الأحد، 28 مايو 2023

كتاب محك النظر في المنطق لأبي حامد الغزالي +كتاب كتاب معيار العلم في فن المنطق له ايضا

محك النظر في المنطق لأبي حامد الغزالي

مقدمة تحصر مقصود الكتاب وترتيبه وأقسامه اعلم أنك إن التمست شرط القياس الصحيح والحد الصحيح والتنبيه على مثارات الغلط فيها وقفت للجمع بين الأمرين، فإنها رباط العلوم كلها. فإن العلوم إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر المفردات وإدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى البعض بالنفي والإثبات. فإنك تعلم أولاً معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضاً أمران مفردان، ثم تنسب مفرداً إلى مفرد بالنفي كما تنسب القِدم إلى العالم بالنفي، فتقول ليس العالم قديماً وتنسب الحادث إليه بالإِثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التكذيب والتصديق، فأما الأول فلا يدخله تصديق وتكذيب، إذ يستحيل التصديق والتكذيب في المفردات بل إنما يتطرق ذلك إلى الخبر ولا ينتظم خبر إلا بمفردين موصوف ووصف، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات فلا بأس أن يُصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين. فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن يحاذي بها المعنى فلنسمِ الأول معرفة ولنسمِ الثاني علماَ، متأسين فيه بقول النحاة: إن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيداً، والظن يتعدّى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيداً عالماً. والعلم أيضاً يتعدى إلى مفعولين فتقول علمت زيداً عدلاَ ، فهو من باب الظن لا من باب المعرفة . هذا هو الوضع اللغوي وإن كانت عبارة أهل النظر بهما تخالفه في استعمال أحدهما بدلاً عن الآخر . فإذا استقر هذا الاصطلاح فنقول الإدراكات المعلومة تنحصر في المعرفة والعلم . وكل علم يتطرق إليه التصديق فمن ضرورته أن تتقدم عليه معرفتان ، فإن من لا يعلم المفرد كيف يعلم المركب ، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث . والمعرفة قسمان: أولى وهو الذي لا يطلب بالبحث كالمفردات المدركة بالحس ، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل فيطلب تفصيله . وكذلك العلم ينقسم إلى أولي وإلى مطلوب . فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس؛ وكأن طالب القياس والحد طالب الآلة التي بها تقتنص العلوم والمعارف كلها . فليكن كتابنا قسمين قسم هو محل القياس وقسم هو محل الحد .

القول في شروط القياس اعلم أن القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة أُلفت تأليفاً مخصوصاً ونُظمت نظماً مخصوصاً بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر ، والخلل يدخل عليه تارة من الأقاويل التي هي مقدمات القياس إذ تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ، ومرة منهما جميعاً . ومثاله في المحسوس البيت المبني فإنه أمر مركّب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضاً إلى موضع قريب من الأرض ، فيكون فاسداً من حيث الصورة ، وأن كانت الأحجار والجزوع وسائر الآلات صحيحة . وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الاختلال من رخاوة في الجزوع وتشعث في اللبنات . فهذا حكم القياس والحد وكل أمر مركب ، فإن الخلل فيه إما أن يكون في هيئة تركيبه وترتيبه وأما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب ، كالثوب في القميص والخشب قي الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف . وكما أن من يريد بناء بيت بعيد من الخلل يفتقر إلى أن يعذ الآلات المفردة أولاً ، كالجذوع واللبن والطين ، ثم إذا أراد اللبن يفتقر إلى إعداد مفرداته وهو الماء والتراب والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولاً بالأجزاء .المفردة فيركبها ثم يركّب المركب ، وهكذا إلى آخر العمل ، فكذلك طالب القياس ينبغي أن ينظر في نظم القياس وفي صورته وفي الأمر الذي يضع الترتيب والنظم فيه، وهي المقدمات. وأقل ما ينتظم منه قياس مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب. واقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مُخبراً عنه والأخرى خبراَ أو وصفاً. فقد انقسم القياس إلى مقدمتين، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى، وكل مفرد فهو معنى ويُدل عليه لا محالة بلفظ. فيجب ضرورة أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها. ثم إذا فهمنا اللفظ مفرداً والمعنى مفرداً ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشرطها ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياساً، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وكل من أراد أن يعرف القياس بغير هذا الطريق فقد طمع في محال، وكان كمن طمع في أن يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتبة الكلمات، أو يطمع أن يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتبة الحروف المفردة، وهكذا القول في كل مركب. فإن أجزاء المركب تتقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق العالم المركب دون الآحاد، كما لا يوصف بالقدرة على تعليم كتبة الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات والحروف، فهذه الصورة ينبغي أن تشمل كلامنا. القياس على ثلاثة فنون: • الفن الأول: في السوابق وهو النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني إلى أن تصير علماً تصديقياً يصلح أن يجعل مقدمة. • الفن الثاني: النظر في كيفية تأليف المقدمات لينصاغَ منها صحيح النظم وهو في المقاصد، فإن ما قبله استعداد له. ويشتمل هذا الفن على مدارك العلوم اليقينية الأولية التي منها التأليف ونسبتها إلى القياس نسبة الثوب إلى القميص. • الفن الثالث: في لواحق ينعطف عليها بالكشف عند الفراغ منها تبتدي بالنظر في الحدود وشروطها. الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول فصل في الألفاظ. فصل في المعاني. فصل في تأليف المعاني. حتى تصير علماَ يتطرق إليه التصديق والتكذيب. الفصل الأول: في دلالة الألفاظ على المعاني إعلم وفقك الله أن الكلام في هذا الفن يطول ولكن لا أتعرض لما أظنك مستقلاَ بإدراكه من نفسك، وأقتصر على التنبيه على تقسيمات تثور من إهمالها أغاليط كثيرة. القسم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى ينحصر في ثلاثة أوجه: وهي المطابقة والتضمن والالتزام.فإن لفظة البيت تدل على معنى البيت بطريق المطابقة، وتدل على السقف وحده بطريق التضمن. فإن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والجدران. وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم، إذ وجدنا الجسمية في الفرسية مهما قلنا فرس. فلنصطلح على تسمية هذا الوجه تضمّناً وعلى تسمية الوجه الأول مطابقة. و أما طريق الالتزام: فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط، فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ لحائط حتى يكون مطابقاً له، ولا بتضمن. إذ ليس الحائط جزءاً من السقف كما كان السقف جزءاً من نفس البيت، وكما كان الحائط جزءاً من نفس البيت، لكنه كالرفيق اللازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه، فدلالته على نمط أخر. فلنخترع له لفظاً آخر وهو الالتزام والاستتباع. و إياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام أو تمكن خصمك بل اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة أو التضمن. فإن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حدٍ، إذ الحائط يلزم السقف والأس يلزم الحائط والأرض تلزم الأس ويتداعى هذا إلى غير نهاية. القسم الثاني: إن اللفظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله ينقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة نسميه معيناً و إلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد نسقيه مطلقاً، مثال الأول قولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة، فإنه لا يدل إلا على شخص معيّن، وكذلك قولك هذا السواد وهذه الحركة وحده إنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه. فإن قصد اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهوم اللفظ من وقوع الاشتراك في معناه، كقولك السواد والحركة والإنسان، وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس. وقد يسقى لفظاً عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه. فاعلم أن هذا الوهم غلط فان امتناع الشركة هاهنا ليس لنفس اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عدداً لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ يل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل فتأمل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة في النظريات من حيث لا يدري. القسم الثالث: إن الألفاظ المتعدّدة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل، فلنخترع لها أربعة ألفاظ: وفي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة. أما المترادفة: فنعني بها الألفاظ المختلفة في الصيغة المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب، وبالجملة كل إسمين عبّرت بهما عن معنى واحد فهما مترادفان. وأما المتباينة: فنعني بها الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والشجر والأرض وسائر الأسامي، وهي الأكثر. وأما المتواطئة: فهي الأسامي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متّفقة بالمعنى الذي وضع له، كاسم الرجل فإنه يطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد وكاسم الجسم فإنه يطلق على الإنسان والسماء والأرض لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع بإزائها. فكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فانه يُطلق على آحاد مسمّياته الكثيرة بطريق التواطئ. فاسم اللون للبياض والسواد بطريق التواطئ، فأنها متفقة في المعنى الذي سُقي به اللون لوناً وليس بطريق الاشتراك البتة. وأما المشتركة: فهي الأسامي التي تُطلق على، مسمّيات مختلفة لا تشترك بالحد والحقيقة، كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي ينفجر منه الماء، وهي العين الفوَّارة، وللذهب والشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع والكوكب الذي هو في السماء المعدود عند المنجمين من السعود. ولقد ثار من التباس المشتركة بالمتواطئة غلطٌ كثير في العقليات، حتى ظن جماعة من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من الإسم، وأن ذلك كمشاركة الذهب للحدقة إلباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل البيع للكوكب في اسم المشتري. وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنزد له شرطاً. ونقول الإسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرنا وقد بدل على المتضادين ولا شركة بينهما البتة، كالجليل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض، وأيضاً المشترك قد يكون مشككاً قريب الشبه من المتواطئ ويعسر الفرق على الذهن وإن كان في غاية الصفاء، ولنسّم ذلك متشابهاً، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء الذي يدرك بحاسة البصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدي في الغوامض ولا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونه جسما، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان، فإنه بالاشتراك المحض، إذ يُراد به من النبات المعنى الذي به نماؤه ويُراد به من الحيوان المعنى الذي به يحسّ ويتحرك بالإِرادة وإطلاقه على الباري جلَّ وعلا إذا تأملت عرفت بأنه لوجه ثالث يخالف الأمرين جميعا. وأمثال هذه ينابيع الأغاليط وساشرحه زيادة شرح في اللواحق عند حصر مدارك الغلط في القياس. "مغلطة أخرى" قد تلتبس المتباينة بالمترادفة وذلك مهما أطلقت أسامي مختلفة على شيء ولكن باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهنّد والصارم، فإن المهنّد يدلّ على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند، يخالف إذاً مفهومه مفهوم السيف والصارم والصارمُ يدلّ على السيف مع صفة الحدة والقطع، لا كالليث والأسد فإن ثبت ان الليث يدل على صفة ليست في الأسد التحق بالمتباينة ولم يكن مع المترادفة، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نفتكر إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبديل اعتباراته، كما إنا نسمّي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدّى به المتحدّي ولم يكن عليه برهان وكان في مقابلة القائل خصم فان لم يكن في مقابلته خصم سقيناه قضية لأنه قض على شيء بشيء، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سقيناه نتيجة، فإن استعمله دليلاً في طلب آمر آخر ورتّبه في أجزاء قياس سقيناه مقدمة وهذا ونظائره مما يذكر كثير. "مغلطة أخرى" المشترك في الأصل هو الاسم الذي يعبّر به عن مسميين لا يكون موضوعا لأحدهما ومستعارا منه للآخر أو منقولاً منه إلى الآخر بل لا يكون أحدهما بأن يجعل أصلا والأخر منقولاً إليه أو مستعاراً منه باولى من نقيضه كلفظ المشتري، إذ لا يمكن أن يقال استعير الكوكب من العاقد أو العاقد من الكوكب أو وضع لأحدهما أولاَ ثم حدث الثاني بعده.، وكذلك لفظ المفعول والفاعل فيما لا يختلف تصريفه كقولك اختار يختار اختياراً فهو مختار وذلك مختار، فالفاعل والمفعول لهما صيغة واحدة وليس اللفظ بأحدهما هو أولى من الآخر، وليس كذلك لفظ الأم ل (حوّاء) فإنها أم البشر، والأرض فإنها تسقى أم البشر ولكن الأول بالوضع والثاني بالاستعارة. ولا كذلك الألفاظ التي نقلت وغيّرت كلفظ المنافق والفاسق والكافر والملحد والصوم والصلاة وسائر الألفاظ الشرعية فإنها مشتركة لأمرين مختلفين، ولكن لبعضها أول ولبعضها ثان، أي منقول من البعض إلى البعض. فالأول منقول عنه والثاني منقول إليه. وقد حصل مقصود الاشتراك وإن كان على الترتيب، كما حصل في لفظ العاقد والكوكب وإن لم يكن على الترتيب، مثال الغلط في المشترك حتى تستدل به على غيره إن الحال ليس يحتمل استقصاء هذه المفاضة. م أما سمعت الشافعي رضي الله عنه في مسألة لمُكره يقول يُلزمُ القَصاص لأنه مُكْرَه مختار. ويكاد الذهن ينبو عن التصديق بالضدين فإنه محال. فنرى الفقهاءَ يعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله و إنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك، إذ قد يحمل لفظ المختار مرادفاً للفظ القادر ومساوياً له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة، كالمحمول فنقول هذا عاجز محمول هذا مختار قادر ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل والترك، وهذا يصدق على المُكرَه. وقد يعبر بالمختار عمّن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته ولا تحرر دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المُكرَه ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق أنه مختار وصدق أنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت. ولهذا نظائر في النظريات لا تحص تاهت بسببها عقول الضعفاء فاستدل بهذا اليسير على الكثير. فإن الخال ليس يحتمل التطويل وأقنع بهذا القدر من النظر في دلالات الألفاظ و إن كان فيها مباحث سواه.

الفصل الثاني: في النظر في المعاني المفردة ولنقتصر فيه على ثلاث تقسيمات جلية:

التقسيم الأول: إن المعاني التي يُدَلُ عليها بالألفاظ إذا نُسِبَ بعضها إلى بعض وُجِدَ إما مساوياَ لها وإما أعم منها و إما أخصّ منها، وهذا ممّا يحتاج إلى معرفته في القياس. فإذا نسبت الجسم إلى المتحيز وجدته مساويا لا يزيد ولا ينقص، إذ كل جسم متحيز وكل متحيّز جسم، هذا على رأي من يقول إن كل متحيز منقسم. وأما نحن فننسب التحيّز إلى الجوهر فنرى التحيز مساويا له. وأما إذا نسبنا الوجود إلى الجسم وجدناه أعم منه، فربّ موجود ليس بجسم. وأما إذا نسبنا الحركة إلى الجسم وجدناها أخص منه، مربّ جسم ليس بمتحرك بالفعل كالأرض عند عدم الزلزلة. التقسيم الثاني: المعنى إذا نسب إلى المعنى وجدناه إما ذاتياً له ويُسقى صفة النفس وإما لازماً ويُسقى وصفاً لازماَ وإما عارضاً له لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بدّ من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في القياس والحد جميعاً. أما الذاتي: فإني أعني به كل شيء داخل في حقيقة الشيء وماهيته دخولاً لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد وكالجسمية في الفرس والشجر. فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصاً. فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولاً به قِوامها في الوجود والعقل على وجه لو قدّر عدمها لبطل وجود الشجر والفرس وما يجري هذا المجرى. ولا بدّ من إدراجه في حدّ الشيء فمن يحدّ النبات يلزمه أن يقول إنه جسم نامي لا محالة. وأما الالتزام: فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعتر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له، وأعني به أن فهم كُنه حقيقته غير موقوف على فهم ذلك، بل الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل الجسم الذي هو أعم منه، ولم يخطر بباله ذلك، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا تتصور مفارقته لها، ولكن فهم الأرض غير موقوف على كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعدُ أنهما مخلوقتان. فإنا نعلم أولاً حقيقة الجسمية ثم نطلب بالدليل كونه مخلوقاً ولم يمكنا أن نعلم السماء والأرض ما لم نعلم الجسم. وإما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العواد وسواد الزنجي، ولكن يمكن رفعه في الوهم. وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا طل مانع نور الشمس فلازم لا تتصور مفارقته. ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاؤه في هذه العجالة غير ممكن البتة. التقسيم الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة. ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى تتميز به الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر به، وإذا بطل ذلك من الأعمى بطل الإبصار، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغه وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلاً وينفي الحالة المسمّاة إبصاراً، ولما كنت تحس في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفةَ بها تهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشؤه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل. ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانياً كرؤيته له أولا، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمى عقلاً، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهراً قائماً بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيلات مباين لإِدراك التخيّل مباينة اشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطاً لبقاء الإبصار ولم يكن شرطاً لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبُعدٍ منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البُعد وذلك الشكل والوضع، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تُسمى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان، وربما ركب شخصاً نصفه من إنسان ونصفه من فرس، وربما صور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدَّه وصورة الطيران وحدّه، وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياءَ لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بُعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد صغيراً كان أو كبيراً، و إنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلاً فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نطره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية و غيرهما، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما، فإذا رأى فرساً واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزهاً عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتياً بل عارضاً أو لازماً في الوجود، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وتاهت عقولهم، والعجب انه أول منزل ينفصل به المعقول عن المحسوس. إذ من ها هنا يأخذ العقل ألإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يُرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكاً في مجرد الاسم كاشتراك العائد والكوكب في اسم المشتري، وان هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصّة فإن كشف غطائها يقرع أبواباً مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار. الفصل الثالث: من فن السوابق في أحكام السوابق المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرق إليه التصديق والتكذيب كقولنا مثلاً العالم حادث والبارئ تعالى قديم، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات، فإن قلت العالم ليس بقديم والباري ليس بحادث كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزئين يُسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبراً، ويُسمي المتكلمون أحدهما موصوفاً والآخر صفة، ويُسمي الفقهاء أحدهما حكماً والآخر محكوماً عليه، ويُسمي المنطقيون أحدهما موضوعاً وهو المخبر عنه والآخر محمولاً وهو الخبر، ولنصطلح نحن على تسمية الفقهاء فنسمّيهما حكماً ومحكوماً عليه ولنسمِّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضية ولنسميهما إذا استعملناهما في سياق قياس مقدمةً، فإذا استفدناهما من قياس نتيجةً. وما دام غير مستنتج من القياس دعوى إن كان لنا خصم ومطلوباً إن لم يكن لنا خصم. فإن هذه الاصطلاحات إذا لم تتحرر اختبطت المخاطبات والتعليمات بل ربما اضطرب الفكر على الناظر المنفرد بنفسه. فإن فكر الناظر أيضاً لا ينتظم إلا بألفاظ وآمال يرتبها في نفسه. ولنذكر من أحكام القضايا وأقسامها ما يليق بهذا الإيجاز ويتضح الغرض بتفصيلات أربعة: التفصيل الأول إن القضية بعد انقسامها إلى النافية مثل قولنا العالم ليس بقديم وإلى المثبتة مثل قولنا العالم حادث تنقسم بالإضافة إلى المحكوم عليه إلى التعيين والخصوص والعموم والإِهمال والقضايا بهذا الاعتبار أربعة: الأولى: قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد المشار إليه باليد عرض. الثانية: قضية مطلقة خاصة كقولك بعض الناس كاتب وبعض الأجسام ساكن. الثالثة: قضية مطلقة عامة كقولك كل جسم متحيّز وكل سواد لون وكل حركة عرض. الرابعة: قضية مهملة كقولنا الإِنسان في خسر، وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عيناً مشاراً إليه أو لا يكون عيناً. فإن لم يكن عيناً فإما أن يحصر بسور بين مقداره بكلية فتكون مطلقة عامة أو بجزئية فتكون مطلقة خاصة أو لا يحصر بسور بل بمهمل. والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما، فإن سكت عنهما بقيت القضية مهملة، ومن طرق المغالطين المحتالين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة. فإن المهملات قد يعني بها الخصوص فيصدق طرف النقيض فيها إذ قد يقال ليس الإِنسان في خسر ويراد به الأنبياء والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد يقال الإِنسان في خسر ويراد به أكثر الخلق. فإياك وأن تسامح بهذا في النظريات فتغلط، ومثاله من الفقه إن طلبت استيضاحاً أن يقول الشافعي مثلاً معلوم أن المطعوم ربويّ والسفرجل مطعوم فليكن ربوياً. فإذا قيل فلِمَ قلت إن المطعوم ربوي فيقول الدليل عليه أن البُر والشعير والتمر والرز مطعومات وهي ربوية، فينبغي أن يقال له قولك العموم ربويَ أردت به كل المطعومات أو بعضها، فإن أردت به البعض لم تلزم النتيجه. إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي، ويكون هذا خللاً في نظر القياس مُخرجاً له عن كونه منتجاً كما سيأتي وجهه. وإن أردت به الكل فمن أين عرفت هذا وليس يظهر هذا بما ذكرته من البُر والشعير والتمر والرز ما لم تبتين أن كل المطعومات ربويّة، وهذا المثال وإن كان في هذا المقام واضحاً فإنه يتفق في أمثاله عند تراكم الأقيسة صور غامضة يجب الاحتراز عنها. التفصيل الثاني: إن الحكم المنسوب إلى المحكوم عليه في القضية لا يخلو عن ثلاثة أقسام: وهي الإِمكانُ والوجودُ والاستحالةُ. مثال الحكم الذي نسبته نسبة الإمكان قولك الإِنسان كاتب الإِنسان ليس بكاتب، إذ الكتابة بالإضافة في حيّز الإِمكان. ومثال الواجب قولك السواد لون والسواد ليس بلون، إذ نسبة اللون إلى السواد نسبة الوجوب والضرورة. ومثال الممتنع قولك السواد علم والسواد ليس بعلم والإنسان حجر والإِنسان ليس بحجر. فإن قلت لا استحالة في قولك الإِنسان ليس بحجر بل هو واجب ولا وجوب في قولك السواد ليس بلون بل هو ممتنع فكيف جمعت بين النفي والإِثبات؟ فاعلم أني لم أقصد ذكر الامتناع والوجوب في جملة القضية المسلّمة على الحكم والمحكوم عليه ولكني أخذت الحكم مفرداً وبيّنت نسبته إلى المحكوم عليه. ثم القضية قِد تتضمن النفي والإثبات ويكون بعضه صادقاً وبعضه كاذباً وليس الغرض ذلك. التفصيل الثالث: في بيان نقيض الفضية وهذا ممّا يحتاج إليه، إذ ربّ مطلوب لا يقوم على نفسه دليل ولكن يقوم الدليل على بطلان نقيضه فيتسلق من إبطاله إلى إثبات نقيضه، فلا بد من معرفته. وربما يظن أن نقيض القضية جلي لا يحتاج إلى البيان، ومع ذلك فإنه مثار لجملة من الأغاليط لا تحصى، فإن الأمور في أوائلها تلوح جلية ولكن إذا لم يهتم الناظر بتنقيحها وتحقيقها اعتاص عليه التفصيل بين القضيتين المتنافيتين. وأعني بالقضيتين المتنافيتين كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة، كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث، وهما قضيتان تصدق إحداهما وتكذب الأخرى، و إنما يلزم صدق إحداهما من كذب الأخرى بستة شروط. الأول: أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحداً بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد الاسم دون المعنى لم يتناقضا، كقولك النور مدركٌ بالبصر النور ليس بمدرك بالبصر، فهما صادقان إن أردت بأحدهما الضوء وبالآخر نور العقل، وكذلك لا يتناقض،قول الفقهاء المضطر مختار المضطر. ليس بمختار في مسئلة المُكْره، وقولهم المضطر آثم المضطر غير آثم إذ المضطر قد يعبّر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف. الثاني: أن يكون الحكم واحداً والإِثم متناقضاً كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم، وأردت بأحد القديمين ما أراد الله تعالى بقوله (كالعرجون القديم) وكذلك أيضاً لم يتنافى قول الخصمين المُكْره مختار والمُكْره ليس بمختار، إذ ذكرتا أن المختار عبارة عن معنيين مختلفين. الثالث: أن تتحد الإضافة قي الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقض، إذ يكون أباً لبكر ولا يكون أباً لخالد، وكذلك تقول زيد أب، زيد ابن، فيكون أباً لشخص وابناً لآخر، والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي هي نصف العشرين. وليست نصف الثلاثين. وفي النظريات الفقهية والعقلية أغاليط كثيرة هذا منشأها كقولك المرأة مولّى عليها المرأة ليس بمولّى عليها وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع و إلى العصبة والأجنبي. الرابع: أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مروٍ بالقوة وليس بمروٍ بالفعل وهما صادقتان، والسيف بالغمد صارم وليس بصارم وهما صادقتان، والفاسق شاهد وليس بشاهد. ومن هذا خلط المختلفون في أن الله تعالى في الأزل خالق وأن الله تعالى في الأزل ليس بخالق. الخامس: التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي أسود البشرة ليس بأسود الأسنان فيصدقان. وعن هذا الغلط تخيل من بعد عن التحصيل أن العالمية حال بجملة زيد إذا قلنا زيد عالم وزيد عبارة عن جملته، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد لم نرد به أنه في كل البلد بل في بعضه، وان كانت بغداد عبارة عن كل البلد. ولكن أعني بالعادة والحس بيان أن زيداً في بغداد في مكان يساوي مساحة بدنه، وكذلك أعني وضوح الأمر إذ تقول إن زيداً عالم بحر لا يجري من قلبه أو دماغه. السادس: التساوي في الزمان والمكان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث وهما صادقان، ولكنه حادث عند أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق، وتقول الصبي ينبت له أسنان الصبي لا ينبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر بعده ولا ينبغي أن نطول بتحديد الشروط والأمثلة فلنجمل له ضبطاً وهو أن القضية المناقضة هي التي تسلب مثلاً ما تثبته الأولى بعينه أو تثبت ما سلبته الأولى ونفته، وفي ذلك الوقت والمكان والحال وتلك الإضافة بعينها، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل. وكذا في الجزء والكل. ويحصل ذلك بان لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبديل النفي بالإثبات فقط هذا إذا كانت القضية قضية في عين، فإن كانت عامة زادت شريطة أخرى وهي أن تكون إحداهما عامة والأخرى خاصة ليلزم التناقض وألا يتصور أن يجتمعا في الصدق أو الكذب ولا يكون التناقض ضرورياً، فإن القضيتين العامتين في نسبة الممكنات كاذبتان، كقولنا كل إنسان كاتب لا أحد من الناس كاتب والخاصتان صادقتان، كقولك بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، فتأمل هذه الشروط واستخرج من نفسك بقية الأمثلة. التفصيل الرابع في بيان عكس القضية وهذا أيضاً يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على نفس المطلوب ويصادف على عكسه، فيمكن التوصل منه إلى المطلوب، وأعني بالعكس أن تجعل الحكم محكوماً عليه والمحكوم عليه حكماً ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضية صادقة، فعند ذلك تقول هذه قضية منعكسة، أي عكسها أيضا صادق. والقضايا بهذا الاعتبار أربع: الأولى: نافية عامة ولسنا نتكلم في قضية العين فإنها لا تستعمل في النظريات بل في الأعمال والصناعات والعادات. فالنافية العامة تنعكس مثل نفسها نافية عامة، فمهما صدق قولنا لا متحيّز واحد عرض صدق قولنا لا عرض واحد متحيز. وإذا صدق قولنا لا سواد واحد علم صدق قولنا لا علم واحد سواد، فإن ما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة. الثانية: النافية الخاصة ولا يصدق عكسها البتة، فإنك إذا قلت بعض اللون ليس بسواد لم يمكن إن تقول وبعض السواد ليس بلون و لا أمكنك أن تقول كل السواد ليس بلون. الثالثة: المثبتة العامة ولا تنعكس مثل نفسها فانك مهما قلت بعض الألوان سواد صدق قولك بعض السواد لون، فإن كون كل سواد لون لا يخرج عن الصدق قولنا بعض السواد لون ولا يلتفت إلى فحوى الخطاب فليس ذلك من مقتض وضع اللفظ وهو خارج عن غرضنا هذا و إن كان صحيحاً في موضعه. الرابعة: المثبتة الخاصة وهي تنعكس كنفسها فإنك مهما قلت بعض الجماد جسم صدق قولك بعض الجسم جماد. واقتصر من السوابق على هذا القدر فالزيادة غلبة لا تليق بحجم هذا الكتاب. الفن الثاني من محك القياس في المقاصد وهو طرفان أحدهما في نظم القياس والآخر في محك النظم وشرطه وهو المقدمات. واعلم أنى أعني بالقياس قضايا ألفت تأليفا يلزم من تسليمها بالضرورة قضية أخرى وهذا ليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها. أما النمط الأول: فنظمه من ثلاثة أوجه: النظم الأول: أن تكون العلة حكماً في إحدى المقدمتين محكوماً عليه في الأخرى، ممل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم منه أن كل جسم حادث، وقولنا في الفقه كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام. وعادة الفقهاء في الصيغة أن يقولوا النبيذ مسكر فينبغي أن يكون حراماً قياساً على الخمر، ولا ينكشف الغطاء ولا تنقطع الطالبة إلا بالنظم الذي ذكرناه. ومثل هذه الأقيسة إذا لم يمكن ردها إلى هذا النظم لم تكن النتيجة لازمة ولم تنقطع المطالبة. فإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا القياس مقدمتين. إحداهما: قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تنقسم إلى جزئين بالضرورة مبتدأ وخبر وحكم ومحكوم عليه فيكون مجموع أجزائها أربعة أمور تتكرّر في المقدمتين فتعود إلى ثلاثة بالضرورة، لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء وبطل الازدواج بينهما ولا تتولد النتيجة، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ولم تتعرض. في المقدمة الثانية: لا للنبيذ ولا للمسكر ولكن قلت والقتل حرام أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى. فبالضرورة لا بد من أن يكون أحد الأجزاء الأربعة متكررا في المقدمتين فيرجع إلى ثلاثة، فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدمتين علة وهو الذي يمكن أن يمرن بقولك لأنه في جواب المطالبة. فإنه إذا قيل لك لِمَ قلت إن النبيذ حرام فتقول لأنه مسكر ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة، ولنسمِّ ما يجري مجرى النبيذ محكوماً عليه وما يجري مجرى الحرام حكماً، فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام فنحكم على النبيذ بأنه حرام ونشتق للمقدمتين اسمين مختلفين من الأجزاء والمعاني التي تشتمل عليها لتسهل علينا الإِشارة إليهما في التفهيم والمخاطبة، ولا يمكن اشتقاق اسمين مختلفين لهما من العلّة. فإن العلة داخلة فيهما جميعاً فنشتقه من الجزئين الآخرين، فالمقدمة التي فيها تعرض للمحكوم عليه نسقيها المقدمة الأولى والتي فيها الحكم نسقيها الثانية اشتقاقاً من ترتيب أجزاء النتيجة. فإنا نقول في النتيجة فالنبيذ حرام فيكون النبيذ أولاً والحرام ثانياً. والمقدمة التي فيها المحكوم عليه لا يتصور أن يكون فيها الحكم، وهي مقدمة، والتي فيها الحكم لا يتصور أن يكون فيها المحكوم عليه، وهي مقدمة بل هما خاصتان للمقدمتين. واعلم أن النتيجة إنما تلزم من هذا القياس إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقيناً إن كان المطلوب عقلياً أو ظناً إن كان المطلوب فقهياً. فإن نازعك الخصم في قولك كل مسكر حرام فإثباته بالنقل وهو قوله "كل مسكر حرام" فإن لم تتمكن من تحقيق تلك المقدمة بحس ولا غيره ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره لم ينفعك القياس، ومهما سلّمنا لم يتصور النزاع في النتيجة البتة، بل كل عقل صدق المقدمتين فهو مضطر للتصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال. وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر فقد جعلت المسكر وصفاً فإذا قلت المسكر حرام فقد حكمت على الوصف، فبالضرورة يدخل فيه الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وبطل قولنا النبيذ حرام مع انه مسلم أنه مسكر بطل قولنا إن كل مسكر حرام، إذ ظهر لنا مسكر ليس بحرام. ومهما صدقت القضية العامة لم يمكن أن يخرج منها بعض المسقيات، وهذا النظم له شرطان حتى يكون منتجاً، شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة، فإن كانت نافية لم ينتج لأنك إذا نفيت شيئاً عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكماً على المنفي عنه، فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل، إذ وقعت المباينة بين الخل والمسكر فحكمك على المسكر بالنفي أو الإِثبات لا يتعدّى إلى الخل البتة. الشرط الثاني: أن تكون المقدمة الثانية عامة حتى يدخل بسبب عمومها المحكوم عليه فيه، فإنك لو قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربوياً، إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل بل ربما كان الربوي بعضاً اًخر، نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم حكم الربا في السفرجل، ولكن يحتاجِ إلى إثبات المقدمة بعموم قوله "لا تبيعوا الطعام بالطعام" أو بمدرك آخر، وسنذكر مدارك المقدمات في الطرف الثاني من هذا الفن، فإن قلت بماذا فارق هذا النظم النظمين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع بحيث تكون حكماً في المقدمتين أو محكوماً عليه في المقدمتين أو توضع بحيث تكون حكماً في إحدى المقدمتين محكوماً عليه في الأخرى وهذا الآخر هو النظم الأول، وهو الأوضح، فإن الثاني والثالث لا يتضح غاية الاتضاح بالبرهان المحقق إلا بالرد إليه فلذلك قدّمته وسقيته النظم الأول الأوضح. النظم الثاني: من نظم القياس أن تكون العلة، أعني المعنى المتكرر في المقدمتين حكماً في المقدمتين، أعني أن يكون خبراً فيهما ولا يكون مبتدأ في أحدهما خبراً في الآخر، ولا مبتدأً فيهما جميعاً، مثاله قولنا إن الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري ليس بمؤلف وكل جسم مؤلف فالباري ليس بجسم، فها هنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمتكرر في المقدمتين هو المؤلف فهو العلّة وتراه خبراً في المقدمتين غير مبتدأ به بخلاف المسكر في النظم الأول، إذ كان خبراً في إحداهما مبتدأً في الأخرى ووجه لزومه النتيجة يمكن تفهيمه مجملاً ومفصلاً ومحققاً. أما المجمل فهو أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر ولا يكون بينهما التقاء واتصال لا يجوز أن يخبر بأحدهما عن الآخر، فالتأليف ثابت للجسم ومنفي عن الباري، فلا يكون بين معنى الجسم والباري التقاء، فلا يقال الباري جسم ولا يقال الجسم باري. وأما بالتحقيق والتفصيل فينبغي أن يرد إلى النظم الأول بعكس المقدمة النافية. ولنعدل إلى مثال اخر تصاوناً عن ترديد لفظ الباري. فإن قول القائل إنه ليس بجسم كأنه سوء أدب كما أن قوله هو جسم كفر، فإن من قال للملك أنه ليس بحجام ولا بحائك فقد أساء الأدب إذا وهم إمكان ما صرح بنفيه، إذ لا يتعرض إلا لنفي ما له إمكان في المادة والجسمية أشد استحالة في ذاته تعالى عن قول الزائغين من الحياكة والحجامة في الملك، فنقول مثلاً الأجسام ليست أزلية، إذ كل جسم مؤلف ولا أزلي واحد مؤلف فيلزم منه لا جسم واحد أزلي، إذ صار المؤلف ثابتاً للجسم مسلوباً عن الأزلي ولا يبقى بين الأزلي والجسم ارتباط الخبر والمخبر. وتفصيله بأن تنعكس المقدمة النافية فإنها نافية عامة، وقد قدّمنا أن النافية العامة تنعكس مثل نفسها فإذا صدق قولنا ولا أزلي واحد مؤلف صدق قولنا ولا مؤلف واحد أزلي وهو عكسه، فنضيف إليه قولنا وكل جسم مؤلف فيعود إلى النظم الاول، فيكون وجه دلالته ولزوم نتيجته ما سبق. وخاصية هذا النظم أنه لا ينتح إلا القضية النافية، أما الإِثبات فلا. وأما النظم الأول فهو أكمل لأنه ينتح القضايا الأربعة، أعني المثبتة العامة والمثبتة الخاصة والنافية العامة والنافية الخاصة. ولم نفرد تفصيل هذه الآحاد استثقال التطويل فإن قلت فلمَ لا ينتج هذا النظم الإِثبات فاعلم أن هذا لا ينتج إلا النفي، ومن شرطه ان تختلف المقدمتان أيضاً في النفي والإثبات، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر، فإنا نحكم على السواد والبياض جميعاً باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد، ونظم القياس فيه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فكل سواد بياض أو كل بياض سواد واللون هو المتكرّر وقد جعل خبراً في المقدمتين، ولم ينتح بين المعنيين لا اتصالاً ولا انفصالاً، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي، وبرهانه عكس المقدمة النافية ليعود إلى النظم الأول. النظم الثالث: أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين جميعاً. فهذا إذا جمع شروطه كان منتجاً، ولكن نتيجة خاصة لا عامة، مثاله كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون، وكذلك إذا قلت كل بُر مطعوم وكل بُر ربوي فيلزم منه بالضرورة أن بعض المطعوم ربوي. وبيان وجه دلالته ولزوم النتيجة منه بالإجمال إن الربوي والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد وهو البُر فيلزم بالضرورة بينهما التقاء، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكماً خاصاً وإن لم يكن عاماً فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي حكماً خاصاً، دان لم يكن عاماً وبعض الربوي مطعوم، وان لم يمكن أن يف ل بمجرد هذا كل واحد مطعوم ربوي أو كل ربوي مطعوم. وأما تفصيل تفهيمه فهو بأن تعكس المقدمة التي ذكرناها أولاً وهو قولنا كل بُر مطعوم، وقد ذكرنا أن المثبتة العامة تنعكس مثبتة خاصة، فإن صدق قولنا كل بُر مطعوم صدق قولنا بعض المطعوم بُر فتبقى المقدمة الثانية، وهو أن كل بُر ربوي ويرجع إلى النظم الأول، إذ يصير المطعوم الذي هو المتكرر مبتدأ في إحدى المقدمتين خبراً في الأخرى، وشرط الإنتاج في هذا النظم أن تكون المقدمة الأولى التي فيها المحكوم عليه مثبتة ولا تكون نافية كما شرطنا ذلك في النظم الأول، فان كانت نافية لم تلزم النتيجة ولا يضر أن تكون خاصة، والذي يشترك. فيه كل نظم أمران أحدهما أنه لا بد أن يكون في جملة المقدمتين قضية عأمة فلا تلزم نتيجة من خاصتين البتة. والثاني أن يكون فيهما مثبتة فلا تلزم نتيجة من نافيتين قط، ولهذا شرح لكن لا أظنك تهتدي إلى ذلك بنفسك مهما ساعدك الجد في التأمل والمثابرة على الممارسة. فان عليك وظيفتين إحداهما تأمل هذه الأمور الدقيقة، والأخرى الأنس بهذه الألفاظ العربية. فأني اخترعت أكثرها من تلقاء نفسي لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين، ولا أؤثر أن أتبع واحداً منهم فيقصر فهمك عليه، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالمتداول بين جميعهم واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها ؛ حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن ترده إليها وتطلع على مرادهم منها. النمط الثاني: من القياس ألا يكون فيه علة وحكم ومحكوم عليه كما سبق بل تكون فيه مقدمتان والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر واحد من تينك القضيتين أو نقيضها. ولنسمَّ هذا النمط نمط التلازم، ومثاله قولنا إن كان العالم حادثاً فله مُحدِث ومعلوم أنه محدَث فتلزم منه نتيجة وهو أن له مُحدِثاً بالضرورة. فالمقدمة الأولى قولنا إن كان العالم حادثاً وهما قضيتان إن حذف قولنا إن،كان أحدهما قولنا العالم حادث ولنسقه المقدّم، والثاني قبرلنا فله مُحدِث ولنسقه اللازم أو التابع، والمقدمة الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سقيناها مقدماً وهو قولنا معلوم أن العالم حادث فتلزم منه نتيجة وهو أن العالم مُحدَث ؛ وهو عين اللازم. ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوِتر يؤدّى على الراحلة بكل حال فهو نفلٌ، ومعلوم أنه يؤدّى على الراحلة بكل حال فثبت أنه نفل.،وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات ينتج منها اثنتان ولا ينتج اثنتان. أما المنتج فتسليم عين القضية التي سقيناها مقدماً فإنه ينتج عين اللازم، مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم منه المصلي متطهر. ومثاله من الحس قولنا إن كان هذا سواداً فهو لون ومعلوم أنه سواد فهو إذاً لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فانه ينتج نقيض المقدّم، ومعاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة ليست صحيحة، فانظر كيف أنتج تسليمِ نقيض اللازم نقيض المقدّم، ومثاله أيضاً فولنا إن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم إن هذا اللازم باطل فإنه ليس يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه نقيض المقدّم، وهو إن البيع غير صحيح. ومثاله أيضاً قولنا إن كان الباري تعالى على العرش فهو مقدّر لأنه مساو للعرش أو أصغر أو أكبر، ومعلوم أن اللازم محال وهو كونه مقدّراً فيكون المقدّم محالاً. ووجه دلالة هذا أن المؤدي إلى المحال محال وقول الخصم أنه على العرش مؤدي إلى المحال فهو محال، وقوله إن بيع الغائب صحيح مؤدِ إلى المحال، وهو أن يلزم بصريح الإلزام على خلاف الإجماع والمؤد إلى المحال محال. فأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم. فإنا إذا قلنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فيلزم أن الصلاة صحيحة، وهو غير صحيح، إذ ربما تكون الصلاة باطلة بعلة أخرى سوى الطهارة. وكذلك تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. فانك لو قلت ومعلوم أن الصلاة ليست بصحيحة فلا يلزم من هذا أن المصلي متطهر ولا أنه غير متطهر. والفرق بين هذا النمط والنمط الأول أن الأول ترتيبه خبر عن شيء تمَّ حكم على الخبر بشيء فلزم منه نتيجة وهو الالتقاء بين المبتدأ الأول والخبر الأخير، وكل واحد من الأجزاء الثلاثة يصلح أن يجعل وصفاً وخبراً وحكماً للآخر في نظم هذا الكلام. وأما هذا فإنه إظهار تلازم بين قضيتين غير متداخلتين. فإن قولنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر بيان أن كون المصلي متطهراً لازم لكون الصلاة صحيحة، فلا يمكن أن يجعل كون المصلي متطهراً لا وصفاً للصلاة ولا وصفاً للصحة. والفرق من حيث الترتيب والنظم ظاهر. وأما وجه الدلالة فهو أنه مهما جعل شيء لازماً لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم، بل إما أخص وإما مساوياً. ومهما كان أخص فبثبوت الأخص يلزم بالضرورة ثبوت الأعم. إذ يلزم من ثبوت السواد وجوده ووجود اللون، وهو الذي عنيناه بتسليم عين المقدم. وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم. فأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص، فإن ثبوت اللون لا يدل على ثبوت السواد، فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج لا نفي اللازم ولا ثبوته، وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المتدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. وأما جعل الأخص لازماً للأعم فهو خطأ، كمن يقول إن كان هذا لوناً فهو سواد وإن كان اللازم مساوياً للمتقدم أنتج منه أربع تسليمات: كقولنا إن كان زنا المحصَن موجوداً فالرجم واجب ومعلوم أنه موجود فإذن الرجم واجب، أو معلوم أنه غير موجود فإذاً الرجم غير واجب، أو معلوم أن الرجم واجب فإذاً زنا المحصن موجود، أو معلوم أن الرجم غير واجب فإذاً الزنا غير موجود. وكذلك كل معلول له علة وهو مساو لعلته ويلزم أحدهما الآخر فينتج فيه التسليمات الأربع، ومثاله من المحسوس إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فهو موجود لكنها غير طالعة فهو غير موجود، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة. النمط الثالث نمط التعاند: وهو على ضد نمط التلازم والمتكلمون يسقونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل، ونحن سميناه التعاند، ومثاله العالم إما قديم وإما حادث فهذه مقدمة وهما قضيتان، يحذف إما الأولى قولنا العالم قديم أو الثانية قولنا العالم حادث، فتسليم إحدى القضيتين أو نقيضها يلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات: فانا نقول ومعلوم أنه حادث فيلزم منه نقيض المقدمة الأخرى وهو أنه ليس بقديم. أو نقول ومعلوم أنه ليس بحادث فيلزم منه عين المقدمة الأخرى. أو نقول ومعلوم أنه قديم فيلزم منه نقيض الأخرى وهو أنه ليس بحادث. أو نقول ومعلوم أنه ليس بقديم فيلزم منه عين الأخرى. فبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر، ولا يشترط إن تنحصر المقدمة في قسمين بل شرطه أن تُستَوفى أقسامه وإن كان ثلاثاً. فإنا نقول هذا الشيء إما مساو وإما أقل و إما أكثر فهذه ثلاثة ولكنها حاصرة، فاثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث و إبطال واحد ينتج انحصار الحق في الآخرين أحدهما لا بعينه، والذي لا ينتج فهو أن لا يكون محصوراً، كقولك زيد إما بالعراق و إما بالحجاز وهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر، فإنه إن ثبت أنه بالعراق انتفى عن الحجاز وغيره. وأما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع ثالث ويكاد يكون كلام من يستدل على إثبات رؤية الباري بإحالة تصحيح الروية على الوجود غير محصور، إلا أن نتكلف لحصره وجهاً بان نقول تصحيح الرؤية لا يخلو إما أن يكون بكونه جوهراً فيبطل بالعرض أو كونه عرضاً فيبطل بالجوهر أو كونه سواداً أو لوناً فيبطل بالحركة. فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود فهو المصحح، إذ يمكن إن يكون قد بقي أمر آخر مشترك لم يعثر عليه الباحث سوى الموجود، ممل كونه بجهة من الرائي مثلاً. فإن أبطل هذا أيضاً فلعلّ ثمَّ معنى أخر، إلا أن نتكلف حصر المعاني ونتكلف نفي جميعها ونبين أن طلب مصحح لا بد منه فعند ذلك تحصل النتيجة، فهذه ضروب الأقيسة. فكل استدلال لا يمكن رده إلى هذه الضروب فهو غير منتج وسنزيده شرحاً في حق اللواحق. الفن الثالث من المقاصد في بيان المقدمات الجارية من القياس مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير، فان ما ذكرناه جرى مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من الخشب، وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير وقميص، إذ لا يتأتى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة وقضية قياس منتج ، بل القياس المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينيا أو ظنياً إن كان المطلوب فقهياً، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها نقتنص اليقين. وهذا وإن كان القول يطول فيه ولكنا نحرص على الإيجاز بقدر الإمكان. إما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله وهو أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال: احدها: أن تتيقن وتقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح ويتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس، ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه، ويكون فيه آمناً مطمئناً قاطعاً بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه ولا أن يطلع على دليل غاب عنه فيغير اعتقاده، ولوِ حكى نقيض اعتقاده عن أفضل الناس فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه وخطأه، بل لو حكى له أن نبياً مع معجزة قد ادعى أن ما يتيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته فلا يكون له تأثير بهذا السماع إلا أن يضحك منه، ومن المحكي عنه. فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون الله قد اطْلع نبيه على سر انكشف له نقيض اعتقاده، فليس اعتقاده يقيناً. ومثال هذا العلم قولنا إن الثلاثة أقل من الستة، وإن شخصاً واحداً لا يكون في مكانين، وإن شخصين لا يجتمعان في موضع ونظائر ذلك. الحالة الثانية: أن يصدّق به تصديقاً جزماً لا يتمارى فيه ولا يشعر بنقيضه البتة ولو أشعر بنقيضه عسر عليه اذعان نفسه للإِصغاء إليه ولكنه لو ثبت وأصغى وحكى له نقيض معتقده عمّن هو أعلم الناس وأعدلهم عنده، وقد نقله مثلاً عن النبي أورث ذلك في يقينه توقفاً ما ولنسمِّ هذا الجنس اعتقاداً جزماً وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم، بل أكثر اعتقاد المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذاهب والأدلة جميعاً بحسن الظن والتصديق من أرباب مذاهبهم الذين حَسُنَ فيهم اعتقادهم بكثرة سماعهم الثناء عليهم وتقبيح مخالفتهم ونشؤهم على سماع ذلك منذ الصبا، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مثيله في أول نظره إلى الكفر والإِسلام وسائر المذاهب عزيز. الحالة الثالثة: أن يكون له سكون نفس إلى شيء والتصديق به وهو يشعر بنقيضه أو لا يشعر ولكنه إن أشعر به لم ينفر طبعه عن قبوله، وهذا يُسمّى ظناً وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى، فمن سمع من عدل شيئاً سكنت إليه نفسه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وقوي الظن، فإن انضاف إليه ثالث زادت القوة، فإن انضافت إليه تجربة بصدقهم على الخصوص زادت القوة، فإن انضافت إليه قرينة حال كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وهم على صورة مذعورين صفر الوجوه مضطربي الأحوال زاد الظن، وهكذا لا يزال يترقى قليلاً قليلاً في القوة إلى أن ينقلب الظن على التدريج يقيناً إذا انتهى الخبر إلى حد التواتر. والمحدثون يسقون أكثر هذه الأحوال علماً ويقيناً حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح يوجب العلم العمل بها على كافة الخلق إلا آحاد المحققين، فإنهم يسقون الحالة الثانية يقيناً ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى، والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظان الغلط. فمهما ألفت القياس من مقدمات يقينية حقيقية في صورة تأليف الشروط التي قدمناها كانت النتيجة الحاصلة يقينية ضرورية بحسب ذوق المقدمات. الفصل الثاني في مدارك اليقين والاعتقاد لعلك تقول قد استقصيت في شروط اليقين استقصاءً مؤنساً عن نيله والظفر به فمن أين يقتنص مثل هذا اليقين وما آلته ومدركه. فاعلم أن مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافة، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظن بها اليقين ومجامعها فيما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام، ولنخترع لكل واحد منها اسماً مشتقاً من سببه: الأول أوليات: واعني بها العقليات المحضة التي اقتضى ذات العقل بمجرد حصولها من غير استعانة بحس التصديرَ بها مثل علم الإنسان بوجود ذاته، وبان الواحد لا يكون قديما حادثا، وأن النقيض إذا صدق أحدهما كذب الآخر، وان الإثنين أكثر من الواحد ونظائره. وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتبة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالماً به، ولا يدري متى حصل ولا يقف حصوله على وجود أمر سوى العقل، إذ يرتسم فيه الوجود مفرداً والقديم مفرداً والحادث مفرداً والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتحسب بعضها إلى بعض، مثل أن تحضر أن القديم حادث ويكذب العقل به أو أن القديم ليس بحادث ويصدق العقل به، ولا نحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات والى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب. الثاني المشاهدات الباطنة: وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وسروره وجميع احواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس. وهذه ليست مدركة بالحواس الخمس ومجرد العقل. لا يكفي في إدراكها بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل و الأوليات لا تكون للبهائم والصبيِان. فإذا يحصل من هذا المدرك يقينيات كثيرة وقضايا قطعية مثل قطعه بأنه جائع ومسرور وخائف، ومن عرف نفسه وعرف السرور وعرف حلول السرور فيه ينظم من هذه المعارف قضية يحكم على نفسه بأنها مسرورة، فكانت القضية المنظومة منه عند العقل قضية حقيقة. الثالث المحسومات الظاهرة: كقولك الملح ابيض والقمر مستدير والشمس مستديرة وهذا الفن واضح، ولكن يتطرق الغلط إلى الإبصار بعوارض فتغلط لأجلها مثل بُعدِ مفرط أو قرب مفرط أو ضعف في العين. وأسباب الغلط في الإبصار الذي على الاستقامة ثمانية، والإبصار الذي بالانعكاس كما في المرآة. والذي بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج تتضاعف فيه أسباب الغلط ومداخل الغلط في هذه الحالة على الخصوص لا يمكن استقصاؤُه في مجلدات. ولا يمكن أن يجعل علاوة على هذه الحالة وان أردت أنموذجاً من أغاليط البصر فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكناً والعقل يقضي بأنه ستحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة والى الصبي والنبات في أول النمو وهي في النمو في كل لحطة تتزايد على التدريح ويراه واقفاً و أمثال ذلك مما يكثر. الرابع التجريبات: ويعبّر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والحجر هاو إلى جهة الأرض والنار متحركة إلى جهة فوق وألخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر وجميع المعلومات بالتجربة عند من جرّبها، فإن معرفة الطبيب بان السقمونيا مسهل كمعرفتك بان الخبز مشبع، فإنه انفرد بالتجربة وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه. وهذا غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض. فأما الحكم بأن كل حجر هاو إلى الأرض فهو قضية عامة لا قضية في عين فليس للحس إلا قضية في عين، وكذلك إذا رأى مائعاً وقد شربه فسكر لم يحكم بأن جنس هذا المائع مسكر، فإن الحس لم يدرك إلا شرباً وسكراً عقيبه وذلك في شراب معين مثار إليه. والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس وبتكرر الإِحساس مرة بعد أخرى إذا المرة الواحدة لا تحصل العلم فمن تألم له موضع فصبَّ عليه مائعاً فزال لم يحصل له علم بأنه مزيل بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإِخلاص مرة فزال. إذ قد يخطر بباله إن زواله كان بالاتفاق، فإذا تكرر زواله مرات كثيرة حصل له العلم. وكذا لو جرب قراءة سورة الإِخلاص مثلاً على المرض الأول وكان يزول كل مرة أو في الأكثر يحصل له يقين بأنه مزيل كما حصل اليقين بأن الخبز مزيل للجوع والتراب غير مزيل له بل زائد فيه. وإذا تأملت هذا القن حق التأمل عرفت أن العقل نال هذه بعد الإِحساس والتكرر بواسطة قياس خفي ارتسم فيه، ولم يثبت شعوره بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشكله بلفظه. وكان العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في اكثر، ولو كان بالاتفاق لتخلف. فإن الإِنسان يأكل الخبز فيتألم رأسه ويزول جوعه فيقضي على الخبز بأنه مشبع وليس بمؤلم لفرق بينهما وهو أن الإِيلام يحمله على سبب آخر اتفق اقترانه بالخبز، إذ لو كان، بالخبز لكان دائماً مع الخبز أو في الأكثر كالشبع. وهذا الأمر يحرك أصلاً عظيماً في معنى تلازم الأسباب والمسببات والتعبير عنها باطراد العادات، وأن ذلك ما حقيقته. وقد ذكرنا في كتاب تهافت الفلاسفة ما ينبّه عن غوره. والمقصود أن القضايا التجريبية زائدة على الحسية ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من القضايا العينية فيتعذر عليه درك ما يلزم منها من النتائج، ولذلك نرى أقواماً يتفردون بعلم ويستبعده آخرون لجهلهم بمقدماته التي لا تحصل إلا بالتجربة، وهذا كما أن الأعمى والأصم يعوز جملة من العلوم النظرية التي تستنتج من مقدمات محسوسة ولا يفرق الأعمى قط باليقين البرهاني، أن شكل الشمس مثل شكل الأرض أو أكبر منها، فإنها تعرف بأدلة هندسية تبنى على مقدمات مستفادة من البصر وكثير من العلوم النفيسة لا يتنقص العقل مقدماتها إلا بشبكة البصر وسائر الحواس، ولذلك قرن الله السمع والبصر بالفؤاد في أ لقرآن. الخامس المعلومات بالتواتر: كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلاة الخمس، بل كعلمنا بأن مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي وغيره. فإن هذه أمور وراء المحسوس، اذ ليس للحس إلا أن يسمع صوتاً، المخبر بوجود مكة، فأما الحكم بصدقه فهو للعقل والته السمع ولا مجرد السمع بل تكرير السماع. ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو لتكرر التجربة، فإن كل مرة فيها شهادة أخرى تنضم إلى الآخر فلا يدري متى ينقلب الظن الحاصل منه يقيناً. فان ترقي الظن فيه وفي التواتر خفي التدريج لا تشعر به النفس البتة، كما أن نمو الشعر خفي التدريج لا يشعر بوقته ولكن بعد زمان يدرك التفاوت فكذا هذه العلوم، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة للبراهين التي تطيب منها النفس وما بعده ليس كذلك. السادس الوهميات: وذلك ممل قضاء الوهم بان،كل موجود ينبغي أن يكون مشاراً إلى جهته، وأن موجوداً لا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً ولا خارجاً ولا داخلاً محال. فإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال، وهو عمل قوة في التجويف الآخر من الدماغ تسمّى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات التي ألِفها، فليس في طبعها إلا النبوة عنها وانكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان، والأولى منهما ربما وقع كل الأنس بتكذيبها لكثرة ممارسَتك الأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة، والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك الأدلة الموجبة له. وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلا والملا غير ممكن فإنك إن اثبت خلاء فما أراك تجعله قديماً. فإن الخلا ينعدم بالملا والقديم لا ينعدم، ولأنك تعرف أن لا قديم سوى الله وصفاته وإذا جعلته محدثاً لزمك أن يكون متناهياً فينقطع، و إذا جاوزت المنقطع كنت معترفاً بأنه ليس بعده لا خلا ولا ملا. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي في النفس لا تتميّز عن الأوليات القطعية، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول الفطرة كما تشهد بالأوليات القطعية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعاً هو صادق بل الصادق ما تشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة. وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفته الدليل أيضاً لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها. فان قلت فبماذا أُميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل، ومتى يحصل لي الأمان منها فأقول إن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيداً لليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن، وقالوا بتكافؤ الأدلة وادّعوا النفس، وليس يحصل لنا الأمان وقال لبعضهم لسنا نتيقن أيضاً تكافؤ الأدلة بل هذا أيضاً لا ندريه، وكشف الغطاء عن هذا صعب ويستدعي تطويلاً ولكن أفيدك ألان طريقين تثق بهما في كذب الوهم. الأول جملي: وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات وليس هذا من النظريات، ولو عرضت الوهم على نفس الوهم لأنكره. فانه يطلب له سمكاً ومقداراً ولوناً فإذا لم يجده إياه، ولو كلفت الوهم إن يقابل ذات القدرة والعلم والإرادة لتصور لكل واحد قدراً ومكاناً مفرداً، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد وجسم واحد لقدر بعضها منطبقاً على البعض كأنه ستر مرسل على وجهه، ولم يقدر على تقدير إدخال البعض في البعض الآخر باسره، فانه إنما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي على كل شيئين بانه متميز في الوضع عن الآخر. الطريق الثاني: وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن تعلم إن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فأنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس، لانها تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوس بالمحسوس، إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات. فحيلة العقل في أن يعق بكذبه وبقضاياه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية يساعد الوهم عليها وبنظمها بنظم المقياسين التي ذكرناها. فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق من الأمثلة وكما في سائر الهندسيات فيتخذ ذلك ميزاناً وحاكماً بينه وبينه. فإذا رأى الوهم قد كاع عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمه وساعد على أن مثل هذا النظم منتج يالضرورة وان تلك المقدمات صحيحة بالضرورة ثم أخذ يمتنع عن قبول النتيجة علم أن ذلك من نفور في طباعها عن إدراك هذا الشيء الخارج عن المحسوسات. فاكتفِ بهذا القدر فإن تمام الإيضاح لا يحصل إلا بالامتحان في أمثلة كثيرة، وذلك مما يطول فيه الكلام. السابع المشهورات: وهي أراء مجموعة أوجب التصديق بها، إما شهادة الكل واكثر أو شهادة الجماهير أو الأفضل، كقولك الكذب قبيح والإنعام حسن وشكر المنعم حسن وكفران النعمة قبيح وهذه قد تكون صادقة وتكون كاذبة، فلا يجوز أن يعول عليها في مقدمات القياس. فان هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية، فإن الفطرة الأولى لا يقضي بها بل ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبي، وذلك بتكرير ذلك على الصبي وتكليفه اعتقاده وتحسين ذلك عنده، وربما يضطر إليها في حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما نشا من الحياء ورقة الطبع، فنرى أقواماً يصدقون بأن ذبح البهائم قبيِح ويمتنعون من أكل لحومها وما يجري هذا المجرى، فالنفرة من المجبولة على الجبن والرقة أطوع لقبولها، وربما حمل على التصديق بها الاستقراء الكثير، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيترشح في نفسك كمن يقول مثلاً التواتر لا يورث العلم لأن قول الواحد لا يورث، وكذلك الثاني، فقد انضم ما لا يوجب إلى ما لا يوجب والمجموع لا يزيد على الآحاد، لأن قوله الواحد لا يوجب العلم، إذ يجوز عليه الغلط، وهذه قضية يظن أنها صادقة بالإِطلاق وليس كذلك، بل الصادق أن قول الواحد المنفرد بقوله يحتمل الغلط والجمع يخرجه عن الانفراد، وكل واحد لا يوجب قوله العلم بشرط أن لا يكون معه الآخرون، فإذا اجتمعوا بطل هذا الشرط. وهذه من المثارات العظيمة الغلط وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة يطول إحصاوُها ولا ينبغي إن تتخذ مقدمات القياس اليقيني منها البتّة، واكثر أقيسة الجدليين من المتكلمين والفقهاء في مجادلاتهم وتصانيفهم مؤلفة من مقدمات مشهورة فيما بينهم، سلموها لمجرد الشهرة وذهلوا عن سببها. ولذلك نرى أقيستهم تنتج نتائح متناقضة فيتحيّرون فيها وتتخبط عقولهم في تنقيحها. فإن قلت فيما أدرك الفرق بين المشهور والصادق فاعرض قول القائل الصدق جميل والكذب قبيح على العقل الأولي الفطري الموجب للأوليات، وقد رانك لم تعاشر أحداً ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تؤدب باصطلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ وأب ومرشد وكلّف نفسد أن تشكك فيه، فإنك تقدر عليه وتراه متأتياً، و إنما الذي يعسر عليك هذه التقريرات. فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال. ولكن إذا تحدّقت فيه أمكنك التشكّك، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأَتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلا وهو كاذب وهمي، ولكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر تقتضيه فطرة العقل. فأما كون الكذب قبيحاً فلا تقضي به لا فطرة الوهم ولا فطرة العقل بل ما آلفه الإنسان من العادات والأخلاق والاصطلاحات، وهذه أيضاً مغاصة مظلمة يجب التحرز عنها. وقلَّ من لا يتغير بهذه المقدمات ولا تلتبس عليه باليقينيات، لا سيما في تضاعيف الأقيسة مهما كثرت المراتب والمقدمات. وهذا القدر كاف في المقدمات التي هي جاملة للنظم والترتيب والتأليف. والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية ولا تصلح لغيرها ولنختم هذا في المقاصد. الفن الثالث من القياس في اللواحق وفيه فصول الفصل الأول في بيان كل ما تنطق به الألسنة في العادات والمحاورات والفقهيات والعقليات ممّا يذكر في معرض الدليل والتعليل ويمكن أن يقرن به لأن، ويذكر في جواب لِمَ، فذلك بالضرورة يرجع إلى ضروب النظم التي ذكرناها. ولا بد منها البتة، وان ما ترى تأليفه وإطلاقه على غير ذلك النظم فله أربعة أسباب: وذلك إما قصور علم الناظر بتمام نظم القياس، وإما إهماله بعض المقدمات لكونها واضحة، وإما إهماله كل لكونها مشتملة على موضع التلبيس فيحذر من أن يصرّح به فيطّلع على تلبيسه، وإما تركيب الضروب التي ذكرناها وجمع جملة من احادها في سياق كلام واحد. فإنا لم نذكر إلا المفردات من النظم، فان تلك المفردات إذا تداخلت حصل منها تأليفات كثيرة أعرضنا عن تفصيلها للإيجاز. ولنورد لكل واحد منها مثالاً: الأول فيما ترك إحدى مقدمتيه لوضوحه وهو أكثر الأدلة العقلية والفقهية، إذ يحترز عن التطويل، وكذا في المحاورات كما يقول القائل هذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن فإذاً يجب عليه الرجم. ولكن تَركَ مقدمة الحكم وذكر مقدمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهوراً، وكذلك يقال العالم. لوجوده سبب فيقال لِمَ فنقول لأنه حادث فإذاً له سبب. وكما يقال نكاح الشغار فاسد فيقال لِمَ فنقول لأنه منهيّ عنه. وتمامه أن نقول كل منهي عنه فهو فاسد ونِكاح الشغار منهي عنه فهو إذاً فاسد ولكن تُرِكَ ذلك للشهرة والتلبيس أيضاً حتى لا يقول الخضم أسلم أنه منهي عنه ولكن لا أسلم أن كل منهي عنه فاسد فيترك المقدمة الممنوعة. وأما مثال ما يترك لأجل التلبيس فأن تقول فلان خائن في حقك فيقال لِمَ فيقول لأنه يناجي عدوك، وتمامه أن يقول كل من يناجي العدو فهو خائن وهذا يناجي العدو فهو خائن، ولكن ترك مقدمة الحكم فانه لو صرح به ربما يذكر أنه ربما يناجي العدو لجدعه أو يستميله أو ينصحه، ولا يسلم أن كل من يناجي العدو فهو خائن فيترك ذلك حتى لا يتذكر محل الكذب، وربما يترك مقدمة المحكوم عليه فيقول لا تخالط فلاناً فيقال لِمَ فيقول لأن الحُسّاد لا تُؤمن مخالطتهم. وتمامه أن نقول الحساد لا يخالطون وهذا حاسد فينبغي أن لا يخالط، فتركت مقدمة المحكوم عليه وهو قولك هذا حاسد وكل من يقصد التلبيس في المجادلات فطريقه إهمال إحدى المقدمتين إيهاماً بأنه واضح وربما يكون الكذب فيه أو استغفالاً للخصم واستجهلا له، فإنه ربما يتنبّه للحاجة إلى المقدمة الثانية. وهذا كله أمثلة النظم الأول، وقد يقع في غيره أيضاً. كمن يقول مثلاً كل شجاع ظالم فيقال لِمَ فيقول لأن الحجاج كان شجاعاً وظالماً، فهذا تمامه إن يقول الحجاج شجاع والحجاج ظالم. فكل شجاع ظالم وهو غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث، وقد ثبت إن النظم الثالث لا ينتج إلا قضية خاصة، له إنما كان من النظم الثالث لأن العلة هي الحجاج، فانه متكرر في المقدمتين ولا يلزم منه إلا أن بعض الشجعان ظلمة، إما الكل فغير لازم. وكذلك يقول العامي. المتفقهة سيئة الآداب والمتصوفة كلهم فسقة، فيقال لِمَ فيقول لأني رأيت متصوفة الرباط الفلاني ومتفقهة المدرسة الفلانية يفعلون كيت وكيت وهو خطأ لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وهو محال، وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم إلا نتيجة جزئية، وهو معنى النظم الثالث، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساويا للحكم كان من النظم الأول وأمكن أن تستنتج منه القضايا الأربعة، ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي، إما الإثبات فلا. ومثاله من العادات أن تقول هذه المرأة حبلى فيقال لِمَ فتقول لأنها عظيمة البطن فهذا دليل فاسد وقد حذف إحدى مقدمتيه. وتمامه أن يقول هذه المرأة عظيمة البطن وكل عظيمة البطن فهي حبلى فهذه المرأة إذاً حبلى، والعلة عظيمة البطن وقد جعل خبراً في المقدمتين، وهو أعم من المحكوم عليه فإنه المرأة المعينة وعظيمة البطن، إذ قد يعظم بطن غيرها، واعم أيضاً من الحكم فإن الحكم هو الحبل وعظم البطن أعم منه إذ قد يكون بالاستسقاء والسمن والانتفاخ. والغلط من هذا الوجه في الفقهيات والكلاميات أكثر من أن يحصى. وأما مثال المختلطات المركبة من كل نمط فكقولك الباري تعالى إن كان على العرش فهو إما معل أو أكبر أو أصغر أو مساو، وكل مساو أو أكبر أو أصغر مقدّر وكل مقدر إما أن يكون جسماً أو لا يكون جسماً، كل وباطل أن لا يكون جسماً فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى. جسماً ومحال أن يكون جسماً فمحال أن يكون على العرش. وهكذا تجري أكثر المقاييس في التصانيف والمحاورات وبه تتيسر التلبيسات، إذ يمكن أن يهمل في وسط هذه الكثرة مقدمة فيها غلط، فمن لا يقدر على تحليل هذا التركيب وردّه إلى ما سبق ربما غلط من حيث لا يدري وصدق بقياس لا يجب التصديق به. وقد اشتمل هذا على النمط الأول وعلى النمط الثاني وهو التلازم وعلى النمط الثالث وهو التقسيم والتعاند، لم إذا أتقنت المفردات أمكنك رد المختلطات إليها فلست أطول بتعليم وجه التحليل فقد لاح لك بهذه الأمثلة أنه لا يتصور أن ينطق أحد في معرض دليل بكلمة إلا ورجع إلى ما ذكرناه. الفصل الثاني في بيان إن ما يُسمى استقراء وتمثيلا يرجع بالضرورة إلى ما ذكرناه إما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشتمل تلك الجزئيات، كقولنا في الفقه الوِتر ليس بفرض لأنه يؤدى على الراحلة، فيقال ولِمَ قُلتم إن الفرض لا يؤدّى على الراحلة؟ فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء، فإنا رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة، فعلمنا أن كل فرض لا يؤدى على الراحلة. ووجه دلالة هذا لا تتم إلا بالرد إلى النظم الأول وهو أن نقول كل فرض إما قضاء أو أداء أو نذر، وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدّى على الراحلة فإذاً كل فرض لا يؤدّى على الراحلة، وهذا مخيل يصلح للظنيات دون القطعيات. والكذب تحت قوله إما أداء فإن حكمه بان كل أداء لا يؤدّى على الراحلة لا يسلّمه الخصم. فإن الوِتر أيضاً أداء كالعصر والصبح، و إنما سلّم الخصم الصلاة الخمس، إما السادس فما سلمه. فنقول وهل استقريت حكم الوِتر في تصفّحك وكيف وجدته؟ فان قلت وجدته لا يؤدّى على الراحلة فالخصم لا يسلّم وإن لم تتصفّحه فلم يتبين لك إلا بعض الأداء، فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة، وكان الواجب أن تقول بعض الفرض لا يؤدّى على الراحلة، وذلك لا ينتج فإثا بيّنا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة، فإن كانت خاصة لم تنتج. وهذا غلط من قال إن صانع العلم تعالى عن قوله جسم، إذ يقال له لِمَ فيقول لأن كل فاعل جسم، فيقال له فبما عرفت هذا فيقول بالاستقراء، إذ تصفحت الفاعلين من خياط وبنّاء واسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساماً، فيقال وهل تصفحت صانع العالم، فإن قلت نعم فوجدته جسما فهو محل النزاع، فكيف أدخلته بالمقدمة؟ وإن قلت لا فقد ظهر لك بعض الفاعلين لا كلّهم، فظهر بذلك أن الاستقراء إذا لم يكن تاماً مستوعباً لم يقدران استوعب دخلت فيه النتيجة المطلوبة، ولا يصح ذلك إلا في الظنيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط واحد غلب على الظن أن الآخر كذلك. الفصل الثالث من وجه لزوم النتيجة من المقدمات وهو الذي يعبّر عنه بوجه الدليل، ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء ولا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غير. فيقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخلُ العقل فيه من أمرين إما أن يصدّق به أو يمتنع عن تصديقه، فان صدّق به فهو الأولى المعلوم بغير واسطة، و يقال انه معلوم بغير دليل وبغير علة وبغير حيلة وبغير نظر وتأمل. وهذه العبارات تؤدي معنى واحداً في هذا المقام، و إن امتنع عن المبادرة إلى التصديق ولا يطمع بعد ذلك في تصديقه إلا بواسطة، وتلك الواسطة هي التي تنسب الحكم إلى المحكوم عليه فيجعل خبراً عنه فيصدق به وينسب إلى الحكم فبجعل الحكم خبراً عنه فيصدق به فيلزمه من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه، وبيانه أنا إذا قلنا للعقل هل النبيذ حرام؟ قال لا أدري ولم يصدق به، فعلمنا أنه ليس في الذهن طرف هذه القضية وهو الحرام والنبيذ، فلا بد وأن يطلب واسطة، ربما يصدق العقل بوجوده في النبيذ ويصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب. فيقول وهل النبيذ مسكر فيقول نعم، إذا كان قد حصل له ذلك بالتجربة، فيقول وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا حصل له ذلك بالسماع، فيقول وهل المدرك بالسمع "يعمل بحكمه" قلنا نعم. فإن صدّقت بهاتين القضيتين لزمك التصديق بالثالث وهو أن النبيذ حرام بالضرورة، فيلزمه ذلك ويذعن للتصديق به. فإن قلت هذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما، فاعلم أن ما توهمته حق من وجه وغلط من وجه. إما وجه الغلط فهو أن هذه القضية ثالثة بدليل أنك تقول النبيذ حرام وتقول النبيذ مسكر وتقول المسكر حرام، فليس قولك النبيذ حرام تكرار في المقدمتين بعدهما بل هذه ثلاث مقدمات متباينة اللفظ والمعنى، فعرفت أن النتيجة اللازمة غير المقدمات الملزم بها، وأن الملزمة اثنتان والنتيجة ثالثة سواهما. وأما وجه كونه حقاً فهو أن قولك المسكر حرام شامل لعموم النبيذ الذي هو أحد المسكرات، فقولك النبيذ حرام منطوِ فيه ولكن بالقوة لا بالفعل، إذ قد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص، فمن قال الجسم متحيّز لا يخطر بباله ذكر القطب فضلاً عن أن يخطر بباله مع ذلك حكمه بأنه متحيّز، فإذاً النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة ومعلومة بالفعل، والموجودة بالقوة القريبة ربما يُظن أنها موجودة بالفعل توهماً، فاعلم أن هذه النتَيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمة بالقوة، وإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل ولو قيل له هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم، فإن قيل له فهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم، فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب هو من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين، أي علمه أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذاً عاقر والعاقر هي التي لا تحمل، فإذا هي لا تحمل. وانتفاخ البطن له أسباب سوى الحمل فإذاً انتفاخها من سبب اًخر، ولما كان السبب الخاص القريب لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء، فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره. والحق أن المدلول هو المطلوب المنتج وأنه عين التفطن لوجوده في المقدمة بالقوة، لكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد الذهن بحضور هذه المقدمات مع هذا التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة، وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المحالف للتولد الذي ذكره المعتزلة، وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حصول المقدمتين في الذهن، والتفطن لوجه تضمنه له بطريق إجراء الله العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا، ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق بها قدرة العبد، و إنما قدرته على استحضار المقدمتين ومطالعة وجه تضمن المقدمة للنتيجة على معنى وجودها فيها بالقوة فقط. فأما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق به القدرة، وعند بعضهم تتعلق به القدرة الحادثة فيكون العلم النظري كسب العبد، وإيضاح الرأي الحق من جملة ذلك لا يليق بما هو النظر الفاسد ما هو، وترى الكتب مشحونة بتطويلات في معنى هذه الألفاظ من غير شفاء. و إنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط لا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح، وان خالف المعتاد. مغالطة من منكري النظر: وهو أن يقول ما تطلبه بالنظر هو معلوم لك أم لا، فإن علمته فكيف تطلبه وأنت واحد وان جهلته فإذاً وجدته، فبمَ تعرف أنه مطلوبك، وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه، وحتها أن تقول أخطأت في نظم دليلك، فإن تقسيمك ليس بحاصر، إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو إني أعرفه من وجه وأجهله من وجه، وأعني ألان بالمعرفة غير العلم. فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل، ولو كنت أعلمه بالفعل لما طلبته ولو لم أعلمه بالقوة لما طمعت في أن أعلمه، إذ ما ليس في قوة عليه يستحيل حصوله كالعلم باجتماع الضدين، ولولا أني أدركه بالمعرفة والتصور لأجزائه المفردة لما كنت أعلم بالظفر بمطلوبي إذا وجدته، وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور، و إنما أنا طالب مكانه وأنه في البيت الفلاني أم لا، وكونه في البيت أعلمه بالمعرفة والتصور أي لفهم البيت مفرداً وأفهم الكون مفرداً وأعلمه بالقوة، أي في قوة أن أصدّق بكونه في البيت ولكن لست مصدّقاً بالفعل، وإنما أطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر، وإذا رأيته في البيت بالمشي إليه صدّقت بكونه في البيت بالفعل، فلولا معرفتي البيت والكون والعبد بطريق التصور للمفردات لما عرفت وجه المطلوب عند رؤية العبد، ولولا أنه في قوة التصديق لما صار بالفعل، فكذلك أطلب أن العالم حادث فأفهم العالم مفرداً بالمعرفة والتصور واعلم الحادث بالمعرفة وفي قوة التصديق بأن العالم حادث فإذا صار بالفعل علمت أنه مطلوبي ولو كان بالفعل لما طلبته. مغالطة أخرى: قال بعض منكري العلم، أتعلم كل اثنين زوج فقيل نعم، فقال فما في يدي زوج أم لا، فإن قلت نعم فبمَ أعرفه والكف مجموع، وإن قلت لا فقد ناقضت قولك، إذ قلت عرفت إن كل اثنين زوج وما في يدي اثنان فكيف لم تعلم أنه زوج، فاجيب عن هذا بأنا عنينا بما ذكرنا أن كل اثنين عرفنا أنهما اثنان فهما زوج، وما في يدك لم أعرف أنه اثنان، ولو عرفت أنه اثنان لقلت أنه زوج. وهذا الجواب مع وضوحه خطأ فإنا إذا قلنا كل اثنين زوج إن أردنا به أن كل الاثنين زوج سواء عرفنا أن ما في يده اثنان أو لم نعرف كان خطأ بل كل ما هو اثنان في نفسه وفي علم الله تعالى فهو بالضرورة زوج، لكن الجواب الحق أن ما بيدك زوج إن كان اثنين، وقولي لا اعرف أنه اثنان لا يناقض قولي كل اثنين زوج بل نقيض قولي كل اثنين زوج قولي كل اثنين فليس بزوج أو بعض ما هو اثنان ليس بزوج. هاتان المغالطتان وإن كانتا من الجليات فإنما أوردتهما ليقع الأنس بتحرير الكلام في حل الإشكالات، فإن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليات والتسامح فيها، ولو أخذت الجليات وحررت ثم تطرق منها إلى ما بعدها تدريجياً حتى لا يخفى قليلاً قليلاً فيتضح الشيء بما قبله على القرب لطاحت المغالطات، ولكن عادة النظار الهجوم على غمرة الأشكال وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجليّة بعد أن تخللت بينه وبيني الأوائل درجات كثيرة فلا تمتد شهادة الجلي ولا يقوى الذهن على الترقي في المراقي الكثيرة دفعة فتزلُ الأقدام وتعتاص المطالب وتنحطُ العقول، ولذلك ضل أكثر النظار وأضلوا إلا عصابة الحق الذين هداهم الله تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه. الفصل الرابع في انقسام القياس إلى قياس دلالة وقياس علة إما قياس الدلالة فهو أن يكون الأمر المكرّر في المقدمتين معلولاً ومسبّباً، فإن العلة والمعلول يتلازمان وإن شئت قلت السبب والمسبب وان شئت قلت الموجب والموجب. فان استدللت بالعلة على المعلول فقياسك قياس علة و إن استدللت بالمعلول على العلة فهو قياس دلالة، وكذلك إن استدللت بأحد المعلولين على الآخر مثال قياس العلة من المحسوس بأن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد باكله، فتقول كل من أكل كثيراً فهو بالحال شبعان وزيد قد أكل كثيراً فهو إذاً شبعان. ونعني بالعلة هاهنا السبب الاعتباري، إذ العرض التمثيل، ولا تطلب الحقائق من الأمثلة، المسوقة لتفهيمات مقاصد بعيدة عن الأمثلة، وإن استدللت بالشبع على الأكل كان قياسك قياس دلالة فانك إذا عرفت إن زيداً شبعان حكمت عليه بأنه أكل، فكان نظم قياسك أن كل شبعان فقد ممل من قبل وزيد شبعان فإذاً قد ممل، وكذا ترى امرأة ذات لبن فتقول كل امرأة ذات لبن فهي قد ولدت وهذه ذات لبن فهي إذاً ولدت. ومثاله من الكلام أن تقول كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم محكم ففاعله عالم والأحكام مسبب العلم لا سببه فهو دلالة، ولذلك يجوز أن يتأخر الدليل عن المدلول حتى يستدلون بالتيمّم على حكم الوضوء، ولا تتأخر العلة عن المعلول. ومثال قياس العلة في الفقه الاستدلال بالسكر على التحريم كما مضى، وممال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا في الزنا إنه لا يوجب حرمة المصاهرة لأنه وطىء لا يوجب المحرمية وما لا يوجب المحرمية لا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فإذاً لا يوجب الحرمة، والمشترك في المقدمتين المقرون بقولنا لأن المحرمية وهي ليست علة الحرمة ولا الحرمة علة لها، بل هما. نتيجتا علة واحدة. وحصول إحدى النتيجتين يدل على الأخرى بواسطة العلة، فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضاً تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة. فإن ظهر أن المحرمية علة الحرمة لم يكن هذا صالحاً لأن يكون مثالاً لغرضنا. وأما مثاله في العادات فجميع الأدلة في علم الفراسة، فإنه يستدل بالخلقة والمزاج على الخلق لا لأن أحدهما علة الآخر ولكن كلاهما بحكم جريان العادة نتيجة علة واحدة، حتى يقال في علم الفراسة الإنسان إذا انضم عظم أعالي يديه وصدره ووجهه إلى عظم عرضه واتساعه كان شجاعاً قياساً على الأسد، والشجاعة واتساع الصدر ليس أحدهما علة للآخر ولكن عرف باستقراء الحيوانات تلازمهما فعلم إن علتهما واحدة وأن أحدهما يدل على الآخر عند شروط آخر مضمومة إليه كما يستقص في ذلك العلم. وقد كان الشافعي رضي الله عنه ماهراً فيه وصادق الحدس في التفرس، وهذا العلم يتداعى إلى عجائب عظيمة حتى إن الناظر في كتف الشاة يستدل بما فيها من الخطوط الحمر على جريان سفك الدماء في السنة وما فيها من النقط على كثرة الأمطار والنبات ويصيب فيها ويعلم قطعاً أن حمرة خطوط كتف الشاة لا تكون علة تقاتل السلاطين ولا النقط فيها علة كثرة النبات والأمطار ولا معلولاً لها، ولكن لا يبعد من عجائب صنع الله تعالى إذ يكون في الأسباب السماوية سبب واحد يتفق في تلك السنة فيكون علة بحكم إجراءِ العادة لحياة في أعضاء الحيوانات وتشكلاتها وفي أسباب كثرة الغيوم وفي أسباب تواحش القلوب التي هي أسباب التقاتل التي هي أسباب سفك الدماء، و إنما يستنكر هذه العلوم الجهال الذين لا خبرة لهم بعجائب صنع الله تعالى واتساع قدرته. الفصل الخامس في حصر مدارك الغلط في القياس اعلم أن الشيطان مسلط على كل ناظر ومشغوف بتلبيس الحق وتغطيته ومصرٌّ على الوفاء بقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) والتحذّر منه شديد ولا يتيسر إلا لمن هو في محل استثنائه حيث قال (إلا عبادك منهم المخلصين) جعلنا الله واياك منهم فعليك أن تأخذ في نظرك من الشيطان ووسواسه حذرك. فإن قلت كيف لي به مع ما أنا عليه من الضعف وقع ما هو عليه من التسلط والتمكن حتى أنه ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فاعلم أن العقل حزب من أحزاب الله تعالى ذكره وجند من جنوده ما أنعم به عليك إلا لتستعين به على أعدائه ووجه الاستعانة أن تتفقّد بنور العقل وسراجه الزاهر مداخل الشيطان في النظر، وتعلم أن حصن النظر والدليل ما لم ينثلم ركن من أركانه لم يجد الشيطان مدخلاً فإنه لا يدخل إلا من الملم، فإذا أبصرت الملم بنور العقل وسددتها وأحكمت معاقلها انصرف الشيطان خائباً خاسراً واهتديت إلى الحق ونلت بمعرفة الحق درجة القرب من رب العالمين. وجميع الثلم التي هي مداخل الغلط ترجع في القياس إلى سبع جمل لم إن كان لكل واحد تفصيل طويل ونحن نومي إلى الجمل، وذلك، أنك بالضرورة تعلم إن المقدمات القياسية إذا كانت صادقة يقينية وكالت مفردات معارفها وهي الأجزاء الأول محصّلة في العقل بحقائق معانيها دون ألفاظها وكانت المقدمات التي هي الأجزاء الثواني أيضاً متمايزة مفصلة وكانت غير النتيجة وكانت اعرف من النتيجة وكان تأليفها داخلاً في نمط من جملة ما ذكرناه وكان بعد وقوعه في نمط واحد جامعاً للشروط التي شرطناها في ذلك النمط، كان الحكم الذي يلزم منه حقاً وصدقاً لا محالة، فإن لم يكن حقاً فهو لخللِ وقع في هذه الأمور، فلنفصّلها. المدخل الأول: أن لا تكون المقدمات صادقة بل تكون مقبولة بحسن الظن أو وهمية أو مأخوذة من الحس في مظان غلطه، وذلك عند بعدِ مفرط أو قرب مفرط أو اختلال شرط من الشروط الثمانية التي فيها، وأكثر أغاليط النظار من التصديق بالمألوفات والمسموعات في الصبي من الأب والأستاذ وأهل البلد والمشهورين بالفضل، وقد انتهى هذا الداء بطائفة إلى أن صدّقوا. بان الحروف التي ينطقون بها في الحال قديمة ولو سؤلوا عن السنتهم لقالوا هي حادثة، ولو قيل له كيف كان كلامك أكان قبل لسانك أو بعده لقال بعده، فإذا قيل فما هو بعد لسانك كيف يكون قديماً وكيف يكون قديم متأخراً عن حادث لم ينفع هذا معهم. واعلم إن من الأذهان ما فطر فطرة تسارع إلى قبول كل مسموع ثم ينصبغ به انصباغاً لا يمكن البتة انجلاؤه عنه ويكون مثاله كالكاغد الرخو الذي يغوص الحبر في عمقه، فإن أردت محوه لزمك إفساد الكاغد وخرقه، وما دام الكاغد موجوداً كان السواد فيه موجوداً. فهؤلاء أيضاً ما دامت أدمغتهم موجودة كانت هذه الضلالات فيها موجودة لا يقدر البشر على إزالتها. وأما الذين كذبوا بوجود موجود لا يشار إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهم اظهر عذراً وأقرب امراً من هؤلاء ولكنهم أيضا عادلون عن الحق بالإذعان لمقتضى الوهم والعجز عن التمييز بين حكمه وحكم العقل. ومهما قصد رسوخ مثل هذا الاعتقاد في النفوس أعني قدم الحروف ينبغي أن يكرّر ذلك على السمع في الصبا ويختم الوجه عند ذكر منكره ويستعاذ بالله تعالى ويطلق اللسان في ذمه ويقال إن ذلك فولى بعض الكفرة، أعني الذين يفعل بهم في النار كيت وكيت ويخترع على ذلك حكايات، مثل أن يقال إن فلاناً كان ممن يعتقده فأصبح وقد مسخه الله كلباً وان فلاناً يسمع من قبره صياح الكلاب لقوله بكذا وكذا فلا يزال يترسخ في نفس الصبي ذلك على التدريج من حيث لا يشعر كما يرسّخ النقش في الحجر ويتعذر على كل العلماء دواه بعد الكبر مثل العلة المستحكمة التي تجاوز معالجتها قدرة الطبيب، ولا فرق بين مرض القلوب ومرض الأبدان نعوذ بالله منهما. وأما أنت وإن لم ينته تقليدك إلى هذا الحد فأحذر أن تكون من جملة من يعتقد شيئاً خفياً استحسنته وصدّقت به من غير دليل واستبشعت خلافه فأبيت التصديق بضده لكونه شنيعاً قبيحاً. واعلم أن الحق غير الحسن و الشنيع غير الباطل، إذ رب شنيع حق ورب محمود باطل. فإن إنكار كون الله على العرش وكون الحروف قديمة شنيع عند أهله وتجويز ذبح الحيوانات شنيع عند طائفة كما أن أيلام البريء من غير غرض شنيع عند الجماهير، فاحترز من هذه المغاصة تسلم من إحدى مكايد الشيطان واعرض ما صدّقت به على نفسك. فإن كان امتناع التشكك فيه مثل امتناع التشكك في إن الاثنين أكثر من الواحد فاعلم أنه وجه حق. المدخل الثاني: أن يكون الخلل في الصورة وهو أن لا يكون وضعه داخلاً في نمط من الجملة المذكورة، وذلك بأن تكون النتيجة مطلوبة من مقدمة واحدة بالحقيقة، وأعني بها ما ليست من مقدمتين أصلاً أو تكون من مقدمتين بالقوة ولكن ليس فيهما واسطة مكرّرة يقع بها الازدواج والاشتراك. وعدم الاشتراك إن كان في اللفظ والمعنى يسهل دركه، إذ يعلم أنه لا تحصل نتيجة إن قلنا السماء فوقنا والشمس أصغر فإنهما مقدمتان لا يتداخلان. وإذا كان الاشتراك باللفظ لا بالمعنى فلا يكون ذلك إلا بسبب استعمال لفظ مشترك كلفظ المختار وسائر أقسامه التي ذكرناها وان أهملنا بعضها وننبّه الآن على أمور خفية مما أهملناه ليستدل بها على ذلك وهي أربعة: الأول: أن يكون الاشتراك في أداة من الأدوات أو ما يستعمل رابطة في نظم الكلام، كقوله كل ما يعلمه الله فهو كما يعلمه والله يعلم الجوهر فهو إذاً كالجوهر، ووجه الغلط أن هو مشترك الدلالة بجن أن يرجع إلى كل ما تبتين أنه يرجع إلى العالم وبين أن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا وإن كان هاهنا واضحاً فإنه تخفى أمثاله في مواضع. الثاني: بأن تكون المقدمة بحيث تصدق مجتمعة فيظن أنها تصدق مفترقة بسبب حروف النسق بأن يصدق أن يقال الخمسة زوج وفرد، أي فيه اثنان وثلاثة فيظن أنه يصدق أن يقال هو زوج أيضاً، لأن الواو قد تطلق ويراد بها جميع الاجزاء، كما يقال الإنسان حيوان وجسم وقد تطلق ويراد بها بعض الأجزاء، كالمثال السابق. وكما يقال العالم جواهر وأعراض أي بعضه جواهر وبعضه أعراض. الثالث: ما يصدق مفترقاً، فيظن أنه يصدق مجتمعاً، كما يصح أن يقال زيد بصير أي في الخياطة وزيد جاهل أي في الطب، فقد صدق كل واحد مفرداً، ولو قلت زيد بصير جاهل كان متناقضاً. الرابع: ألفاظ تواطىء المتواطئة من وجه وهو الذي تتناوله الأشياء المتعددة التي تختلف ني الحقائق وتتفق في عوارض لازمة إما قريبة أو بعيدة، كقولك أن فعل العبد مقدور عليه للعبد ولله تعالى أي للعبد كسباً ولله اختراعاً، فكل واحد يشترك في أنه يسقى مقدوراً عليه أعي مقدوراً للعبد ومقدوراً لهّ سبحانه وتعالى، ولكن تعلق قدرة الله تعالى مخالفة لتعلّق قدرة العبد وقدرة الله تعالى مخالفة لقدرة العبد، فإن شبّهت هذا بالمشترك المحض فقد أخطأت، إذ لا شركة بين المسميين كالمشترى ولفظ العين إلا في اللفظ، إذ عبرنا بالشترك عن المختلفات في الحد والحقيقة المتساوية في التلقيب فقط، وها هنا لا بد من اعتقاد مشاركة ما. وإن شبّهت بالمتواطئة فقد ظلمت، فإن المتواطئة هي المتساوية في الحد، فإن السماء والإِنسان والشجر مشترك في الجسمية اشتراكاً واحداً من غير تفاوت البتة إلا في أمر مختلف خارج الجسمية وحدها. وأما هاهنا فوجه تعلق القدرة بالمقدور مختلف فقد عرفت أن الاسم الواحد يعتر به عن شيئين إما بالتواطؤ وإما بالاشتراك، و إما هذا القسم الثالث فبينهما فلنخترع له اسم المردد ليكون بإزاء الأقسام الثلاثة المعقولة ألفاظ ثلاثة معقولة. فهذا وأمثاله إذا وقعت الغفلة عنه خرج القياس عن النمط الذي ذكرناه فلم يكن منتجاً، إذ بطل به ازدواج المقدمتين حيث جعل الحد المشترك ما هو مشترك باللفظ لا بالحقيقة. المدخل الثالث: أن لا يكون نظمه جامعاً للشروط التي ذكرنا بعد وقوع الاشتراك بين المقدمتين بأن ألّف من مقدمتين نافيتين أو جزئيتين، أو كان من النظم الأول ومقدمة المحكوم عليه نافية أو مقدمة الحكم غير عامة، أو كان من النظم الثاني وقد طلب منه نتيجة مثبتة، أو من النظم الثالث وقد طلب منه نتيجة عامة. وقد ذكرنا أمثلة هذا. المدخل الرابع: أن لا تكون مفردات المعارف، أعني الأجزاء الأول متمايزة منفصلة بالحقيقة بل ملتفة مختلطة متضمنة لأمور متعددة، كان تقول مثلاً في مسالة ضمان المنافع بالإتلاف أنها تضمن لأن كل من أتلف مالاً ضمنه وغاصب الدار قد أتلف مالاً فيضمنه، فقوله الغاصب أتلف مالاً ذكر فيه مفردين المال والإِتلاف وطوى تحتهما أموراً كثيرة تلبيساً، إذ لا تصدق هذه المقدمة ما لم يبيّن أن المنافع أولاً موجودة وقد أنكر وجودها بعض الناس ولا يتلف إلا موجود، وثانياً أن يبين أنها باقية إذ الإِتلاف يستدعي البقاء وإلا تما يفني بنفسه كيف يتلف. وثالثاً أنها أموال واًن كل ما يتلف يضمن، فإن من فوت منافع بضائع الأمة كمن غصب بضاعة تاجر وحبسها سنة فمد فوت الربح ولا يضمن. ورابعاً أن يبيّن أنه مال فإن ذلك لا يسلم وذلك بأن يذكر حد المال. وخامساً أن يبين أن كل مال مضمون، فإن الحبة الواحدة مال ولا تضمن. وسادساً أن يبين أن ضمانه ممكن فما لا يمكن ضمانه لا يمكن الحكم به والضمان مثل والمنافع أعراض فلا يمكن مقابلتها بها، ولقوله قد أتلف مالاً مفردان تضمّنا هذه الأمور الكثيرة فلا يدري لعل التلبيس تطرق إلى واحد من هذه المراتب، .ومثاله من الكلام من يثبت حدوث الأعراض مثلاً، فإنا نقول كلما رأيناه الآن في محل ورأينا من قبله ضده فهو حادث، وبياض الشعر مثلاً رأيناه الآن ونرى قبله ضده فهو أيضاً حأدث، فهذا غير كاف ما لم يبين أولاً أن ما يدرك بحاسة البصر فهو كما يدرك، وذلك بان يعرف جميع شروط صحة الإِبصار بالبحث عن الأسباب واستقراء المشاهدات. وثانياً أن يبين إن العرض لم يكن كامناً مستوراً فظهر للبصر الآن فظهوره هو الحادث دون نفسه. وثالثاً أن يبيّن أنه لم يكن في موضع آخر ولا كان قد انتقل فرأى الآن لأنه انتقل الآن فيبطل انتقال العرض وكمونه حتى يتم النظر. المدخل الخامس: أن لا تكون النتيجة غير المقدمة بل عينها ولكن استعمل فيها للتلبيس لفظين مترادفين، كقولك كل بشر إنسان كأنك قلت كل إنسان إنسان، فانهما مترادفان فيصير قولك كل إنسان مكلف وهو مقدمة عين قولك فكل بشر مكلف وهو النتيجة، ومثاله في الفقه أن يقول الحنفي في تبييت النية في زمان رمضان أنه صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع، ونظمه أن كل ما هو صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت وهذا صوم عين فلا يفتقر إليه. وقوله صوم عين في الأصل مقدمة طُويت فيها بعض أجزاء النتيجة. وبيانه أن يقال ماذا أردت بقولك صوم التطوع صوم عين، فانه لا يسلم فيقول الذليل عليه أن من أصبح غير ناوٍ بالليل صلح يومه للتطوع ولم يصلح لغيره وما يصلح للشيء لا لغيره فهو عين في حقه فكان هذا صوم عين فيقال: إما قولك لا يصلح لغيره فلا يوجب التعيين فإن الليل لا يصلح للصوم ولا يقال إنه عين ولكن نضيف إليه أنه يصلح للتطوع وليس له معنى إلا أنه لا يفتقر إلى التبييت، أي تصح نيته من النهار، وهذا عين الحكم وقد احتجت إلى طلب علته وينبغي أن لا تكون العلة عين الحكم لأن الحكم نتيجة والعلة منتجة والمنتج ينبغي أن يكون غير النتيجة. وقولك تصح نيته من النهار جزء من تفسير قولك أنه صوم عين فصار الحكم جزء من نفس العلة. المدخل السادس: أن تكون المقدمات وهي الأجزاء الثواني متمايزة مفصلة وينطوي تحت هذا أمران: الأول أن لا تكون أجزاء المحكوم به والمحكوم متمايزة بأن يوجد هناك شيء من الموضوع يتوهم أنه من المحمول أو بالعكس، كقولك الجسم بما هو جسم إما أن يكون متحركاً أو ساكناً، فقولك بما هو جسم لا يدري أهو من المحكوم عليه أو من المحكوم. والثاني أن تكون أجزاء المحكوم عليه والمحكوم متمايزة لا يشتبه منها شيء، إلا أنها غير متمايزة في الاتساق، وذلك كما مثلنا به آنفاً من قولنا كل ما علمه اللآله فهو كما علمه والإله يعلم الجوهر فهو إذاً جوهر. وقد قدّمنا لك كيف دخل الخلل في اتساقه. المدخل السابع: أن لا تكون المقدمات أعرف من النتيجة بان تكون مساوية لها بالمعرفة كالنسب الإضافية إذا اخذ بعضها دليلاً على بعض، وذلك كأن تقول زيد أب لعمرو لأن عمراً ابنه. فإن كون عمرو ابناً لزيد وهو المقدّمة مساو في المعرفة لكون زيد أباً له وهو النتيجة. أو أخفى منها سواء كانت مبيّنة في النتيجة أو لا. إما الثاني فكما يقال في الاستدلال على ثبوت واجب الوجود من حدوث العالم وعدم صحة استناد التأثير إلى الحوادث، وغير ذلك مما ثبوت واجب الوجود أظهر منه. وأما الأول فكان تقول كل جسم متحيّز وكل متحيز يقبل التحول فالجسم يقبل التحوّل. فإذا قيل لك ولما قلت أن كل متحيز يقيل التحول قلت لأن الأجسام تقبل التحوّل وهي متحيزة فحكمت بأن كل متحيّز يقبل التحول، فقد جعلت النتيجة دليلاً على الكبرى وقد كانت النتيجة مدلولاً عليها. وهذا هو البيان الدوري و حاصله يرجع إلى بيان الشيء بنفسه وهو محال. فهذه مجامع مداخل الغلط من غير تطويل بالتفصيل وإن كان لا يدرك كُنهه إلا بالتفصيل، ولكن الإيجاز أليق بالحال. فان قلت فهذا مع الإيجاز اشعر بمثارات عظيمة للغلط فكيف الأمان منها مع تراكمها، فاعلم أن الحق عزيز والطريق إليه وعر وأكثر الأبصار مظلمة، والعوائق الصارفة كثيرة والمشوشات للنظر متظاهرة، ولهذا ترى الخلق يتلاطمون تلاطم العميان، وقد انقسموا إلى فرقتين فرقة سابقة بأذهانها إلى المعتقدات على سرعة فيعتقدها يقيناً ويظن كل شبهة ودليل برهاناً ويحسب كل سوداء ثمرة، فهؤلاء يعتقدون أنهم يعلمون الحقائق كلها و إنما العميان خصومهم. وطائفة تنبّهوا لذوق اليقين وعلموا أن ما في الناس فيه في اكثر عمى ثم قصرت قوتهم من سلوك سبيل الحق ومعرفة شروط القياس إما لبلادة في الفهم وإما لفقد أستاذ مرشد بصير بالحقائق غير منخدع بلامع السراب يطلع على جميع شروط البرهان. فهؤلاء يعتقدون أن الناس كلهمَ عميان يتلاطمون وأنه لا يمكن أن يكون في القوة البشرية الاطلاع على الحق وسلوك طريقه، فلا ذاك الأول حق ولا هذا الثاني صدق. و إنما الحق أن الأشياء لها حقيقة وإلى دركها طريق وفي قِوام البشر سلوك ذلك الطريق لو صادف مرشداً بصيراً، ولكن الطريق طويل والمهالك فيها كثيرة والمرشد عزيز فلأجلها صار الطريق عند اكثر مهجوراً، إذ صار مجهولاً. وهكذا يكون مثل هذا الأمر، فإنه مهما عظم المطلوب قلّ المساعد ومهما كثرت المخاوف راع الجبان الخائف، وكيف لا وأكثر العلوم المطلوبة في أسرار صفات الله تعالى و أفعاله تنبني على أدلة تحقيقها يستدعي تأليف مقدمات لعلها تزيد على ألف وألفين، فأين من يقوى ذهنه للاحتواء على جميعها أو حفظ الترتيب فيها، فعليك أيها الأخ بالجد والتشمير. فإن ما أوردته يهديك إلى أوائل الطريق إن شاء الله تعالى. الفصل السادس من القياس في حصر مدارك الأقيسة الفقهية والتنبيه على جمل يزيد الانتفاع بها على مجلدات تحفظ من الأصول الرسمية فنقول الحكم الشرعي تارة يكون مُدّرَكُه أصل العلم وتارة يكون مُدّرَكُه ملحق بأصل العلم. فالمعلوم بأصل العلم كالعلم بوجوب الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان، وبكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات الله عليه، وليس ذلك تفصيله من غرضنا، و إما الملحق بالأصل فله أقسام وتشترك في أمر واحد وهو أن من ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل عن درجة الاعتبار حتى يتّسع الحكم، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف، أي في عمومه، فإن غير البُر لا يلحق بالبُر ما لم يسقط اعتبار كونه بُراً في حكم الربوي، والحمص لا تلتحق به المكيلات ما لم تحذف اعتبار كونه مطعوماً، والثوب على مذهب أبن الماجشون لا يعتبر به ما لم يسقط اعتبار كونه مقدّراً، وهكذا كل من زاد إلحاقه زاد حذفه. فإذا عرفت. هذا فاعلم أن للإلحاق طريقين: أحدهما ألا يتعرض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به، فإما العلة الجامعة فلا يتعرض لها البتة، ومع ذلك فيصخ إلحاقه. وهذا له ثلاث درجات أعلاها أن يكون الحكم في الملحق أولى كما إذا قلت جامَعَ الأعرابي أهله فلزمته الكفارة، فمن يزني أولى بان تلزمه، لأن الفارق بين جماع الأهل والأجنبي كونه حلالاً وهذا أولى بالإسقاط والحذف من وجوب الكفارة في الاعتبار والدرجة الثانية أن يكون بطريق المساواة كما قال النبي" مَن اعتق شركاَ من عبدِ قوم عليه الباقي" فقلنا الأمة كذلك من غير أن نبيّن هاهنا علة سراية العتق ، كما لم نبين في المثال السابق علة وجوب الكفارة . ولكن نعلم أنه لا فارق إلا الأنوثة واْن الأنوثة لا مدخل لها في التأثير فيما يرجع إلى حكم الرق وهو ظاهر ، بل ذلك كما لو حكم عليه السلام بالعتق في غلام كبير ، لكنّا نقضي في الصغير ولو قضى في عربي لقضينا في الهندي وعلمنا أنه مساوٍ له . وإذا سجد رسول الله لسهوه في الصبح نعلم أن الظهر وسائر الأوقات في معناه ، إذ اختلاف الوقت نعلم قطعاَ أنه لا يؤثر في جبر النقصان . ولقد زلَ من قال إن إلحاق الأمة بالعبد للقرب ، فإن القرب من الجانبين على وتيرة واحدة . ولو ورد نص في أن الأمة تجبر على النكاح وهو ثابت بالِإجماع لكنّا نقول العبد في معناه . ولكن مأخذ هذا العلم ما تكرّر على أفهامنا من أحكام الشرع وعادته في قضية الرق والعتق أنه يسلك بالذكر والأنثى فبه مسلكاَ واحداً كما يسلك بالأبيض والأسود مسلكاً واحداَ . ولو لم نعرف هذا من عادته بطول ممارسة أحكام العتق والرق لكان لا يتضح ذلك البتة ولم يظهر أنه يسلك بالذكر مسلك الأنثى في عقد النكاح ، فلذلك لم يكن العبد في معنى الأمة في الإجبار . " الرتبة الثانية" أن يكون انحذاف الوصف الفارق مظنوناً لا مقطوعاً به كما تقول إن سراية العتق إلى نصف معين من العبد عند إضافته إلى نصف آخر أو إلى عضو معين كسرايته عند الِإضافة إلى الجزء الثائي، فإنه لا يفارقه إلا في كون المضاف معيّناً وشائعاً . ويكاد يغلب على الظن أن هذا الوصف وهو كون المضاف إليه شائعاَ غير مؤثّر في الحكم ، ولكن ليس هذا معلوماً كحذف وصف الأنوثة ، إذ فرق الشرع في إضافة التصرفات إلى المحال بين الشائع والمعين في البيع والهبة والرهن وغيرها ، وهذا يعارض أن الشائع في العتق والطلاق على الخصوص كالمعيّن في إباء الشرع الاقتصار فيه على البعض واعتبار هذا الوصف كي غير العتق والطلاق ، كاعتبارنا الأنوثة في غير الرق والعتقَ من الشهادات والنكاح والقضاء وغيره ، فيصير الأمر مظنوناً بحسب هذه التخمينات ، وعلى المجتهد أن يتبع فيه ظنه ويقرب منه حذف وصف الجماع حتى تبقى الكفارة منوطة بالإفطار كما قاله مالك . إذ كونه جماعاً يضاهي كونه خبزاَ ولحماً ، ولو أوجب الشرع بأكل الخبز لكنا نقول اللحم والفاكهة والماء في معنى الخبز ، إذ اختلاف آلات الإِفطار لا ينبغي أن يكون لها مدخل في الكفارة وحذف موجب الإزهاق ، حتى يكون الرمح والنشاب والسكين في معنى السيف ، مهما ورد النص بوجوب القصاص في السيف . ولكن يعارضه أن هذه الكفارة شرعت لأن تكون للزجر فيختص بمحل الحاجة والجماع مما يشتد الشبق إليه ويعسر الصبر عنه ولا ينزجر ملابسه عنه إلا بوازع شرعي، ولكن يعارضه أن الخز أيضاَ يشتهي في الصوم ودرجات الشهوة لا تمكن مراعاتها ، إذ يلحق جماع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سوراَ فاصلاَ . فهذا مما يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وان لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وان لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط . فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه . ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيلْ فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليظ لا في التخفيف . فلولا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط. لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لما علق تحريم أَمر الموطوءة وابنتها بوطئ المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطىء في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين: أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سهي فيها رسول الله في معناها، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئاً من الأبعاض عمداً ينبغي أن يسجد، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر. وأما الوجه الثاني فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة من المعاني، كما أن في الربوي ربما نبين أن الزبيب في معنى التمر قبل أن يتّضح أن العلة هي الكيل أو الطعم أو المالية أو القوت، إذ نعلم أنه كيف كان فالزبيب مشارك له فيه ولا يفارقه إلا في كونه زبيباً. وهذا لا ينبغي أن يؤثر قطعاً، والدليل على أنه لا بد من استشعار حيال المعنى عن بعد وإجمال، حتى يمكن الإِلحاق بأنه نص صاحب الشرع صلوات الله عليه وعلى آله على أن الثوب إذا أصابه بول الصبي كفى الرش عليه، فلولا أنه ذكر إن الصبية بخلافه لكنّا ننازع إلى أنها في معناه، ولكن لما ذكر الصبية وإنها بخلافه حسم علينا باب توهم المعنى. إما ترانا كيف نحكم بمنع المرأة من البول في الماء الراكد أخذا من قوله لا يبولن احدكم في الماء الراكد، والخطاب مع الرجال وإن خطر لك أن النساء يدخلن تحت هذا الخطاب، فقدّر أنه لو قال لرجل لا تبل في الماء الراكد. لكنا نقول ذلك للمرأة لعلمنا بان الشرع بين فضلات بدن الرجال والنساء في النجاسات فما رأينا للأنوثة مدخلاً في النجاسات، وعرف ذلك من الشرع وكان جراءتنا على الشرع للإلحاق لهذا ولتوهمنا أن البول مستقذر وأن الماء معد للتنظيف فلا ينبغي أن يختلط به. فهذه أقسام الطريق الأول وهو أن لا يتعرض الملحق إلا للحذف. إما الطريق الثاني فأن يتعرض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق وهذه ثلاثة أقسام: الأول أن يكون المعنى مناسباً كوصف الإِسكار في التحريم والآخر أن يكون مؤثراً كقول أبي حنيفة رضي الله عنه أن بيع المبيع قبل القبض باطل لما فيه من الضرر، وذلك لا يجري في العقار، وزعم أن التعليل بالضرر أولى لأن ذلك ظهر أثره في موضع آخر بالنص وهو بيع الطير في الهواء. وهذا قد قدّرنا وجهه في مسألة بيع العقار قبل القبض في كتاب المبادي والغايات. وأما أقسام المناسب والمؤثر والفرق بينهما فقد ذكرناه في كتاب شفاء العليل في بيان التشبيه والمخيل. القسم الثالث أن لا يكون الجامع مناسباً ولا ممّا ظهر تأثيره بالنص في موضع آخر، ولكنه توهم الاشتمال على معنى مناسب لم يطلع على عينه، كقولنا الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمّم. فإنا لا نحصر الفوارق ولا نتعرض لحذفها بل تعرضنا لمعنى جامع، والفوارق كثيرة وليس الجامع مناسباً ولا مؤثراً ولا يغرنك ما توهم من التخيلات في معرض الإخالة من لا يدري ذوق الإخالة، وقدّر أن تلك التخييلات لم تكن، فبدونها تحصل غلبة الظن وهذا أخفى أنواع القياس وأدقها، فربما يخص باسم الشبه، لران كان كل قياس لا ينفك عن شبه من الفرع والأصل ووجه جواز الجكم لمثل هذا يطول تحقيقه فاطلبه إن رغبت فيه في مسئلة الربوي من كتاب المبادي والغايات ومن شفاء الغليل. وهذا القدر كاف في الأقيسة الفقهية ففيه على ايجازه من الفوائد ما لا يعرف قدره إلا من طال في المقاييس الفقهَية تعبه. القسم الثاني من الكتاب في محك الحد قد ذكرنا أن أحد قسمي الإِدراك هو المعرفة، أعني العلم بالمفردات، وان ذلك لا ينال إلا بالحد فلنورد فيه "فنين": أحدهما ما يجري مجرى القوانين والأصول والآخر ما يجري مجرى الامتحانات للقوانين. ما يجري مجرى القوانين والأصول القانون الأول: إن الحد يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه، والسؤال طلب وله لا محالة مطلب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع: المطلب الأول: مطلب هل، إذ يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود، كقول القائل هل الله موجود، أو يطلب الموجود بحال وصفة، كقوله هل الله خالق البشر وهل الله حي. المطلب الثاني: مطلب ما، ويُطلق على ثلاثة أوجه: الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا بدري العُقار ما العُقار، فيقال له الخمر إذا كان يعرف الخمر. الثاني أن يطلب لفظاً مميّزاً يتميز به المسؤول عنه عن غيره بكلام جامع مانع كيف ما كان الكلام سواء كان عبارة عن لوازمه أو ذاتياته، كقول القائل ما الخمر أي ما حد الخمر، فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة و يحفظ في الدن، والمقصود أن لا يتعرض لذاتياته، ولكن تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج عنه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. الثالث أن يقال ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب، فيكون ذلك كاشفاً عن كُنه حقيقته الذاتية، ويتبعه أيضاً أنه تمييز جامع مانع ولكن ليس المقصود التمييز بل تصور كُنه الشيء وحقيقته، ثم التميز يتبعه لا محالة. واسم الحد في العادة قد يُطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. فلنخترع لكل واحد اسماً ولنسئم الأول حداً لفظياً، إذ السائل ليس يطلب إلا شرح اللفظ، ولنسمَّ الثاني حداً رسمياً وهو طلب مترسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء، ولنسمَّ الثالث جداً حقيقياً إذ مدرك الطالب فيه درك حقيقة الشيء. وهذا الثالث شرطه أن يكون مشتملاً على جميع ذاتيات الشيء. فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقال جسم فقد جاء بوصف كاف لو كان ذلك كافياً في الجمع والمنع، ولكنه ناقص بل حقه أن يضيف إليه المتحرك بالإرادة. فإن كُنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع الأمرين. فأما المترسم الطالب للتمييز فيكفيه قولك حساس وإن لم تقل جسم أيضاً. وأما الطلب الثالث: فمطلب لِمَ، وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان وقد سبق. وأما الرابع: فهو مطلب أي وهو الذي يطلب تمييز ما عرف جملته عمّا اختلط به، كما إذا قيلَ ما الشجر فقلت إنه جسم، فينبغي أن يقال أي جسم هو فنقول هو نام. وأما مطلب كيف وأين ومتى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب بل المطلوب به صفة الموجود. القانون الثاني: إن الحاد ينبغي أن يكون بصيراً بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعَرَضية كما ذكرناه في الفن الأول من الكتاب، أعني به طالب الحد الحقيقي. إما الأول اللفظي فيتعلق بساذج اللغة، وأما الرسمي فمؤنته قليلة والأمر فيه سهل، فإن طالبه قانع بالجمع والقنع بأي لفظ كان، لص إنما الغويص العزيز الحد الذي سميناه حقيقياً، وليس ذلك إلا ذكر كمال المعاني التي بها قِوام ماهية الشيء، أعني بالماهية ما يطلب القائل بقوله ما هو. وان هذه صيغة طالب لحقيقة الشيء فلا يؤخذ في جواب الماهية إلا الذاتي، والذاتي ينقسم إلى عام يسمى جنساً وإلى أخص ويُسقى فصلاً، و إلى خاص ويُسمى نوعاً. فإن كان الذاتي العام لا أعتم منه يُسمّى جنس الأجناس وان كان الذاتي الخاص لا أخص منه يُسمى نوع الأنواع. وهذا اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم على هذا الاصطلاح فلا ضَيرَ فيه. فإنه كالمستعمل أيضاً في علومنا، ومثاله إذا قلنا الجسم ينقسم إلى نام وغير نام، والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وإلى غير عاقل كالبهائم. فالجسم جنس الأجناس، إذ لا أعم فوقه والإنسان نوع الأنواع، إذ لا أخص تحته، والنامي نوع بالإضافة إلى، الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإِضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه. وكذا الحيوان بين النامي الأعم وبين الإنسان الأخص. فإن قيل كيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وحجام أخص منه. قلنا لم نعنِ في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا به الأعم الذي هو ذاتي الشيء، أي هو داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوماً للعقل، وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية، إذ بطلانه عن الذهن لا يوجب زوال الماهية بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا سلك تحيط به ثلاثة أضلاع، أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل تحيط به سبعة اضلاع، فهمَ السائل حد المسبع ولو لم يعلم إن المسبع موجود أم لا في الحال. فبطلان العلم بوجوده لا يبطل من ذهنه فهم حقيقة المسبع، ولو بطل من ذهنه الشكل لم يبق المسبع مفهوماً عنده، فقد أدركت التفرقة بين نسبة الوجود إليه وبين نسبة الشكل إليه، إذ زوال أحدهما عن الذهن مبطل حقيقته وزوال الآخر غير مبطل، فهذا هو المراد بهذا الاصطلاح. وأما الجوهر فعلى ما نعتقده داخل في الماهية ؟ فأنا نفهم منه المتحيز وهو حقيقة ذاتية، فيكون الجنس الأعم عندنا هو الجوهر وينقسم إلى جسم وغير جسم وهو الجوهر الفرد. وأما المنطقيون فيعبّرون بالجوهر عن الموجود لا في موضع. وإذا لم يكن الوجود ذاتياً فبأن يضاف إليه لا في موضع لا يصير ذاتياً لأنه سلب محض فيصح اصطلاحهم بحسب تفاهمهم واعتقادهم لا بحسب اعتقادنا وتفاهمنا. وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلاً وقصيراً وكاتباً ومحترقاً وأبيض وأسود فهو لا يدخل في الماهية، إذ لا يتغير بتغييره الجواب عن طلب الماهية. فإن قيل لنا ما هذا قلنا إنسان وكان صغيراً فكبر وطال وأحمر وأصفر، فسئل مرة أخرى أنه ما هو؟ كان الجواب ذلك بعينه. ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وميل ما هو قلنا نطفة، فإذا صار جنيناً ثم مولوداً فقيل ما هو؟ تغيّر الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان. وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا إنه ماء كما في حالة البرودة، ولو استحال بخاراً بالنار تغير الجواب. فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل. فإذاً، قد عرفت بهذا معنى الجنس والنوع والفصل. القانون الثالث: إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحدّه حدَّا حقيقًا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقياً إلا بها، فإن تركتها سقيناه رسمياً أو لفظتًا وخرج عن كونه معرباً عن حقيقة الشيء ومصوراً كُنه معناه في نفس السائل الأول أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول. فإذا قيل لك مشيراً إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد وأن تقول جسم، ولكن لو اقتصرت عليه بطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز عن ما لا ينمو، فهذا الاحتراز يُسمّى فصلاً، إذ فصلت به المحدود عن غيره، ثم شرطك أن تذكر جميع ذاتياته و إن كان ألفاً ولا تبالي بالتطويل. ولكن ينبغي أن تقدّم الأعم على الأخص، فلا تقول نام جسم بل بالعكس. وهذا لو تركته تشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ والإنكار عليك في ذلك أقل ممّا في الأول. وهو إن تقتصر على الجسم. والثالث انك إذا وجدت الجنس القريب فإيّاك أن تذكر البعيد معه فيكون مكرراً كما تقول مائع شراب، أو تقتصر على البعيد فيكون مبعداً كما إذا قيل ما الخمر فلا تقل جسم مسكر مأخوذ من العنب. و إذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذالي و مطرد ومنعكس ولكنه مخيّل قاصر عن تصور كُنه حقيقة الخمر. بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم، وهو أيضاً ضعيف. بل ينبغي أن تقول شراب مسكر، فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنساً أخص منه. فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل، إذ الشراب يتناول سائر الأشربة، واجتهد أن تفصّل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك، وهو كذلك في أكثر الحدود، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى ذكر اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة؟ فإن الخفي لا يعرف به كما إذا قيل ما الأسد قلت سبع أبخر يتمتز بالبخر عن الكلب، فان البخر من خواصه ولكنه من الخواص الخفية، ولو قلت شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض اقرب إلى الفهم لأنها أجلى وأكثر ما يرى في الكتب من الحدود رسمية، إذ الحقيقة عزيزة ورعاية الترتيب حتى لا يبتدي بالأخص قبل الأعم عسمير، وطلب الجنس الأقرب عسير. فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع، فتجتمع أنواع من العسر، وأحسن الرسميات ما وضع فيها الجنس الاقرب، وأتتم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابع أن تحترز عن الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة، واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك، فان أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو اشد مناسبة للغرض واذكر مرادك به للسائل. فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة ولو طول مطوّل أو استعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف الحقيقة بذكر جميع الذاتيات، فانه المقصود وهذه المزايا تحسينات وترتيبات كالأبازير من المقصود. و إنما المتجادلون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود للأصل والتوابع، حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث أن الثقة مردًدة بين العلم والأمانة، وهذا المعترض مُهوَّس، فإن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعيق فيه جهة الفهم، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا لأن العين قد يراد بها الذهب والشمس، فإنه مع قرينة الحاسة ذهب الإِجمال وحصل التفهم الذي هو طلب السؤال. واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المترسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها. القانون الرابع: في طريق اقتناص الحد: اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا حد الخمر أنها شراب مسكر فقيل لنا لم كان محالاً أن تطلب صحته بالبرهان، لأن قولنا حد الخمر أنها شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنها شراب مسكر. وهذه القضية إن كانت معلومة بغير وسط فلا حاجة إلى البرهان وان لم تعلم وافترقنا إلى وسط وهو البرهان كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحدة قضية واحدة، فبماذا نعرف صحتها ؟ فإن احتيج إلى وسط آخر تداعى إلى غير نهاية وان وقف في موضع بغير وسط فبماذا نعرف في ذلك الموضع صحته فلنتخذ ذلك طريقاً في إدراك الأمر. مثاله لو قلنا حد العلم إنه معرفة فقيل لِمَ، فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلاً وكل اعتقاد فهو معرفة فيقال ولِمَ قلتم كل علم فهو اعتقاد ولِمَ قلتم إن كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين. وهكذا يتداعى، بل الطريق أن النزاع إن كان فيه من خصم فيقال صحته عرفت باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلّم الخصم به بالضرورة. وأما كونه معرباً عن تمام الحقيقة فربما يعاند فيه ولا يعترف به، فان منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه، وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان وجرّدنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة، مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضموناً، فيقول الخصم نسلّم أن المغصوب مضمون ولكن لا نسلم أن الولد مغصوب، فنقول الدليل على أنه منصوب أن حد الغصب قد وجد فيه، فإن حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد، وربما يمنع كون اليد عادية وكونه إثباتاً بل يقول هو ثبوت، ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال أسلّم أن هذا موجود في الولد ولكن لا أسلمّ أن هذا حد العصب، فهذا لا يمكن إقامة البرهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك، فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة، فنقول قد زدت وصفاً وهو الإِزالة. فلننظر هل يمكننا أن نقدر اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف، فان قدرنا عليه كان يقول الزيادة محذوفة، وذلك بأن يقول الغاصب من الغاصب يضمنه المالك، وقد أثبت اليد العادية وما أزال المحقة بل المزال لا يزال، وكان الأول قد أزال اليد المحقة فهذا طريق قطع النزاع، وأما الناظر مع نفسه فإذا تحرّر له الشيء. وتلخص له اللفظ الدال على ما تحرّر في ذهنه علم أنه واجد للحد. القانون الخامس: في حصر مداخل الخلل في الحدود: وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. إما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك إن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا، فالآلة جنس والحديد محل للصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان وألان ليس بموجود، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق أيضاً يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره . وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلاً عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول. وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن، ولا شك ولا جهل، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة، كقول القائل حد الأب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفته حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيله على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بان تدخل العلة في حدّه، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهاراً فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها وسنزيدها شرحاً في الامتحانات. القانون السادس: أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حدّه إلا بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم. وأما الحد فلا، ومعنى الفرد مثل الموجود. فإذا قيل لك ما حدّ الوجود فغايتك إن تقول هو الشيء أو الثابت، فتكون قد أبدلت اسماً باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في وضع اللسان. كما تقول ما العُقار فيقول هو الخمر وما القَسْورة فيقول هو الأسد. وهذا أيضاً إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر عند السائل من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحاً للفظ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتلخص ذلك في عقله إلا بأن يقول سبع من صفته كيت وكيت. فأما تكرّر الألفاظ المترادفة فلا يغنيه، ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيّدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئاً من لوازمه وتوابعه. فكان حدّك رسمياً غير معرب عن الذات، فلا يكون حقيقياً. فإذاً الموجود لا حدّ له فإنه مبتدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه. و إنما قلنا المعنى الفرد ليس له حد حقيقي لأن معنى قول القائل ما حدّ الشيء كقولك ما حدّ هذه الدار والدار جهات معدودة إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المتحدة المتعددة التي هي، أعني الدار محصورة متسورة بها، فإذا قيل ما حدّ السواد فكان يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد. فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرني ومعلوم وموصوف ومذكور وواحد وكغير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك مما يوصف به من الأصناف، وهذه الصفات بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول، ولكن ليست ذاتية ككونه معلوماً وواحداً وكثيراً، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لوناً. فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لنجمع له تلك المعاني المتعدّدة بتلخيص، بان نبدأ بالأعم ونختم بالأخص ولا نتعرض للعوارض، وربما طلب أن لا يتعرض أيضاً للوازم بل للذاتيات فقط. فإذا لم يكن المعنى مركباً من ذاتيات متعددة كالوجود كيف يتصور تحديده وكان السؤال عنه كقول القائل ما حدّ الكرة ولنقدّر العالم كله على شكل كرة، فلو سئل عن حدّه كما سئل عن حدود الدار كان محالا، إذ ليس له حدود وإنما حدّه منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس بسطوح مختلفة ولا هي منتهية إلى مختلف، حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا، فهذا المثال المحسوس ربما يفهم منه مقصدي من هذا الكلام ولا يفهم من قولي إن السواد مركب من معنى اللونية والسوادية لم إن اللونية جنس والسوادية نوع إن في السواد ذات متباينة متفاصلة فلا نقول السواد لون وسواد، بل هو لون ذلك اللون بعينه هو سواد، بل معناه يتركب ويتعدد عند العقل حتى يعقل اللونية مطلقاً ولا تخطر له الزرقة مثلاً ثم يعقل الزرقة فيكون العقل قد عقل أمراً زائداً لا يمكن أن تجحد تفاصيله في الذهن، ولا يمكنه أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا يظنن إن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة، لأنه إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه، وإذا زاد شيئاً للاحتراز فيقال الزيادة عين الأول أو غيره، فان كان عينه فهو تكرر فاطرحه وان كان غيره فقد اعترفت بآمرين. وإذا قال في حد الجوهر إنه موجود قلنا بطل بالعرض. وإذا قال متحيّز قلنا قولك متحيّز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه، فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود فإن المترادفة كالمتكررة فهو لم إذاً باطل بالعَرَض. وإن تولك موجود لا يدفع النقض، وقولك متحيّز فهو عينه بالمعنى لا باللفظ. لأن كل لفظ لا يدفع نقضاً، فتكراره لا يدفع ومرادفه لا يدفع، فمهما انتقض قولك أسد بشيء لم يندفع النقض بقولك ليث كما لا يندفع بقولك أسد. فقد عرفت أن المفرد لا يمكن أن يكون له حدّ حقيقي إلا لفظي، كقولك في حدّ الموجود إنه الشيء ؛ أو رسمي كقولك في حدّ الموجود إنه المنقسم إلى الفاعل والمفعول أو الخالق والمخلوق أو القادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما يشبه من لوازم الموجود وتوابعه. فكل ذلك ليس نبأ عن ذات الوجود بل عن تابع لازم لا يفارق البتة. واعلم أن المركب إذا حدّدته بذكر آحاد الذاتيات توجّه السؤال عن حد الآحاد. فإنك إذا قيل لك ما حدّ الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حدّ النبات فتقول جسم نام، فيقال وما حدّ الجسم فتقول جواهر مؤتلفة، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضاً تأتلف من مفردين فلا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضاً برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة. فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على إن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين. الفن الثاني من محك الحد في الامتحانان الامتحان الأول: اختلف الناس في حدّ الحد فمن قائل يقول حدّ الشيء هو حقيقته ونفسه وذاته، ومن قائل يقول حدّ الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع، ومن قائل ثالث يقدر هذه مسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر وانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد، وهذان قد تباينا وتباعدا وما تواردا و إنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الإسم المشترك الذي ذكرناه . فان من يحدّ المختار بأنه القادر على ترك الشيء وفعله ليس مخالفاً لمن يحدّه بأنه الذي خلى ورأيه، كما أن من حدَّ العين بأنه العضو المدرِك للألوان بالرؤية لم يحالف من يحدُ العين بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حدَ هذا أمراً متبايناً بحقيقة الأمر الآخر، وإنما اشتركا في اسم العين والمختار فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع. فان قلت فما الصحيح عندك في حدّ الحد فاعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أولاً في عقله بلا لفظ ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. فلنقرّر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقة في نفسه، الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعتر عنه بالعلم. الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال لذي في النفس. والرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ، وهي الكتابة، والكتابة تَبعُ اللفظ، إذ تدل عليه، واللفظ تَبِعُ العلم، إذ يدلى عليه، والعلم تَبِعُ المعلوم، إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والآخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم لأنها موضوعة بالاختيار. ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها موضوعة قصد بها مطابقة الحقيقة. ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع، وإنما استعير لهذه المعاني للمشاركة في معنى المنع، فانظر أين تجده في هذه الأربعة. فإن ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به، إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره . فإذاً الحقيقة جامعة مانعة. فان نظرت إلى مثال الحقيقة في الدهن وهو العلم وجدته أيضاً كذلك، لأنه مطابق للحقيقة المانعة. والمطابقة توجب المشاركة في المنع. وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضاً حاصرة، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق. وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة، فهي أيضاً مطابقة، وقد وجد المنع في الكل إلا إن العادة لم تجرِ بإطلاق اسم الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثانية، بل هو مشترك بين حقيقتين. فلا بد وأن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين، والمختار ونظائرهما. فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حدّ الحداثة حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حدّ الحد إنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضاً اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي. فحدّ الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقوله الموجود هو الشيء والحركة هي النقلة والعلم هو المعرفة هو تبديل اللفظ لما هو واقع عند السائل على شرط يجمع ويمنع. وأما حدّ الحد عند من يقنع بالرسميات أنه اللفظ الشارحِ للفظ بتعديد صفاته الذاتية واللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس. وأما حدّه عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي أنه القول الدال على تمام ماهية الشيء. ولا يحتاج في هذا أن يذكر الطرد والعكس لأن ذلك يتبع الماهية بالضرورة ولا يتعرض للازم والعرضي، فإنه لا يدل على الماهية إلا الذاتيات. فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية. وهذه أربعة أمور مختلفة كما دلّ لفظ العين على أمور مختلفة فيعلم صياغة الحد. فإذا ذكر لك اسم وطُلِبَ حدّه فانظر، فإن كان مشتركاً فاطلب عنده المعاني التي فيها الاشتراك، فإن كانت ثلاثة فاطلب ثلاثة حدود، لأن الحقائق اذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود. فإذا قيل ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد، فإن الإنسان مشترك بين أمور، إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإِنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإِنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإِنسان الميت وله حد آخر. فإن الذكر المقطوع واليد المقطوعة تسقى يداً وذكراً لا بالمعنى الذي كان يُسمّى به، إذ كان يُسمّى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع يُسمّى به من حيث أن شكله له اسم و لو صنع شكله من خشب أو حجر أعطي اسمه، وكذلك يقال ما حدّ العقل فلا تطمع في أن يحدّ بحد واحد وهو هوس لأنه مشترك يطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإِنسان لدرك العلوم الضرورية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يُسمّى عاقلاً، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدوء، فيقال فلان عاقل أي فيه هدوء، وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل حتى أن الفرس وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلاً ويقال للحجاج إنه عاقل بل داهية، ولا يقال للكافر وإن كان فاضلاً في جملة من علوم الطب والهندسة إنه عاقل، بل إما داهية و أما فاضل داما كبير. فهكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتعدّد الحدود في حد العقل فباعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الحائزات واستحالة المستحيلات. وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات. فإن قلت فأرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الخلاف. في الحد افترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء. فاعلم أن الخلاف في الحد يتصور في موضعين: أحدهما أن يكون اللفظ بكتاب الله أو سنّة رسوله أو قول إمام من الأئمة، ويكون ذلك اللفظ مشتركاً فيقع النزاع في مراده به، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد، فالخلاف تباين بعد التوارد. ولذا فلا نزاع بين من يقول السماء قديم وبين من يقول المغصوب مضمون، إذ لا توارد، ولو كان لفظ الحد من كتاب الله تعالى أو كتاب إمام يجوّز التنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صنعة التفسير لا من صناعة النظر بالعقل. الثاني أن يقع الخلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حدّه أمراً بائناً ولا يحدّ حده على المذهبين فيختلف. كما يقول المعتزلي حدّ العلم اعتقاد الشيء، ونحن نخالفه في ذكر الشيء، فان المعدوم عندنا ليس بشيء، فالخلاف في مسالة أخرى تتعدّى إلى الحد، ولذلك يقول القائل حدّ العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا، ويخالف من يقول في حدّه انه غريزة يتهيأ بها إدراك المعقولات من حيث أنه ينكر وجود غيره، بل يقول ليس في الإِنسان إلا جسم وفيه حياة وعلوم ضرورية إما غريزية أو مكتسبة وعلوم نظرية، فلا يتميز بها القلب عن العقب والإنسان عن الذباب. فإن الله قادر على خلق العلوم النظرية في العقب وفي الذباب فيثير الخلاف في غير الحد خلافاً في الحد. فهذا وإن أوردناه في معرض الامتحان فقد أفدناك به ما يجري على التحقيق مجرى القوانين. الامتحان الثاني: اختلف في حد العلم فقيل هو المعرفة وهذا حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود، فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه. كما يقال حد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظياً بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم التطويل والتكرير، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك، فهو كقول القائل حدّ الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود، فان هذا التطويل لا يخرجه عن كونه لفظياً ولست أمنع من أن تسمى مسمى هذا حداً. فلفظ الحد لفظ في اللغة المنع وهو مباح فيستعيره من يريده لما فيه نوع من المنع. فلو سمّى قلنسوة حداً من حيث أنه يمنع البرد لم يمنع من هذا أن كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع، فإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كُنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة. ولميل أيضاً إنه الذي يعلم به وإنه الذي تكون الذات به عالمة، وهذا الحد أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية. ولكن قد يتوهم في الأولً شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظيين عند السائل أشهر من الآخر، فشرح الأخفى بالأشهر. إما العالم ويعلم فهو مشتق من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح لديه المشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه، وهو كقول القائل في حد الفضة إنه الذي تصاغ منه الأواني الفضية. وقيل إنه الوصف الذي يتأتّى للمتصف به إتقان العلم وإحكامه. وهذا ذكر لأزم من لوازم العلم فيكون رسمياً وهذا أبعدهما قبلة من حيث أنه أخص من العلم، فإنه يتناول بعض العلوم ولكن أقرب بوجه اًخر مما تبله وهو أنه ذكر لازم قريب من الذات بعيد شرحاً وبياناً بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة. فإن قلت فما طريق تحديد العلم عندك فاعلم أن العلم اسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس، وله حد بحسبه، وبطلق على التخيل، وله حد آخر بحسبه ويطلق على الظن، وله حد اخر بحسبه ويطلق على علم الله على وجه آخر أعلى وأشرف. ولست أعني أنه أشرف لمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة. ويطلق على إدراك العقل وحدُه على الخصوص كما ينقدح في الحال أنه سكون الذهن جزماً عن بصيرة إلى الأمر بانه كذا أو ليس كذا والأمر كذلك. ولا يبعد أن يحتاج هذا الجدال إلى مزيد تحرير وتنقيح ليس يتّسع القلب ألان لتضييع الوقت به فعليك بإتمامه، وغرضي ذكر الطريق للحد. تقول يعترضون على هذا الحد بأنك استعملت لفظ السكون وهو مشترك ولفظ الذهن وهو غريب ولفظ البصيرة، وكأنه يشير إلى الاتصال ولا يلتفت إلى المشغوفين بالعبارات المصدوفين بغير الحق عن الحقائق. فاعلم أن السكون إذا قرن بالذهن زال منه الإِجمال، وأن الذهن ذكرته لأني أظنه مفهوماً عندك ولا أمنع من إبداله في حق من لا يعرفه، فقصد الحد الحقيقي تصور كُنه الماهية في نفس المستفيد الطالب باي لفط كان، فإن قلت فهل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلت: إما الحد اللفظي فيتصور أن يكون له ألف، وذلك يختلف بكثرة الأسامي في بعض اللغات وقلتها في البعض ويختلف باختلاف الأمم. وأما الحد الرسمي أيضاً فيجوز أن يتعدّد لأن لوازم الأشياء ليست محصورة. وأما الحد الحقيقي فلا يتصور إلا واحداً لأن الذاتيات محصورة، فإن لم يذكرها لم يكن حقيقياً وإن ذكر بعضها فالحد ناقص وان ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو، فإذاً لا يتعدّد هذا الحد. الامتحان الثالث: قيل في حد العرض ما لا يبقى أو ما يستحيل بقاؤه أو لا يقوم بنفسه، وهذا مختل لأنه ذكر لازم ليس يتعرض للذات، ثم هو لازم سلبي والإثبات أقرب إلى التفهيم. وقيل إنه الذي يعرض في الجوهر، وقولك يعرض كأنه مأخوذ منه العرض وفيه إدخال الجوهر في حدّه وهو أيضاً مما يطلب حدّه، فيمكن إحالته على العرض بأن يقال الذي يقوم به العرض. فليس هذا الفن مرضياً بل نقول طالب هذا الحد كأنه يطلب أن يتفهم ما نريده في اصطلاحنا بهذا الاسم، وإلا فالعَرَض ما ثبتت حقيقته في النفس ثبوتاً أولياً لا يحتاج إلى طلبه بصناعة الحد، إذ بتنا أن من المعارف ما يستغنى في تفهمها عن الحد وإلا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية. فنقول له اعلم إن العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما يستدعى محلاً يقوم به وإلى ما لا يستدعيه، ثم أدرك انقسام القائم بالعين إلى ما يطرأ بعد أن لم يكن وإلى ما لا يكون طارئاً كصفات الله تعالى. فالعَرَض عبارة عن الذي يطرأ بعد أن لم يكن ويستدعي في تحديده في الوقت أنه حادث يستدعي وجوده محلاً يقوم به. والمعتزلة إذ نفوا صفات الباري كان اصطلاحهم لا يستدعي التقييد بالحادث بل يمكن أن يعبّروا به عن كل موجود يقوم بغيره. الامتحان الرابع: قيل في حد الحادث إنه الذي ليس بقديم.فهو هوس، كقول القائل القديم الذي هو ليس بحادث فهو حد الضد بالضد، ويدور الأمر فيه. وقيل إنه الذي تتعلق به القدرة القديمة وهو ذكر لازم غامض لم يدرك إلا بالأدلة. وأما الحادث فمفهوم جلي بغير نظر واستدلال، ومن الضلال البعيد بيان الجليّ بالغامض. ولعَمْري من يطلق اسم الحد على كل لفظ جامع مانع فهذا عنده لا محالة حد. وكذا قوله الحادث ما ليس بقديم. ولكنّا نقول العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما له أول بمعنى أنه لم يكن موجوداً ثم وجدوا لي ما لا أول له، فالقديم عبارة عن أحد القسمين والحادث الآخر. فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود أو المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم. وهذه ليست حدوداً بل الكل حد واحد والعبارات متكرّرة دون المعنى. لا كقول القائل إنه متعلق القدرة الحادثة لأنه حد آخر مفهومه الأول غير مفهوم هذه الحدود يلزم ذلك المفهوم، إذ يلزم متعلق القدرة أن يكون حادثاً وفرق بين المتلازمين وبين الشيء الواحد الذي عنه عبارتان. وقول القائل الموجود عن عدمٍ ليس بصحيح لأنه يقال السرير من الخشب، بمعنى أنه جعل الخشب سريرا والعدم لا يجعل وجوداً. فهذا أمر الاعتراضات النادرة. فإنا لا ننكر بأن لفظ عن مشترك، ولكن بينا أن المشترك إذا فهم بالقرينة التحق بالنص وهو معلوم هاهنا، ولست أمنع من الاجتهاد في الاحتراز عن المشترك فذلك أحسن، وإنما أمنع من استعظام هذا الصنيع الذي لا يعظم عند المحصل. فلا هذا مذموم كل ذلك الذم بعد حصول الفهم، ولا ذلك محمود كل ذلك الحمد؛ لاسيما إذا لم يفد الشرج. بل الأمر أهون، فما الظنون بل قول القائل موجود عن عدم أحمتُ إلي من قوله هو متعلق القدرة. الامتحان الخامس: اختلف في حد المتضادين وليس من غرضي غير الحدود، ولكن العرض أن أفيدك طريق التحديد بعد أن. عينت في التماسك ذلك، فليكن نظرك في الحدود كما أقوله، وهو أن المتضادين دالان على شيئين لا محالة وكل شيئين فينقسمان إلى ما لهما محل و إلى ما لا محل لهما، وكل ما لهما محل فينقسمان إلى ما يجتمعان كالسواد والحركة و إلى ما لا يجتمعان. فينقسم إلى ما يختلف بالحد والحقيقة كالسواد والبياض وإلى ما لا يختلف. والذي لا يختلف أيضاً ينقسم إلى ما لا يجوز أن يكون لواحد عارض أو لازم ليس للآخر بل يسد أحدهما مسد الآخر في كل حال، كالبياضين والسوادين، وبالجملة كالمثلين. والى ما يتحد في الحدود والحقيقة ولا تختلف طباعهما، ولكن لا يسد أحدهما مسد الآخر، كالكونين في مكانين وليس كالكونين في مكان واحد، إذ لا يجتمع في الجوهر في حالة واحدة لا كونان في مكان واحد ولا كون في مكانين. والذي بينهما اختلاف ينقسم إلى ما بينهما غاية الخلاف الذي لا يمكن أن يكون وراءه خلاف كالسواد والبياض والحركة الصاعدة والحركة الهابطة والى ما ليس في الغاية، كمخالفة الماء الحار الفاتر، فإنه أقل من مخالفته للبارد والشديد البرودة، وكمخالفة الحركة يميناً الصاعدة، فإنها أقل من مخالفتها للحركة يساراً، أعني المقابل. فإذا تمهدت في عقلك هذه الأقسام فانظر إلى لفظ المتضادين وأنه كيف وضع الاصطلاح فيه. وأقل الدرجات في المتضادين هما المعنيان اللذان يتعاقبان على محل واحد لا يجتمعان سواء كانا مختلفين أو متماثلين. وقد اصطلح فريق. على إطلاق الاسم على هذا، فيوضع هذا الاسم. سقوا المثلين متضادين، وفريق أخر شرطوا زيادة لإطلاق هذا الاسم وهو أن لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم يطلقوه على الكونين في حيّز واحد وأطلقوه على الكونين في حيزين. وفريق ثالث شرطوا زيادة أمر وهو أن يكون بينهما اختلاف في الحد والحقيقة، أي لا يدخل أحدهما في حد الآخر، فإنا إذا حدّينا الكون بأنه اختصاص بالحيّز دخل فيه جميع اكوان، فليس بين الاحياز اختلاف بالطبع ولا بين الأكوان بل هي متشابهة. فهؤلاء لم يسقوا الأكوان متضادة لكن المختلفات كالحرارة والبرودة. وفريق رابع شرطوا زيادة، وهو أن يكون بينهما غاية الخلاف الممكن في ذلك النوع من التضاد، بحيث لا يكون وراءه خلاف، وهؤلاء هم الفلاسفة، وهذا اصطلاحهم، فزعموا أن البياض لا يضاد العودي بل السواد والحار لا يضاد الفاتر بل البارد، فهذا هو الشرح. ونرى جماعة من العميان يتعاورون في هذه الحدود ظانين أن فيها نزاعاً ولا يدركون أن النظر نظران أحدهما في الحقائق المجردة دون الألفاظ وهؤلاء الانقسامات التي ذكرناها أولاً وليس في العقلاء من ينكر شيئاً منها، والثاني في إطلاق الألفاظ والاصطلاحات، وذلك يتعلق بالشبيه. فإن الألفاظ طافحة مباحة لم يثبت من جهة الشرع وقفها على معنى معيّن حتى يمنع من استعمالها على وجه آخر.

ولعمري لو قيل إن واضع اللغة وضعه لشيء في الأصل فهو وقف عليه بالحقيقة ولغيره استعارته هذا لا أمنع منه، ولكن الخوض فيه لا يليق بالمحصل الناظر في المعقولات بل بالأدباء الناظرين في اللغات. وقد ترى الواحد يغتاظ ويقول كيف يستجيز العاقل أن يقول الكونان لا يتضادان ومعلوم أنهما لا يجتمعان وإنما ذلك لما في نفسه من القياس الخطأ الذي لا يشعر به، ونظم ذلك القياس أن قولنا يتضادان وقولنا يجتمعان واحد فكيف يقال يجتمعان ولا يجتمعان، إذ يظهر أن كل ما لا يجتمعان فواجب تسميتهما متضادين، ومعلوم أن الكونيين لا يجتمعان فوجب تسميتهما متضادين، ومن يدري أن وجوب تسمية ما لا يجتمعان متضادين غير ثابت بل التسمية إلى أهل الاصطلاح. الامتحان السادس: قيل في حد الحياة إنها المعنى الذي يستحق من قام به أن يشتق له منه اسم الحي، وهذا من طوايف الحدود فإنه تعريف المعنى بلفظ يطلق على المعنى، ومن قنع بمعل هذا في فهم الحياة فقد رضي من العلوم بقشورها. وقيل ما أوجب كون الحي حياً أو ما كان المحل به حياً. وقد عرفت ما في هذا الجنس. وقيل ما يصح بوجودها العلم أو ما تصح بوجودها القدرة أو الإرادة، وهذا تعريف للشيء بذكر بعض توابعه. فإن قلت فما اختيارك فيه فاعلم أن ذكر ذلك لا يحتمله هذا الكتاب فإن هاهنا نظر في الألفاظ وهي ثلاثة: الحياة والروح والنفس، ونظر في المعاني والحقائق. فإن في الناس من يقول ليس في الإِنسان إلا حياة وهو عرض قائم بجسمه، واسم النفس والروح يرجع إليه. ومنهم من يقول إنه لا بد سوى هذا العرض من شيء هو الروح وهو جسم، لطيف في داخل القلب والدماغ يجري إلى سائر البدن في العروق الضوارب، وأما النفس فليس لها مسمى ثالث. ومنهم من قال هاهنا أمر ثالث وهو موجود قائم بنفسه غير متحيز، والروح الذي هو الجسم اللطيف ومنبعه القلب مدير لسائر أعضاء البدن بواسطته، وانظر كيف اختلف الطريق بهم وكيف يشاهد الاختلاف، فإني أنبهك على أوائله وإن لم يحتمل الكتاب الخوض في غوائله، فاعلم أن الناظر لمّا نظر إلى النطفة وهي جماد لا يحس ولا يتحرك ثم استحال في أطوار الخلق حتى صار يحس ويتحرك عه لم انه حدث فيه ما لم يكن من الإحساس والحركة الإرادية، فظنَ أنه ليس في هذا الوجود إلا الجسم كان جماداً فخلق الله فيه الإِحساس وقدرة الحركة فلم تتحدد إذاً إلا القدرة والحس، وعند ذلك يُسمّى حياً، ويتجدد له هذا الاسم. فكانت الحياة عبارة عن الإحساس والقدرة فقط. ولما نظر إلى اللغات فرأى هذا الجنين وهذا الإنسان في حال السكتة يسمّى حياً ويصدق عليه الاسم وخمّن في نفسه بالوهم الظاهر قبل التحقيق بالبرهان إن هذا الإِنسان في سكتته ليس معه إحساس البتة ولا قدرة، وطلب له مسمى فظنّ أنه ليس هاهنا إلا إمكان خلق الإِحساس فيه وخلق القدرة، فهو من حيث أنه مستعد لقبوله سمي حياً والحياة عبارة عن استعداد فقط، ولكن كان قد استقر في اعتقاده أن الله يقدر أن يخلق الحياة في كل جسم، ولا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق الحس والحركة في الجماد، فسنح له أن لا بد من صفة يفارق بها صاحب السكتة الجماد حتى تصور خلق الحس و القدرة فيه بسببه دون الجماد، فقال الحياة عبارة عن تلك الصفة وأثبت له صفة هي الحياة. فمنهم من قنع بهذا النظر وقدر مع نفسه أنه لا موجود إلا الجسم وصفة يتهيأ المحل بها لقبول الحس والقدرة، ومنهم من جاوز هذا الخبر به بصناعة الطب والاكتفاء به إلى أمور شرعية من صناعة الطب، فدلّ على أن الأخلاط الأربعة بها.بخار لطيف في غاية اللطف. فإن في القلب حرارة غريزية تنضح ذلك البخار وتلطفه وتسرحه قوة في القلب في تجاويف العروق الضوارب إلى سائر البدن، وأن القوة الحساسة تنتهي إلى العين والأذن وسائر الحواس الخمسة في هذا البخار اللطيف السائر بلطفه في سيال الأعصاب، فكان هذا البخار حمّالاً لهذه القوى يجري في سلك العروق ويمد الأجسام اللطيفة التي فيها قوى الإِحساس. وقالوا لو وقعت سدة في بعض المجاري في هذا البخار إما في عصب أو عرق لبطلت الحياة والإحساس من الذي حالت السدة بينه وبين القلب حتى انقطع عنه إمداده فعبّروا عن هذا الهواء اللطيف بالروح، وزعموا أنه سبب بقاء الحياة في أحاد الأعضاء. فثبت عندهم جسم لطيف عبّروا عنه بالروح وحكموا بأنه سبب العَرَض الذي يسقى حياة. وأما التفاتهم إلى الشرع، من حيث قال رسول الله : (أرواح الشهداء في حواصل طيور معلقة تحت العرش.) ولقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون). فزعموا أنه لم يكن إلا حياة هي عرض وقد انعدم بالموت وجسد الميت بين أيدينا، فما الذي في حواصل طيور خضر وكيف وصف الشهداء بأنهم أحياء والبدن ميت نشاهده والحياة عرض وقد انعدم. وكذلك التفتوا إلى قوله ?في دعائه عند النوم "إن أمسكتها فاغفر لها و إن أرسلتها فاعصمها بما تعصم به عبادك الصالحين" فقالوا: ما الذي يمسك ويرسل والبدن حاضر والحياة عَرَض لا يمكن إرسالها. والتفتوا أيضاً إلى قوله تعَالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فلمَ لم يذكر لهم أنه عرض كالقدرة والحياة إن لم يكن هاهنا إلا جسم وعرض. وثار عند هذا فريق ثالث وتغلغلوا زيادة تغلغل، وقالوا هذا صحيح ولكن هذه الروح في بدنه، وهناك موجود آخر يعبّر عنه بالنفس من صفته أنه قائم بنفسه لا متحيز نسبته إلى البدن نسبة الله تعالى إلى العالم، لا هو داخل في العالم ولا هو خارج عنه. والتفتوا إلى أن الروح جسم منقسم وأجزاؤه متشابهة. فلو كان هو المدبر المدرك من الإِنسان لكان لكل شخص أرواح كثيرة، واحتمل أن يكون في بعض أجزائها علم بالشيء وفي بعضها جهل بالشيء، فيكون عالماً بالشيء جاهلاً به. فلابد من شيء هو نافذ لا ينقسم، وكل جسم منقسم. وزعموا أن الجسم الذي لا يتجزأ محال ثم التفتوا مع ذلك إلى أن هذه الروح كيف ترسل أو تمسك في حالة النوم، ولو خرجت الروح من البدن في النوم لكان ميتاً لا حياً. ولمّا كانت التخيلات والأحلام ومعرفة الغيب بطريق الرؤية صحيحة زعموا أنه ليس يخرج من النائم جسم ينفصل عنه، فإنه لو عاد إليه لدخل في منفذ. فإن الأجسام لا تتداخل ولو شدّ فم النائم وأنفه أولاً ثم نبّه لتنبه ولاحظوا فيه أموراً آخر لا يمكن احصاؤها وقالوا لو لم يكن إلا الجسم والروح لذكره الشارع. فإن الجسم اللطيف مفهوم و إنما الذي لا يفهم موجود لا خارج البدن ولا داخله والأولون أحالوا هذا، فالنافية إثبات موجود حادث لا داخل البدن ولا خارجه وهو محال. فهذا ترتيب نظرهم. فإن قلت فما الصحيح من ذلك فاعلم أن المسؤول فيه ليس يخلو إما أن يكون غير عالم، فلا يمكن البيان، وإما أن يكون عالماً فلا يحل له الخوض فيه. فإن الروح سر الله تعالى كما أن القِدم سر الله ولم يرخّص رسول الله ?بالخوض في شرحه. وكان من أوصافه في التوراية أنه لا يجيب عن كذا وكذا، أي لا يشرح عن أسرارها، ومن جملته الروح. ولا يظن أن الله تعالى لم يطلعه عليها، فإنه عرف أموراً أعظم منها. والجاهل بالروح جاهل بنفسه فكيف يظن أنه عرف الله وملائكته وأحاط بعلم الأولين والآخرين، وما عرف نفسه، ولكنه كان عبداً فأمر بأمر فاتبع الأمر، فعلى كل مؤمن به ومصدّق له أن يتبعه ويسكت عما سكت عنه عرفه أو لم يعرفه. ولا يبعد أن يكون في أمته من الأولياء والعلماء من كشف له سر هذا الأمر وليس في الشرع برهان على استحالة ذلك، فإن قلت فما الصحيح من العبارات في حد الحياة التي هي عرض. قلنا: إما عند من لا يثبت إلا العرض فاقرب لفظ في تفهيمها أنها الصفة التي بها يتهيأ المحل لقبول الحس والحركة. وأما على مذهب من يثبت النفس والروح فقد يثبتون الحياة أيضاً عرضاً فيوافقون في الحد، وقد يقولون ليس للحياة معنى سوى كون البدن ذا روح ونفس، فإنه يستعد لقبول القدرة والعلم من حيث أنه ذو روح ونفس فقط لا من حيث صفة أخرى، وكونه كذلك لا يزيد على ثبوت النسبة بينه وبين الروح والنفس. كما أن كون الإِنسان متنعلاً لا يزيد على كونه ذا فعل ووجود رجل، وانطباق النعل على الرجل. وكما أن كون العالم عالماً عند من ينكر المعلول والعلة وهو الحق ليس إلا وجود علم في ذات فهذا قدر ما يمكن أن يذكر من أمر الحياة علامة على الحد كمن يبتغي جملاً مسوقاً على علامة باقية من أثر خفه. الامتحان السابع: قد استدعيت كلاماً في حد الحركة والخائضون فيه ضبطهم كثير، فقيل انه الذي لمحله به اسم المتحرك، وقيل إنه الذي تكون الذات به متحركة، وقيل إنه الخروج عن المكان وقد فهمت ما في هذا النمط من فائدة أو غائلة، فإن أردت الحقيقة فعليك بالمنهج الذي ذلّلته لك فلم أكرّره بالامتحان مرة بعدِ أخرى إلا لتألف هذا المسلك البعيد وهو أن تحصل الألفاظ المشهورة وتضعها في جانب من ذهنك، وهاهنا ثلاثة: الكون والحركة والسكون، وتنظر في المعاني المعقولة التي تدل هذه العبارات عليها من غير التفات إلى الألفاظ، فتقول هذا المنظور فيه من فن الأعراض، ونحن نعلم أن العرض ينقسم إلى ما يعبّر عنه بأنه اختصاص جوهر بحيزه وإلى ما لا يعبّر عنه به. واختصاص الجوهر بحيزه ينقسم بالضرورة إلى ما يكون في حالة واحدة والى ما يكون فن أكثر. والذي يكون أكثر ينقسم إلى ما يزيد على حالتين وإلى ما لا يزيد. والذي يكون في حالتين ينقسم إلى ما يكون في حيز واحد وإلى ما يكون في حيزين، وكذا ما يكون في ثلاثة أحوال فصاعداً ينقسم إلى ما يكون في حيز واحد وإلى ما يكون في ثلاثة أحياز. فقد حصل هاهنا للعقل خمسة أقسام كون في حالة وكون في حالتين في حيز واحد وكون في حالتين في حيزين وكون في ثلاثة أحوال في حيّز واحد و كون في ثلاثة أحوال في ثلاثة احياز. وكانت الألفاظ ثلاثة والأقسام خمسة فاختلف الناس في إطلاق تلك الألفاظ على هذه الأقسام. فقال فريق وهو الأقرب إلى الحق، واعني بالحق هاهنا تقريب التعريف والاصطلاح، وإلا فليس في هذا النظم رسم معنوي و إنما هو بحث عن اللفظ الفاشي يعبر بالسكون عن الاختصاص بحيز في حالتين متواصلتين فصاعداً، وبالحركة عن الاختصاص بحيزين في حالتين متواصلتين فصاعداً، وهؤلاء لم يسقوا الجوهر في أول حدوثه لا ساكناً ولا متحركاً فثار عليهم من يأخذ الأمور من بُعد. فقال هذا يؤدي إلى أن يكون جوهر غير ساكن ولا متحرك وهذا محال، والمؤدي إلى المحال محال فسلم الكلام المشهور بين المتكلمين أن الحركة والسكون يتقابلان لا ينفك الجوهر عنهما . ولم يعرف أن الذين قالوا ذلك أرادوا به الذي يبقى مدة يدركه الحس، فالثاني لا يخلو عن حركة وسكون فإنهم فهموا من السكون أشياء، فكيف سموا الاختصاص في الحاة الأولى سكوناً، فإن كان يسمى به باعتبار أنه ليس بمتحرك فليكن متحركاً باعتبار أنه ليس بساكن، أي ليس بلا لبث، وهذا خوض في فصول بلا طائل بعد معرفة المعنى، وثار من بعد خيال آخر وهو أن الحركة إن كانت عبارة عن الكون في المكانين فلا تكون الحركة قط موجودة في حال من الأحوال. لأن الكون في مكانين يكون في آنين، فإن نظرت إلى ألان الأول فالكون الثاني غير موجود وإن نظرت إلى الثاني فلا يكون إلا بعد عدم الأول. وهذا كما إن تبذل السواد والبياض لا يكون موجوداً، أعني نفس التبدّل لأنه ما دام السواد موجوداً فلا تبدّل. وإذا وجد البياض بعد عدم السواد فلا تبدّل. فيكون التبدّل عبارة أُطلقت على أمر معقول يستدعي ثبوته زيادة على إن واحد. فقالوا الحركة لا وجود لها بالفعل في آن البتة وإنما وجودها في زمان ممتد، والزمان لا يوجد منه جزء ما لم يفنَ الذي قبله، فلا يصادف وجوداً إلا في الوهم إما في الخارج فلا. وهؤلاء هم الفلاسفة. وقال أهل الحق لسنا نطلق اسم الحركة عليه من حيث انه كونان في مكانين بل من حيث انه كون في مكان لم يكن قبله و بعده فيه، فألزموا أن الجرم الذي وجد في حالة واحدة لم يكن قبله ولا بعده فيه فزادوا مع وجود الجوهر للاحتراز. وهذا الإطلاق يستدعي صدقه ثلاثة أحوال، فمن يكتفي بحالتين وتكون الحركة عنده عبارة عن كون الجوهر في حيّز لم يكن قبله فيه مع وجوده ، وأعني به الفصل القريب. فهو مسمى حركة من حيث أنه شغل بحيز حصل به مع فراغ الآخر. وأما السكون فهو كون في مكان كان قبله فيه. ومن أراد أن يغيّر هذه العبارات فلا حجر عليه بعد أن يقرّر في عقله الأقسام الخمسة الأول، فإنه بعد ذلك سُنة اللغوي الناظر في الألفاظ لا المتكلم الباحث عن المعاني. ولنختم الامتحانات بذكر حد واحد من حدود الفقهاء والأصوليين. الامتحان الثامن: اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلّق به الإيجاب، وقيل ما لا بد من فعله، وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وقيل ما يجب بتركه العقاب، وقيل ما لا يجوز الإقدام على تركه، وقيل ما يصير المكتف بتركه عاصياً، وقيل ما يلام تاركه شرعاً. ولو تتبّعت هذه الحدود طال الأمر ففيما قدّمته ما يعرفك وجه الخلل في المختل منها، لكن أهديك إلى الحق الواضح بتمهيد سبيل السلوك، وهو أن تستنهج ما نهجته لك فتعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح. فدع الألفاظ جانباً وجز بالنظر إلى المعنى أولاً، وأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع، ويقول وجود الله واجب، واللغوي على السقوط يقول وجبت جنوبها ويقول وجبت الشمس، فله بكل اعتبار حد آخر. والمطلب ألان مراد الفقهاء، وهذه الألفاظ لا نشك أنها لا تطلق على الجواهر بل على الأعراض، ومن الأعراض على الأفعال فقط، ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا أفعال البهائم. فإذاً نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدوراً أو حادثاً أو معلوماً أو مكتسباً أو مخترعاً، وله بحسب كل نسبة انقسامات، إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا ننظر فيها، ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطاب الشرع يعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق بها خطاب الشرع كأفعال البهائم والمجانين والى ما يتعلق به، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما تعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإِقدام عليه والإحجام عنه، ويسمّى مباحاً، وإلى ما رجّح فعله على تركه، وإلى ما رجّح تركه على فعله. والذي رجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويُسمى مندوباً و إلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه في الدار الآخرة ويسمّى واجباً. وربما اصطلح فريق على تخصيص الواجب بما علم ترجيحه على هذا الوجه قطعاً كالصلوات الخمس المكتوبة دون ما هو مخير فيه، وخصصوا ذاك باسم الفرض ولا حرج في هذا الاصطلاح، فإننا لا ننكر انقسام المرجّح بالعقاب إلى المعلوم والمظنون والاصطلاح مباح فلا مشاحة فيه. وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسقى مكروهاً، وقد تكرّر ما أشعر عليه بعقاب في الدنيا، كما قال عليه السلام إما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار. وقوله من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه. وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمّى محذوراً أو حراماً أو معصية، فإن قلت ما معنى قولك أشعر، فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة. فالإشعار يعم جميع المدارك، فان قلت ما معنى قولك عليه عقاب فمعناه أن إجرائه سبب للعقاب في الآخرة، فان قلت ما المراد بكونه سببآ فالمراد ما يفهم من.قولنا اسل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم، فان قلت فلو كان سبباً لكان لا يرجى العفو بل كان يجب أن يعاقب لا محالة. فأقول ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص معيّن مشار إليه، بل يجوز أن يفرض في المحل أمور تدفع المسبب، ولا يدل ذلك على بطلان السببية، فربّ دواء لا ينفع وربّ ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بأمر هام، كمن يجرح في حال قتال وهو لا يحس في الحال به، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله مرضية يوجب ذلك العفو عن جريمته ولا يوجب خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب. خاتمة الكتاب ثم ألحق به أن قال اعلم أن القدر الذي حرّرته في هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولاً عظيمة إن أمعنت في تفهم الكتاب تشرّفت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلوم. إلا أنني لم أفش تلك النسخة ولم تتداولها إلا يدي بعد، لأنها كانت مفتقرة إلى مزيد تهذيب وتنقيح بحذف وزيادة وتحريف، وفد دفعت الأقدار دون تهذيبها فإن استأخر الأجل واندفعت العوائق وانصرفت إليه الهمة وانقطعت على عمارته بتهذيب ما يجب أن يهذب صادفت فيه ما أعوزك ني هذا الكتاب. وأنا الآن مجدد وصيتك بالمواظبة على الدعاء سائلاً من الله تعالى أن يصلح نيتي فيما أتعاطاه من تصنيف كتاب و إفادة علم لأقصد به خالص وجه الله غير ممزوج بحظ من حظوظ الدنيا، وما أخس حال من مهد للخلق سبيل الآخرة وهو إلى الدنيا ملتفت، أو -دعا الخلق إلى الله وهو عنه معرض.

فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونسأل الله تعالى إصلاح أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، فهو ولي الإِجابة بفضله وسعة جوده والحمد لله رب العالمين.نص كبير=

كتاب معيار العلم في فن المنطق

أبو حامد الغزالي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما. اللهم أرنا الحق حقا ووفقنا إلى اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأعنا على اجتنابه. آمين. اعلم وتحقق أيها المقصور على درك العلوم حرصه وإرادته الممدود نحو أسرار الحقائق العقلية همته، المصروف، عن زخارف الدنيا ونيل لذاتها الحقيرة سعيه وكده، الموقوف على درك السعادة بالعلم والعبادة جده وجهده، بعد حمد الله الذي يقدم على كل أمر ذي بال حمده، والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسوله وعبده. إن الباعث على تحرير هذا الكتاب الملقب بمعيار العلم غرضان مهمان: أحدهما تفهيم طرق الفكر والنظر، وتنوير مسالك الأقيسة والعبر؛ فإن العلوم النظرية لما لم تكن بالفطرة والغريزة مبذولة وموهوبة كانت لا محالة مستحصلة مطلوبة، وليس كل طالب يحسن الطلب، ويهتدي إلى طريق المطلب، ولا كل سالك يهتدي إلى الإستكمال، ويأمن الإغترار بالوقوف دون ذروة الكمال ولا كل ظان الوصول إلى شاكلة الصواب آمن من الإنخداع بلا مع السراب. فلما كثر في المعقولات مزلة الأقدام، ومثارات الضلال، ولم تنفك مرآة العقل عما يكدرها من تخليطات الأوهام وتلبيسات الخيال، رتبنا هذا الكتاب معيارا للنظر والإعتبار، وميزانا للبحث والإفتكار، وصيقلا للذهن، ومشحذا لقوة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلة العقول كالعروض بالنسبة إلى الشعر،

والنحو بالإضافة إلى الإعراب. إذ كما لا يعرف منزحف الشعر عن موزونه إلا بميزان العروض ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه وصحيحه وسقيمه إلا بهذا الكتاب. فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعيار بهذا المعيار فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار. والباعث الثاني الإطلاع على ما أودعناه كتاب تهافت الفلاسفة، فإنا ناظرناهم بلغتهم وخاطبناهم على حكم اصطلاحاتهم التي تواطأوا عليها في المنطق وفي هذا الكتاب تنكشف معاني تلك الإصطلاحات؛ فهذا اخص الباعثين والأول أعمهما وأهمهما. أما كونه أهم فلا يخفى عليك وجهه، وأما كونه أعم فمن حيث يشمل جدواه جميع العلوم النظرية: العقلية منها والفقهية، فإنا سنعرفك أن النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات، في ترتيبه وشروطه وعياره، بل في مآخذ المقدمات فقط. ولما كانت الهمم في عصرنا مائلة من العلوم إلى الفقه بل مقصورة عليه حتى حدانا ذلك إلى أن صنفنا في طرق المناظرة فيها مأخذ الخلاف أولا، ولباب النظر ثانيا، وتحصين المآخذ ثالثا، وكتاب المبادي والغايات رابعا، وهو الغاية القصوى في البحث الجاري على منهاج النظر العقلي في ترتيبه وشروطه، وأن فارقه في مقدماته

رغبنا ذلك أيضا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الكتاب أمثلة فقهية فتشمل فائدته وتعم سائر الأصناف جدواء وعائدته. ولعل الناظر بالعين العوراء نظر الطعن والإزراءِ، ينكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليات القطعية، بالأمثلة الفقهية الظنية فليكف عن غلوائه في طعنه وإزرائه، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها، فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفي بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد، ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده فيستقر المجهول في نفسه. فإن كان الخطاب مع نجار لا يحسن إلا النجر وكيفية استعمال آلاته، وجب على مرشده ألا يضرب له المثل إلا من صناعة النجارة، ليكون ذلك أسبق إلى فهمه وأقرب إلى مناسبة عقله وكما لا يحسن إرشاد المتعلم إلا بلغته لا يحسن إيصال المعقول إلى فهمه إلا بأمثلة هي أثبت في معرفته؛ فقد عرفناك غاية هذا الكتاب وغرضه تعريفا مجملا فلنزد له شرحا وإيضاحا لشدة حاجة النظار إلى هذا الكتاب. لعلك تقول أيها المنخدع بما عندك من العلوم الذهنية المستهتر بما يسوق إليه البراهين العقلية، ما هذا التفخيم والتعظيم وأي حاجة بالعاقل إلى معيار وميزان، فالعقل هو القسطاس المستقيم والمعيار القويم، فلا يحتاج العاقل بعد كمال عقله إلى تسديد وتقويم، فلتتئد ولتتثبت فيما تستخف به من غوائل الطرق العقلية، ولتتحقق قبل كل شيء أن فيك

حاكما حسيا وحاكما وهميا وحاكما عقليا، والمصيب من هؤلاء الحكام هو الحاكم العقلي، والنفس في أول الفطرة أشد إذعانا وإنقيادا للقبول من الحاكم الحسي والوهمي، لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالإحتكام عليها، فألفت احتكامهما وأنست بهما قبل أن أدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام عن مألوفها والإنقياد لما هو كالغريب من مناسبة جبلتها، فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما إلى أن تضبط بالحيلة التي سنشرحها في الكتاب. وإن أردت أن تعرف مصداق ما تقوله في تخرص هذين الحاكمين واختلالهما، فانظر إلى حاكم الحس كيف يحكم إذا نظرت إلى الشمس عليها بأنها في عرض مجر، وفي الكواكب بأنها كالدانير المنثورة على بساط أزرق، وفي الظل الواقع على الأرض للأشخاص المنتصبة بأنه واقف بل على شكل الصبي في مبدأ نشئه بأنه واقف، وكيف عرف العقل ببراهين لم يقدر الحس على المنازعة فيها، إن قرص الشمس أكبر من كرة الأرض بأضعاف مضاعفة، وكذلك الكواكب، وكيف هدانا إلى أن الظل الذي نراه واقفا هو متحرك على الدوام لا يفتر، وأن طول الصبي في مدة النشء غير واقف بل هو في النمو على الدوام والإستمرار، ومترق إلى الزيادة ترقيا خفي التدريج يكل الحس عن دركه ويشهد العقل به.

وأغاليط الحس من هذا الجنس تكثر فلا تطمع في استقصائها، واقنع بهذه النبذة اليسيرة من أنبائه لتطلع به على أغوائه. وأما الحاكم الوهمي فلا تغفل عن تكذيبه بموجود لا إشارة إلى جهته. وأما الحاكم الوهمي فلا تغفل عن تكذيبه بموجود لا إشارة إلى جهته، وإنكاره شيئا لا يناسب أجسام العالم بانفصال واتصال، ولا يوصف بأنه داخل العالم ولا خارجه. ولولا كفاية العقل شر الوهم في تضليله هذا لرسخ في نفوس العلماء من الإعتقادات الفاسدة في خالق الأرض والسماءن مارسخ في قلوب العوام والأغبياء. ولا نفتقر إلى هذا الأبعاد في تمثيل تضليله وتخييله، فإنه يكذب فيما هو أقرب إلى المحسوسات مما ذكرناه، لأنك إن عرضت عليه جسما واحدا فيه حركة وطعم ولون ورائحة واقترحت عليه أن يصدق بوجود ذلك في محل واحد على سبيل الإجتماع، كاع عن قبوله وتخيل أن بعض ذلك مضام للبعض ومجاور له. وقدر التصاق كل واحد بالآخر في مثال ستر رقيق ينطبق على ستر آخر، ولم يمكن في جبلته أن يفهم تعدده المكان، فإن الوهم إنما يأخذ من الحس، والحس في غاية الأمر يدرك التعدد والتباين بتباين المكان أو الزمان؛ فإذا رفعا جميعا عسر عليه التصديق بأعداد متغايرة بالصفة والحقيقة حالة فيما هو في حيز واحد. فهذا وأمثاله من أغاليط الوهم يخرج عن حد الإحصاء والحصر، والله تعالى هوالمشكور على ما وهب من العقل الهادي من الضلالة، المنجي عن ظلمات الجهالة، المخلص بضياء البرهان، عن ظلمات وساوس الشيطان. فإن أردت مزيد إستظهار في الإحاطة بخيانة هذين الحاكمين، فدونك وإستقراء ما ورد في الشرع من نسبة هذه التمويهات إلى الشيطان وتسميتها وسواسا

وإحالتها عليه، وتسمية ضياء العقل هداية ونورا ونسبته إلى الله تعالى وملائكته في قوله (الله نُورُ السَمَواتِ وَالأَرض) ولما كان مظنة الوهم والخيال الماغ وهما منبعا الوسواس، قال أبو بكر رحمة الله عليه لمن كان يقيم الحد على بعض الجناة: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس، ولما كانت الوساوس الخيالية والوهمية ملتصقة بالقوة المفكرة التصاقا يقل من يستقل بالخلاص منها حتى كان ذلك كامتزاج الدم بلحومنا وأعضائنا، قال صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم} وإذا لاحظت بعين العقل هذه الأسرار التي نبهتك عليها استيقنت شدة حاجتك إلى تدبير حيلة في الخلاص عن ضلال هذين الحاكمين. فإن قلت: فما الحيلة في الإحتياط مع ما وصفتمونه من شدة الرباط بهذه المغويات؛ فتأمل لطف حيل العقل فيه فإنه استدرج الحس والوهم إلى أمور يساعدانه على دركها من المشاهدات الموافقة للموهوم والمعقول، وأخذ منها مقدمات يساعده الوهم عليها ورتبها ترتيبا لا ينازع فيه، واستنتج منها بالضرورة نتيجة لم يسع الوهم التكذيب بها، إذ كانت مأخوذة من الأمور التي لا يتخلف الوهم والعقل عن القضاء بها، وهي العلوم التي لم يختلف فيها الناس من الضروريات والحسيات وأستسلمها من الحس والوهم وارتهنها منهما، فصدقا بأن النتيجة اللازمة منها صادقة حقيقة، ثم نقلها العقل بعينها على ترتيبها إلى ما ينازع الوهم فيه وأخرى منها نتائج. فلما كذب الوهم بها وامتنع عن قبولها هان على العقل مؤونته، فإن المقدمات التي وضعها كان الوهم يصدق بها على الترتيب الذي رتبه لانتاج النتيجة، فكأن الوهم قد سلم لزوم النتيجة منها فتحقق الناظر أن آباء الوهم عن قبول النتيجة بعد

التصديق بالمقدمات، والتصديق بصحة الترتيب المنتج لقصور في طباعه وجبلته عن درك هذه النتيجة، لا لكون هذه النتيجة كاذبة لأن ترتيب المقدمات منقول من موضع ساعد الوهم على التصديق بها، فإذن غرضنا في هذا الكتاب أن نأخذ من المحسوسات والضروريات الجبلية معيارا للنظر، حتى إذا نقلناه إلى الغوامض لم نشك في صدق ما يلزم منها. ولعلك الآن تقول: فإن تم للنظار ما ذكرتموه فلم اختلفوا في المعقولات، وهلا اتفقوا عليها اتفاقهم على النظريات الهندسية والحسابية التي يساعد الوهم العقل فيها؟ فجوابك من وجهين: أحدهما أن ما ذكرناه أحد مثارات الضلال لا كلها، ووراء ذلك في النظر في العقليات عقبات مخطرة يعز في العقلاء من يتخطاها فيسلم منها. وإذا أحطت بمجامع شروط البرهان المنتج لليقين، لم تستبعد أن تقصر قوة أكثر البشر عن درك حقائق المعقولات الخفية. الثاني: ان القضايا الوهمية لما انقسمت إل ما يصدق وإلى ما يكذب وكانت الكاذبة منها شديدة الشبه بالصادقة، اعترض فيها قضايا إعتاض على النفس تمييزها عن الكاذبة، ولم يقو عليها إلا من أيده الله بتوفيقه وأكرمه بسلوك منهاج الحق بطريقه، فانقسمت العقليات إلى ما هان دركها على الأكثر، وإلى ما استعصى على عقول الجماهير إلا على الشذاذ من أولياء الله تعالى المؤيدين بنور الحق الذين لا تسمح الإعصار الطويلة بوجود الآحاد منهم، فضلا عن العدد الكثير الجم.

ولعلك الآن تحسب نفسك واحدا من غمار الناس فتتلو على نفسك سورة اليأس، وتزعم أني متى أكون واحد الدهر، فريد العصر، مؤيدا بنور الحق متخلصا عن نزغات الشيطان مستوليا على وصفته من شروط البرهان؛ فالركون إلى الدعة أولى بي والقناعة بالإعتقاد الموروث من الآباء أسلم لي من أن أركب متن الخطر ولست أثق بنيل قاصية الوطر، فيقال في مثالك، إن خطر هذا ببالك: ما أنت إلا كإنسان لاحظ رتبة سلطان الزمان وما ساعده من الشوكة والعدة والنجدة والثروة والأشياع والأتباع، والأمر المتبع المطاع، واستبعد أن ينال رتبته أو يقارب درجته، والأمر المتبع المطاع، واستبعد أن ينال رتبته أو يقارب درجته، ولكن اقتدر أن ينال رتبة الوزارة أو رتبة الرئاسة أو منزلة أخرى دونها فقال: الصواب لي بعد العجز عن الغاية القصوى، والذروة العليا التي هي درجة سلطان الدنيا أن أقنع بصناعة الكنس التي هي صناعة آبائي، فالكناس ليس يعجز عن خبز يتناوله وثوب يستره إقتداء بقول الشاعر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وهذا الخسيس القاصر النظر، لو أنعم الفكر وتأمل واعتبر علم أن بين درجة الكناس والسلطان منازل فلا كل من يعجز عن الدرجات العلي ينبغي أن يقنع بالدركات السفلى، بل إذا انتهض مترقيا عن رتبة الخساسة، فما يترقى إليه بالإضافة إلى ما يترقى عنه رياسة - فهكذا ينبغي أن تعتقد درجات السعادة بين العلماء، فما منا إلا له مقام معلوم لا يتعداه، وطور محدود لا يتخطاه، ولكن ينبغي أن يشوف إلى أقصى

مرقاه، وأن يخرج من القوة إلى الفعل كل ما تحتمله قواه. فإن قلت: إني فهمت الآن شدة الحاجة إلى هذا الكتاب بما أوضحته من التحقيق، ثم اشتدت رغبتي بما أوردته من التشويق، واتضح لي غايته وثمرته فأوضح لي مضمونه. فاعلم أن مضمونه تعليم كيفية الإنتقال من الصور الحاصلة في ذهنك إلى الأمور الغائبة عنك. فإن هذا الإنتقال له هيئة وترتيب إذا روعيت أفضت إلى المطلوب، وإن أهملت قصرت عن المطلوب، والصواب من هيئته وترتيبه شديد الشبه بما ليس بصواب. فمضمون هذا العلم على سبيل الإجمال هذا، وأما على سبيل التفصيل فهو أن المطلوب هو العلم، والعلم ينقسم إلى العلم بذوات الأشياء، كعلمك بالإنسان والشجر والسماء وغير ذلك. ويسمى هذا العلم تصورا، وغلى العلم بنسبة هذه الذوات المتصورة بعضها إلى بعض إما بالسلب أو بالإيجاب، كقولك الإنسان حيوان والإنسان ليس بحجر، فإنك تفهم الإنسان والحجر فهما تصوريا لذاتهما، ثم تحكم بأن أحدهما مسلوب عن الآخر أو ثابت له، ويسمى هذا تصديقا لأنه يتطرق إليه التصديق والتكذيب.

فالبحث النظري بالطالب إما أن يتجه إلى تصو أو إلى تصديق، والموصل إلى التصور يسمى قولا شارحا فمنه حد ومنه رسم، والموصل إلى التصديق يسمى حجة فمنه قياس ومنه استقراء وغيره. ومضمون هذا الكتاب تعريف مبادىء القول الشارح لما أريد تصوره حدا كان أو رسما، وتعريف مبادىء الحجة الموصلة إلى التصديق قياسا كانت أوغيره مع لا تنبيه على شروط صحتها ومثار الغلط فيهما. فإن قلت: كيف يجهل الإنسان العلم التصوري حتى يفتقر إلى الحد؟ قلنا بأن يسمع الإنسان إسما لا يفهم معناه كمن قال: ما الخلاء وما الملاء وما الملك وما الشيطان وما العقار؟ فتقول: العقار هو الخمر، فإن لم يفهمه باسمه المعروف أفهمه بحده. وقيل: إن الخمر شراب معتصر من العنب مسكر، فيحصل له علم تصوري بذات الخمر. وأما العلم التصديقي فبأن يجهل الإنسان مثلا أن للعالم صانعا، فيقول: هل للعالم صانع؟ فتقول: نعم للعالم صانع. وتعرفه صدق ذلك بالحجة والبرهان على ما سنوضحه، فهذا مضمون الكتاب.

وإن أردت أن تعلم فهرست الأبواب. فاعلم أنا قسمنا القول في مدارك العلوم إلى كتب أربعة: كتاب مقدمات القياس، وكتاب القياس، وكتاب الحد، وكتاب أقسام الوجود وأحكامه.

الكتاب الأول في مقدمات القياس، ولنذكر مقدمة يعرف بها وجه إنقسام النظر في القياس إلى أدنى وإلى أقصى فنقول: المطلب الأقصى في هذا القسم هو البرهان المحصل للعلم اليقيني والبرهان نوع من القياس إذ القياس إسم عام، والبرهان إسم خاص لنوع منه، والقياس لا ينتظم إلا بمقدمتين، وكل مقمدة لا تنتظم إلا بمخبر عنه يسمى موضوعا وخبر يسمى محمولا، وكل موضوع أو محمول يذكر في قضية فهو لفظ نيدل لا محالة على معنى، فالقياس مركب، وكل ناظر في شيء مركب، فطريقه أن يحلل المركب إلى المفردات ويبتدىء بالنظر في الآحاد، ثم في المركب، فلزم من النظر في القياس النظر فيما ينحل إليه القياس من المقدماتنومن النظر في المقدمات النظر في المحمولن والموضوع اللذين منهما تتألف المقدمات، ومن النظر في المحمول والموضوع النظر في الألفاظ والمعاني المفردة التي بها يتم المحمول والموضوع،

ولزم من النظر في المقدمات النظر في شروطها؛ فإن كل مركب من مادة وصورة يجب النظر في مادته وصورته. وما هذا إلا كمن يريد بناء بيت فحقه أن يهتم بإفراز المواد التي منها يتركب كاللبن والطين والخشب، ثم يشتغل بالتنصوير وكيفية التنضيد والتركيب؛ فكذلك النظر في القياس، فهذا بيان الحاجة إلى هذه الأقسام، ولنأخذ بعده في المقصود.

الفن الأول: من كتاب مقدمات في دلالة الألفاظ وبيان وجوه دلالتهاونسبتها إلى المعاني وبيانه بسبعة تقسيمات: القسمة الأولى: أن نقول: الألفاظ تدل على المعاني من ثلاثة أوجه متباينة: الوجه الأول الدلالة من حيث المطابقة كالإسم الموضوع بإزاء الشي، وذلك كدلالة لفظ الحائط على الحائط. والآخر أن تكون بطريق التضمن وذلك كدلالة لفظ البيت على الحائط ودلالة لفظ الإنسان على الحيوان، وكذلك دلالة كل وصف أخص على الوصف الأعم الجوهري. الثالث: الدلالة بطريق الإلتزام والإستتباع كدلالة لفظ السقف على الحائط؛ فإنه مستتبع له إستتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته، ودلالة الإنسان على قابل صنعة الخياطة وتعلمها، والمعتبر في التعريفات دلالة المطابقة والتضمن. فأما دلالة الإلتزام فلا لأنها ما وضعها واضع اللغة بخلافهما، لأن المدلول فيها غير محدود ولا محصور، إذ لوازم الأشياء ولوازم لوازمها لا تنضبط ولا تنحصر فيؤدي إلى أن يكون اللفظ دليلا على مالا يتناهى من المعاني وهو محال.

القسمة الثانية: للفظ بالنسبة إلى عموم المعنى وخصوصه، واللفظ ينقسم إلى جزئي وكلي، والجزئي ما يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة في مفهومه، كقولك زيد وهذا الشجر وهذا الفرس، فإن المتصور من لفظ زيد شخص معين لا يشاركه غيره في كونه مفهوما من لفظ زيد. والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة فيه، فإن امتنع امتنع بسبب خارج عن نفس مفهومه ومقتضى لفظه، كقولك الإنسان والفرس والشجر وهي أسماء الأجناس والأنواع والمعاني الكلية العامة، وهو جار في لغة العرب في كل إسم أدخل عليه الألف واللام لا في معرض الحوالة على معلوم معين سابق، كالرجل فهو إسم جنس، فإنك قد تطلق وتريد به رجلا معينا عرفه المخاطب من قبل، فتقول: أقبل الرجل فتكون الألف واللام فيه للتعريف أي الرجل الذي جاءني من قبل. فإذا لم تكن مثل هذه القرينة، كان إسم الرجل إسما كليا يشترك في الإندراج تحته كل شخص من أشخاص الرجال.

فإن قلت: فإذا قلنا الشكل الكروي المحيط بإثني عشر برجا فذلك، ولم يكن في الوجود شكل بهذه الصفة غلا واحد فكيف يكون الإسم كليا والمسمى واحد، وقد دخل الألف واللام المقتضى لإستغراق الجن عليه؟ فيقال لك: إن هذا كلي لأنا لسنا نشترط أن يكون الداخل تحته موجودا بالفعل، بل يجوز أن يكون موجودا بالقوة والإمكان، ولو قدر وجوده لكان داخلا فيه لا محالة، وهو قبل الوجود داخل لا كإسم زيد فإنه يمتنع وقوع الشركة فيه بالفعل والقوة جميعا. فإن قلت: فإذا قلنا الإله الحق هكذا فكيف يكون هذا كليا ويمنع وقوع الشركة فيه بالفعل والقوة جميعا، وكذلك قولنا: الشمس على أصل من لا يجوز وجود شمس أخرى فإنه يتعين الداخل تحته تعين شخص زيد في التصور من لفظ زيد؟ فيقال لك: اللفظ كلي وإمتناع وقوع الشركة فيه ليس لنفس مفهوم اللفظ وموضوعه بل لمعنى خارج عنه، وهو إستحالة وجود إلهين للعالم، ولم نشترط في كون اللفظ كليا إلا أن لا يمنع من وقوع الشركة فيه نفس مفهوم اللفظ وموضوعه، فقد حصل لك من السؤالين وجوابهما أن الكلي ثلاثة أقسام: قسم توجد فيه الشركة بالفعل كقولنا الإنسان إذا كانت الأشخاص منه موجودة، وقسم توجد الشركة فيه بالقوة كقولنا الإنسان إذا اتفق إن لم يبق في الوجود إلا شخص واحد، والكرة المحيطة بإثني عشر برجا إذ ليس في الوجود غلا واحد، وقسم لا شركة فيه لا بالفعل ولا بالقوة كالإله، وهو مع ذلك كلي لأن المنع ليس هو من موضوع لالفظ ومحموله بخلاف لفظ زيد.

فائدة فقهية قد اختلف الأصوليون في أن الإسم المفرد إذا اتصل به الألف واللام هل يقتضي الإستغراق، وهل ينزل منزلة العموم كقول القائل الدينار أفضل من الدرهم والرجل خير من المرأة، فظن الظانون أنه من حيث كونه اسما فردا لا يقتضي الإستغراق لمجرده، ولكن فهم العموم بقرينة التسعير وقرينة التفضيل للذكر على الأنثى، إنما هو لعلمنا بنقصان الدرهمية عن الدينارية ونقصان الأنوثة عن الذكورة. وأنت إذا تأملت ما ذكرناه في تحقيق معنى الكلي، فهمت زلل هؤلاء بجهلهم أن اللفظ الكي يقتضي الإستغراق بمجرده ولا يحتاج إلى قرينة زائدة فيه. فإن قلت: ومن أين وقع لهم هذا الغلط؟ فستفهم ذلك من القسمة الثالثة. القسمة الثالثة في بيان رتبة الألفاظ من مراتب الوجود إعلم أن المراتب فيما نقصده أربعة واللفظ في الرتبة الثالثة، فإن للشيء وجودا في الأعيان ثم في الأذهان، ثم في الألفاظ ثم في الكتابة. فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان،

فما لم يكن للشيء ثبوت في نفسه لم يرتسم في النفس مثاله. ومهما ارتسم في النفس مثاله فهو العلم به، إذ لا معنى للعلم إلا مثال يحصل في النفس مطابق لما هو مثال له في الحس وهو المعلوم، وما لم يظهر هذا الأثر في النفس لا ينتظم لفظ يدل به على ذلك الأثر، وما لم ينتظم اللفظ الذي ترتب فيه الأصوات والحروف لا ترتسم كتابة للدلالة عليه. والوجود في الأعيان دالتان بالوضع والإصطلاح. وعند هذا نقول: من زعم أن الإسم المفرد لا يقتضي الإستغراق ظن انه موضوع بإزاء الموجود في الأعيان فإنها أشخاص معينة إذ الدينار الموجود شخص معين، فإن جمعت أشخاص سميت دنانير، ولم يعرف أن الدينار الشخصي المعين يرتسم منهفي النفس أثر هو مثاله وعلم به وتصور له، وذلك المثال يطابق ذلك الشخص وسائر اشخاص الدنانير الموجودة والممكن وجوها، فتكون الصورة الثابتة في النفس من حيث مطابقتها لكل دينار يفرض صورة كلية لا شخصية؛

فإن اعتقدت أن إسم الدينار دليل على الأثر في النفس لا على المؤثر وذلك الأثر كلي، كان الإسم كليا لا محالة، وما قدمناه من الترتيب يعرفك أن الألفاظ لها دلالات على في النفوس، وما في النفوس مثال لما في الأعيان وسيأتي مزيد للعاني الكلية المرتسمة في النفوس بسبب مشاهدة الأشخاص الجزئية في كتاب أحكام الوجود ولواحقه. القسمة الرابعة للفظ قسمته من حيث إفراده وتركيبه اعلم أن اللفظ ينقسم إلى مفرد ومركب، والمركب ينقسم إلى مركب ناقص وغلى مركب تام، فهي ثلاثة أقسام: الأول هو المفرد وهو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلا حين هو جزؤه كقولك عيسى وإنسان، فإن جزئي عيسى وهما " عي وسا " وجزئي إنسان وهما " إن وسان " مايراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلا. فإن قلت: فما قولك في عبد الملك؟ فاعلم أنه أيضا مفرد إذا جعلته إسما علما كقولك زيد، وعند ذلك لا تريد بعبد دلالة على معنى ولا بالملك دلالة على معنى. فكل منهما من حيث هو جزؤه لا يدل على شيء فيكونان كأجزاء

إسم زيد وهما إسمان في الصورة جعلا إسما واحدا كبعلبك ومعد يكرب، فإن اتفق أن يكون المسمة به عبدا للملك تحقيقا فيكون هذا الإسم مطلقا عليه من وجهين: احدهما في تعريف ذاته فيكون الإسم مطلقا عليه من وجهين: أحدهما في تعريف ذاته فيكون الإسم مفرادا، والآخر في تعيف صفته في عبودية الملك فيكون قولك عبد الملك وصفا له فيكون مركبا لا مفردا، فافهم هذه الدقائق فإن مثار الأغاليط في النظريات تنشأ من إهمالها. والمركب التام هو الذي كل لفظ منه يدل على معنى والمجموع بدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه، فيكون من إسمين ويكون من إسم وفعل. والمنطقي يسمى الفعل كلمة والمركب الناقص بخلافه. فقولك: زيد يمشي والناطق حيوان؛ مركب تام، وقولك: في الدار أو انسان؛ مركب ناقص لأنه مركب من إسم وأداة لا من إسمين ولامن إسم وفعل، فإن مجرد قولك " زيد في " أو " زيد لا " لا يدل على المعنى الذي يراد الدلالة عليه في المحاورة ما لم يقل زيد في الدار أو زيد لا يظلم، فإنه بذلك الإقتران والتتميم يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه.

القسمة الخامسة للفظ المفرد في نفسه اللفظ إما إسم أو فعل أو حرف. ولنذكر حدّ كل واحد على شرط المنطقيين لتنكشف أقسامه، فنقول: الإسم صوت دال بتواطؤ مجرد عن الزمان والجزء من أجزائه لا يدل على إنفراده ويدل على معنى محصل، ولما كان الحد، مكربا من الجنس والفصول وتذكر الفصول للاحترازات، كان قولنا صوت جنسا، وقولنا دال فصلا يفصله عن العطاس والنحنحنة والسعال وأمثالها، وقولنا بتواطؤ يفصله عن نباح الكلبح فإنه صوت دال على ورود وارد لكن لا بتواطؤ، وقولنا مجرد عن الزمان نحو قولنا يقوم وقام وسيقوم، فإن كل واحد صوت دال بتواطؤ، وقولنا الجزء من أجزائه لا يدل على إنفراده احترازا عن المركب التام كقولنا زيد حيوان، فإن هذا يسمى خبرا وقولا لا إسما، وقولنا يدل على معنى محصل احترازا عن الأسماء التي ليست محصلة كقولنا لا إنسان، فإنه محصل احترازا عن الأسماء التي ليست محصلة كقولنا لا إنسان، فإنه لا يسمى إسما مع وجود جميع أجزاء الحد فيه سوى هذا الإحتراز. فإن قولنا لا إنسان قد يدل على الحجر والسماء والبقر، وبالجملة على كل شيء ليس بإنسان

فليس له معنى محصل، إنما هو دليل على نفي الإنسان لا على إثبات شيء. وأما الفعل وهو الكلمة فإنه صوت دال بتواطؤ على الوجه الذي ذكرناه في الإسم، إنما يباينه في أنه يدل على معنى وقوعه في زمان كقولنا قام ويقوم، وليس يكفي في كونه فعلا أن يدل على الزمان فحسب؛ فإن قولنا أمس واليوم وغدا وعام أول ومضرب الناقة ومقدم الحاج يدل على الزمان، وليس بفعل، حيث أن الفعل يدل على معنى وزمان يقع فيه المعنى فيكون الفعل أبدا دليلا على معنى محمول على غيره، فإذن الفرق بين الإسم والفعل تضمن معنى الزمان فقط. وأما الحرف وهو الأداة فهو كل ما يدل على معنى لا يمكن أن يفهم بنفسه ما لم يقدر اقتران غيره به، مثل من وعلى وما أشبه ذلك. وقد أوجز هذه الحدود فقيل في الإسم: إنه لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى من الأزمنة الثلاثة، ثم منه ما هو محصل كزيد ومنه ما هو غير محصل، كما إذا اقترن به حرف سلب فقيل لا إنسان. والكلمة هي لفظة مفردة تدل على معنى وعلى الزمان الذي ذلك المعنى موجود فيه لموضوع ما غير معين، والحرف أو الأداة ما لا يدل على معنى باقترانه بغيره.

القسم السادسة في نسبة الألفاظ إلى المعاني إعلم أن الألفاظ من المعاني على أربعة منازل: المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة. أما المشتركة فهي اللفظ الواحد الذي يطلق على موجودات مختلفة بالحد والحقيقة إطلاقا متساويا كالعين تطلق على العين الباصرة، وينبوع الماء وقرص الشمس وهذه مختلفة الحدود والحقائق. وأما المتواطئة فهي التي تدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، كدلالة إسم الإنسان على زيد وعمرو، ودلالة إسم الحيوان على الإنسان والفرس والطير لأنها متشاركة في معنى الحيوانية والإسم بإزاء ذلك المعنى المشترك المتواطىء، بخلاف العين الباصرة وينبوع الماء. وأما المترادفة: فهي الأسماء المختلفة الدالة على معنى يندرج تحت حد واحد كالخمر والراح والعقار؛ فإن المسمة بهذه يجمعه حد واحد وهو المائع المسكر المعتصر من العنب والأسامي مترادفة عليه. وأما المتزايلة: فهي الأسماء المتباينة التي ليس بينها شيء من هذه النسب كالفرس والذهب والثياب؛ فإنها ألفاظ مختلفة تدل على معان مختلفة بالحد والحقيقة، والمشترك ينبغي أن يجتنب إستعامله في المخاطبات فضلا عن البراهين، وأما المتواطئة فتستعلم في الجميع لا سيما البراهين.

إرشاد إلى مزلة قدم في الفرق بين المشتركة والمتواطئة والتباس إحداهما بالأخرى فإن المشتركة في الإسم هي المختلفان في المعنى المتفقان في الإسم، حيث لا يكونبينهما إتفاق وتشابه في المعنى البتة، وتقابلها المتواطئة وهي المشتركان في الحد والرسم المتساويان فيه بحيث لا يكون الإسم لأحدهما بمعنى إلا وهو للآخر بذلك المعنى، فلا يتفاوتان بالأولى والأحرى والتقدم والتأخر والشدة والضعف كإسم الإنسان لزيد وعمرو، وإسم الحيوان للفرس والثور؛ وربما يدل إسم واحد على شيئين بمعنى واحد في نفسه، ولكن يختلف ذلك المعنى بينهما من جهة أخرى ولنسميه إسما مشككا، وقد لا يكون المعنى واحدا ولكن يكون بينهما مشابهة ولنسمه متشابها. أما الأول فالكالوجود للموجودات؛ فإنه معنى واحد في الحقيقة ولكن يختلف بالإضافة إلى المسميات، فإنه للجوهر قبل ما هو للعرض ولبعض الأعراض قبله لبعض آخر، فهذا بالتقدم والتأخر. وأما المقول بالأولى والأحرى فالكالوجود أيضا فإنه لبعض الأشياء من ذاته ولبعضها من غره، وما له الوجود من ذاته أولى وأحرى بالإسم، واما المقول بالشدة والضعف فيتصور فيما يقبل الشدة والضعف كالبياض للعاج والثلج، فإنه لا يقال عليهما بالتواطؤ المطلق المتساوي بل أحدهما أشد فيه من الآخر.

أما الحيوان لزيد وعمرو، والفرس والثور فلا يتطرق إليه شيء من هذا التفاوت بحال، فقد ظهر بهذا الفرق انه قسم آخر، والمشكك قد يكون مطلقا كما سبق، وقد يكون بحسب النسبة إلى مبدأ واحد كقولنا طبي للكتاب والمبضع والدواء، أو لانتسابه إلى غاية واحدة كقولنا صحي للدواء والرياضة والفصد. وقد يكون إلى مبدأ وغاية واحدة كقولنا لجميع الأشياء أنها الإلهية. وأما الذي لا يجمعهما معنى واحد، ولكن بينهما تشابه ما كالإنسان على صورة متشكلة من الطين بصورة الإنسان وعلى الإنسان الحقيقي، فليس هذا بالتواطؤ إذ يخلفان بالحد فحد هذا حيوان ناطق مائت، وحد ذلك شكل صناعي يحاكي به صورة حيوان ناطق مائت؛ وكذلك القائمة للحيوان وللسرير حده في أحدهما أنه عضو طبيعي يقوم عليه الحيوان ويمشي به، وفي الآخر أنه جسم صناعي مسدير في أسفل السرير ليقله ولكن نجد بينهما شبها في شكل أو حال. ومثل هذا الإسم يكون موضوعا في أحدهما وضعا متقدما ويكون منقولا إلى الآخر، فإن أضيف إليهما سمي متشابه الإسم، وإن أضيف إلى المتقدم منهما سمي موضوعا، وإن أضيف إلى الأخير سمي منقولا؛ ثم هذا الضرب من التشابه على ثلاثة أقسام: الأول أن يكون في صفة قارة ذاتية كصورة الإنسان. والثاني أن يكون في صفة إضافية غير ذاتية كإسم المبدأ لطرف الخط والعلة.

والثالث أن يكون التشابه جاريا في أمر بعيد كالكلب لنجم مخصوص ولحيوان، إذ لا تشابه بينهما إلا في أمر بعيد مستعار لأن النجم رئي كالتابع للصورة التي كالإنسان، ثم وجد الكلب أتبع الحيوانات للإنسان فسمي باسمه. ومثل هذا ينبغي أن يلحق بالمشترك المحض، فإنه لا عبرة بمثل هذا الإشتباه فقد صارت الأسامي بهذه القسمة ستة: متباينة، ومترادفة، ومتواطئة، ومشتركة، ومشككة، ومتشابهة؛ لأن العقل إذا قسم الشيء إلى ستة أقسام فيحتاج إلى ست عبارات في التفهيم. إرشاد إلى مزلة قدم المتباينات ولا يخفى أن الموضوعات إذ تباينت مع تباين الحدود فالأسامي متباينة متزايلة كالفرس والحجر، ولكن قد يتحد الموضوع ويتعدد الإسم بحسب اختلاف إعتبارات، فيظن أنها مترادفة ولا تكون كذلك؛ فمن ذلك أن يكون أحد الإسمين له من حيث موضوعه، والآخر من حيث له وصفن كقولنا سيف وصارم؛ فإن الصارم دل على موضوع موصوف بصفة الحدة بخلاف السيف، ومن ذلك أن يدل كل واحد على وصف للموضوع الواحد كالصارم والمهند، فإن

أحدهما يدل على حدته والآخر على نسبته، ومن ذلك أن يكون أحدهما بسبب وصف، والآخر بسبب وصف الوصف كالناطق والفصيح. ومن المتباينة المشتق والمنسوب مع المشتق منه والمنسوب إليه كالنحو والنحوي، والحديد والحداد، والمال والمتمول، والعدل والعادل، فإن العادل لو سمي عدلا كما سميت العدالة عدلا كان ذلك من قبيل ما يقال باشتباه افسم، ولكن غيرت الصيغة وبقيت المادة والمعنى الأول زيد فيه ما دل على زيادة المعنى فسمي مشتقا. القسمة السابعة للف المطلق بالإشتراك على مختلفات إعلم أن اللفظ المطلق على معان مختلفة ثلاثة أقسام: مستعارة ومنقولة ومخصوصة باسم باسم المشترك. أما المستعارة فهي أن يكون إسم دالا على ذات الشيء بالوضع ودائما من أول الوضع إلى الآن، ولكن يلقب به في بعض الأحوال لا على الدوام شيء آخر لمناسبته للأول على وجه من وجوه المناسبات، من غير أن يجعل ذاتيا للثاني وثابتا عليه ومنقولا إليه

كلفظ الأم، فإنه موضوع للوالدة ويستعار للأرض يقال إنها أم البشر، بل ينقل إلى العناصر الأربعة فتسمى أمهات على معنى أنها أصول. والأم أيضا أصل للولد فهذه المعاني التي استعير لها لفظ الأم لها أسماء خاصة بها. وإنما تسمى بهذه الأسامي في بعض الأحوال على طريق الإستعارة، وخصص باسم المستعار لأن العارية لاتدوم وهذا أيضا يستعار في بعض الأحوال. وأما المنقول فهو أن ينقل الإسم عن موضوعه إلى معنى آخر ويجعل إسما له ثابتا دائما، ويستعمل أيضا في الأول فيصير مشتركا بينهما كإسم الصلاة والحج ولفظ الكافر والفاسق، وهذا يفارق المستعار بأنه صار ثابتا في المنقول إليه دائما ويفارق المخصوص باسم المشترك بأن المشترك هو الذي وضع بالوضع الأول مشتركا للمعنيين لا على أنه استحقه أحد المسميين، ثم نقل عنه إلى غيره إذ ليس لشيء من ينبوع الماء والدينار وقرص الشمس والعضو الباصر سبق إلى استحقاق إسم العين، بل وضع للكل وضعا متساويا بخلاف المستعار والمنقول. والمستعار ينبغي أن يجتنب في البراهين دون المواعظ والخطابيات والشعر، بل هي أبلغ باستعماله فيها. وأما المنقول فيستعمل في العلوم كلها لمسيس الحاجة إليها إذ واضع اللغة لما لم يتحقق عنده جميع المعاني لم يفردها بالأسامي، فاضطر غيره إلى النقل. فالجوهر وضعه واضع اللغة لحجر يعرفه الصيرفي والمتكلم نقله إلى معنى حصله في نفسه، وهو أحد أقسام الموجودات وهذا مما يكثر إستعماله في العلوم والصناعات. وأما المشتركة فلا يؤتى بها في البراهين خاصة ولا في الخطابيات إلا إذا كانت معها قرينة،

وهي أيضا أقسام: فمنها ما يقع في أحوال الصيغة كالإسم الذي يتحد فيه بناء الفاعل والمفعول نحو المختار فإنك تقول زيد مختار والعلم مختار، وأحدهما بمعنى الفاعل، والآخر بمعنى المفعول وكالمضطر وأشباهه. ومنها ما يقع على عدة أمور متشابهو في الظاهر مختلفة في الحقيقة لا يكاد يوقف على وجه مخالفتها كالحي الذي يطلق على الله وعلى الإنسان وعلى النبات والنور الذي يطلق على المدرك بالبصر المضاد للظلام، وعلى العقل الهادي إلى غوامض الأمور. فإن قال قائل: فما مثال المستعار؟ قلنا: مثاله استعارة أطراف الحيوان لغير الحيوان كقولهم: رأس المال، وجه النهار، عين الماء، حاجب الشمس، أنف الجبل، ريق المزن، يد الدهر، جناح الطريق، كبد السماء، وكقولهم: بيه سمع الأرض وبصرها، وكقولهم: أيد للشر ناجذيه، ودارت رحى الحرب، وشابت مفارق الجبال، وكقولهم: الشيب عنوان الموت، والرشوة رشا الحاجة، العيال سوس المال، الوحدة قبر الحي، الإرجاف زند الفتنة، الشمس قطيفة مباحة للمساحين. ومن إستعارات القرآن: (وَأَنّهُ في أُم الكِتابِ لِتُنذِرَ بِهِ أُمَّ القُرى وَمَن حَولَها) (وَاخفِض لَهُمَا جُناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَة) (وَالصُبحِ إِذا تَنَفَس)) (فَأذاقَها الله لِباسَ الجُوعِ وَالخَوفِ) (كُلَّما أَوقَدوا نَاراً لِلحَربِ أَطفَأَها الله) (أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها) (فَما بَكَت عَلَيهِمُ السماء والأرض) (واشتعل الرأس شيبا) (فصب عليهم ربك سوط عذاب) (ولما سكت عن موسى الغضب) ونظائره مما يكثر، وهذه الإستعارات بنوع مناسبة بين المستعار والمستعار منه،

فإن قيل: فما معنى المجاز؟ قلنا قد يراد به المستعار فالمعنى أنه قد تجوز عن وضعه، وقد يراد به ما يقتضي الحقيقة، وفي الإطلاق خلافه كقوله: (وأسأل القرية) إذ المسؤول بالحقيقة أهل القرية لا نفس القرية؛ فهذه أمور لفظية من أهملها ولم يحكمها في مبدأ نظره كثر غلطه ولم يدر من أين أتى.

الفن الثاني في مفردات المعاني الموجودة ونسبة بعضها إلى بعض والفرق بين هذا الفن والذي قبله أن الأول نظر في اللفظ من حيث يدل على المعاني - وهذا نظر في المعنى من حيث هو ثابت في نفسه، وإن كان يدل عليه باللفظ إذ لا يمكن تعريف المعاني إلا بذكر الألفاظ. ويتضح الغرض من هذا الفن بأنواع من القسمة. القسمة الأولى في نسبة الموجودات إلى مدراكنا فليعلم أن نظرنا في حصر الموجودات وحقائقها وهي منقسمة إلى محسوسة وإلى معلومة بالإستدلال لا تباشر ذاته بشيء من لاحواس، فالمحسوسات هي المدركات بالحواس لخمس كالألوان، ويتبعها معرفة الشكال والمقادير وذلك بحاسة البصر، وكالأصوات بالسمع، وكالطعوم

بالذوق، والروائح بالشم، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والبرودة والحرارة، والرطوبة واليبوسة بحاسة اللمس، فهذه الأمور ولواحقها تباشر بالحس أي تتعلق بها القوة المدركة من الحواس في ذاتها. ومنها ما يعلم وجوده ويستدل عليه بآثاره ولا تدركه الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا تناله. ومثاله هذه الحواس نفسها فإن معنى أي واحدة منها هي القوة المدركة، والقوة المدركة لا تحس بحاسة من الحواس، ولا يدركها الخيال أيضا. وكذلك القدرة والعلم والإردادة بل الخوف والخجل والعشق والغضب، وسائر هذه الصفات نعرفها من غيرنا معرفة يقينية بنوع من الإستدلال لا بتعلق شيء من حواسنا بها. فمن كتب بين أيدينا عرفنا قطعا قدرته وعلمه بنوع من الكتابة وإرادته إستدلالا بفعله، ويقيننا الحاصل بوجود هذه المعاني كيقيننا الحاصل بحركات يده المحسوسة وانتظام سواد الحروف على البياض، إن كان هذا مبصرا وتلك المعاني غير مبصرة بل أكثر الموجودات معلوم بالإستدلال عليها بآثارها ولا تحس، فلا ينبغي أن يعظم عندك الإحساس وتظن أن العلم المحقق هو الإحساس والتخيل وأن ما لا يتخيل لا حقيقة له، فإنك لو طالبت نفسك بالنظر إلى ذات القدرة والعلم وجدت الخيال يتصرف فيه بتشكيل وتلوين وتقدير، وأنت تعلم أن تصرف الخيال خطأ وأن حقيقة القدرة المستدل عليها بالفعل أمر مقدس عن الشكل واللون والتحيز والقدر، ولا ينبغي أن تنك دلالة العقل على أمور يأباها الخيال. وننبهك الآن على منشأ هذا الإلتباس؛ فتأمل أن المدركات الأول للإنسان في مبدأ فطرته حواسه فكانت مستولية عليه،

ثم الأغلب من جملتها الأبصار الذي يدرك الألوان بالقصد الأول والأشكال على سبيل الإستتباع، ثم الخيال يتصرف في المحسوسات وأكثر تصرفه في المبصرات فيركب من المرئيات أشكالا مختلفة آحادها مرئية، والتركيب من جهته، فإنك تقدر أن تتخيل فرسا له راس إنسان وطائرا له رأس فرس، ولكن لا يمكن أن تصور آحادا سوى ما شاهدته البتة حتى أنك لو أردت أن تتخيل فاكهة لم تشاهد لها نظيرا لم تقدر عليه، وإنما غايتك أن تأخذ شيئا مما شاهدته فتغير لونه مثلا كتفاحة سوداء، فإنك قد رأيت شكل التفاحة والسواد فركبتهما أو ثمرة كبيرة مثل بطيخة، فلا تزال تركب من آحاد ما شاهدت لأن الخيال يتبع الإبصار ولكنه يقدر على التركيب والتفصيل فقط، ولا يزال الخيال متحركا في التركيب والتفصيل مستوليا عليك بذلكن فمهما حصل لك معلوم بالإستدلال انبعث الخيال محدقا نظره نحوه طالبا حقيقة الأشياء عنده، ولا حقيقة عنده إلا للون أو الشكل فيطلب الشكل واللون، وهو ما يدركه البصر من الموجودات حتى لو تأملت في ذات الرائحة تأملا خياليا طلب الخيال للرائحة ولونا ووضعا وقدرا، كاذبا فيه وجاريا على مقتضى جبلته. والعجب أنك إذ تأملت في شكل متلون لم يطلب الخيال منه طعمه ورائحته وهما حظا الشم والذوق، وإذا تأملت في ذات الطعم والرائحة طلب الخيال حظ البصر وهو اللون والشكل، مع أن الخيال يتصرف في مدركات الحواس الخمس جميعا ولكن لما كان ألفه لمدركات البصر أشد وأكثر، صار طلبه لحظ البصر أغلب وأبلغ. فإذا عرضت على نفسك عملك بصانع العالم وأنه موجود لا في جهة، طلب الخيال له لونا وقدر له قربا وبعدا واتصالا بالعالم وانفصالا إلى غير ذلك مما شاهده في الأشكال المتلونة، ولم يطلب له طعما ورائحة. ولا فرق بين الطعم والرائحة واللون والشكل، فالكل من مدركات الحواس. فإذا عرفت إنقسام الموجودات

إلى محسوسات وإلى معلومات بالعقل ولا تباشر بالحس والخيال، فاعرض عن الخيال رأسا وعوّل على مقتضى العقل فيه، فقد ظهر لك إنقسام الموجود إلى محسوس وغيره. ؟؟؟ القسمة الثانية للموجودات باعتبار نسبه ؟؟؟ بعضها إلى بعض بالعموم والخصوص إعلم أن معنى من المعاني الموجودة، وحقيقة من الحقائق الثابتة إذا نسبتها إلى غيرها من تلك المعاني والحقائق، وجدتها بالإضافة إليه إما أعم وإما أخص وإما مساويا، وإما أعم من وجه وأخص من وجه، فإنك إذا أضفت الإنسان إلى الحيوان وجدته أخص منه، وإن أضفت الحيوان إلى الإنسان وجدته أعم منه، وإن أضفت الحيوان إلى الحساس وجدته مساويا له لا أعم ولا أخص، وإن نسبت الأبيض إلى الحيوان وجدته أعم من وجه فإنه يشمل الجص والكافور وجملة من الجمادات، وأخص من وجه فإنه يقصر عن تناول الغراب والزنوج وجملة من الحيوانات. فإذن جملة الحقائق تناسبها بهذا الإعتبار لا تعدو هذه الوجوه الأربعة، فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره.

؟ القسمة الثالثة للموجودات تنقسم إلى موجودات شخصية معينة وتسمى أعيانا إعلم أن الموجودات تنقسم إلى موجودات شخصية معينة وتسمى أعيانا وأشخاصا وجزئيات، وإلى أمور غير متعينة وتسمى الكليات والأمور العامة. فأما الأعيان الشخصية فهي الأمور المدركة أولا بالحواس كزيد وعمرون وهذا الفرس وهذه الشجرة وهذه السماء وهذا الكوكب وأمثالها، وكذا هذا البياض وهذه القدرة، فإن التعين يدخل على الأعراض والجواهر جميعا. ثم هذه الأشخاص كزيد وهذا الفرس وهذه الشجرة وهذا البياض لا تشترك في أعيانها، إذ عين هذا الشخص ليس هو عين الشخص الآخر، إلا أنها تتشابه بأمور كتشابه هذه الثلاثة في الجسمية وتشابه الفرس والإنسان دون الشجر في الحيوانية، فما به التشابه للأشياء يسمة الكليات والأمور العامة، وقد يتشابه زيد وعمرو بعد التشابه في الجسمية والحيوانية والإنسانية في الطول والبياض أيضا، فيكون الطول الذي به التشابه وكذا البياض أمرا عاما شاملا لهما شمولا واحدا، لا على أن بياض هذا هو بياض ذاك وطول هذا طول ذاك بعينه، ولكن على معنى سنبه عليه عند تحقيقنا لمعنى الكلي وثبوته في العقل، وهو من أدق ما ينبغي أن يدرك في المعقولات. ؟

القسمة الرابعة في نسبة بعض المعاني إلى بعض إعلم أنك تقول: هذا الإنسان أبيض وهذا الإنسان حيوان، وهذا الإنسان ولدته أنثى، فقد حملت عليه البياض والحيوانية والولادة وجعلته موصوفا بهذه الأوصاق الثلاثة، ونسبة هذه الثلاثة إليه متفاوتة: فإن البياض يتصور ان يبطل من الإنسان ويبقى إنسانا فليس وجوده شرطا لإنسانيته ولنسم هذا عرضيا مفارقا. وأما الحيوانية فضرورية للإنسان، فإنك إن لم تفهم الحيوان وامتنعت عن فهمه لم تفهم الإنسان بل مهما فهمت الإنسان فقد فهمت حيوانا مخصوصا، فكانت الحيوانية داخلة في مفهومك بالضرورة ويلقب هذا بلقب آخر للتمييز وهو الذاتي المقوم. وأما كونه مولودا من أنثى وكونه متلونا مثلا فليس نسبته إليه كنسبة الحيوانيةن إذ يجوزن أن يحصل في العقل معنى الإنسان بحده وحقيقته مع الغفلة عن كونه مولودا، أو مع اعتقاد أنه ليس بمولود خطأ، فليس من شرط فهم الإنسان الإمتناع عن اعتقاد كونه غير مولود، ومن شرطه الإمتناع عن اعتقاد كونه غير حيوان.

وأما تميزه عن البياض فهو أن البياض قد يفارق وكونه مولودا لا يفارقه قط، وكذلك كونه متلونا بالجملة لا يفارقه وإن فارقه كونه أبيض على الخصوص، فالمتلونية ليست داخلة في ماهية الإنسان دخول الحيوانية، فلنخصص هذا القسم بلقب وهو اللازم؛ فإن الذاتي المقوم وإن كان أيضا لازما ولكن له خاصية التقويم، فيخصص إسم اللازم بهذا القسم. فقد استفدت من هذا التحقيق إنّ كلّ معنى ينسب إلى شيء، فإما أن يكون ذاتيا له مقوما لذاته أي قوام ذاته به، وإما ان يكون غير ذاتي مقوم ولكنه لازم غير مفارق، وأما أن يكون لا ذاتيا ولا لازما ولكن عرضيا. ولعلك تقول: الفرق بين العرضي المفارق وبين الذاتي واضح ولكن الفرق بين الذاتي المقوم وبين اللازم الذي ليس بمقوم ربما يشكل فهل لك معيار يرجع إليه؟ فنقول: المتكلمون سموا اللوازم توابع الذات وربما سموها توابع الحدوث، حتى زعمت منهم أن توابع الحدوث لا تتعلق بها قدرة القادر، ولكنها تتبع الحدوث وربما مثلوا ذلك بتحيز ولسنا نخوض فيه، والغرض إظهار معيار لإدراك الفرق بين الذاتي واللازم وله معياران: الأول أن كل ما يلزم ولا يرتفع في الوجود إن أمكن أن يرتفع بالوهم

والتقدير وبقي الشيء معه مفهوما فهو لازم، فأنا نفهم كون الإنسان إنسانا وكون الجسم جسما وإن رفعنا من وهمنا كون الإنسان إنسانا وكون الجسم جسما وإن رفعنا من وهمنا اعتقاد كونهما مخلوقين مثلا وكونهما مخلوقين لازم لهما، ولو رفعنا من وهمنا كون الإنسان حيوانا لم نقدر على فهم الإنسان. فمن ضرورة فهم الإنسان أن لا يسلب الحيوانية وليس من ضرورته أن لا يسلب المخلوقية، فإذن ما لا يرتفع في الوجود والوهم جميعا فهو ذاتي، وما يرفع في الوجود والوهم فهوعرضي، وما يقبل الإرتفاع في الوهم دون الوجود فهو لازم غير ذاتي، إلا أن هذا المعيار مع أنه كثير النفع في أغلب المواضع غير مطرد في الجميع فإن من اللوازم ما هو ظاهر اللزوم للشيء، بحيث لا يقدر على رفعه في الوهم أيضا، فإن الإنسان يلازمه كونه متلونا ملازمة ظاهرة لا يقدر الإنسان على رفعه في الوهم وهو لازم لا ذاتي، ولذلك إذا حددنا الإنسان لم يدخل فيه التلون مع أن الحد لا يخلو عن جميع الذاتيات المقومة كما سيأتي في كتاب الحدود. وكذلك كون كل عدد إما مساو لغيره أو مفاوت فإنه لازم ليس بذاتي، وربما لا يقدر الإنسان على رفعه في الوهم، نعم من اللوازم ما يقدر على رفعه ككون المثلث مساوي الزوايا القائمتين فإنه لازم لا يعرف لزومه للمثلث بغير وسط بل بوسط، فلم يكن هذا مطردا فنعدل إلى المعيار الثاني عند العجز عن الأول ونقول: إن كل معنى إذا أحضرته في الذهن مع الشيء الذي شككت في أنه لازم له أو ذاتي، فإن لم يمكنك أن تفهم ذات الشيء إلا أن يكون قد فهمت له ذلك المعنى أولا، مساوية لقائمتين فهو كالحيوان وانسان

فإنك إذا فهمت ما الإنسان وما الحيوان فلا تفهم الإنسان إلا وقد فهمت أولا أنه حيوان فاعلم أنه ذاتي. وإن أمكنك أن تفه ذات الشيء دون أن تفهم المعنى أو أمكنك الغفلة عن المعنى بالتقدير، فاعلم أنه غير ذاتي. ثم إن كان يرتفع وجوده إما سريعا كالقيام والقعود للإنسان أو بطيئا شابا فاعلم أنه عرضي مفارق، وإن كان لا يفارقه أصلا ككون الزوايا من المثلث لازم، ورب لازم للشخص كأزرق العين أو أسود البشرة في الزنجي، فهو لا يفارق في الوجود للإنسان الزنجي فهو بالإضافة إلى ذلك الشخص لا يبعد أن يسمى لازما، وإن كان لزومه بالإتفاق لا بالضرورة في الجنس إذ يمكن وجود إنسان ليس كذلك، ولو أمكنت حيلة في إزالة زرقة العين وسواد البشرة لبقي هذا الإنسان إنسانا، ولو قدرت حيلة لإخراج زوايا المثلث عن كونها مساوية لقائمتين لم يبق المثلث وبطل وجوده، فلتدرك هذه الدقيقة في الفرق بين اللازم الضروري وبين اللازم الوجودي.

القسمة الخامسة للذاتي في نفسه وللعرضي في نفسه لما كان المقوم مخصوصا باسم الذاتي في اصطلاح النظار صار ما يقابله يسمى عرضيا، مفارقا كان أو لازما، فيقال عرضي لازم وعرضي مفارق؛ فالعرضي بهذا المعنى وهو الذي ليس بمقوم ينقسم بالإضافة إلى ماهو عرضي له إلى ما يعمه وغيره وإلى ما يختص به ولا يوجد لغيره فيسمى خاصة، سواء كان لازما أو لم يكن وسواء كان ما نسب إليه نوعا أخيرا أو لم يكن، وسواء عم جميع ذلك الجنس أو وجد لبعضه كالمشي والأكل، فإنه بالإضافة إلى الحيوان خاصة، إذ لا يوجد لغير الحيوان، وإن كان لا يوجد كل وقت للحيوان فإن أضفته إلى الإنسان كان عرضا عاما، وكذلك الصهيل للفرس والضحك للإنسان من الخواص، فما ليس مخصوصا بما نسب إليه بل وجد له ولغيره سمي عرضا عاما، ولا تظن أنانريد بالعرض ما نريد بالعرض الذي يقابل الجوهر، فإن هذا العرض قد يكون جوهرا كالأبيض للإنسان، فإن معنى الأبيض هنا جوهر ذو بياض ومدلول اللفظ جوهر لا كالبياض، فإنه عرض فلا تغفل عن هذه الدقيقة فتغلط فينقسم العرضي قسمة أخرى إلى ما يسمى أعراضا ذاتية

وإلى ما لا يسمى ذاتية، فإن الموجود يتحرك والجسم يتحرك والإنسان يتحرك، ولكنا نقول الموجود ليس يتحرك لكونه موجودا بل لمعنى أخص منه وهو الجسمية، والإنسان لا تعتريه الحركة لأنه إنسان بل لمعنى أعم منه وهو كونه جسما، فإذن الحركة من الأعراض الذاتية للجسم أي تلحقه وتعتريه من حيث أنه جسم لا لمعنى أعم منه ولا أخص منه بل لذاته، والصحة والسقم يوسف بكل منهما الحيوان وهو من الأعراض الذاتية للحيوان، إذ لا يلحقه لمعنى أعم منه فإنه لا يعتريه من حيث أنه موجود أو جسم، ولا لما هو أخص منه لأنه لا يعتريه من حيث أنه فرس أو ثور أو إنسان، بل لما هو أعم منها وهو كونه حيوانا. وكذلك الزوجية والفردية للعدد فما يجري هذا المجرى يسمى أعراضا ذاتية، فلا ينبغي أن يلتبس عليك الذاتي بالمعنى الأول وهو المقوم بالذاتي بالمعنى الثاني وهوغير مقوم، فهذه قسمة العرضي. أما الذاتي المقوم فينقسم إلى ما لا يوجد شيء أعم منه وهو داخل في الماهية، أي يمكن

أن يذكر في جواب ما هو ويسمى جنسا وإلى ما يوجد أعم منه دون ما هو أخص منه، ويمكن أن يذكر في جواب ما هو ويسمى نوعا وإلى ما يذكر في جواب أي شيء هو ويسمى فصلا. فإذن إنقسم الذاتي إلى الجنس والنوع والفصل، والعرضي إلى الخاصة والعرض العام بالقسمة المذكورة، فتكون الجملة خمسة، فإذن الكليات بهذا الإعتبار خمسة ويسميها المنطقيون الخمسة المفردة، والأقسام الثلاثة للذاتي فيها مواضع إشتباه فلنوردها في معرض الأسئلة. فإن قال قائل: إذا كان الأعم من الذاتيات يسمى جنسا، والأخص يسمى نوعا، فالذي هو بين الأخص والأعم كالحيوان الذي هو بين الجسم، فإنه أعم من الحيوان وبين الإنسان فإنه أخص من الحيوان ما إسمه؟ قلناك هذا يسمى نوعا بالإضافة إلى ما فوقه وجنسا بالإضافة إلى ما تحته. فإن قلت: فإسم النوع للمتوسط وللنوع الأخير الذي هو الإنسان بالتواطؤ أو بإشتراك الإسم؟ فاعلم أنه بالإشتراك، فإن الإنسان يسمى نوعا بمعنى أنه لا يقبل التقسيم بعد ذلك إلا بالشخص والعدد كزيد وعمرو، أو بالأحوال العرضية كالطويل والقصير وغيره. وأما الحيوان فتسميته نوعا بمعنى آخر وهو أنه يوجد ذاتي أعم منه، والإنسان سمي نوعا بمعنى أنه لا يوجد ذاتي أخص منه، بل كل ما أوردته مما هو أخص فهو عرضي لا ذاتي فهما معنيان متباينان.

فإن قال قائل: فالموجود والشيء أعم من الجسم والحيوان فهل تسمونه جنسا؟ قلنا: لا حجر في التسميات والإصطلاحات بعد فهم المعاني، والأولى في الإصطلاحات النزول على عادة من سبق من النظار، وقد خصصوا إسم الجنس بمعنى داخل في الماهية يجوز أن يجاب به عن سؤال السائل عن الماهية، فيذكر في جواب ما هو، وإذا أشير إلى الشيء وقيل ما هو، لم يحسن ان يقال أنه موجود أو شيء بل الوجود كالعرضي بالإضافة إلى الماهية المعقولة، إذ يجوز أن تحصل ماهية الشيء في العقل مع الشك في أن تلك الماهية هل لها وجود في الأعيان أم لا، فإن ماهية المثلث أنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع، ويجوز أن يحصل في نفوسنا هذه الماهية ولا يكون للمثلث وجود، ولو كان الوجود داخلا في الماهية مقوما لحقيقة الذات لما تصور فهم المثلث وحصول ماهيته في العقل مع عدمه، فكمالا يتصور أن تحصل صورة الإنسان وحده في العقل إلا أن يكون كونه موجودا حاضرا في العقل، إن كان الوجود مقوما للذات كالحيوانية للإنسان والشكلية للمثلث، وليس الأمر كذلك. وعلى الجملة وجود الشيء أما في الأعيان فيستدعي حضور جميع الذاتيات المقومة، وأما في الأذهان وهو مثال الوجود في الأعيان مطابق له وهو معنى العلم إذ لا معنى للعلم بالشيء إلا بثبوت صورة الشيء وحقيقته ومثاله في النفس، كما تثبت صورة الشيء في المرآة مثلا إلا أن المرآة لا تثبت فيها إلا أمثلة المحسوسات، والنفس مرآة تثبت فيها أمثلة المعقولات فيستدعي حضور

جميع الذاتيات المقومة مرة أخرى. فإن قال قائل: فقد عرفت الفرق بين الجنس وبين ما هو عام عام عمومالجنس وليس بجنس، فبماذا يعرف الفرق بين الفصل والنوع؟ قلنا: الفصل ذاتي لا يذكر في جواب ما هو بل يذكر في جواب أي شيء هو، فإنه يشار إلى الخمر فيقال: ماهو؟ فيذكر في الجواب: شراب؛ فلا يحسن بعده أن يقال: ما هو؟ بل: أي شراب هو؟ فيقال: مسكر؛ فالمسكر فصل أي يفصله عن غيره وهو الذي يسميه الفقهاء احترازا، إلا أن الإحتراز قد يكون بالذاتي وقد يكون بغير الذاتي، وقد يخصص إسم الفصل عند الإطلاق بالذاتي. فلو قيل: أي شيء هو؟ وأجيب بأنه أحمر يقذف بالزبد، فربما انفصل به عن غيره وحصل به الإحتراز ولكن يكون ذلك فصلا غير ذاتي. وأما المسكر ففصل ذاتي للشراب وكذلك الناطق للحيوان. وعلى الجملة الجنس والفصل عبارة عن الحقيقة نفسها تفصيلا كقولك شراب مسكر وحيوان ناطق؛ والنوع عبارة عنها إجمالا كقولك إنسان وفرس وجمل سواء النوع الإضافي والحقيقي، والفصل عبارة عن شيء ذي حقيقة كقولك ناطق وحساس ومسكر أي شيء ذو نطق وذو حس وذو إسكار، فكان الشيء الذي ورد عليه الوصف بذو وما بعدها لم يذكر بالفصول القائلة ناطق وحساس ومسكر. وسيأتي لهذا مزيد بيان في كتاب الحد الموصل إلى تصور الأشياء، إذ لا يتم الحدّ إلا بذكر الجنس والفصل.

القسمة السادسة في أصناف الحقائق المذكورة في جواب السائل عن الماهية إعلم أن قول القائل في الشيء ما هو طلب لماهية الشيء، ومن عرف الماهية وذكرها فقد أجاب. والماهية إنما تتحقق بمجموع الذاتيات المقومة للشيء، فينبغي أن يذكر المجيب جميع الذاتيات المقومة للشيء حتى يكون مجيبا، وذلك بذكر حده فلو ترك بعض الذاتيات لم يتم جوابه. فإذا أشار إلى خمر وقال ما هو؟ فقولك شراب ليس بجواب مطابق لأنك أخللت ببعض الذاتيات وأتيت بما هو الأعم، بل ينبغي أن تذكر المسكر. وإذا أشار إلى إنسان وقال: ما هو؟ قتقول: إنه إنسان؛ فإن قال: ما هو الإنسان؟ فجوابك: إنه حيوان ناطق مائت؛ وهو تمام حده، والمقصود إنه يجب أن تذكر ما يعمه وغيره وما يخصه، لأن الشيء هو بإجتماع ذلك وبه تتحصل ذاته، فإذا ثبت هذا الأصل فالمذكور في جواب ما هو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها هو بالخصوصية المطلقة وذلك بذكر الحد لتعريف ماهية الشيء المذكور كما إذا قيل لك: ما الخمر؟ فتقول: شراب مسكر معتصر من العنب، وهذا يختص بالخمر ويطابقه ويساويه فلا هو أعم منه ولا هو أخص منه، بل ينعكس كل واحد منهما على الآخر وهو مع المساواة جامع لجميع الذاتيات المقومة من الجنس والفصول، وهكذا نسبة كل حد لشيء إلى إسمه.

الثاني ما هو بالشركة المطلقة مثل ما إذا سئلت عن جماعة فيها فرس وإنسان وثور: ماهي؟ فعند ذلك لا يحسن إلا أن تقول حيوان؛ فأما الأعم من ذلك وهوالجسم فليس تمام الماهية المشتركة بينها، بل هو جزء الماهية فإن الجسم جزء من ماهية الحيوان، إذ الحيوان هو جسم ذو نفس حساس متحرك، هذا حده وإنما الإنسان والفرس ونحوه أخص دلالة مما يشمل الجملة، وقد جعل الجملة كشيء واحد فأخص ماهية مشتركة لها الحيوان. الثالث ما يصلح أن يذكر على الخصوصية والشركة جميعا، فإنك إذا سئلت عن جماعة هم زيد وعمرو وخالد: ما هم؟ كان الذي يصلح أن يجاب به على الشرط المذكور: إنهم أناس. وكذلك إذا سئل عن زيد وحده: ما هو؟ لا أن يقال: من هو؟ كان الجواب الصحيح: إنه إنسان، لأن الذي يفضل في زيد على كونه إنسانا من كونه طويلا أبيض ابن فلان، أو كونه رجلا أو إمرأة أو صحيحا أو سقيما أو كاتبا أوعالما أو جاهلا، كل ذلك أعراض ولوازم لحقته لأمور اقترنت به في أول خلقته أو طرأت عليه بعد نشوه، ولا يمتنع علينا أن نقدر أضدادها بل زوالها منه، ويكون هو ذلك الإنسان بعينه. وليس كذلك نسبة الحيوانية إلى الإنسانية، ولا نسبة الإنسانية إلى الحيوانية، إذ لا يمكن أن يقال قد اقترن به في رحم أمه سبب جعله إنسانا لو لم يكن لكان فرسا أو حيوانا آخر، وهو ذلك الحيوان بعينه، بل إن لم يكن إنسانالم يكن أصلا حيوانا لا ذاك بعينه ولا غيره، فإذن هو الذاتي الأخير وهوالذي يسمى نوعا أخيرا. فإن قال قائل: لم لا يجوز في القسم الثاني أن يقال حساس ومتحرك بالإرادة بدل الحيوان وهو ذاتي مساو للحيوان؟ قلنا: ذلك غير سديد على الشرط المطلوب، لأن المفهوم من الحساس والمتحرك على سبيل المطابقة هو مجرد أنه شيء له قوة حس أو حركة، كما أن مفهوم الأبيض أنه شيء له بياض؛

فأما ما ذلك الشيء وما حقيقة ذاته فغير داخل في مفهوم هذه الألفاظ إلا على سبيل الإلتزام حتى لا يعلم من اللفظ بل من طريق عقلي يدل على أن هذا لا يتصور إلا لجسم ذي نفس. فإذا سئل عن جسم: ما هو؟ فقلت: أبيض؛ لم تكن مجيبا وإن كنا نعلم من وجه آخر أن البياض لا يحل إلا جسما، ولكن نقول دلالة الأبيض على الجسم بطريق الإلتزام، وقد قدمنا أن المعتبر في دلالة الألفاظ طريق المطابقة والتضمن، ولذلك لا يجوز الجواب عن الماهية بالخواص البعيدة وإن كانت تدل بطريق الإلتزام فلا يحسن أن يقال في جواب من يسأل عنماهية الإنسان أنه الضحاك، وأن كان يدل بطريق الإلتزام. فإن قال قائل: قد ادعيتم أن الماهية مهما حضرت في العقل كان جميع أجزائها حاضرا، وليس كذلك، فإنا إذا علمنا الحادث فإنما نعلم شيئا واحدا مع أن أجزاء ذاته كثيرة، إذ معناه وجود بعد العدم ففيه العلم بالوجود وبعدم ذلك الوجود، وبكون العدم سابقا، وكون الوجود متأخرا وفيه العلم بالتقدم والتأخر وفيه العلم بالزمان لا محالة، فهذه المعلومات كلها لا بد من حضورها في الذهن حتى يتم أجزاء حد الحادث والناظر في الحادث لا تخطر له هذه التفاصيل وهو عالم به. فالجواب أن جميع الذاتيات المقومة للماهية لا بد أن تدخل مع الماهية في التصور، ولكن قد لا تخطر بالبال مفصلة فكثير من المعلومات لا تخطر بالبال مفصلة، ولكنها إذا اخطرت تمثلت وعلم أنها كانت حاصلة، فإن العالم بالحادث أن لم يكن عالما بهذه الأجزاء وقدر أنه لم يعلم إلا الحادث ثم قيل له: هل علمت وجودا أو عدما أو تقدما أو تأخرا؟ فلو قال: ما علمت؛ كان كاذبا فيه.

ومن عرف الإنسان فقيل له: هل عرفت حيوانا أوجسما أو حساسا أو شيئا ذا طول وعرض وعمق وهو حد الجسم؟ فقال: ما عرفته؛ كان كاذبا. فنفهم من هذا أن هذه المعاني معلومة حاضرة في الذهن إلا أنها لا تتفصل غلا إذا أخطرت مفصلة، وإذا فصلت علم أن المعاني كانت معلومة من قبل؛ فافهم هذا فإنه دقيق في نفسه فقد نبهنا على مثارين للشبهة في هذه القسم بصيغة السؤال والجواب. تكملة لهذه الجملة برسوم المفردات الخمس وترتيبها أما الرسوم الجارية مجرى الحدود فالجنس يرسم بأنه كلي يحمل على أشياء مختلفة الذوات والحقائق في جواب ما هو، والفصل يرسم بأنه كلي يحمل على الشيء في جواب أي شيء هو في جوهره. والنوع بأحد المعنيين يرسم بأنه كلي يحمل على أشياء لا تختلف إلا بالعدد في جواب ما هو وبالمعنىالثاني يرسم بأنه كلي يحمل عليه الجنس وعلى غيره حملا ذاتيا، والخاصة ترسم بأنها كلية تحمل على ما تحت حقيقة واحدة فقط حملا غير ذاتي،

والعرض العام يرسم بأنه كلي يطلق على حقائق مختلفة. ثم إعلم أن هذه الذاتيات التي هي أجناس وأنواع تترتب متصاعدة إلى أن تنتهي إلى جنس الأجناس، وهو الجنس العالم الذي ليس فوقه جنس وتترتب متنازلة حتى تنحط إلى النوع الأخير الذي إن نزلت منه انتهت والأعراض، ولا بد من انتهاء الجنس العالي في التنازل إلى نوع أخير إذ ليس يخرج عن النهاية، ولا بد من إرتفاع النوع الأخير في التصاعد إلى جنس عال لا يمكن مجاوزته إلا بذكر العوارض واللوازم. فأما الذاتيات فتنتهي لا محالة والأنواع الأخيرة كثيرة، والأجناس العالية التي هي أعلى الأجناس زعم المنطقيون أنها عشرة: واحد جوهر وتسعة أعراض وهي: (الكم والكيف والمضاف والين ومتى والوضع وله وأن يفعل وأن ينفعل) فالجوهر مثل قولنا إنسان وحيوان وجسم، والكم مثل قولنا ذو ذراع وذو ثلاثة أذرع، والكيف مثل قولنا أبيض واسود، والمضاف مثل قولنا ضعف ونصف وابن واب، والاين مثل قولنا في السوق وفي الدار، ومتى مثل قولنا في زمان كذا ووقت كذا، والوضع مثل قولنا متكىء وجالس، وأن يفعل مثل قولنا يحرق ويقطع، وأن ينفعل مثل قولنا يحترق ويتقطع، وله مثل قولنا متنعل ومتطلس ومتسلح.

وقد تجتمع هذه العشرة في شخص واحد في سياق كلام واحد كما تقول أن الفقيه الفلاني الطويل الأسمر ابن فلان الجالس في بيته في سنة كذا يعلم ويتعلم وهو متطلس. فهذه أجناس الموجودات والألفاظ الدالة عليها بواسطة آثارها في النفس، أعني ثبوت صورها في النفس وهي العلم بها فلا معلوم إلا وهو داخل في هذه الأقسام، ولا لفظ إلا وهو دال على شيء من هذه الأقسام. فأما الأعم من جميعها فهو الموجودة، وقد ذكرنا أنه ليس جنسا وينقسم بالقسمة الأولى إلى الجوهر والعرض، والعرض ينقسم إلى هذه الأقسام التسعة، فيكون المجموع عشرة، ولهذا مزيد تفصيل وتحقيق سيساق إليك في كتاب أقسام الوجود وأحكامه، فإنه بحث عن إنقسام الموجودات، والله أعلم.

؟؟ الفن الثاني في تركيب المعاني المفردة إعلم أن المعاني إذا ركبت حصل منها أصناف كالإستفهام والإلتماس والتمني والترجي والتعجب والخبر. وغرضنا من جملة ذلك الصنف الأخير وهو الخبر، لأن مطلبنا البراهين المرشدة إلىالعلوم وهي نوع من القياس المركب من المقدمات التي كل مقدمة منها خبر واحد يسمى قضية. والخبر هو الذي يقال لقائله أنه صادق أو كاذب فيه بالذات لا بالعرض وبه يحصل الإحتراز عن سائر الأقسام إذ المستفهم عما يعلمه قد يقال له لا تكذب، فإنه يعرض به إلى التباس الأمر عليه. وكذلك من يقول يا زيد ويريد غيره لأن8هـ يعتقد أن زيدا في الدار، فإذا قيل له لا تكذب لم يكن ذلك تكذيبا في النداء بل في خبر اندرج تحت النداء ضمنا، فإذا نظرنا في هذا الفن في القضية وبيانها بذكر أحكامها وأقسامها:؟ القسمة الأولى: إن القضية باعتبار ذاتها تنقسمب إلى جزئين مفردين: أحدهما خبر والآخر مخبر عنه

كقولك زيد قائم، فإن زيدا مخبر عنه والقائم خبر، وكقولك العالم حادث، فالعالم مخبر عنه والحادث خبر وقد جرت عادة المنطقيين بتسمية الخبر محمولا والمخبر عنه موضوعا، فلننزل على اصطلاحهم فلا مشاحة في الألفاظ. ثم إذا قلنا الشكل محمول على المثلث، فإن كل مثلث شكل فلسنا نعني به أن حقيقة المثلث حقيقة الشكل، ولكن معناه أن الشيء الذي يقال له مثلث فهو بعينه يقال له شكل، سواء كان حقيقة ذلك الشيء كونه مثلنا أو كونه شكلا أو كونه أمرا ثالثا، فإنا إذا أشرنا إلى إنسان وقلنا هذا الأبيض طويل، فحقيقة المشار إليه كونه إنسانا لا هذا الموضوع وهو الأبيض ولا هذا المحمول وهو الطويل. وإذا قلنا هذا الإنسان أبيض فالموضوع هو الحقيقة فإذن لسنا نعني بالمحمول إلا القدر الذي ذكرناه من غير اشتراط، فالنفهم حقيقته فهذا أقل ما تنقسم إليه القضية الحملية. والقضايا باعتبار وجوه تركيبها ثلاثة أصناف: الأول الحملي وهو الذي حكم فيه بأن معنى محمول على معنى أو ليس بمحمول عليه كقولنا: العالم حادث - العالم ليس بحادث؛ فالعالم موضوع والحادث محمول يسلب مرة ويثبت أخرى. وقولنا: ليس هو حرف سلب، إذا زيد على مجرد ذكر ذات الموضوع والمحمول صار المحمول مسلوبا عن الموضوع. الصنف الثاني ما يسمى شرطيا متصلا كقولنا: إن كان العالم حادثا فله محدث، سمي شرطيا لأنه شرط وجود المقدم لوجود التالي بكلمة الشرط، وهو أن وإذا وما يقوم مقامهما. فقولنا: إن كان العالم حادثا يسمى مقدما،

وقولنا: فله محدث، يسمى تاليا، وهو الذي قرن به حرف الجزاء الموازي للشرط. والتالي يجري مجرى المحمول ولكن يفارق من وجه، وهو أن المحمول ربما يرجع في الحقيقة إلى نفس الموضوع، ولا يكون شيئا مفارقا له ولا متصلا به على سبيل اللزوم والتبعية، كقولنا الإنسان حيوان والحيوان محمول وليس مفارقا ولا ملازما تابعا. وأما قولنا فله محدث فهو شيء آخر لزم اتصاله وأقرانه بوصف الحدوث، لا إنه يرجع إلى نفس العالم والشرطية المتصلة إذا حللتها رجعت بعد حذف حرفي الجزاء والشرط منها إلى حمليتين، ثم ترجع كل حملية إلى محمول مفرد وموضوع مفرد، فالشرطية أكثر تركيبا لا محالة إذ لا تنحل في أول الأمر إلى البسائط، بل تنحل إلى الحمليات أولا ثم إلى البسائط ثانيا. ؟ الصنف الثالث: ما يسمى شرطيا منفصلا كقولنا العالم إما حادث وإما قديم، فهما قضيتان حمليتان جمعتا وجعلت إحداهما لازمة الإتصال ولأجله سمي منفصلا. والمتكلمون يسمون هذا سبرا وتقسيما. ثم هذا المنفصل قد يكون محصورا في جزئين كما ذكرنا، وقد يكون في ثلاثة أو أكثر كقولنا هذاالعدد إما مثل هذا العدد أو أقل أو أكثر، فهو مع كونه ذا ثلاثة محصور. وربما تكثر الأجزاء بحيث لا يكون داخلا في الحصر كقولنا هذا إما أسود أو أبيض وفلان إما بمكة أو ببغداد.

ثم ينقسم إلى ثلاثة أقسام الأول ما يمنع الجمع والخلو جميعا كقولنا العالم إما حادث أو قديم، فإنه يمنع إجتماع القدم والحدوث والخلو من أحدهما أي لا يجوز كلاهما، ويجب أحدهما لا محالة. والثاني ما يمنع الجمع دون الخلو. كما إذا قال قائل هذا حيوان وشجر، فتقول هو إما حيوان وإما شجر أي لا يجمتعان جميعا وإن جاز إن يخلو عنهما بأن يكون حمارا مثلا. والثالث: مايمنع الخلو ولا يمنع الجمع كما إذا أخذت بدل أحد الجزئين لازمه لا نفسه، بأن قلت مثلا إما أن يكون زيد في البحر وأما ألا يغرقن فإن هذا يمنع الخلو ولا يمنع الجمع إذ يجوز أن يكون في البحر ولا يغرق، ولا يجوز أن يخلو من أحد القسمين، وسببه أنك أخذت نفي الغرق الذي هو لازم كونه في البر وهو أعم منه، فإن الذي في البحر وإما أن يكون في البر، فكان يمتنع به الجمع والخلو جميعا، ولكن عدم الغرق لازم لكونه في البر ثم ليس مساويا بل هو أعم فلم يبعد أن يتناول كونه في البحر فيؤدي إلى الإجتماع. فهذه أمور متشابهة لا بد من تحقيق الفرق بينها، فلا معنى لنظر العقل إلا درك انقسام الأمور المتشابهة في الظاهر، ودرك إجتماع الأمور المفترقة في الظاهر، فإن الأشياء تختلف في أمور وتشترك في أمور، وإنما شأن العقل أن يميز بين مايشترك فيه وما يفترق فيه، وذلك بهذه التقسيمات التي نحن في سياقها، فهذا وجه قسمة القضايا باعتبار أجزائها في الحل والتركيب إلى أصنافها من الحمل والإتصال والإنفصال.

؟ القسمة الثانية للقضية باعتبار نسبة محمولها إلى موضوعها بنفي أو إثبات إعلم أن كل قضية من هذه الأصناف الثلاثة تنقسم إلى سالبة وموجبة، ونعني بهما النافية والمثبتة، فالإيجاب الحملي مثل قولنا الإنسان حيوان، ومعناه أن الشيء الذي نفرضه في الذهن إنسانا، سواء كان موجودا أو لم يكن موجودا، يجب أن نفرضه حيوانا ونحكم عليه بأنه حيوان من غير زيادة وقت وحال، بل على ما يعم الموقت ومقابله والمقيد ومقابله، بل قولنا إنه حيوان في كل حال أو حيوان في بعض الأحوال كلامان متصلان بزيادتين على مطلق قولنا أنه حيوان، هذا ما اللفظ صريح فيه وإن كان لا يبعد أن يسبق إلى الفهم العموم بحكم العادة، لا سيما إذا انضمت إليه قرينة حال الموضوع. وأما السلب الحملي فهو مثل قولنا الإنسان ليس بحيوان. وأما الإيجاب المتصل فهو مثل قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث، والسلب ما يسلب هذا اللزوم، والإتصال كقولنا ليس إن كان العالم حادثا فله محدث. والإيجاب المنفصل مثل قولنا هذا العدد إمامساو لذلك العدد أو مفاوت له، والسلب ما يسلب هذا الإتصال وهو قولنا ليس هذا العدد إما مساويا لذلك العدد أو مفاوتا له.

ومقصود هذا التقسيم منع الخلو فالسلب له هوالذي يسلب منع الخلو ويشير إلى إمكانه. فإن قال قائل: قولنا زيد غير بصير سالبة أو موجبة؛ فإن كانت موجبة فما الفرق بينه وبين قولنا زيد ليس بصيرا؛ وإن كانت سالبة فما الفرق بينه وبين قولنا زيد ليس بصيرا؛ وإن كانت سالبة فما الفرق بينه وبين قولنا زيد أعمى وهي موجبة: ولا معنى لقولنا غير بصير إلا معنى هذا الإيجاب، ولذلك لا يتبين في الفارسية فرق بين قولنا: زيد كوراست " وبين قولنا " زيد نابيناست " وكذا قولنا " زيد نادانست " إذ المفهوم منه أنه جاهل والصيغة صيغة النفي. قلنا: هنا موضع مزلة قدم والإعتناء ببيانه واجب، فإن من لا يميز بين السالب والموجب كثر غلطه في البراهين، فإنا سنبين أن القياس لا ينتظم من مقدمتين سالبتين بل لا بد أن يكون إحداهما موجبة حتى ينتج. ومن القضايا ما صيغتها صيغة السلب ومعناها معنى الإيجاب فلا بد من تحقيقها؛ فنقول: قولنا زيد غير بصير قضية موجبة كترجمته بالفارسية، وكأن الغير مع البصير جعلا شيئا واحدا وعبر به عن الأعمى، فالغير بصير بجملته معنى واحدا يوجب مرة فيقال زيد غير بصير، ويسلب أخرى فيقال زيد ليس غير بصير، ولنخصص هذا الجنس من الموجبة باسم آخر، وهو المعدولة أو غير المحصلة وكأنها عدل بها عن قانونها فابرزت في صيغة سلب وهي إيجاب، وتصير حرف السلب مع المسلوب ككلمة واحدة كثير في الفارسية، مثل " نادان ونابينا وناتوان " بدل عن الأعمى والجاهل والعاجز. وإمارة كونها موجبة في الفارسية إنها تردف بصيغة الإثباتت، فيقال فلان: " نابيناست " وإذا سلبت قيل " بينانيست " فيكون الحكم بصيغة السلب، وكانت المطابقة بين اللفظ والمعنى في اللغة تقتضي ثلاثة ألفاظ في كل قضية: واحد للموضوع وواحد للمحمول، وواحد لربط المحمول بالموضوع كما في الفارسية، مثل " نادان ونابينا وناتوان " بدل عن الأعمى والجاهل والعاجز. وإمارة كونها موجبة في الفارسية إنها تردف بصيغة الإثبات، فيقال فلان " نابيناست "

وإذا سلبت قيل " بينانيست " فيكون الحكم بصيغة السلب، وكانت المطابقة بين اللفظ والمعنى في اللغة تقتضي ثلاثة ألفاظ في كل قضية: واحد للموضوع وواحد للمحمول، وواحد لربط المحمول بالموضوع كما في الفارسية، لكن في اللغة العربية اقتصر كثيرا على لفظين فقيل ملا زيد بصير، والأصل أن يقال زيد هو بصير بزيادة حرف الرابطة، فإذا قدم حرف الرابطة على غير فقيل زيد هو غير بصير، صار زيد من جانب موضوعا وغير بضير من جانب آخر محمولا، ولفظ هو متخلل بيهما رابطال لأحدهما بالآخر فيكون إيجابا؛ فإن أردت السلب قلت زيد ليس هو بين السلب والمحمول، وكذلك تقول زيد ليس هو غير بصير فتكون الرابطة قبل أجزاء المحمول متصلة به، فهذا وجه التنبيه على هذه الدقيقة. فإن قيل: فقولنا غير بصير وقولنا أعمى متساويان، أو أحدهما أعم من الآخر.

قلنا: هذا يختلف باللغات، وربما يظن أن قولنا غير بصير أعم حتى يصح أن يوصف به الجماد، وأما الأعمى فلا يمكن أن يوصف به إلا من يمكن أن يكون له البصر، وبيان ذلك محال على اللغة، فلا يخلط بالفن الذي نحن بصدده وإنما غرضنا تمييز السلب عن الإيجاب، فإن الإيجاب لا يمكن إلا على ثابت متمثل في وجود أو وهم. وأما النفي فيصح عن غير الثابت سواء كان كونه غير ثابت واجبا أو غير واجب. القسمة الثالثة للقضية باعتبار عموم موضعها أو خصوصه إعلم أن موضوع القضايا إما شخصي فتكون شخصية كقولنا زيد كاتب زيد ليس بكاتب، وإما كلي فتكون كلية، والكلية إما مهملة كقولنا الإنسان في خسر الإنسان في خسر. وسميناها مهملة لأنه لم يتبين فيها وجود المحمول لكية الموضوع أو لبعضه، وإما محصورة وهي التي بين فيها أن الحكم لكله كقولنا كل إنسان حيوان، أو ذكر إنه لبعضه كقولنا بعض الحيوان إنسان، فإذن القضية بهذا الإعتبار أربعة: شخصيةن ومهملة، ومحصورة كلية، ومحصورة جزئية.

والقضية تقسم إلى هذه الأقسام، سالبة كانت أو موجبة، شرطية كانت أو حملية، متصلة كانت الشرطية أو منفصلة، واللفظ الحاصر يسمى سورا كقولنا في الموجبة الكلية كل إنسان حيوان، وقولنا في الموجبة الجزئية بعض الحيوان إنسان، وكقولنا في السالبة الكلية لا واحد من الناس بحجر، وكقولنا في السالبة الجزئية ليس بعض الناس كاتبا، أو ليس كل إنسان كاتب، فإن فحواهما واحد. فإن قلت: فالألف واللام إذا كانتا للاستغراق فقول القائل الإنسان في خسر كلية فكيف سميناها مهملة؟ فاعلم أنه إن ثبت ذلك في لغة العرب وجب طلب المهمل من لغة أخرى، وإن لم يثبت فهو مهمل إذ يحتمل الكل ويحتمل الجزء، وتكون قوة المهمل قوة الجزئي لأنه بالضرورة يشتمل عليه. وأما العموم فمشكوك فيه، وليس من ضرورة ما يصدق جزئيا إلا يصدق كليا، فليحذر عن المهملات في الأقيسة إذا كان المطلوب منها نتيجة كلية، كما يقول الفقيه مثلا المكيل ربوي والجص مكيل

فكان ربويا، فيقال قولك المكيل مهمل، فإن أردت الكل فممنوع وإن أردت به الجزء فينتج أن بعض المكيل ربوي، فإذا قلت بعض المكيل ربوي والجص مكيل فكان ربويا، لم يلزمه النتيجة إذ يحتمل أن يكون من البعض الآخر الذي ليس بربوي. فإن قلت: فكيف يكون الحصر والإهمال في الشرطيات فافهم أنك مهما قلت كلما كان الشيء حادثا أو قديما، فقد حصرت الحصر الكلي الموجب. وإذا قلت ليس البتة إذا كان الشيء موجودا فهو في جهة وليس البتة إذا كان البيع صحيحا فهو لازم، فقد سلبت الإتصال وحصرت. وسائر نظائر هذا يمكنك قياسها عليه. القسمة الرابعة للقضية باعتبار جهة نسبة المحمول إلى الموضوع بالوجوب أو الجواز أو الإمتناع إعلم أن المحمول في القضية لا يخلو إما أن تكون نسبته إلى الموضوع نسبة الضروري الوجود في نفس الأمر، كقولك

الإنسان حيوان، فإن الحيوان محمول على الإنسان ونسبته إليه نسبة الضروري الوجود، وأما أن يكون نسبته إليه نسبة الضروري العدم كقولنا الإنسان حجر فإن الحجرية محمولة، ونسبتها إلى الإنسان نسبة الضروري العد، وأما ألا يكون ضروريا لا وجوده ولا عدمه كقولنا الإنسان كاتب الإنسان ليس بكاتب، ولنسم هذه النسبة مادة الحمل، فالمادة ثلاثة: الوجوب والإمكان والإمتناع. والقضية بهذا الإعتبار أما مطلقة وإما مقيدة، والمقيدة ما نص فيها بأن المحمول للموضوع ضروري أو ممكن أو موجود على الدوام لا بالضرورة. والمطلق ما لم يتعرض فيه إلى شيء من ذلك، فإن هذه الأمور زائدة على ما يقتضيه مجرد الحمل، والقضية الضرورية تنقسم إلى ما لا شرط فيه كقولنا الله حي، فإنه لم يزل ولا يزال كذلك، وإلى ما شرط فيه وجود الموضوع كقولنا الإنسان حي، فإنه ما دام موجودا فهو كذلك، فوجود الموضوع مشروط فيه ولا يفارق هذا المشروط الضروري الأول في جهة الضرورة، وإنما يفارق في دوام الموضوع لذاته أزلا وأبدا ووجوب وجوده لنفس حقيقته، ولنسم هذا بالضروري المطلق. فأما الضروري المشروط فثلاثة: الأول ما يشترط فيه دوام وجود الموضوع ما تقدم.

الثاني ما شرط فيه دوام كون الموضوع موصوفا بعنوانه كقولنا كل متحرك متغير، فإنه متغير ما دام متحركا لا مادام ذات المتحرك موجودا فحسب. والفرق بين هذا وبين قولنا الإنسان حي إن الشرط في ذات الإنسان، والشرط ههنا ليس هو ذات المتحرك فقط، بل ذات المتحرك بصفة تلحق الذات وهو وهو كونه متحركا فإن المتحرك له ذات وجوهر من كونه فرسا أو سماء أو ما شئت أن تسميه ويلحقه إنه متحرك، وذاك الذات هو غير المتحرك، وليس الإنسان كذلك. الثالث ما يشترط فيه وقت مخصوص إما معين أو غير معين، فإن قولنا القمر بالضرورة منخسف مقيد بوقت معين، وهو وقت وقوعه في ظل الأرض محجوبا بذلك عن ضوء الشمس، وقولنا الإنسان بالضرورة متنفس فمعناه أنه في بعض الأوقات، وذلك الوقت غير متعين. فإن قال قائل: وهل يتصور دائم غير ضروري؟ قلنا: نعم. أما في الأشخاص فظاهر كالزنجي، فإنك قد تقول أنه أسود البشرة ما دام موجود البشرة وليس السواد لبشرته ضروريا ولكنه قد اتفق وجوده لها على الدوام، ولنسم هذه القضية وجودية. وأما في الكليات فكقولنا كل كوكب إما شارق أو غارب،

فإنه في كل ساعة كذلك وليس ذلك ضروريا في وجود ذاته إذ ليس كالحيوان للإنسان، فافهم. القسمة الخامسة للقضية باعتبار نقيضها إعلم أن فهم النقيض في القضية تمس إليه الحاجة في النظر، فربما لا يدل البرهان على شيء ولكن يدل على إبطال نقيضه، فيكون كأنه قد دل عليهي. وربما يوضع في مقدمات القياس شيء فلا يعرف وجه دلالته، ما لم يرد إلى نقيضه، فإذا لم يكن النقيض معلوما لم تحصل هذه الفوائد، وربما يظن أن معرفة ذلك ظاهرة وليس كذلك، فإن التساهل فيه مثار الغلط في أكثر النظريات. والقضيتان المتناقضتان هما المختلفتان بالإيجاب والسلب، على وجه يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، فإنا إذا قلنا العالم حادث وكان صادقا كان قولنا العالم ليس بحادث كاذبا، وكذا قولنا قديم إذا عنينا بالقديم نفي الحادث؛ فمهما دلننا على أحدهما فقد دللنا على الآخر، ومهما قلنا أحدهما فكأنا قد قلنا الآخر،

فهما متلازمان على هذا الوجه ولكن للتناقض شروط ثمانية، فإذا لم تراع الشروط لم يحصل التناقض: الأول أن تكون إحدى القضيتين سالبة والأخرى موجبة، كقولنا العالم حادث، العالم ليس بحادث، فإنا إن قلنا العالم حادث العالم حادث، فلا يتناقضان. الثاني: أن يكون موضوع المقدمتين واحدا فإذا تعدد لم يتناقضا، كقولنا العالم حادث والباري ليس بحادث، فإنهما لا يتناقضان وإنما يشكل هذا في لفظ مشترك، فإنا نقول العين أصفر، العين ليس بأصفر، ونريد بأحدهما الدينار وبالآخر العضو الباصر. ونقول في الفقه: " الصغيرة مولى عليها في بعضها " الصغيرة ليس مولى عليها في بعضها ونريد بإحداهما الثيب وبالأخرى البكر على منهاج إرادة الخاص بالعام، ويكون الموضوع متعددا فلا يحصل التناقض. الثالث: أن يكون المحمول واحدا، فإن قولنا الإنسان مخلوق، الإنسان ليس بحجر لا يتناقضات، ويشكل ذلك في المحمول المشترك، كقولنا المكره على القتل مختار والمكره على القتل ليس بمختار ولكنه مضطر، ولا يتناقضان فإن المختار يطلق على معنيين مختلفين فهو مشترك، فقد يراد به القادر على الترك وقد يراد به الذي يقدم على الشيء لشهوته وانبعاث داعية من ذاته. ومهما كان اللفظ مشتركا كان الموضوع أو المحمول أكثر من واحد

في الحقيقة، وفي الظاهر يظن أنه واحد، والعبرة للحقيقة لا لظاهر اللفظ. الرابع: ألا يكون المحمول في جزئين مختلفين من الموضوع كقولنا النوبي أبيض، النوبي ليس بأبيض أي هو أبيض الأسنان وليس بأبيض البشرة. وفي الفقه نقول " السارق مقطوع ليس بمقطوع " أي مقطوع اليد ليس بمقطوع الرجل والأنف. الخامس: ألا يختلف ما إليه الإضافة في المضافات، كقولنا الأربعة نصف الأربعة ليست نصفا أي هي نصف الثمانية وليست نصف العشرة، فلا تناقض. وكذلك قولنا زيد أب زيد ليس بأب، أي أب لعمرو، وليس بأب لخالد. وفي الفقه نقول " المرأة مولى عليها المرأة ليس مولى عليها " أي مولى عليها في البضع لا في المال، وقد يضاف إلى البضع كلاهما ولا تناقض من جهة اشتراك لفظ المحمول، فإن أبا حنيفة يقول: مولى عليها إذ يتولى الولي نكاحها شرعا استحبابا أو إيجابا، وليس مولى عليها أي تستقل بنفسها ولا تجبر على العقد. وهذه المعاني يجب مراعاتها لا للنقيض فقط، ولكن لجميع أنواع القياس أيضا. وعلى ذلك فقول بعض فقهاء الشافعية: المرأة مولى عليها فلا تلي أمر نفسها، نتيجة غير لازمة فإن أبا حنيفة يقول:

قولكم أنها مولى عليها أن أردتم به أنها لا تلي أمر نفسها أو الولي يجبرها، فهذا عين المطلوب في محل النزاع، فجعله مقدمة في القياس مصادرة وأن أريد به أن الولي يتولى عقدها استحبابا او إيجابا، فلا يلزم من هذا إلا ينعقد عقدها إذا تعاطته على خلاف الإستحباب. السادس ألا يكون نسبة المحمول إلى الموضوع على جهتين مختلفتين، كقولنا الماء في الكوز مرو مطهر وليس بمرو ولا مطهر، ونريد أنه مرو بالقوة وليس بمرو بالفعل، ولإختلاف جهة الحمل لم يتناقض الحكمان ومن ذلك قوله تعالى: (وَما رَميتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى) وهو نفي للرمي وإثبات له، ولكن ليست جهة النفي جهة الإثبات فلم يتناقضا، وهذا أيضا مما يغلط كثيرا في الفقهيات. السابع: ألا يكون في زمانين مختلفة كقولنا الصبي له أسنان، ونعني به بعد الفطام، والصبي لا أسنان له ونعني به في أول الأمر. ونقول في الفقه: الخمر كانت حراما، نعني به في الأعصار السابقة، وكانت حلالا، ونعني به قبل نزول التحريم. وبالجملة ينبغي ألا تخالف إحدى القضيتين الأخرى إلا في الكيف فقط، فتسلب إحداهما ما أوجبته الأخرى على الوجه الذي أوجبته. وعن الموضوع الذي وضعه بعينه على ذلك النحو وفي ذلك الوقت

وبتلك الجهة فإذا ذاك يقتسمان الصدق والكذب، فإن تخلف شرط جاز أن يشتركا في الصدق أو في الكذب. الثامن: وهذا في القضية التي موضوعها كلي على الخصوص، فإنه يزيد في التي موضوعها كلي أن يختلف القضيتان بالجزئية والكلية مع الإختلاف في السلب والإيجاب، حتى يلزم التناقض لا محالة، وإلا أمكن أن يصدقا جميعا كالجزئيتين في مادة الإمكان مثل قولنا بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، وربما كذبتا جميعا كالكليتين في مادة الإمكان كقولنا كل إنسان كاتب وليس واحد من الناس كاتبا؛ فالتناقض إنما يتم في المحصورات بعد الشروط التي ذكرناها إن كانت إحدى القضيتين كلية والأخرى جزئيتين في مادة الإمكان مثل قولنا بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، وربما كذبتا جميعا كالكليتين في مادة الإمكان كقولنا كل إنسان كاتب وليس واحد من الناس كاتبا؛ فالتناقض إنما يتم في المحصورات بعد الشروط التي ذكرناها إن كانت إحدى القضيتين كلية والأخرى جزئية، ليكون تناقضها ضروريا ولنمتحن المواد كلها ولنضع الموجبة أولا كلية فنقول: كل إنسان حيوان، ليس بعض الناس بحيوان؛ كل إنسان كاتب، ليس بعض الناس بكاتب؛ كل إنسان حجر، ليس بعض الناس بحجر؛ فنجد لا محالة إحدى القضيتين صادقة والأخرى كاذبة. ولنمتحن السالبة الكلية فنقول: ليس واحد من الناس حيوانا، بعض الناس حيوان؛ ليس واحد من الناس بحجر، بعض الناس حجر؛ ليس واحد من الناس بحجر، بعض الناس حجر؛ ليس واحد من الناس بكاتب، بعض الناس كاتب؛ فبالضرورة يقتسمان الصدق والكذب في جميع المواد. فإن قيل: فالكليتان في مادة الوجوب والإمتناع أيضا يقتسمان الصدق والكذب

قلنا: نعم ولكن لا يعرف ذلك إلا بعد معرفة نسبة المحمول إلى الموضوع إنه ضروري أم لا. وإذا راعيت الشرط الذي ذكرناه علمت التناقض قطعا، وإن لم تعرف تلك النسبة فإنه كيفما كان الأمر يلزم التناقض. القسمة السادسة للقضية باعتبار عكسها إعلم أنا نعني بالعكس إن يجعل المحمول من القضية موضوعا والموضوع محمولا مع حفظ الكيفية وبقاء الصدق بحاله، فإن لم يبق الصدق سمي إنقلابا لا إنعكاسا والقضايا في عنصرها أربعة: الأولى السالبة الكلية وتنعكس مثل نفسها بالضرورة فإنك تقول لا إنسان واحد طائر ويلزم أنه لا طائر واحد إنسان، ونقول لا طاعة واحدة معصية فيلزم أنه لا معصية واحدة طاعة، ولزوم هذا ظاهر ولكن تحريره إنه إن لم يلزم أنه لا طائر واحد إنسان، فإنما لا يلزم لأنه يمكن أن يكون بعض الطائر إنسانا، فإن أمكن ذلك بطل قولنا

لا إنسان واحد طائر لأن ذلك الطائر يكون إنسانا، فيكون ذلك الإنسان طائرا فيرتفع الصدق من قولنا لا إنسان واحد طائر، وقد وضعتها صادقة. والثانية الموجبة الكلية وتنعكس موجبة جزئية، فقولنا كل لإنسان حيوان ينعكس إلى أن بعض الحيوان إنسان، ولا ينعكس كليا لأن المحمول وهو الحيوان يمكن أن يكون أعم من الموضوع، فيفضل طرف منه عن الموضوع الذي هو الإنسان في مثالنا، فلا يمكن أن يقال كل حيوان إنسان إذ من الحيوانات غير الإنسان كالفرس ونحوه من سائر الأنواع الأخرى. والثالثة السالبة الجزئية، وهي لا تنعكس أصلا، فإنا نقول حيوان ما ليس بإنسان فهو صادق وعكسه إنسان ما ليس بحيوان غير صادق، ولا قولنا كل إنسان ليس بحيوان يصح أن يكون عكسا لهذه، فلا تنعكس لا إلى كلية ولا إلى جزئية. والرابعة الموجبة الجزئية

وتنعكس مثل نفسها أعني موجبة جزئية، فقولنا بعض الناس كاتب يلزم منه أن بعض الكاتب إنسان. فإن قلت: إنه يلزم منه إن كل كاتب إنسان؛ فاعلم إن ذلك ليس يلزم من الإيجاب الجزئي من حيث أنه إيجاب جزئي، بل من حيث عرفت من خارج إنه لا كاتب سوى الإنسان، وإلا فمن الموجبة الجزئية مالا يصدق انعكاسه كليا إذ تقول بعض الإنسان أبيض ولا يمكنك أن تقول كل أبيض إنسان، بل اللازم بعض الأبيض إنسان ولأجل كون الأمثلة مغلطة في ذلك عدل المنطقيون من الأمثلة المكشوفة إلى المبهمات وأعلموها بالحروف المعجمة وجعلوا المحمول معرفا بالباء والموضوع بالألف، وقالوا كل " اب " أي هما شيئان مبهمان مختلفان سميناهما بهذين الإسمين، فيلزم منه بعض (ب ا) فقولنا لا شيء من (اب) يلزم منه بعض (ب أ) وإيضاح ذلك بين فلسنا نطنب. وإنما افتقرنا إلى معرفة العكس، فإن

بعض المقاييس يظهر وجه انتاجها بالعكس، وربما ينتج القياس شيئا ومطلوبنا عكسه، فيستبين بهذا أنه مهما أنتج القياس لنا سالبة كلية فقد أنتج أيضا عكسها، وكذا في سائر الأقسام، والله أعلم بالصواب.

كتاب القياس إعلم انا إذا فرغنا من مقدمات القياس وهو بيان المعاني المفردة ووجوه دلالة الألفاظ عليها، وكيفية تأليف المعاني بالتركيب الخبري المشتمل على الموضوع والمحمول المسمة قضية وأحكامها وأقسامها، فجدير بنا أن نخوض في بيان القياس فإنه التركيب الثاني، لأنه نظر في تركيب القضايا ليصير قياسا كما كان الأول نظرا في تركيب المعاني ليصير قضية. وهذا هوالتركيب الواجب في المركبات. فباني البيت ينبغي له أن يعى أولا للجمع بين المفردات اعني الماء والتراب والتبن، فيجمعها على شكل مخصوص ليصير لبنا ثم يجمع اللبنات فيركبها والتبن، فيجمعها على شكل مخصوص ليصير لبنا ثم يجمع اللبنات فيركبها تركيبا ثانيا؛ كذلك ينبغي أن يكون صنيع الناظر في كل مركب، وكما أن اللبن لا يصير لبنا إلا بمادة وصورة، المادة التراب وما فيه، والصورة هو التربيع الحاصل بحصره في قالبه، كذلك القياس المركب له مادة وصورة، الحاصل بحصره في قالبه، المادة التراب وما فيه، والصورة هو الرتبيع الحاصل بحصره في قالبه، كذلك القياس المركب له مادة وصورة، المادة هي المقدمات اليقينية الصادقة فلا بد من طلبها ومعرفة مداركها، والصورة هي تأليف المقدمات على نوع من الترتيب مخصوص ولا بد من معرفته؛ فانقسم النظر فيه إلى أربعة فنون: المادة والصورة والمغلطات في القياس، وفصول متفرقة هي من اللواحق.

النظر الأول في صورة القياس والقياس أحد أنواع الحجج، والحجة هي التي يؤتى بها في إثبات ما تمس الحاجة إلى إثباته من العلوم التصديقية، وهي ثلاثة أقسام: قياس وإستقراء وتمثيل. والقياس أربعة أنواع: حملي وشرطي متصل وشرطي منفصل وقياس خلف، ولنسم الجميع أصناف الحجة. وحد القياس أنه قول مؤلف إذا سلم ما أورد فيه من القضايا لزم عنه لذاته قول آخر إضطرارا وإذا أوردت القضايا في الحجة سميت عند ذلك مقدمات. وتسمى قضايا قبل الوضع كما أن القول اللازم عنه يسمى قبل اللزوم مطلوبا وبعد اللزوم نتيجة. وليس من شرط في أن يسمى قياسا أن يكون مسلم القضايا بل من شرطه أن يكون بحيث إذا سلمت قضاياه لزم منها النتيجة، وربما تكون القضايا غير واجبة التسليم ونحن نسميه قياسا لكوه بحيث لو سلم للزمت النتيجة، وربما تكون القضايا غير واجبة التسليم ونحن نسميه قياسا لكونه بحيث لو سلم للزمت النتيجة. فلنبدأ بالحملي من أنواع القياس والحجج. الصنف الأول القياس الحملي الذي قد يسمى قياسا اقترانيا وقد يسمى جزميا وهو مركب من مقدمتين مثل قولنا

كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث فيلزم منه أن كل جسم محدث؛ فهذا القياس مركب من مقدمتين وكل مقدمة تشتمل على موضوع ومحمول، فيكون مجموع الآحاد التي تنحل إليه هذه المقدمات أربعة، إلا أن واحدا منها يتكرر، فالمجموع إذن ثلاثة وهو أقل ما ينحل إليه قياس، إذ أقل مايلتئم منه القياس مقدمتان، وأقل ما ينتظم منه المقدمة معنيان: أحدهما موضوع والآخر محمول. ولا بد أن يكون واحد مكررا مشتركا في المقدمتين، فإنه إن لم يكن كذلك تباينت المقدمتان ولم تتكلم في المقدمة الثانية عن الجسم ولا عن المؤلف، بل قلت مثلا كل إنسان حيوان لم تلزم نتيجة من المقدمتين. فإذا عرفت انقسام كل قياس إلى ثلاثة أمور مفردة فاعلم أن هذه المفردات تسمى حدودا، ولكل واحد من الحدود الثلاث إسم مفرد ليتميز عن غيره. أما الحد المشترك فيسمى الحد الأوسط، وأما الآخران فيسمى أحدهما الحد الأكبر والآخر الأصغر. والأصغر هو الذي يكون موضوعا في النتيجة، والأكبر هو الذي يكون محمولا فيها. وإنما سمي أكبر لأنه يمكن أن يكون أعم من الموضوع وإن أمكن أن يكون مساويا. وأما الموضوع فلا يتصور أن يكون أعم من المحمول، وإذا وضع كذلك كان الحكم كاذبا كقولك كل حيوان إنسان، فإنه كاذب وعكسه صادق.

ثم لما مست الحاجة إلى تعريف المقدمتين باسمين ولم يمكن أن يشتق إسمهما من الحد الأوسط، والجسم هو الأصغر، والمحدث هو الحد الأكبر. وقولنا كل جسم مؤلف هي المقدمة الصغرى، وقولنا كل مؤلف محدث هي المقدمة الكبرى، واللازم عنه هو التقاء الحدين الواقعين على الطرفين وهو المطلوب أولا والنتيجة آخرا، وهو قولنا فكل جسم محدث؛ ومثاله من الفقه: كل مسكر خمر وكل خمر حرام، فكل مسكر حرام، فالمسكر والخمر والحرام حدود القياس، والخمر هو الحد الأوسط،

والمسكر هوالحد الأصغر، والحرام هوالحد الأكبر. وقولنا كل خمر حرام هي المقدمة الكبرى، فهذه قسمة للقياس باعتبار أجزائه المفردة. القسمة الثانية لهذا القياس باعتبار كيفية وضع الحد الأوسط عند الطرفين الآخرين وهذه الكيفية تسمى شكلا. والحد الأوسط إما أن يكون محمولا في إحدى المقدمتين موضوعا في الأخرى كما أوردناه من المثال، فيسمى شكلا أولا، وإما أن يكون محمولا في المقدمتين جميعا ويسمى الشكل الثاني، وإما أن يكون موضوعا فيهما ويسمى الشكل الثالث. الشكل الأول مثاله ما أوردناه، وحصول النتيجة منه بين، وحاصله يرجع إلى أن الحكم علىالمحمول حكم على الموضوع بالضرورة، فمهما حكم على الجسم بالمؤلف فكل حكم يثبت للمؤلف فقد ثبت لا محالة للجسم، فإن الجسم داخل في المؤلف،

وإذا ثبت الحكم بالحدوث على المؤلف فقد ثبت بالضرورة على الجسم. وإنما احتيج إلى هذا من حيث أن الحكم بالحدوث على الجسم قد لا يكون بينا بنفسه، ولكن يكون الحكم به على المؤلف بيتنا بنفسه والحكم بالمؤلف على الجسم أيضا بينا، فيتعدى الحكم الذي ليس بينا للجسم إليه بواسطة المؤلف الذي هو بين له، فيكون الوسط سبب التقاء الطرفين وهو تعدي الحكم إلى المحكوم عليه. ومهما عرفت أن الحكم على المحمول حكم على الموضوع، فلا فرق بين أن يكون الموضوع جزئيا أو كليا، ولا أن يكون المحمول سالبا أو موجبا، فإنك لو أبدلت قولك كل جسم مؤلف بقولك بعض الموجود مؤلف لزم من قياسك أن بعض الموجود محدث. ولو أبدلت قولك كل مؤلف محدث بقولك كل مؤلف محدث ليس بأزلي، تعدى نفي الأزلية أيضا إلى موضوع المؤلف، كما تعدى إثبات الحدوث من غير فرق؛ فيكون المنتج من هذا الشكل بحسب هذا الإعتبار أربع تركيبات:؟؟ الأول موجبتان كليتان كما سبق. الثاني جوجبتان والصغرى جزئية، كما إذا أبدلت قولك كل جسم مؤلف بقولك بعض الموجودات مؤلف.

الثالث موجبة كلية صغرى وسالبة كلية كبرى، وهو أن تبدل قولك محدث بقولك ليس بأزلي. الرابع موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى وهو أن تبدل الصغرى بالجزئية والكبرى بالسالبة، فتقول مثلا موجود ما مؤلف ولا مؤلف واحد أزلي. فأما ما عدا هذه التركيبات فلا تنتج أصلا لأنك إن فرضت سالبتين فقط لا ينتظم منهما قياس، لأن الحد الأوسط إذا سلبته عن شيء فالحكم عليه بالنفي أو بالإثبات لا يتعدى إلى المسلوب عنه، لأن السلب أوجب المباينة والثابت على المسلوب لا يتعدى إلى المسلوب عنه، فإنك إن قلت لا إنسان واحد حجر ولا حجر واحد طائر فلا إنسان واحد طائر، فيرى هذه النتيجة صادقة، وليس صدقها لازما عن هذا القياس فإنك لو قلت لا إنسان واحد بياض ولا بياض واحد حيوان فلا إنسان واحد حيوان، لم تكن النتيجة صادقة. والشكل هو ذلك الشكل بعينه،

ولكن إذا سلبت الإتصال بين البياض والإنسان - لا أن بين الأبيض والإنسان مباينة - فالحكم على البياض لا يتعدى إلى الإنسان بحال، فإذن لا بد أن يكون في كل قياس موجبة أو ما في حكمها وإن كانت الصيغة صيغة السلب مثلا. ولكن في هذا الشكل على الخصوص يشترك أن تكون الصغرى موجبة ليثبت الحد الأوسط للأصغر، فيكون الحكم على الأوسط حكما على الأصغر، ويجب أن تكون الكبرى كلية حتى ينطوي تحت الأكبر الحد الأصغر لعمومه جميع ما يدخل في الأوسط، فإنك إذا قلت كل إنسان حيوان وبعض الحيوان فرس، فلا يلزم أن يكون كل إنسان فرس، بل إن حكمت على الحيوان بحكم كلي ككونه جسما فقلت وكل حيوان جسم، تعدى ذلك إلى الأصغر وهو الإنسان. ولما كانت الأمثلة المفصلة ربما غلطت الناظر عدل المنطقيون إلى وضع المعاني المختلفة المبهمة، وعبروا عنها بالحروف المعجمة ووضعوا بدل الجسم والمؤلف المحدث في المثال الذي أوردناه الألف والباء والجيم، وهي أوائل حروف أبجد، ووضعوا الجيم الذي هو الثالث حدا أصغر محكوما عليه، والباء حدا اوسط يحكم به على الجيم، والألف حدا أكبر يحكم به على الباء ليتعدى إلى الجيم فقالوا: كل ج ب وكل (ب ا) فكل جيم ألف،

وكذا سائر الضروب. وأنت إذا أحطت بالمعاني التي حصلناها لم تعجز عن ضرب المثال من الفقهيات والعقليات المفصلة أو المبهمة. ؟ الشكل الثاني وهو ما كان الحد الأوسط فيه محمولا على الطرفين، لكن إنما ينتج إذا كان محمولا على أحدهما بالسلب وعلى الآخر بالإيجاب، فيشترط اختلاف المقدمتين في الكيفية أعني في السلب والإيجاب ثم لا تكون النتيجة إلا سالبة، وإذا تحقق ذلك فوجه إنتاجه إنك إذا وجدت شيئين ثم وجدت شيئا ثالثا محمولا على أحد الشيشئين بالإيجاب وعلى الآخر بالسلب، فيعلم التباين بين الشيئين بالضرورة، فإنهما لو لم يتباينا لكان يكون أحدهما محمولا على الآخر ولكان الحكم على المحمول حكما على الموضوع، كما سبق في الشكل الآخر، فإذن كل شيئين هذا صفتهما فهما متباينان أي يسلب هذا عن ذاك وذاك عن هذا؛ وتنتظم في هذا الشكل أيضا أربع تركيبات: الأول أن تقول كل جسم مؤلف كما سبق في الأول، ولكن تعكس المقدمة الثانية السالبة من ذلك الشكل، فتقول ولا أزلي واحد مؤلف بدل قولك

ولا مؤلف واحد أزلين فيلزم ما لزم منه لأنا قد قدمنا أن السالبة الكلية تنعكس كنفسها، فلا فرق بين قولك لا مؤلف واحد أزلي، فيلزم ما لزم منه لأنا قد قدمنا أن السالبة الكلية تنعكس كنفسها، فلا فرق بين قولك لا مؤلف واحد أزلي، وهو المذكور في الشكل الأول، وبين قولك ولا أزلي واحد مؤلف، فينتج هذا أنه لا جسم واحد أزلي ومحصله المباينة بين الجسم والأزلي، إذ وجد المؤلف محمولا على أحدهما مسلوبا على الآخر، فدل ذلك على التباين بالطريق الذي ذكرناه مجملا. وتفصيله أن تنعكس المقدمة الكبرى فيرجع إلى الشكل الأول، وإنما سميت هذه مقاييس الشكل الثاني لأنه يحتاج في بيانها إلى الرد للشكل الأول. الضرب الثاني هذا هو بعينه ولكن المقدمة الصغرى جزئية، وهو قولك موجود ما مؤلف ولا أزلي واحد مؤلف، فإذن موجود ما ليس بأزلي وبيانه بعكس المقدمة الكبرى كما سبق. وأما الثالث والرابع فإن تكون الصغرى سالبة إما جزئية وإما كلية وتكون الكبرى موجبة، ولا يمكن تفهيم ذلك بما ضربناه مثلا للشكل الأول إذ لم تكن فيه مقدمة صغرى إلا موجبة، إذ كان هذا شرطا في ذلك الشكل فنغير المثال ونقول:

مثال الضرب الثالث قولك: لا جسم واحد منفك عن الأعراض وكل أزلي منفك عن الأعراض، فإذن لا جسم واحد أزلي فالقياس مؤلف من كليتين صغراهما سالبة وكبراهما موجبة، والنتيجة سالبة كلية والحد الأوسط هو المنفك عن الأعراض، فإنه محمول على الجسم بالسلب وعلى الأزلي بالإيجاب، فأوجب التباين وبيانه بعكس الصغرى فإنها سالبة كلية تنعكس مثل نفسها، وإذا عكست صار المحمول موضوعا وعاد إلى الشكل الأول الذي الحد المشترك فيه موضوع لإحدى المقدمتين محمول للأخرى. الضرب الرابع هو الثالث بعينه لكن الصغرى سالبة جزئية كقولك: موجود ما ليس بجسم وكل متحرك جسم، فبعض الموجودات ليس بمتحرك. ولما كانت السالبة جزئية وهي لا تنعكس لم يمكن أن يرد هذا الضرب إلى الأول بطريق العكس، لكن يرد بطريق الإفتراض، وهو أن تحول هذا الجزئي كليا فإذا كان موجود ما ليس بجسم فقد حصل أن بعض الموجودات ليس بجسم، فلنفرضه سوادا مثلا فنقول

كل سواد ليس بجسم فيصير كالضرب الثالث من هذا الشكل، وكان قد رجع الثالث إلى الشكل الأول بالعكس، فكذا هذا فالمنتج إذن من هذا الشكل هذه التركيبات الأربع وما عداها فلا، إذ لا ينتج سالبتان ولا موجبتان في هذا الشكل ينتجان لأن كل شيئين وجد شيء واحد محمولا عليهما لم يوجب ذلك بينهما، لا إتصالا ولا تباينا، إذ الحيوان يوجد محمولا على الفرس والإنسان، ولا يوجب كون الإنسان فرسا وهو الإتصال. ويوجد محمولا على الكاتب والإنسان ولا يوجب بينهما تباينا حتى لا يكون الإنسان كاتبا والكاتب إنسانا، فإذن لهذا الشكل شرطان: أحدهما أن يختلفا أعني المقدمتين في الكيفية، والآخر أن تكون الكبرى كلية كما في الشكل الأول. ؟؟ الشكل الثالث هو أن يكون الحد المشترك موضوعا في المقدمتين وهذا يوجب نتيجة جزئية، فإنك مهما وجدت شيئا واحدا ثم وجدا شيئين كليهما يحملان على ذلك الشيء الواحد، فبين المحمولين اتصال والتقاء لا محالة على ذلك الواحد، فيمكن لا محالة أن يحمل كل واحد منهما على بعض الآخر بكل حال إن لم يمكن حمله على كله، فلذلك كانت النتيجة جزئية، فإنك حال إن لم يمكن حمله على كله،

فلذلك كانت النتيجة جزئية، فإنك مهما وجدت إنسانا ما وهو شيء واحد، يحمل عليه الجسم والكاتب فإنك مهما وجدت إنسانا ما هو شيء واحد يحمل عليه الجسم والكاتب دل ذلك على أن بين الجسم والكاتب اتصال، حتى يمكن أن يقال لبعض الأجسام كاتب ولبعض الكاتب جسم. وإن كان الكل كذلك ولكن الجزئية لازمة بكل حال وهذا طريق كاف في التفهيم، ولكن نتبع العادة في التفصيل ببيان الأضرب والتعريف بوجه لزوم النتيجة بالرد إلى الشكل الأول، وينتظم في هذا الشكل ستة أضرب منتجة: الضرب الأول من موجبتين كليتين كقولك كل متحرك جسم وكل متحرك محدث، فبعض الجسم بالضرورة محدث، وبيانه بعكس الصغرى فانها تنعكس جزئية ويصير قولنا كل متحرك محدث فيلزم بعض الجسم محدث لرجوعه إلى الشكل الأول، فإنه مهما عكست مقدمة واحدة صار الموضوع محمولا، وقد كان موضوعا للمقدمة الثانية، فيصير الحد الأوسط

محمولا لاحداهما موضوعا للأخرى. الضرب الثاني من كليتين كبراهما سالبة كقولك كل أزلي فاعل ولا أزلي واحد جسم، فيلزم منه ليس كل فاعل جسما لأنه يرجع إلى الأول بعكس الصغرى، وتلزم منه هذه النتيجة بعينها فتقول فاعل ما أزلي ولا أزلي واحد جسم فليس كل فاعل جسما. الضرب الثالث موجبتان صغراهما جزئية ينتج موجبة جزئية، كقولك جسم ما فاعل وكل جسم مؤلف فيلزم فاعل ما مؤلف، وبيانه بعكس الصغرى وضم العكس إلى الكبرى، فيرتد إلى الشكل الأول وتلزم النتيجة، إذ تقول فاعل ما جسم وكل جسم مؤلف فيلزم فاعل ما مؤلف.

الضرب الرابع موجبتان والكبرى جزئية ينتج موجبة جزئية، مثاله كل جسم محدث وجسم ما متحرك، فيلزم محدث ما متحرك وذلك بعكس الكبرى وجعلها صغرى، فيرجع إلى الأول ثم عكس النتيجة ليخرج لنا عين نتيجتنا، فتقول متحرك ما جسم وكل جسم محدث، فيلزم أن متحركا ما محدث وتنعكس إلى عين النتيجة الأولى وهي محدث ما متحرك، فهذا قد تبين لك أنه إنما يحقق بعكسين أحدهما عكس المقدمة والآخر عكس النتيجة. الضرب الخامس يأتلف من مقدمتين مختلفتين في الكمية والكيفية جميعا صغراهما موجبة جزئية وكبراهما سالبة كلية ينتج جزئية سالبة، ومثاله قولك جسم ما فاعل ولا جسم واحد أزلي، فيلزم ليس كل فاعل أزليا

لأن الصغرى تنعكس إلى قولك فاعل ما جسم، فتضم إلى الكبرى القائلة ولا جسم واحد أزلي فتلزم هذه النتيجة بعينها من الشكل الأول البين بنفسه. الضرب السادس من مقدمتين مختلفتين أيضا في الكمية. والكيفية، صغراهما كلية موجبة وكبراهما سالبة جزئية، مثاله كل جسم محدث وجسم ما ليس بمتحرك، فيلزم محدث ما ليس بمتحرك ولا يمكن بيانه بالعكس؛ لأن الجزئية السالبة لا تنعكس والكلية الموجبة إذا انعكست صارت جزئية، ولا قياس من جزئيتين، فبيانه ليرجع إلى الشكل الأول بتحويل الجزئية إلى كلية بالإفتراض، بأن نفرض ذلك البعض الذي ليس بمتحرك أعني بعض الجسم جبلا، ونقول لا جبل واحد متحرك، وينضاف إليه كل جبل جسم وهو صدق الوصف العنواني على ذات الموضوع، فتأخذ هذه صغرى وتضيف إليها صغرى هذا الضرب، هكذا:

كل جبل جسم وكل جسم محدث، فيلزم كل جبل محدث من أول الأول. ثم تضم هذه النتيجة إلى أولى قضيتي الإفتراض، أعني قولك لا جبل واحد متحرك لينتج من الضرب الثاني من هذا الشكل أن بعض المحدث ليس بمتحرك، وقد ذكرنا أنه يرجع إلى الشكل الأول بعكس الصغرى، فيكون هذا الضرب السادس إنما يرجع إلى الشكل الأول بمرتبتين، فهذه مقاييس هذا الشكل، وله شرطان: أحدهما أن تكون الصغرى موجبة أو في حكمها. والآخر أن تكون إحداهما كلية أيهما كانت، إذ لا ينتظم قياس من جزئيتين على الإطلاق، فإذن المنتج من التأليفات أربعة عشر تأليفا: أربعة من الشكل الأول، وأربعة من الثاني، وستة من الثالث، وذلك بعد إسقاط المهملات فإنها في قوة الجزئية، وما عدا ذلك فليس بمنتج ولا فائدة لتفصيل ما لا انتاج له ومن أراد الإرتياض بتفصيله قدر عليه إذا تأمل فيه. فإن قيل: فكم عدد الإفتراضات الممكنة في ذه الأشكال؟ قلنا: ثمانية وأربعون اقترانا في كل شكل ستة عشر، وذلك لأن المقدمتين المقترنتين

إما كليتان أو جزئيتان او إحدهما كلية والأخرى جزئية، وعلى كل حال فهما إما موجبتان أو سالبتان أو واحدة موجبة والأخرى سالبة فهذه ستة عشر اقترانا ناتجة من ضرب أربع في أربع، وهي جارية في الأشكال الثلاثة، فتكون الجملة أخيرا ثمانية وأربعين، والمنتج أربعة عشر إقترانا فيبقى أربعة وثلاثين. فإن قيل: فما خواص الأشكال؟ قلنا: أما الذي يعمل كل شكل فهوإنه لا بد في اقترانها من موجبة وكلية، فلا قياس عن سالبتين ولا عن جزئيتين. وأما خاصية الشكل الأول فإما في وسطه وهو أن يكون محمولا في المقدمة الأولى موضوعا في الثانية، وإما في نتائجه وهو أن ينتج المطالب الأربعة وهي: الأيجاب الكلي، والسلب الكلي، والإيجاب الجزئي، والسلب الجزئي. والخاصية الحقيقية التي لا يشاركه فيها شكل من الأشكال

أنه لا يكون فيها (أي مقدماته) سالبة جزئية. وأما الشكل الثاني فخاصيته في وسطه أن يكون محمولا على الطرفين، وفي مقدماته ألا يتشابها في الكيفية بل تكون أبدا إحداهما سالبة والأخرى موجبة، وأما في الإنتاج فهو أنه لا ينتج موجبة أصلا بل لا ينتج إلا السالب. وأما الشكل الثالث فخاصيته في الوسط أن يكون موضوعا للطرفين، وفي المقدمات أن تكون الصغرى موجبة وأخص خواصه أنه يجوز أن تكون الكبرى منه جزئية. وأما في الإنتاج فهي أن الجزئية هي اللازمة منه دون الكلية. فإن قيل: فلم سمي ذلك أولا وذاك ثانيا وهذا ثالثا؟ قلنا: سمي ذلك أولا لأنه بين الإنتاج وإنما يظهر الإنتاج فيما عداه بالرد إليه أما بالعكس أو بالإفتراض، وإنما كان ذاك ثانيا وهذا ثالثا لأن الثاني ينتج الكلي، والثالث إنما ينتج الجزئي، والكلي أشرف من الجزئي، فكان واليا لما هو أشرف باطلاق، وإنما كان الكلى أشرف لأن المطالب العلمية المحصلة للنفس كمالا إنسانيا مورثا للنجاة والسعادة إنما هي الكليات والجزئيات، إن أفادت علما فبالعرض.

فإن قيل: فهل لكم في تمثيل المقاييس الأربعة عشر أمثلة فقهية لتكون أقرب إلى فهم الفقهاء؟ قلنا: نعم نفعل ذلك ونكتب فوق كل مقدمة يحتاج لردها إلى الأول بعكس أو افتراض أنه بعكس أو بفرض، ونكتب على الطرف أنه إلى أي قياس يرجع إن شاء الله تعالى، وهذه هي الأمثلة: أمثلة الشكل الأول 1 - كل مسكر خمر - وكل خمر حرام - فكل مسكر حرام. 2 - كل مسكر خمر - ولا خمر واحد حلال - فلا مسكر واحد حلال. 3 - بعض الأشربة خمر - وكل خمر حرام - فبعض الأشربة حرام. 4 - بعض الأشربة خمر - ولا خمر واحد حلال - فليس كل شراب حلالا. أمثلة الشكل الثاني 1 - يرجع إلى الضرب الثاني من الأول: كل ثوب فهو مذروع - ولا ربوي واحد مذروع. بعكس هذه فلا ثوب واحد ربوي.

2 - يرجع إلى الضرب الثاني من الأول أيضا: لا ربوي واحد مذروع، بعكس هذه وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة وكل ثوب فهو مذروع فلا ربوي واحد ثوب. 3 - يرجع إلى الضرب الرابع من الأول أيضا: متمول ما ليس بربوي " بالإفتراض " وكل مطعوم ربوي، فمتمول ما ليس بمطعوم. 4 - أمثلة الشكل الثالث 1 - يرجع إلى الضرب الثالث من الأول: كل مطعوم ربوي، بعكس هذه وكل مطعوم مكيل فبعض الربوي مكيل. 2 - يرجع إلى رابع الأول: كل ثوب متمول، بعكس هذه، ولا ثوب واحد ربوي، فليس كل متمول ربويا.

3 - يرجع إلى ثالث الأول: مطعوم ما مكيل، بعكس هذه، وكل مطعوم ربوي، فمكيل ما ربوي. 4 - يرجع إلى ثالث الأول: كل مطعوم ربوي، ومطعوم ما مكيل، بعكس هذه وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة، فربوي ما مكيل. 5 - يرجع إلى رابع الأول: مذروع ما متمول، بعكس هذه ولا مذروع واحد ربوي، فليس كل متمول ربويا. 6 - يرجع إلى رابع الأول: كل منقول متمول ومنقول ما ليس بربوي " بالإفتراض " فليس كل متمول ربويا. 7 - هذا ما أردنا شرحه من أمثلة القياسات الحملية وأقسامها؛ ولنخض في الصنف الثاني. ؟ الشرطي المتصل يتركب من مقدمتين: إحداهما مركبة من قضيتين قرن بهما صيغة شرط، والأخرى حملية واحدة هي المذكورة في المقدمة الأولى بعينها أو نقيضها، ويقرن بها كلمة الإستثناء،

مثاله: إن كان العالم حادثا فله صانع. مركب من قضيتين حمليتين قرن بهما حرف الشرط وهو قولنا أن، وقولنا: لكن العالم حادث، قضية واحدة حملية قرن بها حرف الإستثناء، وقولنا: فله صانع، نتيجة وهذا مما يكثر نفعه في العقليات والفقهيات، فإنا نقول إن كان هذا النكاح صحيحا فهو مفيد للحل، لكنه صحيح فإذن هو مفيد للحل، وإن كان الوتر يؤدي على الراحلة فهو نفل، لكنه يؤدي على الراحلة فهو إذن نفل. والمقدمة الثانية لهذا القياس إستثناء لإحدى قضيتي المقدمة الأولى أما المقدم أو التالي، والإستثناء إما أن يكون لعين التالي أو لنقيضه أو لعين المقدم او لنقيضه،

والمنتج منه إثنان وهو عين المقدم ونقيض التالي. وأما عين التالي ونقيض المقدم فلا ينتجان، وبيانه إنا نقول إن كان الشخص الذي ظهر عن بعد إنسانا فهو حيوان، لكنه إنسان فليس يخفى أنه يلزم كونه حيوانا، وهذا إستثناء عين المقدم ونقول لكنه ليس بحيوان، وهذا إستثناء نقيض التالي، فيلزم إنه ليس بإنسان ولزوم هذا أدق مدركا وهو أن يعرف أنه إذا لم يكن حيوانا لم يكن إنسانا، إذ لو كان إنسانا لكان حيوانا كما شرطناه في الأول، ويدرك ذلك بأدنى تأمل. فأما إستثناء نقيض المقدم، وهو أنه ليس بإنسان، فلا ينتج لا نقيض التالي وهو أنه ليس بحيوان، إذ ربما يكون فرسا، ولا عين التالي وهو أنه حيوان فربما يكون حجرا.

وكذلك نقول إن كان هذا المصلي محدثا فصلاته باطلة، لكنه محدث فيلزم بطلان الصلاة، لكن الصلاة ليست باطلة وهو نقيض التالي، فيلزم أنه ليس بمحدث وهو نقيض المقدم، لكنه ليس بمحدث وهو نقيض المقدم فلا يلزم - صحة الصلاة ولا بطلانها. لكن الصلاة باطلة، وهو عين التالي، فلا يلزم لا كونه محدثا ولا كونه متطهرا، وإنما ينتج إستثناء عين التالي ونقيض المقدم، إذا ثبت أن التالي مساو للمقدم لا أعم منه ولا أخص، كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، لكن الشمس طالعة فالنهار موجود، لكن الشمس غير طالعة فالنهار ليس بموجود، لكن النهار موجود فالشمس طالعة، لكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة.

واعلم أنه يتطرق إلى مقدمات هذا القياس أيضا السلب والإيجاب فإنك تقول: إن كان الإله ليس بواحد فالعالم ليس بمنتظم، لكن العالم منتظم فالإله واحد. وقد يكون المقدم أقاويل كثيرة والتالي يلزم الجملة كقولك: إن كان العلم الواحد لا ينقسم وكان كل ما لا ينقسم لا يقوم بمحل منقسم، وكان كل جسم منقسما وكان العلم حالا في النفس، فالنفس إذن ليست بجسم، لكن المقدمات نابتة ذاتية فالتالي وهو أن النفس ليست بجسم لازم، وكذلك قد يكون المقدم واحدا والتالي قضايا كثيرة إن صح إسلام الصبي فهو إما فرض وإما مباح وإما نفل، ولا يمكن شيء من هذه الأقسام فلا يمكن الصحة. وفي العقليات نقول إن كان النفس قبل البدن موجودة فيه إما كثيرة وإما واحدة، ولا يمكن لا هذا ولا ذاك فلا يمكن أن تكون قبل البدن موجودة، فهذه ضروب الشرطيات المتصلة، والله أعلم.

الصنف الثالث الشرطي المنفصل وهو الذي تسميه الفقهاء والمتكلمون السبر والتقسيم، ومثاله قولنا: العالم إما قديم وإما محدث، لكنه محدث فهو إذن ليس بقديم. فقولنا إما قديم وإما محدث مقدمه واحدة، وقولنا لكنه محدث مقدمة أخرى هي إستثناء إحدى قضيتي المقدمة الأولى بعينها، فانتج نقيض اآخر وينتج فيه أربعة إستثناءات، فإنك تقول لكن العالم محدث فيلزم عنه أنه ليس بقديم، أو تقول لكنه قديم فيلزم أنه ليس بمحدث،

أو لكنه ليس بقديم فيلزم أنه محدث وهو إستثناء النقيض، أو تقول لكنه ليس بمحدث، أو تقول لكنه ليس بمحدث فيلزم منه أنه قديم؛ فاستثناء عين إحداهما ينتج نقيض الآخر، واستثناء نقيض إحداهما ينتج الآخر. وهذا فيما لو اقتصرت أجزاء التعاند على اثنين، فإن كانت ثلاثا نأو أكثر ولكنها تامة العناد، فاستثناء عين واحدة ينتج نقيض الآخرين، كقولك لكنه مساو فيلزم أنه ليس أقل ولا أكثر، واستثناء نقيض واحدة لا ينتج إلا انحصار الحق في الجزءين الآخرين، كقولك لكنه ليس مساويا، فيلزم أن يكون إما أقل أو أكثر، فإن استثنيت نقيض الإثنين تعين الثالث، فإما إذا لم تكن الأقسام تامة العناد كقولك: هذا أما أبيض وإما أسود، أو زيد أما بالحجاز أو بالعراق،

فاستثناء عين الواحد ينتج نقيض الآخر، كقولك لكنه بالحجاز أو بالعراق، فاستثناء عين الواحد ينتج نقيض الآخر، كقولك لكنه بالحجاز أو لكنه أسود، فينتج نقيض سائر الأقسام؛ فإما استثناء نقيض الواحد فلا ينتج لا عين الآخر ولا نقيضه، فإنه لا حاصر في الأقسام، فقولنا ليس بالحجاز لا يوجب أن يكون في العراق، ولا ألا يكون به إلا إذا بان بطلان سائر الأقسام بدليل آخر، فعند ذلك يصير الباقي ظاهر الحصر تام العناد، ولا يحتاج هذا إلى مثال في الفقة فإن كثيرا نظر الفقهاء على السبر والتقسيم يدور. ولكن لا يشترط في الفقهيات الحصر القطعي بل الظني فيه كالقطعي في غيره. الصنف الرابع في قياس الخلف وصورته صورة القياس الحملي، ولكن إذا كانت المقدمتان صادقتين سمي قياسا مستقيما، وإن كانت إحدى المقدمتين ظاهرة الصدق والأخرى كاذبة أو مشكوكا فيها وأنتج نتيجة بينة الكذب ليستدل بها على أن المقدمة كاذبة، سمي قياس خلف. ومثال ذلك قولنا في الفقه: " كل ما هو فرض فلا يؤدي على الراحلة " والوتر فرض

فإذن لا يؤدي على الراحلة، وهذه النتيجة كاذبة ولا تصدر إلا من قياس في مقدماتها مقدمة كاذبة، ولكن قولنا كل واجب فلا يؤدي على الراحلة مقدمة ظاهرة الصدق، فبقي أن الكذب في قولنا أن الوتر فرض فيكون نقيضه، وهو أنه ليس بفرض، صادقا وهو المطلوب من المسألة ونظيره من العقليات قولنا: كل ما هو أزلي فلا يكون مؤلفا، والعالم أزلي فإذن لا يكون مؤلفا، لكن النتيجة ظاهرة الكذب ففي المقدمات كاذبة. وقولنا الأزلي ليس بمؤلف ظاهر الصدق، فينحصر الكذب في قولنا العالم أزلي، فإذن نقيضه وهو أن العالم ليس بأزلي صدق، وهو المطلوب؛ فطريق هذا القياس أن تأخذ مذهب الخصم وتجعله مقدمة، وتضيف إليها مقدمة أخرى ظاهرة الصدق، فينتج من القياس نتيجة ظاهرة الكذب، فتبين أن ذلك لوجود كاذبة في المقدمات.

ويجوز أن يسمى هذا قياس الخلف، لأنك ترجع من النتيجة إلىالخلف، فتأخذ مطلوبك من المقدمة التي خلفتها كأنها مسلمة ويجوز أن يسمى قياس الخلف لأن الخلف هو الكذب المناقض للصدق، وقد أدرجت في المقدمات كاذبة في معرض الصدق، ولا مشاحة في التسمية بعد فهم المعنى. الصنف الخامس الإستقراء هو أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به. ومثاله في العقليات أن يقول قائل: فاعل العالم جسم، فيقال له:؟ فيقول له: لم؟ فيقول: لأن كل فاعل جسم، فيقال له: لم؟ فيقول تصفحت أصناف الفاعلين من خياط وبناء وإسكاف ونجار ونساج وغيرهم فوجدت كل واحد منهم جسما، فعلمت أن الجسمية حكم ملازم للفاعلية، فحكمت على كل فاعل به. وهذا الضرب من الإستدلال غير منتفع به في هذا المطلوب، فإنا نقول: هل تصفحت في جملة ذلك فاعل العالم؟ فإن تصفحته ووجدته جسما فقد عرفت المطلوب قبل أن تتصفح الإسكاف والبناء ونحوهما، فاشتغالك به إشتغال بما لا يعنيك، وإن لم تتصفح فاعل العالم ولم تعلم حاله فلم حكمت بأن كل فاعل جسم؟ وقد تصفحت بعض الفاعلين ولا يلزم منه غلا أن بعض الفاعلين جسم،

وإنما يلزم أن كل فاعل جسم إذا تصفحت الجميع تصفحا لا يشذ عنه شيء، وعند ذلك يكون المطلوب أحد أجزاء المتصفح فلا يعرف بمقدمة تبنى على التصفح. وإن قال: لم اتصفح الجميع ولكن الأكثر، قلنا: فلم لا يجوز أن يكون الكل جسما إلا واحدا، وإذا احتمل ذلك لم يحصل اليقين به، ولكن يحصل الظن، ولذلك يكتفي به في الفقهيات في أول النظر، بل يكتفي بالتمثيل على ما سيأتي، وهو حكم من جزئي واحد على جزئي آخر. والحكم المنقول ثلاثة: أما حكم من كلي على جزئي وهو الصحيح اللازم وهو القياس الصحيح الذي قدمناه، وأما حكم من جزئي واحد على جزئي واحد كاعتبار الغائب بالشاهد وهو التمثيل وسيأتي، وأما حكم من جزئيات كثيرة على جزئي واحد وهو الإستقراء وهو أقوى من التمثيل.

ومثال الإستقراء في الفقه قولنا: الوتر لو كان فرضا لما أدي على الراحلة، ويستدل به كما سبق في قياس الخلف فيقال: ولم عرفتم أن الفرض لا يؤدي على الراحلة؟ قلنا: باستقراء جزئيات الفرض من الرواتب وغيرها كصلاة الجنازة والمنذورة والقضاء وغيرها، وكذلك يقول الحنفي " الوقف لا يلزم في الحياة لأنه لو لزم لما اتبع شرط الواقف، فيقال له: ولم قلت أن كل لازم فلا يتبع فيه شرط العاقد؟ فيقول: قد استقريت جزئيات التصرفات اللازمة من البيع والنكاح والعتق والخلع وغيرها، ومن جوز التمسك بالتمثيل المجرد الذي لا مناسبة فيه يلزمه هذا، بل إذا كثرت الأصول قوي الظن، ومهما ازدادت الأصول الشاهدة أعني الجزئيات اختلافا كان الظن أقوى فيه، حتى إذا قلنا مسح الراس وظيفة أصلية في الوضوء فيستحب فيه التكرار فقيل: لم؟ فقلنا استقرينا ذلك من غسل الوجه واليدين وغسل الرجلين، ولم يكن معنا إلا مجرد هذا الإستقراء. وقال الحنفي: مسح فلا يكرر، فقيل: لم؟ فقال: استقريت مسح التيمم ومسح الخف كان ظنه أقوى لدلالة جزئين مختلفين عليه. وأما الأعضاء الثلاثة في الوضوء ففي حكم شاهد واحد لتجانسها، وهي كشهادة الوجه واليد اليمنى واليسرى في التيمم.

فإن قيل: فلم لا يقال للفقيه إستقراؤك غير كامل فإنك لم تتصفح محل الخلاف؟ فالجواب: أن قصور الإستقراء عن الكمال أوجب قصور الإعتقاد الحاصل عن اليقين، ولم يوجب بقاء الإحتمال على التعادل كما كان، بل رجح بالظن أحد الإحتمالين، والظن في الفقه كاف وإثبات الواحد على وفق الجزئيات الكثيرة أغلب من كونه مستثنى على الندور، فإذا لم يكن لنا دليل على أن الوتر واجب وأن الوقف لازم، ورأينا جواز أدائه على الراحلة ولا عهد به في فرض ووجوب اتباع شرط الواقف، ولا عهد به في تصرف لازم صار منع الغرضية ومنع اللزوم أغلب على الظن وأرجح من نقيضه، وإمكان الخلاف لا يمنع الظن ولا سبيل إلى جحد الإمكان مهما لم يكن الإستقراء تاما، ولا يكفي في تمام الإستقراء أن تتصفح ما وجدته شاهدا على الحكم إذا أمكن أن ينتقل عنه شيء، كما لو حكم إنسان بأن كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل لأنه إستقرى أصناف الحيوانات الكثيرة، ولكنه لما لم يشاهد جميع الحيوانات لم يأمن أن يكون في البحر حيوان هو التمساح يحرك عن المضغ فكه الأعلى - على ما قيل - وإذا حكم بأن كل حيوان سوى الإنسان، فنزوانه على الأنثى من وراء بلا تقابل الوجهين لم يأمن أن يكون سفاد القنفد وهو من الحيوانات على المقابلة لكنه لم يشاهده، فإذن حصل من هذا أن الإستقراء التام يفيد الظن، فإذن لا ينتفع بالإستقراء مهما وقع خلاف في بعض الجزئيات فلا يفيد الإستقراء علما كليا بثبوت الحكم للمعنى الجامع للجزئيات، حتى يجعل ذلك مقدمة في قياس آخر لا في إثبات الحكم لبعض الجزئيات، كما إذا قلنا: كل حركة في زمان

وكل ما هو في زمان فهو محدث فالحركة محدثة، وأثبتنا قولنا كل حركة في زمان باستقراء أنواع الحركة من سباحة وطيران ومشي وغيرها. فإما إذا أردنا أن نثبت أن السباحة في زمان بهذا الإستقراء لم يكن تاما والضبط أن القضية التي عرفت بالإستقراء ان أثبت لمحمولها حكما ليتعدى إلى موضوعها فلا بأس، وأن نقل محمولها إلى بعض جزئيات موضوعها لم يجز إذ تدخل النتيجة في نفس الإستقراء فيسقط فائدة القياس. فإذا كان مطلبنا مثلا أن نبين أن القوة العقلية المدركة للمعقولات هل هي منطبعة في جسم أم لا؟ فقلنا: ليست منطبعة في جسم لأنها تدرك نفسها والقوى المنطبعة في الأجسام لا تدرك نفسها. فيقال: ولم؟ قلت: عن القوى المنطبعة في الأجسام لا تدرك نفسها. فقلنا تصفحنا القوى المدركة من الآدمي كقوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس والخيال والوهم فرأيناها لا تدرك نفسها؟ فيقال: هل تصفحت في جملة ذلك القوة العقلية؟ فإن تصفحتها فقد عرفتها قبل هذا الدليل فلا تحتاج إلى هذا الدليل، وإن لم تعرفها بل هي المطلوب فلم تتصفح الكل بل تصفحت البعض فلم حكمت علىالكل بهذا الحكم؟ ومن أين يبعد أن تكون القوى المنطبعة كلها لا تدرك نفسها إلا واحدة، فيكون حكم واحدة منها بخلاف حكم الجملة وهو ممكن كما ذكرناه في مثال التمساح والقنفد، وفي مثال من يدعي أن صانع العالم جسم، بل من ليس له سمع ولا بصر ربما يحكم بأن الحس لا يدرك الشيء إلا بالإتصال بذلك الشيء، بدليل الذوق واللمس والشم، فلو يجري ذلك في

البصر والسمع كان مخطئا إذ يقال: لم يستحيل أن تنقسم الحواس إلى ما يفتقر فيه إلى الإتصال بالمحسوس وإلى ما لا يفتقر؟ وإذا جاز الإنقسام جاز أن يعتدل القسمان وجاز ان يكون الأكثر في أحد القسمين، ولا يبقى في القسم الآخر إلا واحد، فهذا لا يورث يقينا إنما يحرك ظنا، وربما يقنع اقناعا يسبق الإعتقاد إلى قبوله ويستمر عليه. ؟ الصنف السادس التمثيل وهو الذي تسميه الفقهاء قياسا، ويسميه المتكلمون رد الغائب إلى الشاهد، ومعناه أن يوجد حكم في جزئي معين واحد فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما، ومثاله في العقليات أن نقول: السماء حادث لأنه جسم قياسا على النبات والحيوان، وهذه الأجسام التي يشاهد حدوثها، وهذا غير سديد ما لم يمكن أن يتبين أن النبات كان حادثا لأنه جسم، وإن جسميته هي الحد الأوسط للحدوث، فإن ثبت ذلك فقد عرفت أن الحيوان حادث لأن الجسم حادث، فهو حكم كلي وينتظم منه قياس على هيئة الشكل الأول، وهو أن السماء جسم وكل جسم حادث، فينتج أن السماء حادث

فيكون نقل الحكم من كلي إلى جزئي داخلا تحته، وهو صحيح، وسقط أثر الشاهد المعين وكان ذكر الحيوان فضلة في الكلام كما إذا قيل لإنسان: لم ركبت البحر؟ فقال: لاستغني، فقيل له: ولم قلت إذا ركبت البحر استغنيت؟ فقال: لأن ذلك اليهودي ركب البحر فاستغنى، فيقال: وأنت لست بيهودي فلا يلزم من ثبوت الحكم فيه ثبوت الحكم فيك، فلا يخلصه إلا أن يقول: هو لم يستغن لأنه يهودي بل لأنه ركب البحر تاجرا، فنقول: إذن فذكر اليهودي حشو بل طريقك أن تقول: كل من ركب البحر أيسر، فأنا أيضا أركب البحر لأوسر، ويسقط أثر اليهودي، فاذن لا خير في رد الغائب إلى الشاهد إلا بشرط مهما تحقق سقط أثر الشاهد المعين. ثم في هذا الشرط موضع غلط أيضا فربما يكون المعنى الجامع مما يظهر أثره وغناه في الحكم، فيظن انه صالح ولا يكون صالحا لأن الحكم لا يلزمه بمجرده بل لكونه على حال خفي، وأعيان الشواهد تشتمل على صفات خفية فلذلك يجب إطراح الشاهد المعين، فإنك تقول السماء حادث لأنه مقارن للحوادث كالحيوان، فيجب عليك إطراح ذكر الحيوان لأنه يقال لك الحيوان حادث بمجرد كونه مقارنا للحوادث فقط، فاطرح الحيوان وقل كل مقارن للحوادث حادث

والسماء مقارن فكان حادثا، وعند ذلك ربما يمنع الخصم المقدمة الكبرى فلا يسلم أن كل مقارن للحوادث حادث إلا على وجه مخصوص وأن جوزت إن الموجب للحدوث كونه مقارنا على وجه مخصوص وإن جوزت إن الموجب للحدوث كونه مقارنا على وجه مخصوص فلعل ذلك الوجه وأنت لا تدريه موجود في الحيوان لا في السماء، فإن عرفت ذلك الوجه وأنت لا تدريه موجود في الحيوان لا في السماء، فإن عرفت ذلك فابرزه واضفه إلى المقارن واجعله مقدمة كلية، وقل كل مقارن للحوادث بصفة كذا فهو حادث، والسماء مقارن بصفة كذا فهو إذن حادث، فعلى جميع الأحوال لا فائدة في تعيين شاهد معين في العقليات ليقاس عليه؛ ومن هذا القبيل قولك: الله عالم بعلم لا بنفسه لأنه لو كان عالما بعلم قياسا على الإنسان، فيقال: ولم قلت أن ما ينسب للإنسان ينسب لله؟ فتقول: لأن العلة جامعة، فيقال: العلة كونه إنسانا عالما أو كونه عالما فقط فإن كان كونه إنسانا عالما فلا يلزم في حق الله مثله، وإن كانت كونه عالما فقط فاطرح الإنسان وقل: كل عالم فهوعالم بعلم والباري عالم فهو عالم بعلم، وعند ذلك إنما ينازع في قولك كل عالم فهو عالم بعلم، فإن ذلك إن لم يكن أوليا لزمك أن تبينه بقياس آخر لا محالة.

فإن قيل: فهل يمكن إثبات كون المعنى الجامع علة للحكم بأن نرى أن الحكم أجزاء العلة وشروطها، ولا يوجد بوجود ذلك البعض، فمهما ارتفع الحياة ارتفع الإنسان ومهما وجدت لم يلزم وجود الإنسان، بل ربما يوجد الفرس أو غيره ولكن الأمر بالضد من هذا، وهو أنه مهما وجد الحكم دل على وجود المعنى الجامع، فإما أن يدل وجود المعنى على وجود الحكم بمجرد كون الحكم مرتفعا بارتفاعه فلا، فمهما وجد الإنسان فقد وجدت الحياة، ومهما وجدت صحة الصلاة فقد وجد الشرط وهو الطهارة، ومهما وجدت الطهارة لم يلزم وجود الصلاة. فإن قيل: فما ذكرتموه في إبطال منفعة الشاهد في رد الغائب غليه مقطوع به، فكيف يظن بالمتكلمين مع كثرتهموسلامة عقولهم الغفلة عن ذلك؟ قلنا: معتقد الصحة في رد الغائب إلى الشاهد إما محقق يرجع عند المطالبة إلى ما ذكرناه، وإنما يذكر الشاهد المعين لتنبيه السامع على القضية الكلية به فيقول الإنسان عالم بعلم لا بنفسهس، منبها به على أن العالم لا يعقل من معناه شيء سوى أنه ذو علم فيذكر الإنسان تبنيها، وأما قاصر عن بلوغ ذروة التحقيق وهذا ربما ظن ان في ذكر الشاهد المعين دليلا، ومنشأ ظنه أمران: أحدهما أن من رأى البناء فاعلا وجسما ربما أطلق أن الفاعل جسم والفاعل بالألف واللام يوهم الإستغراق، خصوصا في لغة العرب، وهو من المهملات والمهملات قد يتسامح بها فيؤخذ على أنه قضية كلية، فيظن أنها كلية

وينظم قياسا ويقول: الفاعل جسم، وصانع العالم فاعل فهو جسم؛ وكذلك ربما نظر ناظر إلى البر فيراه مطعوما وربويا فيقول المطعوم ربوي ويبني عليه قوله أن السفرجل مطعوم فهو إذن ربوي، لإلتباس قوله المطعوم بقوله كل مطعوم، فالمحقق إذا سمعه فصل وقال قولك المطعوم عنيت به كل مطعوم أو بعضه، فإن قلت بعضه فلعل السفرجل من البعض الآخر، وإن قلت كله فمن أين عرفت ذلك، فإن قلت من البر فليس كل المطعومات، فإذا رأيته ربويا لم يلزم منه إلا أن كل البر ربوي والسفرجل ليس ببر، أو بعض المطعوم ربوي فلا يلزم منه بعض آخر، وكذا في قوله الفاعل جسم يقال له كل الفاعلين أو بعضهم على ما تقرر فلا حاجة إلى الإعادة؟ ثانيهما هو أنه ربما يستقري أصنافا كثيرة من الفاعلين حتى لا يبقى عنده فاعل آخر فيرى أنه استقرى كل الفاعلين، ويطلق القول بأن

كل فاعل فهو جسم وكان الحق أن يقول كل فاعل شاهدته وتصفحته فهو جسم، فيقال له: لم تشاهد فاعل العالم ولا يمكن الحكم عليه ولكن ألغي قوله شاهدت، وكذا يتصفح البر والشعير وسائر المطعومات الموزونة والمكيلة ويعبر عنها بالكل، وينظم في ذهنه قياسا على هيئة الشكل الأول، وهو أن كل مطعوم فأما بر أو شعير أو غيرهما، وكل بر وكل شعير أو غيرهما فهو ربوي، فإذن كل مطعوم ربوي، ثم يقول: والسفرجل مطعوم فهو ربوي، فيكون هذا منشأ غلطه وإلا فالحق ما قدمناه. ولا ينبغي أن تضيع الحق المعقول، خوفا من مخالفة العادات المشهورة، بل المشهورات أكثر ما تكون مدخولة، ولكن مداخلها دقيقة لا يتنبه لها إلا الأقلون. وعلى الجملة لا ينبغي أن تعرف الحق بالرجال، بل ينبغي أن تعرف الرجال بالحق فتعرف إلى الحق أولا، فمن سلكه فاعلم أنه محق. فأما أن تعتقد في شخص أنه محق أولا ثم تعرف الحق به، فهذا ضلال اليهود والنصارى وسائر المقلدين، أعاذك الله وإيانا منه؛ هذا كله في إبطال التمثيل في العقليات، فأما في الفقهيات، فالجزئي المعين يجوز أن ينقل حكمه إلى جزئي آخر باشتراكهما فيب وصف، وذلك الوصف المشترك إنما يوجب الإشتراك في الحكم إذا دل عليه وإداتها الجملية قبل التفصيل ستة: الأول، وهو أعلاها: أن يشير صاحب الحكم، وهو المشرع إليه، كقوله في الهرة: إنها من الطوافين عليكم، عند ذكر العفو عن سؤرها، فيقاس عليها الفأرة بجامع الطواف،

وإن افترقتا في أن هذه تنفر وتلك تأنس، وإن هذه فأرة وتيك هرة، ولكن الإشتراك فثي وصف أضيف إليه الحكم أحرى باقتضاء الإشتراك فيه (في الحكم) من الإفتراق في وصف لم يتعرض له في اقتضاء الإفتراق. وكذا قوله في بيع الرطب بالتمر: أينقص الرطب إذا جف؟ فقيل: نعم. فقال: فلا تبيعوا. فهو إذن أضاف بطلان البيع في الرطب إلى النقصان المتوقع، فيقاس عليه العنب للإشتراك في توقع النقصان. ولا يمنع جريان السؤال في الرطب عن الحاق العنب به، وإن كان هذا عنبا، وذلك رطبا، لأن هذا الإفتراق افتراق في الإسم والصورة والشرع، كثير الإلتفات إلى المعاني، قليل الإلتفات إلى الصور والأسامي. فعادة الشرع ترجح في ظننا التشريك في الحكم، عند الإشتراك في المضاف إليه ذلك الحكم، وتحقيق الظن في هذا دقيق، وموضع إستقصائه الفقه. الثاني: أن يكون ما فيه الإجتماع مناسبا للحكم، كقولنا: النبيذ مسكر فيحرم كالخمر. فإذا قيل: لم قلتم: المسكر يحرم؟ قلناك لأنه يزيل العقل، الذي هو الهادي إلى الحق، وبه يتم التكليف؛ فهذا مناسب للنظر في المصالح فيقال: لا يمتنع ان يكون الشرع قد راعى سكر ما يعتصر من العنب على الخصوص تعبدا، أو أثبت التحريم لا لعلة السكر، بل تعبدا في خمر العنب من غير التفات إلى السكر، فكم من الأحكام التي هي تعبدية غير معقولة، فيقول: نعم هذا غير ممتنع،

ولكن الأكثر في عادة الشرع اتباع المصالح. فكون هذا من قبيل الأكثر أغلب على الظن من كونه من قبيل النادر. الثالث: أن يبين للوصف الجامع تأثيرا في موضع من غير مناسبة، كما يقول الحنفي في اليتيمة أنها صغيرة، ويولى عليها كغير اليتيمة، فيقال: فلم عللت الولاية بالصغر؟ فيقول: لأن الصغر قد ظهر أثره بالإتفاق في غير اليتيمة وفي الإبن. وقدر أن الوصف غير مناسب حتى يستمر المثال، فلا ينبغي أن يقال هذه يتيمة وتيك ليست بيتيمة؛ فيقال: الإفتراق في هذا لا يقاوم الإشتراك في وصف الصغر، وقد ظهر تأثيره في موضع، واليتم لم يظهر تاثيره بالإتفاق في موضع، نعم لو ثبت أن اليتيم لا يولي عليه في المال لتقاوم الكلام. ولو قيل: ظهر أثر اليتم أيضا في دفع الولاية في موضع، كما ظهر أثر الصغر في موضع، فعند ذلك يحتاج إلى الترجيح. وإن شئت مثلت هذا القسم بقياس العنب على الرطب، وإجتماعهما في توقع النقصان. ويقدر أن ذلك لم يعرف بإضافة لفظية من الشارع، بل عرف باتفاق من الفريقين حتى لا يلتحق بمثال الإضافة. الرابع: أن يكون ما فيه الإشتراك غير معدود ولا مفصل لأنه الأكثر، وما فيه الإفتراق شيئا واحدا، ويعلم أن جنس المعنى الذي فيه الإفتراق، لا مدخل له في هذا الحكم، مهما التفت إلى الشرع كقوله: من أعتق شقصا له من عبد، قوّم عليه الباقي. فإنا نقيس الأمة عليه، لا لأنا عرفنا إجتماعهما في معنى مخيل أومؤثر أو مضاف إليه الحكم بلفظه، لأنه لم يبن لنا بعد المعنى المخيل فيه، ولا لأنا رأيناهما متقاربين فقط. فإنه لو وقع النظر في ولاية النكاح، وبان أن الأمة تجبر على النكاح، فلا يتبين لنا أن العبد في معناه. والقرب من الجانبين على وتيرة واحدة،

ولكن إذا التفتنا إلى عادة الشرع، علمنا قطعا أنه ليس يتغير حكم الرق والعتق بالذكورة والأنوثة، كما لا يتغير بالسواد والبياض، والطول والقصر، والزمان والمكان وأمثالها. الخامس: هو الرابع بعينه، غلا أن ما فيه الإفتراق لا يعلم يقينا أنه لا مدخل له في الحكم، بل يظن ظنا ظاهرا، وذلك كقياسنا إضافة العتق إلى جزء معين على إضافته إلى نصف شائع، وقياس الطلاق المضاف إلى جزء معين على المضاف، إلى نصف شائع فأنا نقول: السبب هو السبب، والحكم هو الحكم، والإجتماع شامل إلا في شيء واحد هو أن هذا معين مشار إليه، وذلك شائع. وإذا كان التصرف لا يقتصر على المضاف إليه، فيبعد أن يكون لا مكان الإشارة وعدمه مدخل في هذا الحكم، وهذا ظن ظاهر ولكن خلافه ممكن؛ فإن الشرع جعل الجزء الشائع. محلا لبعض التصرفات، ولم يجعل المعين محلا أصلا، فلا بعد في أن يجعل ما هو محل لبعض التصرفات محلا لإضافة هذا التصرف، فصار النظر بهذا الإحتمال ظنيا. وقد اختلف المجتهدون في قبول ذلك، وعندي أن في هذا الجنس ما يجوز الحكم به، ولكن يتطرق إلى مبالغ الظن، الحاصل منه تفاوت غير محدود ولا محصور، ويختلف بالوقائع والأحكام، والأمر موكول إلى المجتهد، فإن من غلب أحد ظنيه جاز له الحكم به. السادس: أن يكون المعنى الجامع أمرا معينا متحدا، وما فيه الإفتراق أيضا أمرا معينا أو أمورا معينة، ولم يكن للجامع مناسبة وتأثير، إلا أنه إن كان الجامع موهما أن المعنى المصلحي - الخفي، الملحوظ بعين الإعتبار من جهة الشرع، مودع في طيه، وإنطواؤه على ذلك المعنى، الذي هو المقتضي للحكم عند الله، أغلب من إحتواء المعنى الذي فيه المفارقة، كان الحكم بالإشتراك لذلك أولى من الحكم بالإفتراق.

مثاله قولنا: الوضوء طهارة حكمية عن حدث، فتفتقر إلى النية كالتيمم، فقد اشتركا في هذا وافترقا في أن ذاك طهارة بالماء دون التيمم، وتشبهه إزالة النجاسة. وقولنا: ظهارة حكمية جمع التيمم وأخرج إزالة النجاسة. ونحن نقول: المقتضي للنية في علم الله تعالى معنى خفي عنا، ومقارنته بكونه طهارة حكمية يعتد به موجبا في حال موجبها، أغلب من كونه مقرونا بكونه طهارة بالتراب، فيصير إلحاق الوضوء به أغلب على الظن من قطعة عنه؛ وهذا أيضا مما اختلف فيه. والرأي عندنا أن ذلك مما يتصور أن يفيد رجحان ظن على ظن، فهو موكول إلى المجتهد. ولم يبن لنا من سيرة الصحابة، في إلحاق غير المنصوص بالمنصوص، إلا إعتبار أغلب الظنون. ولا ضوابط بعد ذلك في تفصيل مدارك الظنون، بل كل مايضبط به تحكم، وربما يغلط في نصرة هذا الجنس فيقال: الوضوء قربة، ويذكر وجه مناسبة القربة للنية، وهو ترك لهذا الطريق بالعدول إلى الإضافة. وربما يغلط في نصرة جانبهم فيقال: هذه طهارة بالماء والماء مطهر بنفسه، كما أنه مروي بنفسه، ويدعى مناسبة فيكون عدولا عن الفرق الشبهي، كما أن ما ذكرناه عدول عن الجمع الشبهي. وإسم الشبه، في اصطلاح أكثر الفقهاء، مخصوص بالتشبيه بمثل هذه الأوصافن الذي لا يمكن اثباته بالمدارك السابقة، وإن كان غير التعليق بالمخيل تشبيها، ولكن خصصت العبارة اللفظية به لأنه ليس فيه إلا شبه، كما خصصوا المفهوم بفحوى الخطاب، مع أن المنظوم أيضا له مفهوم، ولكن ليس للفحوى منظوم، بل مجرد المفهوم فلقب به.

ولما رأينا التعويل على أمثال هذا الوصف الذي لا يظهر مناسبته جائزا بمجرد الظن. والظنون تختلف بأحوال المجتهدين، حتى أن شيئا واحدا يحرك ظن مجتهد، وهو بعينه لا يحرك ظن الآخر، ولم يكن له في الجدال معيار يرجع إليه المتنازعانن رأينا أن الواجب في إصطلاح المتناظرين ما اصطلح عليه السلف من مشايخ الفقه، دون ما أحدثه من بعدهم ممن ادعى التحقيق في الفقه، من المطالبة بإثبات العلة بمناسبة أو تأثير أو إخالة، بل رأينا أن يقتصر المعترض على سؤال المعلل بأن قياسك من أي قبيل؟ فإن كان من قبيل المناسب أو المؤثر أو سائر الجهات، وأنت تظن أنه ينطوي على المعنى المبهم، فلست أطالبك ولكن أقابلك للجمع، صلح مثله للفرق. وبهذا السؤال يفتضح المعلل في قياسه الذي قدّره، إن كان معناه الجامع طردا محضا، لا يناسب ولا يوهم الإشتمال على مناسب مبهم. وإن كان ما يقابل السائل به طردا محضا لا يوهم أمرا، فعلى المعلل أن يرجح جانبه، كما إذا فرق بين التيمم والوضوء، بأن التيمم على عضوين، وهذا على أربعة أعضاء، فإن هذا مما يعلم أنه لا يمكن أن يكون لمثله مدخل في الحكم، لا بنفسه ولا باستصحاب معنى له مدخل بطريق الإشتمال عليه، مع إبهامه بخلاف قولنا أنه طهارة حكمية، فهذا طريق النظر في الفقهيات. ولقد خاض في الفقه من أصحاب الرأي، من سدى أطرافا من العقليات ولم يخمرها، وأخذ يبطل أكثر أنواع هذه الأقيسة، ويقتصر منها على المؤثر، ويوجه المطالبة العقلية على كل ما يتمسك به في الفقه. وعندما ينتهي إلى نصرة مذهبه في التفصيل، يعجز عن تقريره على الشرط الذي وضعه في التأصيل، فيحتحال لنصرة الطرديات الردية بضروب من الخيالات الفاسدة، ويلقبها بالمؤثر،

وليس يتنبه لركاكة تيك الخيالات الفاسدة، ولا يرجع فينتبه لفساد الأصل الذي وضعه، فدعاه إلى الإقتصار في إثبات الحكم على طريق المؤثر أو المناسب، ولا يزال يتخبط، والرد عليه في تفصيل ما أورده في المسائل يشتمل عليه كتبنا المصنفة في خلافات الفقه، سيما: كتاب تحصين المأخذ، وكتاب المبادي والغايات. والغرض الآن من ذكره أن الإستقصاء الذي ذكرناه في العقليات، ينبغي أن يترك في الققهيات رأسا؛ فخلط ذلك الطريق السالك إلى طلب اليقين بالطريق السالك إلى طلب الظن صنيع من سدى من الطرفين طرفا، ولم يستقل بهما، بل ينبغي أن تعلم أن اليقين في النظريات أعز الأشياء وجودا، وأما الظن فأسهلها منالا وأيسرها حصولا. فالظنون المعتبرة في الفقهيات هو المرجح الذي يتيسر به عند التردد بين أمرين: إقدام أو إحجام؛ فإن إقدام الناس في طرق التجارات وإمساك السلع تربصا بها، أو بيعها خوفا من نقصان سعرها، بل في سلوك أحد الطريقين في أسفارهم، بل في كل فعل يتردد الإنسان فيه بين جهتين على ظن؛ فإنه إذا تردد العاقل بين أمرين، واعتدلا عنده في غرضه، لم يتيسر له الإختيار، إلا أن يترجح أحدهما، بأن يراه أصلح بمخيلة أو دلالة؛ فالقدر الذي يرجح أحد الجانبين ظن له، والفقهيات كلها نظر من المجتهدين في إصلاح الخلق. وهذه الظنون وأمثالها تقتنص بأدنى مخيلة وأقل قرينة، وعليه إتكال العقلاء كلهم في إقدامهم وإحجامهم على الأمور المخطرة في الدنيا، وذلك القدر كاف في الفقهيات، والمضايقة والإستقصاء فيه يشوش مقصوده بل يبطله، كما أن الإستقصاء في التجارات، ضربا للمثل، يفوت مقصود التجارة. وإذا قيل للرجل: سافر لتربح، فيقول: وبم أعلم أني إذا سافرت ربحت؟

فيقال: اعتبر بفلان وذالان. فيقول: ويقابلهما فلان وفلان وقد ماتا في الطريق أو قتلا أو قطع عليهما الطريق! فيقال: ولكن الذين ربحوا أكثر ممن خسروا أو قتلوا: فيقول: فما المانع من أن أكون من جملة من يخسر أو يقتل أو يموت؟ وماذا ينفعني ربح غيري إذا كنت من هؤلاء؟ فهذا استقصاء لطلب اليقين، والمعتبر له لا يتجر ولا يربح، وبعد مثل هذا الرجل موسوسوا أو جبانا، ويحكم عليه بأن التاجر الجبان لا يربح، فهذا مثال الإستقصاء في الفقهيات، وهو هوس محض وخرق، كما أن ترك الإستقصاء في العقليات جهل محض، فليؤخذ كل شيء من مأخذه، فليس الخرق في الإستقصاء في موضع تركه، بأقل من الحمق في تركه بموضع وجوبه، والله أعلم. الصنف السابع في الأقيسة المركبة والناقصة إعلم أن الألفاظ القياسية المستعملة في المخاطبات والتعليمات، وفي الكتب والتصنيفات، لا تكون ملخصة في غالب الأمر على الوجه الذي فصلناه، بل تكون مائلة عنه إما بنقصان، وإما بزيادة، وإما بتركيب وخلط جنس بجنس، فلا ينبغي أن يلتبس عليك الأمر، فتظن أن المائل عما ذكرناه ليس بقياس، بل ينبغي أن يكون عين عقلك مقصورة على المعنى، وموجهة إليه لا إلى الأشكال اللفظية،

فكل قول أمكن أن يحصل مقصوده، ويرد إلى ما ذكرناه من القياس، فقوته قوة قياس، وهو حجة، وإن لم يكن تأليفه ما قدمناه، إلا أنه إذا تؤمل وامتحن لمتحصل منه نتيجة، فليس بحجة. أما المائل للنقصان فبأن نترك إحدى المقدمتين أو النتيجة. أما ترك المقدمة الكبرى فمثاله قولك: هذان متساويان لأنهما قد ساويا شيئا واحدا، فقد ذكرت المقدمة الصغرى والنتيجة، وتركت الكبرى وهي قولك: والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وبه تمام القياس، ولكن قد تتركب لوضوحها، وعلى هذا أكثر الأقيسة في الكتب والمخاطبات. وقد تترك الكبرى إذا قصد التلبيس ليبقى الكذب خفيا فيه، ولو صرح به لتنبه المخاطب لمحل الكذب. مثاله قولك: هذا الشخص في هذه القلعة خائن، سيسلم القلعة لأني رأيته يتكلم مع العدو، وتمام القياس أن تضيف إليه: أن كل من يتكلم مع العدو فهو خائن، وهذا يتكلم معه، فهو إذن خائن، ولكن لو صرحت بالكبرى ظهر موضع الكذب، ولم يسلم أن كل ما يتكلم مع العدو فهو خائن. وهذا مما يكثر استعماله نفي القياسات الفقهية. وأما ترك المقدمة الصغرى فمثاله قولك:

اتق مكيدة هذا. فيقال: لم؟ فتقول: لأن الحساد يكايدون. فتترك الصغرى وهو قولك: هذا حاسد، وذلك إنما يكون عند ظهور الحسدن منه. وهو كقولك: هذا يقطع لأن السارق يقطع، وتترك الصغرى، ويحسن ذلك إذا اشتهر بالسرقة عند المخاطب. وعلى هذا أكثر مخاطبة الفقهاء لا سيمافي كتب المذهب، وذلك حذرا من التطويل. ولكن في النظريات ينبغي أن يفصل حتى يعرف مكان الغلط. وأما المائل بالتركيب والخلط، فهو أن يطوى في سياق كلام تسوقه إلى نتيجة واحدة مقدمات مختلفة، أي حملية وشرطية منفصلة ومتصلة. مثاله قولك: العالم إما أن يكون قديما، وإما أن يكون محدثا، فإن كان قديما فهو ليس بمقارن للحوادث لكنه مقارن للحوادث من قبل أنه جسم، والجسم إن لم يكن مقارنا للحوادث يكون خاليا منها، والخالي من الحوادث ليس بمؤلف ولا يمكن أن يتحرك، فإذن العالم محدث؛ فهذا القياس مركب من شرطي منفصل ومن شرطي متصل،

ومن جزمي على طريق الخلف ومن جزمي مستقيم، فتأمل أمثال ذلك فإنه كثير الورود في المناظرات والمخاطبات التعليمية. ومن جملة التركيبات ما تترك فيه النتائج الواضحة وبعض المقدمات، ويذكر من كل قياس مقدمة واحدة، وتترتب بعضها على بعض وتساق إلى نتيجة واحدة كقولنا: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف فمقارن لعرض لا ينفك عنه، وكل عرض فحادث، وكل مقارن لحادث فلا يتقدم عليه، وكل ما لا يتقدم عليه فوجوده معه، وكل ما وجوده معه فهو حادث، فإذن العالم حادث. وكل واحدة من هذه المقدمات تمامها بقياس كامل، حذفت نتائجها وما ظهر من مقمدماتها وسيقت لغرض واحد. وإلا فكان ينبغي أن يقول: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف فمقارن لعرض لا ينفك عنه، مقدمة أخرى، وهو أن كل مقارن لعرض لا ينفك عنه. فإذن كل جسم فمقارن لعرض لا ينفك عنه، ثم يبتدىء ويضيف إليه مقدمة أخرى وهو أن كل مقارن لعرض لا ينفك عنه فهو مقارن لحادث، ثم يشتغل بما بعده على الترتيب، ولكن أغنى وضوح هذه النتائج عن التصريح بها. وربما تجري في المخاطبات كلمات لها نتائج، لكن تترك تلك النتائج إما لظهورها

وإما لأنها لا تقصد للإحتجاج، بل تذكر المقدمات تعريفا لها في أنفسها. إعتمادا على قبول المخاطب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه " وهاتان مقدمتان نتيجتهما أن المرء يحشر علىماعاش عليه، فحالة الحياة هي الحد الأصغر، وحالة الممات هي الحد الأوسط. ومهما ساوت حالة الحشر حالة الموت، وساوت حالة الموت حالة الحياة، فقد ساوت حالة الحشر حالة الحياة. والمقصود من سياق الكلام تنبيه الخلق على أن الدنيا مزرعة الآخرة، ومنها التزود. ومن لم يكتسب السعادة وهو في الدنيا فلا سبيل له إلى اكتسابها بعد موته، فمن كان في هذه أعمى فهو عند الموت أعمى، أعني عمى البصيرة عن درك الحق والعياذ بالله. ومن كان عند الموت أعمى فهو عند الحشر أعمى كذلك، بل هو أضل سبيلا إذ ما دام الإنسان في الدنيا فله أمل في الطلب، وبعد الموت قد تحقق اليأس. والمقصود أن الكلمات الجارية في المحاورات كلها أقيسة محرفة غيرت تأليفاتها للتسهيل، فلا ينبغي أن يغفل الإنسان عنها بالنظر إلى الصور، بل ينبغي أن لا يلاحظ إلا الحقائق المعقولة دون الألفاظ المنقولة.

؟ النظر الثاني من كتاب القياس في مادة القياس قد ذكرنا ان كل مركب فهو متألف من شيئين: أحدهما كالمادة الجارية منه مجرى الخشب من السرير. والثاني كالصورة الجارية منه مجرى صورة السرير من السرير. وقد تكلمنا على صورة القياس وتركيبه ووجوه تأليفه بما يقنع، فلنتكلم في مادته، ومادته هي العلوم، لكن لا كل علم بل العلم التصديقي دون العلم التصوري، وإنما العلم التصوري مادة الحد، والعلم التصديقي هو العلم بنسبة ذوات الحقائق بعضها إلى بعض بالإيجاب أو السلب، ولا كل تصديقي بل التصديقي الصادق في نفسه، ولا كل صادق بل الصادق اليقينيز فرب شيء في نفسه صادق عند الله وليس يقينا عند الناظر، فلا يصلح أن يكون عنده مادة للقياس الذي يطلب به استنتاج اليقين، ولا كل يقيني بل اليقيني الكلي، أعني أنه يكون كذلك في كل حال. ومهما قلنا مواد القياس هي المقدمات كان ذلك مجازا من وجه، إن المقدمة عبارة عن نطق باللسان يشتمل على محمول وموضوع،

ومادة القياس هي العلم الذي لفظ الموضوع والمحمول دالان عليه لا اللفظ بل الموضوع والمحمول هي العلوم الثابتة في النفس دون الألفاظ، ولكن لا يمكن التفهيم إلا باللفظ، والمادة الحقيقية هي التي تنتهي إليه في الدرجة الرابعة بعد ثلاثة قشور: القشر الأول هو الصور المرقومة بالكتابة. الثاني هو النطق، فإنه الأصوات المرتبة التي هي مدلول الكتابة ودالة على الحديث الذي في النفس. الثالث: هو حديث النفس الذي هو علم بتريب الحروف ونظم الكلام، إما منطوقا به وإما مكتوبا. والرابع: وهو اللباب، هو العلم القائم بالنفس الذي حقيقته ترجع إلى انتقاش النفس بمثال مطابق للمعلوم؛ فهذه العلوم هي مواد القياس وعسر تجريدها في النفس دون نظم الألفاظ بحديث النفس لا ينبغي أن يخيل إليك الإتحاد بين العلم والحديث، فإن الكاتب أيضا قد يعسر عليه تصور معنى إلا أن يتمثل له رقوم الكتابة الدالة على الشيء، حتى إذا تفكر في الجدار تصور عنده لفظ الجدار مكتوبا. ولكن لما كان العلم بالجدار غير موقوف على معرفة أصل الكتابة لم يشكل عليه أن هذا مقارن لازم للعلم لا عنه، وكذلك يتصور أن إنسانا يعلم علوما كثيرة وهو لا يعرف اللغات فلا يكون في نفسه حديث نفس، أعني إشتغالا بترتيب الألفاظ، فإذن العلوم الحقيقية التصديقية هي مواد القياس، فإنها إذا احضرت في الذهن على ترتيب مخصوص استعدت النفس لأن يحدث فيها العلم بالنتيجة

من عند الله تعالى، فإذن مهما قلنا مواد القياس المقدمات اليقينية فلا تفهم منه إلا ما ذكرناه. ثم كما ان صورة الإستدارة والنقش للدينار زائد على مادة الدينار، فإن المادة للدينار هي الذهب الإبريز، فكذا في القياس، وكما أن الذهب الذي هو مادة الدينار له أربعة أحوال: أعلاها أن يكون ذهبا خالصا ابريزا لا غش فيه أصلا. والثانية أن يكون ذهبا مقاربا لا في غاية رتبته العليا، ولا كذلك الذهب الإبريز الخالص. والثالثة: أن يكون ذهبا كثير الغش لاختلاط النقرة والنحاس به. والرابعة: أن لا يكون ذهبا أصلا بل يكون جنسا على حدة مشبها بالذهب؛ فكذلك الإعتقادات التي هي مواد الأقيسة قد تكون اعتقادا مقاربا لليقين مقبولا عند الكافة في الظاهر، لا يشعر الذهن بإمكان نقيضه على القور بل بدقيق الفكر، فيسمى القياس المؤلف منه جدليا إذ يصلح لمناظرات الخصوم وقد يكون إعتقادا بحيث لا يقع به تصديق جزم، ولكن غالب ظن وقناعة نفس مع خطور نقيضه بالبال أو قبول النفس لنقيضه إن أخطر بالبال، وإن وقعت الغفلة عنه في أكثر الاحوال،

ويسمى القياس المؤلف منه خطابيا إذ يصلح لللإيراد في التعليمات والمخاطبات، وقد يكون تارة مشبها باليقين أو بالمشهور المقارب لليقين في الظاهر وليس بالحقيقة كذلك، وهو الجهل المحض، ويسمى القياس المؤلف منه مغالطيا وسوفسطائيا إذ لا يقصد بذلك إلا المغالطة والسفسطة، وهو إبطال الحقائق؛ فهذه أربعة مراتب لا بد من تمييز البعض منها عن البعض. وأما الخامس الذي يسمى قياسا شعريا فليس يدخل في غرضنا فإنه لا يذكرلإفادة علم أو ظن، بل المخاطب قد يعلم حقيقته، وإنما يذكر لترغيب أو تنفير أوتسخية أو تبخيل أو ترهيب أو تشجيع، وله تأثير في النفس، وذلك كنفرة الطبع عن الحلو الأصفر إذا شبه بالعذرة حتى يتعذر في الحال تناولها وإن علم كذب قائله، وعليه تمويل صناعة الشعر، وبه تشبث أكثر المتشدقين من الوعاظ، فإنهم يستعملون في النثر صناعة الشعر، ومثاله أن من يريد أن يحمل غيره على التهور ويصرفه عن الحزم يلقب الحزم بالجبن ويقبحه، ويذم صاحبه فيقول: يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة النفس اللئيم فتنبسط نفس المتوقف إلى التهجيم بذلك. وكقوله: إن لم أمت تحت السيوف مكرما ... أمت وأقاسي الذل غير مكرم

وكذلك إذا أراد التسخية أطنب في مدح السخي وشبهه بما يعلم انه لا يشبهه، ولكن يؤثر في نفسه كقوله:؟؟ وكذلك إذا أراد التسخية اطنب في مدح السخي وشبهه بما يعلم أنه لا يشبهه، ولكن يؤثر في نفسه كقوله: هو البحر من أي الجوانب جئته ... فلجته المعروف والجود ساحله تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... دعاها لقبض لم تطعه أنامله تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها، فليتق الله آمله وهذه الكلمات كلها أحاديث يعلم حقيقة كذبها، ولكنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا لا ينكر. وإذ ليس يتعلق هذا الجنس بغرضنا فلنهجر الأطناب فيه ولنرجع إلى الأقسام الأربعة، وإذ قد قبحنا حال الشعر فلا ينبغي أن نتظن أن كل شعر باطل، فإن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا، وقد يدرج الحق في وزن الشعر فلا يخرج عن كونه حقا كقول الشاعر في تهجين البخل ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر. فهذا كلام حق صادق ومؤثر في النفس، والوزن اللطيف والنظم الخفيف يروجه ويزيد وقعه في النفس، فلا تنظر إلى صورة الشعر ولاحظ المعاني في الأمور كلها لتكون على الصراط المستقيم. ولنرجع إلى الغرض فنقول: المقدمات تنقسم إلى يقينيات صادقة واجبة القبول وإلى غيرها. وللقسم الأول باعتبار المدرك أربعة أصناف: الصنف الأول: ألأوليات العقلية المحضة، وهي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية المجردة من غير معنى زائد عليها يوجب التصديق بها،

ولكن ذوات البسائط إذا حصلت في الذهن إما لمعونة الحس أو الخيال أو وجه آخر وجعلتها القوة المفكرة قضية بأن نسبت أحدها إلى الآخر بسلب أو إيجاب، صدق بها الذهن إضطرارا من غير أن يشعر بأنه من أين استفاد هذا التصديق، بل يقدر كأنه كان عالما به على الدوام كقولنا: إن الإثنين أكثر من الواحد، والثلاثة مع الثلاثة ستة، وان الشيء الواحد لا يكون قديما وحديثا معا، وأن السلب والإيجاب معا لا يصدقان في شيء واحد فقط إلى نظائره. وهذا الجنس من العلوم لا يتوقف الذهن في التصديق به إلا على تصور البسائط، أعني الحدود والذوات المفردة، فمهما تصور الذوات وتفطن للتركيب لم يتوقف في التصديق، وربما يحتاج توقف حتى يتفطن لمعنى الحادث والقديم، ولكن بعد معرفتهما لا يتوقف في الحكم بالتصديق. الصنف الثاني المحسوسات كقولنا: القمر مستدير والشمس منيرة والكواكب كثيرة والكافور أبيض والفحم أسود والنار حارة والثلج بارد، فإن العقل المجرد إذا لم يقترن بالحواس لم يقض بهذه القضايا، وإنما أدركها بواسطة الحواس، وهذه أوليات حسية. ومن هذا القبيل علمنا بأن لنا فكرا وخوفا وغضبا وشهوة وإدراكا وإحساسا، فإن ذلك انكشف للنفس أيضا بمساعدة قوى باطنة، فكأنه يقع متأخرا عن القضايا التي صدق بها العقل من غير حاجة إلى قوة أخرى سوى العقل.

ولا شكل في صدق المحسوسات إذا استثنيت أمور عارضة، مثل ضعف الحس وبعد المحسوس وكثافة الوسائط. الصنف الثالث المجربات وهي أمور وقع التصديق بها من الحس بمعاونة قياس خفي، كحكمنا بأن الضرب مؤلم للحيوان، والقطع مؤلم، وجز الرقبة مهلك، والسقمونيا مسهل، والخبز مشبع، والماء مرو، والنار محرقة؛ فإنالحس أدرك الموت مع جز الرقبة، وعرف التألم عند القطع بهيئات في المضروب، وتكرر ذلك على الذكر فتأكد منه عقد قوي لا يشك فيه، وليس علينا ذكر السبب في حصول اليقين بعد أن عرفنا أنه يقيني،

وربما أوجبت التجربة قضاء جزميا وربما أوجبت قضاء أكثريا، ولا تخلو عن قوة قياسية خفية تخالط المشاهداتن وهي أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيا أوعرضيا غير لازم لما استمر في الأكثر من غير اختلاف، حتى إذا لم يوجد ذلك اللازم استبعدت النفس تأخره عنه وعدته نادرا، وطلبت له سببا عارضا مانعا. وإذا اجتمع هذا الإحساس متكررا مرة بعد أخرى، ولا ينضبط عدد

المرات كما لا ينضبط عدد المخبرين في التواتر، فإن كل واقعة ههنا مثل شاهد مخبر، وانضم إليه القياس الذي ذكرناه أذعنت النفس للتصديق. فإن قال قائل: كيف تعتقدون هذا يقينا، والمتكلمون شكوا فيه وقالوا: ليس الجز سببا للموت، ولا الأكل سببا للشبع، ولا النار علة للإحراق،

ولكن الله تعالى يخلق الإحتراق والموت والشبع عند جريان هذه الأمور لا بها؟ قلنا: قد نبهنا على غور هذا الفصل وحقيقته في كتاب تهافت الفلاسفة. والقدر المحتاج إليه الآن أن المتكلم إذا اخبره بأن ولده جزت رقبته لم يشك في موته، وليس في العقلاء من يشك فيه، وهو معترف بحصول الموت وباحث عن وجه الإقتران. وأما النظر في أنه هل هو لزوم ضروري ليس في الإمكان تغييره أو هو بحكم جريان سنة الله تعالى لنفوذ مشيئته الأزلية، التي لا تحتمل التبديل والتغيير، فهو نظر في وجه الإقتران لا في نفس الإقتران، فليفهم هذا وليعلم أن التشكك في موت من جزت رقبته وسواس مجرد، وأن اعتقاد موته يقين لا يستراب فيه، ومن قبيل المجربات الحدسيات، وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس من النفس يقع لصفاء الذهن وقوته وتوليه الشهادة لأمور، فتذعن النفس لقبوله والتصديق له بحيث لا يقدر على التشكك فيه، ولكن لو نازع فيه منازع معتقدا أو معاندا لم يمكن أن يعرف به ما لم يقو حدسه ولم يتول الإعتقاد الذي تولاه ذو الحدس القوي، وذلك مثل قضائنا بأن نور القمر مستفاد من للشمس، وأن انعكاس شعاعه إلى العالم يضاهي انعكاس شعاع المرآة إلى سائر الأجسام التي تقابله، وذلك لإختلاف تشكله عند اختلاف نسبته من الشمس قربا وبعدا وتوسطا. ومن تأمل شواهد ذلك لم يبق له فيه ريبة وفيه من القياس ما في المجربات، فإن هذه الإختلافات لو كانت بالإتفاق أو بأمر خارج سوى الشمس لما استمرت على نمط واحد على طول الزمن،

ومن مارس العلوم يحصل لهمن هذا الجنس على طريق الحدس والإعتبار قضايا كثيرة لا يمكنه إقامة البرهان عليها، ولا يمكنه أن يشك فيها، ولا يمكنه أن يشرك فيها غيره بالتعليم، إلا أن يدل الطالب على الطريق الذي سلكه واستنهجه، حتى إذا تولى السلوك بنفسه أفضاه ذلك السلوك إلى ذلك الإعتقاد وإن كان ذهنه في القوة والصفاء على رتبة الكمال. ولمثل هذا لا يمكن افحام كل مجادل بكلام مسكت، فلا ينبغي أن تطمع في القدرة على المجادلة في كل حق، فمن الإعتقادات اليقينية ما لا نقدر على تعريفه غيرنا بطريق البرهان إلا إذا شاركنا في ممارسته ليشاركنا في العلوم المستفادة منه، وفي مثل هذا المقام يقال: من لم يذق لم يعرف، ومن لم يصل لم يدرك. الصنف الرابع القضايا التي عرفت لا بفنسها بل بوسط ولكن لا يعزب عن الذهن أوساطها، بل مهما احضر جزئي المطلوب حضر التصديق به لحضور الوسط معه كقولنا: الإثنان ثلث الستة، فإن هذا معلوم بوسط وهو أن كل منقسم ثلاثة أقسام متساوية، فأحد الأقسام ثلث والستة تنقسم بالإثنينات ثلاثة أقسام متساوية، فالإثنان إذن ثلث الستة، ولكن هذا الوسط لا يعزب عن الذهن لمقلة هذا العدد وتعود الإنسان التأمل فيه، حتى لو قيل لك: الإثنان والعشرون هي هي ثلث ستة وستين؟ لم تبادر إليه مبادرتك إلى الحكم بأن الإثنين ثلث الستة، بل ربما افتقرت نإلى أن تقسم الستة والستين على ثلاثة،

فإذا انقسمت وحصل أن كل قسم إثنان وعشرون عرفت أن ذلك ثلثه، وهكذا كلما كثر الحساب؛ فهذا وإن كان معلوما برأي ثاني لا بالرأي الأول ولكنه ليس يحتاج فيه إلى تأمل، فهو جار مجرى الأوليات فيصلح لأن يكون من مواد الأقيسة. بل القضايا التي هي نتائج أقيسة ألفت من مقدمات هي من الأصناف الثلاثة السابقة تصلح أن تكون مواد أقيسة ومقدماتها. ؟ القسم الثاني المقدمات التي ليست يقينية ولا تصلح للبراهين، وهي نوعان: نوع يصلح للظنيات الفقهية، ونوع لا يصلح لذلك أيضا. النوع الأول وهو الصالح للفقهيات دون اليقينيات وهي ثلاثة أصناف: مشهورات ومقبولات ومظنونات. الصنف الأول المشهورات مثل حكمنا بحسن إفشاء السلام، وإطعام الطعام وصلة الأرحام وملازمة الصدق في الكلام ومراعاة العدل في القضايا والأحكام، وحكمنا بقبح إيذاء الإنسان وقتل الحيوان ووضع البهتان ورضاء الأزواج بفجور النسوان ومقابلة النعمة بالكفران والطغيان، وهذه قضايا لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه، لما قضى الذهن به قضاء بمجرد العقل والحس، ولكن إنما قضى بها لأسباب عارضة أكدت في النفس هذه القضايا وأثبتتها؛ وهي خمسة: أولها رقة القلب بحكم الغريزة وذلك في حق أكثر الناس حتى سبق إلى وهم قوم أن ذبح الحيوان قبيح عقلا، ولولا أن سياءة الشرع صرفت الناس

عن ذلك إلى تحسين الذبح وجعله قربنا، لعم هذا الإعتقاد أكثر الناس. ومن هذا أشكل على المعتزلة وأكثر الفرق وجه العدل في إيلام البهائم بالذبح والمجانين بالمرض، وزعموا بحكم رقة طباعهم أن ذلك قبيح، فمنهم من اعتذر بانها ستعوض عليها بعد الحشر في الدار الآخرة. ولم ينتبه هؤلاء لقبح صفع الملك ضعيفا ليعطيه رغيفا، مهما قدر على إعطائه دون الصفع، واعتذر فرق بأنها عقوبات على جنايات قارفوها وهم محكلفون وردوا بطريق التناسخ بعد الموت إلى هذه القوالب ليعذبوا فيها، ولم يعلموا أن عقوبة منلا يعرف أنه معاقب فينزجر بسببه قبيح. وإن زعموا أنها تعرف كونها معاقبة على جنايات سبقت كان لها قوة مفكرة، ويلزم عليه تجويز معرفة الذبان والديدان حقائق الأمور وجميع العلوم الهندسية والفلسفية، وهو مناكرة للمحسوس، ثم مهما لم يكن للمعاقب غرض في إنتقام أو تشفي أو دفع ضر في

المستقبل أو لم يكن للمعاقب مصلحة فهو أيضا قبيح، والله قادر على إفاضة النعم على الخلق من غير إيلام، ومن غير تكليف وإلزام، فايذاؤهم بالتكليف أولا وبالعقوبة آخرا أحرى بأن يكون قبيحا مما ذكروه، وجعلوه قبيحا من إيلام البريء عن الجنايات. السبب الثاني ما جبل عليه الإنسان من الحمية والأنفة، ولأجله يحكم باستقباح الرضا بفجور امرأته، ويظن أن هذا حكم ضروري للعقل مع أن جماعة من الناس يتعودون إجارة أزواجهم ليألفوا ذلك ولا ينفروا عنه، بل جميع الزناة يستحسنون الفجور بمرأة الغير ولا يستقبحونه لموافقة شهواتهم، ويستقبحون من ينبه الأزواج عليه ويعرفهم فعل الزناة، ويزعمون أن ذلك غمز وسعاية ونميمة، وهو في غاية القبح. وأهل الصلاح يقولون: هو خيانة وترك الأمانة؛ فتتناقض أحكامهم في الحسن والقبح ويزعمون أنها قضايا العقل، وإنما منشأها هذه الأخلاق التي جبل الإنسان عليها. السبب الثالث محبة التسالم والتصالح والتعاون على المعايش، ولذلك يحسن عندهم التودد بإفشاء السلام وإطعام الطعام ويقبح لديهم السب والتنفير ومقابلة النعمة بالكفران وأمثاله،

ولولا ميلهم إلى أمور تنهض هذه الأسباب وسائل إليها أو صوارف عنها، لما قضت العقول بفطرتها في هذه الأمور بحسن ولا قبح، ولذلك نرى جماعة لا يحبون التسالم ويميلون إلى التغالب، فألذ الأشياء وأحسنها عندهم الغارة والنهب والقتل والفتك. السبب الرابع التأديبات الشرعية لإصلاح الناس، فإنها لكونها تكررت على الأسماع منذ الصبا بلسان الآباء والمعلمين ووقع النشء عليها، رسخت تلك الإعتقادات رسوخا أدى إلى الظن بأنها عقلية كحسن الركوع والسجود والتقرب بذبح البهائم وإراقة دمائها، وهذه الأمور لو غوفص بها العاقل الذي لم يؤدب بقبولها منذ الصبا لكان مجرد عقله لا يقضي بحسن ولا بقبح، ولكن حسنت بتحسين الشرع فاذعن الوهم لقبولها بالتأديب منذ الصبا. السبب الخامس الإستقراء للجزئيات الكثيرة، فإن الشيء متى وجد مقرونا بالشيء في أكثر أحواله ظن أنه ملازم له على الإطلاق، كما يحكم على إفشاء السلام بالحسن مطلقا، لأنه يحسن في أكثر الأحوال ويذهل عن قبحه في وقت قضاء الحاجة، ويحكم على الصدق بالحسن لوجوده موافقا للأغراض مرغوبا في أكثر الأحوالن ويغفل عن قبحه ممن سئل عن مكان نبي أو ولي ليجده السائل فيقتله، بل ربما اعتقد قبح الكذب حينئذ بإخفاء المحل المصادفة الكذب مقرونا بالقبح في أكثر الأحوال. فهذه الأسباب وأمثالها علل قضاء النفس بهذه القضايا وليست هذه القضايا صادقة كلها ولا كاذنبةكلها، ولكن المقصود أن ما هو صادق منها فليس بين الصدق عند العقل بيانا أوليا، بل يفتقر في تحقيق صدقه إلى نظر وإن كان محمودا عند العقل الأول، والصادق غير المحمود، والكاذب غير الشنيع. ورب شنيع حق، ورب محمود كاذب،

وقد يكون المحمود صادقا لكن بشرط دقيق لا يتفطن أكثر الناس له، فيؤخذ على الإطلاق مع أنه لا يكون صادقا إلا مع ذلك الشرط كقولنا: الصدق حسن، وليس كذلك مطلقا بل بشروط، ولفقد بعض الشروط قبح الصدق الذي هو تعريف لموضع النبي المقصود قتله إلى غير ذلك من نظائره. ومهما أردت أن تعرف الفرق بين هذه القضايا المشهورات وبين الأوليات العقلية، فأعرض قولنا: قتل الإنسان قبيح وإنقاذه من الهلاك جميل، على عقلك بعد أن تقدر كأنك حصلت في الدنيا دفعة بالغا عاقلا، ولم تسمع قط تأديبا ولم تعاشر أمة ولم تعهد ترتيبا وسياسة، لكنك شاهدت المحسوسات وأخذت منها الخيالات، فيمكنك التشكيك في هذه المقدمات أو التوقف فيها ولا يمكنك التوقف في قولنا أن السلب والإيجاب لا يصدقان في حال واحدة، وأن الإثنين أكثر من الواحد، فإذن هذه المقدمات لما كانت قريبة من الصدق محتملة الكذب لم تصلح للبراهين التي يطلب منها اليقين وصلحت للفقهيات. الصنف الثاني المقبولات وهي أمور إعتقدناها بتصديق من أخبرنا بها من جماعة ينقص عددهم عن عدد التواتر، أو شخص واحد تميز عن غيره بعدالة ظاهرة أوعلم وافر، كالذي قبلناه من آبائنا وأستاذينا وأئمتنا واستمررنا على إعتقاد، وكأخبار الآحاد في الشرع، فهي تصلح للمقاييس الفقهية دون البراهين العقلية، ولها في إثارة الظن مراتب لا تكاد تخفي؛ فليس المستفيض في الكتب

الصحاح من الأحاديث كالذي ينقله الواحد، ولا ما ينقله أحد الخلفاء الراشدين كما ينقله غيره، ودرجات الظن فيه لا تحصى. الصنف الثالث المظنونات وهي أمور يقع التصديق بها لا على الثبات بل مع خطور إمكان نقيضها بالبال، ولكن النفس إليها أميل كقولنا: إن فلانا إنما يخرج بالليل لريبة، فإن النفس تميل إليه ميلا يبنى عليه التدبير للأفعال، وهي مع ذلك تشعر بإمكان نقيضه، والمشهورات والمقبولات إذا اعتبرت من حيث يشعر بنقيضها في بعض الأحوال، فيجوز أن تسمى مظنونة، وكم من مشهور في بادىء الرأي يورث اعتقادا، فإن تأملته وتعقبته عاد ذلك الإذعان لقبوله ظنا أو تكذيبا كقول القائل: ينبغي أن يمنع من ظلمه وينصر المظلوم عليه، وهو المراد بالحديث المعقول فيه، فإنه سئل عن ذلك فقيل: كيف ينصر الظالم؟ فقال: نصرته أن تمنعه من ظلمه. النوع الثاني ما لا يصلح للطقعيات ولا للظنيات بل لا يصلح إلا للتلبيس والمغالطة، وهي المشبهات أي المشبهة للأقسام الماضية في الظاهر ولا تكون منها، وهي ثلاثة أقسام: الأول الوهميات الصرفة وهي قضايا يقضي بها الوهم الإنساني قضاء جزما

بريا عن مقارنة ريب وشك، كحكمة في إبتداء فطرته بإستحالة وجود موجود لا إشارة إلى جهته، وأن موجودا قائما بنفسه لا يتصل بالعالم ولا ينفصل عنه، ولا يكون داخل العالم ولا خارجه محال، وهذا يشبه الأوليات العقلية مثل القضاء بان الشخص الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، والواحد أقل من الإثنين، وهي أقوى من المشهورات التي مثلناها بأن العدل جميل والجور قبيح، وهي مع هذه القوة كاذبة مهما كانت في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها، لأن الوهم إنس بالمحسوسات فيقضي لغير المحسوس بمثل ما ألفه في المحسوس. وعرف كونه كاذبا من مقدمات يصدق الوهم بآحادها لكن لا يذعن للنتيجة، إذ ليس في قوة الوهم إدراك مثلها وهذا أقوى المقدمات الكاذبة، فإن الفطرة الوهمية تحكم بها حسب حكمها في الأوليات العقلية، ولذلك إذا كانت الوهميات في المحسوسات كانت صادقة يقينية وصح الإعتماد عليها كالإعتماد على العقليات المحضة وعلى الحسيات. القسم الثاني ما يشبه المظنونات وإذا بحث عنه أمحى الظن كقول القائل: ينبغي أن تنصر أخاك ظالما كان أو مظلوما، وهو أيضا يشبه المشهورات. وقد يكون ما يشبه المشهورات أو المظنونات مما يتوافق عليه الخصمان في المناظرات من المسلمات، إما على سبيل الوضع وإما على سبيل الإعتقاد، ولكن إذا تكرر تسليمها على أسماع الحاضرين يأنسون بها وتميل نفوسهم

إلى الإذعان لها أكثر من الميل إلى التكذيب، فيعتقد أن ذلك الميل ظن لأن معنى الظن ميل في الإعتقاد، ولكنه ميل بسبب كإعتقادك أن من يخرج بالليل فيخرج لريبة، فإن ميل النفس إلى هذه التهمة لسبب. ولو كرر على سمع جماعة أن الأزرق الأشقر مثلا لا يكون إلا خائنا خبيثا فإذا رأوه كان ميل نفسهم إلى إعتقاد بل خيال محض بسبب بسبب السماع. ولذا قيل: من يسمع يخل. فبين هذا وبين الظنون المحقق فرق ويقرب من هذا المخيلات وهي تشبيه الشيء بشيء، مستقبح او مستحسن لمشاركته إياه في وصف ليس هو سبب القبح والحسن، فتميل النفس بسببه ميلا وليس ذلك من الظن في شيء، وهذا مع أنه أخس الرتب يحرك الناس إلى أكثر الأفعال، وعنه تصدر أكثر التصرفات من الخلق إقداما وإحجاما، وهي المقدمات الشعرية التي ذكرناها، فلا ترى عاقلا ينفك عن التأثر به حتى إن المرأة التي يخطبها الرجل إذا ذكر أن إسمها إسم بعض الهنود أو السودان المستقبحين نفر الطبع عنها لقبح الإسم، فيقاوم هذا الخيال الجمال ويورث محبة ما، وحتى إن علم الحساب والمنطق الذي ليس فيه تعرض للمذاهب بنفي ولا إثبات إذا قيل أنه من علوم الفلاسفة الملحدين، نفر طباع أهل الدين عنه، وهذا الميل والنفرة الصادران عن هذا الجنس ليسا بظن ولا علم، فلا يصلح ما يثيرهما أن يجعل مقدمة لا في القطعيات ولا في الظنيات والفقهيات.

ما يثيرهما ان يجعل مقدمة، لا فى القطعيات ولا فى الظنيات، والفقهيات. القسم الثالث الأغاليط الواقعة إما من لفظ المغلط أو من معنى اللفظ، كما يحصل من مقدمة صادقة في مسمة باسم مشترك فينقله الذهن عن ذلك المسمة إلى مسمى آخر بذلك الإسم عينه، حيث يدق وجه الإشتراك، كالنور إذا أخذ تارة لمعنى الضوء المبصر، وأخرى بالمعنى المراد من قوله تعالى: (الله نُورُ السَمَواتِ والأَرض) . وكذلك قد يكون من الذهول عن موضع وقف في الكلام كقوله تعالى: (وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاّ الله وَالراسِخُونَ في العِلمِ يَقولُونَ آَمَنّا بِهِ) . فإذا أهمل الوقف على الله انعطف عليه قولهوالراسخون في العلم وحصلت مقدمة كاذبة. وقد يكون بالذهول عن الأعراب كقوله تعالى: (إِنّ الله بَريء مِنَ المُشرِكينَ ورَسُولُهُ) . فبالغفلة عن إعراب اللام من قوله ورسوله، ربما يقرأها القارىء بالكسر وتحصل مقدمة كاذبة ونظائر ذلك من حيث اللفظ كثير. وأما من حيث المعنى فمنها ما يحصل من تخيل العكس، فإنا إذا قلنا: كل قود فسببه عمد، فيظن أن كل عمد فهو سبب قود، فإن العمد رؤى ملازما للقود فظن أن القود أيضا ملازم للعمد، وهذا الجنس سباق إلى الفهم، ولا يزال الإنسان مع عدم التنبه لأصله ينخدع به ويسبق إلى تخيله من حيث لا يدري إلى أن ينبه عليه. ومنها ما سببه تنزيل لازم الشيء منزلة الشيء حتى إذا حكم على شيء بحكم ظن أنه يصح على لازمه، فإذا قيل: الصلاة طاعة وكل صلاة تفتقر إلى نية، ظن

أن كل طاعة تفتقر إلى نية من حيث ان الطاعة لازمة للصلاة وليس كذلك، فإن أصل الإيمان ومعرفة الله تعالى طاعة، ويستحيل إفتقارها إلى نية لأن نية التقرب إلى المعبود لا تتقدم على معرفة المعبود، وهذا أيضا كثير التغليط في العقليات والفقهيات، وأسباب الأغاليط مما يعسر إحصاؤها، وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره. فإذن مجموع ما ذكرناه من أصناف هذه المقدمات التي سميناها عشرة: أربعة من القسم الأول وثلاثة من القسم الثاني، وهي مواد الفقهيات، وثلاثة من القسم الأخير وقد ذكرنا حكمها. فإن قال قائل: فبماذا تخالف العقليات الفقهيات؟ قلنا: لا مخالفة بينهما في صورة القياس وإنما يتخالفان في المادة ولا في كل مادة، بل ما يصلح أن يكون مقدمة في العقليات يصلح للفقهيات، ولكن قد يصلح للفقهيات ما لا يصلح للعقليات كالظنيات، وقد يؤخذ ما لا يصلح لهما جميعا كالمشبهات والمغلطات كما يتخالفان في كيفية ما به تصير المقدمة كلية، فإن المقدمات الجزئية في الفقه يتسامح بجعلها كلية، وإنما يدرك ذلك من أقوال صاحب الشرع وأفعاله، وأقوال أهل الإجماع وأقوال آحاد الصحابة أن رؤى ذلك من العقليات ما هو صريح في لفظه بين في طريقه، كالفظ الصريح المسموع من الشارع أو المنقول بطريق التواتر، فإن المتواتر كالمسموع.

فقوله: (ثَلاثَةَ أيامٍ في الحَجِّ وَسَبعَةٍ إذا رَجَعتُم) صريح في لفظه أعني كونه عشرة بين في طريقه، أعني أن القرآن متواتر وقد يكون بينا في طريقه ظاهرا في لفظه كالمراد من قوله: إذا رجعتم. وقد يكون صريحا في لفظه غير بين في طريقه كالنص الذي ينقله الآحاد من لفظ صاحب الشرع، وقد يكون عادما للقوتين كالظاهر الذي ينقله الآحاد. وجملة الألفاظ الشرعية في القضية الكلية والجزئية أربعة أقسام: الأول كلية أريد بها كلية كقوله كل مسكر حرام. الثاني جزئية بقيت جزئية كقوله في الذهب والإبريسم " هذان حرامان على ذكور أمتي " فإنه بقي مختصا بالذكور ولم يتعد إلى الإناث. والثالث كلية أريد بها جزئية كقوله: في سائمة الغنم زكاة، أريد بها ما بلغ نصابا. وقوله: (وَالسارِقُ وَالسارِقَةُ فاقطَعَوا أَيديَهُما) . المراد به بعض السارقين، فإذا أردنا أن نجعل هذه كلية ضممنا إليها الأوصاف التي بان إعتبارها فيه، وقلنا مثلا: كل من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه قطع. والنباش أو الذي يسرق الأشياء الرطبة مثلا بهذه الصفة فيقطع؛

هذا هو العادة. والصواب عندنا في مراسم جدل الفقه ان لا يفعل ذلك مهما وجد عموم لفظ، بل يتعلق بعموم اللفظ ويطالب الخصم بالمخصص، وما يدعي من ان الخصوص قد يتطرق إلىالعموم فليس مانعا من التمسك بالعموم على إصطلاح الفقهاء، وإذا اصطلحوا على هذا فالتمسك به أولى من إيراده في شكل قياس، لأنهم ليسوا يقبلون تخصيص العلة. ومهما قلت: كل من سرق نصابا كاملا من حرز مثله قطع، منع الخصم وقال: أهملت وصفا وهو أن لا يكون المسروق رطبا فما الذي عرفك أن هذا غير معتبر، فلا يبقى لك إلا أن تعود إلى العموم وتقول: هوالأصل. ومن زاد وصفا فعلهي الدليل، فإذن التمسك بالعموم أولى إذا وجد. والرابع هو الجزئي الذي أريد به الكلي، فإنا كما نعبر بالعام عن الخاص فنقول: ليس في الأصدقاء خير، ونريد به بعضهم كذلك قد يطلق الخاص ونريد به العام كقوله تعالى: (وَمِنهُم مَن إِن تَأمَنهُ بِدينارِ لا يُؤَدِهِ إليك) فإنه يراد به سائر أنواع أمواله. وكقوله: (وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَةٍ خَيراً يَرَه) فيعبر بالقليل عن الكثير، وكقوله تعالى: (وَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ) فعبر عن كل ما فيه التبرم به. وكقوله تعالى: (وَلا تَأكلُوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِل

وَلا تَأكُلوا أَموال اليَتامى ظُلماً) . والمراد هو الإتلاف الذي أعم من الأكل، ولكن عبر بالأكل عنه. وكقول الشافعي: إذا نهشته حية أو عقرباء فإن كانت من حيات مصر أوعقارب نصيبين وجب القصاص. وليس غرضه التخصيص بل كل ما يكون قاتلا في الغالب، ولكن ذكر المشهور وعبر به عن الكل، فإذا ورد من هذا الجنس لفظ خاص ألغينا خصوصه وأخذنا المعنى الكلي المراد به وقلنا: كل تبرم بالوالدين فهو حرام، وكل إتلاف لمال اليتامى حرام؛ فيحصل معنا مقدمة كلية. فإن قيل: فالمعلوم بواقعة مخصوصة هل هو قضية كلية يفتقر تخصيصها إلى دليل أم هو جزئية فيفتقر تعميمها إلى دليل، وذلك كقوله للأعرابي: (اعتق رقبة) لما قال جامعت في نهار رمضان، وكرجمه ماعزا لما زنى، فهل ينزل ذلك منزلة قوله: كل من زنى فارجموه وكل من جامع أهله في نهار رمضان فليعتق رقبة؟ قلنا: هو كقولك: كل موصوف بصفة ماعز إذا زنى فارجموه، ولك موصوف بصفة الأعرابي إذا هلك وأهلك بجماع أهله في نهار رمضان فليعتق رقبو. ثم صفة الجماع هو الذي وصفه السائل والمعتبر من صفات الأعرابي ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم

حتى نزل ترك الإستفصال مع إمكان الإشكال منزلة عموم المقال، حتى إن لم يعرف أنه كان حرا أو عبدا كان هذا كالعوم في حق الحر والعبد، وإن عرف كونه حرا فالعبد ينبغي أن يتكلف الحاقه بان يظهر أنه لا يؤثر الرق بدفع موجبات العبادات، وإنما نزلنا هذا منزلة العام لأنه قد قال حكمي في الواحد حكمي في الجماعة. ولو كنا عرفنا من عاداته أنه يخصص كل شخص بحكم يخالف الآخر لما أقمنا هذا مقام العام، كمن يعلم من أصحاب الظواهر أن المراد بالجزئيات المذكورة في الربويات نفس تلك الجزئيات، ولهذا مزيد تفصيل لا يحتمله هذا الكتاب. وقد بينا عند النظر في صورة القياس، إن الحكم الخاص الجزئي إنما يجعل كليا بستة طرق، وهو بيان أن ما به الإفتراق ليس بمؤثر، وإن ما به الإجتماع هو المناسب أو المؤثر ليكون مناطا، وهو أبلغ في الكشف عن الغرض، وذلك لأن من الجزئيات ما يعلم أن المراد منها كلي، ومنها ما لا يعلم ذلك كمن لم يعلم من أصحاب الظواهر أن المراد بالجزئيات الست المذكورة في الربويات أمر أعم منها، وعرف كافة النظار أن المراد بالبر ليس هو البر بل معنى أعم منه، إذ بقي ربا البر بعد الطحن إذ صار دقيقا وفارقه إسم البر، فعلم أن المراد به وصف عام كلي اشترك فيه الدقيق والبر، ولكن الكلي العام قد يعرف بالبديهة من غير تأمل، كمعرفتنا بان المحرم هو التبرم العام دون التأفف الخاص، وقد يشك فيه كالبر، فإن الدقيق والبر يشتركان في كليات مثل الطعم والإقتيات والكيل والمالية، وإذا وقع الشك فيه لم يمكن إثباته إلا بأحد الطرق الستة التي ذكرناها، والله أعلم.

؟ النظر الثالث في المغلطات في القياس وفيه فصول ؟ الفصل الأول في حصر مثارات الغلط. إعلم أن المقدمات القياسية إذا ترتبت من حيث صورتها على ضرب منتج من الأشكال الثلاثة، وتفصلت منها الحدود الثلاثة أولا، وهي الأجزاء الأولى، إذ تميزت المقدمتان وهي الأجزاء الثواني، وكانت المقدمات صادقة وغير النتيجة واعرف منها، كان اللازم منها بالضرورة حقا لا ريب فيه، والذي لا يحصل منه الحق فإنما لا يحصل لخلل في هذه الجهات التي ذكرناها، إما لخروجه عن الأشكال أو لخروجه عن الضروب المنتجة منها، أو لعدم التمايز في الحدود أو في المقدمات أو لإدراج النتيجة في المقدمات فلا تكون غيرها، أو لأن النتيجة تكون متقدمة على إحدى المقدمات في المعرفة فلا تكون المقدمة أعرف من النتيجة فهذه سبع مثارات؛ فلنشرح كل واحد بمثال حتى يتيسر الإحتراز عنه فنقول: المثار الأول: أن لا تكون على شكل من الأشكال الثلاثة، بأن لا يكون من الحدود حد مشترك

إما موضوع فيهما أو محمول أوموضوع لأحدهما محول للآخر، فإذا انتفى الإشتراك حقيقة ولفظا لم يغلط الذهن فيه، فإن ذلك يظهر وإنما يغلط إذا وجد ما هو مشترك لفظا مع إختلاف المعنى، ولذلك وجب تحقيق القول في الألفاظ المشتركة لا سيما ما يشتبه منها بالمتواطئة، ويعسر فيها درك الفرق، وهو مثار عظيم للأغاليط. وقد ذكرنا تفصيل ذلك على الإيجاز في كتاب مقدمات القياس، إلا أنا لم نذكر ثم إلا الألفاظ التي لا يتحد معناها، وقد يكون الإشتراك سببه النظم والترتيب للألفاظ لا نفس الألفاظ ونحن نذكر من أمثلتها أربعة: ؟ الأول: ما ينشأ من مواضع الوقف والإبتداء كما ذكرنا من قوله تعالى: (إِلاّ الله وَالرَاسِخونَ في العِلم) إذ له معنيان مختلفان، فيطلق أمثاله في إحدى المقدمتين بمعنى وفي الثاني بمعنى آخر، فيبطل الحد المشترك ويظن أن ثم حد مشترك. ؟ الثاني: تردد الضمائر بين أشياء متعددة تحتمل الإنصراف إليها كقولك: كل ما علمه العاقل فهو كما علمه، والعاقل يعمل الحجر فهو كالحجر، فإن قولك: فهو متردد بين أن يكون راجعا إلى العاقل أو إلى المعقول، ويسلم في المقدمة على أنه راجع إلى المعقول، ويلبس في النتيجة فيخيل رجوعه إلى العاقل.

الثالث تردد الحروف الناسقة بين معنيين تصدق في أحدهما وتكذب في الآخر كقوله: الخمسة زوج وفرد، وهو صادق فيظن أنه يصدق قولنا أنه زوج وفرد معا، وسببه إشتباه دلالة الواو فإنه يدل على جمع الأجزاء، إذ تقول الإنسان عظم ولحم أي فيه عظم ولحم، ويدل على جمع الأوصاف كقولنا: الإنسان عظم ولحم أي فيه عظم ولحم، ويدل على جمع الأوصاف كقولنا: الإنسان حي وجسم، فإذن يصدق ما ذكرناه في الخمسة بطريق جمع الأجزاء لا بطريق جمع الصفات، واللفظ كاللفظ. الرابع تردد الصفة بين أن تكون صفة للموضوع وصفة للمحمول المذكور قبله، فإنا قد نقول: زيد بصير أي ليس بضرير. وتقول: زيد طبيب. وإذا نظمنا فقلنا زيد طبيب بصير، ظن أنه بصير في الطب، وهذه الألفاظ تصدق مفرقة وتصدق مجموعة على أحد التأويلين دون الآخر، وأمثال ذلك مما يكثر ويرتفع به شكل القياس من حيث لا يعرف وفيما ذكرناه غنية.

المثال الثاني ألا يكون على ضرب منتج من جملة ضروب الأشكال الثلاثة. مثاله قولك: قليل من الناس كاتب وكل عاقل، فقليل من الناس عاقل. وهذه النتيجة صادقة إن لم ترد بإثبات القليل نفي الكثير، فإن الكثير إذا كان عاقلا ففيه القليل، وإن أريد به أن القليل فقط هو كاتب وعاقل، اختلط نظم القياسس، إذ كان قوله قليل منالناس كاتب يشتمل على مقدمتين بالقوة: إحداهم بعض الناس كاتب، والأخرى إن ذلك البعض قليل، فهما محمولان على البعض. وقد حكم في المقدمة الثانية على أحد المحمولين وهو الكاتب دون الثاني فاختلط النظم، وكذلك إذا قلت: ممتنع أن يكون الإنسان حجرا، وممتنع أن يكون الحجر حيوانا، فممتنع أن يكون الإنسان حيوانا، لأن هذا الضرب ألف من سالبتين غير فيهما اللفظ السلبي، إذ قولك ممتنع أن يكون الإنسان حجرا

معناه لا إنسان واحد حجر، بل هذا القدر كاف لنفي النتيجة، فإن صغرى الشكل الأول مهما لم تكن موجبة لم ينتج أصلا، وإنما تكثر هذه الأغاليط إذا تشبث الذهن بالألفاظ دون أن يحصل المعاني بحقائقها. المثار الثالث: إلا تكون الحدود الثلاثة، وهي الأجزاء الأولى متمايزة متكاملة كقولك: كل إنسان بشرن وكل بشر حيوان، فكل إنسان حيوان. وقولك: كل خمر عقار، وكل عقار مسكر، فكل خمر مسكر. فإن الحد الأوسط هوالحد الأصغر بعينه، وإنما تعدد اللفظ. وهذا من إستعمال الألفاظ المترادفة وهي التي تختلف حروفها وتتساوى حدود معانيها المفهومة، وقد ذكرناها فليحترز منها أيضا. المثار الرابع: ألا تكون الأجزاء الثواني وهي المقدمات متفاضلة، وذلك لا يتفق في الألفاظ المفردة البسيطة إذ يظهر فيها محل الغلط، ولكن يتفق في الألفاظ المركبة، وكم من لفظ مركب يؤدي معنى قوته قوة الواحد أو يمكن أن يدل عليه بلفظ واحد، كما تقول:

الإنسان يمشي. ثم يمكنك أن تبدل لفظ الموضوع بالحيوان الناطق، ولفظ يمشي بأنه ينتقل بنقل قدميه من موضع إلى آخر حتى يطول اللفظ، ويمكنك أن تعين التلبيس فيه. ومن هذا القبيل قولنا: كل ما علمه المسلم، فهو كما علمه، والمسلم يعلم الكافر فهو إذن كالكافر، وهذه المقدمات متمايزة الحدود في الوضع ولكن الخلل في الإتساق، فإنه ترك التصريح بتفصيله، وإلا فقولك ما علمه المسلم موضوع، وقولك فهو كما علمه محمول، ولكن تردد معنى قولك هو، وقد يكون بحيث لا يتميز في الوضع بل يكون فيه جزء يحتمل أن يكون من الموضوع، وأن يكون من المحمول، فإنك تقول: زيد الطويل أبيض، فالمحمول هو الأبيض فقط، والطويل من الموضوع، ويمكن أن يذكر الطويل بصيغة الذي فيرجع إلى زيد بان تقول زيد الذي هو طويل أبيض؛ وإن قلت: زيد طويل أبيض، صار الطويل جزءا من المحمول، وإذا لم يذكر الذي يكون بحيث يحتمل أنيراد به الذي وألا يراد كما تقول الإنسانية من حيث هي إنسانية خاصة أو عامة،

فيحتمل أن يكون الموضوع الإنسانية المجردة والمحمول الخاصة، ويحتمل أن يكون الموضوع الإنسانية فحسب والمحمول الخاصة من حيث هي إنسانية، إذا لو قلت الإنسانية خاصة أو عامة لأخبرت عن شيء واحد. فإذا قلت: الإنسانية من حيث هي إنسانية خاصة أو عامة، أخبرت عن شيئين وكل خبر فهو محمول. ولهذا لو قلت: الإنسانية ليست من حيث هي إنسانية خاصة ولا عامة، صدق. ولو قلت: الإنسانية ليست خاصة ولا عامة، كذب ويفهم الفرق بينهما عند ذكرنا المعنى الكلي في أحكام الوجود، فيتشعب من هذه التركيبات المختلفة أغاليط يعسر حلها على حذاق النظار فضلا عن الظاهريين، ولا تخلص عن مكامن الغلط إلا بتوفيق الله فليستوفق الله تعالى الناظر في هذه العقبات حتى يسلم عن ظلماتها. المثار الخامس: أن تكون المقدمة كاذبة، وذلك لا يخلو غما أن يكون لإلتباس المعنى، فإن لم يكن ثم شيء من هذه الأسباب لم يذعن الذهن له ولم يصدق به، فليس كلام إلا فيما يغلط فيه العقلاء. فأما من يصدق بكل ما يسمع فهو فاسد المزاج، عسر كما إذا اشتركت لفظتان في معنى، وبينهما إفتراق في معنى دقيق، فيظن أن الحكم الذي ألفي صادقا على أحدهما على الآخر، ويقع الذهول عما فيه الإفتراق من زيادة معنى أو نقصانه مع اتحاد

المسمى، وذلك مما يكثر كلفظ الستر والخدر. ولا يقال خدر إلا إذا كان مشتملا على جاريةن وإلا فهو ستر، وكالبكاء والعويل ولا يقال عويل إلا إذا كان معه رفع صوت وإلا فهو بكاء، وقد يظن تساويهما، وكذا الثرى والتراب فإن الثرى هوالتراب ولكن بشرط النداوة، وكذلك المأذق والمضيق فإن المأذق هو المضيق ولكن لا يقال إلا في مواضع الحرب، وكذا الآبق والهارب فإن الآبق هو الهارب ولكن مع مزيد معنى في الهارب، وهو أن يكون من كد وخوف، فغن لم يكن سبب منفر فيسمى هاربا لا آبقا؛ وكما لا يقال لماء الفم رضاب إلا ما دام في الفم فإذا فارقه فهو بزاق، ولا يقال للشجاع كمي إلا إذا كان شاكي السلاح وإلا فهو بطل، ولا يقال للشمس الغزالة إلا عند إرتفاع النهار؛ فهذه الألفاظ متماثلة في الأصل وفيها نوع تفاوت، وقد يظن أن الحكم على أحدها حكم على الآخر فيصدق به لهذا السبب. وأما السبب المعنوي للتغليط فهو أن تكون المقدمة صادقة في البعض لا في الكل، فتؤخذ على أنها كلية وتصدق ويقع الذهول عن شرط صدقها، وأكثرها من سبق الوهم إلى العكس، فإنا إذا قلنا: " كل قود فبعمد وكل رجم فبزنا " فيظن أن كل عمد ففيه قود وإن كل زنا ففيه رجم، وهذا كثير التغليط لمن لم يتحفظ عنه، والذي يصدق في البعض دون الكل قد يكون بحيث يصدق في بعض

الموضوع كقولنا: الحيوان مكلف؛ فإنه يصدق في الإنسان دون غيره، وقد يصدق في كل الموضوع ولكن في بعض الأحوال كقولنا الإنسان مكلف، فإنه لا يصدق في حالة الصبا والجنون، وقد يصدق في بعض الأوقات كقولنا المكلف يلزمه الصلاة، فإنه لا يصدق في وقت الضحى إذ لا يجب فيه صلاة، وقد يصدق بشرط خفي كقولنا: المكلف يحرم عليه شرب الخمر، فإنه بشرط ألا يكون مكرها فيترك الشرط؛ وكذلك قولك: إذا قتل مظلوما هو مثل من قتل؛ وهو صحيح بشرط، أعني ألا يكون القاتل أبا والقتيل إبنا. فهذه الأمور لما كانت تصدق في الأكثر ولا تنتهض كلية صادقة إلا إذا قيدت بالشرط، فربما يذعن الذهن للتصديق ويسلمها على إنها كلية صادقة فيلزم منها نتائج كاذبة. المثار السادس: ان لا تكون المقدمات غير النتيجة فتصادر على المطلوب في المقدمات من حيث لا تدري، كقولك: إن المرأة مولى عليها فلا تلي عقد النكاح، وإذا طولبت بمعنى كونها مولى عليها ربما لم تتمكن من إظهار معنى سوى ما فيه النزاع.

وكذلك قول القائل: يصح التطوع بنية تنشأ نهارا لأنه صوم عين، وإذا طولب بتحقيق معنى كونه صومعين لم يستغن عن أن يجعل النتيجة جزءا منه، إذ يقال له: ما معنى كونه صوم عين؟ فيقول: إنه يصلح للتطوع. فيقال: وبهذا لا يثبت التعين إذ يصلح كل يوم قبل طلوع الفجر للقضاء، ولا يقال صوم عين. وإن قال: معناه أنه لا يصلح لغير التطوع، يقال: وبهذا لا يثبت التعين فإن الليل لا يصلح لغير التطوع، ولا يقال له عين فيضطر إلى ان يجمع بين المعنيين ويقول: معناه أنه يصلح للتطوع ولا يصلح لغيره فيقال: قوله يصلح للتطوع هو الحكم المطلوب علمه، فكيف جعله جزءا من العلة والعلة ينبغي أن تتقوم ذاتها دون الحكم؟ ثم يترتب عليها الحكم فيكون الحكم غير العلة، ونظائر هذا في العقليات تكثر فلذلك لم نذكره. المثار السابع: أن لا تكون المقدمات اعرف من النتيجة، بل تكون إما مساوية لها في المعرفة كالمتشايفات، وذلك من ينازع في كون زيد ابنا لعمرو فيقول: الدليل على أن زيدا ابن لعمرو وهو أن عمرا أبا لزيد، وهذا محال لأنهما يعلمان معا ولا يعلم أحدهما بالآخر، وكذلك من يثبت أن وصفا من الأوصاف علم بقوله: الدليل عليه أن المحل الذي قام به عالم. وهو هوس إذ لا يعلم كون المحل عالما إلا مع العلم يكون الحال في المحل علما.

وقد تكون المقدمة متأخرة في المعرفة عن النتيجة فيكون قياسا دوريان وأمثلته في العقليات كثيرة، وأما في الفقهيات فكأن يقول الحنفيك تبطل صلاة المتيمم إذا وجد الماء في خلالها لأنه قدر على الإستعمال، وكل من قدر على استعمال الماء لزمه، ومن يلزمه استعمال الماء فلا يجوز له ان يصلي بالتيمم، فيجعل القدرة على افستعمال حدا أوسط وبطلان الصلاة نتيجة فيقال: إن أردت به القدرة حسا فيبطل بما لو وجده مملوكا للغير، وإن أردت به القدرة شرعا فيقال: ما دامت الصلاة قائمة يحرم عليه الأفعال الكثيرة، فيحرم الإستعمال، فالقدرة شرعا تحصل ببطلان الصلاة، فالبطلان منتج للقدرة والقدرة سابقة عليه سبق العلة على المعلول، أعني بالذات لا بالزمان، فكيف جعل المتأخر في الرتبة علة لما هو متقدم في الرتبة وهو البطلان؟ فهذه مثارات الغلط وقد حصرناها في سبعة أقسام، ويتشعب كل قسم إلى وجوه كثيرة لا يمكن إحصاؤها. فإن قيل: فهذه مغلطات كثيرة فمن الذي يتخلص منها؟ قلنا: هذه المغلطات كلها لا تجتمع في كل قياس بل يكون مثار الغلط في كل قياس محصورا والإحتياط فيه ممكن، وكل من راعى الحدود الثلاثة وحصلها في ذهنه معاني لا ألفاظا، ثم حمل البعض على البعض وجعلها مقدمتين، وراعى توابع الحمل كما ذكرنا في شروط التناقض، وراعى شكل القياس علم قطعا أن النتيجة اللازمة حق لازم، فإن لم يثق به فليعاود المقدمات ووجه التصديق وشكل القياس وحدوده

مرة أو مرتين، كما يصنع الحساب في حسابه الذي يرتبه إذ يعاوده مرة أو مرتين، فإن فعل ذلك ولم تحصل له الثقة والطمأنينة إذ يعاوده مرة أو مرتين، فإن فعل ذلك ولم تحصل له الثقة والطمأنينة فليهجر النظر وليقنع بالتقليد، فلكل عمل رجال، وكل ميسر لما خلق له. الفصل الثاني في بيان خيال السوفسطانية فإن قال قائل: إذا كانت المقدمات ضرورية صادقة والعقول مشتملة عليها، وهذا الترتيب الذي ذكرتموه في صورة القياس أيضا واضح، فمن أين وقع للسوفسطائية إنكار العلوم والقول بتكافؤ الأدلة؟ أو من أين ثارت الإختلافات بين الناس في المعقولات؟ قلنا: أما وقوع الخلاف فلقصور أكثر الأفهام عن الشروط التي ذكرناها، ومن يتأملها لم يتعجب من مخالفة المخالف فيها، لا سيما وأدلة العقول تنساق إلى نتائج لا يذعن الوهم لها، بل يكذب بها لا كالعلوم الحسابية، فإن الوهم والعقل يتعاونان فيها، ثم من لا يعرف الأمور الحسابية يعرف أنه لا يعرفها، وإن غلط فيها، فلا يدوم غلطه بل يمكن إزالته على القرب. واما العلوم العقلية فليس كذلك، ثم من السوفسطائية من أنكر العلوم الأولية والحسية، كعلمنا بأن الإثنين أكثر من الواحد، وكعلمنا بوجودنا وأن الشيء الواحد إما أن يكون قديما او حادثا،

فهؤلاء دخلهم الخلل من سوء المزاج وفساد الذهن بكثرة التحير في النظريات. وأما الذين سلموا الضروريات وزعموا أن الأدلة متكافئة في النظريات فإنما حملهم عليه ما رأوا من تناقض أدلة فرق المتكلمين، وما اعتراهم في بعض المسائل من شبه وإشكالات عسر عليهم حلها، فظنوا أنها لا حل لها أصلا، ولم يحملوا ذلك على قصور نظرهم وضلالهم وقلة درايتهم بطريق النظر، ولم يتحققوا شرائط النظر كما قدمناه، ونحن نذكر جملة من خيالاتهم ونحلها ليعرف أن القصور ممن ليس يحسن حل الشبه، وإلا فكل أمر إما أن يعرف وجوده ويتحقق أو يعرف عدمه ويتحقق، أو يعلم أنه من جنس ما ليس للبشر معرفته ويتحقق ذلك أيضا، ومثارات خيالهم ثلاثة أقسام: الأول: ما يرجع إلى صورة القياس؛ فمنها قول القائل: إن من أظهر ما ذكرتموه قولكم أن السالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، فإذا قلنا لا إنسان واحد حجر واحد إنسان، وتظنون أن هذا ضروري لا يتصور أنيختلف، وهو خطأ إذ حكم الحس به في موضع فظن أنه صادق في كل موضع. فإنا نقول: لا حائط واحد في وتد ولا نقول لا وتد واحد في حائط، ونقول: لا دن واحد في شراب، ولا نقول: لا شراب واحد دن، فنقول: نحن ادعينا أن ذات المحمول مهما عكس على ذات الموضوع بعينه اقتضى ما ذكرناه

كما نقول: لا دن واحد شراب فلا جرم يلزم بالضرورة إنه لا شراب واحد دن، لأن المباينة إذا وقعت فلا جرم يلزم بالضرورة إنه لا شراب واحد دن، لأن المباينة وقعت بين شيئين كلية كانت من الجانبين، إذ لو فرض الإتصال في البعض كذبت كون المباينة كلية، وهذا المثال لم يعكس على وجهه ولم يحصل المعنيات اللذان المباينة بينهما، فإذا حصل لزم العكس، فإنا إذا قلنا: لا حائط واحد في الوتد، فالمحمول قولنا في الوتد لامجرد الوتد، فإذا وقعت المباينة بين الحائط وبين الشيء الذي قدرناه في الوتد فعكسه لازم، وهو أن كل ما هو في الوتد فليس بحائط، فلا جرم نقول: لا شيء واحد مما هو في الوتد حائط ولا شيء واحد مما هو في الشراب دن، وحل هذا إنما يعسر على من يتلقى هذه الأمور من اللفظ لا من المعنى. وأكثر الأذهان يعسر عليها درك مجردات المعاني من غير التفات إلى الألفاظ. ومنها قول القائل: ادعيتم أن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية،

حتى إذا صح قولنا كل إنسان حيوان صح قولنا لا محالة بعض الحيوان إنسان. وليس كذلك فإنا نقول: كل شيخ قد كان شابا ولا نقول بعض الشبان قد كان شيخا، وكل خبز فقد كان برا ولا نقول بعض البر قد كان خبزا فنقول: مثار الغلط ترك الشرط في العكس، فإنه إذا أدخل بين الموضوع والمحمول قولنا قد كان، فإما أن يراعي في العكس وإما أن يلغى من كلتا القضيتين، فإن الغي هذا كذبت المقدمتان جميعا، وهو أن نقول كل شيخ حدث وكل حدث شيخ، وهو موضوع ومحمول مجرد، فإذا قلت: كل شيخ فقد كان شابا فعكسه بعض من كان شابا شيخ، وذلك مما يلزم لا محالة أن صدق الأول، فمن لم يتفطن لمثل هذه الأمور يضل فيحكم بلزوم الضلال في نفسه ويظن إلاّ طريق إلى معرفة الحق.

ومنها تشككهم في الشكل الأول وقولهم: أنكم ادعيتم كونه منتجا وقول القائل الإنسان وحده ضحاك وكل ضحاك حي فالإنسان وحده حي، فالنتيجة خطأ والشكل هو الشكل الأول فإنهما موجبتان كليتان، وإن جعلت قولنا الإنسان وحده ضحاك جزئية، جاز أن تكون هي الصغرى، ولا يشترط في الشكل الأول إلا كون الكبرى كلية فنقول منشأ الغلط ان قوله وحده لم يراع في المقدمة الثانية وأعيد في النتيجة، ولا يشترد في الشكل الأول إلا كون الكبرى كلية فنقول منشأ الغلط أن قوله وحده لم يراع في المقدمة الثانية وأعيد في النتيجة، فينبغي الإيعاد أيضا في النتيجة حتى يلزم أن الإنسان حي، أو يعاد في المقدمة الثانية حتى تصير كاذبة فيقال والضحاك وحده حي، فإن معنى قولنا الإنسان وحده ضحاك أن الإنسان دون غيره ضحاك، فهما على التحقيق مقدمتان: إحداهما أن الإنسان ضحاك، والأخرى أن غير الإنسان ليس بضحاك. فإذا قلت: والضحاك حي، حكمت على محمول إحدى المقدمتين، وهي قولك

الإنسان ضحاك وتركت الحكم على محمول المقدمة الثانية، وهي قولنا غير الإنسان ليس بضحاك، فإذا اقتصرت في إحدى المقدمتين على شيء فاقتصر في النتيجة عليه وقل الإنسان حي ولا تقل وحده، لأن الحكم يتعدى من الحد الأوسط إلى الأصغر مهما حكمت على الأوسط، والأوسط ههنا هو الضحاك مثبتا للإنسان منفيا عن غيره، فالحكم الذي على الضحاك ينبغي أن يكون محمول على جزئيه جميعا ولم تتعرض في المقدمة الثانية التي تذكر فيها محمول الأوسط للجزء الثاني من الأوسط؛ فمن أمثال هذا تضل الأذهان الضعيفة، والإنسان إذا تعذر عليه شيء لم تسمح نفسه بأن يحيل على عجز نفسه، فيظن أنه ممتنع في ذاته ويحكم بأن النظر ليس طريقا موصلا إلى اليقين وهو خطأ. ومنها قولهم: الإثنان ربع الثمانية، والثمانية ربع الإثنين والثلاثين، فالإثنان ربع الإثنين والثلاثين، وهذا من إهمال شرط الحمل في الإضافيات، وسببه ظاهر إذ نتيجة هذا أن الإثنين ربع ربع الإثنين والثلاثين، ثم إن صحت مقدمة أخرى وهي أن ربع الربع ربع، صح ما ذكروه.

وإذا قلنا: زيد مثل عمرو وعمرو مثل خالد، لم يلزم أن يكون زيد مثل خالد بل اللازم أن زيدا مثلا مثل مثل خالد، فإن صح لنا مقدمة أخرى وهي أن مثل المثل مثل، فعند ذلك تصح النتيجة فقد أهملوا مقدمة لا بد منها وهي كاذبة فليحترز عن مثله. ومنها قولهم: ممتنع أن يكون الإنسان حجرا وممتنع أن يكون الحجر حيان فممتنع ان يكون الإنسان حيا. وقد ذكرنا وجه الغلط فيه، وإنهما سالبتان لا ينتجان وضعا بصفة افيجاب، وكما أن الموجبة قد تظن سالبة في قولنا زيد غير بصير، فكذلك السالبة تظن موجبة في قولنا ممتنع أن يكون الإنسان حجرا؛ وكل ذلك لملاحظة الألفاظ دون تحقيق المعاني. ومنها قولهم: العظم لا في شيء من الكبد، والكبد في كل إنسان فالعظم لا في شيء من الإنسان، والنتيجة خطأ، فإذا تأملت هذا عرفت مثار الغلط فيه من الطريق الذي ذكرناه

وكذلك يتشكك في الشكل الثاني والثالث بأمثال ذلك، وبعد تعريف الطريق لا حاجة إلى تكثير الأمثلة؛ فهذه هي الشكوك في صورة القياس. القسم الثاني في الشكوك التي سببها الغلط في المقدمات. فمنها أنهم يقولون نرى أقيسة متناقضة، ولو كان القياس صحيحا لما تناقض موجبها. مثاله: من ادعى أن القوة المدبرة من الإنسان في القلب استدل عليه بأني وجدت الملك المدبر يتوطن وسط مملكته والقلب في وسط البدن. ومن ادعى أنهاف ي الدماغ استدل بأني وجدت أعالي الشيء أصفى وأحسن من أسافله والدماغ أعلى من القلب. ومثاله أيضا قول القائل: إن الرحيم لا يؤلم البريء عن الجناية، والله أرحم الراحمين فإذن لا يؤلم برئيا عن الجناية، وهذه النتيجة كاذبة إذ نرى أن الله تعالى يؤلم الحيوانات والبهائم والمجانين من غير جناية منهم، فنشك في قولنا أنه أرحم الراحمين، أو في قولن أن الريحم لا يؤلم من غير فائدة، مع القدرة على ترك الإيلام. ومثاله أيضا قول القائل: التنفس فعل إرادي كالمشي لا كالنبض، لأنا نقدر على الإمتناع منه؛ وقائل آخر يقول:

ليس بإرادي إذ لو كان إراديا لماكنا نتنفس في النوم ولكنا نقدر على الإمتناع منه في كل وقت أردنا كالمشي، ونحن لا نقدر على إمساك النفس في كل وقت فتناقض النتيجتان. ومثاله أيضا قولنا: أن كل موجود فأما متصل بالعالم وإما منفصل، وما ليس بمتصل ولا منفصل فليس بموجود، فهذا أولي. وقد ادعى جماعة بأقيسة مشهورة وأنتم منهم أن صانع العالم ليس داخل العالم ولا خارجه، فكيف يوثق بالقياس؟ وكذلك ادعى قوم أن الجوهر لا يتناهى في التجزي، ونحن نعلم ان كل ما له طرفان وهو محصور بينهما فهو متناهي، وكل جسم فله طرفان وهومحصور بينهما فهو إذن متناهي. وادعى قوم أنه يتناهى إلى جزء لا ينقسم، ونحن نعلم أن كل جوهر بين جوهرين فإنه يلاقي أحدهما بغير ما يلاقي به الآخر، فإذن فيه شيئان متغايران وهذا القياس أيضا قطعي كالأول بلا فرق ومثاله أيضا ما نعمل بالضرورة من أن الثقيل لا يقف في الهواء، وقد قال جماعة أن الأرض واقفة في الهواء والهواء محيط بها

والناس معتمدون عليها من الجوانب، حتى أن الواقفين على نقطتين متقابلتين من كرة الأرض تتقابل أخمص أقدامهما، ونحن بالضرورة نعلم ذلك؛ فهذا وأمثاله يدل على أن المقاييس ليست تورث الثقة واليقين، فنقول كما أن الأول شك نشأ من الجهل بصورة القياس فهذا نشأ من الجهل بمادة القياس، وهي المقدمات الصادقة اليقينية والفرق بينها وبين غيرها. فمهما سلم ما لا يجب أن يسلم لزم منه لا محالة نتائج متناقضة. فأما الأول من هذه الأمثلة فهو قياس ألف من مقدمات وعظيمة خطابية، إذ أخذ فيه شيء واحد ووجد على وجه فحكم به على الجميع. ونحن قد بينا ان الحكم على الجميع بجزئيات كثيرة ممتنع فكيف الحكم بجزئي واحد، بل إذا كثرت الجزئيات لم تفد إلا الظن، ثم لا يزال يزداد الظن قوة بكثرة الأمثلة ولكن لا ينتهي إلى العلم. وأما الثاني فمؤلف من مقدمات مشهورة جدلية سلم بعضها من حيث استبشع نقيضها، إما لما فيه من مخالفة الجماهير وإما لما فيه من مخالفة ظاهر لفظ القرآن، وكم من إنسان يسلم الشيء لأنه يستقبح منعه أو لأنه ينفر وهمه عن قبول نقيضه، وقد نبهنا على هذا في المقدمات. وموضع المنع فيه وصف الله بالرحمة على الوجه الظاهر الذي فهمه العامة، والله تعالى مقدس عنه، بل لفظ الرحمة والغضب مؤول في حقه كلفظ النزول والمجيء وغيرها، فإذا أخذ بالظاهر وسلم لا عن تحقيق لزمت النتيجة الكاذبة،

وكونه رحيما بالمعنى الذي تفهمه العامة مقدمة ليست أولية، وليس يدل عليها قياس بالشرط المذكور، فمحل الغلط ترك التأويل في مجل وجوبه، وعلىهذا ترى تناقض أكثر أقيسة المتكلمين، فإنهم ألفوها من مقدمات مسلمة لأجل الشهرة أو لتواضع المتعصبين لنصرة المذاهب عليها من غير برهان، ومن غير كونها أولية واجبة التسليم. وأما الثالث فاليقين والصحيح انه فعل إرادي، وقول من قال: لو كان إراديا لما كان يحصل في النوم ولكنه يحصل فيه فليس بإرادي، فهو شرطي متصل إستثنى فيه نقيض التالي واستنتج نقيض المقدم، فصورة القياس صحيحة ولكن لزوم التالي للمقدم غير مسلم، فإن الفعل الإرادي قد يحصل في النوم فكم من نائم يمشي خطوات مرتبة ويتكلم بكلمات منظومة، وقوله: لو كان إراديا لقدر على الإمتناع منه في كل وقت، فغير مسلم بل يأكل الإنسان ويبول بالإرادة ولا يقدر على الإمتناع في كل وقت، لكن يقدر علىالإمتناع في الجملة لا مقيدا بكل وقت، فإن قيد بكل وقت كان كاذبا ولم يسلم لزوم التالي للمقدم. وأما الرابع وهو أن كل موجود فأما متصل بالعالم أو منفصل، فهي مقدمة وهمية ذكرنا وجه الغلط فيها وميزنا الوهميات، وبينا أنها لا تصلح أن تجعل مقدمات في البراهين، وهو منشأ الضلال أيضا في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ ولكن ذكر الموضع الذي يغلط الوهم فيه طويل يستقصى في كتاب غير هذا الكتاب. وأما الخامس وهووقوف الأرض في الهواء فلا استحالة فيه، وقول القائل: كل ثقيل فمائل إلى أسفل،

والأرض ثقيلى فينبغي أن تميل إلى أسفل، ومن ذلك يلزم أن تخرق الهواء ولا تقف، غلط منشأه إهمال لفظ الأسفل وأنه ما معناه، فغن الأسفل يقابله أعلى فلا بد من جهتين متقابلتين، وتقابل الجهتين إما أن يكون بالإضافة إلى رأس الآدمي ورجله حتى لو لم يكن آدمي لم يكن أسفل ولا أعلى ولو انتكس آدمي لصار جهة الأسفل أعلى وهو محال، وإما أن يكون الأسفل هو أبعد المواضع عن الفلك المحيط وهنوالمركز، والأعلى هو أقرب المواضع إلى المحيط، فإن صح هذا فالأرض إذا كانت في المركز فهي في أسفل سافلين، فلا يتصور أن تنتقل لأن أسفل سافلين غاية البعد عن المحيط وهوالمركز، ومهما جاوزت المركز في أي جانب كان، فارقت الأسفل إلى جهة الأعلى، فإن كان المعنى بالأسفل هذا فما ذكروه ليس بمحال، وأن كان المعنى بالأعلى والأسفل ما يحاذي جهة رأسنا وقدمنا فما ذكروه محالن فتأمل جدا حد الأسفل حتى يتبين لك أحد الأمرين، وإنما تعرف ذلك بالنظر في حقيقة الجهة وأنها بم تتحد أطرافها المتقابلة، ولا يمكن شرحه في هذا الكتاب. فإذن هذه الأغاليط نشأت من تسليم مقدمات ليست واجبة التسليم، ومثاراتها قد جرى التنبيه عليها، فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره. القسم الثالث: شكوك تتعلق

بالنتيجة من وجه وبالمقدمة من وجه. منها قولهم: هذه النتائج إن حصلت من المقدمات فالمقدمات بماذا تحصل، وإن حصلت من مقدمات أخرى وجب التسلسل إلى غير النهاية وهو محال، وإن كانت حصلت من المقدمات التي تفتقر إلى مقدمات فهل هي علوم حاصلة في ذهننا منذ خلقنا، أو حصلت بعد أن لم تكن؟ فإن كانت حاصلة منذ خلقنا فكيف كانت حاصلة ولا نشعر بها، إذ ينقضي على الإنسان أطول عمره ولا يخطر بباله أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، فكيف يكون العلم بكونها متساوية حاصلا في ذهنه، وهو غافل عنه؟ وإن لم تكن حاصلة فينا أول الأمر ثم حدثت فكيف حدث علم لم يكن بغير اكتساب، وتقدم مقدمة يحصل بها وكل علم مكتسب فلا يمكن إلا بعلم قد سبق ويؤدي إلى التسلسل؟ قلناك كل علم مكتسب فبعلم قد سبق اكتسب، إذ العلم إما تصور أو تصديق، والتصور بالحد وأجزاء الحد ينبغي أن تعلم قبل الحد، فماذا ينفع قولنا في تحديد الخمر: إنه شراب مسكر معتصر من العنب لمن لا يعرف الشراب والمسكر والعنب والمعتصر؟ فالعلم بهذه الأجزاء سابق، ثم هي أيضا إن عرفت بالتحديد وجب أن يتقدمها علم بأجزاء الحد ويتسلسل، ولكن ينتهي إلى تصورات هي أوائل عرفت بالمشاهد بحس باطن أو ظاهر من غير تحديد، وعليها ينقطع. وكذلك التصديق بالنتيجة فإنه يستدعي تقدم العلم بالمقدمات لا محالة، وكذا المقدمات إلى ان يرتقي إلى أوائل حصل التصديق بها لا بالبرهان،

فيبقى قولهم: إن تلك الأوائل كيف كانت موجودة فينا ولا نشعر بها أو كيف حصلت بعد أن لم تكن من غير اكتساب ومتى حصلت؟ فنقول: تيك العلوم غير حاصلة بالفعل فينا في كل حال، ولكن إذا تمت غريزة العقل فتيك العلوم بالقوة لا بالفعل، ومعناه أن عندنا قوة تدرك الكليات المفردات بإعانة من الحس الظاهر والباطن، وقوة مفكرة حادثة للنفس شأنها التركيب والتحليل وتقدر على نسبة المفردات بعضها إلى بعض، وعندنا قوة تدرك ما أوقعت القوة المفكرة النسبة بنيهما من المفردات والنسبة بينهما بالسلب والإيجاب، فتدرك القديم والحادث وتنسب أحدهما إلى الآخر، فتسبق القوة العاقلة إلى الحكم بالسلب، وهو أن القديم لا يكون حادثا، وتنسب الحيوان إلى الإنسان فتقضي بأن النسبة بينهما الإيجاب، وهو أن الإنسان حيوان. وهذه القوة تدرك بعض هذه النسب من غير وسط، ولا تدرك بعضها فتتوقف إلى الوسط، كما تدرك العالم والحادث والنسبة بينهما، فلا تقضي بالسلب كما قضت بين القديم والحادث، ولا يالإيجاب كما قضت في الحيوان والإنسان، بل تتوقف إلى طلب وسط وهو أن تعرف انه لا يفارق الحوادث فلا يسبقها، وإن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. فإن قيل: فهذه التصديقات قسمتموها إلى ما يعرف بوسط وإلى ما يعرف معرفة اولية بغير وسط، ولكن هذه التصديقات يسبقها التصورات لا محالة، إذ لا يعلم أن

العالم حادث من لم يعلم الحادث مفردا والعالم مفردا، ولا يعلم الحادث إلا من علم وجودا مسبوقا بعدم، ولا يعلم الوجود المسبوق بعدم من لا يعلم العدم والوجود والتقدم والتأخر، وإن التقدم هنا هو للعدم والتأخر للوجود؛ فهذه المفردات لا بد من معرفتها، وإما مدركها فغن كان هذا الحس فالحس لا يدرك إلا شخصا واحدا فينبغي أن لا يكون التصديق إلا في شخص واحد، فإذا رأى شخصا وجملته اعظم من جزئه فلم يحكم بأن كل شخص فكله أعظم من جزئه، وهو لم يشاهد بحسه إلا شخصا معينا، فليحكخم على ذلك الشخص المعين وليتوقف في سائر الأشخاص إلى المشاهدة، وإن حكم على العموم بان كل فهو أعظم من الجزء، فمن أين له هذا الحكم وحسه لم يدرك إلا شخصا جزئيا؟ قلنا الكليات معقولة لا محسوسة والجزئيات محسوسة لا معقولة، والأحكام الكلية للعقل على الكليات المعقولة، وينكشف هذا بالفرق بين المعقول والمحسوس، فإن الإنسان معقول وهو محسوس يشاهد في شخص زيد مثلا، ونعني بكونه مدركا من وجهين أن الإنسان المحسوس قط لا يتصور أن يحس إلا مقرونا بلون مخصوص وقدر مخصوص ووضع مخصوص وقرب او بعد مخصوص، وهذه الأمور عرضية مقارنة للإنسانية ليست ذاتية فيها، فإنها لو تبدلت لكان الإنسان هو ذلك الإنسان. فأما الإنسان المعقول فهو إنسان فقط، يشترك فيه الطويل والقصير

والقريب والبعيد والأسود والبيض والأصغر والأكبر إشتراكا واحدا، فإذن عندك قوة يحضرها الإنسان مقترنا بامور غريبة عن الإنسانية، ولا يتصور أن تحضرها إلامقرونة بهذه الأمور الغريبة فتسمى تلك القوة حسا وخيالا، وعندك قوة أخرى يحضرها الإنسان مجردا عن الأمور الغريبة، وإن فرضت أضدادها لم تؤثر فيه وتسمى تلك قوة عاقلة، فقد ظهر لك أن بين إدراك الحس للشخص المعين الذي تكتنفه أعراض غريبة لا تدخل في ماهيته، وبين إدراك العقل بمجرد ماهية الشيء غير مقرون بما هو غريب عنه، غاية التباعد والأحكام الكلية على الماهية الكلية المجردة عن المواد والأعراض الغريبة. فإنقيل: وكيف حصل بمشاهدة شخص جزئي علم كلي؟ وكيف أعان الحس على تحصيل ما ليس بمحسوس؟ قلنا: الحس يؤدي إلى القوة الخيالية مثل المحسوسات وصورها حتى يرى الإنسان شيئا، ويغمض عينيه فيصادف صورة الشيء حاضرة عنده على طبق المشاهد، حتى كأنه ينظر إليه بالقوة الخيالية غير قوةالحس، وليست هذه القوة لكل الحيوانات بل من الحيوانات ما تغيب صورة المحسوس عنه بغيبة المحسوس، وإنما بقاء هذه الصور بالقوة الحافظة لما انطبع في الخيال، إذ ليس يحفظ الشيء ما يقبله بالقوة التي تقبله إذ الماء يقبل النقش ولا يحفظه، والشمع يقبل ويحفظ، فالقبول بالرطوبة والحفظ باليبوسة. ثم هذه المثالات والصور إذا حصلت في القوة الخيالية، فالقوة الخيالية

تطالعها ولا تطالع المحسوسات الخارجة، فإذا طالعتها وجدت عندها مثلا صورة شجرة وحيوان وحجر، فتجدها متفقة في الجسمية ومختلفة في الحيوانية، فتميز ما فيه الإتفاق وهو الجسمية وتجعله كليا واحدا، فتعقل الجسم المطلق وتأخذ ما فيه الإختلاف وهوالحيوانية وتجعله كليات اخرى مجردة عن غيرها من القرائن، ثم تعرف ما هو ذاتي وماهوغريب فتعلم أن الجسمية للحيوان ذاتي، إذ لو انعدم لانعدم ذاته، وأن البياض للحيوان ليس كذلك فيتميز عندها الذاتي من غير الذاتي والأعم عن الأخص، وتكون تلك مبادي التصورات النوعية؛ فهذه المفردات الكلية حاصلة بسبب الإحساس وليست محسوسة، ولا يتعجب من أن يحصل مع الإحساس ما ليس بمحسوس، فإن هذا موجود للبهائم إذ الفارة تميز السنور وتدركه بالحس وتعرف عداوته لها، والسخلة تدرك موافقة أمها لها فتتبعها. والعداوة او الموافقة ليست بمحسوس بل هي مدرك قوة عند الحيوان تسمى الوهم أو المميز، وهي للحيوان كالعقل من الجزئيات الخيالية مفردات كلية تناسب الخيال من وجه وتفارق من وجه،

وسنبين وجه مناسبته له ومفارقته في كتاب أحكام الوجود وأقسامه. وحاصل الكلام أن العلوم الأول بالمفردات تصورا وبما لها من النسب تصديقا، تحدث في النفس من الله تعالى أو من ملك من ملائكته عند حصول قوة العقل للنفس، وعند حصول مثل المحسوسات في الخيال ومطالعته لها، والقوة العقلية كأنها القوة الباصرة في العين ورؤية الجزئيات الخيالية كتحديق البصر إلى الأجسام المتلونة، وإشراق نور الملك على النفوس البشرية يضاهي إشراق نور السراج على الأجسام المتلونة أو إشراق نور الشمس عليها، وحصول العلم بنسبة تلك المفردات يضاهي حصول الأبصار بائتلاف ألوان الأجسام، ولذلك شبه الله تعالى هذا النور على طريق ضرب مثال محسوس بمشكاة فيها مصباح، وإن بان لك أن النفس جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا هو منطبع في جسم كان قوله تعالى: (زيتونَةٍ لا شَرقِيَةٍ وَلا غَربِيَة) موافقة لحقيقته في براءته عن الجهات كلها، وإن لم يبين لك ذلك بطريق النظر فيكون تأويل هذا مثيل على وجه آخر. والمقصود من هذا كله أن يتضح لك وجه حصول العلوم الأولية تصورا وتصديقا، فإن معرفة ذلك من أهم الأمور وإياه قصدنا، وإن أوردناه في معرض إبطال السفسطة فهذا مدخل واحد من مداخل المتشككين وأهل الحيرة وقد كشفناه. ومنها قولهم: أن الطريق الذي ذكرتموه في الإنتاج لا ينتفع به، لأن من علم المقدمات على شرطكم فقد عرف النتيجة مع تلك المقدمات، بل في المقدمات عين النتيجة، فإن من عرف أن الإنسان حيوان

وأن الحيوان جسم، فيكون قد عرف في جملة ذلك أن الإنسان جسم، فلا يكون العلم بكونه جمسا علما زائدا مستفادا من هذه المقدمات. قلنا: العلم بالنتيجة علم ثابت زائد على العلم بالمقدمتين. وأما مثال الإنسان والحيوان فلا نورده إلا للمثال المحض، وإنما ينتفع بهب فيما يمكن أن يكون مطلوبا مشكلا، وليس هذا من هذا الجنس بل يمكن أن لا يتبين للإنسان النتيجة، وإن كان كل واحدة من المقدمتين بينة عنده فقد يعلم الإنسان أن كل جسم مؤلف، وأن كل مؤلف حادث، وهو مع ذلك غافل عن نسبة الحدوث إلى الجسم، وأن الجسم حادث فنسبة الحدوث إلى الجسم غير نسبة الحدوث إلى المؤلف، وغير نسبة المؤلف إلى الجسم بل هو علم حادث يحصل عند حصول المقدمتين وإحضارهما معا في الذهن، مع توجه النفس نحو طلب النتيجة.

فإن قال قائل: إذا عرفت ان كل اثنين زوج فهذا الذي في يدي زوج أم لا؟ فإن قلت: لا أدري فقد بطل دعواك بأن كل إثنين زوج، فإنه إثنان ولم تعرف أنه زوج، وإن قلت أعرفه فما هو؟ قلنا: قد يجاب عن هذا بأن من قال

أن كل اثنين زوج فيعني به أن كل إثنين نعرفه إثنين فهو زوج، وما في يدك لم نعرف أنه إثنان. وهذا الجواب فاسد بل كل إثنين فهو في نفسه زوج، سواء عرفناه أو لم نعرفه، لكن الجواب أن نقول: إن كان ما في يدك إثنين فهو زوج. فإن قلت: فهل هو إثنان فأقول: لا أدري. وهذا الجهل لا يضاد قولي إن كل اثنين زوج، بل ضده أن أقول: كل إثنين ليس بزوج أو بعض الإثنين ليس بزوج. فإذن ينبغي أن نتعرف أنه هل هو بزوج أو بعض الإثنين ليس بزوج. فإذن ينبغي أن نتعرف أنه هل هو إثنان، فإن عرفنا أنه إثنان علمنا انه زوج، وأخطرنا ذلك بالبال ويتصور أن تغفل عن النتيجة مع حضور المقدمتين، فكم من شخص ينظر إلى بغلة منتفخة البطن فيظن أنها حامل. ولو قيل له: أما تعلم أن هذه بغلة؟ فيقول: نعم. ولو قيل له: أما تعلم أن البغل لا يحمل؟ لقال: نعم. فلو قيل: فلم غفلت عن النتيجة وظننت ضدها؟ فيقول: لأني كنت غافلا عن تأليف المقدمتين وإحضارهما جميعا في الذهن متوجها إلى طلب

النتيجة؛ فقد انكشف بهذا أن النتيجة، وإن كانت داخلة تحت المقدمات بالقوة

دخول الجزئيات تحت الكليات، فهي علم زائد عليها بالفعل. ومنها قول بعض المتشككين: أنك لو طلبت بالتأمل علما فذلك العلم تعرفه أم لا، فإن عرفته فلم تطلبه وإن لم تعرفه فإن حصلته فمن أين تعلم أنه مطلوبك؟ وهل أنت إلا كمن يطلب عبدا آبقا لا يعرفه فإن وجده لم يعرف أنه هو أم لا؟ فنقول: العلم الذي نطلبه نعرفه من وجه ونجهله من وجه إذ نعرفه بالتصور بالفعل ونعرفه بالتصديق بالقوة، ونريد أن نعرفه بالتصديق بالفعل، فإنا إذا طلبنا العلم بأن العالم حادث فنعلم الحدوث والعالم بالتصور، وإنا قادرون على التصديق به إن ظهر حد أوسط بين العالم والحدوث، كمقارنة الحوادث أو غيرها؛ فإنا نعلم أن المقارن للحوادث حادث، فإن علمنا ان العالم مقارن للحوادث علمنا بالفعل أنه حادث، وإذا علمناه عرفنا أنه مطلوبنا إذ لو لم نعرفه بالتصور من قبل لما عرفنا أنه المطلوب، ولو كنا نصدق به بالفعل لما كنا نطلبه كالعبد الآبق نعرفه بالتصور والتخيل من وجه ونجهل مكانه، فإذا أدركه الحس في مكانه دفعة علمنا أنه المطلوب، ولو لم نكن نعرفه لما عرفناه عند الظفر به، فلو عرفناه من كل وجه أي عرفنا مكانه لما طلبناه؛ فهذا ما أردنا أن نورده من الشبه المشككة المحيرة للسوفسطائية، ولم يكن الغرض في إيراده مناظرتهم بل الكشف عن هذه الدقائق. فإن

طالب اليقين بمسالك البراهين ينتفع بمعرفتها غاية الإنتفاع، وإلا فالسوفسطائي كيف يناظر ومناظرته في نفسه إعتراف بطريق النظر، ولا ينبغي أن يتعجب من إعتقاد السفسطة والحيرة مع وضوح المعقولات، فإن ذلك لا يتفق إلا على الندور لمصاب في عقله بآفة؛ فإنا نشاهد جماعة من أرباب المذاهب هم السوفسطائية والناس غافلون عنهم، فكل من يناظر في إيجاب التقليد أو إبطال النظر سوفسطائي في الزجر عن النظر لا مستند لهم، إلا أن العقول لا ثقة بها والإختلاف فيها كثيرة، فسلوك طريق الأمن وهو التقليد أولى. فإذا قيل لهم: فهل قلدتم صدق نبيكم وتميزون بينه وبين الكاذب أم تقليدكم كتقليد اليهود والنصارى، فإن كان كتقليدهم فقد جوزتم كونكم مبطلين وهذا كفر عندكم، وإن لم تجوزوه فتعرفونه بالضرورة أو بنظر العقل، فإن عرفتموه بالنظر فقد أثبتم النظر. وقد اختلف الناس في هذا النظر وهو تصديق الأنبياء كمااختلفوا في سائر النظريات. وفي إثبات صدق الأنبياء بالمعجزات من الأغوار والأغماض ما لا يكاد يخفى على النظار، وبهذا الإعتقاد صاروا أخس رتبة من السوفسطائي فإنهم مثبتون بإنكار النظر ونافون إذ أثبتوا النظر في معرفة صدق النبي. وأما السوفسطائي فقد طرد قياسه في إنكار المعرفة الكلية، ومن هذا الجنس باطنية الزمان فإنهم خدعوا بكثرة الإختلافات بين النظار، ودعوا إلى اعتقاد بطلان نظر العقل ثم دعوا إلى تقليد أمامهم المعصوم. وإذا قيل لهم: بماذا عرفتم عصمة أمامكم وليس يمكن دعوى الضرورة فيه؟ دعوا فيه إلى أنواع من النظر يشترك إستعمالها في الظنيات، ولا تعرض على الإثنين إلا ويختلفان فيها، ولا يستدلون بكونه نظريا واقعا في محل الإختلاف على بطلانه،

ويحكمون على سائر النظريات بالبطلان لتطرق الخلاف فيها، وهذا وأمثاله سبب آفات تصيب العقل فيجري مجرى الجنون، ولكن لا يسمى جنونا والجنون فنون، والذين ينخدعون بأمثال هذه الخيالات هم أخس من أن نشتغل بمناظرتهم؛ فلنقتصر على ما ذكرناه في بيان أسباب الحيرة، والله اعلم.

؟ النظر الرابع في لواحق القياس وهي فصول متفرقة بمعرفتها تتم معرفة البراهين فصل في الفرق بين قياس العلة وقياس الدلالة إعلم أن الحد الأوسط إن كان علة للحد الأكبر سماه الفقهاء قياس العلة، وسماه المنطقيون برهان اللم أي ذكر ما يجاب به عن لم، وإن لم يكن علة سماه الفقهاء قياس الدلالة. والمنطقيون سموه برهان اأن أي هو دليل على أن الحد الأكبر موجود للأصغر من غير بيان علته. ومثال قياس العلة من المحسوسات قولك: هذه الخشبة محترقة لأنها أصابتها النار، وهذا الإنسان شبعان لأنه أكل الآن. وقياس الدلالة عكسه وهو أن يستدل بالنتيجة على المنتج فنقول: هذا شبعان فإذا هو قريب العهد بالأكل، وهذه المرأة ذات لبن فهي قريبة العهد بالولادة.

ومثاله من الفقه قولك: هذه عين نجسة فإذن لا تصح الصلاة معها، وقياس الدلالة عكسه وهو أن نقول هذه عين لا تصح الصلاة معها فإذن هي نجسة. وبالجملة الإستدلال بالنتيجة على المنتج يدل على وجوده فقط لا على علته، فإنا نستدل بحدوث العالم على وجود المحدث، وبوجود الكتابة المنظومة على علم الكاتب، ونجعل الكتابة حدا أوسط والعلم حدا أكبر، ونقول كل من كتب منظوما فهو عالم بالكتابة، والكتابة ليست علة للعلم بل العلم أولى بأن نقدر عليته. وكذلك إذا تلازمت نتيجتان بعلة واحدة جاز أن يستدل بإحدى النتيجتين على الأخرى فيكون قياس دلالة. ومثاله من الفقه قولنا: إن الزنا لا يوجب المحرمية فلا يوجب حرمة النكاح، فإن تحريم النكاح وحل النظر متلازمان، وهما نتيجتان للوطء المقتضي لحرمة المصاهرة، فإذا ثبت تلازمهما لعلة واحدة دل وجود إحداهما على وجود الأخرى، فإن اختلف شرطهما لم يمكن الإستدلال لإحتمال افتراقهما في الشرط، وكما انقسم قياس الدلالة إلى نوعين فقياس العلة أيضا ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون الأوسط فيه علة للنتيجة ولا يكون علة لوجود الأكبر في نفسه، كقولنا:

كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم. فالإنسان إنما كان جسما من قبل أنه حيوان والجسمية أولا للحيوان، ثم بسببه للإنسان، فإذا الحيوان علة لحمل الجسم على الإنسان لا لوجود الجسمية، فإن الجسمية تتقدم بالذات في ترتيب الأنواع والأجناس على الحيوان. واعلم أن ما ثبت للنوع من حمل الجنس عليه، وكذا جنس الجنس، وكذا الفصول والحود واللوازم إنما تكون من جهة الجنس، ويكون الجنس علة في حمله على النوع لا في وجود ذات المحمول أعني محمول النتيجة. والقسم الثاني: ما يكون علة لوجود الحد الأكبر على الإطلاق لا كهذا المثال، وقد لا يكون على الإطلاق كالشيء الذي له علل متعددة، فإن آحاد العلل لا يمكن أن تجعل علة للحد الأكبر مطلقا، بل هي علة في وقت مخصوص ومحل مخصوص، ومثاله في الفقه؛ إن العدوان علة للتأثيم على الإطلاق، والزنا علة للرجم على الإطلاق، والردة ليست علة للقتل على الإطلاق، فإن القتل يجب على سبيل القصاص وغيره، ولكن تكون علة للقتل في حق شخص مخصوص، وذلك لا يخرجه عن كونه قياس العلة. ؟ فصل في بيان اليقين البرهان الحقيقي ما يفيد شيئا لا يتصور تغيره، ويكون ذلك بحسب مقدمات البرهان فإنها تكون يقينية أبدية، لا تستحيل ولا تتغير أبدا، وأعني بذلك أن الشيء لا يتغير

وأن غفل إنسان عنه كقولنا: الكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية وأمثالها، فالنتيجة الحاصلة منها أيضا تكون يقينية، والعلم اليقيني هو أن تعرف أن الشيء بصفة كذا مقترنا بالتصديق بأنه لا يمكن ان لا يكون كذا، فإنك لو أخطرت ببالك إمكان الخطأ فيه والذهول عنه لم ينقدح ذلك في نفسك أصلا، فإن إقترن به تجوز الخطأ وإمكانه فليس بيقيني؛ فهكذا ينبغي أن تعرف نتائج البرهان، فإن عرفته معرفة على حد قولنا فقيل لك خلافه حكاية عن أعظم خلق الله مرتبة وأجلهم في النظر والعقليات درجة، وأورث ذلك عندك احتمالا، فليس اليقين تاما، بل لو نقل عن نبي صادق نقيضه فينبغي أن يقطع بكذب الناقل أو بتأويل اللفظ المسموع عنه، ولا يخطر ببالك إمكان الصدق، فإن لم يقبل التأويل فشك في نبوة من حكى عنه بخلاف ماعقلت إن كان ما عقلته يقينا فإن شككت في صدقه لم يكن يقينك تاما. فإن قلت: ربما ظهر لي برهان صدقة ثم سمعت منه ما يناقض برهانا قامعندي. فأقول: وجود هذا يستحيل كقول القائل لو تناقضت الأخبار المتواترة فما السبيل فيها كما لو تواتر وجود مكة وعدمها؟ فهذا محال، فالتناقض في البراهين الجامعة للشروط التي ذكرناها محال، فإن رأيتها متناقضة فاعلم أن أحدهما أو كلاهما لم يتحقق فيه الشروط المذكورة فتفقد مظان الغلط والمثارات السبع التي فصلناها، وأكثر الغلط يكون في المبادرة إلى تسليم مقدمات البرهان على أنها أولية ولا تكون أولية، بل ربما تكون محمودة مشهورة أو وهمية،

ولا ينبغي أن تسلم المقدمات ما لم يكن اليقين فيها على الحد الذي وصفناه. وكما يظن فيما ليست أولية أنها أولية فقد يظن بالأوليات أنها ليست أولية فيشكك فيها، ولا يتشكك في الأوليات إلا بزوال الذهن عن الفطرة السليمة، لمخالطة بعض المتكلمين المتعصبين للمذاهب الفاسدة بمجاحدة الجليات حتى تأنس النفس بسماعها فيشك في اليقيني، كما أنه قد يتكرر على سمعه ما ليس يقينا من المحمودات فتذعن للتصديق به وتظن أنه يقيني بكثرة سماعه، وهذا أعظم مثارات الغلط ويعز في العقلاء من يحسن الإحتراز من الإغترار به. فإن قلت فمثل هذا اليقين عزيز يقل وجوده فتقل به المقدمات. قلنا: ما يتساعد فيه الوهم والعقل من الحسابيات والهندسيات والحسيات كثير، فيكثر فيها مثل هذه اليقينيات، وكذا المعقولات التي لا تحاذيها الوهميات فأما العقليات الصرفة المتعلقة بالنظر في الإلهيات ففيها بعض مثل هذه اليقينيات، ولا يبلغ اليقين فيها إلى الحد الذي ذكرناه إلا بطول ممارسة العقليات، وفطام العقل عن الوهميات والحسيات وإيناسها بالعقليات المحضة، وكلما كان النظر فيها أكثر والجد في طلبها أتم كانت المعارف فيها إلى حد اليقين التام أقرب، ثم من طالت ممارسته وحصلت له ملكة بتلك المعارف لا يقدر على إفحام الخصم فيه ولا يقدر على تنزيل المسترشد منزلة نفسه، بمجرد ذكر ما عنده إلا بأن يرشده إلى أن يسلك مسلكه في ممارسة العلوم وطول التأمل حتى يصل إلى ما وصل إليه إن كان صحيح الحدس ثاقب العقل صافي الذكاء، وإن فارقه في الذكاء أو في الحدس أو تولي الإعتبار الذي تولاه لم يصل إلى ما وصل إليه، وعند ذلك يقابل ما يحكيه عن نفسه بالإنكار ويشتغل بالتهجين والإستبعاد، وسبيل العارف البصير أن يعرض عنه صفحا بل لا يبث إليه أسرار ما عنده، فإن ذلك أسلم لجانبه وأقطع لشغب الجهال، فما كل ما يرى يقال بل صدور الأحرار قبور الأسرار.

فصل في أمهات المطالب إعلم أن المطلوبات من العلوم بالسؤال عنها أربعة أقسام بسبب إنتساب كل واحد إلى الصيغة التي بها يسأل عنه: الأول: مطلب " هل " وهذا السؤال أعني صيغة هل، يتوجه نحو طلب وجود الشيء في نفسه كقولنا: الله موجود وهل الخلاء موجود؟ أو نحو وجود صفة أو حال لشيء كقولنا: هل الله مريد وهل العالم حادث؟ فيسمى الأول مطلب هل مطلقا والثاني مطلب هل مقيدا. والثاني: مطلب " ما " ويعرف به التصور دون التصديق، وذلك إما بحسب الإسم كقولك: ما الخلاء وما عنقاء مغرب؟ أي ما الذي تريد باسمه؟ وهذا يتقدم كل مطلب فإن من لم يفهم معنى العالم والحدوث لا يمكن أن يسأل: هل العالم موجود؟ ومن لم يتصور معنى الدال لا يمكنه أن يسأله عن وجود. وإما أن يكون الطلب بحسب حقيقة الذات كقولك: ما الإنسان وما العقار؟

وأنت تطلب به حده إذا عرفت أن المراد باسم العقار هو الخمر، وهذا يتأخر عن مطلب " هل " فإن من لا يعتقد للخمر وجودا لا يسأل عن حده. والثالث: مطلب " لم " وهو طلب العلة لجواب هل كقولك: لم كان العالم حادثا؟ وهو إما طلب علة التصديق كقولك: لم قلت أن الله موجود؟ فإنه لا يطلب العلة في وجوده بل العلة في وقوع التصديق بوجوده، وهو برهان الآن بلغة المنطقيين، وقياس الدلالة بلغة المتكلمين، وإما طلب علة الوجود كقولك لم حدث العالم؟ فنقول: لإرادة محدثة. والرابع مطلب: " أي " وهو الذي يطلب به تميز الشيء عما عداه، فهذه أمهات المطالب والأسئلة. فأما مطلب " أين ومتى وكيف " فليست من الأمهات فإنها داخلة بالقوة تحت مطلب " هل " المقيد إن وقع التفطن له بالسؤال بصيغة هل، وإن لم يقع كانت مطالب خارجة عما عددناها. فصل في بيان معنى الذاتي والأولي أما الذاتي فيطلق على وجهين: أحدهما أن يكون المحمول مأخوذا في حد الموضوع مقوما له داخلا في حقيقة كقولنا: الإنسان حيوان، فيقالك الحيوان ذاتي للإنسان أي هو مقوم له كما سبق بيانه.

وإما أن يكون الموضوع مأخوذا في حد المحمول كقولنا: بعض الحيوان إنسانن فإن المحمول هو الإنسان ههنا لا الحيوان، والإنسان لا يؤخذ في حد الحيوان بل الحيوان يؤخذ في حد الإنسان، فكل شيئين لا يؤخذ أحدهما في حد الآخر فليس أحدهما ذاتيا للآخر. وقد يمثل بالفطوسة في الأنف فإنه ذاتي للأنف بالمعنى الأخير، إذ لا يمكن تحديد الفطوسة إلا بذكر الأنف في حده. وأما الأولى فإنه يقال أيضا على وجهين: أحدهما ما هو أولي في العقل أي لا يحتاج في معرفته إلى وسط كقولنا: الإثنان أكثر من الواحد. والثاني أن يكون بحيث لا يمكن إيجاب المحمول أو سلبه على معنى آخر أعم من الموضوع؟ فإذا قلنا: الإنسان يمرض ويصح، لم يكن أوليا له بهذا المعنى إذ يقال على ما هو أعم منه وهو الحيوان: نعم هو للحيوان أولى، لأنه لا يقال على ما هو أعم منه، وهو الجسم؛ وكذلك قبول الإنتقال للحيوان ليس بأولى إذ يقال على ماهو أعم منه وهو الجسم، فإنه لو إرتفع الحيوان بقي قبول الإنتقال، ولو ارتفع الجسم لم يبق. فصل فيما يلتئم به أمر البراهين وهي ثلاثة: مبادي وموضوعات ومسائل. فالموضوعات نعني بها ما يبرهن فيها،

والمسائل ما يبرهن عليها، والمبادي ما يبرهن بها. والمراد بالمبادي المقدمات، وقد ذكرناها. وأما الموضوعات فهي الأمور التي توضع في العلوم وتطلب أعراضها الذاتية، أعني الذاتية بالمعنى الثاني من المعنيين المذكورين، ولكل علم موضوع: فموضوع الهندسة المقدار، وموضوع الحساب العدد، وموضوع لنحو لغة العرب منجهة ما يختلف إعرابها، وموضوع الفقه أفعال المكلفين من جهة ما ينهى عنها أو يؤمر بها أو يباح أو يندب أو يكره، وموضوع أصول الفقه أحكام الشرع، أعني الوجوب والحظر والإباحة من جهة ما تدرك به من أدلتها، وموضوع المنطق تمييز المعقولات وتلخيص المعاني. وأما المسائل فهي القضايا الخاصة بكل علم، التي يطلب المعرفة في العلوم بأحد طرفيها: إما النفي وإما الإثبات كقولنا في الحساب: هذا العدد إمازوج او فرد، وفي الهندسة: هذا المقدار مساو أو مباين، وفي الفقه: هذا الفعل حلال أوحرام أو واجب،

وفي العلم الإلهي: هذا الموجود قديم أو حادث وهذا الموجود له سبب أو ليس له سبب. والمقصود أن محمول المسائل إن كان مطلوبا بالنظر فلا يجوز أن يكون ذاتيا للموضوع بالمعنى الأول، لأنه إذا كان كذلك كان معلوما قبل العلم بالموضوع، فإن الحيوان الذي هو ذاتي للإنسان بمعنى أنه وجد في حده لا يجوز أن يكون مطلوبا فغن من عرف الإنسان فقد عرف كونه حيوانا قبله لا محالة، فإن أجزاء الحد يتقدم العلم بها على العلم بالمحدود، ولكن الذاتي بالمعنى الثاني وهو المطلوب، وأما كل محمول ليس المعنى الثاني ولا بالمعنى الأول فإنه يسمى غريبا كقولنا في الهندسة عند النظر في الخطوط: هذا الخط حسن أو قبيح، لأن الحسن والقبح لا يؤخذ في حد الخط ولا الخط في حده، بل الذاتي لذاته مستقيم أو منحني وأمثاله. وكذا قولنا في الطب: هذا الجرح مستدير أو مربع، فإنه محمول غريب للجرح إذ لا يؤخذ واحد منهما في حد الآخر، وإنما هو ذاتي للأشكال. وقد يكون المحمول ذاتيا للموضوع بالمعنى الثاني، ولكن يكون غريبا بالإضافة إلى العلم الذي يستعمل فيه كقولنا في الفقه: هذه الحركة سريعة أو بطيئة، فإن السرعة والبطء ذاتي للحركة، ولكن إنما يطلب في العلم الطبيعي، والمطلوب في الفقه ذاتي آخر وهو كونه واجبا أو محظورا أو مباحا. وإذا قلنا في العلم الطبيعي: هذا الفعل حلال أو حرام

كان غريبا من العلم. فإن قيل: فهل يجوز أن يكون المحمول في المقدمتين ذاتيا بالمعنى الأول؟ قلنا: لا، لأنه إن كان كذلك تكون النتيجة معلومة، فإذا قلنا: الإنسان حيوان والحيوان جسم فالإنسان جسم، كان العلم بالنتيجة غير مطلوب فإن منعرف الإنسان فقد عرف جميع أجزاء حده وهو الجسم والحيوان. نعم لا يبعد أن لا يكون كل واحد ذاتيا بالمعنى الثاني، بل إن كان أحدهما ذاتيا بالمعنى الثاني كفى، سواء كان هي الصغرى أو الكبرى. فإن قيل: فلم قلتم أن الذاتي بالمعنى الأول لا يكون مطلوبا، ونحن نطلب العلم بأن النفس جوهر أم لا، والجوهرية للنفس ذاتية إذ منعرف النفس فيعرف كونه جوهرا إن كان جوهرا؟ قلنا: من عرف النفس لم يتصور منه طلب كونه جوهرا، إذ معرفة جوهريته سابقة على المعرفة به، لكنا إذا طلبنا أن النفس جوهر أم لا لم يكن عرفنا من النفس إلا أمرا عارضا له وهو المحرك والمدرك، ويكون ذلك مثل الأبيض للثلج، والمطلوب جنس المعروض له وهو غير مقوم لماهية العارض، أعني الجوهرية ليس مقوما للمدرك والمحرك تقويم الذاتيات، وكذلك كلما حصل عندنا خياله أو إسمه لا حقيقته، أمكن أن نطلب جنس ذلك حصل لنا إسمه أو خياله، فأما على غير هذا الوجه فلا يمكن.

فصل في حل شبهة في القياس الدوري فإن قال قائل: فلم قضيتم ببطلان البرهان الدوري؟ ومعلوم أنه إذا سأل الإنسان عن الأسباب والمسببات على ما أجرى الله سنته بإرتباط البعض منها بالبعض ففيها ما يرجع بالدور إلى الأول إذ يقال: لم كان السحاب؟ فيقال: لأنه كان بخارا فكثف وانعقد. فقيل: لم كان البخار؟ فيقال: لأن الأرض كانت ندية فأثر الحر فيها فتبخرت أجزاء الرطوبة وتصعدت. فقيل: ولم كانت الأرض ندية؟ فقيل: لأنه كان مطر. فقيل: ولم كان المطر؟ فقيل: لأنه كان سحاب. فرجع بالدور إلى السحاب فكأنه قيل: لم كان السحاب؟ فقلت: لأنه كان سحاب. والدوري باطل سواء كان الحد المتكرر تخلله واسطة أو وسائط، أو لم يتخلل فنقول: ليس هذا هو الدوري الباطل، إنما الباطل أن يؤخذ الشيء في بيان نفسه بعينه بأن يقال: لم كان هذا السحاب؛ فيعلل بما يرجع بالآخرة إلى التعليل بهذا السحاب بعينه؛ فأما أن يرجع إلى التعليل بسحاب آخر فالعلة غير المعلول بالعدد، إلا أنه مساو له في النوع، ولا يبعد أن يكون سحاب بعينه علة لسحاب آخر بواسطة ترطيب الأرض، ثم تصعد البخار ثم انعقاده سحابا آخر.

فصل فيما يقوم فيه البرهان الحقيقي إعلم أن البرهان الحقيقي ما يفيد اليقين الضروري الدائم الأبدي الذي يستحيل تغييره كعلمك بان العالم حادث وأن له صانعا، وأمثال ذلك مما يستحيل ان يكون بخلافه على الأبد، إذ يستحيل أن يحضرنا زمان نحكم فيه على العالم بالقدم أوعلى الصانع بالنفي. فأما الأشياء المتغيرة التي ليس فيها يقين دائم فهي جميع الجزئيات التي في العالم الأرضي وأقربها إلى الثبات الجبال، وإذا قلت: هذا الجبل ارتفاعه كذا، لم يكن الحاصل علما أبديا لأن المقدمة الصغرى ليس اليقين فيها دائما، إذ ارتفاع الجبل يتصور تغيره، وكذا عمق البحار ومواضيع الجزائر، فهذه أمور لا تبقى فكيف علمك يكون زيد في الدار. وأمثال ذلك مما يتعلق بالأحوال الإنسانية العارضة لا كقولنا:

الإنسان حيوان والحيوان جسم والإنسان لا يكون في مكانين في حالة واحدة، وأمثال ذلك فإن هذه يقينيات دائمية أبدية لا يتطرق إليها التغير حتى قال بعض المتكلمين: العلم من جنس الجهل، وأراد به هذا الجنس من العلم. فإنك إذا علمت بالتواتر مثلا أن زيدا في الدار، فلو فرض دوام هذا الإعتقاد في نفسك وخروج زيد لكان هذا الإعتقاد بعينه قد صار جهلا، وهذاالجنس لا يتصور في اليقينيات الدائمة. فإن قيل: هل يتصور إقامة البرهان على ما يكن وقوعه أكثريا أو اتفاقيا؟ قلنا: أما الأكثري من الحدود الكبرى فلها لا محالة علل اكثيرة، فتلك العلل إذا جعلت حدودا وسطى أفادت علما وظنا غالبا. أما العلم فبكونه أكثريا غالبا فإنا إذا عرفنا من مجاري سنة الله تعالى أن اللحية إنما تخرج لاستحصاف البشرة ومتانة النجار، فإن عرفنا بكبر السن استحصاف البشرة ومتانة النجار حكمنا بخروج اللحية أي حكمنا بأن الغالب الخروج، وأن جهة الخروج غالبة على الجهة الأخرى، وهذا يقيني فإن ما يقع غالبا فلمرجح لا محالة، ولكن بشرط خفي لا يطلع عليه، ويكون فوات ذلك الشرط نادرا، ولذلك نحكم حكما يقينيا بأن من تزوج امرأة شابة ووطئها، فالغالب أن يكون له ولد، ولكن وجود الولد بعينه مظنون وكون الوجود غالبا على الجملة مقطوعبه، ولذلك نحكم في الفقهيات الظنية بأن العمل عند ظهور الظن واجب قطعا، فيكون العمل مظنونا ووجود الحكم مظنونا، ولكن وجوب العمل قطعي

إذ علم بدليل قطعي إقامة الشرع غالب الظن مقام اليقين في حق وجوب العمل، فكون الحكم مظنونا لم يمنعنا من القطع بما قطعنا به. وأما الأمور الإتفاقية كعثور الإنسان في مشيه على كنز فمهما لا يمكن أن يحصل به ظن ولا علم، إذ لو أمكن تحصل ظن بوجوده لصار غالبا أكثريا وخرج عن كونه إتفاقيا فقط. نعم يمكن إقامة البرهان على كونه اتفاقيا فقط، وقد اصطلح المنطقيون على تخصيص إسم البرهان بما ينتج اليقين الكلي الدايم الضروري، فإن لم تساعدهم على هذا الإصطلاح أمكنك أن تسمي جميع العلوم الحقيقية برهانية إذا جمعت المقدمات الشروط التي مضت، وأن ساعدتهم على هذا، فالبرهاني من العلوم العلم بالله وصفاته وبجميع الأمور الأزلية التي لا تتغير كقولنا: الإثنان أكثر من الواحد؛ فإن هذا صادق في الأزل، والأبد والعلم بهيئة السموات والكواكب وإبعادها ومقاديرها وكيفية مسيرها يكون برهانيا عند من رأى أنها أزلية لا تتغير، ولا تكون برهانية عند أهل الحق الذين يرون أن السموات كالأرضيات في جواز تطرق التغير إليها. وأما ما يختلف بالبقاع والأقطار كالعلوم اللغوية والسياسية إذ يختلف بالإعصار والملل، وكالأوضاع الفقهية الشرعية من تفصيل الحلال والحرام فلا يخفى أنها لا تكون من البرهانيات على هذا الإصطلاح. والفلاسفى يزعمون أن السعادة الأخروية لا معنى لها إلا بلوغ النفس كمالها الذي يمكن أن يكون لها، وإن كمالها في العلوم لا في الشهوات،

ولما كانت النفس باقية أبدا كانت نجاتها وسعادتها في علوم صادقة أبدا كالعلم بالله وصفاته وملائكته، وترتيب الموجودات وتسلسل الأسباب والمسببات. فأما العلوم التي ليست يقينية دائمة فإن طلبت لم تطلب لذاتها، بل للتوصل بها إلى غيرها، وهذا محل لا ينكشف إلا بنظر طويل، لا يحتمل هذا الكتاب استقصاؤه بل محل بيانه العلوم المفصلة. فصل في أقسام العلة العلة تطلق على أربعة معاني: الأول ما منه بذاته الحركة وهو السبب في وجود الشيء كالنجار للكرسي والأب للصبي. الثاني المادة وما لا بد من وجوده لوجود الشيء مثل الخشب للكرسي ودم الطمث والنطفة للصبي. والثالث الصورة وهي تمام كل شيء وقد تسمى علة صورية كصورة السرير من السرير وصورة البيت للبيت. الرابع الغاية الباعثة أولا المطلوب وجودها آخرا كالكن للبيت والصلوح للجلوس من السرير. واعلم أن كل واحد من هذه يقع حدودا وسطى في البراهين إذ يمكن أن يذكر كل واحد في جواب لم. أما مبدأ الحركة فمثاله من المعقولات أن يقال: لم حارب الأمير فلانا؟ فيقال: لأنه نهب ولايته،

فالنهب مبدأ الحركة. ويقال: لم اقتل فلانا؟ فيقال: لانه أكرهه السلطان عليه. ومثاله من الفقه أن يقال: لم قتل هذا الشخص؟ فيقال: لأنه زنى أوارتد، فيكون الزنا مبدأ هذا الأمر وهو الذي تسميه الفقهاء في الأكثر سببا، وأما المادة فمثالها من المعقول أني قال: لم يموت الإنسان؟ فتقول: لأنه مركب من أمور متنافرة من الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة المتنازعة المتنافرة. ومثاله من الفقه أن يقال: لم انفسخ القراض والوكالة بالموت والإغماء؟ فتقول: لأنه عقد ضعيف جائز لا لزوم له، وهذه علة ماديةإذ يرد الفسخ على العقد ورود الموت على الإنسان عند جريان سبب هومبدأ الأمر في الموت والفسخ جميعا. وأما الصورة فبها قوام الشيء إذ السرير سرير بصورته لا بخشبه، والإنسان إنسان بصورته لا بجسمه، والأشياء هيآتها بالصور لا بالمواد، فلا يخفى كون القوام بها فإنه إذا قيلك لم صارت هذه النطفة إنسانا وهذا الخشب سريرا؟

فيقال: بحصول صورة الإنسانية وحصول صورة السريرية. وأما الغاية التي لأجلها الشيء فمثالها من المعقول أن يقال: لم عرضت الأضراس؟ فيقال: لأنها يراد بها الطحن. ولم قاتلوا الطبقة الفلانية؟ فيقال: ليسترقوهم. وفي الفقه يقال: لم قتل الزاني والمرتد والقاتل؟ فيقال: للزجر عن الفواحش. وهذه العلل الأربع تجتمع في كل ما له علة، وكذا في الأحكام الفقهية، والفقهاء ربما سموا المادة محلا والفاعل الذي هو كالنجار والأب أهلا، والغاية حكما، فإذا فرض النكاح فالزوج أهل والبضع محل والحل غاية وصيغة العقد كأنها الصورة، وما لم تجتمع هذه الأمور لا يتم للنكاح وجود، ولذلك قيل: النكاح الذي لا يفيد الحل لا وجود له، وكذا البيع الذي لا يفيد الملك فإن وجود الغاية لا بد منه، وكونها معقولا باعثا شرط قبل الوجود،

وكونها موجودة بالفعل واجب بعد الوجود، ومهما قدر الفاعل والمادة موجودا لم يلزم وجود الشيء في كل حال كالنجار والخشب والأب والنطفة والبايع والمبيع، ومهما وجدت الغاية بالفعل لزم وجود الشيء كالحل في النكاح والصلوح للإكتنان والجلوس في البيت، والشيء بهذه الجهات الأربع يختلف في هذا المعنى، ثم كل واحدة من هذه العلل إما بعيدة كإسلام المرأة للزوج عند ملك الزوج نصف الصداق، فإنه علة الصداق، والصداق هوالعلة القريبة للتسليم، وإما بالقوة كالإسكار للخمر قبل الشرب، وإما بالفعل كما في حال الشرب، وإما خاصة كالزنا للرجم، وإما عامة كالجناية للرجم أو العقوبة، وأما بالذات وهو المسمى علة عند الفقهاء كالزنا للرجم، وإما بالعرض كالإحصان له وهو الذي يسمى شرطا، فإن الرجم لا يجب إلا بالإحصان، وهي خصال كمال ولكن يعمل عمل العلة عنده، كما لو أرسلت الدعامة من تحت السقف فنزل فيقال نزوله بعلة الثقل، ولكن عند إشالة الدعامة فإن للهوى شرطا، وهو فراغ جهة الأسفل عن جسم صلب لا ينخرق. وأمثلة هذا في المعقولات كثيرة، فلذلك اقتصرنا على الأمثلة الفقهية، والمقصود أن المعلل في الفقه والمعقول إذا توجهت المطالبة عليه بالعلة، ينبغي أن يذكر العلة الخاصة القريبة التي بالفعل حتى تقطع المطالبة بلم، وإلا فيكون الطلب قائما.

كتاب الحد والنظر في هذا الكتاب يحصره فنان: الأول فيما يجري من الحد يجري القوانين الكلية. والثاني في الحدود المفصلة. الفن الأول في قوانين الحدود وفيه فصول الأول في بيان الحاجة إلى الحد، وقد قدمنا أن العلم قسمان: أحدهما علم بذوات الأشياء ويسمى تصورا. والثاني: علم بنسبة تلك الذوات بعضها إلى بعضها بسلب أو إيجاب ويسمى تصديقا. وأن الوصول إلى التصديق بالحجة والوصول إلى التصور التام بالحد، فإن الأشياء الموجودة تنقسم إلى أعيان شخصية كزيد ومكة وهذه الشجرة، وغلى أمور كلية كالإنسان والبلد والشجر والبر والخمر، وقد عرفت الفرق بين الكلي والجزئي؛ وغرضنا في الكليات إذ هي المستعمل في البراهين، والكلي تارة يفهم فهما جمليا كالمفهوم من مجرد إسم الجملة وسائر الأسماء والألقاب للأنواع والأجناس،

وقد يفهم فهما مخلصا مفصلا محيطا بجميع الذاتيا التي بها قوام الشيء، متميزا عنغيره في الذهن تميزا تاما، ينعكس على الإسم وينعكس عليه الإسم كما يفهم من قولنا شراب مسكر معتصر من العنب، وحيوان ناطق مايت، وجسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة متغذي؛ فإن هذه الحدود يفهم بها الخمر والإنسان والحيوان، فهما أشد تلخيصا وتفصيلا وتحقيقا وتمييزا مما يفهم من مجرد أساميها، وما يفهم الشيء هذا الضرب من التفهيم يسمى حدا، كما أن ما يفهم الضرب الأول من التفهيم يسمى إسما ولقبا. والفهم الحاصل من التحديد يسمى علما مخلصا مفصلا، والعلم الحاصل بمجرد الإسم يسمى علما جمليان وقد يفهم الشيء مما يتميز به عن غيره بحيث ينعكس على إسمه وينعكس الإسم عليه، ويتميز لا بالصفات الذاتية المقومة التي هي الأجناس والأنواع والفصول، بل بالعوارض والخواص فيسمى ذلك رسما كقولنا في تمييز الإنسان عن غيره: إنه الحيوان الماشي برجلين، العريض الأظفار، الضحاك، فإن هذا يميزه عن غيره كالحد، وكقولك في الخمر: إنه المائع المستحيل في الدن الذي يقذف بالزبد إلى غير ذلك من العوارض التي إذا جمعت لم توجد إلا للخمر،

وهذا إذا كان أعم من الشيء المحدود بأن يترك بعض الإحترازات سمي رسما ناقصا، كما أن الحد إذا ترك فيه بعض الفصول الذاتية فيكون سمي حدا ناقصا، ورب شيء يعسر الوقوف على جميع ذاتياته أولا يلفى لها عبارة فيعدل إلى الإحترازات العرضية بدلا عن الفصول الذاتية فيكون رسما مميزا، قائما مقام الحد في التمييز فقط لا في تفهيم جميع الذاتيات؛ والمخلصون إنما يطلبون منالحد تصور كنه الشيء وتمثل حقيقته في نفوسهم، لا لمجرد التمييزن ولكن مهما حصل التصور بكماله تبعه التمييز، ومن يطلب التمييز المجرد يقتنع بالرسم فقد عرفت ما ينتهي إليه تأثير الإسم والحد والرسم في تفهيم الأشياء، وعرفت إنقسام تصور الأشياء إلى تصور له بمعرفة ذاتياته المفصلة وإلى تصور له بمعرفة أعراضه، وإن كل واحد منهما قد يكون تاما مساويا للإسم في طرفي الحمل، وقد يكون ناقصا فيكون أعم من الإسم. واعلم أن أنفع الرسوم في تعريف الأشياء أن يوضع فيه الجنس القريب أصلا ثم تذكر الأعراض الخاصة المشهورة فصولا، فإن الخاصة الخفية إذا ذكرت لم تفد التعريف على العموم، فمهما قلت في رسم المثلث إنه الشكل الذي زواياه تساوي قائمتين لم تكن رسمته إلا للمهندس، فإذن الحد قول دال على ماهية الشيء، والرسم وهو القول المؤلف من أعراض الشيء وخواصه التي تخصه جملتها بالإجتماع وتساويه.

الفصل الثاني في مادة الحد وصورته قد قدمنا أن كل مؤلف فله مادة وصورة كما في القياس، ومادة الحد الأجناس والأنواع والفصول، وقد ذكرناها في كتاب مقدمات القياس. وأما صورته وهيئته فهو أن يراعى فيه إيراد الجنس الأقرب ويردف بالفصول الذاتية كلها، فلا يترك منها شيءس، ونعني بإيراد الجنس القريب أن لا نقول في حد الإنسان " جسم ناطق مائت، وإن كان ذلك مساويا للمطلوب بل نقول: حيوان، فإن الحيوان متوسط بين الجسم والإنسان، فهو أقرب إلى المطلوب من الجسم، ولانقول في حد الخمر: إنه مائع مسكر، بل نقول: شراب مسكر؛ فإنه أخص من المائع وأقرب منه إلى الخمر، وكذلك ينبغي أن يورد جميع الفصول الذاتية على الترتيب، وإن كان التمييز يحصل ببعض الفصول. وإذا سئل عن حد الحيوان فقال: جسم ذو نفس حساس له بعد متحرك بالإرادة،

فقد أتى بجميع الفصول ولو ترك ما بعد الحساس لكان التمييز حاصلا به، ولكن لا يكون قد تصور الحيوان بكمال ذاتياته، والحد عنوان المحدود فينبغي أن يكون مساويا له في المعنى، فإن نقص بعض هذه الفصول سمي حدا ناقصا، وإن كان التمييز حاصلا به وكان مطردا منعكسا في طريق الحمل، ومهما ذكر الجنس القريب وأتى بجميع الفصول الذاتية فلا ينبغي أن يزيد عليه. ومهما عرفت هذه الشروط في صورة الحد ومادته عرفت ان الشيء الواحد لا يكون له إلا حد واحد، وأنه لا يحتمل الإيجاز والتطويل، لأن إيجازه بحذف بعض الفصول وهو نقصان، وتطويله بذكر حد الجنس القريب بدل الجنس بكقولك في حد الإنسان: إنه جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة ناطق مائت، فذكر حد الحيوان بدل الحيوان وهو فضول يستغنى عنه، فإن المقصود إن يشتمل الحد على جميع ذاتيات الشيء إما بالقوة وإما بالفعل. ومهما ذكر الحيوان فقد اشتمل على الحساس والمتحرك والجسم بالقوة أي على طريق التضمن، وكذلك قد يوجد الحد للشيء الذي هو مركب من صورة ومادة بذكر أحدهما كما يقال في حد الغضب: إنه غليان دم القلب، وهذا ذكر المادة، ويقال: إنه طلب الإنتقام، وهذا هو ذكر الصورة بل الحد التام أن يقال

هو غليان دم القلب لطلب الإنتقام. فإن قيل: فلو سهى ساهي او تعمد متعمد فطول الحد بذكر حد الجنس القريب بدل الجنس القريب، أوزاد على بعض الفصول الذاتية شيئا من الأعراض واللوازمن او نقص بعض الفصول فهل يفوت مقصود الحد كما يفوت مقصود القياس بالخطأ في صورته؟ قلنا: الناظرون إلى ظواهر الأمور ربما يستعظمون الأمر في مثل هذا الخطأ، والأمر أهون مما يظنون مهما لاحظ الإنسان مقصود الحد، لأن المقصود تصور الشيء بجميع مقوماته مع مراعاة الترتيب بمعرفة الأعم والأخص، بإيراد الأعم أولا وإردافه بالأخص الجاري مجرى الفصول، وإذا حفظ ذلك فقد حصل العلم التصوري المفصل المطلوب. أما النقصان بترك بعض الفصول فإنه نقصان في التصور. وأما زيادة بعض الأعراض فلا يقدح فيما حصل من التصور الكامل، وقد ينتفع به في بعض المواضع في زيادة الكشف والإيضاح. وأما إبدال الذاتيات باللوازم والعرضيات فذلك قادح في كمال التصور، فليعلم مبلغ تأثير كل واحد في المقصود، ولا ينبغي أن يجمد الإنسان على الرسم المعتاد المألوف في كل أمره وينسى غرضه المطلوب، فأذن مهما عرف جميع الذاتيات على الترتيب حصل المقصود، وأن زيد شيء من الأعراض أو أخذ حد الجنس القريب بدل الجنس. الفصل الثالث في ترتيب طلب الحد بالسؤال، والسائل عن الشيء بقوله: ما هو؟ لا يسأل إلا بعد الفراغ عن مطلب هل، كما أن السائل بلم لا يسأل إلا بعد الفراغ عن مطلب هل، فإن سأل عن الشيء قبل اعتقاد وجوده وقال: ما هو؟ رجع إلى طلب

شرح الإسم، كقول القائل: ما الخلا وما الكيميا؟ وهو لا يعتقد لهما وجودا، فإذا اعتقد الوجود كان الطلب متوجها إلى تصور الشيء في ذاته. وترتيبه أن يقول ما هو مشيرا إلى نخلة مثلا، فإذا أجاب المسؤول بالجنس القريب وقال شجرة، لم يقنع السائل به بل قرن بما ذكره صيغة أي وقال: أي شجرة هي؟ فإذا قال هي شجرة تثمر الرطب، فقد بلغ المقصود وانقطع السؤال إلا إذا لم يفهم معنى الرطب أو الشجر، فيعدل إلى صيغة ما ويقول: ما الرطب وما الشجر؟ فيذكر له جنسه وفصله فيقول: الشجر نبات قائم على ساق، فإن قال: ما الساق؟ فيذكر جنسه وفصله ويقول: هو جسم مغتذى نامي، فإن قال: ما الجسم؟ فيقول هو الممتد في الأقطار الثلاثة أي هو الطويل العريض العميق، وهكذا إلى أن ينقطع السؤال. فإن قيل: فمتى ينقطع؟ فإن تسلسل إلى غير نهاية فهو محال، وإن تعين توقفه فهو تحكم. فنقول: لا يتسلل إلى غير نهاية بل ينتهي إلى أجناس وفصول تكون معلومة للسائل لا محالة، فإن تجاهل أبدا لم يمكن تعريفه بالحد لأن كل تعريف وتعرف فيستدعي معرفة سابقة، فلم يعرف صورة الشيء بالحد إلا من عرف أجزاء الحد من الجنس والفصل قبله، إما بنفسه لوضوحه وإما بتحديد آخر أن يرتقي إلى أوائل عرفت بنفسها، كما أن كل تعلم تصديقي بالحجة فبعلم قد سبق لمقدمات هي أولية لم تعرف

بالقياس أو عرفت بالقياس، ولكن تنتهي بالآخرة إلى الأوليات، فآخر الحد يجري مجرى مقدمات القياس من غير فرق. والمقصود من هذا أن الحد يتركب لا محالة من جنس الشيء وفصله الذاتي ولا معنى له سواه، وما ليس له فصل وجنس فليس له حد، ولذلك إذا سئلنا عن حد الموجود لم نقد عليه، إلا أن يراد شرح الإسم فيترجم بعبارة أخرى عجمية أو تبدل في العربية بشيء، ولا يكون ذلك حدا بل هو ذكر إسم بدل إسم آخر مرادف له، فإذا سئلنا عن حد الخمر فقلنا: العقار، وعن حد العلم فقلنا: هو المعرفة، وعن حد الحركة فقلنا: هو النقلة، لم يكن حدا بل كان تكرار للأشياء المترادفة، ومن أحب أن يسميه حدا فلا حرج في الإطلاقات، ونحن نعني بالحد ما يحصل في النفس صورة موازية للمحدود مطابقة لجميع فصوله الذاتية. وإنما راعينا الفصول الذاتية لأن الشيء قد ينفصل عن غيره بالعرض الذي لا يقوم ذاته إنفصال الثوب الأحمر عن الأسود، وقد ينفصل بلازم لا يفارق إنفصال القار بالسواد عن الثلج وإنفصال الغراب عن الببغاء، وقد ينفصل بالذات إنفصال الثوب عن السيف وإنفصال ثوب من ابريسم عن درهم من قطن، ومن يسال عن ماهية الثوب طالبا حده فإنما يطلب الأمور التي بها قوام ثوبيته، لأنا لا نقوم الثوبية من اللون والطول والعرض فجوابه بما لا يقوم ذات الثوب مخل بالسؤال، فقد عرفت ان الحد مركب من الجنس والفصل، وأن ما لا يدخل تحت جنس حتى ينفصل عنه بفصل ما لا حدله مثل ما يذكر في معرض رسم أو شرح اسم، فتسميته حدا مخالف للتسمية التي اصطلحنا عليها فيكون الحد مشتركا له ولما ذكرناه.

؟؟ الفصل الرابع في أقسام ما يطلق عليه إسم الحد. والحد يطلق بالتشكيك على خمسة أشياء: الأول الحد الشارح لمعنى الإسم، ولا يلتفت فيه إلى وجود الشيء وعدمه، بل ربما يكون مشكوكا. ونذكر الحد ثم إن ظهر وجوده عرف أن الحد لم يكن بحسب الإسم المجرد وشرحه، بل هو عنوان الذات وشرحه. الثاني بحسب الذات وهو نتيجة برهان. والثالث ما هو بحسب الذات وهو مبدأ برهان. والرابع ما هو بحسب الذات. والحد التام الجامع لما هو مبدأ برهان ونتيجة برهان، كما إذا سئلت عن حد الكسوف فقلت امحاء ضوء القمر لتوسط الأرض بينه وبين الشمس، فامحاء ضوء القمر هونتيجة برهان وتوسط الأرض المبدأ، فغنك في معرض البرهان تقول: متى توسطت الأرض فانمحى النور فيكون التوسط حدا أوسط فهو مبدأ برهان، وإلا انمحى حد أكبر فهونتيجة برهان، ولذلك يتداخل البرهان والحد، فإن العلل الذاتية من هذا الجنس تدخل في حدود الأشياء كما تدخل في براهينها، فكل ما له علة فلا بد من ذكر علته الذاتية في حده لتتم صورة ذاته، وقد تدخل العلل الأربعة في حد الشيء الذي له العلل الأربعة كقوله في حد القادوم: إنه ىلة صناعية من حديد، شكله كذا يقطع به الخشب نحتا؛

فقولك: آله، جنس وصناعية تدل على المبدأ الفاعل، والشكل يدل على الصورة، والحديد يدل على المادة، والنحت على الغاية، والشكل يدل على الصورة، والحديد يدل على المادة، والنحت على الغاية، وبه الإحتراز عن المثقب والمنشار إذ لا ينحت بهما. وقد يقتصر في الحد على نتيجة البرهان إذا حصل التمييز بها فيقال: حد الكسوف انمحاء ضوء القمر، فيسمى هذا حدا هو نتيجة برهان وإن اقتصر على العلة وقال: الكسوف هو توسط الأرض بين القمر وبين الشمس، وحصل به التمييز قيل حد مبدأ برهان، والحد التام المركب منهما. ؟ القسم الخامس ما هو حد لأمور ليس لها علل وأسباب، ولو كان لها علل لكانت عللها غير داخلة في جواهرها كتحديد النقطة، والوحدة والحد، فإن الوحدة يذكر لها تعريف وليس للوحدة سبب، والحد يحد فإنه قول دال على ماهية الشيء، وللقول سبب فإنه حادث لا محالة لعلة لكن مسببه ليس ذاتيا له كانحاء ضوء القمر في الكسوف، فهذا الخامس ليس بمجرد شرح الإسم فقط، ولا هو مبدأ برهان، ولا هو مركب منهما؛ فهذه أقسام ما يطلق عليه إسم الحد، وقد يسمى الرسم حدا على أنه مميز فيكون ذلك وجها سادسا.

؟ الفصل الخامس في أن الحد لا يقتنص بالبرهان ولا يمكن إثباته به عند النزاع، لأنه إن أتيت بالبرهان افتقرت إلى حد أوسط مثل أن يقال مثلا: حد العلم المعرفة، فيقال: لم؟ فنقول: لأن كل علم اعتقاد، وكل اعتقاد معرفة، والمعرفة أكبر، وينبغي أن يكون الأوسط مساويا للطرفين إذ الحد هكذا يكون، وهذا محال لأن الأوسط عند ذلك له حالتان، وهما أن يكون حدا للأصغر أو رسما أو خاصة. الحالة الأولى أن يكون حدا وهو باطل من وجهين: أحدهما أن الشيء الواحد لا يكون له حدان تامان لأن الحد ما يجمع من الجنس والفصل، وذلك لا يقبل التبديل ويكون الموضوع حدا أوسط هو الأكبر بعينه لا غيره، وأن غايره في اللفظ وإن كان مغايرا له في الحقيقة لم يكن حدا للأصغر. الثاني أن الأوسط بم عرف كونه حدا للأصغر، فإن عرف بحد آخر فالسؤال قائم في ذلك الآخر، وذلك إما أن يتسلسل إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن يعرف بلا وسط فليعرف الأول بلا وسط إذا أمكن معرفة الحد بغير وسط. الحالة الثانية أن لا يكون الأوسط حدا للأصغر بل كان رسما أو خاصة وهو باطل من وجهين:

أحدهما إن ما ليس بحد ولا هو ذاتي مقوم كيف صار أعرف من الذاتي المقوم، وكيف يتصور أن تعرف من الإنسان أنه ضحاك أو ماش ولا يعرف أنه جسم وحيوان. الثاني أن الأكبر بهذا الأوسط إن كان محمولا مطلقا وليس بحد فليس يلزم منه إلا كونه محمولا للأصغر، ولا يلزمه كونه حدا، وإن كان حدا فهو محال إذ حد الخاصية والعرض لا يكون حد موضوع الخاصية والعرض، فليس حد الضاحك هوبعينه حد الإنسان، وإن قيل: إنه محمول على الأوسط على معنى انه حد موضوعه، فهذه مصادرة على المطلوب، فقد تبين أن الحد لا يكتسب بالبرهان. فإن قيل: بماذا يكتسب وما طريقه؟ قلنا: طريقه التركيب وهو أن نأخذ شخصا من أشخاص المطلوب حده بحيث لا ينقسم، وننظر من أي جنس من جملة المقولات العشر، فنأخذ جميع المحمولات المقومة لها التي في ذلك الجنس ولا يلتفت إلى العرض واللازم، بل يقتصر على المقومات ثم يحذف منها ماتكرر ويقتصر من جملتها على الأخير القريب، وتضيف إليه الفصل فإن وجدناه مساويا للمحدود من وجهين فهو الحدن ونعني بأحد الوجهين الطرد والعكس، والتساوي مع الإسم في الحمل. فمهما ثبت الحد انطلق الإسم، ومهما انطلق الإسم حصل الحد. ونعني بالوجه الثاني المساواة في المعنى، وهو أن يكون دالا على كمال حقيقة الذات لا يشذ منها شيء، فكم من ذاتي متميز ترك بعض فصوله فلا يقوم ذكره في النفس صورة للمحدود مطابقة لكمال ذاته، وهذا مطلوب الحدود، وقد ذكرنا وجه ذلك. ومثال طلب الحد إنا إذا سئلنا عن حد الخمر فنشير إلى خمر معينة ونجمع صفاته المحمولة عليه، فنراه أحمر يقذف بالزبد، فهذا عرضي فنطرحه ونراه ذات رائحة حادة ومرطبا للشرب، وهذا لازم فنطرحه

ونراه جسما أو مائعا وسيالا وشرابا مسكرا ومعتصرا من العنب، وهذه ذاتيات فلا تقول: جسم مائع سيال شراب لأن المائع يغني عن الجسم، فإنه جسم مخصوص والمائع أخص منه، ولا تقول مائع لأن الشراب يغني عنه ويتضمنه وهو أخص وأقربن فتأخذ الجنس الأقرب المتضمن لجميع الذاتيات العامة وهو شراب، فنراه مساويا لغيره من الأشربة فتفصله عنه بفصل ذاتي لا عرضي كقولنا: مسكر يحفظ في الدن أو مثله، فيجتمع لنا شراب مسكر فتنظر هل يساوي الإسم في طرفي الحمل، فإن ساواه فتنظر هل تركنا فصلا آخر ذاتيا لا تتم ذاته إلا به فإن وجد معنا ضممناه إليه كما إذا وجدنا في حد الحيوان إنه جسم ذو نفس حساس، وهو يساوي الإسم في الحمل، ولكن ثم فصل آخر ذاتي وهو المتحرك بالإرادة فينبغي أن تضيفه إليه؛ فهذا طريق تحصيل الحدود لا طريق سواه. ؟ الفصل السادس مثارات الغلط في الحدود وهي ثلاثة: أحدها في الجنس، والآخر في الفصل، والثالث مشترك. المثار الأول الجنس وهي من وجوه:

فمنها أن يوضع الفصل بدل الجنس فيقال في العشق إنه إفراط المحبة، وإنما هو المحبة المفرطة فالمحبة جنس والإفراط فصل. ومنها أن توضع المادة مكان الجنس كقولك للسيف: إنه حديد يقطع، وللكرسي: إنه خشب يجلس عليه. ومنها أن تؤخذ الهيولي مكان الجنس كقولنا للرماد: إنه خشب محترق، فإنه ليس خشبا في الحال بل كان خشبا بخلاف الخشب من السرير فإنه موجود فيه على أنه مادة، وليس موجودا في الرماد، ولكن كان فصار شيئا آخر بتبدل صورته الذاتية، وهو الذي أردنا بالهيولي، ولك أن تعبر عنه بعبارة أخرى إن استبشعت هذه العبارة. ومنها أن تؤخذ الأجزاء بدل الجنس فيقال في حد العشرة، إنه خمسة وخمسة أو ستة وأربعة أو ثلاث وسبعة وأمثالها، وليس كذلك قولنا في الحيوان إنه جسم ونفس، لأن كون الجسم نفسا ما يرجع إلى فصل ذاتي له، فإن النفس صورة وكمال للجسم ولا كالخمسة للخمسة الأخرى. ومنها أن توضع الملكة مكان القوة كقولنا: العفيف هو القوي على إجتناب اللذات الشهوانية، وليس كذلك إذ الفاجر أيضا يقوى ولكنه يفعل، ولكن يكون ترك اللذات للعفيف بالملكة الراسخة وللفاجر بالقوة. وقد تشتبه الملكة بالقوة، وكقولك:

إن القادر على الظلم هو الذي من شأنه وطباعه النزوع إلى انتزاع ما ليس له من يد غيره، فقد وضع الملكة مكان القوة لأن القادر على الظلم قد يكون عادلا لا ينزع طبعه إلىالظلم. ومنها ان يوضع النوع بدل الجنس فيقال: الشر هو ظلم الناس، والظلم أحد أنواع الشر، والشر جنس عام يتناول غير الظلم. المثار الثاني من جهة الفصل وذلك بان يوضع ما هو جنس مكان الفصل، أو ما هو خاصة أو لازم او عرضي مكان الفصل، وكثيرا ما يتفق ذلك والإحتراز عنه عسر جدا. المثار الثالث ما مشترك وهو على وجوه: فمنها أن يعرف الشيء بما هو أخفى منه كمن يحد النار بأنه جسم شبيه بالنفس والنفس أخفى من النار، أو يحده بما هو مثله في المعرفة كتحديد الضد بالضد مثل قولك الزوج ما ليس بفرد، ثم تقول الفرد ما ليس بزوج، أو تقول الزوج ما يزيد على الفرد بواحد، ثم تقول الفرد ما ينقص عن الزوج بواحد،

وكذا إذا أخذ المضاف في حد المضاف. فتقول: العلم ما يكون الذات به عالما. ثم تقول: العالم منقام به العلم والمتضايفين يعلمان معا، ولا يعلم أحدهما بالآخر بل مع الآخر. فمن جهل العلم جهل العالم، ومن جهل الأب جهل الإبن، فمن القبيح أن يقال للسائل الذي يقول: ما الأب من له ابن، فإنه يقول: لو عرفت الإبن لعرفت الأب بل ينبغي أن يقال: الأب حيوان يوجد آخر من نوعه من نطفته من حيث هو كذلك، فلا يكون فيه تعريف الشيء بنفسه ولا حوالته على ما هو مثله في الجهالة. ومنها ان يعرف الشيء بنفسه أو بما هومتأخر عنه في المعرفة كقولك للشمس: كوكب يطلع نهارا، ولايمكن تعريف النهار إلا بالشمس، فإن معناه زمان طلوع الشمس فهو تابع للشمس فكيف يعرف؟ وكقولك في الكيفية: أن الكيفية ما بها تقع المشابهة وخلافها، ولا يمكن تعريف المشابهة إلا بأنها إتفاق في الكيفية، وربما يخالف المساواة فإنها إتفاق في الكمية، وتخالف المشاكلة فإنها اتفاق في النوع؛ فهذا وأمثاله مما يجب مراقبته في الحدود حتى لا يتطرق إليه الخطأ بإغفاله، وكان أمثلة هذا مما يخرج عن الحصر، وفيما ذكرنا تنبيه على الجنس.

؟؟؟ الفصل السابع في استقصاء الحد على القوة البشرية إلا عند غاية التشمير والجهد. فمن عرف ما ذكرناه في مثارات الإشتباه في الحد، عرف أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ عن كل ذلك إلا على الندور، وهي كثيرة وأعصاها على الذهن أربعة أمور: أحدها أنا شرطنا أن نأخذ الجنس الأقرب، ومن أين للطالب أن لا يغفل عنه فيأخذ جنسا يظن أنه أقرب، وربما يوجد ما هو أقرب منه فيحد الخمر بأنه مائع مسكر، ويذهل عن الشراب الذي هو تحته، وهو أقرب منه، ويحد الإنسان بأنه جسم ناطق مايت ويغفل عن الحيوان وأمثاله. الثاني أنا إذا شرطنا أن تكون الفصول كلها ذاتية واللازم الذي لا يفارق في الوجود، والوهم مشتبه بالذاتي غاية الإشتباه، ودرك ذلك من أغمض الأمور فمن أين له أنلا يغفل فيأخذ لازخما بدل الفصل فيظن أنه ذاتي. الثالث أنه إذا شرطنا أن نأتي بجميع الفصول الذاتية حتى لا نخل بواحد، ومن أين نأمن من شذوذ واحد عنه لا سيما إذا وجد فصلا حصل به التمييز والمساواة للإسم في الحمل، كالجسم ذي النفس الحساس في مساواته لفظ الحيوان مع إغفال التحرك بالإرادة، وهذا من أغمض ما يدرك. الرابع ان الفصل مقوم للنوع ومقسم للجنس، وإذا لم يراع شرط التقسيم

أخذ في القسمة فصولا ليست أولية للجنس، وهو عسير غير مرضي في الحد، فإن الجسم كما ينقسم إلىالنامي وغير النامي انقساما بفصل ذاتي، فكذلك ينقسم إلى الحساس وغير الحساس وإلى الناطق وغير الناطق، ولكن مهما قيل الجسم ينقسم إلى ناطق وغير ناطق، فقد قسم بما ليس الفصل القاسم أوليا، بل ينبغي أن ينقسم أولا إلى النامي وغير النامي، ثم النامي ينقسم إلى الحيوان وغير الحيوان؛ ثم الحيوان إلى الناطق وغير. وكذلك الحيوان ينقسم إلى ذي رجلين وإلى ذي أرجل، ولكن هذا التقسيم ليس بفصول أولية، بل ينبغي أن يقسم لاحيوان إلىماشي وغير ماشي، ثم الماشي ينقسمب إلى ذي رجلين أو أرجل، إذ الحيوان لم يستعد للرجلين والأرجل باعتبار كونه حيوانا بل باعتبار كونه ماشيا، واستعد لكونه ماشيا باعتبار كونه حيوانا، فرعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحدود، وهو في غاية

العسر، ولذلك لما عسر ذلك اكتفى المتكلمون بالمميز فقالوا: " الحد هو القول الجامع المانع " ولم يشترطوا فيه إلا التمييز فيلزم عليه الإكتفاء بذكر الخواص فيقال في حد الفرس: إنه الصهال، وفي الإنسان: إنه الضحاك وفي الكلب: إنه النباح. وذلك في غاية البعد عن غرض التعرف لذات المحدود. ولأجل عسر التحديد رأينا ان نورد جملة من الحدود المعلومة المحررة في الفن الثاني من كتاب الحد، وقد وقع الفراغ عن الفن الأول بحمد الله سبحانه وتعالى.

الفن الثاني في الحدود المفصلة اعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها، لأن العلوم التصديقية غير متناهية، وهي تابعة للتصورية، فأقل ما يشتمل عليه التصديقي تصوران، وعلىالجملة فكل ما له إسم يمكن تحرير حده أو رسمه أو شرح اسمه، وإذا لم يكن في الإستقصاء مطمع فالأولى الإقتصار على القوانين المعرفة لطريقه، وقد حصل ذلك بالفن الأول، ولكن أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين: إحداهما أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه، فإن الإمتحان والممارسة للشيء تفيد لفائدتين: إحداهما أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه، فإن الإمتحان والممارسة للشيء تفيد قوة عليه لا محالة. والثاني أن يقع الإطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة، وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم إصطلاحهم، وإذا لم يفهم ما أرادوه لا يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم إصطلاحهم، وإذا لم يفهمما أرادوه لا يمكن مناظرتهم، فقد أوردنا حدود ألفاظ أطلقوها في الإلهيات والطبيعيات وشيئا قليلا من الرياضيات، فليؤخذ هذه الحدود على أنها شرح للإسم، فإن قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا، وإلا اعتقد شرحا للإسم كما نقول: حدّ الجن حيوان هوائي ناطق مشف الجرم، من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة،

فيكون هذا شرحا للغسم في تفاهم الناس. فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالبرهان، فإن دل على وجوده كان حدا بحسب الذات، وإن لم يدل عليه بل دل على أن الجن المراد في الشرع الموصوف بوصفه أمر آخر، أخذ هذا شرحا للإسم في تفاهم الناس، وكما نقول في حد الخلا: إنه بعد يمكن ان يفرض فيه أبعاد ثلاثة، قائم لا في مادة، من شأنه أن يملأه جسم ويخلو عنه. وربما يدل الدليل على أن ذلك محال وجوده، فيؤخذ على انه شرح للإسم في إطلاق النظار. وإنما قدمنا هذه المقدمة لتعلم أن ما نورده من الحدود شرحا لما أراده الفلاسفة بالإطلاق، لا حكم بأن ماذكروه هو ما ذكروه، فإن ذلك ربما يتوقف على النظر في موجب البرهان عليه. والمستعمل في الإلهيات خمسة عشر لفظا وهو: الباري تعالى المسمة بلسانهم المبدأ الأول، والعقل، والنفس، والعقل الكلي، وعقل الكل، والنفس الكلية، ونفس الكل، والملك، والعلة، والمعلول، والإبداع، والخلق، والأحداث، والقديم. أما الباري عز وجل فزعموا أنه لا حد له ولا رسم له، لأنه لا جنس له ولا فصل له ولا عوارض تلحقه. والحد يلتئم بالجنس والفصل والرسم بالجنس والعوارض الفاصلة، وكل ذلك تركيب ولكن له قول يشرح اسمه، وهو أنه

الموجود الواجب الوجود الذي لا يمكن أن يكون وجوده من غيره، ولا يكون وجود لسواه إلا فايضا عن وجوده وحاصلا به إما بواسطة أو بغير واسطة، ويتبع هذا الشرح أنه الموجود الذي لا يتكثر لا بالعدد ولا بالمقدار ولا بأجزاء القوام كتكثر الجسم بالصورة والهيولي، ولا بأجزاء الحد كتكثر الإنسان بالحيوانية والنطق، ولابأجزاء الإضافة ولا يتغير لا في الذات ولا في لواحق الذات، وما ذكروه يشتمل على نفي الصفات ونفي الكثرة فيها، وذلك مما يخالفون فيه، فهذا شرح إسم الباري والمبدأ الأول عندهم. وأما العقل فهو إسم مشترك تطلقه الجماهير والفلاسفة والمتكلمون على وجوه مختلفة لمعان مختلفة، والمشترك لا يكون له حد جامع. أما الجماهير فيطلقونه على ثلاثة أوجه: الأول يراد به صحة الفطرة الأولى في الناس، فيقال لمن صحت فطرته الأولى: إنه عاقل، فيكون حده إنه قوة بها يجود التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة. الثاني يراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية، فيكون حده إنه معاني مجتمعة في الذهن تكون مقدمات يستنبط بها المصالح والأغراض. الثالث معنى آخر يرجع إلى وقار الإنسان وهيئته، ويكون حده إنه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكناته وهيآته وكلامه واختياره، ولهذا الإشتراك يتنازع الناس في تسمية الشخص الواحد عاقلا

فيقول واحد: هذا عاقل، ويعني به صحة الغريزة، ويقول الآخر: ليس بعاقل ويعني به عدم التجارب وهو المعنى الثاني. وأما الفلاسفة فاسم العقل عندهم مشترك يدل على ثمانية معاني مختلفة: العقل الذي يريده المتكلمون، والعقل النظري، والعقل العملي، والعقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال. فأما الأول فهو الذي ذكره أرسطاليس في كتاب البرهان وفرق بينه وبين العلم، ومعنى هذا العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة، والعلم ما يحصل للنفس بالإكتساب، ففرقوا بين المكتب والفطري فيسمى أحدهما عقلا والآخر علما، وهو اصطلاح محض. وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به إذ قال القاضي أبو بكر الباقلاني في حد العقل: إنه علم ضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحالة المستحيلات كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحال كون الشخص الواحد في مكانين. وأما سائر العقول فذكرها الفلاسفة في كتاب النفس. أما العقل النظري فهي قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية،

وهي احتراز عن الحس الذي لا يقبل إلا الأمور الجزئية وكذا الخيال، وكأن هذا هو المراد بصحة الفطرة الأصلية عند الجماهير كما سبق. وأما العقل العملي فقوة للنفس هي مبدأ التحريك للقوة الشوقية إلى ما تختاره من الجزئيات، لأجل غاية مظنونة أو معلومة، وهذه قوة محركة ليس من جنس العلوم، وإنما سميت عقلية لأنها مؤتمرة للعقل مطيعة لإشاراته بالطبع، فكم من عاقل يعرف أنه مستضر باتباع شهواته، ولكنه يعجز عن المخالفة للشهوة لا لقصور في عقله النظري بل لفتور هذه القوة التي سميت العقل العملي، وإنما تقوى هذه القوة بالرياضة والمجاهدة والمواظبة على مخالفة الشهوات. ثم للقوة النظرية أربعة أحوال: الأولى أن لا يكون لها شيء من المعلومات حاصلة، وذلك للصبي الصغير، ولكن فيه مجرد الإستعداد فيسمى هذا عقلا هيولانيا. الثانية أن ينتهي الصبي إلى حد التمييز فيصير ما كان بالقوة البعيدة بالقوة القريبة، فإنه مهما عرض عليه الضروريات وجد نفسه مصدقا بها، لا كالصبي الذي هو ابن مهد، وهذا يسمى العقل بالملكة. الرابعة: العقل المستفاد، وهو أن تكون تلك المعلومات حاضرة في ذهنه وهو يطالعها ويلابس التأمل فيها، وهو العلم الموجود بالفعل الحاضر؛ فحد العقل الهيولاني أنه قوة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، وبها يفارق الصبي الفرس وسائر الحيوانات لا بعلم حاضر ولا بقوة قريبة من العلم، وحد العقل بالملكة أنه استكمال العقل الهيولاني حتى يصير بالقوة القريبة من الفعل،

وحد العقل بالفعل إنه إستكمال للنفس بصور ما أي صور معقولة حتى متى شاء عقلها أو أحضرها بالفعل، وحد العقل المستفاد أنه ماهية مجردة عن المادة مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج. وأما العقول الفعالة فهو نمط آخر، والمراد بالعقل الفعال كل ما هية مجردة عن المادة أصلا، فحد العقل الفعال أما من جهة ما هوعقل إنه جوهري صوري ذاته ماهية مجردة في ذاتها، لا بتجريد غيرها لها عن المادة وعن علائق المادة، بل هي ماهية كلية موجودة، فاما من جهة ما هو فعال فإنه جوهر بالصفة المذكورةن من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشرافه عليه، وليس المراد بالجوهر المتحيز كما يريده المتكلمون، بل ما هو قائم بنفسه لا في موضوع، والصوري احتراز عن الجسم وما في المواد. وقولهم " لا بتجريد غيره " احتراز عن المعقولات المرتسمة في النفس من أشخاص الماديات، فإنها مجردة بتجريد العقل إياها لا بتجردها في ذاتها. والعقل الفعال لمخرج لنفوس الآدميين في العلوم من القوة إلى العقل نسبته إلى المعقولات، والقوة العاقلة نسبة الشمس إلى المبصرات والقوة الباصرة، إذ بها يخرج الأبصار من القوة إلى الفعل، وقد يسمون هذه العقول الملائكة، وفي وجود جوهر على هذا الوجه يخالفهم المتكلمون، إذ لا وجود لقائم بنفسه ليس بمتحيز عندهم إلا الله وحده. والملائكة أجسام لطيفة متحيزة عند أكثرهم،

وتصحيح ذلك بطريق البرهان وماذكرناه شرح الإسم. وأما النفس فهو عندهم اسم مشترك يقع على معنى يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات، وعلى معنى آخر يشترك فيه الإنسان والملائكة السماوية عندهم، فحد النفس بالمعنى الأول عندهم أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، وحد النفس بالمعنى الآخر انه جوهر غير جسم، هو كمال أول للجسم محرك له بالإختيار عن مبدأ نطقي أي عقلي بالفعل أو بالقوة، فالذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية والذي بالفعل هو فصل أو خاصة للنفس الملكية. وشرح الحد الأول أن حبة البذر إذا طرحت في الأرض فاستعدت للنمو والإغتذاء فقد تغيرت عما كان عليه قبل طرحه في الأرض، وذلك بحدوث صفة فيه لو لم تكن لما استعد لقبولهما من واهب الصور، وهو الله تعالى وملائكته، فتلك الصفة كمال له فلذلك قيل في الحد: إنه كمال أول الجسم، ووضع ذلك موضع الجنس، وهذا يشترك فيه البذر والنطفة للحيوان والإنسان. فالنفس صورة بالقياس إلى المادة الممتزجة، إذ هي منطبعة في المادة وهي قوة بالقياس إلى فعلها. وكمال بالقياس إلى النوع النباتي والحيواني ودلالة الكمال اتم من دلالة القوة والصورة، فلذلك عبر به في محل الجنس، والطبيعي احتراز عن الصناعي، فإن صور الصناعات أيضا كمال فيها، والآلي إحتراز عن القوى التي في العناصر الأربعة، فإنها تفعل لا بآلات

بل بذواتها، والقوى النفسانية فعلها بآلات فيها، فغنها تفعل لا بآلات بل بذواتها، والقوى النفسانية فعلها بآلات فيها. وقولهم " ذو حياة بالقوة " فصل آخر أي من شأنه أن يحيا بالنشو ويبقى بالغذاء، وربما يحيا بإحساس وحركة هما في قوته. وقولهم " كمال أول الإحتراز بالأول عن قوة التحريك والإحساس " فإنه أيضا كمال للجسم لكنه ليس كمالا أولا يقع ثانيا لوجود الكمال الذي هو نفس. وأما نفس الإنسان والإفلاك فليست منطبعة في الجسم، ولكنها كمال الجسم على معنى أن الجسم يتحرك به عن إختيار عقلي. أما الأفلاك فعلى الدوام بالفعل، وأما الإنسان فقد يكون بالقوة تحريكه. وأما العقلي الكلي وعقل الكل والنفس الكلي ونفس الكل، فبيانه أن الموجودات عندهم ثلاثة أقسام: أجسام وهي أخسها، وعقول فعالة وهي أشرفها لبراءتها عن المادة وعلاقة المادة، حتى أنها لا تحرك المواد أيضا غلا بالشوق، وأوسطها النفوس وهي التي تنفعل من العقل وتفعل في الأجسام، وهي واسطة، ويعنون بالملائكة السماوية نفوس الأفلاك فإنها حية عندهم وبالملائكة المقربين العقول الفعالة. والعقل الكلي يعنون به المعنى المعقول المقول على كثيرين مختلفين بالعدد من العقول التي لإشخاص الناس، ولا وجود لها في القوام بل في التصور، فإنك إذا قلت الإنسان الكلي أشرت به إلى المعنى المعقول من الإنسان الموجود في سائر الأشخاص، الذي هو للعقل صورة واحدة تطابق سائر أشخاص الناس، ولا وجود لإنسانية واحدة هي إنسانية زيد، وهي بعينها إنسانية عمرو، ولكن في العقل تحصل صورة الإنسان من شخص زيد مثلا، ويطابق سائر أشخاص الناس كلهم فيسمى ذلك الإنسانية الكلية،

فهذا ما يعنون بالعقل الكلي. وأما عقل الكل فيطلق على معنيين: أحدهما وهو الأوفق للفظ أن يراد بالكل جملة العالم، فعقل الكل على هذا المعنى بمعنى شرح اسمه أنه جملة الذوات المجردة عن المادة، من جميع الجهات التي لا تتحرك لا بالذات ولا بالعرض، ولا تحرك إلا بالشوق، وآخر رتبة هذه الجملة هي العقل الفعال المخرج للنفس الإنسانية في العلوم العقلية من القوة إلى الفعل، وهذه الجملة هي مبادي الكل بعد المبدأ الأول. والمبدأ الأول هو مبدع الكل، وأما الكل بالمعنى الثاني فهو الجرم الأقصى، أعني الفلك التاسع الذي يدور في اليوم والليلة مرة فيتحرك كل ما هو حشوه من السموات كلها، فيقال لجرمه جرم الكل، ولحركته حركة الكل، وهو أعظم المخلوقات، وهو المراد بالعرش عندهم. فعقل الكل بهذا المعنى هو جوهر يجرد عن المادة من كل الجهات، وهو المحرك لحركة الكل على سبيل التشويق لنفسه ووجوده أول وجود مستفاد عن الأول، ويزعمون أنه المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: " أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فاقبل " الحديث إلى آخره. وأما النفس الكلي فالمراد به المعنى المعقول المقول على كثيرين مختلفين في العدد، في جواب ما هو التي كل واحدة منها نفس خاصة لشخص، كما ذكرنا في العقل الكلي. ونفس الكل على قياس عقل الكل جملة الجواهر الغير الجسمانية التي هي كمالات مدبرة للأجسام السماوية المحركة لها على سبيل الإختيار العقلي. ونسبة نفس الكل إلى عقل الكل كنسبة أنفسنا إلى العقل الفعال.

ونفس الكل هو مبدأ قريب لوجود الأجسام الطبيعية ومرتبته في نيل الوجود بعد مرتبة عقل الكل، ووجوده فايض عن وجوده. وحد الملك أنه جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير مائت، هو واسطة بين الباري عز وجل. والأجسام الأرضية فمنه عقلي ومنه نفسي؛ هذا حده عندهم. وحد العلة عندهم أنها كل ذات وجود ذات آخر إنما هو بالفعل من وجود هذا الفعل ووجود هذا بالفعل ليس من وجود ذلك بالفعل. وأما المعلول هو كل ذات وجوده بالفعل من وجود غيره، ووجود ذلك الغير ليس من وجوده، ومعنى قولنا من وجوده غير معنى قولنا مع وجودهن فإن معنى قولنا من وجوده هوأن يكون الذات باعتبار نفسها ممكنة الوجود، وإنما يجب وجودها بالفعل لا من ذاتها، بل لأن ذاتا أخرى موجودة بالفعل يلزم عنها وجوب هذا الذات، ويكون لها في نفسها بشرط عدم العلة الإمتناع. وأما قولنا مع وجوده فهو أن يكون كل واحد من الذاتين فرض موجودا لزم أن يعلم أن الآخر موجود، وإذا فرض مرفوعا لزم أن الآخر مرفوع،

والعلة والمعلول معا بمعنى هذين اللزومين، وإن كان بين وجهي اللزومين اختلاف لأن أحدهما، وهو المعلول، إذا فرض موجودا لزم ان يكون الآخر قد كان موجودا حتى وجد هذا. وأما الآخر، وهو العلة فإذا فرض موجودا حتى وجد هذا. وأما الآخر وهو العلة فإذا فرض موجودا لزم أن يتبع وجوده وجود المعلول، وإذا كان المعلول مرفوعا لزم أن يحكم ان العلة كانت أولا مرفوعة حتى رفع، لا أن رفع المعلول أوجب رفع العلةن وأما العلة فإذا رفعناها وجب رفع المعلول بإيجاب رفع العلة. حد الإبداع هو اسم مشترك لمفهومين: أحدهما تأسيس الشيء لا عن مادة ولا بواسطة شيء، والمفهوم الثاني ان يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسط، وله في ذاته ان لا يكون موجودا، وقد أفقد الذي له في ذاته إفقادا تاما. وبهذا المفهوم العقل الأول مبدع في كل حال لأنه ليس وجوده من ذاته، فله من ذاته العدم، وقد أفقد ذلك إفقادا تاما. وحد الخلق هو إسم مشترك، فقد يقال خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان؟ وقد يقال: خلق لهذا المعنى الثاني لكن بطريق الإختراع من غير سبق مادة فيها قوة وجوده وإمكانه. حد الأحداث هو إسم مشترك يطلق على وجهين: أحدهما زماني، ومعنى الأحداث الزماني الإيجاد للشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق، ومعنى الأحداث الغير الزماني هو إفادة الشيء وجودا، وذلك الشيء

ليس له في ذاته ذلك الوجود، لا بحسب زمان دون زمان بل بحسب كل زمان. حد القدم والقدم يقال على وجوه، يقال قدم بالقياس، وقدم مطلق، والقدم بالقياس هو شيء زمانه في الماضي أكثر من زمان شيء آخر، فهو قدم بالقياس إليه. وأما القدم المطلق فهو أيضا على وجهين يقال بحسب الزمان وبحسب الذات، فأما الذي بحسب الزمان فهو الشيء الذي وجد في زمان ماض غير متناه. وأما القديم بحسب الزمان هو الذي ليس له وجود زماني وهو موجود للملائكة والسموات وجملة أصول العالم عندهم. والقديم بحسب الذات هو الذي ليس له مبدأ علي، أي ليس له علة، وليس ذلك إلا الباري عز وجل.

القسم الثالث هو المستعمل في الطبيعيات ونذكر منها خمسة وخمسين لفظا وهي: الصورة، والهيولي، والموضوع، والمحمول، والمادة، والعنصر، والأسطقس، والركن، والطبيعة، والطبع، والجسم، والجوهر، والعرض، والنار، والهواء، والماء، والأرض، والعالم، والفلك، والكوكب، والشمس، والقمر، والحركة، والدهر، والزمان، والآن، والمكان، والخلا، والملا، والعدم، والسكون، والسرعة، والبطء، والإعتماد، والميل، والخفة، والثقل، والحرارة، والرطوبة، والبرودة، واليبوسة، والخشن، والملس، والصلب، واللين، والرخو، والمشف، والتخلخل، والإجتماع، والتجانس، والمداخل، والمتصل، والإتحاد، والتتالي، والتوالي.

حد الصورة: واسم الصورة مشترك بين ستة معان: الأول هو النوع يطلق ويراد به النوع الذي تحت الجنس، وحده بهذا المعنى حد النوع، وقد سبق في مقدمات كتاب القياس. الثاني الكمال الذي به يستكمل النوع استكماله الثاني فإنه يسمى صورة، وحده بهذا المعنى كل موجود في الشىء لا كجزء منه، ولا يصح قوامه دونه ولأجله وجد الشيء مثل العلوم والفضائل في الإنسان. الثالث ماهية الشيء كيف كان قد يسمى صورة، فحده بهذا المعنى، كل موجود في الشيء لا كجزء منه، ولا يصح قوامه دونه كيف كان. الرابع الحقيقة التي تقوم المحل بها، وحدّه بهذا المعنى أنه الموجود في شيء آخر لا كجزء منه ولا يصح وجودها مفارقا له، لكن وجوده هو بالفعل حاصل له مثل صورة الماء في هيولي الماء، إنما يقوم بالفعل بصورة الماء أو بصورة أخرى حكمها حكم سورة الماء، والصورة التي تقابل بالهيولي هي هذه الصورة. الخامس الصورة التي تقوم النوع يسمى صورة، وحده بهذا المعنى أنه الموجود في شيء لا كجزء منه نولا يصح قوامه مفارقا له، ولا يصح قوام ما فيه دونه، إلا أن النوع الطبيعي يحصل به كصورة الإنسانية والحيوانية في الجسم الطبيعي الموضوع له. السادس الكمال المفارق وقد يسمى صورة مثل النفس للإنسان، وحده بهذا المعنى أنه جزء غير جسماني مفارق يتم به، وبجزء جسماني نوع طبيعي. حد الهيولي إما الهيولي المطلقة فهي جوهر وجوده بالفعل، إنما يحصل بقبوله الصورة الجسمانية كقوة قابلة للصورة، وليس له في ذاته صورة إلا بمعنى القوة، وهو الآن عندهم قسم الجسم المنقسم بالقسمة المعنوية، لست أول بالقسمة الكمية المقدارية إلى الصورة والهيولي، والقول في إثبات ذلك طويل ودقيق،

وقد يقال هيولي لكل شيء من شأنه أني قبل كمالا وأمرا ما ليس فيه، فيكون بالقياس إلى ما ليس فيه هيولي وبالقياس إلى ما فيه موضوع، فمادة السرير موضوع لصورة السرير، هيولي الصورة الرمادية التي تحصل بالإحتراق. الموضوع قد يقال لكل شيء من شأنه أن يكون له كمال ما، وكان ذلك الكمال حاضرا، وهو الموضوع له، ويقال موضوع لكل محل متقوم بذاته مقوم لمايحله، كما يقال هيولي للمحل الغير المتقوم بذاته بل بما يحله، ويقال موضوع لكل معنى بسلب أو إيجاب وهو الذي يقابل بالمحمول. المادة قد يقال إسما مرادفا للهيولي، ويقال مادة لكل موضوع يقبل الكمال بإجتماعه إلى غيره، ووروده عليه يسيرا مثل المني والدم لصورة الحيوان، فربما كان ما يجامعه من نوعه وربما لم يكن من نوعه. العنصر إسم للأصل الأول في الموضوعات، فيقال عنصر للمحل الأول الذي باستحالته يقبل صورا تتنوع بها الكائنات الحاصلة منه، إما مطلقا وهو العقل الأول، وإما بشرط الجسمية وهوالمحل الأول من الأجسام التي تتكون عنه سائر الأجسام الكائنة لقبوله صورها. الأسطقس هوالجسم الأول الذي باجتماعه إلى أجسام أول مخالفة له في النوع يقال له أسطقس، فلذلك قيل إنه آخر ما ينتهي غليه تحليل الأجسام، فلا توجد عند الإنقسام إليه قسمة إلا إلى أجزاء متشابهة. الركن هو جوهر بسيط، وهو جزء ذاتي للعالم مثل الأفلاك والعناصر، فالشيء بالقياس إلى العالم ركن وبالقياس إلى ما يتركب منه اسطقس، وبالقياس إلى ما تكون عنه عنصر، سواء كان كونه عنه بالتركيب والإستحالة

معا أو بالإستحالة المجردة عنه، فإن الهواء عنصر السحاب بتكاثفه، وليس اسطقسا له، وهو اسطقس وعنصر للنبات. والفلك هو ركن وليس باسطقس ولا عنصر لصورة، ولصورته موضوع، وليس له عنصر مهما عني بالموضوع محل لأمر هو فيه بالفعل ولم يعن به محل متقدم. وهذه الأسماء التي هي الهيولي والموضوع والعنصر والمادة والأسطقس والركن قد يستعمل على سبيل الترادف، فيبدل بعضها مكان بعض بطريق المسامحة، حيث يعرف المراد بالقرينة. الطبيعة مبدأ أول بالذات لحركة الشيء وكمال ذاتي للشيء، فالحجر إذا هوى إلى أسفل فليس يهوي لكونه جسما بل لمعنى آخر يفارقه سائر الأجسام فيه، فهو معنى به يفارق النار التي تميل إلى فوق، وذلك المعنى مبدأ لهذا النوع من الحركة ويسمى طبيعية. وقد يسمى نفس الحركة طبيعة فيقال طبيعة الحجر الهوى. وقد يقال طبيعة للعنصر والصورة الذاتية. والأطباء يطلقون لفظ الطبيعة على المزاج وعلى الحرارة الغريزيةن وعلى هيئات الأعضاء وعلى الحركات وعلى النباتية، ولكل واحد حد آخر ليس يتعلق الغرض به، فلذلك اقتصرنا على الأول. الطبع هو كل هيئة يستكمل بها نوع من الأنواع، فعليه كانت أو انفعالية، وكأنها أعم من الطبيعة، وقد يكون الشيء عن الطبيعة وليس بالطبع مثل الأصبع الزائدة، ويشبه أن يكون هو بالطبع بحسب الطبيعة الشخصية، وليست بالطبع بحسب الطبيعة الكلية، ولعموم الطبع للفعل والإنفعال كان أعم من الطبيعة التي هي مبدأ فعلي. الجسم إسم مشترك قد يطلق على المسمى به من حيث أنه متصل محدود ممسوح في أبعاد ثلاثة بالقوة؛ أعني أنه ممسوح بالقوة وإن لم يكن بالفعل.

وقد يقال جسم لصورة يمكن أن يعرض فيها أبعاد كيف نسبت طولا وعرضا وعمقا، ذات حدود متعينة، وهذا يفارق الأول في أنه لو لم يشترط كون الجملة محدودا ممسوحا بالقوة أو بالفعل، أو اعتقد أن أجسام العالم لا نهاية لها، لكا كل جزء منها يسمى جسما بهذا الإعتبار، والفرق بين الكم وهذه الصورة أن قطعة من الماء ولاشمع كلما بدلت أشكالها تبدلت فيها الأبعاد المحدودة الممسوحة، ولم يبق واحد منها بعينه واحدا بالعدد، وبقيت الصورة القابلة لهذه الأحوال واحدة بالعدد من غير تبدل. والصورة القابلة لهذه الأحوال هي جسمية، وكذلك إذا تكاثف الجسم مثلا كانقلاب الهواء بالتكاثف سحابا أو ماء، أو تخلخل مثلا الجمد لما يستحيل صورته الجسمية، واستحال أبعاده ومقداره، ولهذا يظهر الفرق بين الصورة الجسمية التي هي من باب الكم، وبين الصورة التي هي من باب الجوهر. الجوهر إسم مشترك يقال جوهر لذات كل كالإنسان، أو كالبياض فيقال جوهر البياض وذاته، ويقال جوهر لكل موجود، وذاته لا يحتاج في الوجود إلى ذات اخرى تقارنها حتى يكون بالفعل، وهو معنى قولهم الجوهر قائم بنفسه، ويقال جوهر لما كان بهذه الصفة وكان من شأنه أن يقبل الأضداد بتعاقبها عليه، ويقال جوهر لكل ذات وجوده ليس في موضوع، وعليه اصطلاح الفلاسفة القدماء. وقد سبق الفرق بين الموضوع والمحل فيكون معنى قولهم الموجود لا في موضوع الموجود غير مقارن الوجود لمحل قائم بنفسه مقوم له، ولا بأس بأن يكون في محل لا يتقوم المحل دونه بالفعل، فإنه وإن كان في محل فليس في موضوع،

فكل موجود إن كان كالبياض والحرارة والحركة والعلم فهو جوهر بالمعنى الأول، والمبدأ الأول جوهر بالمعاني كلها إلا بالوجه الثالث وهو تعاقب الأضداد. نعم قد يتحاشى عن إطلاق لفظ الجوهر عليه تأدبا من حيث الشرع. والهيولي جوهر بالمعنى الرابع والثالث، وليس جوهرا بالمعنى الثاني، والصورة جوهر بالمعنى الرابع وليس جوهرا بالمعنى الثاني والثالث، والمتكلمون يخصصون إسم الجوهر بالجوهر الفرد المتحيز الذي لا ينقسم ويسمون المنقسم جسما لا جوهران وبحكم ذلك يمتنعون عن إطلاق إسم الجوهر على المبدأ عز وجل، والمشاحة في الأسماء بعد إيضاح المعاني دأب ذوي القصور. العرض غسم مشترك فيقال لكل موجود في محل عرض، ويقال عرض لكل موجود في موضوع، ويقال عرض للمعنى الكلي المفرد المحمول على كثيرين حملا غير مقوم، وهو العرض الذي قابلناه بالذاتي في كتاب مقدمات القياس. ويقال عرض لكل معنى موجود للشيء خارج عن طبعه، ويقال عرض لكل معنى يحمل على الشيء لأجل وجوده في آخر يفارقه، ويقال عرض لكل معنى وجوده في أول الأمر لا يكون؛ فالصورة عرض بالمعنى الأول فقط، وهو الذي يعنيه المتكلم إذا ما قابله بالجوهر والأبيض، أي الشيء ذو البياض الذي يحمل على الثلج والجص والكافور ليس هو عرضا بالوجه الأول والثاني، وهو عرض بالوجه الثالث، وذلك لأن هذا الأبيض الذي هو نوع محمول غير مقوم، وهو جوهر ليس في موضوع ولا محل، فالبياض هو الحال في محل وموضوع، والبياض لا يحمل على الثلج

فلا ثلج بياضن بل يقال أبيض، ومعناه انه شيء ذو أبيض فلا يكون هذا حملا مقوما. وحركة الحجر إلى أسفل عرض بالوجه الأول والثاني والثالث، وليس عرضا بالوجه الرابع والخامس والسادس، بل حركته إلى فوق عرض بجميع هذه الوجوه، وحركة القاعد في السفينة عرض بالوجه السادس والرابع. الفلك عندهم جسم بسيط كري غير قابل للكون والفساد، متحرك بالطبع على الوسط مشتمل عليه. الكوكب جسم بسيط كري، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن يكون غير قابل للكون والفساد متحرك على الوسط غير مشتمل عليه. الشمس كوكب هو أعظم الكواكب كلها جرما وأشدها ضوءا، ومكانه الطبيعي في الكرة الرابعة. القمر هو كوكب مكانه الطبيعي في الأسفل، من شأنه أن يقبل النور من الشمس على أشكال مختلفة ولونه الذاتي إلى السواد. النار جسم بسيط طباعة أن يكون حارا يابسا متحركا بالطبع عن الوسط، يستقر تحت كرة القمر. الهواء جرم بسيط طباعه أن يكون حارا رطبا مشفا لطيفا، متحركا إلى المكان الذي تحت كرة النار فوق كرة الأرض. الماء جرم بسيط طباعه أن يكون باردا رطبا مشفا، متحركا إلى المكان الذي تحت كرة الهواء وفوق الأرض. الأرض جسم بسيط طباعه أن يكون باردا يابسا، متحركا إلى الوسط نازلا فيه. العالم هو مجموع الأجسام الطبيعية البسيطة كلها

ويقال عالمالكل جملة موجودات متجانسة، كقولهم عالم الطبيعة وعالم النفس وعالم العقل. الحركة كمال أول بالقوة من جهة ما هو بالقوة، وإن شئت قلت هو خروج من القوة إلى الفعل لا في آن واحد، كل تغير عندهم يسمى حركة. واما حركة الكل فهو حركة الجرم الأقصى على الوسط مشتملة على جميع الحركات التي على الوسط وأسرع منها. الدهر هوالمعنى المعقول من إضافة الثبات إلى النفس في الزمان كله. الزمان هومقدار الحركة موسوم من جهة التقدم والتأخر. الآن هو ظرف يشترك فيه الماضي والمستقبل من الزمان، وقد يقال أن الزمان صغير المقدار عن الوهم متصل بالآن الحقيقي من جنسه. المكان هو السطح الباطن من الجوهر الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي. وقد يقال مكان للسطح الأسفل الذي يستقر عليه شيء، يقله، ويقال مكان بمعنىثالث إلا أنه غير موجود، وهو أبعاد متناهية كأبعاد المتمكن يدخل فيها أبعاد المتمكن، وإن كان يجوز أن يلفى من غير متمكن كان هو الخلا، وإن كان لا يجوز إلا أن يشغلها جسم موجود فيه فليس بخلا. الخلا بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قوائم لا في مادة، من شأنه أن يملأه جسم وان يخلو عنه، ومهما لم يكن هذا موجودا كان هذا الحد شرحا للإسم. الملا هو جسم من جهة ما تمانع أبعاده دخول جسم آخر فيه. العدم الذي هو أحد المبادي للحوادث هو ان لا يكون في شيء ذات شيء، من شأنه أن يقبله ويكون فيه.

السكون هو عدم الحركة فيما من شأنه أن يتحرك بأن يكون هو في حالة واحدة من الكم والكيف والأين والوضع زمانا، فيوجد عليه في آنين. السرعة كون الحركة قاطعة لمسافة طويلة في زمان قصير. البطء والميل هو كيفية بها يكون الجسم مدافعا لما يمنعه عن الحركة إلى جهته. الخفة قوة طبيعية يتحرك بها الجسم عن الوسط بالطبع. الثقل قوة طبيعية يتحرك بها الجسم إلى الوسط بالطبع. الحرارة كيفية فعلية محركة لما تكون فيه إلى فوق لأحداثها الخفة، فيعترض ان تجمع المتجانسات وتفرق المخلتفات، وتحدث تخلخلا من باب الكيف في الكيفي، وتكاثفا من باب الوضع فيه بتحليله وتصعيده اللطيف. البرودة كيفية فعلية يفعل بين المتجانسات وغير المتجانسات، بحصرها الأجسام بتقليصها وعقدها اللذين من باب الكيف. الرطوبة كيفية انفعالية بها يقبل الجسم الحصر والتشكيل الغريب بسهولة، ولا يحفظ ذلك بل يرجع إلى شكل نفسه ووضعه الذي بحسب حركة جرمه في الطبع. اليبوسة كيفية انفعالية لجسم عسير الحصر والتشكيل الغريب عسر الترك والعود إلى شكله الطبيعي. الخشن هو جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء مختلفة الوضع. الأملس هو جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء متساوية الوضع. الصلب هو الجرم الذي لا يقبل دفع سطحه إلى داخل إلا بعسر. اللين هو الجرم الذي يقبل ذلك. الرخو جرم ليس سريع الإنفصال المشف جرم ليس له في ذاته لون، ومن شأنه يرى بتوسطه ماوراءه.

التخلخل اسم مشترك يقال تخلخل لحركة الجسم من مقدار إلى مقدار أكبر، يلزمه أن يصير قوامه أرق. ويقال تخلخل لكيفية هذا القوام. ويقال تخلخل لحركة أجزاء الجسم عن تقارب بينها إلى تباعد فيتخللها جرم أرق منها، وهذه حركة في الوضع والأول في الكم. ويقال تخلخل لنفس وضع أجزاء هذا، ويفهم حد التكاثف من حد التخلخل، ويعلم أنه مشترك يقع على أربعة معان مقابلة لتلك المعانيي: واحدة منها حركة في الكم، والآخر كيفية، والثالث حركة في الوضع، والرابع وضع. الإجتماع وجود أشياء كثيرة يعمها معنى واحد، والإفتراق مقابله. المتجانسان هما اللذان لهما تشابه معا في الوضع، وليس يجوز أن يقع بينهما ذو وضع. المداخل هو الذي يلاقي الآخر بكلية حتى يكفيهما مكان واحد. المتصل إسم مشترك يقال لثلاثة معان: أحدها هو الذي يقال له متصل في نفسه الذي هو فصل من فصول الكم، وحدّه أنه ما من شأنه أن يوجد بين أجزائه حد مشترك، ورسمه أنه القابل للإنقسام بغير نهاية. والثاني والثالث هما بمعنى المتصل،

وأولهما من عوارض الكم المتصل بالمعنى الأول من جهة ما هو كم متصل، وهو أن المتصلين هما اللذان نهايتاهما واحدة، والثالث شركة في الوضع ولكن مع وضع، وذلك أن كل ما نهايته ونهاية شيء آخر واحد بالفعل يقال إنه متصل، مثل خطي زاوية. والمعنى الثالث هو من عوارض الكم المتصل من جهة ما هو في مادة، وهو أن المتصلين بهذا المعنى هما اللذان نهاية كل واحد منهما ملازم لنهاية الآخر في الحركة، وإن كان غيره بالفعل مثل إتصال الأعضاء بعضها ببعض وإتصال الرباطات بالعظام. وبالجملة كل مماس ملازم عسير القبول للإنفصال الذي هو مقابل للماسة. الإتحاد إسم مشترك، فيقال إتحاد لإشتراك أشياء فيمحمول واحد ذاتي أو عرضي، مثل اتحاد الكافور والثلج في البياض، والإنسان والثور في الحيوانية. ويقال إتحاد لإشتراك محمولات في موضوع واحدن مثل اتحاد الطعم والرائحة في التفاح. ويقال اتحاد لإجتماع الموضوع والمحمول في ذات واحدة كجزئي الإنسان من البدن والنفس ويقال اتحاد لإجتماع أجسام كثيرة إما بالتتالي كالمائدة، وإما بالجنس كالكرسي والسرير، وإما باتصال كأعضاء الحيوان، وأحق هذا الباب بإسم الإتحاد هو حصول جسم واحد بالعدد من إجتماع أجسام كثيرة لبطلان خصوصياتها، لأجل إرتفاع حدودها المنفردة وبطلان إستقلالها بالإتصال. التتالي هو كون شيء بعد شيء بالقياس إلى مبدأ محدود، وليس بينهما شيء من بابهما.

القسم الثالث ما يستعمل في الرياضيات، ولما لم نتكلم في كتاب تهافت الفلاسفة على الرياضيات اقتصرنا من هذه الألفاظ على قدر يسير، وقد يدخل بعضها في الإلهيات والطبيعيات في الأمثلة والإستشهادات، وهي ست ألفاظ: النهاية، وما لا نهاية، والنقطة، والخط، والسطح، والبعد. النهاية هي غاية ما يصير الشيء ذو الكمية إلى حيث لا يوجد وراءه شيء منه. ما لا نهاية له هو كم ذو أجزاء كثيرة، بحيث لا يوجد شيء خارج عنه وهومن نوعه، وبيحث لا ينقضي. النقطة ذات غير منقسمة، ولها وضع وهي نهاية الخط. الخط هو مقدار لا يقبل الإنقسام إلا من جهة واحدة وهو نهاية السطح. السطح مقدار يمكن أن يحدث فيه قسمان متقاطعان على قوائم، وهو نهاية الجسم. البعد هو كل ما يكون بين نهايتين غير متلاقيتين ويمكن الإشارة إلى جهته، ومن شأنه أنه يتوهم أيضا فيه نهايات من نوع تينك النهايتين، والفرق بين البعد والمقادير الثلاثة أنه قد يكون بعد خطي من غير خط، وبعد سطحي من غير سطح. مثاله أنه إذا فرض في جسم لا إنفصال في داخله نقطتان كان بينهما بعد ولم يكن بينهما خط.

وكذلك إذا توهم فيه خطان متقابلان كان بينهما بعد ولم يكن بينهما سطح، لأنه إنما يكون بينهما سطح إذا انفصل بالفعل بأحد وجوه الإنفصال، وإنما يكون فيه خط إذا كان فيه سطح، ففرق إذا بين الطول والخط وبين العرض والسطح، لأن البعد الذي بين النقطتين المذكورتين هو طول وليس بخط، والبعد بين الخطين المذكورين هو عرض وليس بسطح، وإن كان كل خط ذا طول، وكل سطح ذا عرض وقد نجز غرضنا من كتاب الحد قانونا وتفصيلا.

كتاب أقسام الوجود وأحكامه

مقصود هذا الكتاب البحث عن أقسام الوجود، اعني الأقسام الكلية والبحث عن عوارضها الذاتية التي تلحقها من حيث الوجود، وهو المراد بأحكامه وقد سبق الفرق بين العوارض الذاتية والتي ليست بذاتية، ولواحق الشيء أعني محمولاته تنقسم إلى ما يوجد شيء أخص منه، وإلى ما لا يوجد شيء أخص منه، فالذي يوجد ما هو أخص منه ينقسم، فمنه فصول منه أعراض ذاتية، وقد سبق الفرق بينهما. وبالفصول ينقسم الشيء إلى أنواعه، وبالأعراض ينقسم إلى اختلاف أحواله، وقد سبق الفرق بين الفصول وبين الأعراض العامة، وإنقسام الوجود إلى الأقسام العشرة التي واحد منها جوهر وتسعة أعراض كما سبق، جملتها يشبه الإنقسام بالفصول وإن لم تكن بالحقيقة كذلك، إذ ذكرنا في تحقيق الفصل ودخوله في الماهية ما يخرج هذه الأمور عن الفصول، كما خرج الوجود والشيء عن الأجناس، وذلك بحكم ما سبق من الإصطلاح.

وانقسامه إلى ما هو بالقوة والفعلن وإلى الواحد والكثير والمتقدم والمتأخر والعام والخاص والكلي والجزئي، والقديم والحادث والتام والناقص والعلة والمعلول، والواجب والممكن وما يجري مجراها، يشبه الإنقسام بالعوارض الذاتية، فإن هذه الأمور لا تلحق الموجود لأمر أعم منه إذ لا أعم من الوجود، ولا لأمر أخص منه كالحركة فإنها تلحق الموجود من حيث كونه جسما لا من حيث كونه موجودا. ومقصودنا من النظر في هذا ينقسم إلى فنين: (الفن الأول) في أقسام الوجود وهي عشرة أنواع في أنفسها، ثم يكون أمرها في النفس أعني العلم بها أيضا عشرة متباينة، فإن العلم معناه مثال مطابق للمعلوم كالصورة والنقش الذي هو مثال الشيء، فيكون لها عشر عبارات إذ الألفاظ تابعة للآثار الثابتة في النفس المطابقة

للأشياء الخارجية، وتلك الألفاظ هي: الجوهر والكم والكيف والمضاف والأين، ومتى والوضع وله وأنيفعل وأن ينفعل. فهذه العبارات أوردها المنطقيون، ونحن نكشف معنى كل واحد منها، وبعد الإحاطة بالمعنى فلا مشاحة في الألفاظ. القول في الجوهر إعلم أن الموجود ينقسم بنوع من القسمة إلى الجوهر والعرض، وإسم كل من الجوهر والعرض مشترك كما سبق، ولكنا نعني الآن من جملتها شيئا واحدا فنريد بالجوهر الموجود لا في موضوع، ونريد بالموضوع المحل القريب الذي يقوم بنفسه لا بتقويم الشيء الحال فيه كاللون في الإنسان بل في الجسم، فغن ماهية الجسم لا تتقومب اللون بل اللون عارض يلحق بعد قوام ماهية الجسم بذاته، لا كصورة المائية في الماء، فإنها إذا فارقت عند إنقلاب الماء هواء، كان المفارق ما تتبدل الماهية بسببه لا كالحرارة والبرودة إذا فارقت الماء، فإن الماهية لا تبدل فإنا إذا سئلنا عن الحار والبارد: ما هو؟ قلنا: هو ماء. وإذا سئلنا عن الهواء لم نقل إنه ماء.

وإن أوردنا ثم وقلنا ماء حار أو بارد ولم نورد ههنا فنقول ماء قد تخلخل وانتشر، فإن صورة المائية قد زالت. والمتكلمون أيضا يسمون هذا أيضا عرضا، فإنهم يعنون بالعرض ما هو في محل، وهذه الصورة في محل والإصطلاح لا ينبغي أن ينازع فيه، فلكل فريق أن يصطلح في تخصيص العرض بما يريد، ولكن لا يمكن إنكار الفرق بين الحرارة بالنسبة إلى الماء التي تزول عند البرودة، وبين صورةالمائية التي تزول عند إنقلابه هواءن فإن الزائل ههنا يبدل المذكور في جواب ما هو والزائل لثم لا يبدله. والجوهر على إصطلاح المتكلمين عبارة عما ليس في محل، فصورة عندهم جوهر والمعنى المشترك بين الماء والهواء إذا استحال الماء هواء يسمى عندهم أيضا جوهرا وهو الهيولي، فإذا فهم معنى الموضوع، فالفرق بينه وبين المحمول إن الجوهر ينقسم إلى مال يس في الموضوع، ولا يمكن أن يكون محمولا، وإلى ما ليس في موضوع، ويمكن حمله على موضوع. والأول هو الجوهر الشخصي كزيد وعمرو. والثاني هو الجواهر الكلية كالإنسان والجسم والحيوان، فإنا نشير إلى موضوع مثل زيد ونحمل هذه الجواهر عليه، وتقول زيد إنسان وحيوان وجسم، فيكون المحمول جوهرا لا عرضا غلا أنه محمول عرف ذات الموضوع، وليس خارجا عن ذاته، لا كالعرض إذا حمل على الجوهر فإنه يعرف به شيء خارج عن ذاته، لا كالعرض إذا حمل على الجوهر فإنه يعرف به شيء خارج عن ذات الموضوع، إذ البياض يحملعلى الجوهر وهو خارج عن ذات الجوهر، ولذلك لا يحد هذا الموضوع بحد المحمول، إذ تقول في حد البياض: إنه لو يفرق البصر ولا يحد الموضوع.

وأما الإنسان والحيوان والجسم ونظائرها فنحملها على شخص زيد، ويحد هذه الجواهر بحد، وهو بعينه حد الموضوع، إذ نقول لزيد: إنه حيوان ناطق مائت، او هو جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة؛ فبهذا يتهيأ الفرق بين الجواهر الكلية والجواهر الجزئية. وأما الأعراض فجملتها في موضوع، ولكنها تنقسم إلى ما يقال علىموضوع بطريق الحمل عليه، وإلى ما لا يحمل على موضوع، فالمحمول على موضوع هي الأعراض الكلية كاللون مثلا، فإنه يحمل على البياض والسواد وغيره، فيقال: البياض لون والسواد لون. وأما الأعراض الشخصية فلايمكن حملها ككتابة زيد وبياض شخص، إذ لا يمكن أن يحمل على شىء حتى يقال هو كتابة زيد أو بياض شخص، وإذا قلت زيد كاتب أو أبيض لم يكن ذلك حملا للبياض بل معناه هو ذو كتابة. ومهما قلنا هو ذو إنسان لم يكن الإنسان محمولا، وكذا إذا ذو بياض، فإذا الشيء إنما يمكن أن يكون محمولا باعتبار كونه كليا، عرضيا كان أو جوهرا. وسيأتي حقيقة معنىالكلي في أحكام الوجود. فإن قيل: فالجوهر الكلي أولى بمعنى الجوهرية أم الشخصي؟ قلنا: الجوهر الكلي على ما سيأتي قوامه بالشخصيات، إذ لولاها لم تكن

الكليات موجودةن فالشخص في الرتبة متقدم عليه، لكن الشخص في صيرورته معقولا يفتقر إلى الكلي ولا يفتقر ف يالوجود إليه، وتحقيق هذا عند بيان معنى الكلي. فإن قيل: فما أقسام الجوهر؟ قلنا: إذا أريد بهذا الجوهر القائم لا في محل فقط أو القائم لا في موضوع انقسم إلى جسم، أعني إلى متحيز وغير متحيز، والجسم ينقسم إلى مغتذ وغير مغتذ. والمغتذي ينقسم إلى حيوان وإلى غير حيوان. والحيوان ينقسم إلى ناطق وغير ناطق، وهذا تدخل فيه الحيوانات كلها على اختلاف أصنافها، وينفصل كل نوع بفصل يخصه وإن كنا لا نشعر به. وغير المغتذي يدخل فيه السماء والواكب والعناصر الأربعة والمعادن كلها؛ فهذه أقسام الجواهر. وذهب أكثر المتكلمين أن الجواهر المتحيزة كلها جنس واحد، وإنما تختلف بأعراضها، إذ للجسم ماهية واحدة وهو كونه متحيزا مؤتلفا، فكونه حيا معناه قيام العلم والحياة به. والفلاسفة يقولون: إن هذه الجواهر مختلفة في أنفسها بإختلاف حدودها،

وإن الصفات المقومات لها هيئات للأشياء التي بتبدل ماهيتها يتبدل جواب ما هو، ويوجب اختلافا في تحقيق الذات وتحقيق الحق في هذين المذهبين ليس من غرضنا، بل الغرض بيان معنى الجوهر وأقسامه. وقد حان القول في الكمية والمقدار. اعلم أن الكم عرض، وهو عبارة عن المعنى الذي يقبل التجزؤ والمساواة والتفاوت لذاته، فالمساواة والتفاوت والتجزؤ من لواحق الكم، فإن لحق غيره فبواسطته لا من حيث ذات ذلك الغير، وهو ينقسم إلى الكم المتصل والمنفصل. أما المتصل فهو كل مقدار يوجد لأجزائه حد مشترك يتلاقى عنده طرفاه، كالنقطة للخط والخط للسطح، والآن الفاصل، للزمان الماضي والمستقبل. والمتصل ينقسم إلى ذي وضع وإلى ما ليس بذي وضع، وذو الوضع هو الذي لأجزائه اتصال وثبات وتساوق في الوجود معا، بحيث يمكن أن يشار إلى كل واحد منهما أنه أين هو من الآخر، فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة فقط كالخط،

ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو السطح، ومنه ما يقبل في جميعها على قوائم وهو الجسم. والمكان أيضا ذو وضع لأنه السطح الباطن من لحاوي فإنه يحيط بالمحوي فهو مكانه. وفريق يقولون: مكان الماء من الآنية الفضا الذي يقدر خلاء صرفا لو فارقه الماء ولم يخلفه غيره، وهذا أيضا عند القائل من جملة الكم المتصل فإنه مقدار يقبل الإنقسام والمساواة والتفاوت. وأما الزمان فهو مقدار الحركة إلا أنه ليس له وضع، إذ لا وجود لأجزائه معا، وإن كان له إتصال إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن. وأما المنفصل فهو الذي لا يوجد لأجزائه لا بالقوة ولا بالفعل شيء مشترك يتلاقى عنده طرفاه كالعدد والقول، فإن العشرة مثلا لا إتصال لبعض أجزائها بالبعض، فلو جعلت خمسة من جانب وخمسة من جانب لم يكن بينهما حد مشترك يجري مجرى النقطة من الخط والآن من الزمان، والأقاويل أيضا من جملة ما يتعلق بالكمية فإن كل ما يمكن أن يقدر ببعض أجزائه فهو ذو أقدار، إذ العشرة يقدرها الواحد بعشر مرات والإثنين بخمسة، وما من عدد إلا ويقدر ببعض أجزائهن وكذلك الزمان فإن الساعة تقدر الليل والنهار، والنهار والليل يقدر بهما الشهر، وبالشهر السنة. وهذه الأمور تجريمجرى الأذرع من الأطوال، فكذلك الأقاويل تقدر ببعض أجزائها، كما يقدر في العروض إذ به تعرف الموازنة والمساواة والوحدة والتفاوت، فهذه أقسام الكمية.

القول في الكيفية والمعني بها الهيئات التي بها يحاب عن سؤال السائل عن آحاد الأشخاص إذا قال كيف هو، واحترزنا بالأشخاص عنالفصول فغن ذلك يذكر في السؤال عن المميز للشيء بأي شيء هو. وبالجملة هي عبارة عن كل هيئة قارة في الجسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج، ولا نسبة واقعة في أجزائه. وهذان الفصلان للإحتراز عن الإضافة والوضع كما سيأتي. ثم هذه الكيفية تنقسم إلى ما يختص بالكم من جهة ما هو كم كالتربيع للسطح، والإستقامة للخط والفردية للعدد وكذا الزوجية. وأما الذي لا يختص بالكم فينقسم إلى المحسوس وغير المحسوس. أما المحسوس فهو الذي ينفعل عنه المحسوس أي يحدث فيها آثارا منها، كاللون والطعوم والحرارة والبرودة وغير ذلك مما يؤثر في الحواس الخمس، فما يكون من جملة ذلك راسخا يسمى كيفيات إنفعالية كصفرة الذهب وحلاوة العسل. وما كان سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل يسمى إنفعالا. وأما غير المحسوس فينقسم إلى الإستعداد لأمر آخر،

وإلى كمال لا يكون إستعدادا لغيره. أما الإستعداد فالذي للمقاومة والإنفعال يسمى قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة وقوة المذكرة والمصارعة، وإن كان استعدادا لعسر الفعل وسهولة الإنفعال سمي ضعفا يعني نفي القوة كالممراضية واللين. وفرق بين الصحة وبين المصحاحية، فإن المصحاح قد لا يكون صحيحا والممراض قد يكون صحيحا. وأما الكمالات التي لا يمكن أن تكون إستعدادا لكمال آخر وتكون غير محسوسة بذاتها كالعلم والصحة، فما كان منها سريع الزوال سمي حالات كغضب الحليم ومرض المصحاح، وما كان ثابتا سمي ملكة كالعلم والصحة، أعني العلم الثابت بطول الممارسة دون علوم الشادي التي هي معرضة للزوال، فإن العلم كيفية للنفس غير محسوسة. القول في الإضافة وهو المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر ليس له وجود غيره البتة، كالأبوة بالقياس إلى البنوة لا كالأب، فإن له وجودا يخصه كالإنسانية مثلا، وتميز هذا المعنى عن الكيف والكم لا خفاء به

فهذا أصله. وأما أقسامه فإنه ينقسم بحسب سائر المقولات التي تعرض فيها الإضافة، فإنها تعرض للجواهر والأعراض، فإن عرضت للجوهر حدث منه الأب والإبن والمولى والعبد ونظيرها، وإن عرضت في الكم حدث منه الصغير والكبير والقليل والكثير والنصف والضعف ونظيره، وإن عرضت في الكيفية كانت منه الملكة والحال والحس والمحسوس والعلم والمعلوم، وإن عرضت في الأين ظهر منه فوق وأسفل وقدام وتحت ويمين وشمال، وإذا عرضت في المتى حصل منه السريع والبطيء والمتقدم والمتأخر، وكذلك باقي المقولات.

وتنقسم بنحو آخر من القسمة إلى ما يختلف فيه إسم المتضايفين: كالأب والإبن والموالى والعبد، وإلى ما يتوافق فيهما الإسمب: كالأخ مع الأخ والصديق والجار، وإلى ما يختلف بناء الإسم مع اتحاد ما منه الإشتقاق: كالمالك والمملوك والعالم والمعلوم والحاس والمحسوس. ومهما لم يوجد المضاف من حيث هو مضاف سقطت الإضافة، فإن الأب إنسان، فهو باعتبار كونه إنسانا غير مضاف بل الدال على إضافته لفظ الأب. وأمارة اللفظ الدال على الإضافة التكافؤ من الجانبين، فإن الأب أب للإبن، والإبن ابن للأب. ولو قيل: الأب أب للإنسان لم يمكن ان يقال: الإنسان إنسان للأب. وإذا قيل: السكان سكان لذي السكان، أمكنك أن تقول: وذو السكان هو ذر سكان بالسكان، مهما لم يكن لذي السكان وهو أحد المضايفين إسما خاصا، كما تقول لليد يد لذي اليد، وذو اليد ذو يد باليد. فلو قلنا: السكان سكان للذورق، لم ينقلب لأنه ليس لكل ذورق سكان، فيكون المضاف إليه غير مذكور فيه اللفظ الدال على الإضافة.

وإذا قلت: اليد يد الإنسان، لم يمكن أن تقول: الإنسان إنسان لليد، بل ينبغي أن يقال: اليد لذي اليد حتى ينقلب بطريق التكافؤ. ومن شرائد هذا التكافؤ ان يراعة إتحاد جهة الإضافة، حتى أن يؤخذ جميعا بالفعل أو جميعا بالقوة، وإلا ظن تقدم احدهما على الآخر. ومن خواص الإضافة أنه إذا عرف أحد المضافين محصلا به عرف الآخر أيضا كذلك، فيكون وجود أحدهما مع وجود الآخر لا قبله ولا بعده، وربما يظن أن العلم والمعلوم ليسا متساويين بل المعلوم متقدم على العلم، وليس كذلك بل العلم مثال للمعلوم بكونه معلوما مع كون العلمف ي نفسه ومع كون الذات عالما بلا ترتيب، إلاّ أن يوحد المعلوم والمحسوس معلوما ومحسوسا بالقوة لا بالفعل، فيكون متقدما على العلم بالفعل، ولا يكون متقدما على العلم بالقوة. القول في الأين والمراد به نسبة الجوهر إلى مكانه الذي هو فيه، كقولك في جواب أين زيد: إنه في السوق او في الدار، ولسنا نعني به أن الأين البيت بل المفهوم من قولنا في البيت هو العرض له ولكل جسم أين، ولكن بعضها بين كما للإنسان واحد العالم، وبعضها يعلم على تأويل كما لجملة العالم، فإنه له أين على تأويل، فكل جسم له أين خاص قريب واينات مشتركة تشتمل عليه بعضها أصغر

من بعض وأقرب إلى الأول، مثل زيد وهو في البيت، فإن أينه القريب مقعد الهواء المحيط به الملاقى لسطح بدنه ثم البلد ثم المعمور من الأرض ولذلك يقال: هو في البيت وفي البلد وفي المعمور وفي الأرض وفي العالم. وأما أنواع الإين فمنها ما هو أين بذاته، ومنها ما هو أين مضاف، فالذي هو أين بذاته كقولنافي الدار وفي السوق، وما هو أين بالإضافة فهو مثل فوق وأسفل ويمنة ويسرة وحول ووسط، وما بين وما يلي وعند ومع وعلى وما أشبه ذلك، ولكن لا يكون للجسم أين مضاف ما لم يكن له أين بذاته، فما كان فوق فلا بد وأن يكون له أين بذاته، إن كان معنى كونه فوق فوقية مكانية. القول في متى وهو نسبة الشيء إلى الزمان المحدود الذي يساوق وجوده، وتنطبق نهاياته على نهاية وجوده أو زمان محدود يكون هذا الزمان جزءا منه. وبالجملة فما يقال في جواب متى والزمان المحدود هو الذي حد بحسب بعده من الآن، أما في الماضي أو المستقبل وذلك إما باسم مشهور كقولك أمس وأول من أمس وغدا والعام القابل وإلى مائة سنة وإما بحادث معلوم البعد من الآن كقولك على عهد الصحابة ووقت الهجرة، والزمان المحدود إما أول وإما ثان له؛

فزمانه الأول هو الذي يغلف وجوده وانطبق عليه غير منفصل عنه، وزمانه الثاني هوالزمان المحدود الأعظم الذي نهاية الأول جزء منه، مثل أن يكون الحرب في ست ساعات من يوم من شهر من سنة، فتلك الساعات الست هي الزمان الأول المطابق، واليوم والشهر والسنة أزمنة ثوان يضاف إليها باعتبار كون زمانه جزءا منها فيقال: وقع الحرب في السنة الفلانية ومساوقة الزمان لوجود الشيء غير تقدم الزمان له، فإنا نعني بالمساوق المنطبق، وذلك قد يكون بنهايات الزمان الذي ينقسم والمقدار جواب للسائل عن ذلك بكم، كما يقال: كم عاش فلان؟ فيقال: مائة سنة؛ فالزمان مقدار، وإذا قيل: كم دامت الحرب؟ فيقال: سنة؛ فهذا مطابق لا مقدم، فقد يكون المطابق ممتدا ولكن ليس من شرطه الإمتداد، ومن شرط الزمان المقدم الإمتداد والإنقسام. القول في الوضع وهو عبارة عن كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة بالإنحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان، إن كان في مكان يقله كالقيام والقعود والإضطجاع والإنبطاح، فإن هذا الإختلاف يرجع إلى تغاير نسبة الأعضاء إذ الساق يبعد من الفخذ في الإنتصاب وفي القعود قد تضاما، وإذا مد رجليه مستلقيا فوضع أجزائه كوضعه إذا انتصب، ولكن بالإضافة

إلى الجهة والمكان يختلف إذ كان الرأس في القيام فوق الساق وليس ذلك عند الإستلقاء، ومهما مشى الإنسان فالوضع لا يتغير عليه والمكان يتغير، فليس الوضع هو تبدل المكان. والوضع قد يكون للجسم بالإضافة إلى ذاته كأجزاء الإنسان، فغنه لو لم يكن جسم غيره لكان وضع أجزائه معقولا، وقد يكون بالإضافة إلى جسم آخر وذلك في أينه الذي يثب له بالإضافة من فوق وتحت ويمين ووسط وغيرها. ولما كانت الأمكنة ضربين: ضرب بالذات وضرب بالإضافة، صارالوضع أيضا ضربين، لكن لا يكون للشيء وضع بالإضافة ما لم يكن له وضع بذاته. ولما كان المكان الذي بذاته لا بالإضافة ضربين: ضرب هو للجسم أول خاص، وضرب هو ثان ومشترك له ولغيره، صار له وضعه أحيانا بالقياس إلى مكان الأول الخاص وأحيانا إلى مكانه الثاني المشترك له ولغيره وآفاقه، إذ لكل إنسان موضع من القطبين مثلا زمن الآفاق، ولكل جزء من السماء وضع من أجزاء الأرض في كل حالة من الأحوال، وبحركته يبدل في الوضع فقط لا في المكان. القول في العرض الذي يعبر عنه بله وقد يسمى الجده. ولما مثل هذا بالمنتعل والمتسلح والمنطلس فلا يتحصل له معنى سوى أنه نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق على جميع بسيطه

أوعلى بعضه، إذا كان المنطبق ينتقل بانتقال المحاد به المنطبق عليه، ثم منه ما هو طبيعي كالجلد للحيوان والخف للسلحفاة، ومنها ماهو إرادي كالقميص للإنسان. وأما الماء في الإناء فليس من هذا القبيل، لأن الإناء ينتقل بانتقال الماء، بل هو بالعكس فلا تدخل تلك النسبة في هذه المقولات بل في مقولة الاين؛ والله أعلم. القول في أن يفعل ومعناه نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره غير باقي الذات، بل لا يزال يتجدد كالتسخين والتحديد والقطع، فإن البرودة والسخونة والإنقطاع الحاصلة بالثلج والنار والأشياء الحارة في غيرها لها نسبة إلى أسبابها، عند من اعتقد أسبابا في الوجود، فتلك النسبة من جانب السبب يعر عنه بأن يفعل إذا قال يسخن ويبرد، ومعنى يسخن يفعل السخونة، ومعنى يبرد يفعل البرودة؛ فهذه النسبة هي التي عبر عنها بهذه العبارات، وقد يعتقد معتقد أن تسمية ذلك فعلا مجازا إذ كان يرى الفعل مجازا في كل من لا اختيار له، ولكن لا ينك رمع ذلك نسبة لأجلها يصدق قوله سخنته النار، فتلك النسبة جنس من الأعراض عبر عنه بالفعل أو بغيره، فلا مضايقة في العبارات. القول في الإنفعال وهو نبة الجوهر المتغير إلى السبب المغير، فإن كل منفعل فعن فاعل، وكل متسخن ومتبرد فعن مسخن ومبرد بحكم العادة المطردة عند أهل الحق،

وبحكم ضرورة الجبلة عند المعتزلة والفلاسفة. والإنفعال على الجملة تغير، والتغير قد يكون من كيفية إلى كيفية مثل تصير الشعر من السواد إلى البياض، فغنه غيره الكبر على التدريج وصيره من السواد إلى البياض، فإنه غيّره الكبر على التدريج وصيره من السواد إلى البياض قليلا قليلا بالتدريج، ومثل تصير الماء من البرودة إلى الحرارة، فإنه حين ما يتسخن الماء يحسر عنه البرودة قليلا قليلا، وتحدث فيه الحرارة قليلا قليلا على الإتصال إلا أن ينقطع سلوكه، فيقف فهو في كل وقفة على حالة واحدة تفارق ما قبلها وما بعدها، فليست حالته مستقرة في وقت السلوك. وعلى الجملة لا فرق بين قولك ينفعل وبين قولك يتغير. وأنواع التغير كثيرة وهي أنواع الإنفعال بعينه؛ فهذه هي الأجناس العالية للموجودات كلها، وقد جرى الرسم بحصرها في هذه العشرة؛ فإن قيل: فهذا الحصر أخذ تقليدا من المتقدمين أو عليه برهان؟ قلنا: التقليد شأن العميان، ومقصود هذا الكتاب أن تتهذب به طرق البرهان، فكيف يقنع فيه بالتقليد بل هو ثابت بالبرهان ووجهه أن هذا الحصر فيه ثلاث دعاوي: إحداهما أن هذه العشرة موجودة وهذا معلوم بمشاهدة العقل والحس كما فصلناه. والآخر إنه ليس في الوجود شيء خارج عنها وعرف ذلك بل إن كل ما أدركه العقل ليس يخلو من جوهر أو عرض، وكل جوهر ينطلق عليه عبارة أو يختلج به خاطر فممكن إدراجه تحت هذه الجملة وأما أنه ليس بممكن أن يقتصر على تسعة فطريق معرفته أن تعرف تباين هذه الأقسام بما ذكرناه اختلافها، فيتم العلم بهذه الدعوى بهذه الجملة.

نعم لا يبعد ان يتشكك ناظر في وجه مباينة قسم لقسم حتى يلتبس عليه وجه الفرق بين الإضافة المحضة وبين النسبة إلى المكان أو نسبة الإنفعال، لأن هذه الأمور فيها أيضا نسبة، ولكن فيها وراء النسبة شيء، ولكن إذا أمعن النظر ظهر له التباين كما لا يبعد أن يتشكك في عرض من الأعراض أنه من قبيل هذا القسم أو ذاك، كما يتشكك ناظر في الفرق بين نسبة الجوهر إلى مكانه، وبين نسبته إلى جوهر بطريق المجازاة، وذلك إنما يعرض من حيث يكون إسم صفة ويكون كونه في المكان من حيث هو مضاف، ولا يوجد له إسم يدل عليه من حيث تلكلاصفة بغير إضافة حتى يتكلف، فيوضع له إسم الاين ويوضع للوقوع فيالزمان إسم متى، فمهما كان إسمه الدال عليه منحيث هو مضاف هو الذي جعل إسمه الدال عليه من حيث هو صفة إعترض هذا الشك، ويكون هذا تقصير من واضع الأسامي، وكذلك قد يعرض في هذا أن يكون إسم جنس يدل عليه من حيث هي مضافة، فيظن أن الجنس إضافة، ويتعجب أن الجنس كيف يكون من مقولة المضاف، ويكون النوع من مقولة أخرى، وسببه ما ذكرنا. وأن تشكك في التكاثف والتخلخل أنه من مقولة الكيفية أو من مقولة الوضع وأنتشأ الشك من إشتراك الإسم ههنا، فإن التخلخل أن نتباعد أجزاء الجسم بعضها من بعض لتخللها أجسام غريبة من هذا أوغيره، والتكاثف معناه تقارب أجزائه بالتلبد حتى ينعصر ما فيه من هواء فيسيل من خلله فتتقارب أجزاؤه وتتماس.

؟؟؟ الفن الثاني ؟ في انقسام الوجود بأعراضه الذاتية إلى أصنافه وأحواله مثل كونه مبدأ وعلة ومعلولا، وانقسامه إلى ما هو بالقوة وما هو بالفعل وإلى القديم والحادث والقبل والبعد والمتقدم والمتأخر، والكلي والجزئي والتام والناقص والواحد والكثير والواجب والممكن، فإن هذه العوارض تثبت للموجود من حيث هو موجود، لا من حيث أنه شيء آخر أخص منه ككونه جسما أو عرضا أو غيرهما. ؟ القول في الإنقسام إلى العلة والمعلول ؟؟؟؟؟؟ واتصال الموجود بكونه مبدأ وعلة والمبدأ إسم لما يكون قد استتم وجوده في نفسه إما عن ذاته وإما عن غيره، ثم يحصل منه وجود شيء آخر يتقوم به، ويسمى هذا علة بالإضافة إلى ما هو مبدأ له، ثم لا يخلو

إما أن يكون؟ كالجزء من المعلول مثل الخشب وصورة السرير للسرير أو لا يكون كالجزء، فالذي يكون كالجزء قد لا يجب عن وجوده وجود المعلول بالفعل، ويسمى عنصرا وهو كالخشب للسرير، وقد يجب عن وجوده لا محالة وجود المعلول بالفعل وهو صورة السرير، ويسمى العنصر علة قابلية والصورة علة صورية، والذي ليس كالجزء ينقسم إلى مباين للمعلول وإلى ملاق. والملاقي ينقسم إلى ما يكتسب صفة من المعلول فينعت به، وهو كالموضوع للعرض إذ يقال الموضوع حار وبارد وأسود وأبيض، وإلى ما يكون بالعكس منه، وهو أن يكون المعلول يكتسب النعت من العلة فينعت المعلول بالعلة، وهو كصورة المائية للمادة المشتركة بين الماء والهواء عند الإستحالة. وقد يسمى ذلك المشترك هيولي، ولا مشاحة في إطلاق هذا الإسم وإبداله. وأما المباين فينقسم إلى ما منه الوجود وليس الوجود لاجله، وهو العلة الفاعلية كالنجار للسرير، وإلى ما لأجله وجود المعلول وهو العلة الغائية كالصلوح للجلوس للكرسي والسرير. والعلة الأولى هي الغاية، فلولاها لما صار النجار نجارا، وكونها علة سابقة سائر العلل إذ بها صارت العلل علالا ووجودها متأخرا عن وجود الكل، وإنما المتقدم عليتها،

والعلة أبدا أشرف من القابل لأن الفاعل مفيد والقابل مستفيد. ثم العلة قد تكوهن بالذات وقد تكون بالعرض، وقد تكون بالقوة وقد تكون بالفعل، وقد تكون قريبة وقد تكون بعيدة، وقد سبقت أمثلتها. القول في الإنقسام إلى ما هو بالقوة وإلى ما هو بالفعل الموجود قد يقال أنه بالفعل وقد يقال أنه بالقوة، وإسم القوة قد يطلق على معنى آخر فيلتبس بالقوة التي تقابل بالفعل، فليقدم بيانها إذ يقال قوة مبدأ التغيير إما في المنفعل وهو القوة الإنفعالية، وإما في الفاعل وهو القوة الفعلية. ويقال لما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال وما به يصير الشيء مقوما للآخر،

ولما به يصير الشيء متغيرا أو ثابتا، فإن التغير لا يخلو من الضعف، وقوة المنفعل قد تكون محدودة متوجهة نحو شيء واحد معين، كقوة الماء على قبول الشكل دون حفظه، بخلاف الشمع الذي فيه قوة القبول والحفظ جميعا. وقد يكون في الشيء قوة إنفعالية بالإضافة إلى الضدين، كقبول الشمع للتسخين والتبريد، وكذلك قوة الفاعل تتوجه إلى شيء واحد متعينن كقوة النار على الإحراق فقط، وقد تتوجه نحو أشياء كثيرة كقوة المختاربن على الأمور المختلفة، وقد يكون في الشيء لأمور ولكن بعضها يتوسط البعض كقوة القطن على قبول صورة الغزل والثوبية، وقد يسهو الناظر في لفظ القوة ويلتبس عليه القوة بهذا المعنى بالقوة التي تذكر بإزاء الفعل، والفرق بينهما ظاهر من أوجه: الأول: أن القوة التي بإزاء الفعل تنتهي مهما صار الشيء بالفعل، والقوة الأخرى تبقى موجودة في حالة كونها فاعلة. الثاني: أن القوة الفاعلة لا يوصف بها إلا المبدأ المحرك، والقوة الثانية يوصف بها في الأكثر الأمر المنفعل. الثالث هو أن الفعل الذي بإزاء القوة الأخرى يوصف بها كل شيء من قبيل الموجودات الحاصلة، وإن كان انفعالا أو حالا لا فعلا ولا إنفعالا. فإن قيل: قولكم أن الشيء بالقوة لا بالفعل يرجع حاصله إلى الإستعداد للشيء، وقبول المحل له وهذا مفهوم،

وأما لاقوة الأخرى التي هي فاعلة كقوة النار على الإحراق وهذا مفهوم، وأما القوة الأخرى التي هي فاعلة كقوة النار على الإحراق كيف يعترف بها من يرى أن النار لا تحرق، وإنما الله تعالى يخلق الإحراق عند وقوع اللقاء بين القطن والنار مثلا، بحكم إجراء الله تعالى العادة. قلنا: غرضنا لما ذكرنا شرح معنىالإسم لا تحقيق وجود المسمى، وقد نبهنا على وجه تحقيق الحق فيه في كتاب تهافت الفلاسفة والغرض أن لا يلتبس إحداهما بالأخرى إذا استعملهما معتقد ذلك. القول في إنقسام الموجود إلى القديم وإلى الحادث والقبل والبعد أما القديم فهو إسم مشترك بين القديم بحسب الذات وبين القديم بحسب الزمان، فالذي بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمان وجوده، وأما الذي بحسب الذات فهو الذي ليس لذاته مبدأ وعلة هو به موجود، والمشهور الحقيقي هو الأول، والثاني كأنه مستعار من الأول، وكأنه مجاز، وهو من إصطلاح الفلاسفة، وبهذا الإشتراك يشترك الحادث أيضا، فالحادث بحسب الزمان هو الذي لزمان وجوده إبتداء، وبحسب الذات هو الذي لذاته مبدأ هي به موجودة. والعالم عند الفلاسفة حادث بالمعنى الثاني قديم بالمعنى الأول،

وصانع العالم قديم على التأويلين جميعا، وتسميتهم العالم حادثا بتأولهم مجاز محض، إذ المفهوم الكائن بعد إن لم يكن، والعالم عندهم ليس كائنا بعد إن لم يكن. ومن تأويلاتهم قولهم: إن للعالم نسبة إلى طبيعة الوجود ونسبة إلى العدم، والوجود حاصل له لا من ذاته بل من غيره، وإذا قدرنا عدم ذلك الغير لكان له من ذاته العدم وما للشيء من ذاته قبل ما للشيء من غيره قبلية بالذات، فالعدم له قبل الوجود؛ فهذا هو التأويل وهو تكلف من الكلام في اطلاق اللفظ، وليس ينكر عليهم تركهم لفظ

(الحادث) حتى يتكلفوا لانفسهم وجها فى اطلاق اللفظ، بل ينكر عليهم ترك اعتقاد محل الحدوث، وإن وجود العالم ليس مسبوقا بعدم، وإذا لم يعتقد ذلك فالأسامي لا تغني ولا مشاحة فيها، والعجب أنهم يقولون: إنا باعتقاد حدوث العالم أولى؛ فإنا نقول: المعلول حادث في كل زمان، فوصف الحدوث له ثابت عندهم الدهر كله، وعندكم في حالة واحدة، وإن كان المفهوم من الحدوث ما ذكروه فهو أحق به إلا أن المفهوم من الحدوث ما ذكرناه، وقد نفوه وأطلقوا اللفظ على أمر آخر يستمر في جميع الأزمنة، وطريق بطلانه ذكرناه في تهافت الفلاسفة. وأما القبل فإنه إسم مشترك في محاورات النظار والجماهير، إذ يطلق وتراد القبلية بالطبع كما يقال الواحد قبل الإثنين، وذلك في كل شيء لا يمكن أن يوجد الآخر إلا وهو موجود، ويوجد هو وليس الآخر بموجود، فما يمكن وجوده دون الآخر فهو قبل الآخر، وذلك الآخر، قد يقال له بعد وكأنه مستعار ومجاز، بل القبلية الظاهرة المشهورة هي القبلية الزمانية، وأمرها ظاهر، ويقال قبل للتقدم في المرتبة كتقدم الجنس على النوع بالإضافة إلىالجنس الأعلى، وقد يكون بالنسبة إلى شيء معين كما يقال الصف الأول قبل الصف الثاني، إذا صار المحراب هو المنسوب، ولو نسب إلى باب المسجد ربما كان الصف الأخير موصوفا بالقبلية، وقد يقال قبل بالشرف كما يقال محمد صلى الله عليه وسلم قبل موسى، وقبل أبي بكر وعمر وقد يقال قبل للعلة بالإضافة إلى المعلول مع أنهما في الزمان معا وفي كونهما بالقوة أو بالفعل يتساويان، ولكن من حيث أن لأحدهما الوجود غير

مستفاد من الآخر ووجود الآخر مستفاد منه فهو متقدم عليه، وإذا تأملت حال المتقدم في جميع هذه المعاني رجع إلى ان المتقدم هو الذي له الوصف الذي للمتأخر بكل حال، وليس للمتأخر ذلك إلا وهو موجود للمتقدم. ؟ القول في إنقسام الموجود إلى الكلي والجزئي إعلم أن الكلي إسم مشترك ينطلق على معنيين، هو باحدهما موجود في الأعيان، وبالمعنى الثاني موجود في الأذهان لا في الأعيان. أما الأول فهو للشيء المأخوذ على الإطلاق منغير اعتبار ضم غيره إليه، واعتبار تجريده من غيره بل من غير التفات إلى أنه واحد، فإن الإنسان مثلا معقول بأنه حقيقة ما والزم شيء للإنسانية وأشده التصاقا به كونه واحدا أو كثيرا، إذ لا يتصور إلا كذلك، ولكن العقل قادر على أن يعتبر الإنسانية المطلقة من غير التفات إلى أنها واحدة أو أكثر، فإن الإنسان بما هو إنسان شيء وبما هو واحد أو أكثر، وذلك له بالقوة أم بالفعل شيء آخر، فإن الإنسان إنسان بلا شرط آخر البتة، ثم العموم أو الخصوص شرط زائد على ما هو إنسان، والوحدة والكثرة كذلك، فإن من علم الإنسان فقد علم أمرا واحدا ومن علم أن الإنسان المعلوم له وحدة فقد علم شيئين أحدهما الإنسان

والآخر الوحدة، وكذلك إذا علم الكثرة، وكذا إذا علم الخصوص والعموم، فكل ذلك زائد على المعلوم، وليس ذلك إذا فرضت هذه الأحوال بالفعل فقط بل هو كذلك، وإن فرضت بالقوة فإنك تفرض بالقوة الإنسان المطلق من غير التفات إلى الوحدة والكثرة، وتفرض الوحدة والكثرة بعده فيكون في اعتبارك إنسانية وإضافة ما للإنسانية إلى الوحدة أو الكثرة، وفرض الوحدة والكثرة زائد على أصل الإنسانية. نعم الكثرة والوحدة تلزم الإنسانية في الوجود لا محالة، وليس كل ما يلزم الشيء فهو له في ذاته، فنحن نعلم أن الإنسانية بما هي إنسانية واحدة أو كثيرة، ففرق بين قولنا: إن الإنسانية لا توجد وله إحدى الحالتين، وبين قولنا: إحدى الحالتين له بما هو إنسانية. وليس نقيض قولنا أن الإنسانية بما هي إنسانية واحدة أن الإنسانية بما هي إنسانية كثيرة، بل نقيضها أن الإنسانية ليست بما هي إنسانية واحدة، وإذا كان كذلك جاز أن توجد واحدة أو كثيرة، ولكن لا بما هي إنسانية، فالكلي قد يراد به الإنسانية المطلقة الخالية عن إشتراط الوحدة أو الكثرة قد يراد به الإنسانية المطلقة الخالية عن اشتراط الوحدة أو الكثرة أو غير ذلك من لواحقها المنفكة عن كل اعتبار، سوى الإنسانية بالنفي والإثبات جميعا، وفرق بين قولنا: إنسانية بلا شرط آخر، وبين قولنا: إنسانية بشرط أن لا يكون معه غيره،

لأن الأخير فيه زيادة اشتراط نفي، والأول نعني به الإطلاق الذي هو منقطع البتة عما وراء الإنسانية نفيا كان أو إثباتا، فالكلي بهذا المعنى موجود في الأعيان فإن وجود الوحدة أو الكثرة او غير ذلك من اللواحق مع الإنسان، وإن لم يكن بما هو إنسانية، إذ لا تخرج الإنسانية عنها في الوجود، فإن لكل موجود مع غيره لا في ذاته وجودا يخصه، وانضمام غيره إليه لا يوجب نفي وجوده من حيث ذاته وجودا يخصه، وانضمام غيره إليه لا يوجب نفي وجوده من حيث ذاته، فالإنسانية عند الإعتبار موجودة بالفعل في آحاد الناس محمول على كل واحد، لا على أنه واحد بالذات ولا على انه كثير، فإن ذلك ليس بما هو إنسانية. والمعنى الثاني للكلي هو الإنسانية مثلا بشرط أنه مقولة بوجه من الوجوه المقولية على كثيرين، وهذا غير موجود في الأعيان، إذ يستحيل وجود شيء واحد بعينه يكون محمولا على كل واحد من الآحاد في وقت واحد معين. وذلك لأن الإنسان الذي اكتنفته الأعراض المخصصة لشخص زيد لمتكتنفه أعراض عمرو، حتى تكون تلك الإنسانية بعينها موجودة في عمرو، يكون هو ذلك في العدد بعينه، وربما يكتنفهما أعراض متعاندة، ولكن هذا المعبر عنه موجود في الأذهان على معنى أنه إذا سبق إلى الحس شخص زيد، حدث في النفس أثر، وهو انطباع صورة الإنسانية فيه، وهو لا يعلم، وهذه الصورة المأخوذة من الإنسانية المجردة من غير التفات إلى العوارض المخصصة لو أضيفت إلى إنسانية عمرو لطابقته، علىمعنى أنه لو ظهر للحس فرس بعده يحدث في النفس أثر آخر، ولو ظهر عمرو لم يتجدد في نفس أثر بل سائر أشخاص الناس في ذلك مستوية، سواء الأشخاص الموجودة والتي

يمكن وجودها، لأنه استوت نسبته إلى الكل فسمي كليا بهذا الإعتبار، إذ نسبته إلى كل واحد واحدة، فلهذه الصورة نسبة إلى أحد الأشخاص وغيرها واحدة كان مثال مطابقها كذلك، لهذا قيل إنه كلي، ونسبته إلى النفس وإلى سائر الصور المرتسمة في النفس؛ وهذا هو الذي أشكل على المتكلمين وعبروا عنه بالحال، واختلفوا في إثباته ونفيه وقال قوم ليس بموجود ولا معدوم، وأنكره قوم وأشكل عليهم الإفتراق والإشتراك بين الأسماء إذ السواد والبياض يشتركان في اللونية ويفترقان في شيء فيفكيف يكون مافيه الإفتراق وما فيه الإشتراك واحدا؟ ومنشأ ذلك سوء فهم بعضم عن اعتقاد شيء له وجود في النفس لا وجود لهمن خارج، إذا ثبت في النفس صورة كلية، وليس في الوجود كونها كلية بهذا الإعتبار بل هو ثابت في الأعيان بالإعتبار الأول، ومعنى كليتها التماثل دون الإتحاد في الإنسانية الموجودة لزيد والإنسانية الموجودة لعمرو في كونها إنسانية بالعدد. وأما مثاله في النفس العاقل للانسانية فمطابق له ولإنسانيته زيد وعمرو مطابقة واحدة، والصورة في نفسها واحدة ومع وحدتها مطابقة للكثرة، كأنها بالإضافة إليه أيضا واحدة، أعني تلك الكثرة؛ فهذا تحقيق معنى الكلي، وهو من أغمض ما يدرك وأهم ما يطلب إذ جميع المعقولات فرع لتحقيق هذه المعاني فلا بد من تبيينها.

وأما التام والناقص فليس المراد بهما الجزئي والكلي، بل التام يراد به الذي يوجد له جميع ما من شأنه أن يوجد، وليس مما يمكن أن يوجد له إلا وهو موجود له إما في كمال الوجود وإما في القوة الفعليةن وإما في القوة الإنفعالية وإما في الكمية. والناقص مايقابل التام الكامل. القول في الإنقسام إلى الواحد والكثير ولواحقهما إعلم أن الواحد إسم للشيء الذي لا يقبل القسمة من الجهة التي قيل له أنه واحد، ولكن الجهات التي يمتنع بسببها الإنقسام وتثبت الوحدة بالإضافة إلهيا كثيرة. فمنها ما لا ينقسم في الجنس فيكون واحدا في الجنس كقولنا: الفرس والإنسان واحد في الحيوانية، إذ لا إختلاف بينهما إلا في العدد وفي لنوع والعوارض. أما الحيوانية فليس بينهما فيها اختلاف وإنقسام. ومنها ما لا ينقسم في النوع كقولك: الجاهل والعالم واحد بالنوع أي بالإنسانية. ومنها ما ينقسم بالعرض العام كقولنا:

الغراب والفار واحد في السواد. ومنها ما لا ينقسم بالمناسبة كقولنا: نسبة الملك إلى المدينةن ونسبة العقل إلى النفس واحدة. ومنها ما لا ينقسم في الموضوع كقولنا: النامي والذابل واحد في الموضوع، وكذلك تجتمع رائحة التفاح وطعمه ولونه في موضوع واحد فيقال: هذه الأشياء واحدة أي في الموضوع لا بكل وجه. ومنها ما لا ينقسم معناه في العدد أو ينقسم إلى أعداد مشتركة في شيء كالرأس، فإنه واحد من الشخص أي ينقسم إلى أجزاء يكون لها معنى الرأس ومنها ما لا ينقسم بالحد أي لا توجد حقيقته لغيره وليس له نظير في كمال ذاته، كما يقال الشمس واحد وأحق الأشياء باسم الواحد واحد بالعدد. ثم ينقسم إلى ما فيه كثرة بالفعل ويكون واحدا بالتركيب والإجتماع كالبيت الواحد مثلا، وإلى ما لا كثرة فيه بالفعل ولكن فيه كثرة بالقوة لا بالفعل كالجسم من حيث هو جسم أي ذو صورة جسمية اتصالية، وإلى ما لا كثرة فيه لا بالفعل ولا بالقوة وهنو كل جوهر واحد ليس بجسم عند الفلاسفة، وذات الأول الحق كذلك بالإتفاق، ويثبت هذا للجوهر الواحد الفرد المتحيز عند المتكلمين فإنه لا ينقسم لا بالقوة ولا بالفعل، وهو واحد بالعدد. والذي يقبل القسمة لا بالقوة ولا بالفعل هو الأحق باسم الواحد، فالمعنى المفهوم من الكثرة على مقابلة الوحدة في كل رتبة، والكثير على الإطلاق على مقابلة الواحد على الإطلاق، وهو ما يوجد فيه

واحد وليس واحدا من جهة ما هو فيه، أي يوجد فيه واحد ليس هو وحدة فيه، وهو الذي يجاب عنه بالحساب. وقد يكون الكثير كثيرا بالإضافة والإتحاد في الكيفية يسمى مشابهة، وفي الكمية يسمى مساواةن وفي الجنس يسمى مجانسة، وفي النوع يسمى مشاكلة، والإتحاد في الأطراف يسمى مطابقة، فيخرج من هذا بيان معنى الواحد بالجنس والواحد بالنوع، والواحد بالعدد والواحد بالعرض والواحد بالمساواة، فجملة النسب للواحد هي التشابه والمساواة والمطابقة والمجانسة والمشاكلة، وأنواع الكثير مقابلات لذلك. القول في إنقسام الوجود إلى الممكن والواجب اعلم أن الممكن إسم مشترك يطلق على معان: الأول وهو الإصلاح العامي التعبير به عما ليس بممتنع الوجودن وعلى هذا يدخل الواجب الوجود فيه، ويكون الأول الحق ممكن الوجود، أي ليس محال الوجود،

وتكون الأشياء بهذا الإعتبار قسمين: ممتنع وممكن أي ممتنع وما ليس بممتنع، ويدخل فيه الجائز والواجب. الثاني الوضع الخاصي وهو أن يراد به سلب الضرورة في الوجود والعدم جميعا، وهو الذي لا استحالة في وجوده ولا في عدمه، وخرج الواجب عنه، ويكون المذكور بهذا الإعتبار ثلاثة: ممتنع وجوده أي ضروري عدمه، وواجب وجوده أي ضروري وجوده، وشيء لا ضروري في وجوده ولا في عدمه، بل نسبته إليهما واحدة، وهو المراد بالممكن. الثالث أن يعبر عن ممكن لا ضرورة في وجوده بحال من الأحوال، وهو أخص من الذي سبق وذلك كالكتابة للإنسان لا كالتغيير للمتحرك، فإنه ضروري في حال كونه متحركا، ولا كالكسوف للقمر فإنه ضروري عند توسط الأرض بينه وبين الشمس، فيصير الأعداد على هذا الوضع أربعة: واجب وممكن وموجود له ضرورة وموجود لا ضرورة له البتة. الرابع أن يخصص الشيء المعدوم في الحال الذي لا يستحيل وجوده في الإستقبال فيقال له ممكن أي له الوجود بالقوة لا بالفعل، وعلى هذا لا يقال العالم في حال وجوده ممكن بل يقال كان قبل الوجوب ممكنا. وأما الواجب الوجود فهو الذي متى فرض معدوما غير موجود لزم منه محال، ثم الواجب وجوده ينقسم إلى ما هو واجب لذاته

وإلى ما هنو واجب لغيره لا لذاته. أما الواجب لذاته فهوالذي فرض عدمه محال لذاته لا بفرض شيء آخر به محالا فرض عدمه، فالعالم واجب الوجود مهما فرضنا المشيئة الأزلية متعلقى بوجوده، ولكن صار الوجوب له من المشيئة لا من ذاته والوجوب لله من ذاته لا من غيره، وعلى الجملة كل ما حصل وجوبه بوجوده واجب بسبب وجود سببه لا محالة وأنه ما دام ممكن الوجود لا يترجح وجوده على عدمه، ولما تساوى الوجود والعدم بقي في العدم غير موجود، فقد صح وجوده لوجوب وجوده لمصادفة علته كمال ما به صار علة لوجوده. ومن هذا تتضح أمور كثيرة: أحدهما أنه يستحيل فرض شيء هو واجب الوجود بذاته ويبقى وجوبه فلا يكون وجوب وجوده بغيره، ويكون ذلك الغير فضله. الثاني أن كل ما هوواجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته، لأنه إما أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود أو واجب الوجود أو ممتنع الوجود، والقسمان الأخيران باطلان إذ لو كان ممتنع الوجود بذاته لما تصور له وجود بغيره، ولو كان واجب الوجود بذاته. لما كان واجب الوجود بغيرة، لما سبق

فثبت انة ممكن الوجود بذاتة. والحاصل أن كل ممكن بذاته فهو واجب بغيره، فالممكن أن اعتبرت علته وقدر وجودها كان واجب الوجود، وإن قدر عدم علته كان ممتنع الوجود، وإن لم يلتفت إلى علته لا باعتبار العدم ولا باعتبار الوجود كان له في ذاته المعنى الثالث، وهو الإمكان، فإذن كل ممكن فهو ممتنع وواجب أي ممتنع عند تقدير عدم العلة، فيكون ممتنعا بغيره لا لذاته أو ممكنا من حيث ذاته إذا لم تعتبر معه علته نفيا وإثباتا، وليس الجمع بين هذه الأمور متناقضا، بل نزيد عيه فنقول: الممتنع أيضا منقسم إلى ممتنع لذاته وإلى ممتنع لغيره، فإجتماع السواد والبياض ممتنع لذاته، وكون السلب والإثبات في شيء واحد صادقا ممتنعا لذاته، وفرض القيامة اليوم، وقد علم الله تعالى أنه لا يقيمها اليوم مستحيل، ولكن لا لذاته كاستحالة الجمع بين البياض والسواد، ولكن لسبق علم الله بأنه لا يكون وإستحالة كون العلم جهلا، فكان امتناعه لغيره لا لذاته. الثالث أنه لا يجوز أن يكون شيئان كل واحد منهما واجب الوجود لصاحبه،

لأن ما يجب لغيره فله علة أقدم منه تقدما بالذات لا بالزمان، ويستحيل أن يكون المتقدم بالذات متأخرا بالذات، وهو من حيث أنه علة يجب أن يتقدم بالذات، وهو من حيث أنه معلول يجب أن يتأخر، وذلك محال إذ يلزم منه أن يكون الشيء قبل ما هو قبله بالذات. الرابع أن واجب الوجود بذاته لا بد أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته، حتى لا يكون محلا للحوادث ولا متغيرا، فلا يكون له إرادة منتظرة ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات منتظرة عن وجوده، بل كل ما يمكن أن يكون له فيجب أن يكون حاضرا بذاته متأخرا عن ذاته لازما يمكن أن يكون له ولا يكون له، فإنما يكون حيث يكون لعلة وتنتفي، وحيث ينتفي بعدم ذلك العلة فيكون وجوده في حالتي عدم تلك الصفة ووجودها متعلقا بأمر خارج منه، إما نفي وإما اثبات حتى يستحيل خلوه عنه، فلا يكون واجب الوجود بذاته بل يستحيل ذاته إلا مع نفي تلك الصفة أو وجودها. ويشترط بحالة الوجود وجود العلة، وبحال العدم إما عدم تلك العلة أو وجود علة معدومة، فلا تخلو ذاتها عن اشتراط شيء غير ذاتها لتصور ذلك بباقي ما فسرنا به واجب الوجود. هذا ما أردنا أن نذكر من أحكام الوجود وأقسامه ولنقبض عنان البيان عند هذا فإنه خوض في التفصيل، وليس وضع هذا الكتاب لبيان تفاصيل الأمور بل لبيان طريق تعرف حقائق الأمور، وتمهيد قانون النظر وتثقيف معيار العلم ليميز بينه وبين الخيال والظن القريبين منه.

وإذا كانت السعادة في الدنيا والآخرة لا تنال إلا بالعلم والعمل، وكان يشتبه العلم الحقيقي بما لا حقيقة له، وافتقر بسببه إلى معيار فكذلك يشتبه العمل الصالح النافع في الآخرة بغيره، فيفتقر إلى ميزان تدرك به حقيته. فلنصنف كتابا في ميوان العمل كما صنفناه في معيارالعلم، ولنفرد ذلك الكتاب بنفسه ليتجرد لهمن لا رغبة له في هذا الكتاب. والله يوفق متأمل الكتابين للنظر إليهما بعين العقل لا بعين التقليد، إنه ولي التأييد والتسديد. آمين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القرآن الكريم : وورد

  القرآن الكريم :  سورة الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِ...