صاحب هذا المذهب مذهبه بهذا الجنس: من التعليل الخالي عن المناسبة؛ فله وجه. ووجهه بين كما ذكرناه. وإن طرده فيما ظهرت فيه المعاني المناسبة، وقال: يجوز أن يلحظ الشرع المناسب في محل مخصوص؛ فلابد من دليل التعدية؛ أو قال: يجوز أن يقدر وقوع هذا المناسب وفاقياً - فهو في هذا الطرف أضعف، واستمداده من القول بإنكار أصل القياس. وإليه أشار نفاة القياس: في وجوب الاقتصار. [وعلى الجملة: هذا] المذهب غير سديد في جميع الصور؛ فلا تشترط دلالة الإجماع على التعدية؛ ولو اتفقت: فهو الأعلى

والأوضح. ولكنا نقول: إذا حدث وصف، وحدث عقبه حكم [46 - أ] دل حدوثه عقيب حدوثه، على أن الوصف الحادث: مناطه؛ وأن الحكم يتبع الوصف دون المحل. ثم إن كان الوصف مناسباً: ظهر تسميته علة، وإن لم يكن مناسباً: فالظاهر أن الحكم مضاف إليه؛ ويحتمل أن لا يسميه علة من يفهم من العلة المناسبة؛ ويحتمل أن يسميه علة من يفهم من العلة العلامة؛ ويحتمل أن يجعل اسم العلة له مجازاً والمناسب حقيقة؛ فإن المناسب عرف وجه تأثيره في الحكم، وهذا لم يعرف وجه تأثيره، ولكنا نظن أنه متضمن للمعنى المناسب المصلحي الذي لم نطلع عليه، فهذا الوصف أمارة تلك المصلحة التي غابت عنا وعلامتها، ونظن أنه لا تنفك عنه في غالب الأحوال، وتنزل منزلة القالب والظرف، فتسميته علة: بطريق تضمنه للعلة - على طريق المجاز - ليس بعيداً. وهذا الاختلاف يرجع إلى التسمية، وقد صرح الأصوليون بهذا الاختلاف؛ ولا خير فيه، فإن العلامات المنصوبة من جهة الشرع متبعة: سواء ناسبت ما هي علامة عليه، أو لم تناسب؛ فلا ينبغي أن تسوى القواعد على [الألفاظ؛ بل ينبغي أن تسوى الألفاظ] على المعاني.

فإذا رجع حاصل النظر إلى أن العلم على الحكم الحادث هو الوصف الحادث: الذي ظهر في أول النظر حدوثه؛ وأن الحكم يتبع الوصف دون المحل، فالإضافة إلى المحل ساقطة: عند ظهور العلامة، كما أنها ساقطة عند ظهور المناسبة. فإن قال قائل: فهذه حكاية المذهب، فماذا دليلكم عليه؟ قلنا: اشتمل المذهب على دعويين. ففي ماذا النزاع؟ - إحداهما: أن الوصف الظاهر حدوثه علامة؛ والأخرى: أن الحكم يتبع العلامة، دون المحل الذي العلامة ظهرت فيه. فإن نوزعنا في قولنا: إن الوصف الحادث علامة، فدليله ما سبق: من أن حدوثه بحدوثه [دل عليه] كما في الإضافة اللفظية، وكما في حكم الرسول - عليه السلام - عند وقوع واقعة جديدة، بحكم جديد. والدليل عليه: أنه لو علم مثلاً أن لا حادث إلا الوصف الذي ذكرناه، لوجبت الإضافة إليه. فإن أصل التعليل والإضافة واجب قطعاً بحدوثه بعد أن لم يكن؛ فافتقر إلى محدث: يتميز به عما قبل الأحداث، فلو لم يعلل، لبطل قولنا: أن الإضافة واجبة. وهو معقول، ولو لم يعلل بهذا الحادث، لبطل قولنا: أن لا حادث سواه. هذا: إذ علم - بسير قطعي - أن لا حادث سواه.

فإن لم يعلم، وكان ذلك مظنوناً - كفى ذلك المجتهد؛ ويكتفي من المعلل بأن يعين وصفاً يزعم: أنه لم يظهر له سواه؛ [إلى أن ينبه على وصف آخر ظهر سواه]: فيلزمه أن يتكلم عليه. ولا تتوجه عليه المطالبة بأن يقال له: ولم قلت: أن لا حادث سوى ما ذكرت، ولعله حدث وصف غاب عنك؛ لأنه لو فتح هذا الباب في الجدال: لا تحسم طريق النظر، ولتوجه ذلك على كل من بيدي المناسب، ولقيل له: أتسلم بطلان علتك المناسبة لو ظهرت علة أخرى أظهر [مناسبة] مما تدعيه؟ على ما تقرر: من استحالة تعليل الحكم بعلتين عرفنا بطريق المناسبة؛ فإذا قال: نعم، فيقال: وما الذي يؤمنك من وجود مناسب أظهر مما تدعيه وأقوى، ولم تطلع عليه؟ فهذا السؤال مدفوع في الجدال. وقد قال القاضي أبو بكر: يجب السير على العلل، وهو: أن ينصب علته، ويبين انتفاء ما عداها. وطرد هذا في المناسب أيضاً. وهو بعيد في حق المجادل، متجه في [حق] المجتهد؛ إذ على المجتهد تمام النظر: لتحل له الفتوى؛ وليس على المعلل إلا ارتقاء مرتبة

من مراتب النظر، إلى أن يستنزل عنها إلى مرتبة أخرى، بالمقاومة والمناظرة: معاونة على النظر. ولو ألزم المعلل ذلك: لألزم بيان السلامة عن المعارضة، وللزمه السير، ولكان يجب أن لا يبقى للخصم كلاما، فيقسم ويقول: [نعارضه بكذا]، والكلام عليه لا يخلو إما أن يكون كيثت وكيت. فيأخذ في إبطاله؛ [ثم أدلة إبطاله] أيضاً - تفتقر إلى أنواع من السير؛ ويتسلسل إلى غير ضبط. وقد كان - من عادة القاضي في المناظرة - ذلك: فكان يستقصي - في أول الأمر - كل ما [كان] يتوهم تعلق الخصم به - بطريق [46 - ب] السير - ويبطله: بحيث لا يبقى للخصم متعلقاً. وهذا بعيد عن مصلحة المناظرة؛ اتفق المناظرون على خلافه. فإذا بطل هذا المسلك، استقر قدم المعلل في دعواه: أن الوصف الذي ظهر حدوثه، هو العلامة على العلة أو [هو] العلة. وعلى الخصم أن يشير إلى وصف آخر، إن كان عنده، حتى يتكلم عليه. فهذا بيان إحدى الدعويين، وهو: أن الوصف الحادث علامة أو

علة، وكلاهما في الغرض واحد، فيكتفي من العلل بأن يستدل على كونه علة: بحدوث الحكم عقب حدوثه. ويبطل عليه ملكه: بأن يبين [له] أنه حدث عقب وصف آخر، حدث مع هذا الوصف: [مستقلاً أو مضموماً إليه]؛ فما الذي رجح أحدهما: [على الآخر]؟، وعلى المجتهد البحث عن الأوصاف المقدرة الموهومة: التى تقدر حادثة مع هذا الوصف مستقلاً أو مضموماً إليه. فأما الدعوى الثانية - وهي المقصود بالإثبات -: أنه إذا سلم كونه علامة أو علة، فما الذي يمنع اختصاصه بذلك المحل، فيقال: الشدة في ماء العنب علامة، دون الشدة في غيره؟ وغاية ما في الباب أن يقال: لا مناسبة لهذا التخصيص؛ وأصل العلة -[أيضاً]- لا مناسبة له. فكيف الخلاص؟ فتقول: إذا سلم أن الحدوث عقب الوصف الحادث، دل على أن الوصف الحادث علامة - فالعقول تثير إلى إتباع العلامات، والأعراض عن التخصيص بالمحال. وهذا معلوم من تصرفات علماء

الشرع، وهو راسخ في عقولهم - على وجه: يبعد إنكاره عناداً وجهلاً [وغباوة]. فإن قيل: فلو أنكر منكر إشارة العقل إلى هذا، فليس يبقى بأيديكم إلا التثبيت والإنكار، مع العجز عن إقامة دليل يهتدي به. قلنا: المنكر - في هذا المقام - تضرب له الأمثلة؛ حتى إذا أصغى واعترف: اهتدى. فإن أبى وجحد: اختزى واعتزى إلى مخالفة علماء الأمة [ومناكرة من سلف ومضى]، ونحن نضرب ثلاثة أمثلة: مثالاً مقدراً، ومثالاً من مذهب الشافعي، ومثالاً من مذهب أبي حنيفه: أما المثال المقدر، فهو ما قدمناه: من أنه لو قيل للنبي - عليه السلام - ماتت شاه، فهل تباع؟ فقال: لا؛ لفهم [منه] أن الموت علامة لتحريم البيع. إذ كان يجوز بيعها قبل الموت، ولم يحدث الآن غير حلول الموت؛ فحكم بتحريم البيع. ففهم أن الموت علامة؛ فلو ماتت بقرة أو ناقة: لأحكم بمثل هذا الحكم، وهذا لا سيبل إلى جحده، ولم تعرف مناسبة الموت: إذ ما يتخيل فيه -: من تعطيل المنافع [فقد] أبطلناه، وذكرنا أنه خيال. ولو قدر الاخبار عن وصف آخر حدث:

أبعد من هذا الوصف؛ لكان الحكم عند حدوث ذلك الوصف مفهوماً إضافته إلى ذلك الوصف، وكون الوصف علامة عليه: حتى تقدر مشاركة البقرة والناقة للشاة فيها؛ وإن أنكر منكر هذا، كان متأكداً، وإن زعم أنه من قبيل ما في معنى الأصل؛ قلنا: هذه عبارة اشتهرت، فلابد من البحث عنها. فإن قنع بمثل هذه العبارة، فنحن نقول: الشدة [المطربة] لا تناسب - مثلاً -[وهي] علة أو علامة، وشدة نبيذ التمر كشدته وفي معناه. فلا تعجز عن إطلاق هذه العبارة في جميع المواضع. ومعنى قولنا: في معناه؛ أنه شاركه فيما عرف كونه علة أو علامة؛ وأنه إنما فارقه فيما ليس له مدخل في العلامة، وهو: كونه شاة، وكونه بقرة. وهذا لا مدخل له؛ فكان يمكن أن يقال، العلامة والعلة هو: الموت في الشاة، كما يقول: هو الشدة في عصير العنب. هذا هو المثال المقدر، وهو واضح. وفي تقرير أمثاله متسع؛ وهو: كل وصف حادث رتب الشارع عليه حكماً، والوصف الحادث لا يناسب الحكم. المثال الثاني - من مذهب الشافعي - قوله: أن بيع العنب [بالعنب رطباً] كيلاً بكيل باطل؛ لأنه يتوقع نقصانه عند الجفاف: فصار

كالرطب. فقيل: ولم قلت: أن توقع النقصان في ثاني الحال علة الأبطال، مع حصول التماثل في الحال؟ وهل هذا إلا تعليل بما لا يناسب؟ فقال: الدليل علي إثبات الوصف في الأصل، قوله - عليه السلام - للسائل: "أينقص الرطب إذا جف"؟ فقال: نعم، فقال: "فلا إذن". فعلل بالنقصان عند الجفاف. فلو قيل [له]: علل بنقصان الرطب عند الجفاف، فلم عدت إلى العنب؟ - فلا يمكنه الانفصال بإظهار المناسبة: إذ لا مناسبة، وإنما فهم الحكم، وفهم علامة الحكم، وهو: توقع النقصان؛ فكان الحكم - مع العلامة - غير مخصوص [47 - أ] بمحل العلامة. فمتى تصرف في اللبن واللحمان وجميع الأشياء الرطبة، وقدر لجميعها حالة الكمال - اعتبر التماثل بالإضافة إليها.

ومن عرف مسالك المناسبة على ما قدمناه، عرف أنه لا مطمع في المناسبة في هذه المسألة؛ ولكن اتبع العلامة كما اتبع العلة المناسبة. والعلل المناسبات - عند التحقيق - علامات: فإنها لا توجب الأحكام لذواتها. فإن قيل: ليس هذا وزان مسئلتكم؛ فإنه تلقى التعليل من الإضافة والإيماء من جهة الشارع، لا من جهة الحدوث. [قلنا]: ولسنا نورد هذا المثال دليلاً على أن الحدوث عقيب الوصف علامة التعليل؛ وإنما أوردناه دليلاً على من سلم أنه عرف بالحدوث عقيبه كونه علامة، بالدليل الذي سبق؛ [ولكن] قال: هو علامة في هذا المحل حتى لا يتعدى. ولا يستنكر هذا لعدم المناسبة في التخصيص، كما لم يستنكر لعدم المناسبة في الأصل، وفي هذا لا يختلف الأمر باختلاف طرق معرفة العلامة؛ فالنقصان عرف كونه علامة بالإيماء، وهو - بعد كونه علامة - لا يختص بالمحل، فكذلك الوصف: إذا عرف كونه علامة بالحدوث عقيبه، لا يختص بالمحل وإن لم يناسب. على أن الشافعي كيف يتعلق في التعدية بالإضافة، والإضافة إلى نقصان الرطب، إذ قال: أينقص الرطب إذا جف، فنقصان العنب كيف صار علامة؟ فدل أن العنب كالرطب محل العلامة، والحكم يتبع العلامة؛ وكذلك القول في الشدة التي لا تناسب مثلاً، هي بالنسبة إلى عصير الرطب، كهي بالنسبة إلى عصير العنب، والموت بالنسبة إلى الشاة، كهو بالنسبة إلى البقرة وسائر الحيوانات.

وبهذا، يتبين اتفاق العلماء على إتباع العلامات دون المحال. المثال الثالث: قول أبي حنيفة: الجص مكيل، فيحرم فيه ربا الفضل كالبر؛ فطولب به، فقال: ظهر تأثير الكيل في ربا الفضل. قلنا: وما معنى تأثيره؟ قال: ظهور الحكم به، ومظهر الحكم علة الحكم. وهذا [منه] دليل على تسمية العلامة علة: لأن العلامة تظهر كالعلة. قال: ووجهه أن الفضل - الذي لا مقابل له - حرام في البيع بالاتفاق؛ وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بهذا الثوب، على أن تزيد درهماً؛ ××× فضل لا مقابل له، فهو حرام، وإنما صار فضلاً: بأن صارت المقابلة بحكم الشرط والصيغة، مقصودة على العبد والثوب. والشرع شرط المماثلة في مقابلة البر بالبر؛ فكانت الزيادة فضلاً على المثال: لا مقابل له بحكم الشرع. وإنما يصير فضلاً على المثل، بحصول المماثلة. وإنما تحصل المماثلة في القدر: بالكيل؛ وفي المعنى: بالجنسية، فالعلة مركبة منهما؛ إذ بمجموعهما ظهر الفضل، وبظهور الفضل ظهر التحريم. فسمي علة: لأنه مظهر [يظهر] الحكم. وهو الذي رددنا القول في تسمية جنسه علة أو علامة العلة. والغرض: وراء هذا، وهو أن يقال له: هذه الأوصاف لا تناسب، وهي

مظهرات. فإن سلم لك أنها العلامة، فهي علامة في الأشياء الستة؛ فلم عديتها إلى غيرها: وأنت لا تطلع على وجه المناسبة فيها؟ فيقول: إذا سلم [لي] أنها مظهرة، فهي علامة بنفسها حيث وجدت، ولا تختص بالمحال. ومن سلم له كونه علامة لا ينازعه في الطرد، وإنما النزاع في طريق إثبات كونه علامة؛ إذ يقال له: والبر المتهيء لحصول المماثلة فيه قدراً وجنساً، لم شرط [الشرع] المماثلة الممكنة فيه؟ وبم عرفت [إن علامة الحكمٍ] الإمكان؟ والمقصود أنه عدى الكيل والجنس، وهي علامة مظهرة، وليست علامة مناسبة أصلاً. فقد تبين - بالأمثلة من مذاهب العلماء - أن العلامة التي لا تناسب [متبعة]، لا يجوز تخصيصها بالمحل، كالعلامة بالمناسبة. وإن المناسبة إحدى الطرق التي يعرف بها كون الوصف علامة. وقد يعرف بغيرها: كالنص، والإيماء، واستعقاب الحكم عند الحدوث، وجب عليه إتباع العلامة، وقطع النظر عن المحال، وقد حصل بذلك دفع هذا السؤال [على أوضح وجه، للفطن المتأمل؛ إن شاء الله تعالى].

القول في قياس الشبه وفيه تمام بيان الطرد [47 - ب] فإن قيل: حاصل معتصمكم في التعلق بالطرد والعكس، يرجع إلى التعلق بأن لا متجدد إلا الوصف الحادث، وقد كان الحكم معدوما قبل، ووجد الآن، ولا فارق بين الحالتين المفترقتين في الحكم، إلا الوصف الحادث، فكان الوصف الفارق مناطا للفرق بين الحالتين، وعلامة على الحكم المتجدد، وهذا في وصف يعترى على ذات واحدة، فكان الوصف فارقا بين الحالتين. ويلزمكم- على مساق القول به- الحكم بأن الفارق بين الذاتين، المفترقتين في الحكم علامة الافتراق: إذا لم يظهر فارق سواه، وإن لم يكن مناسبا. فإن ظهر فارق آخر: قابله، إلى أن يترجح عليه، كما في الوصف الحادث الفارق بين حالتي الذات الواحدة. وبيانه: أنه لو قدر الخمر المشتد مائعا بنفسه، غير [متصف بالعصير]، والخل، بل كانت الشدة وصفا مساوقا لوجوده، وورد

الشرع بتحريمه وتحليل الخل والعصير والأدهان، لأمكن أن يقال: [لا فارق] بينه وبين سائر المائعات إلا الشدة، فلتكن الشدة علامة، حتى يتعدى إلى مشتد آخر هو: نبيذ التمر مثلا، فهذا مثال مقدر. ونذكر مثالا واقعا، وهو: أن التكرار مشروع في غسل الأعضاء وفاقا، وغير مشروع في المسح على الخف وفاقا، فإذا نظر الناظر إليه: لم يتميز المسح عن الغسل إلا بكونه مسحا، وإلا فهو ركن في الطهارة، وجار مجراه في كل قضية إلا في كونه مسحا. فليكن كونه مسحا علامة ترك التكرار، حتى يتعدى إلى مسح الرأس، وهو متنازع فيه. وإذا قيل بذلك، يقابله أن الغسل شرع فيه التكرار، وتميز عن المسح على الخف بكونه أصلا: لا مدخل للبدل فيه، فيتعدى إلى مسح الرأس، فتصح كل واحدة من العلتين، إلى أن يظهر الترجيح. وكذلك يقول الحنفي، لا ربا في الثياب والعبيد، وجرى في الأشياء الستة، ولا تفارقها إلا في كونها مقدرة. فهو العلامة، وتتعدى إلى المقدرات. والمالكي يقول: [بل] خالف الأشياء الأربعة غيرها من العبيد والثياب، في كونها قوتا، فهو العلة والعلامة. والشافعي يقول: لا، بل فارق في كونها مطعوماً.

وتتقاوم هذه الأوصاف، فيقضي بأن كل واحد صالح، فلابد من الترجيح والامتحان الشواهد. ولو فتح هذا الباب: لا تسع النطاق في القياس، ولأمكن التعليل بكل وصف مطرد غير منتقض. فإن قلتم بذلك: كنتم محدثين أمرا بدعا بين المحققين من العلماء، وانغمستم في غمار الحشوية من الطردية.

وإن أبيتم ذلك: لم تجدوا فرقا وفصلا بين هذه الرتبة، وبين الطرد والعكس الذي قدمتوه. فإن ذلك [يرجع حاصله إلى إضافة الافتراق في الحكم، إلى وصف فارق بين حالتي ذات واحدة، وهذا] رجع حاصله إلى إضافة الافتراق في الحكم، إلى وصف فارق بين ذاتين متعددتين، ولا فرق بين المقامين. وكيف يعتقد بينهما فرق مع تقاربهما؟ وأي فرق بين أن نعلم أن الكلب محرم بيعه مثلا، فيقول قائل: بيع سائر الحيوانات دون الكلب جائز، فكان السبب كونه كلبا: فإنه الفارق. وكان هذا كما لو تصور أن يصير حيوان- ليس كلبا- بالانقلاب كلبا، لكنا نقول: قبل الانقلاب يباع، وبعده لا يباع، ولم يحدث إلا وصف الكلبية، كما لم يحدث- في انقلاب العصير- إلا وصف الخمرية والشدة. فلا مدرك للفرق بين المقامين وفيه فتح باب الطرد والانسلال عن ضبط المعنى المناسب المؤثر، وذلك لا وجه له؟ [قلنا]: هذا إلزام للقول بالشبه، وهو: الوصف الذي لا يناسب، ويظن كونه علامة متضمنة للعلة التي غابت عنا، فيحكم بالاشتراك في الحكم، عند الاشتراك فيه.

والقول به تلو القول بالطرد والعكس- كما سبق- إلزامه علة، والقول بالطرد والعكس هو [تلو] القول بإضافة [الأحكام إلى الأسباب] الواقعة الحادثة، [التي يترتب] جواب الشارع عليها، والقول به [هو تلو] القول بإضافة الأحكام إلى الأسباب، باللفظ: بفاء التعقيب، وصيغة الشرط، والصفة الفارقة. كما ضربناه: من الأمثلة في مسلك الإيماء. والقول بجميع ذلك، تلو القول بالتصريح بالتعليل. والمناسبة غير مشروطة في شيء من هذه المراتب. ومن قال بالأول، لزمه القول بما يليه: بحيث لا نجد بين الرتبتين فرقا، وينحط إلى رتبة [48 - أ] الطرد: فيلزمه القول بالطرد. ونعني بالطرد: الوصف الذي لا يناسب. ومن أنكر الطرد: يلزمه إنكار الشبه، فإنه عين الطرد كما سنذكره، ومن أنكرهما: لزمه إنكار الطرد والعكس، والحدوث

عند حدوث الوصف، وترتيب الحكم على جواب الواقعة، وهلم جرا إلى المراتب التي قبلها، حتى ينكر الدرجة العليا في الظهور، وهو: صريح التعليل. فإذا قال الشارع مثلا: اقتلوا هذا لأنه أسود، فيقول هذا القائل: لا يتبع السواد في شخص آخر، بل يختص [ذلك] الحكم بذلك الشخص، وقد انجر القول إلى هذا الحد بمنكري القياس، وهو اللازم على مساق إنكار [القول بالطرد]، وانجر القول بالقائمين إلى القول بالطرد، وهو اللازم على مساق القول بالقياس. والوقوف على مرتبة من المراتب تحكم محض، مستنده: قصور [النظر عن الوقوف على] [وجه] إلزام رتبة على رتبة، وكيفية ترتيب درجة على درجة، وهذه هي المغاصة الكبرى، والمحارة العظمى، لعقول المتصرفين، وإنما الرجل: من يرتقي من هذه المغاصة. فإن قال قائل: هذا قول منكم بتكافي الأدلة، ورد على جميع أهل الملة، فإنكم أبطلتم الوقوف على مرتبة: لاستحالة الفرق، وأبطلتم إنكار الطرد: فإنه يتداعى إلى إنكار صريح التعليل، وأبطلتم

القياس: لأنه ينجر إلى القول بالطرد، والقول بالطرد باطل، وما يلزم عليه الباطل فهو باطل، فما سبيل الترقي عن هذه المهواة؟ ولابد من كشف الضمير، وإبداء المعتقد [فيه]. قلنا: القول بالقياس حق، عرف ذلك- قطعا- من الشرع، وتصرف علماء الصحابة وإجماعهم عليه، فكون أصل القياس حقا مقطوع به، وكل ما إلى إنكار القياس الحق فهو باطل، وكل ما يلزم على القول بالقياس فهو حق، لأن القياس حق في الشرع على القطع. وعند هذا نبدي ما هو السر؟ فنقول: قياس الطرد صحيح، والمعنى به: التعليل بالوصف الذي لا يناسب، على الحد الذي قدمناه في بيان المناسبات. وعند هذا، ربما تنفر طباع بني الزمان عن سماع [مثل] هذا الكلام، لكثرة ما قرع مسامعهم: من التشنيعات على الطردية وأصحابها. فيعتقد [به] السامع أن هذا مذهب مبتدع خارج عن أقاويل أكابر العلماء، وأنه لا دليل عليه. ونحن نقيم الدليل عليه، ونبين أنه مقول به عند أكابر العلماء: كالشافعي وأبي حنيفة ومالك -رضي الله عنهم، ونبين أن المشنعين على أرباب

الطرد- من علماء العصر القريب: كأبي زيد رحمه الله، وأستاذي إمام الحرمين - رضي الله عنه - من القائلين به، إلا أن إمام الحرمين كان يعبر عن الطرد الذي لا يناسب: بالشبه، ويقول: الطرد باطل، والشبه صحيح. وأبو زيد يعبر [عن الطرد: بالمخيل، وعن الشبه: بالمؤثر] ويقول: المخيل باطل، والمؤثر صحيح، وقد بينا بأمثلة: أنه [أراد] بالمؤثر ما أردناه بالمخيل. وسنين بالأمثلة أن الذين قالوا بالشبه وأنكروا الطرد، فقد أرادوا بالشبه ما أردنا بالطرد. وإنما انقسام الوصف إلى قسمين: مناسب كما ذكرناه وغير مناسب. فالمناسب حجة وفاقا، ومنهم من لقبه: بالمؤثر، وأنكر المخيل. حتى ظن فريق وقوع الاختلاف بين الجنسين، وإنما المختلف: العبارة لا المعنى. وغير المناسب- أيضا- حجة: إذا دل عليه الدليل، وقد لقبه فريق: بالشبه، حيث اضطروا إلى القول به. حتى يتخيل متخيل أن الشبه غير الطرد، والطرد غير الشبه، ولو سئلوا عن الفرق: اعترفوا بأنهم لا يحسبون بينهما فرقا محققا، وإنما يرددون ألفاظا لا حاصل وراءها.

ونحن نكشف الغطاء عن هذه العمايات، وملتطم هذه العبارات، بضرب الأمثلة: حتى يطلع الناظر على غور هذا الفصل، فلقد قل في [هذا] العصر من يستقل بفهم هذا الكلام، فضلا عن درايته، والاستبداد بتقريره إلى نهايته. فنقول: اختلفت المذاهب في الطرد والعكس والشبه، فمنهم: من قال بأحدهما دون الآخر، ومنهم: من أنكرهما، ومنهم: من قال بهما. ونحن نقول: مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك-ي- القول بهما، فإنهم قالوا: بالشبه، وهو أضعف من القول بالطرد والعكس. ونحن نذكر الدليل، ثم [ننتقل إلى] الأمثلة، وبتقرير الأمثلة يتبين الدليل، فإن الدليل على هذه الأمثلة: أن نبين أنها محصلة غلبة الظن، وذلك يحصل بضرب المثال. أما الدليل الجملي، فما ذكرناه في الطرد والعكس، وهو: تلوه، لأنا قد بينا أن الوصف [48 - ب]- الفارق بين الحالتين في ذات واحدة- أوجب إضافة الافتراق في الحكم إليه، لأنه هذا افتراق واقع لم يكن: فافتقر إلى علامة معرفة، وليس ذلك إلا الوصف الظاهر. وعماد هذا الكلام أن لا يظهر وصف [آخر حادث] سوى ما ذكر،

وظهوره ممكن، وعلى المجتهد البحث عنه، وعلى المعلل الانتهاض لردة: إذا ذكر، ولا شيء عليه قبل أن يذكر. فكذلك الفارق بين الذاتين: كالفارق بين الحالتين في ذات واحدة. فإذا قال الشارع: القاتل لا يرث، فهمنا أن القتل علامة الحرمان، ناسبت أو لم تناسب، فإنه لو قال: الطويل لا يرث، والأسود لا يرث، لكنا نقول: الطول والسواد علامة، وهما يتضمنان وجها في المصلحة لا نطلع عليه. ولو لم يرد هذا اللفظ، ولكن عرف من الإجماع أنه لا يرث، أو حكم - صلى الله عليه وسلم -، في شخص أخبر عن قتله، بأنه لا يرث- لكنا نفهم كون القتل علامة للفرق بين الوارث وغير الوارث، بإضافته إلى شخص آخر: يساويه في القرابة، إذ يقال: لا يفارقه إلا في كونه قاتلاً، فهو المناط- كما يقال: لا تفارق حالة الشدة ما قبلها، إلا في الشدة- وإن احتمل أن يكون المناط معنى يتضمن القتل، ولكن ذلك لا يمنع جعل القتل علامة، إلا أن يتبين متضمن له أولى بالاعتبار منه.

والغرض: أن إضافة الحكم إلى شخص، كإضافة الحال إلى حال: في قضاء العقل بإحالة الافتراق على الوصف الظاهر المفرق [أولا، وتتمة] هذا النظر: ببيان أنه لا فارق سواه يجاور الوصف الظاهر، أو يتضمنه الوصف الظاهر. وكذلك: إذا عرف أن الأسود لا يرث، فيعرف كون السواد علامة- بمقابلته بالأبيض، كما يعرف ذلك بمقابلة بحالة سابقة- على ذلك الشخص بعينه- كان فيها أبيض. وكذلك القول في الرق: يعرف كونه علامة الحرمان، بتقدير الطريان مرة على شخص واحد، وبتقدير الإضافة إلى ذات حر. فالفرق مطلوب بين الذاتين، كالفرق بين الحالتين، وإذا لم يكن بد من الفارق- ولا فارق إلا الوصف الذي ادعاه المعلل-: فهو مناط الفرق: إن سلم أنه لا فارق إلا ذلك، كما قررناه في الفارق بين الحالتين المتعاقبتين على ذات واحدة يجرى- في حق المجتهد والمجادل المعلل- على ذلك المذاق بعينه، فإنه [هو هو، ودليله دليله] وإنما يتضح وجه الدلالة، بضرب الأمثلة. وعلى الجملة: لا يجوز التحكم بجعل الوصف علة بالتشهي، بل

أحوجنا المعلل إلى دليل، وهو: حدوث الافتراق بحدوثه في الطرد والعكس، ووقوع الافتراق [وكونه] بكونه: في صورة الشبه، فكان الطرد والعكس، [أولى و] أجلى. ونبين هذا بأمثلة: المثال الأول. قال الشافعي: بيع العذرة أمتنع لنجاستها؟ فعداها إلى السرقين وسائر النجاسات، فإذا طولب بالإثبات: لم يرجع فيه إلى مناسبة، فأنا بينا أنه لا مناسبة فيه، كما تقدم، وإنا الممكن [فيه] تخييل إقناعي تستقل [به] الدلالة، دون العثور عليه. ووجهه أن يقول: كان الطعام قبل أن يتناوله الآدمي جائز البيع، [فالتناول لم يجدد فيه إلا استحالته] إلى النجاسة، فكان هو العلامة، وتتعدى إلى سائر الأرواث. فهذا ظن يظهر أولاً، وتمامه بالسبر. وهو أن الخصم يقول: لا، بل امتنع بيعه: لأنه خرج باستحالته عن كونه منتفعا به، فبطلت ماليته. قلنا: لا، بل هو منتفع به لتسميد الأرض، كما في السرقين بعينه: من غير فرق. فبطل هذا الخيال، وصح الأول. فيقول الخصم: حدث أمر آخر، وهو: الاستحالة، فهو السبب دون النجاسة، فيقال: الاستحالة لا تمنع البيع، كما قاله الخصم في السرقين، وكما قاله العلماء كافة في استحالة الخمر خلا، فإنه لما استحال إلى الطهارة، واستمر الانتفاع- جاز البيع. فيقول الخصم: حدث أمر آخر، وهو: أنه صار جزءا من الآدمي، والآدمي لا يباع، فكذلك أجزاؤه.

وهذا معتمد الخصم، وعليه يخرج لبن الآدمية، فيمنع بيعه: وإن كان طاهرا. وهو [إن استقام] أجلى من التعليل بالنجاسة. فينتهض الشافعي لإبطاله، ويقول: العذرة ليست جزءا من الآدمي بحال، وإنما هو [طعام] استحال في معدته وانفصل، كما يستحيل الخمر في الدن، والمرقة في القدر، فلا يحدث له حكم [في] الجزئية. فيبطل مسلكه بهذا الفرق، وربما يترجح في هذا المقام جانب على جانب. والغرض أن ظن الشافعي- في الإحالة على النجاسة- قائم إلى أن يظهر سبب آخر حادث يحال عليه. ولو قيل للشافعي: النجاسة حكم شرعي، فبم تنكر على من يقلب التعليل، ويقول: إنما نجس لأنه امتنع بيعه؟ - فيقال: امتناع البيع مظنون، والنجاسة معلومة، والمعلوم لا يستفاد من المظنون [49 - أ]. ولأنه لو كان نجا لامتناع بيعه، لحكم بنجاسة الحر والمستولدة، والموقوف والمرهون، والمكاتب، وكل ما امتنع بيعه، فلم يصلح للتعليل

على هذا الوجه، وصلح على الوجه [الآخر] الذي ذكرناه. فهذا طريق إثارة الظن من التعليل بوصف لا يناسب، تلقيا من الحدوث بحدوثه. ولو قال قائل: فهم ذلك لأن النجاسة تناسب بطلان البيع. قلنا: أي مناسبة بين امتناع الاستصحاب في الصلاة، وبين امتناع البيع؟. ولو قنع المنكرون بهذا القدر من الخيال الاقناعي الذي قدمناه في النجاسة، فلا طرد- في عالم الله- إلا ويقدر الفطن المتشدق- الآنس بمسالك تخييل الشعراء، وتلفيق الوعاظ- على تنبشة مناسبة من هذا الجنس منه. وقد لاح- على القطع- ظهور أول الظن، بظهور هذا الوصف الحادث، وتمام هذا الظن: بانقطاع الخيالات المعارضة. وقد يستثار الظن من هذا الأصل بعينه، بطريق المقابلة بذات أخرى، كما نقول: جاز بيع الجمادات: كالتراب والخشب وسائر الأموال، وامتنع بيع العذرة. ولا تفارقها في المنفعة والمالية، وإنما تفارقها في النجاسة، فيدل على أن النجاسة مناط الفرق، فيتعدى إلى الأرواث كلها، فينشأ ظن أولي سابق من سياق هذه المقابلة بينها وبين سائر الأعيان، كما ينشأ من سياق المقابلة بينها وبين الحالة المتقدمة عليها قبل الاستحالة. [ألا أن هذا الظن] أضعف وأخفى وأدق، وإبطاله أهون، فيقال له: [لا] بل فارق سائر الأعيان: في الاستحالة، أو في كونها

جزءًا من الآدمي، إلى غير ذلك مما قدمناه. فيتكلم عليه كما يتكلم على تلك الطريقة، فلا فرقان بين المسلكين. وهذا- من كلام الشافعي- يعرف تعليله بالوصف الذي لا يناسب وقد بنى عليه تحريم بيع سائر النجاسات، وتحريم بيع الكلب وغيره. المثال الآخر: تعليل الفقهاء كافة- أعنى: الشافعي وأبا حنيفة رحمها الله- سقوط التكرار في مسح الخف، وشرع التكرار في غسل الأعضاء. فيقول أبو حنيفة في مسح الرأس: إنه مسح، فلا يتكرر كمسح الخف. فيقول الشافعي: أصل في الطهارة، فيكرر كالغسل. فإن قيل: تعليل أبي حنيفة [تعليل بمؤثر]، لأنه يقول: المسح خفيف في ذاته، فجاز أن يخف حكمه. قلنا: إن كانت المناسبة عبارة عن تجانس الألفاظ، فهنا مؤثر مناسب، وإن كان المناسب ما قدمنا حده، فهذا طرد محض، ويقابله قول القائل: إن ما خف في ذاته أولى بأن يغلظ حكمه، ليقارب الغسل، ويعتدل بينهما الأمر، فإن ما غلظ في ذاته، لو غلظ حكمه: لتراكم التغليظ، وكل ذلك تلفيقات لفظية: لا مناسبة لها. وقول أبي زيد على ما قدمناه-: إني إنما عللت بالمسح لظهور آثر

المسح في التخفيف، وهو الاقتصار على ما ينطلق عليه الاسم. قيل له: ومن سلم لك أن ذلك من أثر كونه مسحا؟ فتضطره المطالبة إلى أن يعترف بعدم المناسبة، لا بل هو من أثر كونه مجرى على الشعر: لو وقع عليه. وهو طرد في مقابلة كلامه، فأي مناسبة لكونه مسحا: في تجوير الاقتصار على ما يقع عليه الاسم؟ وإنما منتهاه أن يقول: إذا قوبل مسح الرأس بسائر الأعضاء، فارقه في جواز الاقتصار على أقل ما يسمى باسمه، فلا يفارقه إلا في كونه مسحا، فهو علام الحكم، وهو عين ما ذكرنا: من طلب الفارق بين الذاتين، بعد مقابلة إحداهما بالأخرى. وكذلك يقول: مسح الخف إذا قوبل بسائر الأعضاء وبغسل الرجل، لم يفارقها إلا في كونه مسحا. فهو العلامة، ويتعدى إلى مسح الرأس: في سقوط التكرار. فيقول المجادل المعاند: [لا] بل فارقه في وقوعه على الخف. فيقول: ليس مخصوصا بالخف، فإنا المتيمم- أيضا- يمسح على الوجه بالتراب ولا يكرر، ولا شركة بينهما إلا في وصف كونه مسحا. وكذلك يرد عناد المعاند: أن الاقتصار على الأقل لإجرائه على الشعر لو أجرى عليه، بخلاف سائر الأعضاء، ويقول: مسح الخف أيضاً

يساويه في الاقتصار، ولا شركة بينهما إلا في عموم وصف المسح. فكان التعليل بالوصف الجامع المشترك- الضابط لجميع محال الحكم- أولى. فيقول الشافعي- في مقابلته-: لا، بل فارق مسح الخف سائر الأعضاء: في كونه وظيفة بدلية ليست أصلية، وإنما الأصل: الغسل على الرجل، وبهذا يفارق المسح [على الرأس]: فإنه أصل كالغسل في سائر الأعضاء، وفي هذا يشارك التيمم، فإنه لما كان يؤدي بدلا، لم يشرع فيه التكرار. وعند هذا، يتقابل المقامان، ولابد من الترجيح، وقد سلك كل [49 - ب] من الفريقين- من قدماء علماء المذهبين- مسلك الترجيح: فدل أنهم رأوا التعليل بالوصف الذي لا يناسب، بطريق المقابلة، وطلب الفارق بين المتقابلين. كما ذكرناه في طلب الفارق بين حالتي الذات الواحدة. فإن قيل: ذكروا هذا بطريق التشبيه. قلنا: لا نضايقهم في هذا التقليب، وكل طارد يلقب طرده أيضا بلقب التشبيه، وإذا قال: أردت به تشبيها يغلب على الظن.، فيقول: وتشبيهي هذا- الذي لقبته بالطرد- يغلب على الظن، فكل مسلك يذكره يعارضه في طرده، حتى يقول: المحكم فيه الذوق السليم، فإن هذا يغلب على

الظن، والطرد لا يغلب. فيقول: وقد غلب هذا على ظني، ولم يغلب تشبيهك على ظني، وما الذي زكى ذوقك وعصمه من الغلط؟ ويرجع الأمر إلى حدس في الضمير: لا يصلح للمحاجة، وتتقابل فيه الدعاوى. فإن قال: تشبيهي يوهم الاجتماع في مخيل هو مأخذ الحكم. فيقول: وجمعي- الذي لقبته بالطرد أيضاً- يوهم، فما الفارق؟ وكل ما ينطق به لسان المشبه، ينطق به لسان القائس الذي سمى طارداً. فلتحذف هذه الألفاظ جانباً، وليقل: لابد من تغليب ظن في كون الوصف علامة، عن ظن أنه ليس بعلامة [ولابد] لغلبة الظن من طريق، وطريقه: طلب الفارق لوقوع الافتراق بين الذاتين. وهو الذي اعتمده العلماء في مسح الخف وتعليله. فإن قيل: عول الشافعي على مناسب وهو: أن الخف لا ينبغي تنظيفه، والتكرار لتكملة النظافة، والخف يتخرق بالتكرار، فصين عنه لذلك. قلنا: هذا خيال، فإن الخف كما لا يتخرق بأصل المسح فلا يتخرق بتكرار إمرار اليد الرطبة عليه.

وأما قوله: الخف لا يبغي تنظيفه، قلنا: فلم شرع أصل المسح؟ فليكن تكرار المسح للغرض الذي شرع له أصل المسح؟ تكميلا له. فإن قيل: ليس في المسح نظافة، ولكنه وظيفة تعبدية، حتى لا تتعود إخلال [هذا] العضو: فنركن إلى الدعة في حالة الكشف، ولا نغسله، كما في التيمم: فإنه شرع لمثل هذا المقصود، وإلا فلا نظافة فيه. قلنا: ليكن تكرار المسح تأكيداً لهذه الوظيفة التعبدية وتكملة لها، أو ليحكم بأن الرأس لما اكتفى فيه بالمسح: فلم يقصد تنظيفه حتى يكمل بالتكرار، فأي نظافة في المسح على شعرة واحدة؟ فليترك بالتكرار. وهذه وساس وخيالات في غاية الضعف [والوهي]، لقبها بعض فقهاء العصر- وهم المتلقفون عن أبي زيد- بالمعاني المؤثرة المعقولة، وذلك لظنهم أنه لا مدرك للدليل على كون الوصف مناطا للحكم، وعلامة عليه- سوى المناسبة. فصنعوا للطرديات صيغة المناسبات، وأخرجوها في معارضتها، فغلب على كلامهم [الحكم] الضعيفة الوعظية، وهي- في إثارة الظنون- أبعد من المسالك التي ذكرناها. المثال الآخر، قول علمائنا في مسئلة التبييت والتعيين: إن

صوم رمضان صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت كالقضاء. وهم يقولون: إنه صوم عين، فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع. وقولهم: صوم عين فلا يفتقر إلى التعيين، من قبيل المؤثر: لو سلم على السبر. أما استعمال في مسألة التبييت، فهو من قبيل الطرد، وأي مناسبة بين كونه فرضاً وبين كونه مفتقراً إلى التبييت؟ والفرض والنقل استويا في النية؟ [وأي مناسبة بين كونه عينا، وبين الاستغناء عن التبييت: إذا لم يعر عن أصل النية]. أما إمامي -رضي الله عنه- فكان يقول بهذا القياس في مسألة التبييت، ويقول: إنه تشبيه، وليس بطرد. وأما المراوزة، فإنهم لما أنبث فيهم كلام أبي زيد: من طلب التأثير، ولم يحيطوا بأغوار ذلك الكلام، وما فيه: من وجوه الالتباس- لم يجوزوا الاستشهاد بالأصول. ولقد ناظرت جمعا من أفاضلهم، فكانوا يلقبون كل من يستشهد بأصل في كلامه: بأنه أحكامي لا يعرف الفقه. وأي ضلال- في عالم الله سبحانه وتعالى- يزيد على هذا؟ فمعظم أحكام الشرع يثبت بالقياس، وإنما انتظم القياس: باستنباط المعاني والعلامات من موارد النصوص، فكيف يستجيز التصرف في الشرع، من يحسم باب الالتفات إلى الشواهد والاستمداد من النصوص، ويزعم: أن المعاني المعقولة المؤثرة هي التي تقبل دون الأحكام؟ ولذلك انفتح عليهم باب من الهذيان ضلوا فيه، وأخذوا يثبتون أحكام الشرع على حكم ضعيفة خيالية: يستترِكُها

أرذال الواعظين، وهجروا [50 - أ] لأجلها مسالك علماء السلف، وما نقل عن الشافعي- صاحب المذهب- في مسائله. وكذلك يفعل الله تعالى بمن لم يؤيده بتوفيقه، ولم يرشده إلى طريقه. فنرجع الآن إلى المقصود، ونقول: قولنا: صوم مفروض فيفتقر إلى التبييت، طرد محض لا يناسب، ولكن الظن حاصل منه، وطريقه:- أنه تقابل أصلان: القضاء والتطوع، ودار صوم رمضان بينهما، ففارق التطوع: في كونه فرضا، وهو الوصف الذي سبق إلى الفهم كونه فارقا، فقدر ذلك علامة على الحكم: متضمنة للمناسبة المغيبة عناء وقد شاركه صوم رمضان في هذا الأصل: فالتحق به، وانقطع عن التطوع. وهذا يقابله قوله: لا، بل يفارقه في كونه صوم عين، وقد شارك صوم رمضان التطوع في هذا الوصف، ولا يعني قولنا: لا مناسبة بين كونه صوم عين، وبين الاستغناء عن التبييت. فإنه لا مناسبة [أيضاً] بين الفريضة وبين التبييت، ولكنا نبين أن صوم التطوع ليس بصوم عين، كما ذكرناه في تلك المسئلة. ولو قال قائل: فارق القضاء التطوع: في كونه فرضا، وفارقه- أيضا: في كونه قضاء، وكل واحد لا يناسب، فهلا جعلتموه مناطا وضابطا للحكم؟ قلنا: لأن صوم الكفارات والنذور كلها يفتقر إلى التعيين، وليس

قضاء، فالوصف الشامل الجامع هو الفرضية، ولم يفارقه إلا التطوع. فإن قال: ويضاف الحكم في الكفارة إلى كونه كفارة، وفي النذر إلى كونه نذرا، فإذا جاز التعليل بالطرد: فيجوز أيضا تعليل الحكم بعلل. قلنا: ولكن التعليل بالفرضية تشهد له جميع الأصول، ولو علل بالقضاء: لم تشهد له سائر الأصول، فإذا علل ذلك بالكفارة: لم يشهد له القضاء. فالوصف المشترك الجامع للحكم المشترك أحرى بأن يكون علامة: متضمنة للمعنى المصلحي [المغيب عنا]، وهو أغلب على الظن من التفريق بأمور متفرقة لا تتوارد عليه الشهادات. فإن قيل: فالحج أيضا مفروض، ولا يفتقر إلى التعيين، فبم تجيبون عنه في مسئلة التعيين؟ قلنا: وهو مشكل على الخصم- أيضا- في مسئلة التعيين، فإن الحج لا يتعين وقته ولكن بان لنا- بالدليل- أن الحج مخصوص بقضايا، بعلامة كونه حجا، وأن ذلك لم يتعد: [لا] إلى الصوم، ولا إلى الصلاة. فتضمن قولنا: صوم، احترازا عنه، وحقيقته ترجع إلى أن القضاء: إذا لم ينجذب إلى الحج، فالأداء أيضا لا ينجذب إليه. ومناسبة الحج للقضاء،

كمناسبته للأداء، فقام الشبه بما ذكرناه. ولنا في كل مثال غرضان، أحدهما: بيان أنه مقول به من جهة الفريقين، وقد ماء الأصحاب ومحدثيهم، والثاني: إبانة كيفية إثارة الظن من هذا النوع من التعليل، مع الانفكاك عن المناسبة، وكيف لا يثور الظن. فإذا لم يبن معنى مناسب في التبييت، وعرف أصلان في الشرع متقابلان- فيجب أن يحكم بقضية في محل النزاع، وهو دائر بين الأصلين، وفارق التطوع: في كونه فرضا، كما فارق القضاء، وبان أنه ليس يشارك التطوع إلا في كونه صوما، وفي هذا شارك القضاء أيضا، ونحن نقدر معنى مناسبا: لم نطلع عليه في القضاء وفي التطوع، فيعلم قطعا إن الأغلب على الظن: أن المتعدى إلى الأداء معنى القضاء، لا معنى التطوع- قبل الإطلاع على ذلك المعنى، وهذا معنى التشبيه. وحاصله راجع إلى طلب الفارق، والتعليل بعلامة المصلحة المجهولة، لا بعين المصلحة، وإثبات كون الوصف علامة- من بين سائر الأوصاف- بالمقابلة وطلب الفارق، كما تقدم. المثال الآخر، قول الشافعي - رضي الله عنه-: طهارتان، فكيف تفترقان؟ وهو التنبيه على قول أصحابنا: طهارة عن حدث، [وطهارة حكمية]، وطهارة: موجبها في غير محل موجبها، فأشبهت التيمم. وقد تقابل ها هنا أصلان: إزالة النجاسة، والتيمم، فأردنا أن نطلب مناطا

للفرق بينهما من أوصاف التيمم، فكان- من الأوصاف العامة- أنه طهارة: فيبطل بإزالة النجاسة، وأعم منه أنه شرط الصلاة: فيبطل بستر العورة، واستقبال القبلة، وأخص من الطهارة أنه طهارة بجامد: فيبطل بالاستنجاء. فكان الأخص والأولى أن يقال: طهارة حكمية، وطهارة عن حدث، وموجبها في غير محل موجبها، وكل ذلك يرجع إلى شيء واحد، وفي هذا [المقام] يستوي الوضوء والتيمم، فغلب على الظن أن هذه هي العلامة المشتملة على المصلحة المجهولة. فكان ذلك لعجزنا عن إبداء المناسبة، حتى لو أظهر الخصم مناسبا: انحل هذا التعليل، بل ينحل [هذا بقولهم]: طهارة بالماء، فأشبه إزالة النجاسة، وإن لم يذكر وجه المناسبة- إلى أن نتكلم عليه. ولو سلم للخصم ما يدعيه: من أن الماء مطهر لعينه، والتراب غير مطهر لعينه، فافتقر إلى قصد [50 - ب]- لكان ذلك فرقا مخيلا، ولكن الشافعي يقول: هو مطهر للنجاسات العينية لعينة، وأما إزالته الحدث: فبالشرع كالتيمم، من غير فرق. فهو مشابه له. وكذلك:

إذا سلك الخصم مسلك الفرق. ونتكلم عليه حتى يسلم لنا هذا الجمع: ولا أخالة له، وهو محض التشبيه، وهو: الطرد الذي لا يناسب، ولكن طريق إثباته: المقابلة بين الأصلين المتقابلين، وطلب الفارق والتصرف في المسألة المترددة، بالعلامة الفارقة أو الجامعة. ولا ينبغي أن ينخدع المحصل بما يذكر في الطهارة الحكمية: من الاخالة بأنه ينبئ عن كونه تعبدا وعبادة وقربة، والقربات تفتقر إلى النيات، لأن افتقار العبادات إلى النيات لابد من تعليله بمسلك مخيل، وعند أبي حنيفة: لا فرق بين العبادات [وأمور المعاملات] في النية، فإن النية عنده تعتبر فيما لا يتعين، يجب ذلك في قضاء دين العباد، ولا يجب في رد المغصوب، ويجب في قضاء الصوم، ولا يجب في صوم رمضان، فعلى هذا يديره، فلا مناسبة بين كونها حكمية وبين الافتقار إلى النية بحال، وإنما حاصلها يرجع إلى التشبيه. ولذلك أطلق الشافعي القول، فقال: طهارتان، فكيف تفترقان؟ استبعد أن يكون بينهما فرق معتبر، مع الاشتراك في وصف: يكاد يقوم مقام الخاصية، وهو: أن كل واحد طهارة عن حدث، فرأى

الإضافة إلى هذا الوصف متعينا. وكل ذلك إشارة منا إلى أن التعليل بالوصف الذي لا يناسب، مقول به من كافة العلماء: السلف منهم والخلف. فلا مضايقة في التلقيب: بالشبه والمؤثر، بعد أن لاح الغرض. مثال آخر: اتفق الفريقان على أن يد السوم توجب الضمان، وطلب كل فريق علامة يجعلها مناطا للحكم. فقال الشافعي: هو أخذ مال الغير لغرض نفسه، لا بالاستحقاق، محترزاً بأحد الوصفين: عن الوديعة، وبالآخر: عن الإجارة، ويد الموصي له بالمنفعة، ويد المرتهن. فكانت هذه الأوصاف- التي بها الاحتراز- علامات لا تناسب، فلم ينبغي أن يكون إثبات اليد على مال الغير لغرض نفسه- من غير استحقاق- سببا للضمان؟ فهذا لا يعرف كونه سببا [إلا بنصب الشارع إياه سببا. ولم يصرح الشارع بنصبه سببا] باعتبار هذا الضبط، وهذه العلامة. ولكن توصل إليه الشافعي بنظره والتفافته إلى المسائل، فجعله علامة. وقال أبو حنيفة: لا، بل علامته: أنه مأخوذ على جهة الضمان، وهو الشرى، والمأخوذ على جهة الشيء، كالمأخوذ على حيقته، وخرج [عليه يد الرهن] وعكسه في العارية، فكيف يطمع في مناسبته؟ ولو عكس [وقوبل] وقيل: [لا، بل] المأخوذ على جهة الشيء، ليس

كالمأخوذ على حقيقته، لاعتدال القولان، ولم يفترقا. والغرض من هذا المثال: بيان القول بالوصف الذي لا يناسب، من الفريقين. ووجه تنشئة الظن منه يستقصى في تلك المسألة. مثال آخر: حكم الشرع بضرب الدية على العاقلة، على خلاف المخيل في سائر الأموال والغرامات والكفارات. فوقع النزاع في القليل. فقال الشافعي: القليل واجب بالجناية على النفس، فيضرب على العاقلة كالكثير، وهذا يجري مجرى العلامة الضابطة للمصلحة المجهولة: في ضرب الدية على العاقلة. فلو قال قائل: لا، بل علامة الأصل: كونه كل بدل النفس- بطل بالأطراف. ولو قال [قائل]: علامته كونه كثيرا مجحفا، بطل بحصص الشركاء، وقيمة العبد القليلة، وغرة الجنين. ولو قال: علامته: كونه مقدرا، بطل بأرش الحكومات.

وإذا بطلت هذه العلامات: سلم ما ذكرناه. مثال أخر: أوجب الشرع في يد الحر نصف دينه. فقال الشافعي: في يد العبد نصف قيمته. ولا أخالة فيه: إذ المناسب اتباع النقصان، كما في الكل. ولكن نعلم ضرورة أن [غناء] يد العبد من العبد، [كغناء يد] الحر من الحر، وأن النسبة مستوية. زلًا يجري ذلك في البهائم. وأن قدر الشرع بدل كل الحر، فسببه: صيانته عن تحكم السوق فيه. وقد تقل القيمة مع شرف الخصال، لقلة الرغبات في الاستخدام. وهذا غير محذور في الطرف: فأن أروش الحكومات تعرف بتقدير القيمة؛ ثم تكثر بالنسبة إلى [مبلغ] الدية، فما تقتضي فيه القيمة

دينارًا مثلًا -لكونه عشر القيمة -توجب مائة دينار. ومع هذا [يقدر؛ فعرف أن ذلك لسر] في خلقة الآدمي: اقتضى وقوع اليد من الجملة موقع النص؛ وهو في العبد كهو في الحر [51 - أ] فكانت هذه العلامة الخاصة مقدمة على المخيل المرسل المتسع. مثال أخر: لأبي حنيفة -رحمه الله -، قوله: أن العبد تقدر قيمته كالحر، والمناسب لا يوجب التقدير مع تفاوت الخصال: كما في البهائم؛ ولكن شبهه بالحر، وهذا يدل- من مذهبه- على القول بالشبه. فأن قيل: لا، بل هذا قول بالمؤثر؛ لأن بدل الدم مقدر، والعبد يضمن منه الدم: فكان مقدرا، فهذا من قبيل دخول تفصيل تحت جملة، ويرجع شكل الدليل فيه إلى مقدمتين ونتيجة كما قدمتموه. قلنا: الشافعي-رحمه الله -لا يسلم كون بدل الدم مقدرا؛ وإنما المقدر بدل دم الحر. وأبو حنيفة-رحمه الله -يلحق العبد به: بالتشبيه. وهذه طريقة لنا في تلك المسألة؛ إذ نسلم أن العبد دم، ولكن نقول: المقدر دم الحر، ونستبدل بالعبد القليل القيمة. فيرجع النظر -عند تجاذب القول -إلى أن التقدير معلوم بعلامة الدمية، أو بعلامة الحرية؛ ويكون ذلك نظرا في العلامات دون الوقوف على المعاني. وإن سلمنا [له] [أنه ليس مقدرًا] بعلامة الدمية، فنقول: بدل

المال [غير] مقدر، وقضية الأموال والدماء متعارضة فيه. فنسلك مسلك التغليب، وتصير المسألة تشبيها من طريق أخر على ما سنذكره. طريقًا آخر لتغليب الأشباه. ويقرب من هذا المأخذ، النزاع في أن دية العبد: هل تضرب على العاقلة؟ وهو راجع إلى تجاذب العلامات. مثال آخر، وهو البرهان القاطع على قول زعماء القائسين، وعلماء الشرع من المتصرفين- بالتعليل بالوصف الذي لا يناسب، من غير تنصيص وإيماء من جهة الشارع؛ وأنهم سموا ذلك الوصف- وإن كان لا يناسب- علة، في اصطلاحهم، لا علامة. وهو: تعليل الحديث الوارد في الربا -المشتمل على الأشياء الستة. فقال الشافعي: [نعلل بالطعم والنقدية] أو الطعم والتقدير على قول. وقال أبو حنيفة: نعلل بالكيل والوزن. وقال مالك: [نعلل] بالنقدية والقوت. وكلهم اتفقوا على تعدية الحكم بهذه الأوصاف؛ وهي لا تناسب، وإنما هو الذي لقبه فريق بالطرد، وآخرون بالشبه. فأن قيل: أبو حنيفة تلقى ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم -: ((وكذلك ما يكال ويوزن))؛ فكان ذلك عامًا.

قلنا: هذا [حديث] كذب موضوع [متقول] ولم ينقل عن أبي حنيفة. وأصحابه -السابقون واللاحقون -سلكوا مسلك التعليل بالاستنباط، لا بهذه التكملة المختلفة. فأن قيل: أبو حنيفة لا يقول بالقياس المؤثر المناسب؛ وقد أظهر تأثير الكيل كما عرف ذلك من [كلامه و] كلام أصحابه؛ وهو الذي بالغ أبو زيد في تقريره، حتى وقاه إلى مضاهاة المعقولات، وأظهر تأثيره. وبيانه بالإيجاز: أن تحريم البيع في الأشياء الستة، ينبغي أن يتعرف مما اعتبره الشرع في موضع آخر في التحريم، وليس ذلك-في هذا المقام - إلا تحريم الفضل الذي لا مقابل له بالإجماع؛ وهو أن يقول: بعتك العبد بهذه الثوب على أن تزيد درهما. فالدرهم ربا، وهو فضل لا مقابل له، فإذا باع صاعا بصاعين؛ فالصاع الزائد فضل لا مقابل له؛ وإنما صار ذلك فضلًا: بشرط الشرع المماثلة في المقابلة، بقوله: ((الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والفضل ربا))، ومشروط الشرع كمشروط

العاقد؛ ثم اختص بالمقدرات المتجانسات: لأن الفضل يظهر بعد ظهور المماثة، والمماثلة تظهر بالجنسية والتقدير. ولا يظهر الفضل بين جنسين [غير مقدرين بالكيل أو الوزن]: إذ لا معيار للماثلة [فيه]. ولا يظهر بين الشعير والحنطة: إذ لا مجانسة في الصفات، فظهر الفضل المحرم بهذين الوصفين: فسميناه علة لذلك. فأما فضل الصفات فألغى الشرع قيمتها بقوله: ((جيدها ورديئها سواء)) وهذا أظهر مسلك في التأثير فكيف هذا شبها وتعليلا بوصف لا يناسب؟ قلنا: التبس جنس هذا الكلام على معظم أبناء الزمان، لكثرة مقدماته ومراتبه التي سلسلها: فالتبس المقصد في غمارها، ونحن نحل هذه التعقيدات، [بتسليم] جميع المقدمات؛ وهو: أن الفضل- الذي لا مقابل له- محرم، وأن ظهور الفضل بالكيل والجنسية [على] ما ذكروه. ولكن لا يظهر الفضل-في مسألتنا -ما لم تصر المماثلة

مشروطة. وعن علته البحث؛ فلم شرطت المماثلة في بيع المتماثلات المقدرة؟ ولم لا يجوز أن نقابل صاعًا بصاعين، كذراع بذراعين، وخشبة بخشبتين؟ وهند هذا يتبين عجزهم عن إبداء التأثير؛ فيقولون: لأنه متماثل متجانس يمكن تحصيل المماثلة فيه [51 - ب] قلنا: وما أمكن تحصيل المماثلة فيه، لم تشترط فيه المماثلة الممكنة؟ [وما هذا] إلا كقول القائل: ما أمكن رؤيته [تشترط رؤيته] وما أمكن قبضه يشترط قبضه في المجلس، وما أمكن نقله يشترط نقله. وهلم حرا إلى الممكنات. فتأثير التجانس والتقدير: في تحصيل شرطها الشارع؟ إن عقل سببه: فليذكر حتى يتعدى؛ وإن لم يعقل فليقتصر على مورد النص. فتبين أن تطويلاتهم مسلمة، ولا منفعة فيها، وإنما مجرى النظر، وموقع البحث: طلب على اشتراط المماثلة فيما أمكن فيه تحصيل المماثلة؛ حتى إذا عقل ذلك المعنى: اتبع في الاقتصاد والتعدي. ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يذكروا فيه مناسبة: لم يجدوا إليه سبيلًا. فأن قال قائل: لاح -على القطع -من أبي حنيفة القول بالوصف

الذي لا يناسب والتعليل به من غير نص وإيماء. ولكن كيف يصح ذلك من الشافعي في هذه المسألة: فإنه يتمسك فيها بالإيماء، من قوله: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام))؛ وقد يتمسك [فيها] بمناسبة الحرمة لإظهار الشرف؛ بالتقييد بالشروط. كما قدمتموه في أمثلة المناسبات؟ قلنا: أما التعليق بالإيماء فقد قررنا طريقه؛ وليس مسلك الشافعي مقصورا عليه؛ فأنه علل الربا في الدراهم والدنانير، بكونها جوهري الأثمان. ولا إيماء فيه. وأما تلك المناسبة، فمن محدثات المتأخرين؛ لم يذكرها الشافعي؛ وإنما أحدثه من لم تتسع حوصلته لدرك جميع [مدارك] التعاليل، ولم يستقر قدمه في فهم قاعدة الشبه. فتشوفوا إلى خيالات هي -على التحقيق -نفاخات الصابون: تنكشف بأدنى بحث [عن] غير طائل. وقد [نبهنا على وجه] فساد [هذا المناسب بما] تقدم. ومن لم يستقل فهمه بدرك وجه الفساد في كل مناسبة: خيلت في مسئلة علة الربا من [كل] الجوانب، فلا ينتفع بكلامنا هذا، [ولا مطمع له في فهمه]: فأن درك فسادها من الجليات؛ ومن تقاعدت

رتبته عن درك الجليات: كيف ترتقي قريحته إلى فهم الدقائق [التي لا يكشفها فضل التقرير، وإنما تدرك بجد التأمل واتقاد القريحة، بعد الانقباض عن كدورة المألوفات وشوائب التقليدات؟]. والذي يدل على أن الشافعي لم يذهب في التعليل مسلك الأخالة، فضل ذكره في كتاب الرسالة -وقد نقلناه بلفظه: قال الشافعي: قال الله تعالى {والوالدات يرصعن أولادهن} الآية. وأمر النبي -عليه السلام -هذا: بأن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها [بالمعروف]؛ وكان الولد من الوالد: فأخبر على

صلاحه في الحال التي لا يغني فيها عن نفسه. فكان الأب: إذا بلغ أن لا يغني عن نفسه بكسب ولا مال، فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته. قياسًا على الولد، ولم يضيع شيئًا هو منه، كما لم يكن للوالد ذلك، والوالدان وإن بعدوا، والولد وإن سفلي -في هذا المعنى [مشتركون]. فقلنا: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف، وله النفقة على الغني المحترف. وذكر حكم رسول الله -عليه السلام -بأن الغلة بالضمان، وقال: فكانت الغلة لم تقع عليها صفقة البيع، فيكون لها حصة من الثمن. فكانت في ملك المشتري: في الوقت الذي لو مات فيه العبد مات من ماله، فدل أنه إنما جعلها له: لأنها حادثة في ملكه وضمانه. فقلنا كذلك في ثمر

النخل، ولبن الماشية وصوفها، وأولادها وولد الجارية، وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه. وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها. و ((نهى النبي -عليه السلام -عن الذهب بالذهب، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح؛ إلا مثل بمثل، يدا بيد)) فلما حرم النبي -عليه السلام -في هذه الأصناف المأكولة -التي شح الناس عليها حتى باعوها كيلًا -لمعنيين أحدهما: أن يباع منها شيء بمثله دينًا، [والآخر: زيادة أحداهما] على الآخر نقدا- كان ما كان في معناها محرمًا: قياسًا عليها، وذلك: كل ما أكل مما بيع موزونًا.

والوزن والكيل في ذلك سواء. وذلك: كالعسل والسمن والزيت والسكر، وغيره: مما [يؤكل ويشرب] ويباع موزونًا، ولم يقس الموزون على الموزون من الذهب والورق: لأنه يجوز أن [52 - أ] يشتري بالدراهم والدنانير نقدًا عسلًا وسمنًا إلى أجل؛ ولو قيس عليه: لم يجز إلا يدًا بيد، كالدنانير بالدراهم)) و ((أما الذهب والفضة فمحرمان في أنفسهما: لا يقاس [شيء] عليهما؛ لأنه ليس في معناها: لأنهما الأثمان والقيم إلا الديات، والمأكول المكيل محرم في نفسه، ويقاس به ما كان في معناه: من المأكول الموزون؛ لأنه في معناه)). هذا كله نقلناه من لفظ الشافعي؛ فليتأمل المنصف: ليعرف كيف علل بهذه الأوصاف التي لا تناسب، ذاهبًا إلى أن المشارك له في هذه الأوصاف في معناه، غير معرج على المناسبة والإيماء.

ونقل أبو بكر الفارسي من لفظ ابن سريج -في مساق كلام له في تصحيح العلل بالاطراد، والسلامة عن النواقض-فضلًا، وهو قوله: ((قلت: فأن قال قائل: إذا أدعيتم أن العلل تستخرج وتصح بالسبر والنظر والاطراد في معلولاتها؛ فأن عارضها أصل يدفعها: علم فسادها؛ وأن لم يعارضها أصل: صحت فأخبروني: إذا انتزعتم علة من أصل [محللًا]، وانتزع مخالفوكم [علة محرما]، فما [الذي] جعل علتكم أولى؟ فأن أحلتم ذلك أريناكموه: زعم العراقي قي علة البر: أنه مكيل، وأن ذلك لا ينكسر، وزعم الشافعي: أنها هي الأكل، وأن ذلك يطرد)). [فأجاب عن ذلك]-بعد فصل طويل ليس من غرضنا -: ((أنا نقول بالاعتلال بالأكل دون الكيل؛ فنقول: أنا تركنا جعل كل واحد-

-من هذين الأمرين -علة: [لأنه يخرجنا] عن قول العلماء الذين احتجنا إلى ترجيح قول بعضهم على بعض، ومعارضة [قول] بعضهم بقول بعض، لأن الشافعي أقتصر على الأكل، والعراقي على الكيل؛ فرجحنا هذه على تلك: بأننا وجدنا الكيل معناه معنى الوزن، ووجدنا ما حرم [من الوزن]-من الذهب والفضة -لا يدل على تحريم الموزونات؟ [وذلك: أن الذهب لا يجوز بالورق نساء، ويجوز الذهب بالموزونات نساء])). وقرر هذا الكلام، ثم قال: ((دل هذا على أن الشيء حرام لمعنى فيه، كالذهب والورق: فأنها أصل التقلب وقيم المتلفات، وفيها فرض الزكوات؛ فلم يحرما: لأن ها هنا أمرا يعرف به مقدارهما وهو: الوزن؛ بل لما فيهما: من منافع الناس التي [لا] يعدلها فيها سواهما، ومن التقلب والنقد الذي إليه مرجع المعاملة الدائرة بين الناس. وكذلك البر والشعير، إنما حرما: لأنهما الأقوات والمعاش، والغذاء

والطعام، ثم جرد من ذلك كله الأكل، فكانت أعم الأمور، وقد ضم إليها- في وقل لأصحابنا آخر- الكيل والوزن. قال الشافعي في كتاب البيوع القديم: وروى عن ابن المسيب أنه قال: لا ربا إلا في ذهب أو روق، أو ما يكال أو يوزن: مما يؤكل أو يشرب. وقول ابن المسيب -في هذا- من أصح الأقاويل)). فهذا جملة ما أردنا نقله من لفظ الشافعي وابن سريج، ليتبين طلبة العلم -من أهل العصر -أن أرباب المذاهب بأجمعهم ذهبوا: إلى جواز التعليل بالوصف الذي لا يناسب من غير استناد إلى إيماء ونص ومناسبة. ولو نقل كلام الشافعي وابن سريج، وكلام المتلقفين عن الشافعي -في علة الربا -لبلغ أوراقًا. ورجع كل ذلك إلى التعليل بهذه الأوصاف: من غير تعريج على مناسبة وإيماء ونص؛ وإنما المناسبات الضعيفة لفقها المحدثون الظانون: أن مدارك العلل محصورة فيها؛ المتقاعدون -ببلادتهم، وقصور هممهم -عن الإحاطة بكلام الأولين ومدارك نظرهم؛ فحصروا النظر على تخيلاتهم أقناعيه، وخيالات خطابية؛ تستمال

بها النفوس المنخدعة بالتزويقات، وهجروا كلام الأئمة، وطمسوا مسالكهم، وزعموا: أن القياس ينحصر في المؤثر؛ ومنهم: من زاد المخيل؛ ومنهم: من زاد الشبه، ومنهم: من زاد الدلالة، والتبس مضمون هذه العبارات على جماهير فضلاء الدهر؛ فقاموا وقعدوا، وصوتوا وصعدوا؛ ولم يتحصلوا -في ضبط المراتب -على طائل. وغرضنا الآن أن نبين نقلا من علماء الشرع -كمالك وأبي حنيفة والشافعي -رحمهم الله -القول [52 - ب] بالوصف الذي لا يناسب، وتسميتهم ذلك: علة، ولذلك استتب تعليل النقدين بالنقدية القاصرة؛ والشبه لا يقوم إلا بفرع وأصل. فلم يكن لهم مسلك إلا طلبهم فارقا بين النقدين وغيرهما: مما لا يجري فيه الربا. فكانت النقدية علامة سابقة إلى الفهم، سلمت عن المعارضة بما هو أولى منها، وهو مأخذ هذا الجنس من التعليل. فأن قال قائل: لم تزيدوا -فيما ذكرتموه -على أمثلة ضربتموها، ومذاهب نقلتموها من الأئمة، والمذاهب لا تنتهض حجة، فما الحجة على القول بالوصف: الذي لا يناسب ولا يدل عليه إيماء ولا نص ولا تأثير [ولا مناسبة]؟ قلنا: إنما استقصينا القول في نقل المذاهب، لنفرة بني الزمان [عن ذلك] وتشوفهم إلى المؤثر والمخيل، وإلى الإيماء والنص؛

وحصرهم المدارك فيها، ومن قبل هذا الجنس [من التعليل] لقبه بلقب الشبه، فأريناه -من تعليل الشافعي بالنقدية القاصرة التي لا فرع لها -أنه ليس مقصورا على التشبيه؛ إذ الشبه إنما يقوم من فرع وأصل، ولا فرع لهذا الأصل. ودليل القول بهذا الجنس: إثارته لغلبة الظن؛ ووجه تغليب الظن فيه [قد ذكرناه بما] ضربناه: من الأمثلة. ونحن نحرر الآن -عن ذلك- عبارة رشيقة، فنقول: نقدم أن الصفة الطارئة -التي حدث الحكم بحدوثها -علة للحكم، أو علامة [له]. ومستنده: أن حدوث الافتراق افتقر إلى فارق؛ ولا فارق إلا ما ظهر. وهذه مقدمتان لو سلمتا: لا يبقى للنزاع وجه، فأما الافتقار إلى فارق -مع وقوع الافتراق -فقطعي؛ وأما قولنا: لا فارق إلا ما ظهر، فتمام النظر فيه: بالسبر والتدوار على جميع الفوارق الممكنة، وإبطالها أو ترجيح ما ظهر أولًا عليها، فيقع النظر في التعيين، بعد وجوب الفارق، وكان هذا الجنس جليًا، لوجوب القول

بالتعليل وطلب الفارق؛ وذلك: لأن الحكم حدث بتغير أمر، فكانت [الصفة] المغيرة للذات هي المغيرة للحكم. وكذلك نقول في الشبه بعد الفرض في الربا: جرى الربا في الأشياء الأربعة ولم يجر في الثياب والعبيد، وليس ذلك إلا لافتراقهما في معنى: اقتضى الفرق، فلابد من طلب فارق، ولا فارق إلا الطعم -لكانت الإضافة إلى الطعم ضرورية، وإنما الشأن: في إثبات المقدمتين؛ فأنهما -بعد الثبوت -تلتحق النتيجة المستفادة منهما، بدرجة العقليات. أما قولنا: لا فارق إلا الطعم، فنعني به [أنه] لا فارق أولى من الطعم، فإنه أولى من الكيل والقوت والمالية، وكل ما يفرض: من الصفات، وطريقة الترجيح كما ذكر في تلك المسألة، وكما سنذكر الآن طرفًا منه. والكلام في هذه المقدمة مجال الفقهاء، وقد أكثروا فيه؛ وإنما الغموض في المقدمة الأولى. وهو: أنه لابد من طلب فارق وعلامة فاصلة زائدة على المفارقة بالذات. فإن [الأشياء الستة] متميزة -بأساميها وذواتها -[عن غيرها]، فلا تحتاج إلى إعلام حكمها بأمارة زائدة على أساميها وذواتها]. ولما ظهر الاحتياج إلى العلامة الفارقة- في صورة

الطرد والعكس- كان النظر فيه أظهر. ومن أجاب عن هذا السؤال، فقد قرر قاعدة الشبه والقول بالوصف الذي لا يناسب؛ وحل عقدة علة الربا، وكشف الغطاء عنها. فنقول في قاعدة الربا: بأن لنا بالإجماع أنه لابد من إعلام محل الحكم بإمارة جامعة مانعة، زائدة على الإعلام بالاسم والذات، فأن الربا بالإجماع غير مقصورة على الأشياء الستة؛ إذ إتباع الاسم والتخصيص بذات المسمى- يقتضي أن [يقال]: لا يجري الربا في الدقيق والخبز وما يؤخذ من البر، ولا فيما يؤخذ من التمر: لأن اسم البر لا يطلق على الدقيق، ولا هو منصور بصورته. فلن يعرف حكمه باسم البر؛ فأنه غير البر: اسما وصورة ومعنى. ولذلك قلنا: أن الدقيق لا يقوم مقام البر في الزكوات، لأنه بدل المنصوص لا عين المنصوص، وأبو حنيفة يقيمه مقامه باعتبار المعادلة بالقيمة؛ كما يجزيه في سائر العروض. ولم يذهب أحد من الأمة: إلى أن الربا لا يجري في الدقيق والخبز؛ وكان الخلق في زمان الصحابة يحترزون عنه. وإن نازع منازع فيه، فتقول: الرطب الإجماع يجري فيه الربا، وليس تمرا. ولذلك نقدره بدلا في الزكوات عن التمر كسائر الأبدال؛ فليس هو مسمى باسمه، ولا [هو] متصور بصورته، وهو غير منصوص

عليه، فإن أنكر منكر ذلك: دفعناه بإجماع الصحابة؛ فأنهم اعتقدوا جريان الربا في الرطب، حتى جاء المحاويج من الأنصار إلى النبي -عليه السلام -وشكوا إليه احتياجهم إلى الرطب، وأن ليس بأيديهم إلا فضول قوت من التمر؛ فأرخص لهم النبي -عليه السلام -في العرايا: فيما دون خمسة أوسق و [لو] لم يكن الرطب ربويًا: لكان بيع التمر به [53 - أ] كبيعه بالثياب والعبيد، فدل أن الصحابة وكافة الأمة اعتقدوا من عند آخرهم: أن الرطب -وأن لم يتناوله اسم التمر -تعدي إليه الربا؛ وكذلك البر. فوجب طلب الصفة التي وقعت فيها الشركة بين البر والدقيق، والتمر والرطب. فأنها علامة محل الحكم، لا الاسم المجرد المخصوص بذات المسمى. والدقيق لا يشارك البر في كونه برًا؛ ويشاركه: في كونه مالًا ومكيلًا، ومطعومًا وقوتًا. فوجب امتحان هذه العلامات، وسبرها بالعرض على الشهادات. فثبت بهذا -على القطع -المقدمة الأولى، وهو: وجوب طلب

علامة للحكم زائدة على الاسم والذات. ثم إذا وجب: فلابد من الحصر والتعيين؛ وهي المقدمة الثانية. وبهذا، انتهى الكلام في قاعدة الربا إلى رتبة في الوضوح: لم يبق عليها غبار لمن أحسن الإحاطة به. إذ بان وجوب طلب علامة بالإجماع، زائدة على الاسم المخصوص بالذات؛ وبان -على القطع، [أو] بالإجماع، أو بغالب الظن المستفاد من [السبر]-أن لا شركة إلا في الصفات الأربع. وبطل -عند الشافعي: اتضح الأمر؛ وهذا سياق إثبات [كل] وصف لا يناسب. فأن قال قائل: [ساعدكم -في هذه الصورة- إبانة] الإجماع على وجوب تعدي [الحكم عن] المسميات المخصوصة؛ فهل تشترطون هذا في كل مسألة: تسلكون فيها مسلك التشبيه ونصب العلامة الخالية عن المناسبة؟ قلنا: لا نشترط ذلك، ولكن إن ساعد: فهي الرتبة العليا؛ [وتلتحق درجة الظن فيها] بالطرد والعكس؛ لأنه ظهر ثم وجوب طلب الفارق،

وقد التحقت هذه الرتبة بها: في وجوب طلب العلامة الحاصرة؛ وهما في المقدمة الثانية، وهو: سبر الصفات الممكنة وتعيينها- لا يختلفان؛ ويلتحق بهذه الرتبة عندي كل أصل: عرف الحكم فيه بإجماع مرسل، لا بلفظ خاص منقول، كإلحاقنا قليل الدية بكثيرها: لأنه عرف بالإجماع [أصل الضرب]، ولم ينقل لفظ خاص في مقدر خاص، حتى يقال: يكتفي بتمييزه باسمه الخاص. فإن قيل: المستند ما روي: ((أنه -عليه السلام -ضرب الدية على العاقلة في قصة تخاصم الجاريتين)) وهو عبارة عن كل الدية. قلنا: وعرف بالإجماع أنه ليس مخصوصاً بكل الدية، ولا بالمقدرات: إذا جري في الحكومات؛ ولا بالكثير: إذا وظف حصة آحاد الشركاء -وقد قلت حصصهم -على العاقلة. وكذلك قيمة العبد القليل القيمة،

عن الضبط، ووجب -على الضرورة -طلب علامة: معرفة محل الحكم، حاصرة فارقة بينه وبين الواجبات التي [لا] تتحمل، فتعين أن يكون منوطاً ببدل الجناية على النفس. ولا يبقي -في هذا -إلا سؤال بعيد لمن يستمد من إنكار القياس من حيث لا يدري، فيقول: لنقتصر على المعلوم إجماعًا، ولنترك الباقي على الأصل. وهذا فاسد: فإن محل الإجماع لم يتعين بعبارة منقولة؛ وإنما امتنع الإجماع في القليل: لمخالفة الخصم؛ فهو الذي كدر الإجماع، فلم يكدره؟ [وما حمله على المخالفة]؟ وبم ينضبط محل الحكم: ويستحيل أن [يضبط إلا] بالإجماع؟ وانعقاد الإجماع مبني على موافقته؛ فتكون موافقته مبنية على الإجماع، والإجماع مبنياً على موافقته؛ ولم ينعقد الإجماع: لأنه لم يوافق، ولم يوافق: لأنه لم ينعقد الإجماع، وهذا تناقض.

فإن قال: أعتمد الإجماع الذي أنا مسبوق به. قلنا: ولا تقدر على أن تنقل من أهل الإجماع، إخراج القليل عن محل الإجماع، فإن أهل الإجماع لم يتعرضوا للضبط، حتى تتبين به إخراجهم القليل، أو إدراجهم [له] تحت الجملة، فإن نقل خلافاً ممن قبله، كانت الحجة من أولئك مقامة على المخالف فيه، كما أقمناه عليهم: لو كان خلافهم فيه مبتدئًا غير مسبوق بإجماع سابق. ومن هذا القبيل أيضًا: تقدير [دية] أطراف الأحرار؛ فإنه لم ينقل بلفظ مخصوص الحر، فكان الضبط بعلامة الحرية، وبعلامة الآدمية - أمراً: يتعين طلبه لحصر محل الحكم؛ فسلك فيه مسلك الترجيح: إذا لم يرد اسم خاص، حتى يقال: أنه تميز باسمه، فلا يتعدي، فلو نقل ناقل مثلاً أن النبي -عليه السلام -قال: في يد الحر نص ديته؛ كان ذلك لفظًا خاصًا، ولم يقع إلحاق العبد به في هذه الرتبة، فلو نقل أنه قال: في يد الرجل نصف ديته؛ فهذا يشمل العبد، فعلى المخرج عن هذه العلامات الضابطة- الدليل. ومن هذه الرتبة الواضحة: النية في الطهارة؛ فإنها لم تختص بذات التيمم بالإجماع، بل تعدي إلى وظائف حكمية سواها، وكذلك يد السوم. وأكثر أمثلة الأشباه نظفر فيه بمثل هذا المسلك؛ وعند ذلك تتضح

رتبة الكلام؛ إذا الغموض الأظهر في قولنا: لا بد من طلب علامة حاصرة فارقة، وأنه [لم يخصه] باسمه وذاته، فيقال: كيف افتقرنا إلى طلب ما هو موجود؟ وقد اندفع هذا الغموض في هذه الرتبة. الرتبة الثانية: أن لا تساعد دعوى الإجماع على وجوب تعدي المنصوص، وقد صار المنصوص علماً محصوراً باسمه، فالكلام في هذا الطرف أغمض؛ ومع ذلك فيجري القول بالتشبيه بالعلامات فيه، وسبيل الكلام هو أن نقول [53 - ب] للمنكر: أتسلم في هذا الجنس جواز إلحاق ما في معناه به؟ فإن قال: لا، كان معانداً وأخرج من زمرة العلماء؛ فإن ما في معني الأصل: من الشرعيات، جار مجري الضرورات: من العقليات؛ ومنكره جار مجري السوفسطائية، فحشوية منكري القياس: سوفسطائية الشرع؛ ولسنا نخاطب أولئك، وإنما نخاطب طبقة القائلين، وهم علماء الدين؛ وسيقولون: نعم. فنقول: هل يتبين لكم أن الدقيق في معني البر، وأن الرطب في معني التمر؛ كما بأن للصحابة حتى سألوا عن مسئلة العرايا؟، وهو بيان مستند الإجماع المنقول في المرتبة الأولى؟ فيقولون: نعم، فنقول: هل يتبين أن الزبيب في معني التمر؟ فإن أنصفوا قالوا: نعم، فقد قال القاضي أبو بكر الباقلاني: أقطع بأن الزبيب

في معنى التمر، وأن الأرز في معني البر، وأن الذرة في معني الشعير، وما ذكره بين. فإن جاحد مجاحد هذا: فذلك لكثرة تفكره في هذه المسئلة، وشغفة بطريقة المحاجة والملاحة فيها؛ وذلك قد يعمي طريق الصواب، ويفسد الذوق السليم من ذوي الألباب، فنرتقي به إلى مثال آخر، فنقال: [لو] ثبت الوضوء بنبيذ التمر، هل كان نبيذ الزبيب في معناه؟ أو نقول: لو ورد الحكم في تمر صبحاني اتفق السؤال عنه، هل كانت العجوة في معناه؟ وكيف ينكر هذا شافعي: وقد طرد الشافعي نقصان الرطب في حال الجفاف، في سائل الأشياء الرطبة، وقال: أنها في معناه؟ وطرد أبو حنيفة سقوط الفطر في الجماع ناسيًا، وزعم: أنه في معني الأكل، مع حكمه بأنه على ضد القياس، حتى [لم] يلحق به المكره والمخطئ، إلى غير ذلك: مما عرف من كلامهم، فلا نطول الكلام مع نعتقد خارجًا عن زمرة الفقهاء المتصرفين. [وقد قال بما في معني الأصل جميعهم، فإن قال المنصف] نعم، نعترف بأن الزبيب في معني التمر. قلنا: فقد اتضح بطلان الإعلام بالاسم، ووجب طلب الوصف الذي بالشركة فيه التحق الزبيب بالتمر، والتحق النظر بالرتبة الأولى.

فإن قال: أطلب وصفًا يخص التمر والزبيب ولا يتعداهما. قلنا: إن قدرت عليه فعلينا إبطاله، فإن [أحد] الأوصاف إنما يسلم: إذا بطل غيره أو رجح عليه. وغرضنا أن نبين وجوب طلب علامة زائدة على الاسم المخصوص بذات المسمى، وقد حصل به الغرض. فإن قال: أقتصر في التعدي على ما علم أنه في معني النص، وهو: ما يتناهي القرب فيه، وعلم ذلك على وجه لا يتطرق المراء إليه: كالأمة مع العبد في العتق، والزبيب مع التمر [ها هنا]. قلنا: وهل يجوز في العقل -من حيث الإمكان -وقوع مقدر من التقارب لا يفيد إلا غلبه الظن بكونه في معناه [ولا يفيد العلم؟] فإن قال: لا، كان خارجاً عن قضية العقل؛ فإن كل مسلك تصور

أن يكون مفيدًا للعلم، فهو إلى إفادة الظن أقرب، وإن قال: نعم: قلنا: والظن كالعلم في وجوب الإلحاق، فإنا لم نستبن من المناسبات إلا الظنون. فإن قال: لم ينقل عن الصحابة هذا الجنس، قلنا: المنقول عنهم ينحصر، بل فهم من مسالكهم إتباعهم غلبات الظنون، وهو: الحكم بالرأي الأرجح. فإن قال: فكم من رأي غالب تركوه، قلنا: ذلك لمخالفته نصًا، أو قياسًا، أو رأيًا أغلب على الظن منه، فإما أعراضهم عن الرأي الغالب السليم عن القوادح والمعارضة -فلا يظن بهم، ولا يستجيز مسلم أن يتقول ذلك على صحابي أو إمام متدين؛ فإن من أنكر الشبه، أنكره: من حيث [أنه] لم يبين له وجه غلبة الظن [منه]، ومن اعترف بحصول غلبة الظن، ثم أنكر الحكم به -كان معاندًا. فإن قال قائل: قد ثبت بما ذكرت أن نوعًا من القرب يجوز أن يفيد ظنًا؛ وهذا لا ينفعك في هذه المسائلة، فإن القرب بالطعم لا نسلم أنه مفيد ظنًا.

قلنا: وليس من غرضنا عين هذه المسئلة، بل غرضنا: إقامة البرهان على جواز إعلام الحكم بصفة لا تتناسب، يقع -بالمقاربة والمشاركة فيها -الاشتراك في الحكم؛ وقد حصل الغرض. ثم طريق تقرير الظن في هذه المسألة: أن نبين أنه لا علامة، تقدر حاصرة أو جامعة، للتمر والزبيب - إلا القوات والكيل والمالية والطعم، وقد بطل الكل إلا الطعم، أو ترجح الطعم: فصار أولى، وإذا سلك هذا المسلك حصل الظن، وعند ذلك تجوز الفتوى به والعمل عليه. وقد تقررت القاعدة؛ فما من أصل إلا ويقاربه ما هو في معناه؛ علماً، أو ما هو في معناه: ظناً، وكل ذلك: لمشاركته إياه في علامة معلومة أو مظنونة؛ فإن لم يوجد ذلك، اقتصر على النص: إذا من النصوص ما لا يتعدي حكمها؛ إذ لا يوجد ما هو في معناها، أما الزبيب، فقد علم أنه في معناه: قبل أن تتعين العلامة؛ لأنه كيفما تصور [في العقل] العلامة، وقد قال النبي -عليه السلام -: ((من أعتق شركا له في عبد: قوم عليه الباقي)، فالعبد معلوم باسمه، وعلم أن الأمة في معناه قبل أن نتبين حد العلة والعلامة الحاصرة؛ ولو أعتق نصفًا من عبد يملك

جميعه: لم يقوم عليه، ولم يكن ما عتقه مسمى باسم الشركة؛ ولكن نعلم أنه يعتق وأنه في معناه؛ ولو أعتق نصفًا معينًا من عبده، أو عضوا كيده أو رجله- غلب على الظن أن بعض العبد في معنى بعضه؛ شائعًا كان أو معينًا، كما كان نصف العبد الخالص في الملك: في معني النصف الممزوج بملك الغير. ولكن ذلك معلوم، وهذا مظنون. وإنما ينكشف هذا الظن بأن نبين أن لكون [المضاف إليه محلًا قابلًا] لسائر التصرفات -أثرا في سريان العتق، فينقطع ما ظناه، أو نبطل عليه ما ذكره، فسلم الظن الأول. وكل وصف لا يناسب وعلامة شبهية ظهرت أولًا، فهي على خطر الانمحاق بمعني تقابل به [هو أظهر] أو أولى منه؛ وكذلك كل مناسب يظهر أولًا، فهو على هذا الخطر، وذلك لا يدل على بطلان جنسه. وإذا انتهي الكلام إلى هذا المنتهي، فلو تحدينا وادعينا أن القول بالشبه قطعي في فن الأصول: لم نبعد؛ إذا بان على القطع أن غالب الظن متبع، وبان في العقل جواز استفادة [الظن من نوع من القرب

لا يناسب، كما جاز استفادة] العلم منه، وإنما الغموض في أحاد المسائل: لتعارض الصفات الجامعة والفارقة فيها، وعسر مدارك الترجيح في بعضها، وإلا فالقول بهذا الجنس يترقي إلى رتبة القطعيات، بالتقرير الذي [كنا] ذكرناه. فإن قال قائل: فنبهونا على طريق سير العلامات الفارقة الجامعة عند تعارضها، وطريق ترجيح البعض منها على البعض، وأهم الأمثلة مسائلة الربا: فإنها معيار النظر، وعليها تدوار الأصوليين في أمثلة العلل؛ وهي من أغمض المسائل. قلنا: الطريق فيه أن نردد النظر بين الطعم والكيل أولًا، ونقول: التعليل بالكيل باطل لوجهين، أشار الشافعي إليهما: أحدهما: أن الكيل مثل الوزن؛ والتعليل بالوزن باطل: لأنه لو علل به، لوجب تحريم بيع الموزون بالموزون نساء، كما حرم بيع المكيل بالمكيل، وكل جنسين مختلفين اشتركا في العلة.

والإجماع منعقد على جواز إسلام النقدين في الأشياء الموزونة من النحاس والرصاص والزعفران وغيرها، وبهذا المسلك، عرفنا وجوب التعليل لحكم الربا، إذا لو اقتصرنا على موجب الاسم، لقلنا بامتناع إسلام الدراهم [في] الموزونات، فإنه قال عليه السلام عقيب ذكر الأشياء الستة الستة: ((فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد)). وهذا يقتضي تحريم إسلام النقدين في الأشياء الأربعة، كما اقتضي تحريم إسلام أحد النقدين في الآخر، وأحد الأشياء الأربعة في الباقيات، ولا دليل -من حيث اللفظ -يوجب تقاطع النقدين عن الأشياء الأربعة؛ [فدل على] الرجوع إلى التعليل، وإنما معناه: فإذا اختلف الجنسان من هذه الجملة المشتركة في علامة الربا، لا من هذه الجملة المعلومة باسمها وصورتها، وهذا الإجماع نص في وجوب البحث عن العلة، والتجاوز

عن موجب اللفظ، وكيف يتماري فيه منصف مع قول أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه -: أن الناس ليقولون: أن عمر أعرف الناس بأبواب الربا؛ ولو كنت عالماً بها: لكان أحب إلى من حمر النعم؛ وإن الربا من آخر ما نزل على النبي صلي الله عليه وسلم، فمات [قبل أن] يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة))، ولو كان الحكم يقتصر على المسميات: لما خفي على العوام؛ [فكيف عمر] مع ما اشتمل عليه اللفظ من التفصيل والتعديد، فكيف ينتهي أشكاله إلى أن ينسب عمر إلى الاختصاص بدركه من بين كافة الصحابة: وهم الغواصون في علم الشريعة، والمجتهدون في مصادرها ومواردها؟ وغرضنا الآن بطلان التعليل بالوزن، مع انعقاد الإجماع على إسلام النقدين في الموزونات. فإن قالوا: السلم محرم بالإجماع في الثمنية أو المثمنية؛ كان ذلك تحكماً مستحدثاً [لا أصل له] دعاهم إلى ذلك مساق مذهبهم،

ولا مستند له، وإن زعموا أنا فهمنا ذلك من الإجماع، قلنا: وهلا فهمتم من الإجماع اختصاص النقدين بعلتهما، كما فهمناه حتى لا تخرجوا إلى الضبط بالثمنية والثمنية؟ الوجه الثاني للإبطال، هو: أن التعليل بالكيل يوجب إخراج الحفنة [والحفنتين] عن حكم الربا؛ وإخراج الحلي عن ذلك، والربا جار فيهما بحكم النقص. قال الشافعي: وما ناقض الشبه فهو المنتقض دون الشبه؛ إذا موجب الشبه جريان الربا في كل ما باسم البر والذهب، وذلك جار في القليل والحلي؛ والعجب أنهم أخرجوا القليل وأدرجوا الحلي وخاتم [54 - ب] الفضة، ولم يطردوا ذلك في خواتم الحديد، فبه عرف تناقض هذا الأصل. فإن قيل: أبو حنيفة أساء [في] التفريغ؛ فيمكن التعليل بالكيل وطرده في الجنس، وإجراء الربا في الحفنة، وذلك لا يدل على أن الكيل غير صالح. قلنا: لا، بل استد في التفريع؛ فإنه أراد بالكيل والوزن

اعتبارهما لا إمكانهما، حتى قال أبو يوسف: كل مصر لا يوزن فيه اللحم، فلا بأس بطابق طابقين، والحفنة والخواتم لا يعتاد فيه التقدير، فلو قيل: أنه من جنس المقدر، لتعددت العلة، ولكانت العلة في الكثير أنه مقدر، وفي القليل: أنه من جنس المقدر، ولكان كقولنا: [أن كثير] الخمر محرم بعلة الإسكار، والقليل بعلة كونه داعيًا إلى السكر؛ وهما علتان: إحداهما خفية ضعيفة، والأخرى قوية، وتقسيم البر بتعدد علته، محال لا وجه له، فهذان وجهان لإبطال مذهبه، وقد أشار الشافعي إلى وجهين آخرين، يصلحان للترجيح، لا [للا] بطال: أحدهما: أن الطعم مقصود هذه الأشياء، ولأجه فطرت وخلقت؛

ولما ظهر مقصودها شح الناس عليها: فباعوها مقدرًا لا جزافًا، فتقدير المقصود الخاص علامة، أولى من تقدير ما يجري مجري العاصم للمقصود، والدراهم والدنانير متميزة بمقصودها الخاص: الذي لا يعدلهما [فيه] غيرهما؛ فكون الخاصة علامة للحكم - أغلب على الظن من العدول إلى الوزن المعرف للمقدار، لأجل المشاحة في المعاملات. الثاني: أن الكيل علامة الإباحة، فيبعد أن يكون علامة التحريم وان اختلف محله، ونحن قد عددنا علامة الإباحة وعلامة التحريم؛ وإحالة تضاد الأحكام على اختلاف العلامات أغلب على الظن من إحالتها على اختلاف المحال، مع اتحاد العلامة. وقد ترجح أيضًا بتأييده بقوله -عليه السلام -: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام)). والعبارة المحررة لأصحابنا في الترجيح معروفة؛ وهي: أن علتنا سلمت عن المعارضة والمناقضة، واستندت إلى عموم أسمها، ولم تخرج عن حكم أصلها، ولم تتناقض في نفسها، وقد استقصي ذلك في التعاليق.

[فلسنا للأطناب فيه، وإنما الغرض التنبيه على طريقه؛ فإن الترجيح من المسالك الجارية في هذه المسئلة المتعينة فيها: في بعض أطرافها]. فإن قيل: [تأيدت] علتهم بقوله -عليه السلام -: ((إلا كيلا بكيل)). قلنا: ذلك مذكور للخلاص [من الربا]؛ وهو معتبر علامة للخلاص والإباحة. فإن قيل: إيجاب المماثلة -في القابل للمماثلة -أولى؛ فليعلم الشرط بإمكان حصوله، فللكيل والجنسية تأثير في إظهار محل الحكم؛ فهو أولى بأن يجعل علامة عليه. ولأن الربا شرع مقرونًا بالخلاص، وفي التعليل بالطعم إجراؤه في السفرجل والبطيخ وما لا خلاص فيه. قلنا: لهذا، ضم الشافعي في قول الكيل إلى الطعم، واعتبر اجتماعهما، وقال: قول ابن المسيب في هذا من أصح الأقاويل كما سبق نقله. وهذا قول قوي جامع لجميع أطراف الكلام، فتكون العلامة -على هذا القول -اجتماع الأمرين. ولعله رجع في الجديد عن هذا؛ لأنه وردت أخبار في الربا في حلي الذهب، والخرز الذي يباع عددًا. فقد علم النبي -عليه السلام -طريق بيعه: في عقد اشتمل على خرز الذهب

واللآلئ وذكرت الفضة في مسائلة مد عجوة، فعرف به أن المقصود هو المتبع، دون التقدير، وقد قررنا وجه ذلك في مسائلة الحفنة. فإن قيل: فتدواركم على المقصود الخاص، تنبيه على متانة طريق مالك -رضي الله عنه -في التعليل بالقوت: فإنه الأخص. قلنا: [لولا ورود] الملح: لكان التعليل به أخص، ولكن عدل الشافعي عنه لأجل الملح. فأما قوله: ما يستصلح به القوت [قوت]، ففاسد: لأنه

لا يخلو أما أن يكون علة على حيالها كالنقدية، فيلزم [على مسافة] جواز أسلام البر في الملح، وهو خلاف الإجماع، أو يقال: هو يرجع إلى القوت لاتصاله به بطريق الاستصلاح، وذلك يلزم أن يعدي إلى الحطب والتنور وما يتصل بإصلاح القوت؛ ومهما تعدي إلى ذلك على تبعية القوت، فتعديته إلى الفواكه التي تسد مسد القوت، وإلى الآدام التي تقع تبعًا للقوت: كاللحم وغيره -أولى. وعند ذلك يتداعي إلى القول بالطعم. وإذا قال: للملح خاصية ليست لغيره، قلنا: أن لم يكون هو القوت فهو علة أخرى، فليجز إسلام الأشياء الثلاثة فيه، كما جاز إسلام النقدين في الأشياء الأربعة [55 - أ] وهو خلاف الإجماع، فلولا الملح لكان ما ذكره مالك أولى وأخص. وعلى الجملة: تعليل الأشياء الأربعة بعلة واحدة، أولى: فإنه إذا [كثرت الأصول، كان ككثرة الشواهد، فإذا] اشتركت في الطعم، كان الطعم مشهوداً له من جهة الملح أيضاً، فهذا يتبين بطريق الترجيح. فإن قيل: فليكن تعليل أبي حنيفة بالتقدير للأشياء الستة

أولى؛ أو ليكن تعليل ابن الماجشون بالمالية أولى. قلنا: الوزن غير الكيل عند أبي حنيفة، كما ذكرناه، وإنما التقدير عبارة شاملة؛ ولذلك لم يتعد إلى الذرع والعد، وهو نوع تقدير، وأما [مالية ابن الماجشون] فهي أوسع الصفات وأعمها، وأبعدها عن الخاصية المقصودة، وهو مضطر إلى تجويز إسلام النقدين في غيرهما؛ وفيه التفريق في العلة، وعلى لجملة: لا تلغي أخص الصفات -مع صلاحها -بالأعم؛ فهو ليس آخذاً مذهبه من الشبه والعلامة؛ ولعله يأخذ من المنع من اجتاح المال وتفويته من غير منة ومجمدة ومثوبة، وإليه ترجع مقابلة الشيء بمثله؛ ثم يعتذر عن الجيد بالردئ، بما اعتذر أبو حنيفة به: من إسقاطه قيمة الجودة. فإن قيل: فهلا جمعتم بين هذه العلل؟ قلنا: اعتذر ابن سريج عن هذا: بأن ذلك يخرجنا عن قول العلماء، وسنذكر مستند قول العلماء، فإن التعليل - في مثل هذا المقام - بعلتين، غير جائز إلا أن يجعل الجميع علة؛ كما قال الشافعي في قول: أن العلة هي الطعم مع التقدير؛ وقال مالك: القوت، وفيه الجمع بين الكل.

القول في بيان الفارق بين الشبه والطرد فإن قال قائل: رجع حاصل نظركم -في القاعدة السابقة -إلى أن الوصف الذي لا يناسب، يجوز أن يكون علامة على الحكم؛ وزعمتم: أنها علامة متضمنة لوجه المصلحة وملتزمة لها، وإن كان لا يطلع على وجه المصلحة، فما الفرق بين ذلك وبين الوصف الطردي الذي اتفق المحققون على رده، مع الاعتراف بأن كل واحد منهما ينفك عن المناسبة بنفسه وإنما يتوهم اشتماله على مناسبة خفية، وقضية مصلحية: غابت عنا، وما من وصف طردي إلا ويمكن أن تدعي فيه هذه القضية، فكيف يتميز عن الطرد المردود، مع الاستواء في هذه الخاصية؟ قلنا: هذه غمرة عظيمة خاض فيها فريق: فدرات رؤوسهم، وخارت عقولهم، ولم يحصلوا على طائل، فمن طلب ما لم يخلق، تعب ولم يرزق؛ فإنهم التمسوا فرقًا بين الطرد والشبه [بأمر] يرجع إلى تمييز أحدهما عن الآخر، بوصف [في] ذاته، وأنشئ، لا يتميز عن جنسه ومثله، بوصف يرجع إلى ذاته، وها نحن نكشف الغطاء عن هذا السر، ونقول: الأحكام أنما تظهر -في حقنا -بعلامات منصوبة عليها؛ والعلامات للأحكام تنقسم: إلى الأسامي اللغوية، وإلى الأوصاف الزائدة على الأسامي. فأما المسميات المعلومة بعلامة الأسامي فهي التي يقتصر فيها

على مورد النص، ولا حاجة في بيانها إلى أطناب. وأما المعلومات بعلامات زائدة على الأسامي، فهي التي يقال فيها: أنها قياسية، وتلك العلامات تنقسم: إلى ما يناسب الحكم في ذاتها، على ما أوضحنا معني المناسبة، وإلى ما لا يناسب، ويعرف كونه علامة بالطرق أنتي ذكرناها في علة الربا. فما يناسب كله جنس واحد، يندرج تحته الشعب المنتشرة التي قدمناها. وما لا يناسب -أيضًا- كله جنس واحد: من حيث الذات والنفس؛ وهو متناول لما سماه المسمون: شبهاً، ولما سموه: طرداً، أيضاً، فلا فرق بين الشبه والطرد، عند النظر إلى ذات الأوصاف التي لا تناسب الأحكام. [فالكيل والقوت والطعم] كله طرد في لغة هؤلاء واصطلاحهم؛ وإن سموه شبهاً: فلا حرج في الإطلاق، وإنما الغرض بيان أن الوصف الذي لا يناسب جنس واحد بالنظر إلى ذاته، فطلب الفرق بتمييز البعض عن البعض بالجنسية، طلب لما لا ينال أبد الدهر. فإن قال قائل: كيف تنكرون هذا الفرق: وأنتم مضطرون إلى الاعتراف بأن كل وصف من الأوصاف وجد مع الحكم، لا يجوز أن يعلل الحكم به، وأن يجعل علامة عليه، ويتبع في إثبات الحكم ونفه؛ بل هو منقسم: إلى ما يصلح الاعتماد، وإلى ما لا يصلح؟ فما الفيصل الفارق؟ وقد سامحناكم بحذف لفظ الطرد والشبه. قلنا: نعم؛ الأوصاف التي لا تناسب -أيضًا -تنقسم [55 - ب] إلى [ما تصلح للاعتماد عليها، وإلى ما لا تصلح]؛ كما أن المناسب أيضًا

ينقسم: إلى ما يصلح للاعتماد وإلى ما لا يصلح، ولكن ليس انقسامه لافتراق راجع إلى الذات؛ وإنما هو بالإضافة إلى السلامة عن المعارضة بما [نقول: أنه] أولى منه؛ وإلى عدم السلامة عنه، وهذا يستوي فيه المناسب وغير المناسب. وإيضاحه [هو]: بأن نقسم الكلام ونجربه في طرفين؛ أحدهما: فيما يعتمده المجتهد، ويجوز له أن يفتي به والآخر: فيما يسمع من المعلل، ويسوغ له الاقتصار عليه في مبتدأ التعليل، إلى أن يستنزل عنه بالاعتراض والمعارضة بما هو أولى منه. أما المجتهد، فلا يحل له الاعتماد على مجرد ظهور الوصف الذي لا يناسب، ما لم يسبر سائل الأوصاف سبراً حاصراً: من حيث الإمكان والاستطاعة في حق المجتهد، وما لم يقابل الوصف الذي ظهر هل أولاً بسائر الأوصاف، فإذا قابله بها، وأبطل جميعها أو رجح ما ظهر أولاً على غيرها - على ما ذكرناه في مسئلة علة [الربا]-حل له الاعتماد عليه: في العمل والفتوى، وهذا السبر -أيضاً -واجب [عليه] في المناسب؛ فإنا سنبين أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلتين مناسبتين: عرفنا

بشهادة الحكم، فلا بد أن تبطل سائر الأقسام، إذا لو ظهر مناسب أقوى مما ظهر أولًا: لصار الأول بالإضافة إلى الثاني كالطرد المهجور، ولذلك لم يلتفت إلى سلامته عن النقض والمعارضة وغيره. وكذلك لا بد من استقصاء السبر في الأوصاف التي لا تناسب، فإن ظهر وصف لا يناسب فبحث وسبر، فعثر على مناسب -انمحق الوصف الأول واضمحل؛ وإن لم يعثر على مناسب، ولكن عثر على وصف آخر لا يناسب - وهو أمس للمقصود، وأخص منه بالغرض -انمحق الأول وبطل، كما ذكرناه في الطعم بالإضافة إلى الكيل. فإذًا: كل وصف ظهر وسلم -بعد السبر -عن البطلان بظهور ما هو أولى منه، جاز الاعتماد عليه، وهو الذي عبر عنه: بالشبه. وكان وصف ظهر أولًا، ولكن ظهر في مقابلته وصف آخر -أما على البديهة أو بالتأمل -هو أولى وأخص من الأول: فالأول لا يجوز الاعتماد عليه، وهو الذي يعبر عنه: بالطرد، فرجع الافتراق بين القسمين، إلى الإضافة، لا إلى الذات، وهذا الافتراض جار في المناسبات. فلأجل هذا، رأينا أن نهجر عبارة الطرد والشبه: كيلا نخيل افتراقا من حيث الذات؛ فإن فهم ما إليه رجع الافتراق، فلا حرج بعده في الإطلاقات، والاصطلاحات بالتعريفات.

وعبارة الشبه [أيضًا] مستكرهة من وجه آخر، وهو: أنا قد بينا أن ذلك لا يقوم إلا بفرع وأصل؛ وأنا نعلل النقدين بالنقدية القاصرة، ونظن أنها هي الصفة الملتزمة المتضمنة للمصلحة الخفية الغائبة عنا، ولا فرع لهذا الأصل، وسنذكر ما نريده بالعلة القاصرة، وندرأ عنه [اعتراض الخصوم، واستبعادهم] وقد تبين أن الوصف الذي لا يناسب جنس واحد، وأن ظهور الفرق: بالإضافة؛ فالكيل يظهر أولًا: فيظن أنه علامة؛ فيظهر الطعم -بالطريق الذي ذكرناه -ويصير أولى منه؛ فينقلب الكيل ساقطًا مطرحًا؛ وقد يعبر عنه: بالطرد، وعن الطعم - الذي صار أولى-: بالشبه، وقد يظهر بالتأمل للناظر في الطعم ويطرحه، ويعبر عنه: بالطرد، وعن القوت: بالشبه، ثم قد يتبين له بطلان القوت بالملح كما سبق، فينعطف إلى الطعم ويقول: هو الوصف المعتبر الذي يغلب على الظن كونه علامة؛ ويجعل القوت طردًا مهجورًا. ولا فرق بين هذه الأوصاف الثلاثة: من حيث الذات؛ وإنما

افترقت: بالإضافات، فلهذا استكرهنا عبارة الطرد والشبه: فإنه يوهم جنسين مختلفين، ولا اختلاف: إذ الطارد يزعم أنه شبه بين الفرع والأصل، بما ذكره من الوصف؛ وتسميته شبهًا -بهذا التأويل -صحيح، والمشبه يسمي: طاردًا، من حيث أنه أتي بوصف لا يناسب، وتسميته طاردًا -بهذا التأويل -صحيح. فلم يكن [لفظ] الطرد والشبه إلا مشوشًا ومعميًا لمقصود الكلام؛ فوجب اطراحه والقول بأن الأوصاف تنقسم إلى [ما يناسب] وإلى [ما لا يناسب]؛ وغير المناسب ينقسم إلى ما يسلم عن المعارضة [56 - أ] بعلامة هي أولى منه؛ فيصلح لاعتماد المجتهد [عليه] بعد البر؛ وإلى ما لا يسلم عن وصف هو أولى منه، وهذا ينقسم فمنه: ما يكون قرب وصف آخر معلوماً بالبديهة، [ومنه: ما يعلم بالنظر. فما يعلم بعده، وقرب غيره، وكونه أولى منه بالديهة]-فهو: الطرد القبيح الذي لا يتصور أن يكون معول مجتهد. وما يعلم كون غيره أولى منه بالتأمل، يتصور أن يختلف في العثور عليه المجتهدون بحسب اختلاف قرائحهم؛ فيسميه من لم يعثر على

الأولى: شبهاً، ومن عثر على الأولى يسمي الآخر: طردًا. فإن قيل: فهلا حددتم الوصف المعتمد -الذي عبر عنه فريق بالشبه -[بالوصف] الخاص، أو بالمقصود - كما قاله المعبرون - لتمييز الشبه عن الطرد؟ قلنا: لأن الخاص إضافة؛ فالشيء يكون خاصاً: بالإضافة إلى شيء، عاماً: بالإضافة إلى غيره، فالطعم خاص بالإضافة إلى المالية، عام بالإضافة إلى القوت، والقوت خاص بالإضافة إلى الطعم، عام بالإضافة إلى الذات المسمي باسم البر والتمر، والأخص غير مشروط بالاتفاق عند القائلين بالشبه؛ فإن الأخص في النقدين: النقدية؛ ولم يبطل الوزن بالإضافة إليه لأنه أعم: إذا لو بطل لذلك، لبطل الطعم بالإضافة إلى القوت: لأنه أعم. وأما المقصود فليس يشترط في صحة التشبيه -عند المطلقين لهذه اللفظة -أن يقع التشبيه بالمقصود؛ وإنما يساعد ذلك في الربا، وقد يكون الشبه خلقيًا، وقد يكون حكميًا؛ فكيف يصح [حد الشبه] بهذا؟ فإن قيل: وهلا حددتموه بما حده به القاضي -رضي الله عنه -: من أنه الذي يغلب على الظن كونه في معنى الأصل؟

قلنا: لا حجر في هذه العبارات؛ وهي حاوية للمقصود إجمالًا، ولكن لا بيان فيه، فلم يشكل إلا تمييز الوصف: الذي يغلب على الظن الاشتراك [فيه الاشتراك] في الحكم؛ عن الوصف: الذي لا يغلب -بحد فاصل، ومعيار صادق: نرتفع به المنازعات، وهذه عبارة متسعة تشمل جميع أنواع القياس. ونحن الآن في طلب الوصف الذي يغلب، وتمييزه عما لا يغلب؛ أهو متميز [بذاته]؟ أم بالإضافة؟ فأقول: إذا كان الكل لا يناسب، فالتمييز: بالإضافة التي ذكرناها. فإن قيل: فهلا حددتموه: بأنه الوصف ال