كتاب أدب الدنيا والدين على بن محمد المارودي
مُقَدِّمَةُ
الْمُؤَلِّفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الطَّوْلِ وَالْآلَاءِ ، وَصَلَّى اللَّهُ
عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى آلِهِ
وَأَصْحَابِهِ الْأَتْقِيَاءِ .
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ شَرَفَ الْمَطْلُوبِ بِشَرَفِ
نَتَائِجِهِ ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ بِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ ، وَبِحَسَبِ مَنَافِعِهِ
تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِنَايَةِ بِهِ يَكُونُ اجْتِنَاءُ
ثَمَرَتِهِ ، وَأَعْظَمُ الْأُمُورِ خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا
وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلَاحُ
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ ،
وَبِصَلَاحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ .
وَقَدْ تَوَخَّيْت بِهَذَا الْكِتَابِ الْإِشَارَةَ إلَى
آدَابِهِمَا ، وَتَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا ، عَلَى أَعْدَلِ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ إيجَازٍ وَبَسْطٍ أَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ تَحْقِيقِ
الْفُقَهَاءِ ، وَتَرْقِيقِ الْأُدَبَاءِ ، فَلَا يَنْبُو عَنْ فَهْمٍ ، وَلَا
يَدِقُّ فِي وَهْمٍ ، مُسْتَشْهِدًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ اسْمُهُ - بِمَا
يَقْتَضِيهِ ، وَمِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ -
بِمَا يُضَاهِيهِ ، ثُمَّ مُتْبِعًا ذَلِكَ بِأَمْثَالِ الْحُكَمَاءِ ، وَآدَابِ الْبُلَغَاءِ
، وَأَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَرْتَاحُ إلَى الْفُنُونِ
الْمُخْتَلِفَةِ وَتَسْأَمُ مِنْ الْفَنِّ الْوَاحِدِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنَّ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَاهْدُوا إلَيْهَا طَرَائِفَ
الْحِكْمَةِ .
فَكَأَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ ، يُحِبُّ التَّنَقُّلَ
فِي الْمَطْلُوبِ ، مِنْ مَكَان إلَى مَكَان وَكَانَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى ، يَتَنَقَّلُ كَثِيرًا فِي دَارِهِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان
وَيُنْشِدُ قَوْلَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ : لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إذْ كَانَتْ
مُدَبِّرَةً إلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ وَجَعَلْت مَا تَضَمَّنَهُ
هَذَا الْكِتَابُ خَمْسَةَ أَبْوَابٍ : الْبَابِ الْأَوَّلِ : فِي فَضْلِ الْعَقْلِ
وَذَمِّ الْهَوَى .
الْبَابِ الثَّانِي : فِي أَدَبِ الْعِلْمِ .
الْبَابِ
الثَّالِثِ
: فِي أَدَبِ الدَّيْنِ .
الْبَابِ الرَّابِعِ : فِي أَدَبِ الدُّنْيَا .
الْبَابِ الْخَامِسِ : فِي أَدَبِ النَّفْسِ .
وَإِنَّمَا أَسْتَمِدُّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حُسْنَ مَعُونَتِهِ
، وَأَسْتَوْدِعُهُ حِفَاظَ مَوْهِبَتِهِ ، بِحَوْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَهُوَ
حَسْبِي مِنْ مُعِينٍ وَحَفِيظٍ
.
الْبَابُ
الْأَوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ وَذَمُّ الْهَوَى اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ
أُسًّا وَلِكُلِّ أَدَبٍ يَنْبُوعًا ، وَأُسُّ الْفَضَائِلِ وَيَنْبُوعُ الْآدَابِ
هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ أَصْلًا وَلِلدُّنْيَا
عِمَادًا ، فَأَوْجَبَ الدِّينَ بِكَمَالِهِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَةً
بِأَحْكَامِهِ ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ
وَمَآرِبِهِمْ ، وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ ، وَجَعَلَ مَا
تَعَبَّدَهُمْ بِهِ قِسْمَيْنِ : قِسْمًا وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَوَكَّدَهُ
الشَّرْعُ ، وَقِسْمًا جَازَ فِي الْعَقْلِ فَأَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فَكَانَ
الْعَقْلُ لَهُمَا عِمَادًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِثْلَ عَقْلٍ يَهْدِي
صَاحِبَهُ إلَى هُدًى ، أَوْ يَرُدُّهُ عَنْ رَدًى } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ عُمِلَ دِعَامَةٌ وَدِعَامَةُ عَمَلِ
الْمَرْءِ عَقْلُهُ فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ أَمَا
سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْفُجَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: أَصْلُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ ، وَحَسَبُهُ دِينُهُ ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا اسْتَوْدَعَ
اللَّهُ أَحَدًا عَقْلًا إلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمًا مَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ أَفْضَلُ
مَرْجُوٍّ ، وَالْجَهْلُ أَنْكَى عَدُوٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : صَدِيقُ كُلِّ امْرِئٍ
عَقْلُهُ وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ الْمَوَاهِبِ
الْعَقْلُ ، وَشَرُّ الْمَصَائِبِ الْجَهْلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ
حَسَّانَ : يَزِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ
مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ يَشِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ
وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُهُ وَمَنَاسِبُهْ 18 يَعِيشُ الْفَتَى بِالْعَقْلِ فِي النَّاسِ
إنَّهُ عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُهْ وَأَفْضَلُ
قَسْمِ
اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ إذَا
أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ
وَمَآرِبُهْ وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ
وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ .
وَقَدْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : غَرِيزِيٍّ وَمُكْتَسَبٍ .
فَالْغَرِيزِيُّ هُوَ الْعَقْلُ الْحَقِيقِيُّ .
وَلَهُ حَدٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لَا
يُجَاوِزُهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ إلَى نُقْصَانٍ .
وَبِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ سَائِرِ
الْحَيَوَانِ ، فَإِذَا تَمَّ فِي الْإِنْسَانِ سُمِّيَ عَاقِلًا وَخَرَجَ بِهِ
إلَى حَدِّ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا تَمَّ
عَقْلُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ
وَرَوَى الضَّحَّاكُ فِي قَوْله تَعَالَى : { لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا } أَيْ
مَنْ كَانَ عَاقِلًا وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي صِفَتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ
شَتَّى .
فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ
بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ
.
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي
مَحَلِّهِ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ ؛
لِأَنَّ الدِّمَاغَ مَحَلُّ الْحِسِّ
.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ مَحَلُّهُ
الْقَلْبُ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ .
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ
لَطِيفٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ
فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجِبَ بَعْضُهَا مَا لَا يُوجِبُ سَائِرُهَا .
وَلَوْ أَوْجَبَ سَائِرُهَا مَا يُوجِبُ بَعْضُهَا
لَاسْتَغْنَى الْعَاقِلُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ عَنْ وُجُودِ عَقْلِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَوْهَرَ يَصِحُّ قِيَامُهُ
بِذَاتِهِ .
فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ
عَقْلٌ بِغَيْرِ عَاقِلٍ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ
فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْعَقْلُ هُوَ الْمُدْرِكُ
لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْنَى .
وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ
أَقْرَبَ مِمَّا
قَبْلَهُ فَبَعِيدٌ مِنْ الصَّوَابِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ
الْإِدْرَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ ، وَالْعَقْلُ عَرَضٌ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ
مِنْهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَلَذِّذًا أَوْ آلِمًا أَوْ مُشْتَهِيًا .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلُ هُوَ
جُمْلَةُ عُلُومٍ ضَرُورِيَّةٍ وَهَذَا الْحَدُّ غَيْرُ مَحْصُورٍ لِمَا
تَضَمَّنَهُ مِنْ الْإِجْمَالِ ، وَيَتَأَوَّلُهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ .
وَالْحَدُّ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمَحْدُودِ بِمَا
يَنْفِي عَنْهُ الْإِجْمَالَ وَالِاحْتِمَالَ .
وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ : إنَّ
الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ .
وَذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا وَقَعَ عَنْ
دَرَكِ الْحَوَاسِّ .
وَالثَّانِي : مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ وَاقِعًا عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ
فَمِثْلُ الْمَرْئِيَّاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالنَّظَرِ ، وَالْأَصْوَاتِ
الْمُدْرَكَةِ بِالسَّمْعِ ، وَالطُّعُومِ الْمُدْرَكَةِ بِالذَّوْقِ ،
وَالرَّوَائِحِ الْمُدْرَكَةِ بِالشَّمِّ ، وَالْأَجْسَامِ الْمُدْرَكَةِ
بِاللَّمْسِ ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِمَّنْ لَوْ أَدْرَكَ بِحَوَاسِّهِ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ثَبَتَ لَهُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ
خُرُوجَهُ فِي حَالِ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بِهِمَا وَيَعْلَمَ
لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ
أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَعَلِمَ
.
وَأَمَّا مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ
فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ ، وَأَنَّ
الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو مِنْ حُدُوثٍ أَوْ قِدَمٍ ، وَأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ
اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَنْتَفِيَ عَنْ الْعَاقِلِ مَعَ سَلَامَةِ حَالِهِ ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ ،
فَإِذَا صَارَ عَالِمًا بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ هَذَيْنِ
النَّوْعَيْنِ فَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِعَقْلِ
النَّاقَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى
شَهَوَاتِهِ
إذَا قَبُحَتْ ، كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ النَّاقَةَ مِنْ الشُّرُودِ إذَا
نَفَرَتْ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ : إذَا عَقْلُك
عَقَلَك عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَأَنْتَ عَاقِلٌ .
وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا
الْقَوْلَ فِي الْعَقْلِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْعَقْلُ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُفَرِّقُ
بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ }
.
وَكُلُّ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا أَثْبَتَ
مَحَلَّهُ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعُلُومِ كُلِّهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } .
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا
: أَنَّ الْعَقْلَ عِلْمٌ ، وَالثَّانِي : أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ .
وَفِي قَوْله تَعَالَى : { يَعْقِلُونَ بِهَا } ،
تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْلَمُونَ بِهَا ، وَالثَّانِي يَعْتَبِرُونَ بِهَا .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ
الْمُكْتَسَبُ فَهُوَ نَتِيجَةُ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ وَهُوَ نِهَايَةُ
الْمَعْرِفَةِ ، وَصِحَّةُ السِّيَاسَةِ ، وَإِصَابَةُ الْفِكْرَةِ .
وَلَيْسَ لِهَذَا حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو إنْ
اُسْتُعْمِلَ وَيَنْقُصُ إنْ أُهْمِلَ
.
وَنَمَاؤُهُ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا
بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ مِنْ هَوًى وَلَا
صَادٌّ مِنْ شَهْوَةٍ ، كَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْ
الْحُنْكَةِ وَصِحَّةِ الرَّوِيَّةِ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَمُمَارَسَةِ
الْأُمُورِ .
وَلِذَلِكَ حَمِدَتْ الْعَرَبُ آرَاءَ الشُّيُوخِ حَتَّى
قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَشَايِخُ أَشْجَارُ الْوَقَارِ ، وَمَنَاجِعُ الْأَخْبَارِ
، لَا يَطِيشُ لَهُمْ سَهْمٌ ، وَلَا يَسْقُطُ لَهُمْ وَهْمٌ ، إنْ رَأَوْك فِي قَبِيحٍ
صَدُّوك ، وَإِنْ أَبْصَرُوك عَلَى جَمِيلٍ أَمَدُّوك .
وَقِيلَ :
عَلَيْكُمْ بِآرَاءِ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ إنْ
فَقَدُوا ذَكَاءَ الطَّبْعِ فَقَدْ مَرَّتْ عَلَى عُيُونِهِمْ وُجُوهُ الْعِبْرِ ،
وَتَصَدَّتْ لِأَسْمَاعِهِمْ آثَارُ الْغَيْرِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ
نَقَصَتْ قُوَّةُ بَدَنِهِ وَزَادَتْ قُوَّةُ عَقْلِهِ .
وَقِيلَ فِيهِ : لَا تَدَعُ الْأَيَّامُ جَاهِلًا إلَّا
أَدَّبَتْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَى بِالتَّجَارِبِ
تَأَدُّبًا وَبِتَقَلُّبِ الْأَيَّامِ عِظَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : التَّجْرِبَةُ مِرْآةُ
الْعَقْلِ ، وَالْغِرَّةُ ثَمَرَةُ الْجَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كَفَى مُخَبِّرًا عَمَّا
بَقِيَ مَا مَضَى وَكَفَى عِبَرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا جَرَّبُوا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ
زَيْنٌ لِأَهْلِهِ وَلَكِنْ تَمَامُ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ وَقَالَ آخَرُ :
إذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ أَفَادَتْ لَهُ الْأَيَّامُ فِي كَرِّهَا
عَقْلَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ يَكُونُ بِفَرْطِ الذَّكَاءِ
وَحُسْنِ الْفِطْنَةِ .
وَذَلِكَ جَوْدَةٌ الْحَدْسِ فِي زَمَانٍ غَيْرِ
مُهْمِلٍ لِلْحَدْسِ ، فَإِذَا امْتَزَجَ بِالْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ صَارَتْ
نَتِيجَتُهُمَا نُمُوَّ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ كَاَلَّذِي يَكُونُ فِي
الْأَحْدَاثِ
مِنْ
وُفُورِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ ، حَتَّى قَالَ هَرِمُ بْنُ قُطْبَةَ
حِينَ تَنَافَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ : عَلَيْكُمْ بِالْحَدِيثِ السِّنِّ ،
الْحَدِيدِ الذِّهْنِ .
وَلَعَلَّ هَرِمًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُمَا عَنْ
نَفْسِهِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ
.
لَكِنْ لَمْ يُنْكِرَا قَوْلَهُ إذْعَانًا لِلْحَقِّ
فَصَارَا إلَى أَبِي جَهْلٍ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ ، وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ ، فَأَبَى
أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَرَجَعَا إلَى هَرِمٍ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا .
وَفِيهِ قَالَ لَبِيدٌ : يَا هَرِمُ ابْنَ
الْأَكْرَمِينَ مَنْصِبًا إنَّك قَدْ أُوتِيتَ حُكْمًا مُعْجِبَا وَقَدْ قَالَتْ
الْعَرَبُ عَلَيْكُمْ بِمُشَاوَرَةِ الشَّبَابِ فَإِنَّهُمْ يُنْتِجُونَ رَأْيًا
لَمْ يَنَلْهُ طُولُ الْقِدَمِ ، وَلَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ رُطُوبَةُ الْهَرِمِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت الْعَقْلَ لَمْ
يَكُنِ انْتِهَابَا وَلَمْ يُقْسَمْ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَا وَلَوْ أَنَّ
السِّنِينَ تَقَاسَمَتْهُ حَوَى الْآبَاءُ أَنْصِبَةَ الْبَنِينَا وَحَكَى
الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : قُلْت لِغُلَامٍ حَدَثٍ مِنْ أَوْلَادِ
الْعَرَبِ كَانَ يُحَادِثُنِي فَأَمْتَعَنِي بِفَصَاحَةٍ وَمَلَاحَةٍ :
أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونَ لَك مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَنْتَ أَحْمَقُ ؟
قَالَ : لَا وَاَللَّهِ .
قَالَ : فَقُلْت : وَلِمَ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ
يَجْنِيَ عَلَيَّ حُمْقِي جِنَايَةً تَذْهَبُ بِمَالِي وَيَبْقَى عَلَيَّ حُمْقِي .
فَانْظُرْ إلَى هَذَا الصَّبِيِّ كَيْفَ اسْتَخْرَجَ
بِفَرْطِ ذَكَائِهِ ، وَاسْتَنْبَطَ بِجَوْدَةِ قَرِيحَتِهِ مَا لَعَلَّهُ يَدِقُّ
عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا ، وَأَكْثَرُ تَجْرِبَةً .
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ مَا
حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
فَهَرَبُوا مِنْهُ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا لَك ؟ لِمَ
لَا تَهْرَبُ مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ أَكُنْ
عَلَى رِيبَةٍ فَأَخَافُك ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا فَأُوَسِّعُ
لَك .
فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ
الْفِطْنَةِ وَقُوَّةِ الْمِنَّةِ وَحُسْنِ الْبَدِيهَةِ .
كَيْفَ نَفَى عَنْهُ اللَّوْمَ ، وَأَثْبَتَ لَهُ
الْحُجَّةَ فَلَيْسَ لِلذَّكَاءِ غَايَةٌ ، وَلَا لِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ
نِهَايَةٌ .
وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَمَرَ الْفَرَزْدَقَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ أُسَارَى مِنْ الرُّومِ فَاسْتَعْفَاهُ
الْفَرَزْدَقُ فَلَمْ يَفْعَلْ ، وَأَعْطَاهُ سَيْفًا لَا يَقْطَعُ شَيْئًا
فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ بَلْ أَضْرَبُهُمْ بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ مُجَاشِعِ ، يَعْنِي
سَيْفَ نَفْسِهِ ، فَقَامَ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ رُومِيٍّ مِنْهُمْ فَنَبَا
السَّيْفُ عَنْهُ ، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ :
أَيَعْجَبُ النَّاسُ أَنْ أَضْحَكْت سَيِّدَهُمْ خَلِيفَةَ اللَّهِ يُسْتَسْقَى
بِهِ الْمَطَرُ لَمْ يَنْبُ سَيْفِي مِنْ رُعْبٍ وَلَا دَهَشٍ عَنْ الْأَسِيرِ
وَلَكِنْ أَخَّرَ الْقَدَرُ وَلَنْ يُقَدِّمَ نَفْسًا قَبْلَ مِيتَتِهَا جَمْعُ
الْيَدَيْنِ وَلَا الصَّمْصَامَةُ الذَّكَرُ ثُمَّ غَمَدَ سَيْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ : مَا إنْ يُعَابُ
سَيِّدٌ إذَا صَبَا وَلَا يُعَابُ صَارِمٌ إذَا نَبَا وَلَا يُعَابُ شَاعِرٌ إذَا
كَبَا ثُمَّ جَلَسَ وَهُوَ يَقُولُ : كَأَنَّ بِابْنِ الْمَرَاغَةِ قَدْ هَجَانِي
فَقَالَ : بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ
بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ قَامَ فَانْصَرَفَ وَحَضَرَ جَرِيرٌ وَخُبِّرَ
بِالْخَبَرِ وَلَمْ يُنْشَدْ لَهُ الشِّعْرُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : بِسَيْفِ أَبِي
رَغْوَانَ سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّ بِابْنِ الْقَيْنِ وَقَدْ أَجَابَنِي
فَقَالَ : وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ إذَا أَثْقَلَ
الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ فَاسْتَحْسَنَ سُلَيْمَانُ حَدْسَ الْفَرَزْدَقِ
عَلَى جَرِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ الْفَرَزْدَقَ بِشِعْرِ جَرِيرٍ وَلَمْ يُخْبِرْهُ
بِحَدْسِهِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : كَذَاك سُيُوفُ الْهِنْدِ تَنْبُو ظُبَاتُهَا
وَتَقْطَعُ أَحْيَانًا مَنَاطَ التَّمَائِمِ وَلَنْ نَقْتُلَ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ
إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ
الْمَغَارِمِ
وَهَلْ ضَرْبَةُ الرُّومِيِّ جَاعِلَةٌ لَكُمْ أَبًا عَنْ كُلَيْبٍ أَوْ أَخًا
مِثْلَ دَارِمِ فَشَاعَ حَدِيثُ الْفَرَزْدَقِ بِهَذَا حَتَّى حُكِيَ أَنَّ
الْمَهْدِيَّ أَتَى بِأَسْرَى مِنْ الرُّومِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَكَانَ
عِنْدَهُ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ فَقَالَ لَهُ : اضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْعِلْجِ .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْت مَا
اُبْتُلِيَ بِهِ الْفَرَزْدَقُ فَعُيِّرَ بِهِ قَوْمٌ إلَى الْيَوْمِ .
فَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْت تَشْرِيفَك وَقَدْ
أَعْفَيْتُك .
وَكَانَ أَبُو الْهَوْلِ الشَّاعِرُ حَاضِرًا فَقَالَ :
جَزِعْت مِنْ الرُّومِيِّ وَهُوَ مُقَيَّدٌ فَكَيْفَ وَلَوْ لَاقَيْتَهُ وَهُوَ مُطْلَقُ
دَعَاك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَتْلِهِ فَكَادَ شَبِيبٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْرَقُ
تَنَحَّ شَبِيبًا عَنْ قِرَاعِ كَتِيبَةٍ وَادْنُ شَبِيبًا مِنْ كَلَامٍ يُلَفَّقُ
وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَزْدَقِ إنْ صَحَّ مِنْ جَوْدَةِ
الْقَرِيحَتَيْنِ وَلَكِنْ مِنْ اتِّفَاقِ الْخَاطِرَيْنِ .
وَلِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : آيَةُ الْعَقْلِ
سُرْعَةُ الْفَهْمِ ، وَغَايَتُهُ إصَابَةُ الْوَهْمِ ، وَلَيْسَ لِمَنْ مُنِحَ
جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةُ الْخَاطِرِ عَجْزٌ عَنْ جَوَابٍ وَإِنْ أُعْضِلَ
، كَمَا قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ
الْعِبَادَ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى
كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ .
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَيْنَ
تَذْهَبُ الْأَرْوَاحُ إذَا فَارَقَتْ الْأَجْسَادَ ؟ قَالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ
نَارُ الْمَصَابِيحِ عِنْدَ فَنَاءِ الْأَدْهَانِ ؟ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ
جَوَابَا إسْكَاتٍ تَضَمَّنَا دَلِيلَيْ إذْعَانٍ وَحُجَّتَيْ قَهْرٍ .
وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ وَإِنْ كَانَ مُسْكِتًا
مَا حُكِيَ عَنْ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حِينَ ظَهَرَ لِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : أَلَسْت تَقُولُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَك إلَّا
مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَارْمِ نَفْسَك مِنْ ذُرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ
فَإِنَّهُ إنْ يُقَدِّرْ لَك السَّلَامَةَ تَسْلَمْ .
فَقَالَ لَهُ : يَا مَلْعُونُ إنَّ لِلَّهِ أَنْ
يَخْتَبِرَ
عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَبِرَ رَبَّهُ .
وَمِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ
أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ أَمَدَّهُمْ بِوَحْيِهِ ، وَأَيَّدَهُمْ
بِنَصْرِهِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَغْرَبُ مِمَّنْ يَلْجَأُ إلَى خَاطِرِهِ
وَيُعَوِّلُ عَلَى بَدِيهَتِهِ
.
وَرَوَى قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَمْ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالَ : دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ .
قِيلَ : فَكَمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؟
قَالَ : مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِ
.
فَكَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ سَائِلِهِ إمَّا
اخْتِبَارًا ، وَإِمَّا اسْتِبْصَارًا فَصَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْجَوَابِ مَا
أَسْكَتَ .
فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي
الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ وَهُوَ مَا يُنَمِّيهِ فَرْطُ الذَّكَاءِ بِجَوْدَةِ
الْحَدْسِ وَصِحَّةِ الْقَرِيحَةِ بِحُسْنِ الْبَدِيهَةِ ، مَعَ مَا يُنَمِّيه
الِاسْتِعْمَالُ بِطُولِ التَّجَارِبِ وَمُرُورِ الزَّمَانِ بِكَثْرَةِ
الِاخْتِبَارِ ، فَهُوَ الْعَقْلُ الْكَامِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الرَّجُلِ
الْفَاضِلِ الِاسْتِحْقَاقِ .
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
{ : أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إنَّ مِنْ خُلُقِهِ ، إنَّ مِنْ فَضْلِهِ ، إنَّ مِنْ
أَدَبِهِ .
فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ نُثْنِي عَلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ ، وَأَصْنَافِ الْخَيْرِ وَتَسْأَلُنَا
عَنْ عَقْلِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّ الْأَحْمَقَ الْعَابِدَ يُصِيبُ بِجَهْلِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ
وَإِنَّمَا يَقْرَبُ النَّاسُ مِنْ رَبِّهِمْ بِالزُّلَفِ عَلَى قَدْرِ
عُقُولِهِمْ } .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ إذَا
تَنَاهَى وَزَادَ هَلْ يَكُونُ فَضِيلَةً أَمْ لَا فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ
فَضِيلَةً ؛ لِأَنَّ الْفَضَائِلَ هَيْئَاتٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ فَضِيلَتَيْنِ
نَاقِصَتَيْنِ ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ تَوَسُّطٌ
بَيْنَ
رَذِيلَتَيْنِ فَمَا جَاوَزَ التَّوَسُّطَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَضِيلَةِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ لِلْإِسْكَنْدَرِ :
أَيُّهَا الْمَلِكُ عَلَيْك بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ
عَيْبٌ وَالنُّقْصَانَ عَجْزٌ .
هَذَا مَعَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : خَيْرُ الْأُمُورِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ ، إلَيْهِ يَرْجِعُ الْعَالِي ،
وَمِنْهُ يَلْحَقُ التَّالِي .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَذْهَبَنَّ فِي الْأُمُورِ
فَرَطَا لَا تَسْأَلَنَّ إنْ سَأَلْت شَطَطَا وَكُنْ مِنْ النَّاسِ جَمِيعًا
وَسَطَا قَالُوا : لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَقْلِ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إلَى
الدَّهَاءِ وَالْمَكْرِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ وَصَاحِبُهُ مَلُومٌ .
وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ يَعْزِلَ زِيَادًا عَنْ وِلَايَتِهِ
فَقَالَ زِيَادٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعَنْ مُوجِدَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ ؟
فَقَالَ : لَا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَكِنْ خِفْت أَنْ أَحْمِلَ عَلَى
النَّاسِ فَضْلَ عَقْلِك .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَحْكِيِّ عَنْ عُمَرَ مَا قِيلَ
قَدِيمًا : إفْرَاطُ الْعَقْلِ مُضِرٌّ بِالْجَسَدِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَاك مِنْ عَقْلِك مَا
دَلَّك عَلَى سَبِيلِ رُشْدِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : قَلِيلٌ يَكْفِي خَيْرٌ
مِنْ كَثِيرٍ يُطْغِي .
وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ :
زِيَادَةُ الْعَقْلِ فَضِيلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكْتَسَبَ غَيْرُ مَحْدُودٍ ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ زِيَادَةُ الْفَضَائِلِ الْمَحْمُودَةِ نَقْصًا مَذْمُومًا ؛
لِأَنَّ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ لَا يُسَمَّى فَضِيلَةً كَالشُّجَاعِ إذَا زَادَ
عَلَى حَدِّ الشَّجَاعَةِ نُسِبَ إلَى التَّهَوُّرِ ، وَالسَّخِيُّ إذَا زَادَ
عَلَى حَدِّ السَّخَاءِ نُسِبَ إلَى التَّبْذِيرِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ ؛
لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَحُسْنُ إصَابَةٍ
بِالظُّنُونِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَا يَكُونُ ، وَذَلِكَ فَضِيلَةٌ
لَا
نَقْصٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ مَأْلُوفٌ } .
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أَيْ بِحَسَبِ عَقْلِهِ .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَتْ الْعَرَبُ
تَقُولُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْلُهُ أَغْلَبَ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ ، كَانَ
حَتْفُهُ فِي أَغْلَبِ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ إذَا
كَثُرَ رَخُصَ إلَّا الْعَقْلَ فَإِنَّهُ إذَا كَثُرَ غَلَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الْعَاقِلَ مَنْ
عَقْلُهُ فِي إرْشَادٍ ، وَمَنْ رَأْيُهُ فِي إمْدَادٍ ، فَقَوْلُهُ سَدِيدٌ ،
وَفِعْلُهُ حَمِيدٌ ، وَالْجَاهِلُ مَنْ جَهْلُهُ فِي إغْوَاءٍ ، وَمَنْ هَوَاهُ
فِي إغْرَاءٍ ، فَقَوْلُهُ سَقِيمٌ ، وَفِعْلُهُ ذَمِيمٌ ، وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ
لِأَبِيهِ .
مَنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ عَقْلَهُ أَهْلَكَهُ أَكْثَرُ
مَا فِيهِ فَأَمَّا الدَّهَاءُ وَالْمَكْرُ فَهُوَ مَذْمُومٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ
صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ إلَى الشَّرِّ وَلَوْ صَرَفَهُ إلَى الْخَيْرِ لَكَانَ
مَحْمُودًا .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ فَقَالَ : كَانَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ ، وَأَعْقَلَ
مِنْ أَنْ يُخْدَعَ .
وَقَالَ عُمَرُ : لَسْتُ بِالْخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي
الْخِبُّ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ
إلَى الشَّرِّ كَزِيَادٍ ، وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الدُّهَاةِ ، هَلْ يُسَمَّى
الدَّاهِيَةُ مِنْهُمْ عَاقِلًا أَمْ لَا .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُسَمِّيهِ عَاقِلًا ؛ لِوُجُودِ
الْعَقْلِ مِنْهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا أُسَمِّيهِ عَاقِلًا حَتَّى
يَكُونَ خَيِّرًا دَيِّنًا ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالدِّينَ مِنْ مُوجِبَاتِ
الْعَقْلِ .
فَأَمَّا الشِّرِّيرُ فَلَا أُسَمِّيهِ عَاقِلًا
وَإِنَّمَا أُسَمِّيهِ صَاحِبَ رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ .
وَقَدْ قِيلَ : الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي الزُّهَّادِ ؛ لِأَنَّهُمْ انْقَادُوا لِلْعَقْلِ وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْأَمَلِ .
وَرَوَى
لُقْمَانُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا عُوَيْمِرُ ازْدَدْ عَقْلًا
تَزْدَدْ مِنْ رَبِّك قُرْبًا .
قُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، وَمَنْ لِي
بِالْعَقْلِ ؟ قَالَ : اجْتَنِبْ مَحَارِمَ اللَّهِ ، وَأَدِّ فَرَائِضَ اللَّهِ
تَكُنْ عَاقِلًا ثُمَّ تَنَفَّلَ بِصَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ تَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا
عَقْلًا وَتَزْدَدْ مِنْ رَبِّك قُرْبًا وَبِهِ عِزًّا } .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ هَذِهِ
الْأَبْيَاتِ ، وَذَكَرَ أَنَّهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنَّ الْمَكَارِمَ أَخْلَاقٌ مُطَهَّرَةٌ فَالْعَقْلُ أَوَّلُهَا
وَالدِّينُ ثَانِيهَا وَالْعِلْمُ ثَالِثُهَا وَالْحِلْمُ رَابِعُهَا وَالْجُودُ
خَامِسُهَا وَالْعُرْفُ سَادِيهَا وَالْبِرُّ سَابِعُهَا وَالصَّبْرُ ثَامِنُهَا وَالشُّكْرُ
تَاسِعُهَا وَاللِّينُ عَاشِيهَا وَالنَّفْسُ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُهَا
وَلَسْت أَرْشُدُ إلَّا حِينَ أَعْصِيهَا وَالْعَيْنُ تَعْلَمُ فِي عَيْنَيْ
مُحَدِّثِهَا مَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا عَيْنَاك قَدْ
دَلَّتَا عَيْنَيَّ مِنْك عَلَى أَشْيَاءَ لَوْلَاهُمَا مَا كُنْت تُبْدِيهَا
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْعَقْلِ
الْغَرِيزِيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ مِنْهُ .
وَقَدْ يَنْفَكُّ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ عَنْ الْعَقْلِ
الْمُكْتَسَبِ فَيَكُونَ صَاحِبُهُ مَسْلُوبَ الْفَضَائِلِ ، مَوْفُورَ
الرَّذَائِلِ ، كَالْأَنْوَكِ الَّذِي لَا يَجِدُ لَهُ فَضِيلَةً ، وَالْأَحْمَقُ
الَّذِي قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ رَذِيلَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَحْمَقُ كَالْفَخَّارِ لَا يُرَقَّعُ وَلَا يُشَعَّبُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَحْمَقُ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ ، إذْ حَرَمَهُ
أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْحَاجَةُ إلَى
الْعَقْلِ أَقْبَحُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ
: دَوْلَةُ الْجَاهِلِ عِبْرَةُ الْعَاقِلِ ، وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ
لِبَزَرْجَمْهَرَ :
أَيُّ
الْأَشْيَاءِ خَيْرٌ لِلْمَرْءِ ؟ قَالَ : عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَإِخْوَانٌ
يَسْتُرُونَ عَيْبَهُ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَمَالٌ
يَتَحَبَّبُ بِهِ إلَى النَّاسِ
.
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَعِيٌّ صَامِتٌ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَمَوْتٌ جَارِفٌ .
وَقَالَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ : الْعَقْلُ
نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَطْبُوعٌ ، وَالْآخَرُ مَسْمُوعٌ .
وَلَا يَصْلُحُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ ،
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : رَأَيْتُ الْعَقْلَ نَوْعَيْنِ
فَمَسْمُوعٌ وَمَطْبُوعُ وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كَمَا
لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ وَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ
الْعَاقِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَالْأَحْمَقَ بِمَا فِيهِ مِنْ
الرَّذَائِلِ ، فَقَالَ : الْعَاقِلُ إذَا وَالَى بَذَلَ فِي الْمَوَدَّةِ
نَصْرَهُ ، وَإِذَا عَادَى رَفَعَ عَنْ الظُّلْمِ قَدْرَهُ ، فَيُسْعِدُ
مَوَالِيَهُ بِعَقْلِهِ ، وَيَعْتَصِمُ مُعَادِيهِ بِعَدْلِهِ .
إنْ أَحْسَنَ إلَى أَحَدٍ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ بِالشُّكْرِ
، وَإِنْ أَسَاءَ إلَيْهِ مُسِيءٌ سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الْعُذْرِ ، أَوْ
مَنَحَهُ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ
.
وَالْأَحْمَقُ ضَالٌّ مُضِلٌّ إنْ أُونِسَ تَكَبَّرَ ،
وَإِنْ أُوحِشَ تَكْدَرَ ، وَإِنْ اُسْتُنْطِقَ تَخَلَّفَ ، وَإِنْ تُرِكَ
تَكَلَّفَ .
مُجَالَسَتُهُ مِهْنَةٌ ، وَمُعَاتَبَتُهُ مِحْنَةٌ ،
وَمُحَاوَرَتُهُ تَعَرٍّ ، وَمُوَالَاتُهُ تَضُرُّ ، وَمُقَارَبَتُهُ عَمَى ،
وَمُقَارَنَتُهُ شَقَا .
وَكَانَتْ مُلُوكُ الْفُرْسِ إذَا غَضِبَتْ عَلَى
عَاقِلٍ حَبَسَتْهُ مَعَ جَاهِلٍ
.
وَالْأَحْمَقُ يُسِيءُ إلَى غَيْرِهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ
قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِالشُّكْرِ ، وَيُحْسِنُ إلَيْهِ فَيَظُنُّ
أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فَيُطَالِبُهُ بِالْوَتَرِ .
فَمَسَاوِئُ الْأَحْمَقِ لَا تَنْقَضِي وَعُيُوبُهُ لَا
تَتَنَاهَى وَلَا يَقِفُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى غَايَةٍ إلَّا لَوَّحَتْ مَا
وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ أَدْنَى مِنْهَا ، وَأَرْدَى ، وَأَمَرُّ ، وَأَدْهَى .
فَمَا أَكْثَرَ الْعِبْرَ لِمَنْ نَظَرَ ، وَأَنْفَعَهَا
لِمَنْ
اعْتَبَرَ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
يُحْفَظُ الْأَحْمَقُ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا
أَقْبَلَتْ عَلَى الْجَاهِلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ بِالِاسْتِحْقَاقِ .
فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ ، أَوْ
فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ عَلَى
الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ .
فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ ، وَدَوْلَةُ
الْعَاقِلِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ
.
وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ، كَمَنْ
اسْتَوْجَبَهُ بِآلَتِهِ ، وَأَدَوَاتِهِ .
وَبَعْدُ فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي
يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ
إلَى الْوَصْلَةِ .
فَلَا يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا
بِغَيْرِ عَقْلٍ ، وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ .
فَإِنَّ الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا ، وَيُزِيلُهُ
عَنْهَا ، وَيَحُطُّهُ إلَى رُتْبَتِهِ ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ ، بَعْدَ
أَنْ تَظْهَرَ عُيُوبُهُ ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا ،
وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ مِنْ فَضَائِلِ
الْعَاقِلِ ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ ، حَتَّى يَصِيرَ
مَثَلًا فِي الْغَابِرِينَ ، وَحَدِيثًا فِي الْأَخِرِينَ ، مَعَ هَتْكِهِ فِي
عَصْرِهِ ، وَقُبْحِ ذِكْرِهِ فِي دَهْرِهِ ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ
جَابِرٍ قَالَ : كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ لَهُ حِمَارٌ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ لَعَلَفْته
مَعَ حِمَارِي .
فَهَمَّ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : إنَّمَا أُثِيبُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ .
وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ فَذُكِرَ
الْمَجُوسُ يَوْمًا عِنْدَهُ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ
أُمَّهَاتِهِمْ ، وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت
أُمِّي .
فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : - قَبَّحَهُ
اللَّهُ - أَتَرَوْنَهُ لَوْ زَادُوهُ فَعَلَ ؟ وَعَزَلَهُ
وَوَلَّى الرَّبِيعَ
الْعَامِرِيَّ - وَكَانَ مِنْ النَّوْكَى - عَلَى سَائِرِ الْيَمَامَةِ فَأَقَادَ
كَلْبًا بِكَلْبٍ فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ : شَهِدْت بِأَنَّ اللَّهَ حَقًّا
لِقَاؤُهُ وَأَنَّ الرَّبِيعَ الْعَامِرِيَّ رَقِيعُ أَقَادَ لَنَا كَلْبًا
بِكَلْبٍ وَلَمْ يَدَعْ دِمَاءَ كِلَابِ الْمُسْلِمِينَ تَضِيعُ وَلَيْسَ
لِمَعَارِّ الْجَهْلِ غَايَةٌ ، وَلَا لِمَضَارِّ الْحُمْقِ نِهَايَةٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ : لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ
بِهِ إلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا
الْهَوَى : فَصْلٌ : وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ
عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ ، وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ
الْأَخْلَاقِ قَبَائِحَهَا ، وَيُظْهِرُ مِنْ الْأَفْعَالِ فَضَائِحَهَا ،
وَيَجْعَلُ سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا ، وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
ثُمَّ تَلَا : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ
هَوَاهُ } وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
} يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ { وَتَرَبَّصْتُمْ } يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ {
وَارْتَبْتُمْ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ { وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ }
يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } يَعْنِي الْمَوْتَ { وَغَرَّكُمْ
بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَاعَةُ الشَّهْوَةِ دَاءٌ ، وَعِصْيَانُهَا دَوَاءٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طَلَّاعَةٌ تَنْزِعُ
إلَى شَرِّ غَايَةٍ .
إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ ، وَإِنَّ
الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ ، وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ
التَّوْبَةِ وَرُبَّ نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً ، وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ
حُزْنًا طَوِيلًا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ : اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الْأَمَلِ .
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ
وَطُولَ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ
.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى
؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ
.
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ
غَلِطَ بِاسْمِهِ ، فَأَخَذَهُ الشَّاعِرُ وَقَالَ : إنَّ الْهَوَانَ هُوَ
الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا وَقِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ ، أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ صَدِيقٌ
مَقْطُوعٌ ، وَالْهَوَى عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أَفْضَلُ
النَّاسِ
مَنْ عَصَى هَوَاهُ ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ رَفَضَ دُنْيَاهُ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ :
إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك
مَقَالُ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا مَا رَأَيْت الْمَرْءَ
يَعْتَادُهُ الْهَوَى فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ ثَوَاكِلُهْ وَقَدْ أَشْمَتَ
الْأَعْدَاءَ جَهْلًا بِنَفْسِهِ وَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالًا عَوَاذِلُهْ وَمَا
يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ
الرَّأْيِ كَامِلُهْ فَلَمَّا كَانَ الْهَوَى غَالِبًا وَإِلَى سَبِيلِ
الْمَهَالِكِ مَوْرِدًا جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا مُجَاهِدًا يُلَاحِظُ
عَثْرَةَ غَفْلَتِهِ ، وَيَدْفَعُ بَادِرَةَ سَطْوَتِهِ ، وَيَدْفَعُ خِدَاعَ
حِيلَتِهِ ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى قَوِيٌّ ، وَمَدْخَلٌ مَكْرِهِ خَفِيٌّ .
وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُؤْتَى الْعَاقِلُ
حَتَّى تَنْفُذَ أَحْكَامُ الْهَوَى عَلَيْهِ أَعْنِي بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ :
قُوَّةَ سُلْطَانِهِ وَبِالْآخَرِ خَفَاءَ مَكْرِهِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْوَى
سُلْطَانُ الْهَوَى بِكَثْرَةِ دَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ
مُغَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ فَيَكِلُّ الْعَقْلُ عَنْ دَفْعِهَا ، وَيَضْعُفُ عَنْ
مَنْعِهَا ، مَعَ وُضُوحِ قُبْحِهَا فِي الْعَقْلِ الْمَقْهُورِ بِهَا ، وَهَذَا
يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ أَكْثَرَ وَعَلَى الشَّبَابِ أَغْلَبَ ؛ لِقُوَّةِ
شَهَوَاتِهِمْ ؛ وَكَثْرَةِ دَوَاعِي الْهَوَى الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ
رُبَّمَا جَعَلُوا الشَّبَابَ عُذْرًا لَهُمْ ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
بَشِيرٍ : كُلٌّ يَرَى أَنَّ الشَّبَابَ لَهُ فِي كُلِّ مَبْلَغِ لَذَّةٍ عُذْرَا
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهَوَى مَلِكٌ غَشُومٌ ، وَمُتَسَلِّطٌ
ظَلُومٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْهَوَى عَسُوفٌ ،
وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا عَاقِلًا أَرْدَى
الْهَوَى عَقْلَهُ مَالَك قَدْ سُدَّتْ عَلَيْك الْأُمُورُ أَتَجْعَلُ الْعَقْلَ
أَسِيرَ الْهَوَى إنَّمَا الْعَقْلُ
عَلَيْهِ
أَمِيرُ وَحَسْمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْعَقْلِ عَلَى النَّفْسِ
النُّفُورَةِ فَيُشْعِرُهَا مَا فِي عَوَاقِبِ الْهَوَى مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ ،
وَقُبْحِ الْأَثَرِ ، وَكَثْرَةِ الْإِجْرَامِ ، وَتَرَاكُمِ الْآثَامِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ
بِالشَّهَوَاتِ } .
أَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْجَنَّةِ احْتِمَالُ
الْمَكَارِهِ ، وَالطَّرِيقَ إلَى النَّارِ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا
ذَمِيمٌ ، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِرْهَابِ
، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ
وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ لِهَوَاك
مُسَوِّفًا ، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا ، وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ
فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى
دَاؤُهَا ، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا ، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ ، كَمَا
تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى
تَوَلَّتْ وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ وَمَا النَّفْسُ إلَّا
حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ فَإِذَا انْقَادَتْ
النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ الْهَوَى لَمْ
يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا ، وَبِالنَّفْسِ
مَقْهُورًا ، ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى فِي ثَوَابِ الْخَالِقِ وَثَنَاءِ
الْمَخْلُوقِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
: أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ
الِامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ
أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَعَصَى
هَوَاهُ
فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ
، فَقَدْ أَحْيَا مُرُوءَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ
الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ
شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ ، وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ غَلَّبَ
عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ
عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ
، وَأَحْرَاهُمْ بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى
طَاعَةً لِرَبِّهِ ، وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ الْهَوَى
عَلَى قَلْبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : قَدْ يُدْرِكُ الْحَازِمُ
ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى وَأَمَّا
الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ
أَفْعَالُهُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ
نَفْعًا .
وَهَذَا يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ
يَكُونَ لِلنَّفْسِ مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ
لِحُسْنِ ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ
الْمَوْعِظَةِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْهَوَى عَمًى .
قَالَ الشَّاعِرُ : حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَنْ
تَوَدُّ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَسْت بِرَاءٍ عَيْبَ ذِي
الْوُدِّ كُلِّهِ وَلَا بَعْضَ مَا فِيهِ إذَا كُنْت رَاضِيَا فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ
كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي : فَهُوَ اشْتِغَالُ الْفِكْرِ فِي تَمْيِيزِ مَا
اشْتَبَهَ فَيَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي اتِّبَاعِ مَا اسْتَسْهَلَ حَتَّى يَظُنَّ
أَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ أَمْرَيْهِ ، وَأَحْمَدُ حَالَيْهِ ، اغْتِرَارًا بِأَنَّ
الْأَسْهَلَ
مَحْمُودٌ
وَالْأَعْسَرَ مَذْمُومٌ فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَوَرَّطَ بِخِدَعِ الْهَوَى
وَرِيبَةِ الْمَكْرِ فِي كُلِّ مَخُوفٍ حَذِرٍ ، وَمَكْرُوهٍ عَسِرٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ : الْهَوَى
يَقْظَانُ وَالْعَقْلُ رَاقِدٌ فَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ ،
وَالرَّأْيُ أَنْفَعُ .
وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ ،
وَالْهَوَى وَكِيلٌ فَاضِحٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ
كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ
إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ
وَحَسْمُ السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى
نَظَرِ عَيْنِهِ .
فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ ، وَالشَّهْوَةَ مِنْ
دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ دَوَاعِي الْعَقْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ
بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ ، وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ
وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ
، فَإِنَّ الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلًا ، وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ
أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَتَرَكَ أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ ، وَلِلْهَوَى
آثَرُ .
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ :
إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ
أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ
يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ
وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ ، وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ
تَفَكَّرَ أَبْصَرَ وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ،
وَتُعَجِّلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ وَيَفُوتُ
اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ
الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ
بَعْدَ
الْفَوْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك
مُعْرِضًا ، فَلَا تَكُنْ بِهِ مُتَعَرِّضًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ
جَهْلًا وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ
الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ :
الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ ، وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ ، فَانْزِلْ عَنْ
الْهَوَى تَسْلَمْ ، وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَوَاك
بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ الْعَوَارِيّ .
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ تُرْتَجَعُ
، وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ ، وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ
الْمَآثِمِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيُّ :
سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ ، وَأَنَا أُنْشِدُ : أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ
تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا
ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى .
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ
اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي
الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ ، فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ
وَالِاعْتِقَادَاتِ ، وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ .
فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ
أَخَصُّ ، وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ .
وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا
دَوَاعِيَ الْهَوَى ، وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى ، وَيَجْعَلَ
التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا ، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ
وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ : مَا مَنْ رَوَى
أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ حَتَّى
يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ عَامِلًا مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونَ غَيْرَ مَعِيبِ وَلَقَلَّمَا
تُغْنِي إصَابَةُ قَائِلٍ أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيبِ وَقَالَ آخَرُ : يَا أَيُّهَا
الرَّجُلُ
الْمُعَلِّمُ
غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي
السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ ابْدَأْ
بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ
تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ لَا
تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ حَكَى
أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ طَارِقًا صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ
بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٍ فِي مَوْكِبِهِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَرَاهَا
وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ اللَّهُمَّ
لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ .
فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى
الْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا
إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ
مِثْلَ أَبِيك وَلَا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ .
إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلَاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي
أَهْوَائِهِمْ .
أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ
بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ ، وَلَعَلَّهُ مِنْ
أَبَرِّ بَنِيهِ .
فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا ،
وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا .
إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ ،
وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ .
هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلَاذًا
، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟
الْبَابُ الثَّانِي
أَدَبُ الْعِلْمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ
، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ ، وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ
وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ ؛ لِأَنَّ شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ ،
وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } فَمَنَعَ الْمُسَاوَاةَ
بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ لِمَا قَدْ خُصَّ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ فَضِيلَةِ
الْعِلْمِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا
الْعَالِمُونَ } فَنَفَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعَالِمِ يَعْقِلُ عَنْهُ أَمْرًا
، أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ زَجْرًا
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { أُوحِيَ إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِّي عَلِيمٌ
أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ } .
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ
وَالْآخَرُ عَابِدٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ
عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ رَجُلًا } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ .
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : تَعَلَّمْ
الْعِلْمَ فَإِنْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك جَمَالًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك
مَالٌ كَانَ لَك مَالًا .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِبَنِيهِ :
يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ ، وَإِنْ
كُنْتُمْ وَسَطًا سُدْتُمْ ، وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِلْمُ شَرَفٌ لَا
قَدْرَ لَهُ ، وَالْأَدَبُ مَالٌ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ
خَلَفٍ ، وَالْعَمَلُ بِهِ أَكْمَلُ شَرَفٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ
فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا ، وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا
، وَيُصْلِحُ زَيْفَك وَفَاسِدَك ، وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك ، وَيُقَوِّمُ عِوَجَك
وَمَيْلَك ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك ، وَأَمَلَك .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ : قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ .
فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ فَنَظَّمَهُ شَعْرًا فَقَالَ :
لَا يَكُونُ الْعَلِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ
الْغَبِيِّ قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ قَضَاءٌ مِنْ
الْإِمَامِ عَلِيِّ وَلَيْسَ يَجْهَلُ فَضْلَ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ ؛
لِأَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْعِلْمِ .
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي فَضْلِهِ ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ لَا
يُعْلَمُ إلَّا بِهِ .
فَلَمَّا عَدِمَ الْجُهَّالُ الْعِلْمَ الَّذِي بِهِ
يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضْلِ الْعِلْمِ جَهِلُوا فَضْلَهُ ، وَاسْتَرْذَلُوا
أَهْلَهُ ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ
الْأَمْوَالِ الْمُقْتَنَاةِ ، وَالطُّرَفِ الْمُشْتَهَاةِ ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ
إقْبَالُهُمْ عَلَيْهَا ، وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ : الْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا ،
وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا .
وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عَنْ
الْعِلْمِ ، وَأَهْلِهِ انْصِرَافَ الزَّاهِدِينَ ، وَانْحَرَفُوا عَنْهُ
وَعَنْهُمْ انْحِرَافَ الْمُعَانِدِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ .
وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ
دُرَيْدٍ : جَهِلْت فَعَادَيْت الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا كَذَاك يُعَادِي الْعِلْمَ
مَنْ هُوَ جَاهِلُهْ وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ لَا
أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهْ وَقِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَمْ
الْمَالُ ؟ فَقَالَ : بَلْ الْعِلْمُ
.
قِيلَ : فَمَا بَالُنَا نَرَى الْعُلَمَاءَ عَلَى أَبْوَابِ
الْأَغْنِيَاءِ وَلَا نَكَادُ نَرَى الْأَغْنِيَاءَ عَلَى أَبْوَابِ الْعُلَمَاءِ
؟ فَقَالَ : ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ وَجَهْلِ
الْأَغْنِيَاءِ لِفَضْلِ الْعِلْمِ
.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : لِمَ لَا يَجْتَمِعُ
الْعِلْمُ وَالْمَالُ ؟ فَقَالَ : لِعِزِّ الْكَمَالِ .
فَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ : وَفِي
الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ
قَبْلَ الْقُبُورِ
قُبُورُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى
النُّشُورِ نُشُورُ وَوَقَفَ بَعْضُ الْمُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ
نَادَى : تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا بِمَا لَا يُتْعِبُ ضِرْسًا ، وَلَا يُسْقِمُ
نَفْسًا .
فَأَخْرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً .
فَقَالَ : فَاقَتِي إلَى كَلَامِكُمْ ، أَشَدُّ مِنْ
فَاقَتِي إلَى طَعَامِكُمْ ، إنِّي طَالِبُ هُدًى لَا سَائِلُ نَدًى .
فَأَذِنَ لَهُ الْعَالِمُ ، وَأَفَادَهُ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلَ عَنْهُ فَخَرَجَ جَذِلًا فَرِحًا ، وَهُوَ يَقُولُ : عِلْمٌ أَوْضَحَ
لَبْسًا ، خَيْرٌ مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ ، وَلِكُلِّ
عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ ، وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِهَا مُحَالٌ .
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ
الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ النَّاسِ
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ
حَقَّهُ ، وَوَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا
حَيْثُ يَقُولُ : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ
الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ ،
وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ
فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُتَعَمِّقُ فِي الْعِلْمِ
كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ يَرَى أَرْضًا ، وَلَا يَعْرِف طُولًا وَلَا
عَرْضًا .
وَقِيلَ لِحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ : أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ
الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : اسْتَفْرَغْنَا فِيهَا الْمَجْهُودَ ، فَلَمْ نَبْلُغْ
مِنْهَا الْمَحْدُودَ ، فَنَحْنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا
بَدَا عِلْمُ وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ عَنْ الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ
أَظُنُّهُمَا لَهُ : يَا نَفْسُ خُوضِي بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي فَالنَّاسُ
مَا بَيْنَ مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ لَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ إلَّا
إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ
وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ
الِاهْتِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلَاهَا ،
وَأَفْضَلِهَا .
وَأَوْلَى الْعُلُومِ ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ ؛
لِأَنَّ النَّاسَ بِمَعْرِفَتِهِ يَرْشُدُونَ ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ .
إذْ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ فَاعِلُهَا
صِفَاتِ أَدَائِهَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ } .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ
عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ
بِهَا قَدْ لَا تَكُونُ عِبَادَةً ، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ .
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُ مَا لَا
يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ
.
وَالثَّانِي : جُمْلَةُ الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَقُمْ
بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ
.
وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الدِّينِ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى فَرْضَ بَعْضِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَفَرْضَ جَمِيعِهِ عَلَى
الْكَافَّةِ كَانَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ يَجِبْ فَرْضُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَلَا
عَلَى الْكَافَّةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَرَوَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ ، أَحَدُهُمَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تَعَالَى ، وَالْآخَرُ يَتَفَقَّهُونَ
.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كِلَا الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ إلَيَّ
مِنْ صَاحِبِهِ .
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى
وَيَذْكُرُونَهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ .
وَأَمَّا الْمَجْلِسُ الْآخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ
الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ
.
وَإِنَّمَا
بُعِثْتُ مُعَلِّمًا وَجَلَسَ إلَى أَهْلِ الْفِقْهِ } .
وَرَوَى مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ
مَيْسَرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ
فِي الدِّينِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا وَخِيَارُ
عُلَمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا } .
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِيَحْمِل هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ
يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ،
وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيَّ بِخُلَفَائِي .
قَالُوا : وَمَنْ خُلَفَاؤُك ؟ قَالَ : الَّذِينَ
يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ } .
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ حَقٌّ عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ أَلَا فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا وَلَا تَمُوتُوا
جُهَّالًا } .
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا عُبِدَ اللَّهُ
بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ
مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ } .
وَرُبَّمَا مَالَ بَعْضُ الْمُتَهَاوِنِينَ بِالدِّينِ
إلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَرَأَى أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْفَضِيلَةِ ،
وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ اسْتِثْقَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الدِّينُ مِنْ
التَّكْلِيفِ ، وَاسْتِرْذَالًا لِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ التَّعَبُّدِ
وَالتَّوْقِيفِ .
وَالْكَلَامُ مَعَ مِثْلِ هَذَا فِي أَصْلٍ ، لَا
يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْفَصْلُ
.
وَلَنْ تَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ سَلِمَتْ فِطْنَتُهُ ،
وَصَحَّتْ رَوِيَّتُهُ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ
هَمَلًا
أَوْ سُدًى .
يَعْتَمِدُونَ عَلَى آرَائِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ
وَيَنْقَادُونَ لِأَهْوَائِهِمْ الْمُتَشَعِّبَةِ لِمَا تُؤَوَّلُ إلَيْهِ
أُمُورُهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ ، وَيُفْضِي إلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ
مِنْ التَّبَايُنِ وَالتَّقَاطُعِ
.
فَلَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْ دِينٍ يَتَأَلَّفُونَ بِهِ
وَيَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ الْعَقْلُ مُوجِبٌ لَهُ أَوْ مَانِعٌ وَلَوْ
تَصَوَّرَ هَذَا الْمُخْتَلُّ التَّصَوُّرَ أَنَّ الدِّينَ ضَرُورَةٌ فِي
الْعَقْلِ ، وَأَنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّينِ أَصْلٌ ، لَقَصَّرَ عَنْ التَّقْصِيرِ
، وَأَذْعَنَ لِلْحَقِّ وَلَكِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ فَضَلَّ وَأَضَلَّ .
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ
بِالدِّينِ عُلُومٌ قَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ فَضِيلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
فَقَالَ : مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ
الْفِقْهَ نَبُلَ مِقْدَارُهُ ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ ،
وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزَلَ رَأْيُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ
رَقَّ طَبْعُهُ ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ .
وَلَعَمْرِي إنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَصْلُ
الْفَضَائِلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَهْمَلَ صِيَانَةَ نَفْسِهِ ثِقَةً بِمَا مَنَحَهُ
الْعِلْمُ مِنْ فَضِيلَتِهِ ، وَتَوَكُّلًا عَلَى مَا يَلْزَمُ النَّاسَ مِنْ
صِيَانَتِهِ ، سَلَوْهُ فَضِيلَةَ عِلْمِهِ وَوَسَمُوهُ بِقَبِيحِ تَبَذُّلِهِ ،
فَلَمْ يَفِ مَا أَعْطَاهُ الْعِلْمُ بِمَا سَلَبَهُ التَّبَذُّلُ ؛ لِأَنَّ
الْقَبِيحَ أَنَمُّ مِنْ الْجَمِيلِ وَالرَّذِيلَةُ أَشْهَرُ مِنْ الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّ
النَّاسَ لِمَا فِي طَبَائِعِهِمْ مِنْ الْبِغْضَةِ وَالْحَسَدِ وَنِزَاعِ
الْمُنَافَسَةِ تَنْصَرِفُ عُيُونُهُمْ عَنْ الْمَحَاسِنِ إلَى الْمَسَاوِئِ ،
فَلَا يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا وَلَا يُحَابُونَ مُسِيئًا لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ
بِالْعِلْمِ مَوْسُومًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا ، فَإِنَّ زَلَّتَهُ لَا تُقَالُ
وَهَفْوَتَهُ لَا تُعْذَرُ إمَّا لِقُبْحِ أَثَرِهَا وَاغْتِرَارِ كَثِيرٍ مِنْ
النَّاسِ بِهَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إنَّ زَلَّةَ
الْعَالِمِ كَالسَّفِينَةِ تَغْرَقُ وَيَغْرَقُ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَقِيلَ
لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟
قَالَ : زَلَّةُ الْعَالِمِ إذَا زَلَّ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ .
فَهَذَا وَجْهٌ .
وَإِمَّا لِأَنَّ الْجُهَّالَ بِذَمِّهِ أَغْرَى ،
وَعَلَى تَنَقُّصِهِ أَحْرَى ؛ لِيَسْلُبُوهُ فَضِيلَةَ التَّقَدُّمِ
وَيَمْنَعُوهُ مُبَايِنَةَ التَّخْصِيصِ عِنَادًا لِمَا جَهِلُوهُ وَمَقْتًا لِمَا
بَايَنُوهُ ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَرَى الْعِلْمَ تَكَلُّفًا وَلَوْمًا ، كَمَا
أَنَّ الْعَالِمَ يَرَى الْجَهْلَ تَخَلُّفًا وَذَمًّا .
وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْزِلَةُ السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ كَمَنْزِلَةِ
الْفَقِيهِ مِنْ
السَّفِيهِ
فَهَذَا زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ إذَا
غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى سَفِيهٍ تَقَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لِابْنِهِ : عَلَيْك بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَخُذْ
مِنْهُ ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَدُوُّ مَا جَهِلَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ
عَدُوَّ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ، وَأَنْشَدَ : تَفَنَّنْ وَخُذْ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ
فَإِنَّمَا يَفُوقُ امْرُؤٌ فِي كُلِّ فَنٍّ لَهُ عِلْمُ فَأَنْتَ عَدُوٌّ
لِلَّذِي أَنْتَ جَاهِلٌ بِهِ وَلِعِلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ وَإِذَا صَانَ
ذُو الْعِلْمِ نَفْسَهُ حَقَّ صِيَانَتِهَا ، وَلَازَمَ فِعْلَ مَا يَلْزَمُهَا
أَمِنَ تَعْيِيرَ الْمَوَالِي وَتَنْقِيصَ الْمُعَادِي ، وَجَمَعَ إلَى فَضِيلَةِ
الْعِلْمِ جَمِيلَ الصِّيَانَةِ وَعِزَّ النَّزَاهَةِ فَصَارَ بِالْمَنْزِلَةِ
الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِفَضَائِلِهِ .
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا
الْعِلْمَ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلُ دَرَجَتَيْنِ
وَلِلْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ فَضْلُ دَرَجَةٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنْ تُجِلَّ
أَهْلَ الشَّرِيعَةِ ، وَمِنْ الصَّنِيعَةِ أَنْ تَرُبَّ حُسْنَ الصَّنِيعَةِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ عَلَى
اسْتِحْسَانِ الْفَضَائِلِ ، وَاسْتِقْبَاحِ الرَّذَائِلِ ، أَنْ يَنْفِيَ عَنْ
نَفْسِهِ رَذَائِلَ الْجَهْلِ بِفَضَائِلِ الْعِلْمِ وَغَفْلَةَ الْإِهْمَالِ
بِاسْتِيقَاظِ الْمُعَانَاةِ ، وَيَرْغَبَ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةَ مُتَحَقِّقٍ لِفَضَائِلِهِ
وَاثِقٍ بِمَنَافِعِهِ ، وَلَا يُلْهِيهِ عَنْ طَلَبِهِ كَثْرَةُ مَالٍ وَجَدَهُ
وَلَا نُفُوذُ أَمْرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ .
فَإِنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ فَهُوَ إلَى الْعِلْمِ
أَحْوَجُ ، وَمَنْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ فَهُوَ بِالْعِلْمِ أَحَقُّ .
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ
: { إنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا ، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ
الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كُلُّ عِزٍّ لَا
يُوَطِّدُهُ عِلْمٌ مَذَلَّةٌ ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُؤَيِّدُهُ عَقْلٌ مَضَلَّةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ : إذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِالنَّاسِ خَيْرًا جَعَلَ الْعِلْمَ فِي مُلُوكِهِمْ ، وَالْمُلْكَ فِي
عُلَمَائِهِمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْعِلْمُ عِصْمَةُ
الْمُلُوكِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ ، وَيَرُدُّهُمْ إلَى
الْحِلْمِ ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ الْأَذِيَّةِ ، وَيُعَطِّفُهُمْ عَلَى
الرَّعِيَّةِ .
فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقَّهُ ،
وَيَسْتَبْطِنُوا أَهْلَهُ .
فَأَمَّا الْمَالُ فَظِلٌّ زَائِلٌ وَعَارِيَّةٌ
مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَيْسَ فِي كَثْرَتِهِ فَضِيلَةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ
فَضِيلَةٌ لَخَصَّ اللَّهُ بِهِ مَنْ اصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ ، وَاجْتَبَاهُ
لِنُبُوَّتِهِ .
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
مَعَ مَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ
خَلْقِهِ ، فُقَرَاءَ لَا يَجِدُونَ بُلْغَةً وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى صَارُوا فِي الْفَقْرِ مَثَلًا ، فَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : فَقْرٌ كَفَقْرِ
الْأَنْبِيَاءِ وَغُرْبَةٌ وَصَبَابَةٌ لَيْسَ الْبَلَاءُ بِوَاحِدِ وَلِعَدَمِ
الْفَضِيلَةِ فِي الْمَالِ مَنَحَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ وَحَرَمَهُ الْمُؤْمِنَ .
قَالَ الشَّاعِرُ : كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ أَمْوَالُهُ
تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ يَزْدَادُ
إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ يَا لَائِمَ الدَّهْرِ وَأَفْعَالِهِ مُشْتَغِلًا يَزْرِي
عَلَى دَهْرِهِ الدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ عَلَى
أَمْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضْلَ
مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ فَقَالَ : الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ .
الْعِلْمُ يَحْرُسُك ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالِ .
الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ .
مَاتَ خَزَّانُ الْأَمْوَالِ وَبَقِيَ خَزَّانُ
الْعِلْمِ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ ، وَأَشْخَاصُهُمْ فِي الْقُلُوبِ
مَوْجُودَةٌ .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَيُّمَا أَفْضَلُ
الْمَالُ أَمْ الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيُّمَا أَفْضَلُ
الْمَالُ أَمْ الْعَقْلُ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : لَا خَيْرَ
فِيمَنْ كَانَ خَيْرُ ثَنَائِهِ فِي النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ
وَرُبَّمَا
امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَاسْتِحْيَائِهِ
مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي كِبْرِهِ ، فَرَضِيَ
بِالْجَهْلِ أَنْ يَكُونَ مَوْسُومًا بِهِ وَآثَرَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ
مُبْتَدِئًا بِهِ .
وَهَذَا مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ ؛
لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ فَضِيلَةً فَرَغْبَةُ ذَوِي الْأَسْنَانِ فِيهِ
أَوْلَى .
وَالِابْتِدَاءُ بِالْفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ .
وَلَأَنْ يَكُونَ شَيْخًا مُتَعَلِّمًا أَوْلَى مِنْ
أَنْ يَكُونَ شَيْخًا جَاهِلًا
.
حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى شَيْخًا
كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ وَيَسْتَحِي فَقَالَ لَهُ : يَا هَذَا
أَتَسْتَحِي أَنْ تَكُونَ فِي آخِرِ عُمُرِك أَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِي أَوَّلِهِ
، وَذُكِرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ
وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفِقْهِ فَقَالَ : يَا عَمِّ مَا
عِنْدَك فِيمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَغَلُونَا
فِي الصِّغَرِ وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ .
فَقَالَ : لِمَ لَا نَتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ :
أَوْ يَحْسُنُ بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَاَللَّهِ لَأَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ خَيْرٌ
مِنْ أَنْ تَعِيشَ قَانِعًا بِالْجَهْلِ .
قَالَ :
وَإِلَى مَتَى يَحْسُنُ بِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ :
مَا حَسُنَتْ بِك الْحَيَاةُ ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَعَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِي الْجَهْلِ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ بِهِ مُدَّةُ التَّفْرِيطِ وَلَا
اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الْإِهْمَالِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : جَهْلُ
الصَّغِيرِ مَعْذُورٌ ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ فَالْجَهْلُ
بِهِ أَقْبَحُ ، وَنَقْصُهُ عَلَيْهِ أَفْضَحُ ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ السِّنِّ إذَا
لَمْ يُكْسِبْهُ فَضْلًا وَلَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا وَكَانَتْ أَيَّامُهُ فِي
الْجَهْلِ مَاضِيَةً ، وَمِنْ الْفَضْلِ خَالِيَةً ، كَانَ الصَّغِيرُ أَفْضَلَ مِنْهُ
؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَهُ أَكْثَرُ ، وَالْأَمَلَ فِيهِ أَظْهَرُ ، وَحَسْبُك
نَقْصًا فِي رَجُلٍ يَكُونُ الصَّغِيرُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْجَهْلِ أَفْضَلَ
مِنْهُ .
وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ الْأَدَبِ : إذَا لَمْ يَكُنْ مَرُّ السِّنِينَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْفَضْلِ فِي الْإِنْسَانِ سَمَّيْته طِفْلَا وَمَا تَنْفَعُ الْأَيَّامُ حِينَ يَعُدُّهَا وَلَمْ يَسْتَفِدْ فِيهِنَّ عِلْمًا وَلَا فَضْلَا أَرَى الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفِ مَائِلًا إلَى كُلِّ ذِي جَهْلٍ كَأَنَّ بِهِ جَهْلَا
وَرُبَّمَا
امْتَنَعَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِتَعَذُّرِ الْمَادَّةِ وَشَغَلَهُ
اكْتِسَابُهَا عَنْ الْتِمَاسِ الْعِلْمِ .
وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ
أَنَّهُ قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ذِي شَرَهٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ
مُسْتَعْبِدَةٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى الْعِلْمِ حَظًّا مِنْ زَمَانِهِ .
فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ زَمَانَ اكْتِسَابٍ .
وَلَا بُدَّ لِلْمُكْتَسِبِ مِنْ أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَةٍ
، وَأَيَّامِ عُطْلَةٍ .
وَمَنْ صَرَفَ كُلَّ نَفْسِهِ إلَى الْكَسْبِ حَتَّى
لَمْ يَتْرُكْ لَهَا فَرَاغًا إلَى غَيْرِهِ ، فَهُوَ مِنْ عَبِيدِ الدُّنْيَا ،
وَأُسَرَاءِ الْحِرْصِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إلَى
الْعِلْمِ فَقَدْ نَجَا } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
عُلَمَاءَ صَالِحِينَ فَجَالِسُوا الْعُلَمَاءَ وَاسْمَعُوا عِلْمًا يَدُلُّكُمْ
عَلَى الْهُدَى ، وَيَرُدُّكُمْ عَنْ الرَّدَى } .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ
أَحَاطَتْ بِهِ فَضَائِلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ صَاحَبَ
الْعُلَمَاءِ وُقِّرَ ، وَمَنْ جَالَسَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ .
وَرُبَّمَا
مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا يَظُنُّهُ مِنْ صُعُوبَتِهِ ، وَبُعْدِ
غَايَتِهِ ، وَيَخْشَى مِنْ قِلَّةِ ذِهْنِهِ وَبُعْدِ فِطْنَتِهِ .
وَهَذَا الظَّنُّ اعْتِذَارُ ذَوِي النَّقْصِ وَخِيفَةُ أَهْلِ
الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ جَهْلٌ ، وَالْخَشْيَةَ
قَبْلَ الِابْتِلَاءِ عَجْزٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَكُونَنَّ لِلْأُمُورِ هَيُوبًا
فَإِلَى خَيْبَةٍ يَصِيرُ الْهَيُوبُ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ ، وَأَخَافُ أَنْ
أُضَيِّعَهُ .
فَقَالَ : كَفَى بِتَرْكِ الْعِلْمِ إضَاعَةٌ .
وَلَيْسَ ، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ الْأَذْهَانُ
وَتَفَاوَتَتْ الْفَطِنُ ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّ مِنْهَا حَظُّهُ أَنْ يَيْأَسَ
مِنْ نَيْلِ الْقَلِيلِ وَإِدْرَاكِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حَدِّ
الْجَهَالَةِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّخْصِيصِ .
فَإِنَّ الْمَاءَ مَعَ لِينِهِ يُؤَثِّرُ فِي صَمِّ
الصُّخُورِ فَكَيْفَ لَا يُؤَثِّرُ الْعِلْمُ الزَّكِيُّ فِي نَفْسِ رَاغِبٍ
شَهِيٍّ ، وَطَالِبٍ خَلِيٍّ ، لَا سِيَّمَا وَطَالِبُ الْعِلْمِ مُعَانٌ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا
يَطْلُبُ .
}
وَرُبَّمَا
مَنَعَ ذَا السَّفَاهَةِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنْ يُصَوِّرَ فِي نَفْسِهِ
حِرْفَةَ أَهْلِهِ وَتَضَايُقَ الْأُمُورِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِهِ حَتَّى
يَسِمَهُمْ بِالْإِدْبَارِ وَيَتَوَسَّمَهُمْ بِالْحِرْمَانِ ، فَإِنْ رَأَى
مَحْبَرَةً تَطَيَّرَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى كِتَابًا أَعْرَضَ عَنْهُ ، وَإِنْ
رَأَى مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ هَرَبَ مِنْهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَالِمًا
مُقْبِلًا وَجَاهِلًا مُدْبِرًا .
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ جَمَاعَةً
ذَوِي مَنَازِلِ ، وَأَحْوَالٍ كُنْت أُخْفِي عَنْهُمْ مَا يَصْحَبُنِي مِنْ
مَحْبَرَةٍ وَكِتَابٍ لِئَلَّا أَكُونَ عِنْدَهُمْ مُسْتَثْقَلًا ، وَإِنْ كَانَ
الْبُعْدُ عَنْهُمْ مُؤْنِسًا وَمُصْلِحًا ، وَالْقُرْبُ مِنْهُمْ مُوحِشًا وَمُفْسِدًا .
فَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرَ : الْجَهْلُ فِي الْقَلْبِ
كَالنَّزِّ فِي الْأَرْضِ ، يُفْسِدُ مَا حَوْلَهُ .
لَكِنْ اتَّبَعْتُ فِيهِمْ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ
أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَالِطُوا النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ
وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ
} .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : رُبَّ جَهْلٍ
وُقِيَتْ بِهِ عُلَمَاءُ ، وَسَفَهٍ حُمِيَتْ بِهِ حُلَمَاءُ .
وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِمَّنْ لَا يُرْجَى لَهَا صَلَاحٌ
، وَلَا يُؤْمَلُ لَهَا فَلَاحٌ
.
لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعِلْمَ شَيْنٌ ،
وَأَنَّ تَرْكَهُ زَيْنٌ ، وَأَنَّ لِلْجَهْلِ إقْبَالًا مُجْدِيًا ، وَلِلْعِلْمِ
إدْبَارًا مُكْدِيًا ، كَانَ ضَلَالُهُ مُسْتَحْكِمًا وَرَشَادُهُ مُسْتَعْبَدَا ،
وَكَانَ هُوَ الْخَامِسُ الْهَالِكُ الَّذِي قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ
مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا وَلَا تَكُنْ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ } .
وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنَدًا
وَلَيْسَ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ : فِي الْعَذْلِ نَفْعٌ وَلَا فِي الْإِصْلَاحِ
مَطْمَعٌ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : مَا لَكُمْ لَا
تُعَاتِبُونَ الْجُهَّالَ ؟ فَقَالَ : إنَّا لَا
نُكَلِّفُ
الْعُمْيَ أَنْ يُبْصِرُوا ، وَلَا الصُّمَّ أَنْ يَسْمَعُوا .
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الْعِلْمِ
هَذَا النُّفُورَ ، وَتُعَانِدُ أَهْلَهُ هَذَا الْعِنَادَ ، تَرَى الْعَقْلَ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَتَنْفِرُ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا النُّفُورَ ، وَتَعْتَقِدُ
أَنَّ الْعَاقِلَ مُحَارَفٌ ، وَأَنَّ الْأَحْمَقَ مَحْظُوظٌ .
وَنَاهِيكَ بِضَلَالِ مَنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ فِي
الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ هَلْ يَكُونُ لِخَيْرٍ أَهْلًا ، أَوْ لِفَضِيلَةٍ
مَوْضِعًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَخْبَثُ النَّاسِ
الْمُسَاوِي بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ ؛ وَعِلَّةُ هَذَا أَنَّهُمْ
رُبَّمَا رَأَوْا عَاقِلًا غَيْرَ مَحْظُوظٍ ، وَعَالِمًا غَيْرَ مَرْزُوقٍ ، فَظَنُّوا
أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ هُمَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ حَظِّهِ وَرِزْقِهِ .
وَقَدْ انْصَرَفَتْ عُيُونُهُمْ عَنْ حِرْمَانِ أَكْثَرِ
النَّوْكَى وَإِدْبَارِ أَكْثَرِ الْجُهَّالِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعُقَلَاءِ
وَالْعُلَمَاءِ قِلَّةً وَعَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِمْ سِمَةٌ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ لِكَثْرَةِ
الْجُهَّالِ .
فَإِذَا ظَهَرَتْ سِمَةُ فَضْلِهِمْ وَصَادَفَ ذَلِكَ
قِلَّةَ حَظِّ بَعْضِهِمْ تَنَوَّهُوا بِالتَّمْيِيزِ وَاشْتُهِرُوا
بِالتَّعْيِينِ ، فَصَارُوا مَقْصُودِينَ بِإِشَارَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ ،
مَلْحُوظِينَ بِإِيمَاءِ الشَّامِتِينَ
.
وَالْجُهَّالُ وَالْحَمْقَى لَمَّا كَثُرُوا وَلَمْ يَتَخَصَّصُوا
انْصَرَفَتْ عَنْهُمْ النُّفُوسُ فَلَمْ يَلْحَظْ الْمَحْرُومُ مِنْهُمْ بِطَرَفِ
شَامِتٍ ، وَلَا قَصَدَ الْمَجْدُودُ مِنْهُمْ بِإِشَارَةِ عَائِبٍ .
فَلِذَلِكَ ظَنَّ الْجَاهِلُ الْمَرْزُوقُ أَنَّ
الْفَقْرَ وَالضِّيقَ مُخْتَصٌّ بِالْعِلْمِ ، وَالْعَقْلَ دُونَ الْجَهْلِ
وَالْحُمْقِ وَلَوْ فَتَّشَتْ أَحْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ ، مَعَ
قِلَّتِهِمْ ، لَوَجَدْت الْإِقْبَالَ فِي أَكْثَرِهِمْ .
وَلَوْ اخْتَبَرْت أُمُورَ الْجُهَّالِ وَالْحَمْقَى ،
مَعَ كَثْرَتِهِمْ ، لَوَجَدَتْ الْحِرْمَانَ فِي أَكْثَرِهِمْ .
وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذُو الْحَالِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُمْ
مَلْحُوظًا مُشْتَهِرًا ؛ لِأَنَّ حَظَّهُ عَجِيبٌ وَإِقْبَالَهُ مُسْتَغْرَبٌ .
كَمَا أَنَّ حِرْمَانَ الْعَاقِلِ
الْعَالِمِ
غَرِيبٌ وَإِقْلَالَهُ عَجِيبٌ .
وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ عَلَى سَالِفِ الدُّهُورِ مِنْ
ذَلِكَ مُتَعَجِّبِينَ وَبِهِ مُعْتَبِرِينَ حَتَّى قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : مَا
أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : نُجْحُ الْجَاهِلِ وَإِكْدَاءُ الْعَاقِلِ .
لَكِنَّ الرِّزْقَ بِالْحَظِّ وَالْجَدِّ ، لَا
بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ ، حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَدُلُّ بِهَا عَلَى
قُدْرَتِهِ وَإِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَوْ جَرَتْ الْأَقْسَامُ
عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ .
فَنَظَمَهُ أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ : يَنَالُ الْفَتَى
مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ وَيُكْدِي الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ
جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي سُلْمَى : لَوْ
كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءِ لَأَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ
الْقَدَرُ يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ
وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ سَعَادَةٌ وَإِقْبَالٌ ،
وَإِنْ قَلَّ مَعَهُمَا الْمَالُ ، وَضَاقَتْ مَعَهُمَا الْحَالُ .
وَالْجَهْلَ وَالْحُمْقَ حِرْمَانٌ وَإِدْبَارٌ وَإِنْ
كَثُرَ مَعَهُمَا الْمَالُ ، وَاتَّسَعَتْ فِيهِمَا الْحَالُ ؛ لِأَنَّ
السَّعَادَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ فَكَمْ مِنْ مُكْثِرٍ شَقِيٌّ
وَمُقِلٍّ سَعِيدٌ .
وَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاهِلُ الْغَنِيُّ سَعِيدًا
وَالْجَهْلُ يَضَعُهُ .
أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَقِيرُ شَقِيًّا
وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ ؟ وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كَمْ مِنْ
ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ عِلْمُهُ ، وَمِنْ عَزِيزٍ أَذَلَّهُ جَهْلُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْجَاهِلُ
كَرَوْضَةٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُلَّمَا حَسُنَتْ
نِعْمَةُ الْجَاهِلِ ازْدَادَ قُبْحًا
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِبَنِيهِ : يَا بَنِيَّ
تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ لَمْ تَنَالُوا بِهِ مِنْ الدُّنْيَا حَظًّا
فَلَأَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ لَكُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ
بِكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ :
مَنْ لَمْ
يَفِدْ بِالْعِلْمِ مَالًا كَسَبَ بِهِ جَمَالًا ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ
الْأَدَبِ لِابْنِ طَبَاطَبَا : حَسُودٌ مَرِيضُ الْقَلْبِ يُخْفِي أَنِينَهُ
وَيَضْحَى كَئِيبَ الْبَالِ عِنْدِي حَزِينَهُ يَلُومُ عَلَيَّ أَنْ رُحْت
لِلْعِلْمِ طَالِبًا أَجْمَعُ مِنْ عِنْدِ الرُّوَاةِ فَنُونَهُ فَأَعْرِفُ
أَبْكَارَ الْكَلَامِ وَعَوْنَهُ وَأَحْفَظُ مِمَّا أَسْتَفِيدُ عُيُونَهُ
وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُكْسِبُ الْغِنَى وَيُحْسِنُ بِالْجَهْلِ
الذَّمِيمِ ظُنُونَهُ فَيَا لَائِمِي دَعْنِي أُغَالِي بِقِيمَتِي فَقِيمَةُ كُلِّ
النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ وَأَنَا أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ
الْمُذِلَّةِ ، وَبَوَادِرِ الْحُمْقِ الْمُضِلَّةِ .
وَأَسْأَلُهُ السَّعَادَةَ بِعَقْلٍ رَادِعٍ يَسْتَقِيمُ
بِهِ مَنْ زَلَّ ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ يَسْتَهْدِي بِهِ مَنْ ضَلَّ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ .
فَيَنْبَغِي
لِمَنْ زَهِدَ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَاغِبًا وَلِمَنْ رَغِبَ فِيهِ
أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا ، وَلِمَنْ طَلَبَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ
مُسْتَكْثَرًا ، وَلِمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِهِ عَامِلًا ، وَلَا
يَطْلُبُ لِتَرْكِهِ احْتِجَاجًا وَلَا لِلتَّقْصِيرِ فِيهِ عُذْرًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَا تَعْذِرَانِي فِي الْإِسَاءَةِ
إنَّهُ شِرَارُ الرِّجَالِ مَنْ يُسِيءُ فَيُعْذَرُ وَلَا يُسَوِّفُ نَفْسَهُ
بِالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَيُمَنِّيهَا بِانْقِطَاعِ الْأَشْغَالِ
الْمُتَّصِلَةِ ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ شُغْلًا وَلِكُلِّ زَمَانٍ عُذْرًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا
وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لَا تَنْقَضِي تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ وَتَبْقَى
لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِيَ وَيَقْصِدُ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاثِقًا بِتَيْسِيرِ
اللَّهِ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ
صَادِقَةٍ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ
غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ
قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ ، وَرَفْعُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ .
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ
أَوْ مَتَى يَحْتَاجُ إلَى مَا عِنْدَهُ } .
وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَطْلُبَهُ لِمِرَاءٍ أَوْ رِيَاءٍ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ بِهِ مَهْجُورٌ لَا
يَنْتَفِعُ ، وَالْمُرَائِيَ بِهِ مَحْقُورٌ لَا يَرْتَفِعُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُمَارُوا بِهِ
السُّفَهَاءَ ، وَلَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ،
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ } .
وَلَيْسَ الْمُمَارِي بِهِ هُوَ الْمُنَاظِرُ فِيهِ
طَلَبًا لِلصَّوَابِ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ الْقَاصِدُ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ
عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ
.
وَفِيهِمْ جَاءَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجَادِلُ إلَّا
مُنَافِقٌ أَوْ مُرْتَابٌ } .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ شَرًّا أَعْطَاهُمْ الْجَدَلَ ، وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ لِمُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ : أُجَادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ ظَنِينِ وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا
لِدِينِي وَأَتْرُكُ مَا عَمِلْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي وَلَيْسَ الرَّأْيُ
كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ يُصْرَفُ فِي
الشِّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ فَأَمَّا مَا عَلِمْت فَقَدْ كَفَانِي وَأَمَّا مَا
جَهِلْت فَجَنِّبُونِي وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ
: لَا يَمْنَعَنَّكَ حَذَرُ الْمِرَاءِ مِنْ حُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ ، فَإِنَّ
الْمُمَارِيَ هُوَ الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَا
يَرْجُو أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ
.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ بَاعِثًا .
وَالْبَاعِثُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْئَانِ : رَغْبَةٌ
أَوْ رَهْبَةٌ ، فَلْيَكُنْ طَالِبُ الْعِلْمِ رَاغِبًا رَاهِبًا .
أَمَّا الرَّغْبَةُ فَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى
لِطَالِبِي مَرْضَاتِهِ ، وَحَافِظِي مُفْتَرَضَاتِهِ .
وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَمِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى
لِتَارِكِي أَوَامِرِهِ ، وَمُهْمَلِي زَوَاجِرِهِ .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ أَدَّيَا
إلَى كُنْهِ الْعِلْمِ وَحَقِيقَةِ الزُّهْدِ ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ أَقْوَى
الْبَاعِثَيْنِ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالرَّهْبَةَ أَقْوَى
السَّبَبَيْنِ
فِي الزُّهْدِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : أَصْلُ الْعِلْمِ
الرَّغْبَةُ وَثَمَرَتُهُ السَّعَادَةُ ، وَأَصْلُ الزُّهْدِ الرَّهْبَةُ
وَثَمَرَتُهُ الْعِبَادَةُ فَإِذَا اقْتَرَنَ الزُّهْدُ وَالْعِلْمُ فَقَدْ
تَمَّتْ السَّعَادَةُ وَعَمَّتْ الْفَضِيلَةُ ، وَإِنْ افْتَرَقَا فَيَا وَيْحَ
مُفْتَرَقَيْنِ مَا أَضَرَّ افْتِرَاقَهُمَا ، وَأَقْبَحَ انْفِرَادَهُمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ ازْدَادَ فِي الْعِلْمِ رُشْدًا ، فَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا
زُهْدًا ، لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ
الْعِلْمِ مَا يَقْمَعُهُ ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ لَا يَنْفَعُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْفَقِيهُ بِغَيْرِ
وَرَعٍ كَالسِّرَاجِ يُضِيءُ الْبَيْتَ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ .
التَّعَلُّمُ
: فَصْلٌ
: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلُومِ أَوَائِلَ تُؤَدِّي إلَى أَوَاخِرِهَا ،
وَمَدَاخِلَ تُفْضِي إلَى حَقَائِقِهَا
.
فَلْيَبْتَدِئْ طَالِبُ الْعِلْمِ بِأَوَائِلِهَا
لِيَنْتَهِيَ إلَى أَوَاخِرِهَا ، وَبِمَدَاخِلِهَا لِتُفْضِيَ إلَى حَقَائِقِهَا .
وَلَا يَطْلُبُ الْآخِرَ قَبْلَ الْأَوَّلِ ، وَلَا
الْحَقِيقَةَ قَبْلَ الْمَدْخَلِ
.
فَلَا يُدْرِكُ الْآخِرَ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ ؛
لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى غَيْرِ أُسٍّ لَا يُبْنَى ، وَالثَّمَرُ مِنْ غَيْرِ
غَرْسٍ لَا يُجْنَى .
وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ فَاسِدَةٌ وَدَوَاعٍ وَاهِيَةٌ .
فَمِنْهَا :
أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ أَغْرَاضٌ تَخْتَصُّ
بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَدْعُو الْغَرَضُ إلَى قَصْدِ ذَلِكَ النَّوْعِ
وَيَعْدِلُ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ ، كَرَجُلٍ يُؤْثِرُ الْقَضَاءَ وَيَتَصَدَّى لِلْحُكْمِ
فَيَقْصِدُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ أَدَبَ الْقَاضِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ
الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ ، أَوْ يُحِبُّ الِاتِّسَامَ بِالشَّهَادَةِ
فَيَتَعَلَّمُ كِتَابَ الشَّهَادَاتِ فَيَصِيرُ مَوْسُومًا بِجَهْلِ مَا يُعَانِي .
فَإِذَا أَدْرَكَ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ حَازَ مِنْ
الْعِلْمِ جُمْهُورَهُ ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ مَشْهُورَهُ ، وَلَمْ يَرَ مَا بَقِيَ
مِنْهُ إلَّا غَامِضًا طَلَبُهُ عَنَاءٌ ، وَغَوِيصًا اسْتِخْرَاجُهُ فَنَاءٌ ؛
لِقُصُورِ هِمَّتِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ ، وَانْصِرَافِهَا عَمَّا تَرَكَ .
وَلَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ لَعَلِمَ أَنَّ مَا تَرَكَ
أَهَمُّ مِمَّا أَدْرَكَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعِلْمِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ ،
وَلِكُلِّ بَابٍ مِنْهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ فَلَا تَقُومُ الْأَوَاخِرُ
إلَّا بِأَوَائِلِهَا .
وَقَدْ يَصِحُّ قِيَامُ الْأَوَائِلِ بِأَنْفُسِهَا
فَيَصِيرُ طَلَبُ الْأَوَاخِرِ بِتَرْكِ الْأَوَائِلِ تَرْكًا لِلْأَوَائِلِ
وَالْأَوَاخِرِ فَإِذَنْ لَيْسَ يُعَرَّى مِنْ لَوْمٍ وَإِنْ كَانَ تَارِكُ
الْآخَرِ أَلْوَمَ .
وَمِنْهَا
: أَنْ يُحِبَّ الِاشْتِهَارَ بِالْعِلْمِ إمَّا لِتَكَسُّبٍ أَوْ لِتَجَمُّلٍ
فَيَقْصِدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَدَلِ وَطَرِيقِ
النَّظَرِ .
وَيَتَعَاطَى عِلْمَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ دُونَ مَا
اُتُّفِقَ عَلَيْهِ ؛ لِيُنَاظِرَ عَلَى الْخِلَافِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ
الْوِفَاقَ ، وَيُجَادِلَ الْخُصُومَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَذْهَبًا مَخْصُوصًا .
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ عَدَدًا قَدْ
تَحَقَّقُوا بِالْعِلْمِ تَحَقُّقَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وَاشْتُهِرُوا بِهِ
اشْتِهَارَ الْمُتَبَحِّرِينَ .
إذَا أَخَذُوا فِي مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ ظَهَرَ كَلَامُهُمْ
، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ وَاضِحِ مَذْهَبِهِمْ ضَلَّتْ أَفْهَامُهُمْ ، حَتَّى
إنَّهُمْ لَيَخْبِطُونَ فِي الْجَوَابِ خَبْطَ عَشْوَاءِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ
صَوَابٌ ، وَلَا يَتَقَرَّرُ لَهُمْ جَوَابٌ .
وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا إذَا نَمَّقُوا فِي الْمَجَالِسِ
كَلَامًا مَوْصُوفًا ، وَلَفَّقُوا عَلَى الْمُخَالِفِ حِجَابًا مَأْلُوفًا .
وَقَدْ جَهِلُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا يَعْلَمُ
الْمُبْتَدِئُ وَيَتَدَاوَلُهُ النَّاشِئُ .
فَهُمْ دَائِمًا فِي لَغَطٍ مُضِلٍّ ، أَوْ غَلَطٍ
مُذِلٍّ وَرَأَيْت قَوْمًا مِنْهُمْ يَرَوْنَ الِاشْتِغَالَ بِالْمَذَاهِبِ
تَكَلُّفًا ، وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ تَخَلُّفًا .
وَحَاجَّنِي بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ : لِأَنَّ
عِلْمَ حَافِظِ الْمَذَاهِبِ مَسْتُورٌ ، وَعِلْمُ الْمَنَاظِرِ عَلَيْهِ
مَشْهُورٌ .
فَقُلْت : فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمُ حَافِظِ الْمَذْهَبِ
مَسْتُورًا وَهُوَ سَرِيعٌ عَلَيْهِ الْجَوَابُ ، كَثِيرُ الصَّوَابِ ؟ فَقَالَ :
لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْأَلْ سَكَتَ فَلَمْ يُعْرَفْ ، وَالْمَنَاظِرُ إنْ لَمْ
يَسْأَلْ سَائِلٌ يُعْرَفُ .
فَقُلْت : أَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْحَافِظُ فَأَصَابَ
بَانَ فَضْلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ
.
قُلْت :
أَفَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْمَنَاظِرُ فَأَخْطَأَ بَانَ
نَقْصُهُ ، وَقَدْ قِيلَ : عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ
؟ فَأَمْسَكَ عَنْ جَوَابِي ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ كَابَرَ الْمَعْقُولَ ،
وَلَوْ اعْتَرَفَ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ .
وَالْإِمْسَاكُ إذْعَانٌ وَالسُّكُوتُ رِضًى ، وَأَنْ
يَنْقَادَ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُ
الْبَاطِلُ .
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَقُولُ اعْرَفُونِي وَهُوَ
غَيْرُ عَرُوفٍ وَلَا مَعْرُوفٍ وَبَعِيدٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ أَنْ
يَعْرِفَهُ .
وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ : وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ
امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمْ .
وَمِنْ أَسْبَابِ
التَّقْصِيرِ أَيْضًا أَنْ يَغْفُلَ عَنْ التَّعَلُّمِ فِي الصِّغَرِ ، ثُمَّ
يَشْتَغِلَ بِهِ فِي الْكِبَرِ فَيَسْتَحِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِمَا يَبْتَدِئُ
الصَّغِيرُ ، وَيَسْتَنْكِفُ أَنْ يُسَاوِيَهُ الْحَدَثُ الْغَرِيرُ ، فَيَبْدَأُ
بِأَوَاخِرِ الْعُلُومِ ، وَأَطْرَافِهَا ، وَيَهْتَمُّ بِحَوَاشِيهَا ،
وَأَكْنَافِهَا ؛ لِيَتَقَدَّمَ عَلَى الصَّغِيرِ الْمُبْتَدِي ، وَيُسَاوِيَ
الْكَبِيرَ الْمُنْتَهِي .
وَهَذَا مِمَّنْ رَضِيَ بِخِدَاعِ نَفْسِهِ ، وَقَنَعَ بِمُدَاهَنَةِ
حِسِّهِ ؛ لِأَنَّ مَعْقُولَهُ إنْ أَحَسَّ وَمَعْقُولَ كُلِّ ذِي حِسٍّ يَشْهَدُ
بِفَسَادِ هَذَا التَّصَوُّرِ ، وَيَنْطِقُ بِاخْتِلَالِ هَذَا التَّخَيُّلِ ؛
لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ فِي وَهْمٍ .
وَجَهْلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ أَقْبَحُ
مِنْ جَهْلِ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعَالِمُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَقَّ إلَى صَغِيرِ
الْأَمْرِ حَتَّى يُرَقِّيَك الصَّغِيرُ إلَى الْكَبِيرِ فَتَعْرِفَ
بِالتَّفَكُّرِ فِي صَغِيرٍ كَبِيرًا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا
الْمَعْنَى ، وَأَشْبَاهِهِ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ فِي الصِّغَرِ أَحْمَدَ .
رَوَى مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ {
مِثْلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ فِي صِغَرِهِ كَالنَّقْشِ عَلَى الصَّخْرِ وَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ
فِي كِبَرِهِ كَاَلَّذِي يَكْتُبُ عَلَى الْمَاءِ .
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرَاضِيِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا
مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ أَفْرَغُ
قَلْبًا ، وَأَقَلُّ شُغْلًا ، وَأَيْسَرُ تَبَذُّلًا ، وَأَكْثَرُ تَوَاضُعًا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُتَوَاضِعُ
مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ
الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ الْبِقَاعِ مَاءً .
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ أَضْبَطَ مِنْ الْكَبِيرِ
إذَا عَرِيَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَانِعِ ، وَأَوْعَى مِنْهُ إذَا خَلَا مِنْ هَذِهِ
الْقَوَاطِعِ فَلَا .
حُكِيَ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ سَمِعَ رَجُلًا
يَقُولُ :
التَّعْلِيمُ
فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى الْحَجَرِ .
فَقَالَ الْأَحْنَفُ : الْكَبِيرُ أَكْثَرُ عَقْلًا
وَلَكِنَّهُ أَشْغَلُ قَلْبًا .
وَلَعَمْرِي لَقَدْ فَحَصَ الْأَحْنَفُ عَنْ الْمَعْنَى
وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ قَوَاطِعَ الْكَبِيرِ كَثِيرَةٌ : فَمِنْهَا
: مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحْيَاءِ
.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ رَقَّ
وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : يَرْتَعُ الْجَهْلُ
بَيْنَ الْحَيَاءِ وَالْكِبَرِ فِي الْعِلْمِ .
وَمِنْهَا : وُفُورُ شَهَوَاتِهِ وَتَقَسُّمُ
أَفْكَارِهِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : صَرْفُ الْهَوَى عَنْ ذِي الْهَوَى
عَزِيزُ إنَّ الْهَوَى لَيْسَ لَهُ تَمْيِيزُ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ
الْقَلْبَ إذَا عَلِقَ كَالرَّهْنِ إذَا غُلِقَ .
وَمِنْهَا : الطَّوَارِقُ الْمُزْعِجَةُ وَالْهُمُومُ
الْمُذْهِلَةُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْهَمُّ قَيْدُ
الْحَوَاسِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ
لَاقِي مِنْ الْعِلْمِ أَشُدَّهُ
.
وَمِنْهَا : كَثْرَةُ اشْتِغَالِهِ وَتَرَادُفُ
حَالَاتِهِ حَتَّى أَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ زَمَانَهُ وَتَسْتَنْفِدُ أَيَّامَهُ .
فَإِذَا كَانَ ذَا رِئَاسَةٍ أَلْهَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ
ذَا مَعِيشَةٍ قَطَعَتْهُ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَر : الشَّغْلُ مَجْهَدَةٌ
وَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ .
فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَنِيَ فِي
طَلَبِهِ وَيَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ بِهِ ، فَرُبَّمَا شَحَّ الزَّمَانُ بِمَا
سَمَحَ وَضَنَّ بِمَا مَنَحَ .
وَيَبْتَدِئُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَوَّلِهِ وَيَأْتِيهِ مِنْ
مُدْخَلِهِ وَلَا يَتَشَاغَلُ بِطَلَبِ مَا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ فَيَمْنَعُهُ
ذَلِكَ مِنْ إدْرَاكِ مَا لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ .
فَإِنَّ لِكُلِّ عِلْمٍ فُصُولًا مُذْهِلَةً وَشُذُورًا
مُشْغِلَةً ، إنْ صَرَفَ إلَيْهَا نَفْسَهُ قَطَعَتْهُ عَمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهُ .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ : مَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ
بَارِعًا فَبُطُونُ الصُّحُفِ أَوْلَى بِهِ مِنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِتَرْكِ مَا لَا
يَعْنِيك تُدْرِكُ مَا يُغْنِيك
.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ مَا
اُسْتُصْعِبَ عَلَيْهِ إشْعَارًا لِنَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُضُولِ عِلْمِهِ
وَإِعْذَارًا لَهَا فِي تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطِيَّةُ النَّوْكَى
وَعُذْرُ الْمُقَصِّرِينَ .
وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَسَهَّلَ وَتَرَكَ
مِنْهُ مَا تَعَذَّرَ كَانَ كَالْقَنَّاصِ إذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ
تَرَكَهُ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا خَائِبًا إذْ لَيْسَ يَرَى الصَّيْدَ إلَّا
مُمْتَنِعًا .
كَذَلِكَ الْعِلْمُ كُلُّهُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ جَهِلَهُ
، سَهْلٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَهُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا
مُسْتَوْدَعَةٌ فِي كَلَامٍ مُتَرْجَمٍ عَنْهَا .
وَكُلُّ كَلَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فَهُوَ يَجْمَعُ لَفْظًا
مَسْمُوعًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا ، فَاللَّفْظُ كَلَامٌ يُعْقَلُ بِالسَّمْعِ
وَالْمَعْنَى تَحْتَ اللَّفْظِ يُفْهَمُ بِالْقَلْبِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعُلُومُ
مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : قَلْبٌ مُفَكِّرُ ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ ،
وَبَيَانٌ مُصَوِّرٌ .
فَإِذَا عَقَلَ الْكَلَامَ بِسَمْعِهِ فَهِمَ
مَعَانِيَهُ بِقَلْبِهِ .
وَإِذَا فَهِمَ الْمَعَانِيَ سَقَطَ عَنْهُ كُلْفَةُ
اسْتِخْرَاجِهَا وَبَقِيَ عَلَيْهِ مُعَانَاةُ حِفْظِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا ؛
لِأَنَّ الْمَعَانِيَ شَوَارِدُ تَضِلُّ بِالْإِغْفَالِ ، وَالْعُلُومُ
وَحْشِيَّةٌ تَنْفِرُ بِالْإِرْسَالِ
.
فَإِذَا حَفِظَهَا بَعْدَ الْفَهْمِ أَنِسَتْ ، وَإِذَا
ذَكَرَهَا بَعْدَ الْأُنْسِ رَسَتْ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَكْثَرَ
الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ لَمْ يَنْسَ مَا عَلِمَ وَاسْتَفَادَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا لَمْ يُذَاكِرْ ذُو
الْعُلُومِ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ عِلْمًا نَسِيَ مَا تَعَلَّمَا فَكَمْ
جَامِعٍ لِلْكُتُبِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ يَزِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ فِي جَمْعِهِ
عَمَى
وَإِنْ لَمْ
يَفْهَمْ مَعَانِيَ مَا سَمِعَ كَشَفَ عَنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنْهَا
لِيَعْلَمَ الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ فَهْمِهَا فَإِنَّهُ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ
الْأَشْيَاءِ وَعِلَلِهَا يَصِلُ إلَى تَلَافِي مَا شَذَّ وَصَلَاحِ مَا فَسَدَ .
وَلَيْسَ يَخْلُو السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ
عَنْهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى
الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي السَّامِعِ
الْمُسْتَخْرِجِ .
فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهَا
لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِتَقْصِيرِ اللَّفْظِ عَنْ
الْمَعْنَى فَيَصِيرُ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَبَبًا
مَانِعًا مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ
حَصْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَعِيِّهِ ، وَإِمَّا مِنْ بَلَادَتِهِ وَقِلَّةِ فَهْمِهِ .
الْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِزِيَادَةِ
اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عِلَّةً مَانِعَةً مِنْ فَهْمِ
الْمَقْصُودِ مِنْهُ .
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا
مِنْ هَذْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِكْثَارِهِ ، وَإِمَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ
سَامِعِهِ .
وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِمُوَاضَعَةٍ
يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا السَّامِعُ
لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَهَا .
وَأَمَّا تَقْصِيرُ اللَّفْظِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ الْأَسْبَابِ
الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّك لَسْت تَجِدُ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ
الْكَلَامِ ، وَإِنَّمَا تَجِدُهُ فِي بَعْضِهِ .
فَإِنْ عَدَلْت عَنْ الْكَلَامِ الْمُقَصِّرِ إلَى
الْكَلَامِ الْمُسْتَوْفِي ، وَعَنْ الزَّائِدِ إلَى الْكَافِي أَرَحْت نَفْسَك
مِنْ تَكَلُّفِ مَا يَكِدُّ خَاطِرَك
.
وَإِنْ أَقَمْت عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إمَّا لِضَرُورَةٍ
دَعَتْك إلَيْهِ عِنْدَ إعْوَازِ غَيْرِهِ ، أَوْ لِحَمِيَّةٍ دَاخَلَتْك عِنْدَ
تَعَذُّرِ فَهْمِهِ ، فَانْظُرْ فِي سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ .
فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ
لِحَصْرٍ وَالزِّيَادَةُ
لِهَذْرٍ سَهُلَ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ الْمَعْنَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ
الْكَلَامِ مَحْصُولٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلُّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ
الصَّحِيحِ وَفِي الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ دَلِيلٌ .
وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى
دَلِيلًا لِسُوءِ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ بِفَهْمِ السَّامِعِ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ
أَسْهَلَ .
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى
لِسُوءِ فَهْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ حَالًا ، وَأَبْعَدُهَا
اسْتِخْرَاجًا ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُكَلِّمُك فَأَنْتَ مِنْ فَهْمِهِ
أَبْعَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِفَرْطِ ذَكَائِك وَجَوْدَةِ خَاطِرِك تَتَنَبَّهُ
بِإِشَارَتِهِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا قَصَّرَ
فِيهِ فَتَكُونُ فَضِيلَةُ الِاسْتِيفَاءِ لَك وَحَقُّ التَّقَدُّمِ لَهُ .
وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَضَرْبَانِ : عَامَّةٌ
وَخَاصَّةٌ .
أَمَّا الْعَامَّةُ فَهِيَ مُوَاضَعَةُ الْعُلَمَاءِ
فِيمَا جَعَلُوهُ أَلْقَابًا لِمَعَانٍ لَا يَسْتَغْنِي الْمُتَعَلِّمُ عَنْهَا
وَلَا يَقِفُ عَلَى مَعْنَى كَلَامِهِمْ إلَّا بِهَا ، كَمَا جَعَلَ
الْمُتَكَلِّمُونَ الْجَوَاهِرَ ، وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَجْسَامَ أَلْقَابًا
تَوَاضَعُوهَا لِمَعَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا .
وَلَسْت تَجِدُ مِنْ الْعُلُومِ عِلْمًا يَخْلُو مِنْ
هَذَا .
وَهَذِهِ الْمُوَاضَعَةُ الْعَامَّةُ تُسَمَّى عُرْفًا .
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَمُوَاضَعَةُ الْوَاحِدِ يَقْصِدُ
بِبَاطِنِ كَلَامِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ
.
فَإِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ رَمْزًا ،
وَإِنْ كَانَتْ فِي الشِّعْرِ كَانَتْ لُغْزًا .
فَأَمَّا الرَّمْزُ فَلَسْت تَجِدُهُ فِي عِلْمٍ
مَعْنَوِيٍّ ، وَلَا فِي كَلَامٍ لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ غَالِبًا
بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا بِمَذْهَبٍ شَنِيعٍ يُخْفِيهِ مُعْتَقِدُهُ
وَيَجْعَلُ الرَّمْزَ سَبَبًا لِتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَاحْتِمَالِ
التَّأْوِيلِ فِيهِ سَبَبًا لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ .
وَإِمَّا لِمَا يَدَّعِي أَرْبَابُهُ أَنَّهُ عِلْمٌ
مُعْوِزٌ ، وَأَنَّ إدْرَاكَهُ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ ، كَالصَّنْعَةِ الَّتِي
وَضَعَهَا أَرْبَابُهَا اسْمًا لِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ
فَرَمَزُوا
بِأَوْصَافِهِ ، وَأَخْفَوْا مَعَانِيَهُ ؛ لِيُوهِمُوا الشُّحَّ بِهِ وَالْأَسَفَ
عَلَيْهِ خَدِيعَةً لِلْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : مُنِعْتُ شَيْئًا فَأَكْثَرْت
الْوَلُوعَ بِهِ أَحَبُّ شَيْءٍ إلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا ثُمَّ لِيَكُونُوا
بُرَاءً مِنْ عُهْدَةِ مَا قَالُوهُ إذَا جُرِّبَ .
وَلَوْ كَانَ مَا تَضَمَّنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ،
وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ الرُّمُوزِ مَعْنًى صَحِيحًا وَعِلْمًا مُسْتَفَادًا
لَخَرَجَ مِنْ الرَّمْزِ الْخَفِيِّ إلَى الْعِلْمِ الْجَلِيِّ ، فَإِنَّ
أَغْرَاضَ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ لَا تَتَّفِقُ عَلَى سَتْرِ
سَلِيمٍ وَإِخْفَاءِ مُفِيدٍ .
وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ : السَّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ
وَلَا يَلْقَاك دُونَ الْخَيْرِ مِنْ سَتْرِ وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَ الرَّمْزُ
مِنْ الْكَلَامِ فِيمَا يُرَادُ تَفْخِيمُهُ مِنْ الْمَعَانِي ، وَتَعْظِيمُهُ
مِنْ الْأَلْفَاظِ ؛ لِيَكُونَ أَحْلَى فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعًا ، وَأَجَلَّ فِي
النُّفُوسِ مَوْضِعًا ، فَيَصِيرُ بِالرَّمْزِ سَائِرًا وَفِي الصُّحُفِ
مُخَلَّدًا .
كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ فِيثَاغُورْسَ فِي وَصَايَاهُ
الْمَرْمُوزَةِ أَنَّهُ قَالَ : احْفَظْ مِيزَانَك مِنْ الْبَذِيءِ ، وَأَوْزَانَك
مِنْ الصَّدِيءِ .
يُرِيدُ بِحِفْظِ الْمِيزَانِ مِنْ الْبَذِيءِ حِفْظَ
اللِّسَانِ مِنْ الْخَنَا ، وَحِفْظِ الْأَوْزَانِ مِنْ الصَّدَى حِفْظَ الْعَقْلِ
مِنْ الْهَوَى .
فَصَارَ بِهَذَا الرَّمْزِ مُسْتَحْسَنًا وَمُدَوَّنًا
وَلَوْ قَالَهُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَالْمَعْنَى الصَّحِيحِ ، لَمَا سَارَ
عَنْهُ ، وَلَا اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ
.
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْجُوبَ عَنْ الْأَفْهَامِ
كَالْمَحْجُوبِ عَنْ الْأَبْصَارِ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ
التَّعْظِيمِ ، وَفِي الْقُلُوبِ مِنْ التَّفْخِيمِ .
وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجِبْ هَانَ
وَاسْتُرْذِلَ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِحْلَاؤُهُ فِيمَا قَلَّ وَهُوَ
بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ مُسْتَقَلٌّ
.
فَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُنْتَشِرَةُ الَّتِي تَتَطَلَّعُ
النُّفُوسُ إلَيْهَا فَقَدْ اسْتَغْنَتْ بِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ
الدَّاعِي إلَيْهَا عَنْ الِاسْتِدْعَاءِ
إلَيْهَا
بِرَمْزٍ مُسْتَحْلٍ وَلَفْظٍ مُسْتَغْرَبٍ .
بَلْ ذَلِكَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا ؛ لِمَا فِي التَّشَاغُلِ
بِاسْتِخْرَاجِ رُمُوزِهَا مِنْ الْإِبْطَاءِ عَنْ إدْرَاكِهَا ، فَهَذَا حَالُ
الرَّمْزِ .
وَأَمَّا اللُّغْزُ فَهُوَ تَحَرِّي أَهْلِ الْفَرَاغِ
وَشُغْلُ ذَوِي الْبَطَالَةِ ؛ لِيَتَنَافَسُوا فِي تَبَايُنِ قَرَائِحِهِمْ ، وَيَتَفَاخَرُوا
فِي سُرْعَةِ خَوَاطِرِهِمْ ، فَيَسْتَكِدُّوا خَوَاطِرَ قَدْ مُنِحُوا صِحَّتَهَا
فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَلَا يُفِيدُ عِلْمًا ، كَأَهْلِ الصِّرَاعِ
الَّذِينَ قَدْ صَرَفُوا مَا مُنِحُوهُ مِنْ صِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ إلَى صِرَاعٍ
كَدُودٍ يَصْرَعُ عُقُولَهُمْ وَيَهِدُّ أَجْسَامَهُمْ وَلَا يُكْسِبُهُمْ حَمْدًا
وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ نَفْعًا
.
اُنْظُرْ إلَى قَوْلِ الشَّاعِر : رَجُلٌ مَاتَ وَخَلَّفَ
رَجُلًا ابْنَ أُمِّ ابْنَ أَبِي أُخْتِ أَبِيهِ مَعَهُ أُمُّ بَنِي أَوْلَادِهِ
وَأَبَا أُخْتِ بَنِي عَمِّ أَخِيهِ أَخْبَرَنِي عَنْ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
وَقَدْ رَوَّعَك صُعُوبَةُ مَا تَضَمَّنَهُمَا مِنْ السُّؤَالِ .
إذَا اسْتَكْدَيْتَ الْفِكْرَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ فَعَلِمْت
أَنَّهُ أَرَادَ مَيْتًا خَلَّفَ أَبًا وَزَوْجَةً وَعَمًّا ، مَا الَّذِي
أَفَادَك مِنْ الْعِلْمِ وَنَفَى عَنْك مِنْ الْجَهْلِ ؟ أَلَسْت بَعْدَ عِلْمِهِ
تَجْهَلُ مَا كُنْت جَاهِلًا مِنْ قَبْلِهِ ؟ وَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ قَلَبَ لَك
السُّؤَالَ فَأَخَّرَ مَا قُدِّمَ وَقَدَّمَ مَا أُخِّرَ لَكُنْت فِي الْجَهْلِ
بِهِ قَبْلَ اسْتِدْرَاجِهِ كَمَا كُنْت فِي الْجَهْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَدَدْت
نَفْسَك ، وَأَتْعَبْت خَاطِرَك ثُمَّ لَا تَعْدَمُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْك مِثْلُ هَذَا
مِمَّا تَجْهَلُهُ فَتَكُونُ فِيهِ كَمَا كُنْت قَبْلَهُ .
فَاصْرِفْ نَفْسَك - تَوَلَّى اللَّهُ رُشْدَك - عَنْ
عُلُومِ النَّوْكَى وَتَكَلُّفِ الْبَطَّالِينَ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } .
ثُمَّ اجْعَلْ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك مِنْ
صِحَّةِ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةِ الْخَاطِرِ مَصْرُوفًا إلَى عِلْمِ مَا يَكُونُ
إنْفَاقُ خَاطِرِك فِيهِ مَذْخُورًا ، وَكَدُّ فِكْرِك فِيهِ مَشْكُورًا .
وَقَدْ رَوَى
سَعِيدُ بْنُ
أَبِي هِنْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ
الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ } .
وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نُغْبَنَ
بِفَضْلِ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا ، وَنَجْهَلَ نَفْعَ إحْسَانِهِ إلَيْنَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مِنْ الْفَرَاغِ
تَكُونُ الصَّبْوَةُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ
فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ أَوْ
حَمْدٍ حَصَّلَهُ ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ ، فَقَدْ عَقَّ
يَوْمَهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَقَدْ أَهَاجَ الْفَرَاغُ
عَلَيْك شُغْلًا وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا
فِي الْكَلَامِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ مَعَانِيهِ حَتَّى
خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ وَالْكَشْفُ إلَى الْإِغْمَاضِ .
وَأَمَّا
الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِ
السَّامِعِ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ
الْمَعْنَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا
بِنَفْسِهِ ، أَوْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ ، أَوْ يَكُونَ نَتِيجَةً مِنْ
غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَضَرْبَانِ :
جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ .
فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَهُوَ يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ
مُتَصَوِّرِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُشْكِلُ
عَلَى مَنْ تَصَوَّرَهُ .
وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَيَحْتَاجُ فِي إدْرَاكِهِ إلَى زِيَادَةِ
تَأَمُّلٍ وَفَضْلِ مُعَانَاةٍ لِيَنْجَلِيَ عَمَّا أَخْفَى وَيَنْكَشِفَ عَمَّا
أُغْمِضَ ، وَبِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِيهِ يَكُونُ الِارْتِيَاضُ بِهِ
وَبِالِارْتِيَاضِ بِهِ يَسْهُلُ مِنْهُ مَا اُسْتُصْعِبَ وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا
بَعُدَ ، فَإِنَّ لِلرِّيَاضَةِ جَرَاءَةً وَلِلدِّرَايَةِ تَأْثِيرًا ، وَأَمَّا
مَا كَانَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَقُومَ
الْمُقَدِّمَةُ بِنَفْسِهَا وَإِنْ تَعَدَّتْ إلَى غَيْرِهَا ، فَتَكُونُ كَالْمُسْتَقِلِّ
بِنَفْسِهِ فِي تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ مُسْتَدْعِيًا لِنَتِيجَتِهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى نَتِيجَتِهِ
فَيَتَعَذَّرُ فَهْمُ الْمُقَدِّمَةِ إلَّا بِمَا يَتْبَعُهَا مِنْ النَّتِيجَةِ ؛
لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضًا وَتَبْعِيضُ الْمَعْنَى أَشْكَلُ لَهُ وَبَعْضُهُ لَا
يُغْنِي عَنْ كُلِّهِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ نَتِيجَةً لِغَيْرِهِ فَهُوَ لَا
يُدْرَكُ إلَّا بِأَوَّلِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إلَّا
بِمُقَدِّمَتِهِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قَبْلَ الْمُقَدِّمَةِ عَنَاءٌ ،
وَإِتْعَابُ الْفِكْرِ فِي اسْتِنْبَاطِهِ قَبْلَ قَاعِدَتِهِ إيذَاءٌ .
فَهَذَا يُوَضِّحُ تَعْلِيلَ مَا فِي الْمَعَانِي مِنْ
الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِهَا .
وَأَمَّا
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ لِعِلَّةٍ فِي
الْمُسْتَمِعِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ .
أَحَدُهُمَا : مِنْ ذَاتِهِ .
وَالثَّانِي : مِنْ طَارِئٍ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَاتِهِ فَيَتَنَوَّعُ
نَوْعَيْنِ : أَحَدَهُمَا : مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى ،
وَالثَّانِيَ : مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى
وَفَهْمِهِ فَهُوَ الْبَلَادَةُ وَقِلَّةُ الْفِطْنَةِ وَهُوَ الدَّاءُ الْعَيَاءُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا فَقَدَ
الْعَالِمُ الذِّهْنَ قَلَّ عَلَى الْأَضْدَادِ احْتِجَاجُهُ ، وَكَثُرَ إلَى
الْكُتُبِ احْتِيَاجُهُ .
وَلَيْسَ لِمَنْ بُلِيَ بِهِ إلَّا الصَّبْرُ
وَالْإِقْلَالُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ أَقْدَرُ ، وَبِالصَّبْرِ أَحْرَى
أَنْ يَنَالَ وَيَظْفَرَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : قَدِّمْ لِحَاجَتِك
بَعْضَ لَجَاجَتِك .
وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ مَنْ هَذَا حَالُهُ
إلَّا أَنْ يَكُونَ غَالِبَ الشَّهْوَةِ ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ ، فَيُشْعِرُ
قَلْبَهُ الصَّبْرَ ؛ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ ، وَجَسَدَهُ احْتِمَالَ التَّعَبِ ؛
لِبُعْدِ هِمَّتِهِ .
فَإِذَا تَلَوَّحَ لَهُ الْمَعْنَى بِمُسَاعَدَةِ الشَّهْوَةِ
أَعْقَبَهُ ذَلِكَ إلْحَاحُ الْآمِلِينَ وَنَشَاطُ الْمُدْرِكِينَ فَقَلَّ
عِنْدَهُ كُلُّ كَثِيرٍ ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَسِيرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنَالُونَ مَا تُحِبُّونَ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا
تَكْرَهُونَ ، وَلَا تَبْلُغُونَ مَا تَهْوُونَ إلَّا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : أَتْعِبْ قَدَمَك ،
فَإِنْ تَعِبَ قَدَّمَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا اشْتَدَّ الْكَلَفُ
، هَانَتْ الْكُلَفُ ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يَدْخُلْك مُضْجِرَةٌ
فَالنُّجْحُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ
وَأَمَّا الْمَانِعُ
مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ فَهُوَ النِّسْيَانُ الْحَادِثُ عَنْ
غَفْلَةِ التَّقْصِيرِ وَإِهْمَالِ التَّوَانِي .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ بُلِيَ بِهِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ
تَقْصِيرَهُ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ وَيُوقِظَ غَفْلَتَهُ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ .
فَقَدْ قِيلَ لَا يُدْرِكُ الْعِلْمَ مَنْ لَا يُطِيلُ
دَرْسَهُ ، وَيَكُدُّ نَفْسَهُ
.
وَكَثْرَةُ الدَّرْسِ كَدُودٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ
إلَّا مَنْ يَرَى الْعِلْمَ مَغْنَمًا ، وَالْجَهَالَةَ مَغْرَمًا .
فَيَحْتَمِلُ تَعَبَ الدَّرْسِ لِيُدْرِكَ رَاحَةَ
الْعِلْمِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَعَرَّةَ الْجَهْلِ .
فَإِنَّ نَيْلَ الْعَظِيمِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَعَلَى
قَدْرِ الرَّغْبَةِ تَكُونُ الْمَطَالِبُ ، وَبِحَسَبِ الرَّاحَةِ يَكُونُ
التَّعَبُ .
وَقَدْ قِيلَ : طَلَبُ الرَّاحَةِ قِلَّةُ
الِاسْتِرَاحَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَكْمَلُ الرَّاحَةِ مَا
كَانَتْ عَنْ كَدِّ التَّعَبِ ، وَأَعَزُّ الْعِلْمِ مَا كَانَ عَنْ ذُلِّ
الطَّلَبِ .
وَرُبَّمَا اسْتَثْقَلَ الْمُتَعَلِّمُ الدَّرْسَ
وَالْحِفْظَ وَاتَّكَلَ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعَانِي عَلَى الرُّجُوعِ إلَى
الْكُتُبِ وَالْمُطَالَعَةِ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ إلَّا كَمَنْ
أَطْلَقَ مَا صَادَهُ ثِقَةً بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ
فَلَا تُعْقِبُهُ الثِّقَةُ إلَّا خَجَلًا وَالتَّفْرِيطُ إلَّا نَدَمًا .
وَهَذِهِ حَالٌ قَدْ يَدْعُو إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ
أَشْيَاءِ : إمَّا الضَّجَرُ مِنْ مُعَانَاةِ الْحِفْظِ وَمُرَاعَاتِهِ وَطُولِ
الْأَمَلِ فِي التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَشَاطِهِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ فِي عَزِيمَتِهِ .
وَلَيْسَ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّجُورَ خَائِبٌ ، وَأَنَّ
الطَّوِيلَ الْأَمَلِ مَغْرُورٌ ، وَأَنَّ الْفَاسِدَ الرَّأْيِ مُصَابٌ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا : حَرْفٌ فِي
قَلْبِك ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ فِي كُتُبِك .
وَقَالُوا :
لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَك الْوَادِيَ ،
وَلَا يُعَمِّرُ بِك النَّادِيَ ، وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ يَنْفَعُنِي قَلْبِي وِعَاءٌ
لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِي إنْ كُنْت فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ
مَعِي
أَوْ كُنْت فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ وَرُبَّمَا اعْتَنَى
الْمُتَعَلِّمُ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ وَلَا فَهْمٍ حَتَّى يَصِيرَ
حَافِظًا لِأَلْفَاظِ الْمَعَانِي قَيِّمًا بِتِلَاوَتِهَا .
وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُهَا وَلَا يَفْهَمُ مَا تَضَمَّنَهَا
يَرْوِي بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ ، وَيُخْبِرُ عَنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ .
فَهُوَ كَالْكِتَابِ الَّذِي لَا يَدْفَعُ شُبْهَةً ،
وَلَا يُؤَيِّدُ حُجَّةً .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الرِّعَايَةُ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُونُوا
لِلْعِلْمِ رُعَاةً ، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ، فَقَدْ يَرْعَوِي مَنْ لَا
يَرْوِي ، وَيَرْوِي مَنْ لَا يَرْعَوِي .
وَحَدَّثَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِحَدِيثٍ فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا سَعِيدٍ ، عَمَّنْ ؟ قَالَ : مَا تَصْنَعُ بِعَمَّنْ ،
أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ نَالَتْك عِظَتُهُ ، وَقَامَتْ عَلَيْك حُجَّتُهُ .
وَرُبَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَصَوُّرِهِ ،
وَأَغْفَلَ تَقْيِيدَ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِ ثِقَةً بِمَا اسْتَقَرَّ فِي
ذِهْنِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الشَّكْلَ مُعْتَرِضٌ وَالنِّسْيَانَ
طَارِقٌ .
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَيِّدُوا الْعِلْمَ
بِالْكِتَابِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ : اسْتَعْمِلْ يَدَك ، أَيْ
اُكْتُبْ حَتَّى تَرْجِعَ إذَا نَسِيتَ إلَى مَا كَتَبْتَ } .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : اجْعَلْ مَا فِي
الْكُتُبِ رَأْسَ الْمَالِ ، وَمَا فِي الْقَلْبِ النَّفَقَةَ .
وَقَالَ مَهْبُودٌ .
لَوْلَا مَا عَقَدَتْهُ الْكُتُبُ مِنْ تَجَارِبِ
الْأَوَّلِينَ ، لَانْحَلَّ مَعَ النِّسْيَانِ عُقُودُ الْآخِرِينَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ هَذِهِ الْآدَابَ
نَوَافِرُ تَنِدُّ عَنْ عَقْلِ الْأَذْهَانِ فَاجْعَلُوا الْكُتُبَ عَنْهَا
حُمَاةً ، وَالْأَقْلَامَ لَهَا رُعَاةً .
وَأَمَّا الطَّوَارِئُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا :
شُبْهَةٌ تَعْتَرِضُ الْمَعْنَى فَتَمْنَعُ عَنْ
نَفَسِ تَصَوُّرِهِ
وَتَدْفَعُ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ تِلْكَ
الشُّبْهَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِالسُّؤَالِ وَالنَّظَرِ ؛ لِيَصِلَ إلَى تَصَوُّرِ
الْمَعْنَى وَإِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا تُخْلِ
قَلْبَك مِنْ الْمُذَاكَرَةِ فَتَعُدْ عَقِيمًا ، وَلَا تُعْفِ طَبْعَك مِنْ
الْمُنَاظَرَةِ فَيَعُدْ سَقِيمًا
.
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : شِفَاءُ الْعَمَى طُولُ السُّؤَالِ
وَإِنَّمَا دَوَامُ الْعَمَى طُولُ السُّكُوتِ عَلَى الْجَهْلِ فَكُنْ سَائِلًا
عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ
وَالثَّانِي : أَفْكَارٌ تُعَارِضُ الْخَاطِرِ فَيَذْهَلُ عَنْ تَصَوُّرِ
الْمَعْنَى .
وَهَذَا سَبَبٌ قَلَّمَا يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ لَا
سِيَّمَا فِيمَنْ انْبَسَطَتْ آمَالُهُ وَاتَّسَعَتْ أَمَانِيهِ .
وَقَدْ يَقِلُّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي غَيْرِ
الْعِلْمِ أَرَبٌ ، وَلَا فِيمَا سِوَاهُ هِمَّةٌ ، فَإِنْ طَرَأَتْ عَلَى
الْإِنْسَانِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُكَابَرَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْفَهْمِ
وَغَلَبَةِ قَلْبِهِ عَلَى التَّصَوُّرِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ
أَشَدُّ نُفُورًا ، وَأَبْعَدُ قَبُولًا .
وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ بِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ
عَمِيَ ، وَلَكِنْ يَعْمَلُ فِي دَفْعِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ هَمٍّ مُذْهِلٍ
أَوْ فِكْرٍ قَاطِعٍ لِيَسْتَجِيبَ لَهُ الْقَلْبُ مُطِيعًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَيْسَ بِمُغْنٍ فِي
الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَفِيعُ وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : إنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ تَنَافُرَ كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ
فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي التَّعْلِيمِ ، وَالتَّوَسُّطِ فِي
التَّقْدِيمِ ؛ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا ، وَيَدُومَ نَشَاطُهَا .
فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْمُسْتَمِعِ مِنْ
الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ الْمَعَانِي .
وَهَا
هُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ .
وَلَكِنَّهُ قَدْ يُعَرَّى مِنْ بَعْضِ الْكَلَامِ ،
فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ ، وَلَمْ نَسْتَجِزْ
الْإِخْلَالَ بِذِكْرِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَا
يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إلَى تَأَمُّلِ الْخَطِّ بِهِ .
وَالْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهِ هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
مِنْ أَقْسَامِهِ وَمِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا بِالْخَطِّ ، مَحْفُوظًا
بِالْكِتَابَةِ ، مَأْخُوذًا بِالِاسْتِخْرَاجِ ، فَكَانَ الْخَطُّ حَافِظًا لَهُ
وَمُعَبِّرًا عَنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى
: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } قَالَ : يَعْنِي
الْخَطَّ .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : {
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ }
يَعْنِي الْخَطَّ { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } يَعْنِي الْخَطَّ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْخَطُّ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ ،
وَحُسْنُهُ أَحَدُ الْفَصَاحَتَيْنِ
.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى : الْخَطُّ سَمْطُ
الْحِكْمَةِ بِهِ يُفْصَلُ شُذُورُهَا ، وَيُنَظَّمُ مَنْثُورُهَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : اللِّسَانُ مَقْصُورٌ عَلَى
الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ وَالْقَلَمُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهُوَ
لِلْغَابِرِ الْكَائِنِ مِثْلُهُ لِلْقَائِمِ الدَّائِمِ .
وَقَالَ حَكِيمُ الرُّومِ : الْخَطُّ هَنْدَسَةٌ
رُوحَانِيَّةٌ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ بِآلَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ .
وَقَالَ حَكِيمُ الْعَرَبِ : الْخَطُّ أَصْلٌ فِي
الرُّوحِ وَإِنْ ظَهَرَ بِحَوَاسِّ الْجَسَدِ .
وَاخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ الْخَطَّ فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّ أَوَّلَ
مَنْ كَتَبَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ سَائِرَ الْكُتُبِ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فِي طِينٍ ثُمَّ طَبَخَهُ فَلَمَّا غَرِقَتْ الْأَرْضُ
فِي أَيَّامِ نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - بَقِيَتْ
الْكِتَابَةُ فَأَصَابَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابَهُمْ .
وَبَقِيَ الْكِتَابُ الْعَرَبِيُّ إلَى أَنْ خَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إسْمَاعِيلَ فَأَصَابَهُ وَتَعَلَّمَهَا .
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ
إدْرِيسُ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَتْ الْعَرَبُ
تُعَظِّمُ قَدْرَ الْخَطِّ وَتَعُدُّهُ مِنْ أَجَلِّ نَافِعٍ حَتَّى قَالَ
عِكْرِمَةُ : بَلَغَ فِدَاءُ أَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ حَتَّى إنَّ
الرَّجُلَ لِيُفَادَى عَلَى أَنَّهُ يُعَلِّمُ الْخَطَّ ، لِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي
نُفُوسِهِمْ مِنْ عِظَمِ خَطَرِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَظُهُورِ نَفْعِهِ
وَأَثَرِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اقْرَأْ وَرَبُّك الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ } .
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ ، وَأَعَدَّ ذَلِكَ مِنْ
نِعَمِهِ الْعِظَامِ ، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجِسَامِ ، حَتَّى أَقْسَمَ بِهِ فِي
كِتَابِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } .
فَأَقْسَمَ بِالْقَلَمِ وَمَا يُخَطُّ بِالْقَلَمِ .
وَاخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّ
أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ وَجَدَهَا بَعْدَ
الطُّوفَانِ إسْمَاعِيلُ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهَا وَوَضَعَهَا إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى لَفْظِهِ وَمَنْطِقِهِ .
وَحَكَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْأَوَائِلِ أَسْمَاؤُهُمْ أَبْجَدُ
، وَهَوَّزُ ، وَحُطِّي ، وَكَلَمُنْ ، وَسَعْفَص ، وَقَرْشَت ، وَكَانُوا مُلُوكَ
مَدْيَنَ .
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ أَوَّلَ
مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيِّ مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ
وَمِنْ الْأَنْبَارِ انْتَشَرَتْ
.
وَحَكَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ
بِهَا مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ ، وَأَسْلَمُ بْنُ سَدْرَةَ وَعَامِرُ بْنُ حَدْرَةَ .
فَمُرَامِرُ وَضَعَ الصُّوَرَ ، ، وَأَسْلَمُ فَصَّلَ
وَوَصَلَ ، وَعَامِرٌ وَضَعَ الْإِعْجَامَ .
وَلَمَّا كَانَ
الْخَطُّ بِهَذَا الْحَالِ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ الْعِلْمِ أَنْ
يَعْبَأَ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا : تَقْوِيمُ الْحُرُوفِ عَلَى أَشْكَالِهَا
الْمَوْضُوعَةِ لَهَا .
وَالثَّانِي : ضَبْطُ مَا اشْتَبَهَ مِنْهَا بِالنُّقَطِ
وَالْأَشْكَالِ الْمُمَيَّزَةِ لَهَا
.
ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ تَحْسِينِ الْخَطِّ
وَمَلَاحَةِ نَظْمِهِ فَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ حَذِقٍ بِصَنْعَتِهِ وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدَةَ : حُسْنُ الْخَطِّ
لِسَانُ الْيَدِ وَبَهْجَةُ الضَّمِيرِ
.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ : رَدَاءَةُ
الْخَطِّ زَمَانَةُ الْأَدَبِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْبَيَانُ فِي اللِّسَانِ
وَالْخَطُّ فِي الْبَنَانِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَحَدِ
شُعَرَاءِ الْبَصْرَةِ : اُعْذُرْ أَخَاك عَلَى نَذَالَةِ خَطِّهِ وَاغْفِرْ
نَذَالَتَهُ لِجَوْدَةِ ضَبْطِهِ فَإِذَا أَبَانَ عَنْ الْمَعَانِي لَمْ يَكُنْ
تَحْسِينُهُ إلَّا زِيَادَةَ شَرْطِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْخَطَّ لَيْسَ يُرَادُ
مِنْ تَرْكِيبِهِ إلَّا تَبَيُّنُ سِمْطِهِ وَمَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْخَطِّ الْمَفْهُومِ
مِنْ تَصْحِيحِ الْحُرُوفِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ مَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى
الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ وَصِحَّةِ الْإِعْرَابِ .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْعَرَبُ : حُسْنُ الْخَطِّ أَحَدُ
الْفَصَاحَتَيْنِ .
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ
فِي الْكَلَامِ أَنْ يَطْرَحَ الْفَصَاحَةَ وَالْإِعْرَابَ وَإِنْ فَهِمَ ،
وَأَفْهَمَ .
كَذَلِكَ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ فِي
الْخَطِّ أَنْ يَطْرَحَ تَصْحِيحَ الْحُرُوفِ وَتَحْسِينَ الصُّورَةِ ، وَإِنْ
فَهِمَ ، وَأَفْهَمَ .
وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ بِالْخَطِّ مَنْ كَانَ الْخَطُّ مِنْ
جُلِّ فَضَائِلِهِ ، وَأَشْرَفِ خَصَائِلِهِ ، حَتَّى صَارَ عَالِمًا مَشْهُورًا ،
وَسَيِّدًا مَذْكُورًا .
غَيْرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَطْرَحُوا صَرْفَ الْهِمَّةِ
إلَى تَحْسِينِ الْخَطِّ ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الْعِلْمِ وَيَقْطَعُهُمْ
عَنْ التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ .
وَلِذَلِكَ تَجِدُ خُطُوطَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَغْلَبِ
رَدِيئَةً لَا يَخُطُّ إلَّا مَنْ أَسْعَدَهُ
الْقَضَاءُ .
وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : مِنْ سَعَادَةِ
الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ رَدِيءَ الْخَطِّ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُفْنِيهِ
بِالْكِتَابَةِ يَشْغَلُهُ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ .
وَلَيْسَتْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ هِيَ السَّعَادَةَ ،
وَإِنَّمَا السَّعَادَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صَارِفٌ عَنْ الْعِلْمِ .
وَعَادَةُ ذِي الْخَطِّ الْحَسَنِ أَنْ يَتَشَاغَلَ
بِتَحْسِينِ خَطِّهِ عَنْ الْعِلْمِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ بِرَدَاءَةِ
خَطِّهِ سَعِيدًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ سَعَادَةً .
وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْرِضُ لِلْخَطِّ أَسْبَابٌ تَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهِ
وَمَعْرِفَتِهِ كَمَا يَعْرِضُ لِلْكَلَامِ أَسْبَابٌ تَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ
وَصِحَّتِهِ .
وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْخَطِّ
وَفَهْمِ مَا تَضَمَّنَهُ قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا :
إسْقَاطُهُ أَلْفَاظٍ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يَصِيرُ الْبَاقِي بِهَا
مَبْتُورًا لَا يُعْرَفُ اسْتِخْرَاجُهُ ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ .
وَهَذَا يَكُونُ إمَّا مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ أَوْ مِنْ
فَسَادِ نَقْلِهِ .
وَهَذَا يَسْهُلُ اسْتِنْبَاطُهُ عَلَى مَنْ كَانَ
مُرْتَاضًا بِذَلِكَ النَّوْعِ فَيَسْتَدِلُّ بِحَوَاشِي الْكَلَامِ وَمَا سَلِمَ
مِنْهُ عَلَى مَا سَقَطَ أَوْ فَسَدَ ، لَا سِيَّمَا إذَا قَلَّ ؛ لِأَنَّ
الْكَلِمَةَ تَسْتَدْعِي مَا يَلِيهَا وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى تُوَضِّحُ عَنْ الْكَلَامِ
الْمُتَرْجِمِ عَنْهُ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ قَلِيلَ الِارْتِيَاضِ بِذَلِكَ
النَّوْعِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ اسْتِنْبَاطُ الْمَعْنَى مِنْهُ ، لَا
سِيَّمَا إذَا كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي إلَى
الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ فِيمَا قَدْ اسْتَخْرَجَهُ بِالْكِتَابَةِ .
فَإِذَا هُوَ لَمْ يَعْرِفْ تَمَامَ الْكَلَامِ
الْمُتَرْجِمِ عَنْ الْمَعْنَى قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ إدْرَاكِهِ وَضَلَّ فِكْرُهُ
عَنْ اسْتِنْبَاطِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ فِي
أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يَشْكُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ غَيْرِ الزَّائِدِ
مِنْ مَعْرِفَةِ السَّقِيمِ الزَّائِدِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مُشْكَلًا .
وَهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ كَثِيرًا إلَّا أَنْ
يَقْصِدَ الْكَاتِبُ تَعْمِيَةَ كَلَامِهِ فَيُدْخِلُ فِي أَثْنَائِهِ مَا
يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ رَمْزًا يُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ .
فَأَمَّا وُقُوعُهُ سَهْوًا فَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلِمَةِ
وَالْكَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ عَلَى الْمُرْتَاضِ
وَغَيْرِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إسْقَاطُ حُرُوفٍ مِنْ
أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِخْرَاجِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَقَدْ
يَكُونُ هَذَا تَارَةً مِنْ السَّهْوِ فَيَقِلُّ ، وَتَارَةً مِنْ ضَعْفِ
الْهِجَاءِ
فَيَكْثُرُ .
وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : زِيَادَةُ حُرُوفٍ فِي
أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ يَشْكُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْ حُرُوفِهَا .
وَهَذَا يَكُونُ تَارَةً مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ
فَيَقِلُّ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِخْرَاجِ الصَّحِيحِ ، وَيَكُونُ تَارَةً
لِتَعْمِيَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ يَقْصِدُ بِهَا الْكَاتِبُ إخْفَاءَ غَرَضِهِ
فَيَكْثُرُ كَالتَّرَاجِمِ .
وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي .
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : وَصْلُ الْحُرُوفِ
الْمَفْصُولَةِ وَفَصْلُ الْحُرُوفِ الْمَوْصُولَةِ ، فَيَدْعُو ذَلِكَ إلَى
الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ يُنَبِّهُ عَلَيْهَا وَصْلُ حُرُوفِهَا
وَيَمْنَعُ فَصْلُهَا مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ سَهْوٍ قَلَّ فَسَهُلَ
اسْتِخْرَاجُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَةٍ بِالْخَطِّ أَوْ
مَشْقًا تَشْبَقُ بِهِ الْيَدُ كَثِيرًا فَصَعُبَ اسْتِخْرَاجُهُ إلَّا عَلَى
الْمُرْتَاضِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : شَرُّ الْكِتَابَةِ الشَّبَقُ كَمَا أَنَّ شَرَّ الْقِرَاءَةِ
الْهَذْرَمَةُ .
وَإِنْ كَانَ لِلتَّعْمِيَةِ وَالرَّمْزِ لَمْ يُعْرَفْ
إلَّا بِالْمُوَاضَعَةِ .
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ : تَغْيِيرُ الْحُرُوفِ عَنْ
أَشْكَالِهَا وَإِبْدَالِهَا بِأَغْيَارِهَا حَتَّى يَكْتُبَ الْحَاءَ عَلَى
شَكْلِ الْبَاءِ ، وَالصَّادَ عَلَى شَكْلِ الرَّاءِ .
وَهَذَا يَكُونُ فِي رُمُوزِ التَّرَاجِمِ وَلَا يُوقَفُ
عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُوَاضَعَةِ إلَّا لِمَنْ قَدْ زَادَ فِيهِ الذَّكَاءُ
فَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى .
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ : ضَعْفُ الْخَطِّ عَنْ
تَقْوِيمِ الْحُرُوفِ عَلَى الْأَشْكَالِ الصَّحِيحَةِ وَإِثْبَاتِهَا عَلَى
الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ حَتَّى لَا تَكَادَ الْحُرُوفُ تَمْتَازُ عَنْ أَغْيَارِهَا
حَتَّى تَصِيرَ الْعَيْنُ الْمَوْصُولَةُ كَالْفَاءِ وَالْمَفْصُولَةُ كَالْحَاءِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ رَدَاءَةِ الْخَطِّ وَضَعْفِ
الْيَدِ ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مُمْكِنٌ بِفَضْلِ الْمُعَانَاةِ وَشِدَّةِ
التَّأَمُّلِ ، وَرُبَّمَا أَضْجَرَ قَارِئَهُ ، وَأَوْهَى مَعَانِيَهُ ،
وَلِذَلِكَ
قِيلَ :
إنَّ الْخَطَّ الْحَسَنَ لَيَزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحًا .
وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ : إغْفَالُ النُّقَطِ
وَالْأَشْكَالِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمُشْتَبِهَةُ .
وَهَذَا أَيْسَرُ أَمْرًا ، وَأَخَفُّ حَالًا ؛ لِأَنَّ
مَنْ كَانَ مُمَيَّزًا بِصِحَّةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَمَعْرِفَةِ الْخَطِّ لَمْ
تَخْفَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْخَطِّ وَفَهْمُ مَا تَضَمَّنَهُ مَعَ إغْفَالِ
النُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ ، بَلْ اسْتَقْبَحَ الْكُتَّابُ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَاتِ
وَرَأَوْهُ مِنْ تَقْصِيرِ الْكَاتِبِ أَوْ سُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ الْمُكَاتَبِ ،
وَإِنْ كَانَ اسْتِقْبَاحُهُمْ لَهُ فِي مُكَاتَبَةِ الرُّؤَسَاءِ أَكْثَرَ .
حَكَى قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ بَعْضَ كُتَّابِ
الدَّوَاوِينِ حَاسَبَ عَامِلًا فَشَكَا الْعَامِلُ مِنْهُ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ سُلَيْمَانَ وَكَتَبَ رُقْعَةً يَذْكُرُ فِيهَا احْتِجَاجًا لِصِحَّةِ
دَعْوَاهُ ، وَوُضُوحِ شَكْوَاهُ
.
فَوَقَعَ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ
هَذَا ، هَذَا ، فَأَخَذَهَا الْعَامِلُ وَقَرَأَهَا فَظَنَّ أَنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ أَرَادَ بِهَذَا هَذَا إثْبَاتًا لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصِدْقِ قَوْلِهِ ،
كَمَا يُقَالُ فِي إثْبَاتِ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ ، فَحَمَلَ الرُّقْعَةَ إلَى
كَاتِبِ الدِّيوَانِ ، وَأَرَاهُ خَطَّ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ : إنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ قَدْ صَدَّقَ قَوْلِي ، وَصَحَّحَ مَا ذَكَرْتُ .
فَخَفِيَ عَلَى الْكَاتِبِ ذَلِكَ ، وَأُطِيفَ بِهِ
عَلَى كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ فَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مُرَادِ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَرُدَّ إلَيْهِ لِيُسْأَلَ عَنْ مُرَادِهِ بِهِ
فَشَدَّدَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ وَكَتَبَ تَحْتَهَا وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ اسْتِعْظَامًا مِنْهُ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ مُرَادِهِ
حَتَّى احْتَاجَ إلَى إبَانَتِهِ بِالشَّكْلِ .
فَهَذِهِ حَالُ الْكُتَّابِ فِي اسْتِقْبَاحِهِمْ
إعْجَامِ الْمُكَاتَبَاتِ بِالنُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ .
فَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَاتَبَاتِ مِنْ سَائِرِ
الْعُلُومِ فَلَمْ يَرَوْهُ قَبِيحًا بَلْ اسْتَحْسَنُوهُ لَا سِيَّمَا فِي كُتُبِ
الْأَدَبِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا مَعْرِفَةُ صِيغَةِ الْأَلْفَاظِ وَكَيْفِيَّةِ
مَخَارِجِهَا مِثْلِ كُتُبِ
النَّحْوِ
وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ الْغَرِيبِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى ضَبْطِهَا
بِالشَّكْلِ وَالْإِعْجَامِ أَكْثَرُ ، وَهِيَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْعُلُومِ
أَيْسَرُ .
وَقَدْ قَالَ النُّورِيُّ : الْخُطُوطُ الْمُعْجَمَةُ
كَالْبُرُودِ الْمُعَلَّمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إعْجَامُ الْخَطِّ يَمْنَعُ
مِنْ اسْتِعْجَامِهِ ، وَشَكْلُهُ يُؤَمِّنُ مِنْ إشْكَالِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : رُبَّ عِلْمٍ لَمْ
تُعْجَمْ فُصُولُهُ فَاسْتُعْجِمَ مَحْصُولُهُ .
وَكَمَا اسْتَقْبَحَ الْكُتَّابُ الشَّكْلَ
وَالْإِعْجَامَ فِي الْمُكَاتَبَاتِ ، وَإِنْ كَانَ فِي كُتُبِ الْعُلُومِ
مُسْتَحْسَنًا ، فَكَذَلِكَ اسْتَحْسَنُوا مَشْقَ الْخَطِّ فِي الْمُكَاتَبَاتِ
وَإِنْ كَانَ فِي كُتُبِ الْعُلُومِ مُسْتَقْبَحًا .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ إدْلَالِهِمْ فِي
الصَّنْعَةِ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ
وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى التَّلْوِيحِ ، وَيَرَوْنَ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِيفَاءِ
شُرُوطِ الْإِبَانَةِ تَقْصِيرًا وَلِفَصْلِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ
التَّقَدُّمِ بِهَذَا الْحَالِ رَأَوْا مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ سَوَادِ
الْمِدَادِ أَثَرًا جَمِيلًا ، وَعَلَى الْفَضْلِ وَالتَّخْصِيصِ دَلِيلًا .
حُكِيَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ رَأَى
عَلَى بَعْضِ ثِيَابِهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَأَخَذَ مِنْ مِدَادِ الدَّوَاةِ
فَطَلَاهُ بِهِ ثُمَّ قَالَ : الْمِدَادُ بِنَا أَحْسَنُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ ، وَأَنْشَدَ :
إنَّمَا الزَّعْفَرَانُ عِطْرُ الْعَذَارَى وَمِدَادُ الدُّوِيِّ عِطْرُ الرِّجَالِ
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْإِبَانَةِ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ
مِنْ فَهْمِ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ لَفْظًا كَانَ أَوْ خَطًّا ،
وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ
.
فَيَنْبَغِي
لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ عَنْ فَهْمِ
الْمَعْنَى لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ سَائِسًا لِنَفْسِهِ مُدَبِّرًا لَهَا فِي حَالِ تَعَلُّمِهِ .
فَإِنَّ لِلنَّفْسِ نُفُورًا يُفْضِي إلَى تَقْصِيرٍ
وَوُفُورًا يَئُولُ إلَى سَرَفٍ وَقِيَادُهَا عَسِرٌ وَلَهَا أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ :
فَحَالُ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ ، وَحَالُ غُلُوٍّ وَإِسْرَافٍ ، وَحَالُ تَقْصِيرٍ
وَإِجْحَافٍ .
فَأَمَّا حَالُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَهِيَ أَنْ
تَخْتَلِفَ قُوَى النَّفْسِ مِنْ جِهَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ : طَاعَةٌ
مُسْعِدَةٌ وَشَفَقَةٌ كَافَّةٌ
.
فَطَاعَتُهَا تَمْنَعُ التَّقْصِيرَ ، وَشَفَقَتُهَا
تَرُدُّ عَنْ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ
.
وَهَذِهِ أَحْمَدُ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ
مِنْ التَّقْصِيرِ نَمَا ، وَمَا صُدَّ عَنْ السَّرَفِ مُسْتَدِيمٌ .
وَالنُّمُوُّ إذَا اسْتَدَامَ فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ
يُسْتَكْمَلَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكَ وَمُفَارَقَةَ
الِاعْتِدَالِ ، فَإِنَّ الْمُسْرِفَ مِثْلُ الْمُقَصِّرِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ
الْحَدِّ .
وَأَمَّا حَالُ الْغُلُوِّ وَالْإِسْرَافِ فَهِيَ أَنْ
تَخْتَصَّ النَّفْسُ بِقُوَى الطَّاعَةِ وَتُقَدِّمَ قَوَّى الشَّفَقَةِ
فَيَبْعَثَهَا اخْتِصَاصُ الطَّاعَةِ عَلَى إفْرَاغِ الْجُهْدِ ، وَيُفْضِي
إفْرَاغُ الْجُهْدِ إلَى عَجْزِ الْكَلَالِ ، فَيُؤَدِّي عَجْزُ الْكَلَالِ إلَى
التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ نُقْصَانًا ، وَالرِّبْحُ خُسْرَانًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : طَالِبُ الْعِلْمِ وَعَامِلُ
الْبِرِّ كَآكِلِ الطَّعَامِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ قُوتًا عَصَمَهُ ، وَإِنْ أَسْرَفَ
فِيهِ أَبْشَمَهُ .
وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ مَنِيَّتُهُ كَأَخْذِ
الْأَدْوِيَةِ الَّتِي فِيهَا شِفَاءٌ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ فِيهَا السُّمُّ
الْمُمِيتُ ، وَأَمَّا حَالُ التَّقْصِيرِ وَالْإِجْحَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَصَّ
النَّفْسُ بِقُوَى الشَّفَقَةِ وَتَعْدَمَ قُوَى الطَّاعَةِ فَيَدْعُوهَا
الْإِشْفَاقُ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَتَمْنَعُهَا الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْإِجَابَةِ
فَلَا تَطْلُبُ شَارِدًا ، وَلَا تَقْبَلُ عَائِدًا ، وَلَا تَحْفَظُ مُسْتَوْدَعًا .
وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ
الشَّارِدَ
، وَيَقْبَلْ الْعَائِدَ ، وَيَحْفَظْ الْمُسْتَوْدَعَ فَقَدَ الْمَوْجُودَ ،
وَلَمْ يَجِدْ الْمَفْقُودَ .
وَمَنْ فَقَدَ مَا وَجَدَ فَهُوَ مُصَابٌ مَحْزُونٌ ،
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا فَقَدَ فَهُوَ خَائِبٌ مَغْبُونٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَجْزُ مَعَ
الْوَانِي ، وَالْفَوْتُ مَعَ التَّوَانِي .
وَقَدْ يَكُونُ لِلنَّفْسِ مَعَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ
حَالَتَانِ مُشْتَرَكَتَانِ بِغَلَبَةِ إحْدَى الْقُوَّتَيْنِ ، فَيَكُونُ
لِلنَّفْسِ طَاعَةٌ وَإِشْفَاقٌ ، وَأَحَدُهُمَا أَغْلَبُ مِنْ الْآخَرِ .
فَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَةُ أَغْلَبَ كَانَتْ إلَى
الْوُفُورِ أَمْيَلَ ، وَإِنْ كَانَ الْإِشْفَاقُ أَغْلَبَ كَانَتْ إلَى
التَّقْصِيرِ أَقْرَبَ .
فَإِذَا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ قَدْرَ طَاعَتِهَا ،
وَخَبَرَ مِنْهَا كُنْهَ إشْفَاقِهَا رَاضَ نَفْسَهُ لِتَثْبُتَ عَلَى أَحَدِ
حَالَاتِهَا .
وَقَدْ أَشَارَ إلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ النَّفْسِ
الْفَرَزْدَقُ فِي قَوْلِهِ : لِكُلِّ امْرِئٍ نَفْسَانِ نَفْسٌ كَرِيمَةٌ
وَأُخْرَى يُعَاصِيهَا الْفَتَى وَيُطِيعُهَا وَنَفْسُك مِنْ نَفْسَيْك تَشْفَعُ لِلنَّدَى
إذَا قَلَّ مِنْ إحْرَازِهِنَّ شَفِيعُهَا وَإِنْ أَهْمَلَ سِيَاسَتَهَا ،
فَأَغْفَلَ رِيَاضَتَهَا ، وَرَامَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْعُنْفِ ، وَيَقْهَرَهَا
بِالْعَسْفِ ، اسْتَشَاطَتْ نَافِرَةً وَلَحَّتْ مُعَانِدَةً فَلَمْ تَنْقَدْ إلَى
طَاعَةٍ وَلَمْ تَنْكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَقَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ : إذَا
زَجَرْت لَجُوجًا زِدْته عَلَقًا وَلَجَّتْ النَّفْسُ مِنْهُ فِي تَمَادِيهَا
فَعُدْ عَلَيْهِ إذَا مَا نَفْسُهُ جَنَحَتْ بِاللِّينِ مِنْك فَإِنَّ اللِّينَ يُثْنِيهَا
فَإِذَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ قِيَادُ نَفْسِهِ وَدَامَ مِنْهُ نُفُورُ قَلْبِهِ
مَعَ سِيَاسَتِهَا ، وَمُعَانَاةِ رِيَاضَتِهَا ، تَرَكَهَا تَرْكَ رَاحَةٍ ،
ثُمَّ عَاوَدَهَا بَعْدَ الِاسْتِرَاحَةِ ، فَإِنَّ إجَابَتَهَا تُسْرِعُ ،
وَطَاعَتُهَا تَرْجِعُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْقَلْبَ يَمُوتُ وَيَحْيَى وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لِلْقُلُوبِ شَهْوَةٌ
وَإِقْبَالٌ وَفَتْرَةٌ وَإِدْبَارٌ فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَلَا
تَأْتُوهَا
مِنْ قِبَلِ فَتْرَتِهَا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إلَّا
لِأُنْسِهِ وَلَا الْقَلْبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فَأَمَّا الشُّرُوطُ
الَّتِي يَتَوَفَّرُ بِهَا عِلْمُ الطَّالِبِ وَيَنْتَهِي مَعَهَا كَمَالُ الرَّاغِبِ
مَعَ مَا يُلَاحَظُ بِهِ مِنْ التَّوْفِيقِ وَيَمُدُّ بِهِ مِنْ الْمَعُونَةِ
فَتِسْعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الْعَقْلُ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ حَقَائِقَ
الْأُمُورِ .
وَالثَّانِي : الْفِطْنَةُ الَّتِي يَتَصَوَّرُ بِهَا
غَوَامِضَ الْعُلُومِ .
وَالثَّالِثُ : الذَّكَاءُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِهِ
حِفْظُ مَا تَصَوَّرَهُ وَفَهْمُ مَا عَلِمَهُ .
وَالرَّابِعُ : الشَّهْوَةُ الَّتِي يَدُومُ بِهَا
الطَّلَبُ وَلَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْمَلَلُ .
وَالْخَامِسُ : الِاكْتِفَاءُ بِمَادَّةٍ تُغْنِيهِ عَنْ
كَلَفِ الطَّلَبِ .
وَالسَّادِسُ : الْفَرَاغُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ
التَّوَفُّرُ وَيَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِكْثَارُ .
وَالسَّابِعُ : عَدَمُ الْقَوَاطِعِ الْمُذْهِلَةِ مِنْ
هُمُومٍ ، وَأَمْرَاضٍ .
وَالثَّامِنُ : طُولُ الْعُمُرِ وَاتِّسَاعُ الْمُدَّةِ
؛ لِيَنْتَهِيَ بِالِاسْتِكْثَارِ إلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ .
وَالتَّاسِعُ : الظَّفَرُ بِعَالِمٍ سَمْحٍ بِعِلْمِهِ
مُتَأَنٍّ فِي تَعْلِيمِهِ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ التِّسْعَةَ
فَهُوَ أَسْعَدُ طَالِبٍ ، وَأَنْجَحُ مُتَعَلِّمٍ .
وَقَدْ قَالَ الْإِسْكَنْدَرُ : يَحْتَاجُ طَالِبُ
الْعِلْمِ إلَى أَرْبَعٍ : مُدَّةٌ وَجِدَّةٌ وَقَرِيحَةٌ وَشَهْوَةٌ .
وَتَمَامُهَا فِي الْخَامِسَةِ مُعَلِّمٌ نَاصِحٌ .
أَدَبُ
الْمُتَعَلِّمِ فَصْلٌ : وَسَأَذْكُرُ طَرَفًا مِمَّا يَتَأَدَّبُ بِهِ
الْمُتَعَلِّمُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالِمُ .
اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُتَعَلِّمِ تَمَلُّقًا وَتَذَلُّلًا
فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُمَا غَنِمَ ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا حُرِمَ ؛ لِأَنَّ
التَّمَلُّقَ لِلْعَالِمِ يُظْهِرُ مَكْنُونَ عَمَلِهِ ، وَالتَّذَلُّلَ لَهُ
سَبَبٌ لِإِدَامَةِ صَبْرِهِ .
وَبِإِظْهَارِ مَكْنُونِهِ تَكُونُ الْفَائِدَةُ
وَبِاسْتِدَامَةِ صَبْرِهِ يَكُونُ الْإِكْثَارُ .
وَقَدْ رَوَى مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ
الْمَلَقُ إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
} .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : ذَلَلْت طَالِبًا فَعَزَزْت مَطْلُوبًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ
ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا .
وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ ؛ إذَا قَعَدْت ،
وَأَنْتَ صَغِيرٌ حَيْثُ تُحِبُّ قَعَدْت ، وَأَنْتَ كَبِيرٌ حَيْثُ لَا تُحِبُّ .
ثُمَّ لِيَعْرِفَ لَهُ فَضْلَ عِلْمِهِ وَلِيَشْكُرَ
لَهُ جَمِيلَ فِعْلِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَّرَ
عَالِمًا فَقَدْ وَقَّرَ رَبَّهُ
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَا يَعْرِفُ فَضْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْفَضْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْمُعَلِّمَ
وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا فَاصْبِرْ
لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا وَلَا
يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ
خَامِلًا ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِعِلْمِهِمْ قَدْ اسْتَحَقُّوا التَّعْظِيمَ لَا
بِالْقُدْرَةِ وَالْمَالِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرِ
بْنِ دُرَيْدٍ : لَا تَحْقِرَنَّ عَالِمًا وَإِنْ خَلِقَتْ أَثْوَابُهُ فِي
عُيُونِ رَامِقِهِ وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ ذِي أَدَبٍ مُهَذَّبِ الرَّأْيِ فِي
طَرَائِقِهِ فَالْمِسْكُ بَيِّنًا تَرَاهُ مُمْتَهَنًا بِفِهْرِ عَطَّارِهِ
وَسَاحِقِهِ
حَتَّى تَرَاهُ فِي عَارِضَيْ مَلِكٍ وَمَوْضِعُ التَّاجِ مِنْ مَفَارِقِهِ
وَلْيَكُنْ مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي أَخْلَاقِهِمْ ، مُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي
جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ ؛ لِيَصِيرَ لَهَا آلِفًا ، وَعَلَيْهَا نَاشِئًا ، وَلِمَا
خَالَفَهَا مُجَانِبًا .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { خِيَارُ شُبَّانِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُيُوخِكُمْ وَشِرَارُ
شُيُوخِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُبَّانِكُمْ } .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ
فَهُوَ مِنْهُمْ } .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرِ
بْنِ دُرَيْدٍ : الْعَالِمُ الْعَاقِلُ ابْنُ نَفْسِهِ أَغْنَاهُ جِنْسُ عِلْمِهِ
عَنْ جِنْسِهِ كُنْ ابْنَ مَنْ شِئْت وَكُنْ مُؤَدَّبًا فَإِنَّمَا الْمَرْءُ
بِفَضْلِ كَيْسِهِ وَلَيْسَ مَنْ تُكْرِمُهُ لِغَيْرِهِ مِثْلَ الَّذِي تُكْرِمُهُ
لِنَفْسِهِ وَلْيَحْذَرْ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ
آنَسَهُ ، وَالْإِدْلَالَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ .
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَذَلُّ النَّاسِ ؟
فَقَالَ : عَالِمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ جَاهِلٍ .
{ وَكَلَّمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَارِيَةٌ مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ :
بِنْتُ الرَّجُلِ الْجَوَادِ حَاتِمٍ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْحَمُوا
عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، ارْحَمُوا غَنِيًّا افْتَقَرَ ، ارْحَمُوا عَالِمًا ضَاعَ
بَيْنَ الْجُهَّالِ } .
وَلَا يُظْهِرُ لَهُ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهُ
وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ ،
وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ .
وَرُبَّمَا وَجَدَ بَعْضُ الْمُتَعَلِّمِينَ قُوَّةً فِي
نَفْسِهِ لِجَوْدَةِ ذَكَائِهِ وَحِدَةِ خَاطِرِهِ ، فَقَصَدَ مَنْ يُعَلِّمُهُ
بِالْإِعْنَاتِ لَهُ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ إزْرَاءً بِهِ وَتَبْكِيتًا لَهُ ، فَيَكُونُ
كَمَنْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْمَثَلُ السَّائِرُ لِأَبِي الْبَطْحَاءِ : أُعَلِّمُهُ
الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي وَهَذِهِ مِنْ
مَصَائِبِ الْعُلَمَاءِ
وَانْعِكَاسِ
حُظُوظِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا عِنْدَ مَنْ يُعَلِّمُوهُ مُسْتَجْهَلِينَ ، وَعِنْدَ
مَنْ قَدَّمُوهُ مُسْتَرْذَلِينَ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَإِنَّ
عَنَاءً أَنْ تُعَلِّمَ جَاهِلًا فَيَحْسَبُ أَهْلًا أَنَّهُ مِنْك أَعْلَمُ مَتَى
يَبْلُغُ الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ إذَا كُنْت تَبْنِيهِ وَغَيْرُك يَهْدِمُ
مَتَى يَنْتَهِي عَنْ سَيِّئٍ مَنْ أَتَى بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ
تَنَدُّمُ وَقَدْ رَجَّحَ كَثِيرُ مِنْ الْحُكَمَاءِ حَقَّ الْعَالِمِ عَلَى حَقِّ
الْوَالِدِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : يَا فَاخِرًا لِلسَّفَاهِ بِالسَّلَفِ
وَتَارِكًا لِلْعَلَاءِ وَالشَّرَفِ آبَاءُ أَجْسَادِنَا هُمْ سَبَبٌ لَأَنْ
جُعِلْنَا عَرَائِضَ التَّلَفِ مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ذَاكَ
أَبُو الرُّوحِ لَا أَبُو النُّطَفِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَبْعَثَهُ
مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَهُ عَلَى قَبُولِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ ، وَلَا يَدْعُوهُ
تَرْكُ الْإِعْنَاتِ لَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا
غَلَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فِي عَالِمِهِمْ حَتَّى يَرَوْا أَنَّ قَوْلَهُ دَلِيلٌ
، وَإِنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ ، وَأَنَّ اعْتِقَادَهُ حُجَّةٌ ، وَإِنْ لَمْ
يَحْتَجَّ ، فَيُفْضِي بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا أَخَذَ
مِنْهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَبْطُلَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إنْ انْفَرَدَتْ أَوْ
يَخْرُجَ أَهْلُهَا مِنْ عِدَادِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا شَارَكَتْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
لَا يَرَى لَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ لِمَنْ أَخَذُوا
عَنْهُ فَيُطَالِبُهُمْ بِمَا قَصَّرُوا فِيهِ فَيَضْعُفُوا عَنْ إبَانَتِهِ ، وَيَعْجِزُوا
عَنْ نُصْرَتِهِ ، فَيَذْهَبُوا ضَائِعِينَ وَيَصِيرُوا عَجَزَةً مَضْعُوفِينَ .
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رَجُلًا
يُنَاظِرُ فِي مَجْلِسِ حَفْلٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْخَصْمُ بِدَلَالَةٍ
صَحِيحَةٍ فَكَانَ جَوَابُهُ عَنْهَا أَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فَاسِدَةٌ ،
وَجْهُ فَسَادِهَا أَنَّ شَيْخِي لَمْ يَذْكُرْهَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ
الشَّيْخُ لَا خَيْرَ فِيهِ .
فَأَمْسَكَ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ تَعَجُّبًا ؛
وَلِأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ مُحْتَشِمًا
.
وَقَدْ
حَضَرَتْ طَائِفَةٌ
يَرَوْنَ فِيهِ مِثْلَ مَا رَأَى هَذَا الْجَاهِلُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ
الْمُسْتَدِلُّ عَلَيَّ وَقَالَ لِي : وَاَللَّهِ لَقَدْ أَفْحَمَنِي بِجَهْلِهِ
وَصَارَ سَائِرُ النَّاسِ الْمُبَرَّئِينَ مِنْ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مَا بَيْنَ
مُسْتَهْزِئٍ وَمُتَعَجِّبٍ ، وَمُسْتَعِيذٍ بِاَللَّهِ مِنْ جَهْلٍ مُغْرِبٍ .
فَهَلْ رَأَيْت كَذَلِكَ عَالِمًا أَوْغَلَ فِي
الْجَهْلِ ، وَأَدَلَّ عَلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ .
وَإِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مُعْتَدِلَ الرَّأْيِ
فِيمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ ، مُتَوَسِّطَ الِاعْتِقَادِ مِمَّنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ
، حَتَّى لَا يَحْمِلَهُ الْإِعْنَاتُ عَلَى اعْتِرَاضِ الْمُبَكِّتِينَ ، وَلَا يَبْعَثُهُ
الْغُلُوُّ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُقَلَّدِينَ ، بَرِئَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ
الْمَذَمَّتَيْنِ ، وَسَلِمَ الْعَالِمُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ .
وَلَيْسَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ فِيمَا الْتَبَسَ
إعْنَاتًا ، وَلَا قَبُولُ مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ فَاسْأَلُوا - رَحِمَكُمْ
اللَّهُ - فَإِنَّمَا يُؤْجَرُ فِي الْعِلْمِ ثَلَاثَةٌ : الْقَائِلُ وَالْمُسْتَمِعُ
وَالْآخِذُ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { هَلَّا
سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } .
فَأَمَرَ بِالسُّؤَالِ وَحَثَّ عَلَيْهِ ، وَنَهَى
آخَرِينَ عَنْ السُّؤَالِ وَزَجَرَ عَنْهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ
وَإِضَاعَةِ الْمَالِ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إيَّاكُمْ
وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ } .
وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَمَرَ
بِالسُّؤَالِ مَنْ قَصَدَ بِهِ عِلْمَ مَا جَهِلَ ، وَنَهَى عَنْهُ مَنْ قَصَدَ
بِهِ إعْنَاتَ مَا سَمِعَ ، وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَوْضِعِهِ أَزَالَ
الشُّكُوكَ وَنَفَى الشُّبْهَةَ
.
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ : بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عُقُولٍ .
وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ } .
وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ
الْغَنَوِيِّ : فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا مِثْلَهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ
بِغَيْرِ تَدَبُّرِ وَإِذَا تَعَسَّرَتْ الْأُمُورُ فَأَرْجِهَا وَعَلَيْك
بِالْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَعْسِرِ وَلْيَأْخُذْ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ وَجَدَ
طُلْبَتَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَبِيهٍ وَخَامِلٍ ، وَلَا يَطْلُبُ الصِّيتَ وَحُسْنَ
الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْمَنَازِلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ
النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ ، إلَّا أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ
الْأَخْذُ عَمَّنْ اُشْتُهِرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ
الِانْتِسَابَ إلَيْهِ أَجْمَلُ وَالْأَخْذَ عَنْهُ أَشْهَرُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا أَنْتَ لَمْ يُشْهِرْك
عِلْمُك لَمْ تَجِدْ لِعِلْمِك مَخْلُوقًا مِنْ النَّاسِ يَقْبَلُهْ وَإِنْ صَانَك
الْعِلْمُ الَّذِي قَدْ حَمَلْته أَتَاك لَهُ مَنْ يَجْتَنِيهِ وَيَحْمِلُهْ
وَإِذَا قَرُبَ مِنْك الْعِلْمُ فَلَا تَطْلُبُ مَا بَعُدَ ، وَإِذَا سَهُلَ مِنْ
وَجْهٍ فَلَا تَطْلُبُ مَا صَعُبَ
.
وَإِذَا حَمِدْتَ مَنْ خَبَّرْتَهُ فَلَا تَطْلُبُ مَنْ
لَمْ تَخْتَبِرْهُ ، فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْقَرِيبِ إلَى الْبَعِيدِ عَنَاءٌ
، وَتَرْكَ الْأَسْهَلِ بِالْأَصْعَبِ بَلَاءٌ ، وَالِانْتِقَالَ مِنْ
الْمَخْبُورِ إلَى غَيْرِهِ خَطَرٌ
.
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : عُقْبَى الْأَخْرَقِ مَضَرَّةٌ ، وَالْمُتَعَسِّفُ لَا تَدُومُ لَهُ
مَسَرَّةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْقَصْدُ أَسْهَلُ مِنْ
التَّعَسُّفِ ، وَالْكَفُّ أَوْدَعُ مِنْ التَّكَلُّفِ .
وَرُبَّمَا تَتْبَعُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مَنْ بَعُدَ
عَنْهُ اسْتِهَانَةً بِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ ، وَطَلَبَ مَا صَعُبَ احْتِقَارًا
لِمَا سَهُلَ عَلَيْهِ ، وَانْتَقَلَ إلَى مَنْ لَمْ يُخْبِرْهُ مَلَلًا لِمَنْ
خَبَرَهُ ، فَلَا يُدْرِكْ مَحْبُوبًا وَلَا يَظْفَرْ بِطَائِلٍ .
وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا : الْعَالِمُ
كَالْكَعْبَةِ يَأْتِيهَا الْبُعَدَاءُ ، وَيَزْهَدُ فِيهَا الْقُرَبَاءُ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا لِمَسِيحِ بْنِ حَاتِمٍ : لَا تَرَى عَالِمًا يَحِلُّ بِقَوْمٍ فَيُحِلُّوهُ غَيْرَ دَارِ الْهَوَانِ قَلَّ مَا تُوجَدُ السَّلَامَةُ وَالصِّحَّةُ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي إنْسَانِ فَإِذَا حَلَّتَا مَكَانًا سَحِيقًا فَهُمَا فِي النُّفُوسِ مَعْشُوقَتَانِ هَذِهِ مَكَّةُ الْمَنِيعَةُ بَيْتُ اللَّهِ يَسْعَى لِحَجِّهَا الثَّقَلَانِ وَيُرَى أَزْهَدُ الْبَرِيَّةِ فِي الْحَجِّ لَهَا أَهْلَهَا لِقُرْبِ الْمَكَانِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهِمْ أَلْيَقُ ، وَلَهُمْ
أَلْزَمُ ، فَالتَّوَاضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ ؛ لِأَنَّ التَّوَاضُعَ
عَطُوفٌ وَالْعُجْبَ مُنَفِّرٌ
.
وَهُوَ بِكُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ وَبِالْعُلَمَاءِ
أَقْبَحُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ وَكَثِيرًا مَا يُدَاخِلُهُمْ
الْإِعْجَابُ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ .
وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ وَعَمِلُوا بِمُوجِبِ
الْعِلْمِ لَكَانَ التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى ، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ
أَحْرَى ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ نَقْصٌ يُنَافِي الْفَضْلَ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْعُجْبَ لَيَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
فَلَا يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ
بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
قَلِيلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ .
وَكَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا إذَا عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا إذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ
وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ تُعَلِّمُونَهُ ،
وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ تَكَبَّرَ بِعِلْمِهِ وَتَرَفَّعَ
وَضَعَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ تَوَاضَعَ بِعِلْمِهِ رَفَعَهُ بِهِ .
وَعِلَّةُ إعْجَابِهِمْ انْصِرَافُ نَظَرِهِمْ إلَى كَثْرَةِ
مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ ، وَانْصِرَافُ نَظَرِهِمْ عَمَّنْ فَوْقَهُمْ
مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَنَاهٍ فِي الْعِلْمِ إلَّا وَسَيَجِدُ
مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ إذْ الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ بَشَرٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ } .
يَعْنِي فِي الْعِلْمِ : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
: فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعِلْمِ ؟
قَالَ : كُلُّ النَّاسِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَا رَأَيْت مِثْلِي وَمَا
أَشَاءُ أَنْ أَلْقَى رَجُلًا أَعْلَمَ مِنِّي إلَّا لَقِيتُهُ .
لَمْ يَذْكُرْ الشَّعْبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ تَفْضِيلًا
لِنَفْسِهِ فَيُسْتَقْبَحُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ
عَنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَفْسِهِ
بِتَقْصِيرِ مَا قَصَّرَ فِيهِ لِيَسْلَمَ مِنْ عُجْبِ مَا أَدْرَكَ مِنْهُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إذَا عَلِمْت
فَلَا تُفَكِّرْ فِي كَثْرَةِ مَنْ دُونَك مِنْ الْجُهَّالِ ، وَلَكِنْ اُنْظُرْ
إلَى مَنْ فَوْقَك مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَأَنْشَدْت لِابْنِ الْعَمِيدِ : مَنْ
شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفِيدُ بِهِ فِي دِينِهِ ثُمَّ فِي دُنْيَاهُ إقْبَالَا
فَلْيَنْظُرَنَّ إلَى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا وَلْيَنْظُرَنَّ إلَى مَنْ دُونَهُ
مَالَا وَقَلَّمَا تَجِدُ بِالْعِلْمِ مُعْجَبًا وَبِمَا أَدْرَكَ مُفْتَخِرًا ،
إلَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُقِلًّا وَمُقَصِّرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجْهَلُ قَدْرَهُ
، وَيَحْسَبُ أَنَّهُ نَالَ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَكْثَرَهُ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا وَمِنْهُ
مُسْتَكْثِرًا فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ بُعْدِ غَايَتِهِ ، وَالْعَجْزِ عَنْ إدْرَاكِ
نِهَايَتِهِ ، مَا يَصُدُّهُ عَنْ الْعُجْبِ بِهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ
فَمَنْ نَالَ مِنْهُ شِبْرًا شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ نَالَهُ .
وَمَنْ نَالَ الشِّبْرَ الثَّانِيَ صَغَرَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ
وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْهُ ، وَأَمَّا الشِّبْرُ الثَّالِثُ فَهَيْهَاتَ لَا
يَنَالُهُ أَحَدٌ أَبَدًا .
وَمِمَّا أُنْذِرُك بِهِ مِنْ حَالِي أَنَّنِي صَنَّفْت
فِي الْبُيُوعِ كِتَابًا جَمَعْت فِيهِ مَا اسْتَطَعْت مِنْ كُتُبِ النَّاسِ ،
وَأَجْهَدْت فِيهِ نَفْسِي وَكَدَدْت فِيهِ خَاطِرِي ، حَتَّى إذَا تَهَذَّبَ
وَاسْتَكْمَلَ وَكِدْت أَعْجَبُ بِهِ وَتَصَوَّرْت أَنَّنِي أَشَدُّ النَّاسِ
اضْطِلَاعًا بِعِلْمِهِ ، حَضَرَنِي ، وَأَنَا فِي
مَجْلِسِي
أَعْرَابِيَّانِ فَسَأَلَانِي عَنْ بَيْعٍ عَقَدَاهُ فِي الْبَادِيَةِ عَلَى
شُرُوطٍ تَضَمَّنَتْ أَرْبَعَ مَسَائِلِ لَمْ أَعْرِفْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَوَابًا
، فَأَطْرَقْت مُفَكِّرًا ، وَبِحَالِي وَحَالِهِمَا مُعْتَبَرًا فَقَالَا : مَا
عِنْدَك فِيمَا سَأَلْنَاك جَوَابٌ ، وَأَنْتَ زَعِيمُ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ؟ فَقُلْت
: لَا .
فَقَالَا : وَاهًا لَك ، وَانْصَرَفَا .
ثُمَّ أَتَيَا مَنْ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْعِلْمِ كَثِيرٌ
مِنْ أَصْحَابِي فَسَأَلَاهُ فَأَجَابَهُمَا مُسْرِعًا بِمَا أَقْنَعَهُمَا
وَانْصَرَفَا عَنْهُ رَاضِيَيْنِ بِجَوَابِهِ حَامِدَيْنِ لِعِلْمِهِ ، فَبَقِيت مُرْتَبِكًا
، وَبِحَالِهِمَا وَحَالِي مُعْتَبِرًا وَإِنِّي لَعَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ مِنْ
الْمَسَائِلِ إلَى وَقْتِي ، فَكَانَ ذَلِكَ زَاجِرَ نَصِيحَةٍ وَنَذِيرَ عِظَةٍ
تَذَلَّلَ بِهَا قِيَادُ النَّفْسِ ، وَانْخَفَضَ لَهَا جَنَاحُ الْعُجْبِ ،
تَوْفِيقًا مُنِحْتَهُ وَرُشْدًا أُوتِيتَهُ .
وَحَقٌّ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْعُجْبَ بِمَا يُحْسِنُ
أَنْ يَدَعَ التَّكَلُّفَ لِمَا لَا يُحْسِنُ .
فَقَدِيمًا نَهَى النَّاسُ عَنْهُمَا ، وَاسْتَعَاذُوا
بِاَللَّهِ مِنْهُمَا .
وَمِنْ أَوْضَحِ ذَلِكَ بَيَانًا اسْتِعَاذَةُ
الْجَاحِظِ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ حَيْثُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك
مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْلِ كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْعَمَلِ ، وَنَعُوذُ
بِك مِنْ التَّكَلُّفِ لِمَا لَا نُحْسِنُ ، كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ الْعُجْبِ بِمَا
نُحْسِنُ ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ السَّلَاطَةِ وَالْهَذْرِ ، كَمَا نَعُوذُ
بِك مِنْ شَرِّ الْعِيِّ وَالْحَصْرِ
.
وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ مَا
اسْتَعَاذَ فَلَيْسَ لِمَنْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُحْسِنُ غَايَةٌ يَنْتَهِي
إلَيْهَا وَلَا حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ
.
وَمَنْ كَانَ تَكَلُّفُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ فَأَخْلِقْ
بِهِ أَنْ يَضِلَّ وَيُضِلَّ .
وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : مِنْ الْعِلْمِ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ فِيمَا لَا تَعْلَمُ
بِكَلَامِ مَنْ يَعْلَمُ فَحَسْبُك جَهْلًا مِنْ عَقْلِك أَنْ تَنْطِقَ بِمَا لَا
تَفْهَمُ .
وَلَقَدْ أَحْسَن زُرَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَيْثُ يَقُولُ
: إذَا مَا انْتَهَى عِلْمِي تَنَاهَيْتُ عِنْدَهُ أَطَالَ فَأَمْلَى أَوْ
تَنَاهَى فَأَقْصَرَا وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ فِعْلُهُ كَفَى
الْفِعْلُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى
الْإِحَاطَةِ بِالْعِلْمِ سَبِيلٌ فَلَا عَارٌ أَنْ يَجْهَلَ بَعْضَهُ ، وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ فِي جَهْلِ بَعْضِهِ عَارٌ لَمْ يَقْبُحْ بِهِ أَنْ يَقُولَ لَا
أَعْلَمُ فِيمَا لَيْسَ يَعْلَمُ
.
وَرُوِيَ {
أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
الْبِقَاعِ خَيْرٌ ، وَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ ؟ فَقَالَ : لَا أَدْرِي حَتَّى
أَسْأَلَ جِبْرِيلَ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: وَمَا أَبْرَدَهَا عَلَى الْقَلْبِ إذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ فِيمَا لَا يَعْلَمُ
أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَرَفَ أَنَّ مَا
يَعْلَمُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ قَلِيلٌ
.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ قَوْلَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هَلَكَ مَنْ تَرَكَ لَا
أَدْرِي .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ لِي مِنْ
فَضِيلَةِ الْعِلْمِ إلَّا عِلْمِي بِأَنِّي لَسْت أَعْلَمُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ قَالَ لَا أَدْرِي
عَلِمَ فَدَرَى ، وَمَنْ انْتَحَلَ مِمَّا لَا يَدْرِي أُهْمِلَ فَهَوَى ، وَلَا
يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ وَإِنْ صَارَ فِي طَبَقَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَفَاضِلِ أَنْ يَسْتَنْكِفَ
مِنْ تَعَلُّمِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لِيَسْلَمَ مِنْ التَّكَلُّفِ .
وَقَدْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - : يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ تَعَلَّمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا جَهِلْت
وَعَلِّمْ الْجُهَّالَ مَا عَلِمْت
.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : خَمْسٌ خُذُوهُنَّ عَنِّي فَلَوْ رَكِبْتُمْ الْفُلْكَ مَا وَجَدْتُمُوهُنَّ
إلَّا عِنْدِي : أَلَا لَا يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ إلَّا رَبَّهُ ، وَلَا
يَخَافَنَّ
إلَّا ذَنْبَهُ ، وَلَا يَسْتَنْكِفْ الْعَالِمُ أَنْ يَتَعَلَّمَ لِمَا لَيْسَ
عِنْدَهُ وَإِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ لَا أَعْلَمُ
، وَمَنْزِلَةُ الصَّبْرِ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ يَكْتَفِي مِنْ الْعِلْمِ لَاكْتَفَى مِنْهُ
مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا قَالَ : { هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } وَقِيلَ
لِلْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ : بِمَ أَدْرَكْت هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ : كُنْت إذَا
لَقِيتُ عَالِمًا أَخَذْت مِنْهُ ، وَأَعْطَيْته .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرَ : مِنْ الْعِلْمِ أَنْ لَا
تَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ ، وَمِنْ الْعِلْمِ تَفْضِيلُ جَمِيعِ
الْعِلْمِ وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِشَرِيكٍ : أَنَّى لَك هَذَا الْعِلْمُ ؟ قَالَ :
لَمْ أَرْغَبْ عَنْ قَلِيلٍ أَسْتَفِيدُهُ ، وَلَمْ أَبْخَلْ بِكَثِيرٍ أُفِيدُهُ .
عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَقْتَضِي مَا بَقِيَ مِنْهُ
وَيَسْتَدْعِي مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لِلرَّاغِبِ فِيهِ قَنَاعَةٌ
بِبَعْضِهِ .
وَرَوَى عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ :
طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا
.
أَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ
لِلرَّحْمَنِ رِضًى ، ثُمَّ قَرَأَ
{ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } .
وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَزْدَادُ
طُغْيَانًا ثُمَّ قَرَأَ : { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى }
وَلْيَكُنْ
مُسْتَقِلًّا لِلْفَضِيلَةِ مِنْهُ لِيَزْدَادَ مِنْهَا ، وَمُسْتَكْثِرًا لِلنَّقِيصَةِ
فِيهِ لِيَنْتَهِيَ عَنْهَا ، وَلَا يَقْنَعْ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا أَدْرَكَ ؛
لِأَنَّ الْقَنَاعَةَ فِيهِ زُهْدٌ ، وَلِلزُّهْدِ فِيهِ تَرْكٌ ، وَالتَّرْكُ
لَهُ جَهْلٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَلَيْك بِالْعِلْمِ
وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ فَإِنَّ قَلِيلَهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِقَلِيلِ الْخَيْرِ ،
وَكَثِيرَهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِكَثِيرِهِ ، وَلَنْ يَعِيبَ الْخَيْرَ إلَّا
الْقِلَّةُ ، فَأَمَّا كَثْرَتُهُ فَإِنَّهَا أُمْنِيَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ فَضْلِ عِلْمِك
اسْتِقْلَالُك لِعِلْمِك ، وَمِنْ كَمَالِ عَقْلِك اسْتِظْهَارُك عَلَى عَقْلِك .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْهَلَ مِنْ نَفْسِهِ مَبْلَغَ
عِلْمِهَا ، وَلَا يَتَجَاوَزَ بِهَا قَدْرَ حَقِّهَا .
وَلَأَنْ يَكُونَ بِهَا مُقَصِّرًا فَيُذْعِنُ
بِالِانْقِيَادِ ، أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُجَاوِزًا ، فَيَكُفُّ عَنْ
الِازْدِيَادِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ حَالَ نَفْسِهِ كَانَ لِغَيْرِهَا أَجْهَلَ .
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : {
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَتَى يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ ؟ قَالَ : إذَا عَرَفَ
نَفْسَهُ } .
وَقَدْ قَسَّمَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ أَحْوَالَ
النَّاسِ فِيمَا عَلِمُوهُ أَوْ جَهِلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ مُتَقَابِلَةٍ لَا
يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَقَالَ : الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ : رَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي
أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَالِمٌ فَاسْأَلُوهُ ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي
أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ نَاسٍ فَذَكِّرُوهُ ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَيَدْرِي
أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَذَلِكَ مُسْتَرْشِدٌ فَأَرْشِدُوهُ ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي
وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَذَلِكَ جَاهِلٌ فَارْفُضُوهُ .
وَأَنْشَدَ أَبُو الْقَاسِمِ الْآمِدِيُّ : إذَا كُنْت
لَا تَدْرِي وَلَمْ تَكُنْ بِاَلَّذِي يُسَائِلُ مَنْ يَدْرِي فَكَيْفَ إذًا
تَدْرِي جَهِلْت وَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّك جَاهِلٌ فَمَنْ لِي بِأَنْ تَدْرِي
بِأَنَّك لَا تَدْرِي إذَا كُنْت مِنْ كُلِّ الْأُمُورِ مُعَمِّيًا فَكُنْ هَكَذَا
أَرْضًا يَطَأْكَ الَّذِي يَدْرِي وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ أَنَّك لَا
تَدْرِي
وَأَنَّك لَا تَدْرِي بِأَنَّك لَا تَدْرِي
وَلْيَكُنْ
مِنْ شِيمَتِهِ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ ، وَحَثُّ النَّفْسِ عَلَى أَنْ تَأْتَمِرَ
بِمَا يَأْمُرُ بِهِ ، وَلَا يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } .
فَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } : يَعْنِي أَنَّهُ عَامِلٌ بِمَا
عَلِمَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَيْلٌ لِجَمَّاعِ الْقَوْلِ وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ } .
يُرِيدُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وَلَا
يَعْمَلُونَ بِهِ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ
أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِمُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ تَعَلَّمْ الْعِلْمَ لِتَعْمَلَ بِهِ ،
وَلَا تَتَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونُ عَلَيْك بُورُهُ ، وَلِغَيْرِك نُورُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنَّمَا زَهِدَ النَّاسُ
فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ مَنْ عَلِمَ بِمَا
عَلِمَ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : أَخْوَفُ مَا أَخَافُ إذَا
وَقَفْت بَيْنَ يَدِي اللَّهِ أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَلِمْت فَمَاذَا عَمِلْت إذْ
عَلِمْت ؟ وَكَانَ يُقَالُ : خَيْرٌ مِنْ الْقَوْلِ فَاعِلُهُ ، وَخَيْرٌ مِنْ
الصَّوَابِ قَائِلُهُ ، وَخَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ حَامِلُهُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَمْ يَنْتَفِعْ
بِعِلْمِهِ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : ثَمَرَةُ الْعِلْمِ أَنْ
يُعْمَلَ بِهِ ، وَثَمَرَةُ الْعَمَلِ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : الْعِلْمُ يَهْتِفُ
بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَقَامَ وَإِلَّا ارْتَحَلَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : خَيْرُ الْعِلْمِ مَا
نَفَعَ ، وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا رَدَعَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : ثَمَرَةُ الْعُلُومِ
الْعَمَلُ بِالْعُلُومِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ تَمَامِ الْعِلْمِ
اسْتِعْمَالُهُ ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتِقْلَالُهُ .
فَمَنْ اسْتَعْمَلَ عِلْمَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ رَشَادٍ ،
وَمَنْ اسْتَقَلَّ عَمَلَهُ لَمْ يَقْصُرْ
عَنْ
مُرَادٍ .
وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ : وَلَمْ يَحْمَدُوا مِنْ
عَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ خِلَافًا وَلَا مِنْ عَامِلٍ غَيْرِ عَالِمِ رَأَوْا
طُرُقَاتِ الْمَجْدِ عِوَجًا قَطِيعَةً وَأَفْظَعُ عَجْزٍ عِنْدَهُمْ عَجْزُ
حَازِمِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَخَذَ عَنْهُ
وَاقْتَبَسَهُ مِنْهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ
كَانَ عَلَيْهِ أَحَجَّ وَلَهُ أَلْزَمَ ؛ لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ
الْقَوْلِ ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْعَمَلِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ :
اسْمَعْ إلَى الْأَحْكَامِ تَحْمِلُهَا الرُّوَاةُ إلَيْك عَنْكَا وَاعْلَمْ
هُدِيتَ بِأَنَّهَا حُجَجٌ تَكُونُ عَلَيْك مِنْكَا ثُمَّ لِيَتَجَنَّب أَنْ
يَقُولَ مَا لَا يَفْعَلُ ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ بِهِ ، وَأَنْ
يُسِرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ ، وَلَا يَجْعَلُ قَوْلَ الشَّاعِرِ هَذَا : اعْمَلْ
بِقَوْلِي وَإِنْ قَصَّرْت فِي عَمَلِي يَنْفَعْك قَوْلِي وَلَا يَضْرُرْك
تَقْصِيرِي عُذْرًا لَهُ فِي تَقْصِيرٍ يُضْمِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ غَيْرَهُ .
فَإِنَّ إعْذَارَ النَّفْسِ يُغْرِيهَا وَيُحَسِّنُ
لَهَا مَسَاوِئَهَا .
فَإِنَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُ فَقَدْ مَكَرَ ،
وَمَنْ أَمَرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ فَقَدْ خَدَعَ ، وَمَنْ أَسَرَّ غَيْرَ مَا
يُظْهِرُ فَقَدْ نَافَقَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَصَاحِبَاهُمَا فِي النَّارِ } .
عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ مُطْرَحٌ ،
وَإِنْكَارَهُ مَا لَا يُنْكِرُهُ مِنْ نَفْسِهِ مُسْتَقْبَحٌ .
بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ
الْمَأْمُورِ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ عِنَادًا ، وَارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ
كِيَادًا .
وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ
فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ طَلَاقٍ فَأَفْتَاهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، فَقَالَ
: اُنْظُرْ حَسَنًا .
قَالَ :
نَظَرْتُ وَقَدْ بَانَتْ فَوَلَّى الْأَعْرَابِيُّ
وَهُوَ يَقُولُ : أَتَيْت ابْنَ ذِئْبٍ أَبْتَغِي الْفِقْهَ عِنْدَهُ فَطَلَّقَ
حَتَّى الْبَتِّ تَبَّتْ أَنَامِلُهُ أُطَلِّقُ فِي
فَتْوَى
ابْنِ ذِئْبٍ حَلِيلَتِي وَعِنْدَ ابْنِ ذِئْبٍ أَهْلُهُ وَحَلَائِلُهْ فَظَنَّ بِجَهْلِهِ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ الطَّلَاقَ .
فَمَا ظَنُّك بِقَوْلٍ يَجِبُ فِيهِ اشْتِرَاكُ الْآمِرِ
وَالْمَأْمُورِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ بِهِ وَلَا
قَابِلٍ لَهُ كَلًّا .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ : وَعَامِلٌ بِالْفُجُورِ
يَأْمُرُ بِالْبِرِّ كَهَادٍ يَخُوضُ فِي الظُّلَمِ أَوْ كَطَبِيبٍ قَدْ شَفَّهُ
سَقَمٌ وَهُوَ يُدَاوِي مِنْ ذَلِكَ السَّقَمِ يَا وَاعِظَ النَّاسِ غَيْرَ
مُتَّعِظٍ ثَوْبَك طَهِّرْ أَوَّلًا فَلَا تَلُمْ وَقَالَ آخَرُ : عَوِّدْ
لِسَانَك قِلَّةَ اللَّفْظِ وَاحْفَظْ كَلَامَك أَيَّمَا حِفْظِ إيَّاكَ أَنْ تَعِظَ
الرِّجَالَ وَقَدْ أَصْبَحْتَ مُحْتَاجًا إلَى الْوَعْظِ وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ
عَنْ الْعِلْمِ إلَى الْعَمَلِ ، وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الْعَمَلِ إلَى الْعِلْمِ
إذَا عَمِلَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِيهِ مَا
يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ
مِنْ الْعَمَلِ لِمَنْ جَهِلَ ، وَالْعَمَلُ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ لِمَنْ
عَلِمَ .
وَأَمَّا فَضْلُ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ
إذَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي فَرْضٍ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يُبْعَثُ الْعَالِمُ
وَالْعَابِدُ فَيُقَالُ لِلْعَابِدِ : اُدْخُلْ الْجَنَّةَ ، وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ
: اتَّئِدْ حَتَّى تَشْفَعَ لِلنَّاسِ
.
وَمِنْ
آدَابِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يَبْخَلُوا بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُونَ وَلَا
يَمْتَنِعُوا مِنْ إفَادَةِ مَا يَعْلَمُونَ .
فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ لَوْمٌ وَظُلْمٌ ، وَالْمَنْعُ
مِنْهُ حَسَدٌ وَإِثْمٌ .
وَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ الْبُخْلُ بِمَا مُنِحُوهُ
جُودًا مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ ، وَأُوتُوهُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ .
أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُمْ الشُّحُّ بِمَا إنْ
بَذَلُوهُ زَادَ وَنَمَا ، وَإِنْ كَتَمُوهُ تَنَاقَصَ وَوَهِيَ .
وَلَوْ اسْتَنَّ بِذَلِكَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَمَا
وَصَلَ الْعِلْمُ إلَيْهِمْ وَلَانْقَرَضَ عَنْهُمْ بِانْقِرَاضِهِمْ ،
وَلَصَارُوا عَلَى مُرُورِ الْأَيَّامِ جُهَّالًا ، وَبِتَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ
وَتَنَاقُصِهَا أَرْذَالًا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادَ
دِينِكُمْ وَالْتِبَاسَ بَصَائِرِكُمْ ، ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يُحْسِنُهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ
} .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ
أَنْ يَتَعَلَّمُوا ، حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ
يُعَلِّمُوا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ
الْحِكْمَةِ بَذْلُ مَا يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ
قَوَاعِدِهَا بَذْلُ مَا يَزِيدُهُ الْبَذْلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كَمَا أَنَّ
الِاسْتِفَادَةَ نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ ، كَذَلِكَ الْإِفَادَةُ فَرِيضَةٌ
عَلَى الْمُعَلِّمِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ كَتَمَ
عِلْمًا فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ
صَفْوَانَ
: إنِّي لَأَفْرَحُ بِإِفَادَتِي الْمُتَعَلِّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي
بِاسْتِفَادَتِي مِنْ الْمُعَلِّمِ .
ثُمَّ لَهُ بِالتَّعْلِيمِ نَفْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا
يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ التَّعْلِيمَ صَدَقَةً فَقَالَ : { تَصَدَّقُوا عَلَى أَخِيكُمْ
بِعِلْمٍ يُرْشِدُهُ ، وَرَأْيٍ يُسَدِّدُهُ } .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا فَإِنَّ أَجْرَ
الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ
} .
قِيلَ : وَمَا أَجْرُهُمَا ؟ قَالَ : مِائَةُ مَغْفِرَةٍ
وَمِائَةُ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ
.
وَالنَّفْعُ الثَّانِي : زِيَادَةُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ
الْحِفْظِ .
فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : اجْعَلْ
تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك ، وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ
تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك
.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : النَّارُ لَا
يَنْقُصُهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا ، وَلَكِنْ يُخْمِدُهَا أَنْ لَا تَجِدَ حَطَبًا .
كَذَلِكَ الْعِلْمُ لَا يُفْنِيهِ الِاقْتِبَاسُ ،
وَلَكِنَّ فَقْدَ الْحَامِلِينَ لَهُ سَبَبُ عَدَمِهِ .
فَإِيَّاكَ وَالْبُخْلَ بِمَا تَعْلَمُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : عَلِّمْ عِلْمَك وَتَعَلَّمْ
عِلْمَ غَيْرِك .
فَإِذَا
عَلِمْت مَا جَهِلْت ، وَحَفِظْت مَا عَلِمْت ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَعَلِّمِينَ
ضَرْبَانِ : مُسْتَدْعًى وَطَالِبٌ .
فَأَمَّا الْمُسْتَدْعَى إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مَنْ
اسْتَدْعَاهُ الْعَالِمُ إلَى التَّعْلِيمِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَوْدَةِ
ذَكَائِهِ ، وَبَانَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ خَاطِرِهِ .
فَإِذَا وَافَقَ اسْتِدْعَاءُ الْعَالِمِ شَهْوَةَ
الْمُتَعَلِّمِ كَانَتْ نَتِيجَتُهَا دَرَكَ النُّجَبَاءِ ، وَظَفَرَ السُّعَدَاءِ
؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِاسْتِدْعَائِهِ مُتَوَفِّرٌ ، وَالْمُتَعَلِّمُ
بِشَهْوَتِهِ مُسْتَكْثِرٌ .
وَأَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ ،
وَبَاعِثٍ يَحْدُوهُ ، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي دِينِيًّا ، وَكَانَ الْمُتَعَلِّمُ
فَطِنًا ذَكِيًّا ، وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مُقْبِلًا
وَعَلَى تَعْلِيمِهِ مُتَوَفِّرًا لَا يُخْفِي عَلَيْهِ مَكْنُونًا ، وَلَا
يَطْوِي عَنْهُ مَخْزُونًا .
وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا بَعِيدَ الْفِطْنَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ
لَا يُمْنَعَ مِنْ الْيَسِيرِ فَيَحْرُمُ ، وَلَا يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِالْكَثِيرِ
فَيُظْلَمُ .
وَلَا يَجْعَلَ بَلَادَتَهُ ذَرِيعَةً لِحِرْمَانِهِ
فَإِنَّ الشَّهْوَةَ بَاعِثَةٌ وَالصَّبْرَ مُؤَثِّرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَظْلِمُوا ، وَلَا
تَضَعُوهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ فَتَأْثَمُوا } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ
أَحَدًا فَإِنَّ الْعِلْمَ أَمْنَعُ لِجَانِبِهِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي دِينِيًّا نَظَرَ
فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا ، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ حُبُّ
النَّبَاهَةِ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ يُقَارِبُ الْقَوْلَ
الْأَوَّلَ فِي تَعْلِيمِ مَنْ قَبِلَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُعَطِّفُهُ إلَى
الدِّينِ فِي ثَانِي حَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا بِهِ فِي أَوَّلِ
حَالٍ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ : تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى أَنْ يَكُونَ
إلَّا لِلَّهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : طَلَبْنَا
الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا .
وَإِنْ كَانَ
الدَّاعِي
مَحْظُورًا ، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ شَرٌّ كَامِنٌ ، وَمَكَرٌ
بَاطِنٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي شُبَهٍ دِينِيَّةٍ ، وَحِيَلٍ
فِقْهِيَّةٍ ، لَا تَجِدُ أَهْلُ السَّلَامَةِ مِنْهَا مُخَلِّصًا ، وَلَا عَنْهَا
مُدَافِعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلَانِ : عَالِمٌ فَاجِرٌ وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ .
وَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَرُّ ؟
قَالَ : الْعُلَمَاءُ إذَا فَسَدُوا
} .
فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا رَأَى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ
أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ طُلْبَتِهِ ، وَيَصْرِفَهُ عَنْ بُغْيَتِهِ .
فَلَا يُعِينُهُ عَلَى إمْضَاءِ مَكْرِهِ ، وَإِعْمَالِ
شَرِّهِ .
فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاضِعُ الْعِلْمِ فِي
غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ اللُّؤْلُؤَ وَالْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ } .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : لَا تُلْقُوا الْجَوْهَرَ لِلْخِنْزِيرِ فَالْعِلْمُ
أَفْضَلُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ .
وَحُكِيَ أَنَّ تِلْمِيذًا سَأَلَ عَالِمًا عَنْ بَعْضِ
الْعُلُومِ فَلَمْ يُفِدْهُ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ مَنَعْته ؟ فَقَالَ : لِكُلِّ
تُرْبَةٍ غَرْسٌ ، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ أُسٌّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لِكُلِّ ثَوْبٍ لَابِسٌ ،
وَلِكُلِّ عِلْمٍ قَابِسٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إرْثِ لِرَوْضَةٍ
تَوَسَّطَهَا خِنْزِيرٌ ، وَابْكِ لِعِلْمٍ حَوَاهُ شِرِّيرٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ فِرَاسَةٌ
يَتَوَسَّمُ بِهَا الْمُتَعَلِّمَ لِيَعْرِفَ مَبْلَغَ طَاقَتِهِ ، وَقَدْرَ
اسْتِحْقَاقِهِ لِيُعْطِيَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ بِذَكَائِهِ ، أَوْ يَضْعُفُ
عَنْهُ بِبَلَادَتِهِ فَإِنَّهُ أَرْوَحُ لِلْعَالِمِ ، وَأَنْجَحُ
لِلْمُتَعَلِّمِ ، وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا
يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ
} .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: إذَا أَنَا لَمْ أَعْلَمْ مَا لَمْ أَرَ فَلَا
عَلِمْت
مَا رَأَيْت .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : لَا عَاشَ
بِخَيْرٍ مَنْ لَمْ يَرَ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَرَ بِعَيْنَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : أَلْمَعِيٌّ يَرَى
بِأَوَّلِ رَأْيٍ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْ وَرَاءِ الْمَغِيبِ لَوْذَعِيٌّ لَهُ
فُؤَادٌ ذَكِيٌّ مَا لَهُ فِي ذَكَائِهِ مِنْ ضَرِيبِ لَا يَرْوِي وَلَا يُقَلِّبُ
طَرْفًا وَأَكُفُّ الرِّجَالِ فِي تَقْلِيبِ وَإِذْ كَانَ الْعَالِمُ فِي
تَوَسُّمِ الْمُتَعَلِّمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَكَانَ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ
خَبِيرًا ، لَمْ يَضِعْ لَهُ عَنَاءٌ وَلَمْ يَخِبْ عَلَى يَدَيْهِ صَاحِبٌ .
وَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّمُهُمْ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ
أَحْوَالُهُمْ وَمَبْلَغُ اسْتِحْقَاقِهِمْ كَانُوا وَإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ
مُكِدٍّ وَتَعَبٍ غَيْرِ مُجِدٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ
ذَكِيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَبَلِيدٌ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ
فَيَضْجَرُ الذَّكِيُّ مِنْهُ وَيَعْجِزُ الْبَلِيدُ عَنْهُ وَمَنْ يُرَدِّدُ
أَصْحَابَهُ بَيْنَ عَجْزٍ وَضَجَرٍ مَلُّوهُ وَمَلَّهُمْ .
وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ سُفْيَانَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ :
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً مِنْ الْمُسْتَمِعِ
فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَك إذَا حَدَّثْتَهُمْ يَا مُوسَى ، وَاعْلَمْ أَنَّ
قَلْبَك وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَا تَحْشُو فِي وِعَائِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : خَيْرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ
لَا يُقِلُّ وَلَا يُمِلُّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ عِلْمٍ كَثُرَ
عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ ازْدَادَ الْقَلْبُ بِهِ عَمًى .
وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَمْعُ الْآذَانِ ، إذَا قَوِيَ
فَهْمُ الْقُلُوبِ فِي الْأَبْدَانِ
.
وَرُبَّمَا
كَانَ لِبَعْضِ السَّلَاطِينِ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَضِيلَةِ نَفْسِهِ ،
وَكَرَمِ طَبْعِهِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً فِي الِانْبِسَاطِ عِنْدَهُ ،
وَالْإِدْلَالِ عَلَيْهِ ، بَلْ يُعْطَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِسُلْطَانِهِ
وَعُلُوِّ يَدِهِ .
فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالْإِعْظَامِ
، وَلِلْعَالِمِ حَقَّ الْقَبُولِ وَالْإِكْرَامِ .
ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَهُ إلَّا بَعْدَ
الِاسْتِدْعَاءِ ، وَلَا يَزِيدَهُ عَلَى قَدْرِ الِاكْتِفَاءِ ، فَرُبَّمَا
أَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إظْهَارَ عِلْمِهِ لِلسُّلْطَانِ فَأَكْثَرَهُ
فَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَلَلٍ وَمُفْضِيًا إلَى بُعْدِهِ ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ
مُتَقَسِّمُ الْأَفْكَارِ مُسْتَوْعِبُ الزَّمَانِ ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْعِلْمِ
فَرَاغُ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ وَلَا صَبْرُ الْمُنْفَرِدِينَ بِهِ .
وَقَدْ حَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ :
قَالَ لِي الرَّشِيدُ : يَا عَبْدَ الْمَلِكِ أَنْتَ أَعْلَمُ مِنَّا وَنَحْنُ
أَعْقَلُ مِنْك لَا تُعَلِّمْنَا فِي مَلَاءٍ ، وَلَا تُسْرِعْ إلَى تَذْكِيرِنَا
فِي خَلَاءٍ ، وَاتْرُكْنَا حَتَّى نَبْتَدِئَك بِالسُّؤَالِ فَإِذَا بَلَغْت مِنْ
الْجَوَابِ حَدَّ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا تَزِدْ إلَّا أَنْ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ
مِنْك ، وَانْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ فِي التَّأْدِيبِ ، وَأَنْصَفُ فِي التَّعْلِيمِ
، وَبَلِّغْ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ غَايَةَ التَّقْوِيمِ .
وَلْيَخْرُجْ تَعْلِيمُهُ مَخْرَجَ الْمُذَاكَرَةِ
وَالْمُحَاضَرَةِ لَا مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ وَالْإِفَادَةِ ؛ لِأَنَّ لِتَأْخِيرِ
التَّعَلُّمِ خَجْلَةَ تَقْصِيرٍ يُجَلُّ السُّلْطَانُ عَنْهَا ، فَإِنْ ظَهَرَ
مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ زَلَلٌ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ وَعَرَّضَ
بِاسْتِدْرَاكِ زَلَلِهِ ، وَإِصْلَاحِ خَلَلِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ
لِلشَّعْبِيِّ : كَمْ عَطَاؤُك ؟ قَالَ : أَلْفَيْنِ .
قَالَ : لَحَنْتَ .
قَالَ لَمَّا تَرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْإِعْرَابَ كَرِهْت أَنْ أُعْرِبَ كَلَامِي عَلَيْهِ .
ثُمَّ لِيَحْذَرْ اتِّبَاعَهُ فِيمَا يُجَانِبُ الدِّينَ
وَيُضَادُّ الْحَقَّ مُوَافَقَةً لِرَأْيِهِ وَمُتَابَعَةً لِهَوَاهُ ، فَرُبَّمَا
زَلَّتْ أَقْدَامُ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً فَضَلُّوا ، وَأَضَلُّوا مَعَ
سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَقُبْحِ الْآثَارِ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَزَالُ
هَذِهِ الْأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَارِ قُرَّاؤُهَا
أُمَرَاءَهَا ، وَلَمْ يُزْكِ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا ، وَلَمْ يُمَارِ
أَخْيَارُهَا أَشْرَارَهَا .
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ عَنْهُمْ يَدَهُ ثُمَّ
سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَضَرَبَهُمْ
بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَمَلَأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا } .
وَمِنْ
آدَابِهِمْ : نَزَاهَةُ النَّفْسِ عَنْ شُبَهِ الْمَكَاسِبِ ، وَالْقَنَاعَةُ
بِالْمَيْسُورِ عَنْ كَدِّ الْمَطَالِبِ .
فَإِنَّ شُبْهَةَ الْمَكْسَبِ إثْمٌ وَكَدَّ الطَّلَبِ
ذُلٌّ ، وَالْأَجْرُ أَجْدَرُ بِهِ مِنْ الْإِثْمِ وَالْعِزُّ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ
الذُّلِّ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَقُولُونَ لِي فِيك
انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا أَرَى
النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ
أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ
لِي سُلَّمَا وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي وَلَا كُلُّ مَنْ
لَاقَيْت أَرْضَاهُ مُنْعِمَا إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى
وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا انْهَهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا
يَشِينُهَا مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي
خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ
كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ
عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ عِوَضٌ مِنْ كُلِّ
لَذَّةٍ ، وَمُغْنٍ عَنْ كُلِّ شَهْوَةٍ .
وَمَنْ كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
هِمَّةٌ فِيمَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ تَفَرَّدَ
بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةٌ ، وَمَنْ تَسَلَّى بِالْكُتُبِ لَمْ تَفُتْهُ
سَلْوَةٌ .
وَمَنْ آنَسَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، لَمْ تُوحِشْهُ
مُفَارَقَةُ الْإِخْوَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا سَمِيرَ كَالْعِلْمِ
، وَلَا ظَهِيرَ كَالْحِلْمِ .
وَمِنْ آدَابِهِمْ
: أَنْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ بِتَعْلِيمِ مَنْ عَلَّمُوا وَيَطْلُبُوا
ثَوَابَهُ بِإِرْشَادِ مَنْ أَرْشَدُوا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَيْهِ عِوَضًا
، وَلَا يَلْتَمِسُوا عَلَيْهِ رِزْقًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ثَمَنًا قَلِيلًا } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا
وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا
كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَجْرُ الْمُعَلِّمِ كَأَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ } .
وَحَسْبُ مَنْ هَذَا أَجْرُهُ أَنْ يَلْتَمِسَ عَلَيْهِ
أَجْرًا .
وَمِنْ آدَابِهِمْ
: نُصْحُ مَنْ عَلَّمُوهُ وَالرِّفْقُ بِهِمْ ، وَتَسْهِيلُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمْ
وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي رِفْدِهِمْ ، وَمَعُونَتِهِمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ
أَعْظَمُ لِأَجْرِهِمْ ، وَأَسْنَى لِذِكْرِهِمْ ، وَأَنْشَرُ لِعُلُومِهِمْ ،
وَأَرْسَخُ لِمَعْلُومِهِمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : يَا عَلِيٌّ
لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ } .
وَمِنْ
آدَابِهِمْ : أَنْ لَا يُعَنِّفُوا مُتَعَلِّمًا ، وَلَا يُحَقِّرُوا نَاشِئًا ،
وَلَا يَسْتَصْغِرُوا مُبْتَدِئًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَيْهِمْ ، وَأَعْطِفُ
عَلَيْهِمْ ، وَأَحَثُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلِّمُوا وَلَا تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ
خَيْرٌ مِنْ الْمُعَنِّفِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَقِّرُوا مَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ ، وَوَقِّرُوا مَنْ
تُعَلِّمُونَهُ } .
وَمِنْ آدَابِهِمْ : أَنْ لَا يَمْنَعُوا طَالِبًا وَلَا
يُؤَيِّسُوا مُتَعَلِّمًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الرَّغْبَةِ فِيهِمْ
وَالزُّهْدِ فِيمَا لَدَيْهِمْ ، وَاسْتِمْرَارُ ذَلِكَ مُفْضٍ إلَى انْقِرَاضِ
الْعِلْمِ بِانْقِرَاضِهِمْ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ كُلِّ الْفَقِيهِ .
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ :
مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَلَا يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رُوحِ اللَّهِ ، وَلَا يَدَعُ الْقُرْآنَ
رَغْبَةً إلَى مَا سِوَاهُ .
أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ
، وَلَا عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ } .
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ
التَّوْفِيقِ .
الْبَابُ الثَّالِثُ
أَدَبُ الدِّينِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانهُ وَتَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَ
الْخَلْقَ مُتَعَبَّدَاتِهِ ، وَأَلْزَمَهُمْ مُفْتَرَضَاتِهِ ، وَبَعَثَ
إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَشَرَعَ لَهُمْ دِينَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ دَعَتْهُ إلَى
تَكْلِيفِهِمْ ، وَلَا مِنْ ضَرُورَةٍ قَادَتْهُ إلَى تَعَبُّدِهِمْ ، وَإِنَّمَا
قَصَدَ نَفْعَهُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَفَضَّلَ بِمَا لَا
يُحْصَى عَدًّا مِنْ نِعَمِهِ .
بَلْ النِّعْمَةُ فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّ
نَفْعَ مَا سِوَى الْمُتَعَبَّدَاتِ مُخْتَصٌّ بِالدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ ،
وَنَفْعَ الْمُتَعَبَّدَاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَمَا جَمَعَ نَفْعَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَانَ أَعْظَمَ نِعْمَةً وَأَكْثَرَ
تَفَضُّلًا .
وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مَأْخُوذًا مِنْ عَقْلٍ
مَتْبُوعٍ ، وَشَرْعٍ مَسْمُوعٍ فَالْعَقْلُ مَتْبُوعٌ فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ
الشَّرْعُ ، وَالشَّرْعُ مَسْمُوعٌ فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ ؛
لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ ، وَالْعَقْلُ لَا يُتَّبَعُ
فِيمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ
.
فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى مَنْ كَمُلَ
عَقْلُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .
فَبَلَّغَهُمْ رِسَالَتَهُ ، وَأَلْزَمَهُمْ حُجَّتَهُ ،
وَبَيَّنَ لَهُمْ شَرِيعَتَهُ ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ ، فِيمَا أَحَلَّهُ
وَحَرَّمَهُ ، وَأَبَاحَهُ وَحَظَرَهُ ، وَاسْتَحَبَّهُ وَكَرِهَهُ ، وَأَمَرَ
بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ، وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ لِمَنْ أَطَاعَهُ
وَأَوْعَدَ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ .
فَكَانَ وَعْدُهُ تَرْغِيبًا ، وَوَعِيدُهُ تَرْهِيبًا ؛
لِأَنَّ الرَّغْبَةَ تَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَالرَّهْبَةَ تَكُفُّ عَنْ
الْمَعْصِيَةِ ، وَالتَّكْلِيفُ يَجْمَعُ أَمْرًا بِطَاعَةٍ وَنَهْيًا عَنْ
مَعْصِيَةٍ .
وَلِذَلِكَ كَانَ التَّكْلِيفُ مَقْرُونًا بِالرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ ، وَكَانَ مَا تَخَلَّلَ كِتَابَهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ
السَّالِفَةِ ، وَأَخْبَارِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ، عِظَةً وَاعْتِبَارًا
تَقْوَى
مَعَهُمَا
الرَّغْبَةُ ، وَتَزْدَادُ بِهِمَا الرَّهْبَةُ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِنَا وَتَفَضُّلِهِ
عَلَيْنَا .
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نِعَمُهُ لَا تُحْصَى
وَشُكْرُهُ لَا يُؤَدَّى .
ثُمَّ جَعَلَ إلَى رَسُولِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيَانَ مَا كَانَ مُجْمَلًا ، وَتَفْسِيرَ مَا كَانَ مُشْكِلًا ،
وَتَحْقِيقَ مَا كَانَ مُحْتَمَلًا ؛ لِيَكُونَ لَهُ مَعَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ
ظُهُورُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَمَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ } .
ثُمَّ جَعَلَ إلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَ مَا
نَبَّهَ عَلَى مَعَانِيهِ ، وَأَشَارَ إلَى أُصُولِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ إلَى
عِلْمِ الْمُرَادِ ، فَيَمْتَازُوا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَيَخْتَصُّوا
بِثَوَابِ اجْتِهَادِهِمْ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فَصَارَ
الْكِتَابُ أَصْلًا وَالسُّنَّةُ فَرْعًا وَاسْتِنْبَاطُ الْعُلَمَاءِ إيضَاحًا
وَكَشْفًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْقُرْآنُ أَصْلُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ نَصُّهُ
وَدَلِيلُهُ } ، وَالْحِكْمَةُ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا .
وَكَانَ مِنْ رَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَتَفَضُّلِهِ عَلَى
عِبَادِهِ أَنْ أَقْدَرَهُمْ عَلَى مَا كَلَّفَهُمْ ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ
فِيمَا تَعَبَّدْهُمْ ؛ لِيَكُونُوا مَعَ مَا قَدْ أَعَدَّهُ لَهُمْ نَاهِضِينَ
بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا
وُسْعَهَا } وَقَالَ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }
وَجَعَلَ مَا كَلَّفَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمًا أَمَرَهُمْ
بِاعْتِقَادِهِ ، وَقِسْمًا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ ، وَقِسْمًا أَمَرَهُمْ
بِالْكَفِّ عَنْهُ ؛ لِيَكُونَ اخْتِلَافُ
جِهَاتِ
التَّكْلِيفِ أَبْعَثَ عَلَى قَبُولِهِ ، وَأَعْوَنَ عَلَى فِعْلِهِ ، حِكْمَةً
مِنْهُ وَلُطْفًا .
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِاعْتِقَادِهِ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا إثْبَاتًا ، وَقِسْمًا نَفْيًا
.
فَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَإِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ ،
وَصِفَاتِهِ ، وَإِثْبَاتُ بَعْثَتِهِ رُسُلَهُ ، وَتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ .
وَأَمَّا النَّفْيُ فَنَفْيُ الصَّاحِبَةِ ، وَالْوَلَدِ
، وَالْحَاجَةِ ، وَالْقَبَائِحِ أَجْمَعَ .
وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ أَوَّلُ مَا كَلَّفَهُ الْعَاقِلَ
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمًا عَلَى
أَبْدَانِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَقِسْمًا فِي أَمْوَالِهِمْ
كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَقِسْمًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ كَالْحَجِّ
وَالْجِهَادِ ، لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ وَيَخِفَّ عَنْهُمْ أَدَاؤُهُ
نَظَرًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ ، وَتَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ .
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ
: قِسْمًا لِإِحْيَاءِ نُفُوسِهِمْ وَصَلَاحِ أَبْدَانِهِمْ ، كَنَهْيِهِ عَنْ
الْقَتْلِ ، وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالسُّمُومِ ، وَشُرْبِ الْخُمُورِ
الْمُؤَدِّيَةِ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ وَزَوَالِهِ .
وَقِسْمًا لِائْتِلَافِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ
بَيْنِهِمْ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْغَضَبِ ، وَالْغَلَبَةِ ، وَالظُّلْمِ ،
وَالسَّرَفِ الْمُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ ، وَالْبَغْضَاءِ .
وَقِسْمًا لِحِفْظِ أَنْسَابِهِمْ وَتَعْظِيمِ
مَحَارِمِهِمْ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الزِّنَا وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ .
فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ فِيمَا حَظَرَهُ عَلَيْنَا
كَنِعْمَتِهِ فِيمَا أَبَاحَهُ لَنَا ، وَتَفَضُّلُهُ فِيمَا كَفَّنَا عَنْهُ
كَتَفَضُّلِهِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ
.
فَهَلْ يَجِدُ الْعَاقِلُ فِي رَوِيَّتِهِ مَسَاغًا أَنْ
يُقَصِّرَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ نِعْمَةُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَرَى فُسْحَةً فِي
ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَكُونُ
مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَأَهْمَلَهَا ، مَعَ شِدَّةِ فَاقَتِهِ
إلَيْهَا ، إلَّا مَذْمُومًا فِي الْعَقْلِ مَعَ مَا جَاءَ مِنْ وَعِيدِ الشَّرْعِ
؟ ثُمَّ مِنْ لُطْفِهِ
بِخَلْقِهِ
وَتَفَضُّلِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ كُلِّ فَرِيضَةٍ
نَفْلًا ، وَحَمَلَ لَهَا مِنْ الثَّوَابِ قِسْطًا ، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهِ نَدْبًا
، وَجَعَلَ لَهُمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا لِيُضَاعِفَ ثَوَابَ فَاعِلِهِ ، وَيَضَعَ
الْعِقَابَ عَنْ تَارِكِهِ .
وَمِنْ لَطِيفِ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ
عِبَادَةٍ حَالَتَيْنِ : حَالَةُ كَمَالٍ وَحَالَةُ جَوَازٍ ، رِفْقًا مِنْهُ
بِخَلْقِهِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ فِيهِمْ الْعَجِلَ الْمُبَادِرَ
وَالْبَطِيءَ الْمُتَثَاقِلَ ، وَمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى أَدَاءِ الْأَكْمَلِ لِيَكُونَ
مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ هَيْئَاتِ عِبَادَتِهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ ، وَلَا
مَانِعٍ مِنْ أَجْرٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْنَا وَحُسْنِ نَظَرِهِ
إلَيْنَا .
وَكَانَ أَوَّلُ مَا فَرَضَ بَعْدَ تَصْدِيقِ نَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ ، وَقَدْ قَدَّمَهَا
عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ عَلَى الْأَمْوَالِ
أَشَحُّ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ أَسْمَحُ ، وَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ .
فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ أَسْهَلُ فِعْلًا ، وَأَيْسَرُ عَمَلًا ، وَجَعَلَهَا مُشْتَمِلَةً
عَلَى خُضُوعٍ لَهُ وَابْتِهَالٍ إلَيْهِ .
فَالْخُضُوعُ لَهُ رَهْبَةٌ مِنْهُ ، وَالِابْتِهَالُ
إلَيْهِ رَغْبَةٌ فِيهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى صَلَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ
فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ
} .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ اصْفَرَّ لَوْنُهُ
مَرَّةً وَاحْمَرَّ أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَتَتْنِي
الْأَمَانَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلْتهَا أَنَا فَلَا
أَدْرِي أَأُسِيءُ فِيهَا أَمْ أُحْسِنُ .
ثُمَّ جَعَلَ لَهَا شُرُوطًا لَازِمَةً مِنْ رَفْعِ
حَدَثٍ ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ ؛ لِيَسْتَدِيمَ النَّظَافَةَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ، وَالطَّهَارَةَ
لِأَدَاءِ فَرْضِهِ .
ثُمَّ
ضَمَّنَهَا تِلَاوَةَ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ لِيَتَدَبَّرَ مَا فِيهِ ، مِنْ أَوَامِرِهِ
وَنَوَاهِيهِ ، وَيَعْتَبِرَ إعْجَازَ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ .
ثُمَّ عَلَّقَهَا بِأَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ ، وَأَزْمَانٍ مُتَرَادِفَةٍ
؛ لِيَكُونَ تَرَادُفُ أَزْمَانِهَا وَتَتَابُعُ أَوْقَاتِهَا سَبَبًا لِاسْتِدَامَةِ
الْخُضُوعِ لَهُ وَالِابْتِهَالِ إلَيْهِ ، فَلَا تَنْقَطِعُ الرَّهْبَةُ مِنْهُ
وَلَا الرَّغْبَةُ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ
اسْتَدَامَ صَلَاحُ الْخَلْقِ .
وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ يَكُونُ
اسْتِيفَاؤُهَا عَلَى الْكَمَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ فِيهَا حَالَ الْجَوَازِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ مِكْيَالٌ فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ
فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي الْمُطَفِّفِينَ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ كَانَتْ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَعَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنَ } .
وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الْفُصَحَاءِ فِي ذَلِكَ :
أَقْبِلْ عَلَى صَلَوَاتِك الْخَمْسِ كَمْ مُصْبِحٍ وَعَسَاهُ لَا يُمْسِي وَاسْتَقْبِلْ
الْيَوْمَ الْجَدِيدَ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو ذُنُوبَ صَبِيحَةِ الْأَمْسِ
فَلَيَفْعَلَنَّ بِوَجْهِك الْغَضِّ الْبِلَى فِعْلَ الظَّلَامِ بِصُورَةِ
الشَّمْسِ ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ وَقَدَّمَهُ عَلَى زَكَاةِ
الْأَمْوَالِ لِتَعَلُّقِ الصِّيَامِ بِالْأَبْدَانِ .
وَكَانَ فِي إيجَابِهِ حَثٌّ عَلَى رَحْمَةِ الْفُقَرَاءِ
وَإِطْعَامِهِمْ وَسَدِّ جَوْعَاتِهِمْ لِمَا عَايَنُوهُ مِنْ شِدَّةِ
الْمَجَاعَةِ فِي صَوْمِهِمْ .
وَقَدْ قِيلَ لِيُوسُفَ - عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَتَجُوعُ وَأَنْتَ عَلَى خَزَائِنِ
الْأَرْضِ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجَائِعَ .
ثُمَّ لِمَا فِي الصَّوْمِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَإِذْلَالِهَا
وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَيْهَا وَإِشْعَارِ النَّفْسِ مَا هِيَ
عَلَيْهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى يَسِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ .
وَالْمُحْتَاجُ إلَى الشَّيْءِ ذَلِيلٌ بِهِ .
وَبِهَذَا احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى -
عَلَى مَنْ
اتَّخَذَ عِيسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِهِ ،
فَقَالَ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } .
فَجَعَلَ احْتِيَاجَهُمَا إلَى الطَّعَامِ نَقْصًا
فِيهِمَا عَنْ أَنْ يَكُونَا إلَهَيْنِ
.
وَقَدْ وَصَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ نَقْصَ
الْإِنْسَانِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَقَالَ : مِسْكِينُ ابْنُ آدَمَ
مَحْتُومُ الْأَجَلِ ، مَكْتُومُ الْأَمَلِ ، مَسْتُورُ الْعِلَلِ .
يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَيَنْظُرُ بِشَحْمٍ ، وَيَسْمَعُ
بِعَظْمٍ .
أَسِيرُ جُوعِهِ ، صَرِيعُ شِبَعِهِ تُؤْذِيهِ
الْبَقَّةُ ، وَتُنْتِنُهُ الْعَرَقَةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ .
لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ، وَلَا نَفْعًا وَلَا
مَوْتًا ، وَلَا حَيَاةً ، وَلَا نُشُورًا .
فَانْظُرْ إلَى لُطْفِهِ بِنَا ، فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ
الصِّيَامِ عَلَيْنَا .
كَيْفَ أَيْقَظَ الْعُقُولَ لَهُ ، وَقَدْ كَانَتْ
عَنْهُ غَافِلَةً أَوْ مُتَغَافِلَةً
.
وَنَفَعَ النُّفُوسَ بِهِ وَلَمْ تَكُنْ مُنْتَفِعَةً
وَلَا نَافِعَةً .
ثُمَّ فَرَضَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَقَدَّمَهَا عَلَى
فَرْضِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ مَعَ إنْفَاقِ الْمَالِ سَفَرًا شَاقًّا ،
فَكَانَتْ النَّفْسُ إلَى الزَّكَاةِ أَسْرَعَ إجَابَةً مِنْهَا إلَى الْحَجِّ ، فَكَانَ
فِي إيجَابِهَا مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ ، وَمَعُونَةً لِذَوِي الْحَاجَاتِ ،
تَكُفُّهُمْ عَنْ الْبَغْضَاءِ وَتَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّقَاطُعِ وَتَبْعَثُهُمْ
عَلَى التَّوَاصُلِ ؛ لِأَنَّ الْآمِلَ وَصُولٌ وَالرَّاجِيَ هَائِبٌ ، وَإِذَا
زَالَ الْأَمَلُ وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ وَاشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ وَقَعَتْ
الْبَغْضَاءُ وَاشْتَدَّ الْحَسَدُ فَحَدَثَ التَّقَاطُعُ بَيْنَ أَرْبَابِ
الْأَمْوَالِ وَالْفُقَهَاءِ ، وَوَقَعَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْأَغْنِيَاءِ
، حَتَّى تُفْضِيَ إلَى التَّغَالُبِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالتَّغْرِيرِ
بِالنُّفُوسِ .
هَذَا مَعَ مَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ تَمْرِينِ
النَّفْسِ عَلَى السَّمَاحَةِ الْمَحْمُودَةِ وَمُجَانَبَةِ الشُّحِّ الْمَذْمُومِ
؛ لِأَنَّ السَّمَاحَةَ تَبْعَثُ عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ
وَالشُّحَّ
يَصُدُّ عَنْهَا .
وَمَا يَبْعَثُ عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ فَأَجْدَرُ
بِهِ حَمْدًا ، وَمَا صَدَّ عَنْهَا فَأَخْلِقْ بِهِ ذَمًّا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { شَرُّ مَا أُعْطِيَ
الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ } .
فَسُبْحَانَ مَنْ دَبَّرَنَا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ ،
وَأَخْفَى عَنْ فِطْنَتِنَا جَزِيلَ نِعْمَتِهِ ، حَتَّى اسْتَوْجَبَ مِنْ
الشُّكْرِ بِإِخْفَائِهَا أَعْظَمَ مِمَّا اسْتَوْجَبَهُ بِإِبْدَائِهَا .
ثُمَّ فَرَضَ الْحَجَّ فَكَانَ آخِرَ فُرُوضِهِ ؛
لِأَنَّهُ يَجْمَعُ عَمَلًا عَلَى بَدَنٍ وَحَقًّا فِي مَالٍ .
فَجَعَلَ فَرْضَهُ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ فُرُوضِ
الْأَبْدَانِ وَفُرُوضِ الْأَمْوَالِ ؛ لِيَكُونَ اسْتِئْنَاسَهُمْ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ ذَرِيعَةً إلَى تَسْهِيلِ مَا جَمَعَ بَيْنَ
النَّوْعَيْنِ .
فَكَانَ فِي إيجَابِهِ تَذْكِيرٌ لِيَوْمِ الْحَشْرِ
بِمُفَارَقَةِ الْمَالِ وَالْأَهْلِ ، وَخُضُوعِ الْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ فِي
الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَاجْتِمَاعِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي
الرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ ، وَإِقْلَاعِ أَهْلِ الْمَعَاصِي
عَمَّا اجْتَرَحُوهُ ، وَنَدَمِ الْمُذْنِبِينَ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ ، فَقَلَّ مَنْ
حَجَّ إلَّا وَأَحْدَثَ تَوْبَةً مِنْ ذَنْبٍ وَإِقْلَاعًا مِنْ مَعْصِيَةٍ ،
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِنْ
عَلَامَةِ الْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا بَعْدَهَا خَيْرًا
مِنْهُ قَبْلَهَا } .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ النَّدَمَ عَلَى الذُّنُوبِ
مَانِعٌ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا ، وَالتَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ لِمَا سَلَفَ
مِنْهَا .
فَإِذَا كَفَّ عَمَّا كَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَنْبَأَ
عَنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ، وَصِحَّةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي قَبُولَ حَجَّتِهِ .
ثُمَّ نَبَّهَ بِمَا يُعَانِي فِيهِ مِنْ مَشَاقِّ
السَّفَرِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ عَلَى مَوْضِعِ النِّعْمَةِ بِرَفَاهَةِ
الْإِقَامَةِ وَأَنَسَةِ الْأَوْطَانِ لِيَحْنُوَ عَلَى مِنْ سُلِبَ هَذِهِ
النِّعْمَةَ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ
.
ثُمَّ أَعْلَمَ بِمُشَاهَدَةِ حَرَمِهِ الَّذِي أَنْشَأَ
مِنْهُ دِينَهُ
، وَبَعَثَ فِيهِ رَسُولَهُ .
ثُمَّ بِمُشَاهَدَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ
اللَّهُ بِهَا أَهْلَ طَاعَتِهِ ، وَأَذَلَّ بِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ ، حَتَّى خَضَعَ لَهُ عُظَمَاءُ
الْمُتَجَبِّرِينَ ، وَتَذَلَّلَ لَهُ زُعَمَاءُ الْمُتَكَبِّرِينَ .
إنَّهُ لَمْ يَنْتَشِرْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُنْقَطِعِ
، وَلَا قَوِيَ بَعْدَ الضَّعْفِ الْبَيِّنِ حَتَّى طَبَّقَ الْأَرْضَ شَرْقًا
وَغَرْبًا إلَّا بِمُعْجِزَةٍ ظَاهِرَةٍ وَنَصْرٍ عَزِيزٍ .
فَاعْتَبِرْ - أَلْهَمَك اللَّهُ الشُّكْرَ وَوَفَّقَك لِلتَّقْوَى
- إنْعَامَهُ عَلَيْك فِيمَا كَلَّفَك ، وَإِحْسَانَهُ إلَيْك فِيمَا تَعَبَّدَك .
فَقَدْ وَكَّلْتُك إلَى فِطْنَتِك وَأَحَلْتُك عَلَى
بَصِيرَتِك بَعْدَ أَنْ كُنْتُ لَك رَائِدًا صَدُوقًا ، وَنَاصِحًا شَفُوقًا هَلْ
تُحْسِنُ نُهُوضًا بِشُكْرِهِ إذَا فَعَلْت مَا أَمَرَك ، وَتَقَبَّلْت مَا
كَلَّفَك ؟ كَلًّا إنَّهُ لَا يُوَلِّيك نِعْمَةً تُوجِبُ الشُّكْرَ إذَا
وَصَلَهَا قَبْلَ شُكْرِ مَا سَلَفَ بِنِعْمَةٍ تُوجِبُ الشُّكْرَ فِي
الْمُؤْتَنَفِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ : نِعَمُ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُشْكَرَ إلَّا مَا أَعَانَ عَلَيْهِ ، وَذُنُوبُ ابْنِ آدَمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُغْفَرَ إلَّا مَا عَفَا عَنْهُ
.
وَأَنْشَدْت لِمَنْصُورِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْفَقِيهِ الْمِصْرِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : شُكْرُ الْإِلَهِ نِعْمَةٌ مُوجِبَةٌ لِشُكْرِهِ
فَكَيْفَ شُكْرِي بِرَّهُ وَشُكْرُهُ مِنْ بِرِّهِ وَإِذَا كُنْت عَنْ شُكْرِ
نِعَمِهِ عَاجِزًا فَكَيْفَ بِك إذَا قَصَّرَتْ فِيمَا أَمَرَك ، أَوْ فَرَّطْت
فِيمَا كَلَّفَك ، وَنَفْعُهُ أَعْوَدُ عَلَيْك لَوْ فَعَلْته .
هَلْ تَكُونُ لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ إلَّا كَفُورًا ،
وَبِبِدَايَةِ الْعُقُولِ إلَّا مَزْجُورًا ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } قَالَ مُجَاهِدٌ : أَيْ يَعْرِفُونَ
مَا عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ وَيُنْكِرُونَهَا بِقَوْلِهِمْ
أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ آبَائِهِمْ وَاكْتَسَبُوهَا بِأَفْعَالِهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ يَا
ابْنَ
آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي أَتَحَبَّبُ إلَيْك بِالنِّعَمِ وَتَتَمَقَّتُ إلَيَّ
بِالْمَعَاصِي .
خَيْرِي إلَيْك نَازِلٌ وَشَرُّك إلَيَّ صَاعِدٌ كَمْ
مِنْ مَلَكٍ كَرِيمٍ يَصْعَدُ إلَيَّ مِنْك بِعَمَلٍ قَبِيحٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ صُلَحَاءِ السَّلَفِ : قَدْ أَصْبَحَ
بِنَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا نُحْصِيهِ ، مَعَ كَثْرَةِ مَا
نَعْصِيهِ ، فَلَا نَدْرِي أَيَّهُمَا نَشْكُرُ ، أَجَمِيلَ مَا يَنْشُرُ ، أَمْ
قَبِيحَ مَا يَسْتُرُ .
فَحَقَّ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ أَنْ يَقْبَلَهَا
مُمْتَثِلًا لِمَا كُلِّفَ مِنْهَا وَقَبُولُهَا يَكُونُ بِأَدَائِهَا ، ثُمَّ
يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ مِنْ إسْدَائِهَا .
فَإِنَّ بِنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى نِعَمِهِ أَكْثَرَ
مِمَّا كَلَّفَنَا مِنْ شُكْرِ نِعَمِهِ .
فَإِنْ نَحْنُ أَدَّيْنَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِي
التَّكْلِيفِ تَفَضَّلَ بِإِسْدَاءِ النِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ التَّكْلِيفِ
، فَلَزِمَتْ النِّعْمَتَانِ وَمَنْ لَزِمَتْهُ النِّعْمَتَانِ فَقَدْ أُوتِيَ حَظَّ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَهَذَا هُوَ السَّعِيدُ بِالْإِطْلَاقِ .
وَإِنْ قَصَّرْنَا فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفْنَا مِنْ
شُكْرِهِ قَصَرَ عَنَّا مَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ مِنْ نِعَمِهِ ، فَنَفَرَتْ
النِّعْمَتَانِ وَمَنْ نَفَرَتْ عَنْهُ النِّعْمَتَانِ فَقَدْ سُلِبَ حَظَّ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَيَاةِ حَظٌّ وَلَا فِي الْمَوْتِ
رَاحَةٌ ، وَهَذَا هُوَ الشَّقِيُّ بِالِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَيْسَ يَخْتَارُ الشِّقْوَةَ عَلَى السَّعَادَةِ ذُو
لُبٍّ صَحِيحٍ وَلَا عَقْلٍ سَلِيمٍ
.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ } .
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ سُلَيْمٌ قَالَ ، قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّ
هَذِهِ الْآيَةِ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } .
فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّ الْمُصِيبَةَ فِي
الدُّنْيَا جَزَاءٌ } .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله
تَعَالَى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
} .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَحَدُ الْعَذَابَيْنِ
الْفَضِيحَةُ فِي الدُّنْيَا ،
وَالثَّانِي
عَذَابُ الْقَبْرِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ : أَحَدُ
الْعَذَابَيْنِ مَصَائِبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ،
وَالثَّانِي عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي النَّارِ .
وَلَيْسَ وَإِنْ نَالَ أَهْلُ الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ
عَيْشٍ أَوْ أَدْرَكُوا أُمْنِيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً ،
بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً .
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمِ
بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إذَا رَأَيْت اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَادَ مَا يَشَاؤُنِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ
إيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ ثُمَّ تَلَا : { فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } .
}
فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ
الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ ، عَقْلًا أَوْ
شَرْعًا ، بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ .
مِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ دَاعِيَةً إلَيْهَا ، وَالشَّهَوَاتُ
بَاعِثَةً عَلَيْهَا ، كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ
عَنْهَا ؛ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا ، وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إلَيْهَا
بِنَوْعَيْنِ مِنْ الزَّجْرِ : أَحَدُهُمَا : حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ
الْجَرِيءُ .
وَالثَّانِي : وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ .
وَمِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا ،
وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا ، كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذِرَات
وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ ، فَاقْتَصَرَ اللَّهُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا
بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مُسْتَعِدَّةٌ فِي الزَّجْرِ
عَنْهَا ، وَمَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا .
ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ زَوَاجِرَهُ بِإِنْكَارِ
الْمُنْكِرِينَ لَهَا فَأَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ
الْمُنْكَرِ لِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ تَأْكِيدًا لِأَوَامِرِهِ ،
وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ تَأْيِيدًا لِزَوَاجِرِهِ .
لِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَشِرَةَ قَدْ أَلْهَتْهَا الصَّبْوَةُ
عَنْ اتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ ، وَأَذْهَلَتْهَا الشَّهْوَةُ عَنْ تِذْكَارِ
الزَّوَاجِرِ .
وَكَانَ إنْكَارُ الْمُجَالِسِينَ أَزْجَرَ لَهَا ،
وَتَوْبِيخُ الْمُخَاطَبِينَ أَبْلَغَ فِيهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا أَقَرَّ قَوْمٌ الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا
عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مُحْتَضَرٍ } .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ فَاعِلِي
الْمُنْكَرِ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا آحَادًا
مُتَفَرِّقِينَ ، وَأَفْرَادًا مُتَبَدِّدِينَ ، لَمْ يَتَحَزَّبُوا فِيهِ ،
وَلَمْ يَتَضَافَرُوا عَلَيْهِ ، وَهُمْ رَعِيَّةٌ مَقْهُورُونَ ، وَأَفْذَاذٌ
مُسْتَضْعَفُونَ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهْيَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ ، مَعَ الْمُكْنَةِ وَظُهُورِ الْقُدْرَةِ وَاجِبٌ
عَلَى مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ
مِنْ
فَاعِلِيهِ ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ قَائِلِيهِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى
مُنْكِرِيهِ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ .
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ
بِالْعَقْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِالْعَقْلِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ
الْقَبِيحِ ، وَوَجَبَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى مُجَانَبَتِهِ ، وَأَبْلَغُ فِي مُفَارَقَتِهِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ قَوْمًا رَكِبُوا سَفِينَةً فَاقْتَسَمُوا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعًا
، فَنَقَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَوْضِعًا بِفَأْسٍ .
فَقَالُوا : مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : هُوَ مَكَانِي
أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْت .
فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ فَهَلَكَ وَهَلَكُوا } .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ
دُونَ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ ،
وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الْقَبِيحِ ، لَوَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ،
وَلَمَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِقْرَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْكُفْرِ ،
وَتَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ ، ؛ لِأَنَّ وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ
إبْطَالُهَا بِالشَّرْعِ ، وَفِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْعَقْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِإِنْكَارِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَرْكِ إنْكَارِهِ مَضَرَّةٌ
لَاحِقَةٌ بِمُنْكِرِهِ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِالْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا .
وَأَمَّا إنْ لَحِقَ الْمُنْكِرَ مَضَرَّةٌ مِنْ
إنْكَارِهِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ مِنْ كَفِّهِ وَإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
الْإِنْكَارُ بِالْعَقْلِ وَلَا بِالشَّرْعِ .
أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ اجْتِلَابِ
الْمَضَارِّ الَّتِي لَا يُوَازِيهَا نَفْعٌ .
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنْكِرْ الْمُنْكَرَ بِيَدِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِك ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِك ، وَذَلِكَ
أَضْعَفُ
الْإِيمَانِ } .
فَإِنْ أَرَادَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَعَ
لُحُوقِ الْمَضَرَّةِ بِهِ نَظَرَ
.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إظْهَارُ النَّكِيرِ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ ، وَلَا إظْهَارِ كَلِمَةِ الْحَقِّ ، لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ النَّكِيرُ إذَا خَشِيَ ، بِغَالِبِ الظَّنِّ ، تَلَفًا أَوْ
ضَرَرًا ، وَلَمْ يُخْشَ مِنْهُ النَّكِيرُ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَ فِي إظْهَارِ النَّكِيرِ إعْزَازُ دِينِ
اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ الْحَقِّ ، حَسُنَ مِنْهُ النَّكِيرُ
مَعَ خَشْيَةِ الْإِضْرَارِ وَالتَّلَفِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، إذَا
كَانَ الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالنَّكِيرِ وَإِنْ انْتَصَرَ أَوْ قُتِلَ .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ
سُلْطَانٍ جَائِرٍ } .
فَأَمَّا إذَا كَانَ يُقْتَلُ قَبْلَ حُصُولِ الْغَرَضِ
قَبُحَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِنْكَارِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنْكَارُ
يَزِيدُ الْمُنْهَى إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمُنْكَرِ ، وَلَجَاجًا فِي الْإِكْثَارِ
مِنْهُ ، قَبُحَ فِي الْعَقْلِ إنْكَارُهُ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ فِعْلُ
الْمُنْكَرِ مِنْ جَمَاعَةٍ قَدْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ ، وَعُصْبَةٍ قَدْ
تَحَزَّبَتْ وَدَعَتْ إلَيْهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ إنْكَارِهِ عَلَى
مَذَاهِبَ شَتَّى فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ
الْآثَارِ : لَا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ
كَافًّا ، مُمْسِكًا ، وَمُلَازِمًا لِبَيْتِهِ ، وَادِعًا غَيْرَ مُنْكِرٍ وَلَا مُسْتَفَزٍّ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِمَّنْ يَقُولُ بِظُهُورِ الْمُنْتَظَرِ
: لَا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَلَا التَّعَرُّضُ لِإِزَالَتِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ
الْمُنْتَظَرُ فَيَتَوَلَّى إنْكَارَهُ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُوا أَعْوَانَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ، مِنْهُمْ الْأَصَمُّ :
لَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ إنْكَارُهُ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى إمَامٍ عَدْلٍ ،
فَيَجِبَ عَلَيْهِمْ الْإِنْكَارُ مَعَهُ .
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ : إنْكَارُ ذَلِكَ
وَاجِبٌ ، وَالدَّفْعُ عَنْهُ لَازِمٌ
عَلَى
شُرُوطِهِ فِي وُجُودِ أَعْوَانٍ يَصْلُحُونَ لَهُ .
فَأَمَّا مَعَ فَقْدِ الْأَعْوَانِ فَعَلَى الْإِنْسَانِ
الْكَفُّ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَرَضِ ، وَذَلِكَ
قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ .
فَهَذَا مَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَوَامِرَهُ
وَأَيَّدَ بِهِ زَوَاجِرَهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ
الْمُنْكَرِ ، وَمَا يَخْتَلِفُ مِنْ أَحْوَالِ الْآمِرِينَ بِهِ وَالنَّاهِينَ
عَنْهُ .
ثُمَّ لَيْسَ
يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ ، مِنْ فِعْلِ
الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي ، مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : فَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ
الْمَعَاصِي .
وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ ،
وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ
.
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ ، وَثَوَابَ
الْمُطِيعِينَ .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدَائِنِيُّ .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالْبِرُّ لَا يَبْلَى ، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ ،
فَكُنْ كَمَا شِئْت ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ } .
وَقَدْ قِيلَ : كُلٌّ يَحْصُدُ مَا يَزْرَعُ ، وَيُجْزَى
بِمَا يَصْنَعُ .
بَلْ قَالُوا : زَرْعُ يَوْمِك حَصَادُ غَدِك .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ
وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ
الْمُكَلَّفِينَ .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ فِعْلِ مَا
أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ
عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي
مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي
مَخَافَةَ النَّارِ .
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : جِسْمُك
قَدْ أَفْنَيْته بِالْحِمَى دَهْرًا مِنْ الْبَارِدِ وَالْحَارِّ وَكَانَ أَوْلَى
بِك أَنْ تَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ وَقَالَ ابْنُ صَبَاوَةَ :
إنَّا نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنَ
مِنْ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ
لَا غِنَى بِكُمْ عَنْ ثَوَابِهِ ، وَاصْبِرُوا عَنْ عَمَلٍ لَا صَبْرَ لَكُمْ
عَلَى عِقَابِهِ .
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْك
.
فَقَالَ : كَيْفَ يَرْضَى عَنِّي وَلَمْ أُرْضِهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ
الْمَعَاصِي .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ ؛ لِأَنَّهُ
تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ،
وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْلِعُوا عَنْ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ
يَأْخُذَكُمْ اللَّهُ هَتًّا بَتًّا } : الْهَتُّ الْكَسْرُ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَفْضَلُ
النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ ، وَلَمْ تَتْرُكْ الشُّبْهَةُ
يَقِينَهُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : عَجِبْت لِمَنْ
يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ
الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : أَهْلُ الذُّنُوبِ
مَرْضَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا
أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : قَلْبٌ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ
عَصَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَلِبَّاءِ : يُدِلُّ بِالطَّاعَةِ
الْعَاصِي وَيَنْسَى عَظِيمَ الْمَعَاصِي .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْعَمَلِ ، أَوْ
رَجُلٌ كَثِيرُ الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْعَمَلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا تَقُولُ فِي صَلَاةِ
اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ : خَفْ اللَّهَ بِالنَّهَارِ وَنَمْ بِاللَّيْلِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الزُّهَّادِ رَجُلًا يَقُولُ لِقَوْمٍ :
أَهْلَكَكُمْ النَّوْمُ .
فَقَالَ : بَلْ أَهْلَكَتْكُمْ الْيَقِظَةُ .
وَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا
التَّقْوَى ؟ فَقَالَ : أَجَزْتَ فِي أَرْضٍ فِيهَا شَوْكٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ : كَيْفَ كُنْتَ تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : كُنْتُ
أَتَوَقَّى .
قَالَ : فَتَوَقَّ الْخَطَايَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : أَيَضْمَنُ
لِي فَتًى تَرْكَ الْمَعَاصِي وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلَاصِ أَطَاعَ
اللَّهَ قَوْمٌ وَاسْتَرَاحُوا وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ
الْمَعَاصِي
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ دِينِهِ ، الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ
يَقِينِهِ .
وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - كُلُّهَا عِبَرًا .
عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ ،
وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ يَتْعَبُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى
الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا ، وَعَجِبْت
لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ
بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ
} .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ بِكُمْ ضَعْفٌ
فَكُفُّوا عَنْ الْمَعَاصِي } .
وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي
تَرْكٌ وَهُوَ أَسْهَلُ ، وَعَمَلَ الطَّاعَاتِ فِعْلٌ وَهُوَ أَثْقَلُ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ
بِعُذْرٍ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَالتَّرْكُ لَا يَعْجَزُ
الْمَعْذُورُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ تَرْكَ الْأَعْمَالِ بِالْأَعْذَارِ ؛
لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : رَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً كَانَ قَوِيًّا فَأَعْمَلَ قُوَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
كَانَ ضَعِيفًا فَكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الشَّامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوبُ تَزِيدُ
وَتُقَالُ عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ
رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي
تَقْلِيلَهَا وَعَنْ الْمَمَاتِ يَحِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ
وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي آفَتَيْنِ
: إحْدَاهُمَا تُكْسِبُ الْوِزْرَ وَالْأُخْرَى تُوهِنُ
الْأَجْرَ .
فَأَمَّا الْمُكْسِبَةُ لِلْوِزْرِ
فَإِعْجَابٌ
بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَابَ
بِهِ يُفْضِي إلَى حَالَتَيْنِ مَذْمُومَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْمُعْجَبَ
بِعَمَلِهِ مُمْتَنٌّ بِهِ وَالْمُمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَاحِدٌ
لِنِعَمِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ : أَمَّا زُهْدُك فِي
الدُّنْيَا فَقَدْ اسْتَعْجَلْت بِهِ الرَّاحَةَ ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ
فَهُوَ عِزٌّ لَك ، فَهَذَانِ لَك وَبَقِيَتْ أَنَا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُدِلٌّ
بِهِ وَالْمُدِلُّ بِعَمَلِهِ مُجْتَرِئٌ ، وَالْمُجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ عَاصٍ .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : خَيْرٌ مِنْ الْعُجْبِ
بِالطَّاعَةِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِطَاعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ
، خَيْرٌ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ ، وَبَاكٍ نَادِمٌ عَلَى ذَنْبِهِ
خَيْرٌ مِنْ ضَاحِكٍ مُعْتَرِفٍ بِلَهْوِهِ .
وَأَمَّا الْمُوهِنَةُ لِلْأَجْرِ فَالثِّقَةُ بِمَا
أَسْلَفَ وَالرُّكُونُ إلَى مَا قَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ تَئُولُ إلَى أَمْرَيْنِ
شَيْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُحْدِثُ اتِّكَالًا عَلَى مَا مَضَى وَتَقْصِيرًا
فِيمَا يُسْتَقْبَلُ .
وَمَنْ قَصَّرَ وَاتَّكَلَ لَمْ يَرْجُ أَجْرًا وَلَمْ
يُؤَدِّ شُكْرًا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاثِقَ آمِنٌ .
وَالْآمِنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ ،
وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ أَوَامِرُهُ ، وَسَهُلَتْ
عَلَيْهِ زَوَاجِرُهُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : رَهْبَةُ الْمَرْءِ
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : لَأَنْ أَبِيتَ
نَائِمًا وَأُصْبِحَ نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا
وَأُصْبِحَ نَاعِمًا .
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ : مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ لَا
يَكُونَ فِيك خَيْرٌ إلَّا أَنْ تَرَى أَنَّ فِيك خَيْرًا .
وَقِيلَ لِرَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ - رَحِمَهَا اللَّهُ
- : هَلْ عَمِلْت عَمَلًا قَطُّ تَرَيْنَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ : إنْ
كَانَ شَيْءٌ فَخَوْفِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ -
رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ - : إنَّا لِلَّهِ فِيمَا مَضَى مَا أَعْظَمَ فِيهِ الْخَطَرُ ، وَإِنَّا
لِلَّهِ فِيمَا بَقِيَ مَا أَقَلَّ مِنْهُ الْحَذَرُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ وَقَفَ عَلَى جَمْعٍ
فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : اسْتَكْثِرُوا
مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ ، وَيَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ
لَكُمْ أَقُولُ : أَقِلُّوا مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِكُمْ قَلِيلَةٌ .
فَيَنْبَغِي - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك بِالتَّوْفِيقِ -
أَنْ لَا تُضَيِّعَ صِحَّةَ جِسْمِك وَفَرَاغَ وَقْتِك بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ
رَبِّك ، وَالثِّقَةِ بِسَالِفِ عَمَلِك .
فَاجْعَلْ الِاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِك ،
وَالْعَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِك ، فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا وَلَا
مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكًا ، وَلِلْفَرَاغِ زَيْغٌ أَوْ نَدَمٌ ، وَلِلْخَلْوَةِ مَيْلٌ
أَوْ أَسَفٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الرَّاحَةُ
لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ وَلِلنِّسَاءِ غُلْمَةٌ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ يَكُنْ الشُّغْلُ
مَجْهَدَةً ، فَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكُمْ وَالْخَلَوَاتِ
فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ ، وَتُعَقِّدُ الْمَحْلُولَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا تُمْضِ يَوْمَك فِي
غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ، وَلَا تُضِعْ مَالَك فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ .
فَالْعُمُرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ
الْمَنَافِعِ ، وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ .
وَالْعَاقِلُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفِنِي أَيَّامَهُ
فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ، وَيُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِيمَا
لَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وَأَجْرُهُ .
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : الْبِرُّ ثَلَاثَةٌ : الْمَنْطِقُ
وَالنَّظَرُ وَالصَّمْتُ .
فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغَا
، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا ، وَمَنْ كَانَ
صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا .
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا كُلِّفَ مِنْ عِبَادَاتِهِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ :
إحْدَاهَا أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ فِيهَا وَلَا زِيَادَةٍ
عَلَيْهَا .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا .
فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : فَهِيَ أَنْ يَأْتِيَ
بِهَا عَلَى حَالِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهَا ، وَلَا زِيَادَةِ
تَطَوُّعٍ عَلَى رَاتِبَتِهَا .
فَهِيَ أَوْسَطُ الْأَحْوَالِ وَأَعْدَلُهَا ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فَيُذَمُّ ، وَلَا تَكْثِيرٌ فَيَعْجَزُ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسُرُّوا وَاسْتَعِينُوا
بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : عَلَيْك بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ
فَإِنَّهَا نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبًا وَأَمَّا الْحَالُ
الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا .
فَلَا يَخْلُو حَالَ تَقْصِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَحْوَالٍ : إحْدَاهُنَّ : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَعْجَزَهُ عَنْهُ ، أَوْ مَرَضٍ
أَضْعَفَهُ عَنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ .
فَهَذَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْمُقَصِّرِينَ ،
وَيَلْحَقُ بِأَحْوَالِ الْعَامِلِينَ ، لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى سُقُوطِ
مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَجْزِ .
وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ عَامِلٍ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلًا
فَيَقْطَعُهُ عَنْهُ مَرَضٌ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ يَكْتُبُ
لَهُ ثَوَابَ عَمَلِهِ .
} وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ
فِيهِ اغْتِرَارًا بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ ، وَرَجَاءَ الْعَفْوِ عَنْهُ .
فَهَذَا مَخْدُوعُ الْعَقْلِ مَغْرُورٌ بِالْجَهْلِ ،
فَقَدْ جَعَلَ الظَّنَّ ذُخْرًا وَالرَّجَاءَ عُدَّةٌ .
فَهُوَ كَمَنْ قَطَعَ سَفَرًا بِغَيْرِ زَادٍ ظَنًّا
بِأَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي الْمَفَاوِزِ الْجَدْبَةِ فَيُفْضِي بِهِ الظَّنُّ إلَى
الْهَلَكَةِ ، وَهَلَّا كَانَ الْحَذَرُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى
إلَيْهِ
.
وَحُكِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي
قَالَ : لَقِيَنِي مَجْنُونٌ كَانَ فِي الْخَرَابَاتِ فَقَالَ : يَا إسْرَائِيلُ
خَفْ اللَّهَ خَوْفًا يَشْغَلُك عَنْ الرَّجَاءِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يَشْغَلُك
عَنْ الْخَوْفِ ، وَفِرَّ إلَى اللَّهِ وَلَا تَفِرَّ مِنْهُ .
وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
أَلَا تَبْكِي ؟ فَقَالَ : تِلْكَ حِلْيَةُ الْآمَنِينَ .
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ الْأَعْرَجَ أَخْبَرَ
سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوَعِيدِ اللَّهِ لِلْمُذْنِبَيْنِ ، فَقَالَ
سُلَيْمَانُ : أَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ ؟ قَالَ : قَرِيبٌ مِنْ
الْمُحْسِنِينَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : مَا انْتَفَعْت وَلَا اتَّعَظْت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ كِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ
دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ
لِيُدْرِكَهُ ، فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْته مِنْ دُنْيَاك فَرِحًا ، وَلَا لِمَا
فَاتَك مِنْهَا تَرِحًا ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ
عَمَلٍ ، وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ ، فَكَأَنْ قَدْ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
أَخَافُ عَلَى الْمُحْسِنِ الْمُتَّقِي وَأَرْجُو لِذِي الْهَفَوَاتِ اُلْمُسِي
فَذَلِكَ خَوْفِي عَلَى مُحْسِنٍ فَكَيْفَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلَى
أَنَّ ذَا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَفِيقُ وَيَسْتَأْنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِيّ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ لِيَسْتَوْفِيَ مَا أَخَلَّ
بِهِ مِنْ بَعْدُ فَيَبْدَأُ بِالسَّيِّئَةِ فِي التَّقْصِيرِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ
فِي الِاسْتِيفَاءِ اغْتِرَارًا بِالْأَمَلِ فِي إمْهَالِهِ ، وَرَجَاءً
لِتَلَافِي مَا أَسْلَفَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَإِخْلَالِهِ ، فَلَا يَنْتَهِي بِهِ
الْأَمَلُ إلَى غَايَةٍ ، وَلَا يُفْضِي بِهِ إلَى نِهَايَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ
هُوَ فِي ثَانِي حَالٍ ، كَهُوَ فِي أَوَّلِ حَالٍ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يُؤَمِّلُ
أَنْ
يَعِيشَ غَدًا ، فَإِنَّهُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَدًا } .
وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ
يَوْمٍ غَدًا .
فَإِذًا يُفْضِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى الْفَوْتِ مِنْ
غَيْرِ دَرَكٍ ، وَيُؤَدِّيهِ الرَّجَاءُ إلَى الْإِهْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَلَافٍ ،
فَيَصِيرُ الْأَمَلُ خَيْبَةً وَالرَّجَاءُ إيَاسًا .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ
صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ ، وَفَسَادُهَا بِالْبُخْلِ
وَالْأَمَلِ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا
أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ ، إلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ بِالْبَصْرَةِ :
أَلَكَ حَاجَةٌ بِبَغْدَادَ ؟ قَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ أَبْسُطَ أَمَلِي إلَى
أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَغْدَادَ وَتَجِيءَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ
عَلَى أَمَلِهِ ، وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ
غَرَّ مَنْ رَآهُ ، وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ : دَخَلْت عَلَى
الْمَأْمُونِ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ وَزِيرَهُ فَرَأَيْته قَائِمًا وَبِيَدِهِ
رُقْعَةٌ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَقْرَأْت مَا فِيهَا ؟ فَقُلْت : هِيَ فِي يَدِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَرَمَى بِهَا إلَيَّ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ : إنَّك فِي دَارٍ
لَهَا مُدَّةٌ يُقْبَلُ فِيهَا عَمَلُ الْعَامِلِ أَمَا تَرَى الْمَوْتَ مُحِيطًا
بِهَا قَطَعَ فِيهَا أَمَلَ الْآمِلِ تَعْجَلُ بِالذَّنْبِ لِمَا تَشْتَهِي
وَتَأْمُلُ التَّوْبَةَ مِنْ قَابِلِ وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْدَ ذَا بَغْتَةً مَا
ذَاكَ فِعْلُ الْحَازِمِ الْعَاقِلِ فَلَمَّا قَرَأْتهَا قَالَ الْمَأْمُونُ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا مِنْ أَحْكَمِ شَعْرٍ قَرَأْته .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ : نَحْنُ لَا نُرِيدُ
أَنْ نَمُوتَ حَتَّى نَتُوبَ ، وَنَحْنُ لَا نَتُوبُ حَتَّى نَمُوتَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : زَائِدُ الْإِمْهَالِ رَائِدُ
الْإِهْمَالِ .
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ
فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِيفَاءِ ، وَزُهْدًا فِي التَّمَامِ ،
وَاقْتِصَارًا
عَلَى مَا سَنَحَ ، وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ فِيمَا بَقِيَ .
فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ
يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ وَقَصَّرَ فِيهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ ، وَلَا
مَانِعٍ مِنْ عِبَادَةٍ ، كَمَنْ اقْتَصَرَ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى فِعْلِ وَاجِبَاتِهَا
، وَعَمَلِ مُفْتَرَضَاتِهَا ، وَأَخَلَّ بِمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا .
فَهَذَا مُسِيءٌ فِيمَا تَرَكَ إسَاءَةَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ
وَعِيدًا وَلَا يَسْتَوْجِبُ عِتَابًا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ يُسْقِطُ
عَنْهُ الْعِقَابَ ، وَإِخْلَالَهُ بِالْمَسْنُونِ يَمْنَعُ مِنْ إكْمَالِ
الثَّوَابِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ تَهَاوَنَ بِالدِّينِ
هَانَ ، وَمَنْ غَالَبَ الْحَقَّ لَانَ
.
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَصُونُ تَوْبَتَهُ وَيَتْرُكُ
غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَصُونُهْ وَأَحَقُّ مَا صَانَ الْفَتَى وَرَعَى أَمَانَتُهُ
وَدِينُهْ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ
، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُ مَا بَقِيَ فِيمَا مَضَى كَمَنْ أَكْمَلَ عِبَادَاتٍ
وَأَخَلَّ بِغَيْرِهَا .
فَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ لِمَا
اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْوَعِيدِ وَاسْتَوْجَبَهُ مِنْ الْعِقَابِ .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ
مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ وَهُوَ قَادِحٌ فِيمَا عَمِلَ مِنْهَا كَالْعِبَادَةِ
الَّتِي يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، فَيَكُونُ الْمُقَصِّرُ فِي بَعْضِهَا
تَارِكًا لِجَمِيعِهَا فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مَا عَمِلَ لِإِخْلَالِهِ بِمَا بَقِيَ .
فَهَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِ الْمُقَصِّرِينَ وَحَالُهُ لَاحِقَةٌ
بِأَحْوَالِ التَّارِكِينَ ، بَلْ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُسْقِطُ فَرْضًا وَلَا
يُؤَدِّي حَقًّا .
فَقَدْ سَاوَى التَّارِكِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ
الْوَعِيدِ ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ فِي تَكَلُّفِ مَا لَا يُفِيدُ .
فَصَارَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .
ثُمَّ لَعَلَّهُ لَا يَفْطِنُ لِشَأْنِهِ ، وَلَا
يَشْعُرُ بِخُسْرَانِهِ ، وَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، وَيَفْطِنُ
لِلْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ إنْ وَهَى وَاخْتَلَّ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ : أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ وَإِذَا يُصَابُ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ
وَأَمَّا
الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِيمَا كُلِّفَ .
فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ
تَكُونَ الزِّيَادَةُ رِيَاءً لِلنَّاظِرِينَ ، وَتَصَنُّعًا لِلْمَخْلُوقَيْنِ ،
حَتَّى يَسْتَعْطِفَ بِهِ الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ ، وَيَخْدَعَ بِهِ الْعُقُولَ الْوَاهِيَةَ
، فَيَتَبَهْرَجَ بِالصُّلَحَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، وَيَتَدَلَّسَ فِي
الْأَخْيَارِ وَهُوَ ضِدُّهُمْ
.
وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمُرَائِي بِعَمَلِهِ مَثَلًا فَقَالَ : { الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَا
يَمْلِكُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ
} .
يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ
الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ
.
وَقَوْلُهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي
يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الْأَجْرِ ،
مَذْمُومُ الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى
فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا } .
قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : مَعْنَى قَوْلِهِ {
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أَيْ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ
أَحَدًا ، فَجَعَلَ الرِّيَاءَ شِرْكًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يُقْصَدُ بِهِ
وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى ، فِي قَوْله تَعَالَى :
{ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } .
قَالَ : لَا تَجْهَرْ بِهَا رِيَاءً ، وَلَا تُخَافِتْ
بِهَا حَيَاءً .
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى :
{ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } .
أَنَّ الْعَدْلَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ
وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِحْسَانَ أَنْ تَكُونَ
سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ عَلَانِيَتِهِ ، وَالْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ أَنْ
تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ .
وَكَانَ
غَيْرُهُ يَقُولُ
: الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَالْإِحْسَانُ الصَّبْرُ
عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ ، وَإِيتَاءُ
ذِي الْقُرْبَى صِلَةُ الْأَرْحَامِ ، وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ يَعْنِي
الزِّنَا ، وَالْمُنْكَرِ الْقَبَائِحَ ، وَالْبَغْيِ الْكِبْرَ وَالظُّلْمِ .
وَلَيْسَ يَخْرُجُ الرِّيَاءُ بِالْأَعْمَالِ مِنْ هَذَا
التَّأْوِيلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَبَائِحِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الرِّيَاءُ الظَّاهِرُ وَالشَّهْوَةُ
الْخَفِيَّةُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ
يَرَى أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : لَا تَعْمَلْ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ رِيَاءً وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ حَسَنَةٍ لَمْ
يُرَدْ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَتُهَا قُبْحُ الرِّيَاءِ ،
وَثَمَرَتُهَا سُوءُ الْجَزَاءِ .
وَقَدْ يُفْضِي الرِّيَاءُ بِصَاحِبِهِ إلَى
اسْتِهْزَاءِ النَّاسِ بِهِ كَمَا حُكِيَ أَنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ قَالَ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ : مُنْذُ كَمْ صِرْت إلَى الْعِرَاقِ يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : دَخَلْت الْعِرَاقَ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا
مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً صَائِمٌ
.
فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، سَأَلْتُك عَنْ
مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْت عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ .
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا
صَلَّى فَأَطَالَ وَإِلَى جَانِبِهِ قَوْمٌ فَقَالُوا : مَا أَحْسَنَ صَلَاتَك ،
فَقَالَ : وَأَنَا مَعَ ذَلِكَ صَائِمٌ : صَلَّى فَأَعْجَبَنِي وَصَامَ فَرَابَنِي نَحِّ
الْقَلُوصَ عَنْ الْمُصَلِّي الصَّائِمِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الرِّيَاءِ ، مَعَ
قُبْحِهِ ، مَا أَدَلَّهُ عَلَى سُخْفِ عَقْلِ صَاحِبِهِ .
وَرُبَّمَا سَاعَدَ النَّاسَ مَعَ ظُهُورِ رِيَائِهِ
عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِنَفْسِهِ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ أَنَّ زَاهِدًا نَظَرَ إلَى
رَجُلٍ فِي وَجْهِهِ
سَجَّادَةٌ
كَبِيرَةٌ وَاقِفًا عَلَى بَابِ السُّلْطَانِ فَقَالَ : مِثْلُ هَذَا الدِّرْهَمِ
بَيْنَ عَيْنَيْك وَأَنْتَ وَاقِفٌ هَهُنَا ؟ فَقَالَ : إنَّهُ ضُرِبَ عَلَى غَيْرِ
السِّكَّةِ .
وَهَذَا مِنْ أَجْوِبَةِ الْخَلَاعَةِ الَّتِي يَدْفَعُ
بِهَا تَهْجِينَ الْمَذَمَّةَ .
وَلَقَدْ اسْتَحْسَنَ النَّاسُ مِنْ الْأَشْعَثِ بْنِ
قَيْسٍ قَوْلَهُ ، وَقَدْ خَفَّفَ صَلَاتَهُ مَرَّةً ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْمَسْجِدِ : خَفَّفْت صَلَاتَك جِدًّا .
فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهَا رِيَاءٌ .
فَتَخَلَّصَ مِنْ تَنْقِيصِهِمْ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ
عَنْ نَفْسِهِ ، وَرَفْعِ التَّصَنُّعِ فِي صَلَاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ النِّكَارُ لَوْلَا ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا
عَلَيْهِ وَاللُّوَّمُ لَاحِقًا بِهِ
.
وَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَإِذَا
رَجُلٌ يُصَلِّي وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا
فِي بَيْتِك .
فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَسَنًا ؛ لِأَنَّهُ
اتَّهَمَهُ بِالرِّيَاءِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ
صَارَ الرِّيَاءُ أَغْلَبَ صِفَاتِهِ ، وَأَشْهَرَ سِمَاتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ آثِمٌ
فِيمَا عَمِلَ ، أَنَمُّ مِنْ هُبُوبِ النَّسِيمِ بِمَا حَمَلَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ :
أَفْضَلُ الزُّهْدِ إخْفَاءُ الزُّهْدِ
.
وَرُبَّمَا أَحَسَّ ذُو الْفَضْلِ مِنْ نَفْسِهِ مَيْلًا
إلَى الْمُرَاءَاةِ ، فَبَعَثَهُ الْفَضْلُ عَلَى هَتْكِ مَا نَازَعَتْهُ
النَّفْسُ مِنْ الْمُرَاءَاةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي فَضْلِهِ ، كَاَلَّذِي
حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَحَسَّ عَلَى
الْمِنْبَرِ بِرِيحٍ خَرَجَتْ مِنْهُ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي قَدْ
مَثَلْت بَيْنَ أَنْ أَخَافَكُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَيْنَ أَنْ أَخَافَ
اللَّهَ فِيكُمْ ، فَكَانَ أَنْ أَخَافَ اللَّهَ فِيكُمْ أَحَبَّ إلَيَّ أَلَا
وَإِنِّي قَدْ فَسَوْتُ ، وَهَا أَنَا نَازِلٌ أُعِيدُ الْوُضُوءَ .
فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ زَجْرًا لِنَفْسِهِ لِتَكُفَّ
عَنْ نِزَاعِهَا إلَى مِثْلِهِ
.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ : عِظْنِي فَقَالَ : لَا أَرْضَى نَفْسِي لَك وَاعِظًا ؛
لِأَنِّي أَجْلِسُ
بَيْنَ الْغَنِيِّ
وَالْفَقِيرِ فَأَمِيلُ عَلَى الْفَقِيرِ وَأُوَسِّعُ لِلْغَنِيِّ ، وَلِأَنَّ
طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ لِوَجْهِهِ لَا لِغَيْرِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا سَفَرًا فَحَادُوا
عَنْ الطَّرِيقِ ، فَانْتَهَوْا إلَى رَاهِبٍ فَقَالُوا : قَدْ ضَلَلْنَا ،
فَكَيْفَ الطَّرِيقُ ؟ فَقَالَ : هَهُنَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ
اقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ .
وَهَذَا قَدْ تُثْمِرُهُ مُجَالَسَةُ الْأَخْيَارِ
الْأَفَاضِلِ ، وَتُحْدِثُهُ مُكَاثَرَةُ الْأَتْقِيَاءِ الْأَمَاثِلِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ
يُخَالِلُ } .
فَإِذَا كَاثَرَهُمْ الْمُجَالِسَ ، وَطَاوَلَهُمْ
الْمُؤَانِسَ ، أَحَبَّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ ، وَيَتَأَسَّى
بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ ، وَلَا
أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ دُونَهُمْ ، فَتَبْعَثُهُ الْمُنَافَسَةُ عَلَى
مُسَاوَاتِهِمْ ، وَرُبَمَا دَعَتْهُ الْحَمِيَّةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ
وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ فَيَصِيرُوا سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ ، وَبَاعِثًا عَلَى
اسْتِزَادَتِهِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : لَوْلَا الْوِئَامُ لَهَلَكَ
الْأَنَامُ .
أَيْ لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا
فَيَقْتَدِي بِهِمْ فِي الْخَيْرِ لَهَلَكُوا .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ
الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ ، وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ مَوَدَّةُ
الْأَشْرَارِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِلْمُصَاحَبَةِ تَأْثِيرًا
فِي اكْتِسَابِ الْأَخْلَاقِ ، فَتَصْلُحُ أَخْلَاقُ الْمَرْءِ بِمُصَاحَبَةِ
أَهْلِ الصَّلَاحِ وَتَفْسُدُ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت صَلَاحَ
الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ وَيُعْدِيهِمْ عِنْدَ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ
يُعَظَّمُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي
الْأَهْلِ وَالْوَلَدْ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ
: لَا تَصْحَبْ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ كَمْ صَالِحٍ
بِفَسَادِ
آخَرَ يَفْسُدُ عَدْوَى الْبَلِيدِ إلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ وَالْجَمْرُ يُوضَعُ
فِي الرُّمَاعِ فَيَخْمُدُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ
ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ الْتِمَاسًا لِثَوَابِهَا وَرَغْبَةً فِي الزُّلْفَةِ
بِهَا .
فَهَذَا مِنْ نَتَائِجِ النَّفْسِ الزَّاكِيَةِ ،
وَدَوَاعِي الرَّغْبَةِ الْوَافِيَةِ ، الدَّالَيْنِ عَلَى خُلُوصِ الدِّينِ ،
وَصِحَّةِ الْيَقِينِ ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَامِلِينَ ، وَأَعْلَى مَنَازِلِ
الْعَابِدِينَ .
وَقَدْ قِيلَ : النَّاسُ فِي الْخَيْرِ أَرْبَعَةٌ :
مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ ابْتِدَاءً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ اقْتِدَاءً ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ
حِرْمَانًا .
فَمَنْ فَعَلَهُ ابْتِدَاءً فَهُوَ كَرِيمٌ ، وَمَنْ
فَعَلَهُ اقْتِدَاءً فَهُوَ حَكِيمٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ اسْتِحْسَانًا فَهُوَ
رَدِيءٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ حِرْمَانًا فَهُوَ شَقِيٌّ .
ثُمَّ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ حَالَتَانِ : إحْدَاهُمَا :
أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا فِيهَا ، وَقَادِرًا عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا .
فَهِيَ أَفْضَلُ الْحَالَتَيْنِ ، وَأَعْلَى
الْمَنْزِلَتَيْنِ .
عَلَيْهَا انْقَرَضَ أَخْيَارُ السَّلَفِ ،
وَتَتَبَّعَهُمْ فِيهَا فُضَلَاءُ الْخَلَفِ .
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ
افْعَلُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنْ الثَّوَابِ
حَتَّى تَمَلُّوا مِنْ الْعَمَلِ ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ } .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْقَصْدُ وَالدَّوَامُ وَأَنْتَ
السَّابِقُ الْجَوَادُ .
وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ
اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسَرَّةٌ إلَّا فِي طَاعَتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : قُلْت
لِرَاهِبٍ : مَتَى عِيدُكُمْ ؟ قَالَ : كُلُّ يَوْمٍ لَا أَعْصِي اللَّهَ فِيهِ
فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ .
اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مِنْ مَقَاصِدِ الطَّاعَةِ مَا أَبْلَغَهُ فِي حُبِّ الطَّاعَةِ ،
وَأَحَثَّهُ عَلَى بَذْلِ الِاسْتِطَاعَةِ .
وَخَرَجَ بَعْضُ الزُّهَّادِ فِي
يَوْمِ عِيدٍ
فِي هَيْئَةٍ رَثَّةٍ فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ
فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ النَّاسُ مُتَزَيِّنُونَ ؟ فَقَالَ : مَا
يُتَزَيَّنُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ طَاعَتِهِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا
اسْتِكْثَارَ مَنْ لَا يَنْهَضُ بِدَوَامِهَا ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اتِّصَالِهَا .
فَهَذَا رُبَّمَا كَانَ بِالْمُقَصِّرِ أَشْبَهُ ؛
لِأَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الزِّيَادَةِ إمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ
اللَّازِمِ فَلَا يَكُونُ إلَّا تَقْصِيرًا ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِزِيَادَةٍ
أَحْدَثَتْ نَقْصًا ، وَبِنَفْلٍ مَنَعَ فَرْضًا .
وَإِمَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْ اسْتِدَامَةِ الزِّيَادَةِ
وَيَمْنَعَ مِنْ مُلَازَمَةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ غَيْرِ إخْلَالٍ بِلَازِمٍ
وَلَا تَقْصِيرٍ فِي فَرْضٍ .
فَهِيَ إذًا قَصِيرَةُ الْمَدَى قَلِيلَةُ اللُّبْثِ ،
وَالْقَلِيلُ الْعَمَلِ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ
وَجَلَّ - مِنْ كَثِيرِ الْعَمَلِ فِي قَصِيرِ الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ
الْمُسْتَكْثِرَ مِنْ الْعَمَلِ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ قَدْ يَعْمَلُ زَمَانًا
وَيَتْرُكُ زَمَانًا فَرُبَّمَا صَارَ فِي زَمَانِ تَرْكِهِ لَاهِيًا أَوْ
سَاهِيًا .
وَالْمُقَلِّلُ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ مُسْتَيْقِظُ
الْأَفْكَارِ ، مُسْتَدِيمُ التَّذْكَارِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّ الْإِسْلَامَ شِرَّةٌ وَلِلشِّرَّةِ فَتْرَةٌ فَمَنْ سَدَّدَ
وَقَارَبَ فَأَرْجُوهُ ، وَمَنْ أُشِيرَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ } .
فَجَعَلَ الْإِسْلَامَ شِرَّةً وَهِيَ الْإِيغَالُ فِي
الْإِكْثَارِ ، وَجَعَلَ لِلشِّرَّةِ فَتْرَةً وَهِيَ الْإِهْمَالُ بَعْدَ
الِاسْتِكْثَارِ .
فَلَمْ يَخْلُ بِمَا أَثْبَتَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ
الزِّيَادَةُ تَقْصِيرًا أَوْ إخْلَالًا وَلَا خَيْرَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَاعْلَمْ
- جَعَلَ
اللَّهُ الْعِلْمَ حَاكِمًا لَك وَعَلَيْك ، وَالْحَقَّ قَائِدًا لَك وَإِلَيْك -
أَنَّ الدُّنْيَا إذَا وَصَلَتْ فَتَبِعَاتٌ مُوبِقَةٌ ، وَإِذَا فَارَقَتْ
فَفَجَعَاتٌ مُحْرِقَةٌ .
وَلَيْسَ لِوَصْلِهَا دَوَامٌ وَلَا مِنْ فِرَاقِهَا
بُدٌّ ، فَرُضْ نَفْسَك عَلَى قَطِيعَتِهَا لِتَسْلَمَ مِنْ تَبِعَاتِهَا ،
وَعَلَى فِرَاقِهَا لِتَأْمَنَ فَجِعَاتِهَا .
فَقَدْ قِيلَ : الْمَرْءُ مُقْتَرِضٌ مِنْ عُمُرِهِ
الْمُنْقَرِضِ .
مَعَ أَنَّ الْعُمُرَ وَإِنْ طَالَ قَصِيرٌ ،
وَالْفَرَاغَ وَإِنْ تَمَّ يَسِيرٌ
.
وَأَنْشَدْت لِعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى : إذَا كَمُلَتْ لِلْمَرْءِ سِتُّونَ حِجَّةً فَلَمْ يَحْظَ مِنْ
سِتِّينَ إلَّا بِسُدْسِهَا أَلَمْ تَرَ أَنَّ النِّصْفَ بِاللَّيْلِ حَاصِلٌ
وَتَذْهَبُ أَوْقَاتُ الْمَقِيلِ بِخُمْسِهَا فَتَأْخُذُ أَوْقَاتُ الْهُمُومِ بِحِصَّةٍ
وَأَوْقَاتُ أَوْجَاعٍ تُمِيتُ بِمُسِنِّهَا فَحَاصِلُ مَا يَبْقَى لَهُ سُدُسُ
عُمُرِهِ إذَا صَدَّقَتْهُ النَّفْسُ عَنْ عِلْمِ حَدْسِهَا وَرِيَاضَةُ نَفْسِك ،
لِذَلِكَ ، تَتَرَتَّبُ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ ، وَكُلُّ حَالَةٍ مِنْهَا
تَتَشَعَّبُ ، وَهِيَ لِتَسْهِيلِ مَا يَلِيهَا سَبَبٌ .
فَالْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ تَصْرِفَ حُبَّ الدُّنْيَا
عَنْ قَلْبِك فَإِنَّهَا تُلْهِيك عَنْ آخِرَتِك ، وَلَا تَجْعَلْ سَعْيَك لَهَا
فَتَمْنَعَك حَظَّك مِنْهَا ، وَتَوَقَّ الرُّكُونَ إلَيْهَا ، وَلَا تَكُنْ
آمِنًا لَهَا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَشْرَبَ قَلْبَهُ حُبَّ الدُّنْيَا وَرَكَنَ
إلَيْهَا الْتَاطَ مِنْهَا بِشُغْلٍ لَا يَفْرُغُ عَنَاهُ ، وَأَمَلٍ لَا يَبْلُغُ
مُنْتَهَاهُ ، وَحِرْصٍ لَا يُدْرِكُ مَدَاهُ .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - : الدُّنْيَا لَإِبْلِيسَ مَزْرَعَةٌ وَأَهْلُهَا لَهُ حُرَّاثٌ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ :
مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا
قَاتِلٌ سُمُّهَا ، فَأَعْرِضْ عَمَّا أَعْجَبَك مِنْهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُك
مِنْهَا ، وَضَعْ عَنْك هُمُومَهَا لِمَا أَيْقَنْت مِنْ فِرَاقِهَا ، وَكُنْ أَحْذَرَ
مَا تَكُونُ لَهَا وَأَنْتَ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا
، فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا
اطْمَأَنَّ مِنْهَا إلَى سُرُورٍ أَشْخَصَهُ عَنْهَا مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ سَكَنَ
مِنْهَا إلَى إينَاسٍ أَزَالَهُ عَنْهَا إيحَاشٌ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ :
الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِشَارِبٍ ، وَلَا تَبْقَى لِصَاحِبٍ ، وَلَا تَخْلُو مِنْ
فِتْنَةٍ ، وَلَا تُخَلِّي مِحْنَةً ، فَأَعْرِضْ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ تُعْرِضَ
عَنْك ، وَاسْتَبْدِلْ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِك ، فَإِنَّ نَعِيمَهَا يَتَنَقَّلُ
، وَأَحْوَالَهَا تَتَبَدَّلُ ، وَلَذَّاتِهَا تَفْنَى ، وَتَبِعَاتِهَا تَبْقَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اُنْظُرْ إلَى الدُّنْيَا
نَظَرَ الزَّاهِدِ الْمُفَارِقِ لَهَا ، وَلَا تَتَأَمَّلْهَا تَأَمُّلَ
الْعَاشِقِ الْوَامِقِ بِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَا إنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ
نَائِمِ وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لَا يَكُونُ بِدَائِمِ تَأَمَّلْ إذَا مَا نِلْت
بِالْأَمْسِ لَذَّةً فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إلَّا كَحَالِمِ فَكَمْ غَافِلٍ
عَنْهُ وَلَيْسَ بِغَافِلِ وَكَمْ نَائِمٍ عَنْهُ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى
اللَّهِ أَلَّا يُعْصَى إلَّا فِيهَا ، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلَّا
بِتَرْكِهَا } .
وَرَوَى سُفْيَانُ أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : يَا مُوسَى أَعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا وَانْبِذْهَا
وَرَاءَك فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَك بِدَارٍ ، وَلَا فِيهَا مَحَلُّ قَرَارٍ ،
وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الدُّنْيَا لِلْعِبَادِ ؛ لِيَتَزَوَّدُوا مِنْهَا لِلْمَعَادِ .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا .
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَصِفُ
الدُّنْيَا : أَوَّلُهَا عَنَاءٌ ، وَآخِرُهَا فَنَاءٌ ، حَلَالُهَا حِسَابٌ ،
وَحَرَامُهَا عِقَابٌ ، مَنْ صَحَّ فِيهَا أَمِنَ وَمَنْ مَرِضَ فِيهَا نَدِمَ ،
وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ ، وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ ، وَمَنْ
سَاعَاهَا فَاتَتْهُ ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ ، وَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا أَعْمَتْهُ
، وَمَنْ نَظَرَ بِهَا بَصِرَتْهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الدُّنْيَا تُقْبِلُ
إقْبَالَ الطَّالِبِ
، وَتُدْبِرُ إدْبَارَ الْهَارِبِ ، وَتَصِلُ وِصَالَ الْمَلُولِ ، وَتُفَارِقُ
فِرَاقَ الْعُجُولِ ، فَخَيْرُهَا يَسِيرٌ ، وَعَيْشُهَا قَصِيرٌ ، وَإِقْبَالُهَا
خَدِيعَةٌ ، وَإِدْبَارُهَا فَجِيعَةٌ ، وَلَذَّاتُهَا فَانِيَةٌ ، وَتَبِعَاتُهَا
بَاقِيَةٌ ، فَاغْتَنَمَ غَفْوَةَ الزَّمَانِ ، وَانْتَهَزَ فُرْصَةَ الْإِمْكَانِ
، وَخُذْ مِنْ نَفْسِك لِنَفْسِك ، وَتَزَوَّدْ مِنْ يَوْمِك لِغَدِكَ .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : مَثَلُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مَثَلُ ضَرَّتَيْنِ إنْ أَرْضَيْت إحْدَاهُمَا أَسْخَطْت الْأُخْرَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الدُّنْيَا مَنَازِلُ ،
فَرَاحِلٌ وَنَازِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الدُّنْيَا إمَّا
نِقْمَةٌ نَازِلَةٌ ، وَإِمَّا نِعْمَةٌ زَائِلَةٌ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مِنْ الدُّنْيَا
عَلَى الدُّنْيَا دَلِيلٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَمَتَّعْ مِنْ الْأَيَّامِ إنْ
كُنْت حَازِمًا فَإِنَّك مِنْهَا بَيْنَ نَاهٍ وَآمِرِ إذَا أَبْقَتْ الدُّنْيَا
عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ فَلَنْ
تَعْدِلَ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَا وَزْنَ ذَرٍّ مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ
فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنٍ وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاءً
لِكَافِرِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الدُّنْيَا يَوْمَانِ : يَوْمُ فَرَحٍ وَيَوْمُ هَمٍّ ، وَكِلَاهُمَا
زَائِلٌ عَنْك فَدَعُوا مَا يَزُولُ ، وَأَتْعِبُوا نُفُوسَكُمْ فِي الْعَمَلِ
لِمَا لَا يَزُولُ } .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
لَا تُنَازِعُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ فَيُنَازِعُوكُمْ فِي
دِينِكُمْ ، فَلَا دُنْيَاهُمْ أَصَبْتُمْ ، وَلَا دِينَكُمْ أَبْقَيْتُمْ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : لَا تَكُنْ
مِمَّنْ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ ، وَيَعْمَلُ فِيهَا
عَمَلَ الرَّاغِبِينَ ، فَإِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ ، وَإِنْ مُنِعَ
مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ .
يَعْجَزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ ، وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ
فِيمَا بَقِيَ ، وَيَنْهَى النَّاسَ وَلَا يَنْتَهِي ، وَيَأْمُرُ بِمَا لَا
يَأْتِي .
يُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَا يَعْمَلُ
بِعَمَلِهِمْ
، وَيُبْغِضُ الطَّالِحِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : الدُّنْيَا كُلُّهَا
غَمٌّ فَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ سُرُورٍ فَهُوَ رِيحٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الدُّنْيَا كَثِيرَةُ
التَّغْيِيرِ ، سَرِيعَةُ التَّنْكِيرِ ، شَدِيدَةُ الْمَكْرِ ، دَائِمَةُ
الْغَدْرِ ، فَاقْطَعْ أَسْبَابَ الْهَوَى عَنْ قَلْبِك ، وَاجْعَلْ أَبْعَدَ
أَمْلِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِك ، وَكُنْ كَأَنَّك تَرَى ثَوَابَ أَعْمَالِك وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : الدُّنْيَا إمَّا مُصِيبَةٌ مُوجِعَةٌ ، وَإِمَّا مَنِيَّةٌ
مُفْجِعَةٌ ، وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِّ دُنْيَاك إنَّهَا يَعْقُبُ الْخَيْرَ
شَرُّهَا هِيَ أُمٌّ تَعُقُّ مِنْ نَسْلِهَا مَنْ يَبَرُّهَا كُلُّ نَفْسٍ
فَإِنَّهَا تَبْتَغِي مَا يَسُرُّهَا وَالْمَنَايَا تَسُوقُهَا وَالْأَمَانِي
تَغُرُّهَا فَإِذَا اسْتَحْلَتْ الْجَنَى أَعْقَبَ الْحُلْوَ مُرُّهَا يَسْتَوِي
فِي ضَرِيحِهِ عَبْدُ أَرْضٍ وَحُرُّهَا فَإِذَا رَضَتْ نَفْسُك مِنْ هَذِهِ
الْحَالَةِ بِمَا وَصَفْت اعْتَضْت مِنْهَا بِثَلَاثِ خِلَالٍ : إحْدَاهُنَّ :
أَنْ تَكْفِيَ إشْفَاقَ الْمُحِبِّ وَحَذَرَ الْوَامِقِ فَلَيْسَ لِمُشْفِقٍ ثِقَةٌ
، وَلَا لِحَاذِرٍ رَاحَةٌ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ تَأْمَنَ الِاغْتِرَارَ
بِمَلَاهِيهَا فَتَسْلَمَ مِنْ عَادِيَةِ دَوَاهِيهَا ، فَإِنَّ اللَّاهِيَ بِهَا
مَغْرُورٌ ، وَالْمَغْرُورُ فِيهَا مَذْعُورٌ .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ تَسْتَرِيحَ مِنْ تَعَبِ
السَّعْيِ لَهَا ، وَوَصَبِ الْكَدِّ فِيهَا ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا
طَلَبَهُ ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا كَدَّ لَهُ ، وَالْمَكْدُودُ فِيهَا شَقِيٌّ إنْ
ظَفِرَ وَمَحْرُومٌ إنْ خَابَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبٍ : { يَا كَعْبُ ، النَّاسُ غَادِيَانِ : فَغَادٍ
بِنَفْسِهِ فَمُعْتِقُهَا ، وَمُوبِقُ نَفْسَهُ فَمُوثِقُهَا } .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ :
تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ ، وَلَا
تَعْمَلُونَ لِلْآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لَا تُرْزَقُونَ فِيهَا إلَّا بِعَمَلٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا
أَنْ لَا تَبْقَى عَلَى حَالَةٍ ، وَلَا تَخْلُوَ مِنْ
اسْتِحَالَةٍ
، تُصْلِحُ جَانِبًا بِإِفْسَادِ جَانِبٍ ، وَتَسُرُّ صَاحِبًا بِمُسَاءَةِ
صَاحِبٍ ، فَالرُّكُونُ إلَيْهَا خَطَرٌ ، وَالثِّقَةُ بِهَا غَرَرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الدُّنْيَا مُرْتَجِعَةُ الْهِبَةِ
وَالدَّهْرُ حَسُودٌ لَا يَأْتِي عَلَى شَيْءٍ إلَّا غَيَّرَهُ وَلِمَنْ عَاشَ
حَاجَةٌ لَا تَنْقَضِي .
وَلَمَّا بَلَغَ مَزْدَكُ مِنْ الدُّنْيَا أَفْضَلَ مَا
سَمَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ نَبَذَهَا وَقَالَ : هَذَا سُرُورٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ
غُرُورٌ ، وَنَعِيمٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ عَدِيمٌ ، وَمُلْكٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ
هَلَكٌ ، وَغَنَاءٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ فَنَاءٌ ، وَجَسِيمٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ
ذَمِيمٌ ، وَمَحْمُودٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ مَفْقُودٌ ، وَغِنًى ، لَوْلَا أَنَّهُ
مُنًى ، وَارْتِفَاعٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ اتِّضَاعٌ ، وَعَلَاءٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ بَلَاءٌ
، وَحُسْنٌ ، لَوْلَا أَنَّهُ حُزْنٌ ، وَهُوَ يَوْمٌ لَوْ وُثِقَ لَهُ بِغَدٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : قَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا غَيْرُ
وَاحِدٍ ، مِنْ رَاغِبٍ وَزَاهِدٍ ، فَلَا الرَّاغِبُ فِيهَا اسْتَبْقَتْ ، وَلَا
عَنْ الزَّاهِدِ فِيهَا كَفَّتْ
.
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : هِيَ الدَّارُ دَارُ
الْأَذَى وَالْقَذَى وَدَارُ الْفَنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْ فَلَوْ نِلْتهَا
بِحَذَافِيرِهَا لَمِتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ
طُولَ الْخُلُودِ وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ إذَا مَا كَبِرْت وَبَانَ
الشَّبَابُ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ
بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ،
وَعَيْنٍ لَا تَدْمَعُ .
هَلْ يَتَوَقَّعُ أَحَدُكُمْ إلَّا غِنًى مُطْغِيًا أَوْ
فَقْرًا مُنْسِيًا ، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُقَيِّدًا ، أَوْ
الدَّجَّالَ فَهُوَ شَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ
أَدْهَى وَأَمَرُّ } .
وَحُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ هَبْ لِي مِنْ قَلْبِك الْخُشُوعَ ،
وَمِنْ بَدَنِك الْخُضُوعَ ، وَمِنْ عَيْنِك الدُّمُوعَ ، فَإِنِّي قَرِيبٌ .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْحَى اللَّهُ إلَى الدُّنْيَا : مَنْ خَدَمَنِي
فَاخْدِمِيهِ ، وَمَنْ خَدَمَك فَاسْتَخْدِمِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : زِدْ مِنْ طُولِ أَمَلِك
فِي قَصِيرِ عَمَلِك ، فَإِنَّ الدُّنْيَا ظِلُّ الْغَمَامِ ، وَحُلْمُ النِّيَامِ
، فَمَنْ عَرَفَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ ، وَحُرِمَ التَّوْفِيقَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يُؤَمِّنَنَّكَ إقْبَالُ
الدُّنْيَا عَلَيْك مِنْ إدْبَارِهَا عَنْك ، وَلَا دَوْلَةٌ لَك مِنْ إذَالَةٍ
مِنْك .
وَقَالَ آخَرُ : مَا مَضَى مِنْ الدُّنْيَا كَمَا لَمْ
يَكُنْ ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا كَمَا قَدْ مَضَى .
وَقِيلَ لِزَاهِدٍ : قَدْ خَلَعْت الدُّنْيَا فَكَيْفَ
سَخَتْ نَفْسُك عَنْهَا ؟ فَقَالَ : أَيْقَنْت أَنِّي أَخْرُجُ مِنْهَا كَارِهًا ،
فَرَأَيْت أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا طَائِعًا .
وَقِيلَ لِحُرْقَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ : مَا لَك
تَبْكِينَ ؟ فَقَالَتْ : رَأَيْت لِأَهْلِي غَضَارَةً ، وَلَنْ تَمْتَلِئَ دَارٌ
فَرَحًا ، إلَّا امْتَلَأَتْ تَرَحًا
.
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : مَنْ جَرَّعَتْهُ
الدُّنْيَا حَلَاوَتَهَا بِمَيْلِهِ إلَيْهَا ، جَرَّعَتْهُ الْآخِرَةُ
مَرَارَتَهَا لِتَجَافِيهِ عَنْهَا
.
وَقَالَ صَاحِبُ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ : طَالِبُ
الدُّنْيَا كَشَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَتَمَثَّلُ
بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ : نَهَارُك يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُك نَوْمٌ
وَالْأَسَى لَك لَازِمُ تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ
فِي النَّوْمِ حَالِمُ وَشُغْلُك فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كَذَلِكَ فِي
الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ وَسَمِعَ رَجُلٌ رَجُلًا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ :
لَا أَرَاك اللَّهُ مَكْرُوهًا ، فَقَالَ : كَأَنَّك دَعَوْت عَلَى صَاحِبِك
بِالْمَوْتِ ، إنَّ صَاحِبَك مَا صَاحَبَ الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَى
مَكْرُوهًا .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : إنَّ الزَّمَانَ وَلَوْ
يَلِينُ لِأَهْلِهِ لَمُخَاشِنُ خُطُوَاتُهُ الْمُتَحَرِّكَاتُ كَأَنَّهُنَّ
سَوَاكِنُ .
وَالْحَالُ
الثَّانِيَةُ : مِنْ أَحْوَالِ رِيَاضَتِك لَهَا أَنْ تُصَدِّقَ نَفْسَك فِيمَا
مَنَحَتْك مِنْ رَغَائِبِهَا ، وَأَنَالَتْك مِنْ غَرَائِبِهَا فَتَعْلَمَ أَنَّ
الْعَطِيَّةَ فِيهَا مُرْتَجَعَةٌ ، وَالْمِنْحَةَ فِيهَا مُسْتَرَدَّةٌ ، بَعْدَ
أَنْ تُبْقِي عَلَيْك مَا احْتَقَنَتْ مِنْ أَوْزَارِ وُصُولِهَا إلَيْك ،
وَخُسْرَانِ خُرُوجِهَا عَنْك .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ ثَلَاثٍ : شَبَابِهِ
فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ
اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ
} .
وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، أَنَّهُ قَالَ : فِي الْمَالِ ثَلَاثُ خِصَالٍ .
قَالُوا : وَمَا هُنَّ يَا رُوحَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
يَكْسِبُهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ
.
قَالُوا : فَإِنْ كَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ ؟ قَالَ :
يَضَعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ .
قَالُوا : فَإِنْ وَضَعَهُ فِي حَقِّهِ ؟ قَالَ :
يَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ
.
وَدَخَلَ أَبُو حَازِمٍ عَلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ
فَقَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا الْمَخْرَجُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ؟ قَالَ :
تَنْظُرْ مَا عِنْدَك فَلَا تَضَعْهُ إلَّا فِي حَقِّهِ ، وَمَا لَيْسَ عِنْدَك
فَلَا تَأْخُذْهُ إلَّا بِحَقِّهِ
.
قَالَ : وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ قَالَ
: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُلِئَتْ جَهَنَّمُ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ .
وَعَيَّرَتْ الْيَهُودُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِالْفَقْرِ فَقَالَ : مِنْ الْغِنَى دُهِيتُمْ .
وَدَخَلَ قَوْمٌ مَنْزِلَ عَابِدٍ فَلَمْ يَجِدُوا
شَيْئًا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ : لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ مُقَامٍ
لَاِتَّخَذْنَا لَهَا أَثَاثًا
.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : أَلَا تُوصِي ؟ قَالَ : بِمَاذَا أُوصِي
وَاَللَّهِ مَا لَنَا شَيْءٌ ، وَلَا لَنَا عِنْدَ أَحَدٍ شَيْءٌ ، وَلَا لِأَحَدٍ
عِنْدَنَا شَيْءٌ .
اُنْظُرْ إلَى هَذِهِ الرَّاحَةِ كَيْفَ تَعَجَّلَهَا
وَإِلَى السَّلَامَةِ كَيْفَ صَارَ إلَيْهَا .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْفَقْرُ مِلْكٌ لَيْسَ فِيهِ
مُحَاسَبَةٌ .
وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
: أَلَا
تَتَزَوَّجُ
؟ فَقَالَ : إنَّمَا نُحِبُّ التَّكَاثُرَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ .
وَقِيلَ :
لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَك حِمَارًا
؟ فَقَالَ : أَنَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَنِي خَادِمَ حِمَارٍ .
وَقِيلَ لِأَبِي حَازِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا
مَالُك ؟ قَالَ : شَيْئَانِ : الرِّضَى عَنْ اللَّهِ ، وَالْغِنَى عَنْ النَّاسِ .
وَقِيلَ لَهُ : إنَّك لَمِسْكِينٌ .
فَقَالَ :
كَيْفَ أَكُونُ مِسْكِينًا وَمَوْلَايَ لَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : رُبَّ مَغْبُوطٍ
بِمَسَرَّةٍ هِيَ دَاؤُهُ ، وَمَرْحُومٍ مِنْ سَقَمٍ هُوَ شِفَاؤُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : النَّاسُ أَشْتَاتٌ
وَلِكُلِّ جَمْعٍ شَتَاتٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الزُّهْدُ بِصِحَّةِ
الْيَقِينِ ، وَصِحَّةُ الْيَقِينِ بِنُورِ الدِّينِ ، فَمَنْ صَحَّ يَقِينُهُ
زَهِدَ فِي الثَّرَاءِ ، وَمَنْ قَوِيَ دِينُهُ أَيْقَنَ بِالْجَزَاءِ ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ
صِحَّةُ نَفْسِك ، وَسَلَامَةُ أَمْسِك ، فَمُدَّةُ الْعُمُرِ قَلِيلَةٌ ،
وَصِحَّةُ النَّفْسِ مُسْتَحِيلَةٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : رُبَّ مَغْرُوسٍ يُعَاشُ
بِهِ عَدِمَتْهُ عَيْنُ مُغْتَرِسِهْ وَكَذَاك الدَّهْرُ مَأْتَمُهُ أَقْرَبُ
الْأَشْيَاءِ مِنْ عُرْسِهْ فَإِذَا رَضَتْ نَفْسُك مِنْ هَذِهِ الْحَالِ بِمَا
وَصَفْت اعْتَضْت مِنْهَا ثَلَاثَ خِلَالٍ : إحْدَاهُنَّ : نُصْحُ نَفْسِك وَقَدْ اسْتَسْلَمَتْ
إلَيْك ، وَالنَّظَرُ لَهَا وَقَدْ اعْتَمَدَتْ عَلَيْك ، فَإِنَّ غَاشَّ نَفْسِهِ
مَغْبُونٌ ، وَالْمُنْحَرِفَ عَنْهَا مَأْفُونٌ .
وَالثَّانِيَةُ : الزُّهْدُ فِيمَا لَيْسَ لَك لِتُكْفَى
تَكَلُّفَ طَلَبِهِ وَتَسْلَمَ مِنْ تَبِعَاتِ كَسْبِهِ .
وَالثَّالِثَةُ : انْتِهَازُ الْفُرْصَةِ فِي مَالِك
أَنْ تَضَعَهُ فِي حَقِّهِ ، وَأَنْ تُؤْتِيَهُ لِمُسْتَحِقِّهِ ، لِيَكُونَ لَك
ذُخْرًا ، وَلَا يَكُونَ عَلَيْك وِزْرًا .
فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنِّي أَكْرَهُ الْمَوْتَ
.
قَالَ : أَلَكَ مَالٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : قَدِّمْ مَالَك فَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ
عِنْدَ مَالِهِ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : {
ذَبَحْنَا
شَاةً
فَتَصَدَّقْنَا بِهَا .
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَقِيَ إلَّا
كَتِفُهَا .
قَالَ : كُلُّهَا بَقِيَ إلَّا كَتِفَهَا } .
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ بَاعَ دَارًا بِثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقِيلَ
لَهُ : اتَّخَذَ لِوَلَدِك مِنْ هَذَا الْمَالِ ذُخْرًا .
فَقَالَ : أَنَا أَجْعَلُ هَذَا الْمَالَ ذُخْرًا لِي
عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَجْعَلُ اللَّهَ ذُخْرًا لِوَلَدِي ، وَتَصَدَّقَ
بِهَا .
وَعُوتِبَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ
فِي كَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ
: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ
دَارٍ إلَى دَارٍ أَكَانَ يُبْقِي فِي الْأُولَى شَيْئًا ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ : مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ قَالَ : لِأَنَّكُمْ
أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ ، فَكَرِهْتُمْ أَنْ
تَنْتَقِلُوا مِنْ الْعُمْرَانِ إلَى الْخَرَابِ .
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : تَرَكَ زَيْدُ
بْنُ خَارِجَةَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : لَكِنَّهَا لَا تَتْرُكُهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً إلَّا وَعَلَيْهِ فِيهَا تَبِعَةٌ إلَّا
سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ : { هَذَا
عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : إنْ عُوفِينَا مِنْ شَرِّ مَا
أُعْطِينَا لَمْ يَضُرَّنَا فَقْدُ مَا زُوِيَ عَنَّا .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : قَدِّمُوا كُلًّا لِيَكُونَ
لَكُمْ ، وَلَا تُخَلِّفُوا كُلًّا فَيَكُونَ عَلَيْكُمْ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : نِعْمَ الْقَوْمُ السُّؤَالُ
يَدُقُّونَ أَبْوَابَكُمْ يَقُولُونَ أَتُوَجِّهُونَ لِلْآخِرَةِ شَيْئًا .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : مَرَّ بِي صِلَةُ
بْنُ أَشْيَمَ فَمَا تَمَالَكْتُ أَنْ نَهَضْتُ إلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا أَبَا
الصَّهْبَاءِ ، اُدْعُ لِي .
فَقَالَ : رَغَّبَك اللَّهُ فِيمَا يَبْقَى ، وَزَهَّدَك
فِيمَا يَفْنَى ، وَوَهَبَ لَك الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَّا
إلَيْهِ ، وَلَا يُعَوَّلُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَيْهِ .
وَلَمَّا ثَقُلَ
عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ رَأَى غَسَّالًا يَلْوِي بِيَدِهِ ثَوْبًا فَقَالَ : وَدِدْت
أَنِّي كُنْت غَسَّالًا لَا أَعِيشُ إلَّا بِمَا أَكْتَسِبُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا .
فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا حَازِمٍ فَقَالَ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا نَحْنُ فِيهِ ،
وَلَا نَتَمَنَّى نَحْنُ عِنْدَهُ مَا هُمْ فِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي .
وَهَلْ لَك يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِك إلَّا مَا
أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ ، أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ } .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : بِتُّ لَيْلَتِي
أَتَمَنَّى فَكَسَبْتُ الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ وَالذَّهَبَ الْأَحْمَرَ ، فَإِذَا
يَكْفِينِي مِنْ ذَلِكَ رَغِيفَانِ وَكُوزَانِ وَطِمْرَانِ .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : يَا ابْنَ آدَمَ
تُؤْتَى كُلَّ يَوْمٍ بِرِزْقِك وَأَنْتَ تَحْزَنُ ، وَيَنْقُصُ عُمُرُك وَأَنْتَ
لَا تَحْزَنُ ، تَطْلُبُ مَا يُطْغِيك وَعِنْدَك مَا يَكْفِيك .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : إنَّمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْمُلُوكِ يَوْمٌ وَاحِدٌ .
أَمَّا أَمْسِ فَقَدْ مَضَى فَلَا يَجِدُونَ لَذَّتَهُ .
وَإِنَّا وَهُمْ مِنْ غَدٍ عَلَى وَجَلٍ ، وَإِنَّمَا
هُوَ الْيَوْمُ فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : تَعَزَّ عَنْ الشَّيْءِ إذَا
مُنِعْته لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُك إذَا أُعْطِيتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ تَرَكَ نَصِيبَهُ
مِنْ الدُّنْيَا اسْتَوْفَى حَظَّهُ مِنْ الْآخِرَةِ .
وَقَالَ آخَرُ : تَرْكُ التَّلَبُّسِ بِالدُّنْيَا
قَبْلَ التَّشَبُّثِ بِهَا أَهْوَنُ مِنْ رَفْضِهَا بَعْدَ مُلَابَسَتَهَا .
وَقَالَ آخَرُ : لِيَكُنْ طَلَبُك لِلدُّنْيَا
اضْطِرَارًا ، وَتَذَكُّرُك فِي الْأُمُورِ اعْتِبَارًا ، وَسَعْيُك لِمَعَادِك
ابْتِدَارًا .
وَقَالَ آخَرُ : الزَّاهِدُ لَا يَطْلُبُ الْمَفْقُودَ
حَتَّى يَفْقِدَ الْمَوْجُودَ .
وَقَالَ آخَرُ : مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ لَمْ يَحْرِصْ
عَلَى الدُّنْيَا ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْمُجَازَاةِ لَمْ يُؤْثِرْ عَلَى
الْحُسْنَى .
وَقَالَ آخَرُ : مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَمَنْ
غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
أَرَى الدُّنْيَا
لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ عَذَابًا كُلَّمَا كَثُرَتْ لَدَيْهِ تُهِينُ
الْمُكْرِمِينَ لَهَا بِصِغَرٍ وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ إذَا
اسْتَغْنَيْت عَنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ وَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَحَكَى
الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : دَخَلْت عَلَى الرَّشِيدِ - رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِ - يَوْمًا وَهُوَ يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ
عَلَى خَدِّهِ .
فَلَمَّا أَبْصَرَنِي قَالَ : أَرَأَيْت مَا كَانَ
مِنِّي ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ : أَمَّا إنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَمْرِ الدُّنْيَا
مَا كَانَ هَذَا .
ثُمَّ رَمَى إلَيَّ بِالْقِرْطَاسِ فَإِذَا فِيهِ شِعْرُ
أَبِي الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَلْ أَنْتَ مُعْتَبِرٌ بِمَنْ
خَرِبَتْ مِنْهُ غَدَاةَ قَضَى دَسَاكِرُهُ وَبِمَنْ أَذَلَّ الدَّهْرُ مَصْرَعَهُ
فَتَبَرَّأَتْ مِنْهُ عَسَاكِرُهُ وَبِمَنْ خَلَتْ مِنْهُ أَسِرَّتُهُ وَتَعَطَّلَتْ
مِنْهُ مَنَابِرُهُ أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَيْنَ عِزُّهُمْ صَارُوا مَصِيرًا أَنْتَ
صَائِرُهُ يَا مُؤْثِرَ الدُّنْيَا لِلَذَّتِهِ وَالْمُسْتَعِدُّ لِمَنْ
يُفَاخِرُهُ نَلْ مَا بَدَا لَك أَنْ تَنَالَ مِنْ الدُّ نْيَا فَإِنَّ الْمَوْتَ
آخِرُهُ فَقَالَ الرَّشِيدُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : وَاَللَّهِ لِكَأَنِّي
أُخَاطَبُ بِهَذَا الشَّعْرِ دُونَ النَّاسِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ
إلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
ثُمَّ
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : مِنْ أَحْوَالِ رِيَاضَتِك لَهَا أَنْ تَكْشِفَ
لِنَفْسِك حَالَ أَجَلِك ، وَتَصْرِفَهَا عَنْ غُرُورِ أَمَلِكَ حَتَّى لَا
يُطِيلُ لَك الْأَمَلُ أَجَلًا قَصِيرًا ، وَلَا يُنْسِيك مَوْتًا وَلَا نُشُورًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ
الْأَيَّامَ تُطْوَى ، وَالْأَعْمَارَ تَفْنَى ، وَالْأَبْدَانَ تُبْلَى ، وَإِنَّ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَرَاكَضَانِ كَتَرَاكُضِ الْبَرِيدِ ، يُقَرِّبَانِ
كُلَّ بَعِيدٍ ، وَيُخْلِقَانِ كُلَّ جَدِيدٍ ، وَفِي ذَلِكَ عِبَادَ اللَّهِ مَا
أَلْهَى عَنْ الشَّهَوَاتِ ، وَرَغَّبَ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ } .
وَقَالَ مِسْعَرٌ كَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ يَوْمًا
وَلَيْسَ يَسْتَكْمِلُهُ ، وَمُنْتَظِرٍ غَدًا وَلَيْسَ مِنْ أَجَلِهِ .
وَلَوْ رَأَيْتُمْ الْأَجَلَ وَمَسِيرَهُ ،
لَأَبْغَضْتُمْ الْأَمَلَ وَغُرُورَهُ
.
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ ؟ قَالَ : أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا
لِلْمَوْتِ وَأَشَدُّهُمْ اسْتِعْدَادًا لَهُ .
أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ
الْآخِرَةِ } .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
كَمَا تَنَامُونَ كَذَلِكَ تَمُوتُونَ ، وَكَمَا تَسْتَيْقِظُونَ كَذَلِكَ
تُبْعَثُونَ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إنْ قُلْتُمْ سَمِعَ ،
وَإِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ ، وَبَادِرُوا الْمَوْتَ الَّذِي إنْ هَرَبْتُمْ
أَدْرَكَكُمْ ، وَإِنْ أَقَمْتُمْ أَخَذَكُمْ .
وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَيْسَ قَبْلَ
الْمَوْتِ شَيْءٌ إلَّا وَالْمَوْتُ أَشَدُّ مِنْهُ ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ
شَيْءٌ إلَّا الْمَوْتُ أَيْسَرُ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ لِلْبَاقِي
بِالْمَاضِي مُعْتَبَرًا ، وَلِلْآخِرِ بِالْأَوَّلِ مُزْدَجَرًا ، وَالسَّعِيدُ
لَا يَرْكَنُ إلَى الْخُدَعِ ، وَلَا يَغْتَرُّ بِالطَّمَعِ .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : إنَّ بَقَاءَك إلَى
فَنَاءٍ ، وَفَنَاءَك إلَى بَقَاءٍ ، فَخُذْ مِنْ فَنَائِك الَّذِي لَا يَبْقَى ؛
لِبَقَائِك
الَّذِي لَا يَفْنَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَيُّ عَيْشٍ يَطِيبُ ،
وَلَيْسَ لِلْمَوْتِ طَبِيبٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : كُلُّ امْرِئٍ يَجْرِي
مِنْ عُمُرِهِ إلَى غَايَةٍ تَنْتَهِي إلَيْهَا مُدَّةُ أَجَلِهِ ، وَتَنْطَوِي
عَلَيْهَا صَحِيفَةُ عَمَلِهِ ، فَخُذْ مِنْ نَفْسِك لِنَفْسِك ، وَقِسْ يَوْمَك
بِأَمْسِك ، وَكَفَّ عَنْ سَيِّئَاتِك ، وَزِدْ فِي حَسَنَاتِك قَبْلَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ
مُدَّةَ الْأَجَلِ وَتُقَصِّرْ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي السَّعْيِ وَالْعَمَلِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ لَمْ
يَتَعَرَّضْ لِلنَّوَائِبِ تَعَرَّضَتْ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : مَا لِلْمَقَابِرِ لَا
تُجِيبُ إذَا دَعَاهُنَّ الْكَئِيبُ حُفَرٌ مُسَقَّفَةٌ عَلَيْهِنَّ الْجَنَادِلُ
وَالْكَثِيبُ فِيهِنَّ وِلْدَانٌ وَأَطْفَالٌ وَشُبَّانٌ وَشِيبُ كَمْ مِنْ
حَبِيبٍ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي بِفُرْقَتِهِ تَطِيبُ غَادَرْته فِي بَعْضِهِنَّ مُجَنْدَلًا
وَهُوَ الْحَبِيبُ وَسَلَوْت عَنْهُ وَإِنَّمَا عَهْدِي بِرُؤْيَتِهِ قَرِيبُ
وَوَعَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ : {
أَقْلِلْ مِنْ الدُّنْيَا تَعِشْ حُرًّا ، وَأَقْلِلْ مِنْ الذُّنُوبِ يَهُنْ
عَلَيْك الْمَوْتُ ، وَانْظُرْ حَيْثُ تَضَعُ وَلَدَك فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ } .
وَقَالَ الرَّشِيدُ لِابْنِ السَّمَّاكِ - رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى - : عِظْنِي وَأَوْجِزْ
.
فَقَالَ : اعْلَمْ أَنَّك أَوَّلُ خَلِيفَةٍ يَمُوتُ .
وَعَزَّى أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا عَنْ ابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ
فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّاهُ مِمَّا هَهُنَا مِنْ الْكَدَرِ ،
وَخَلَّصَهُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْخَطَرِ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ عَمِلَ لِلْآخِرَةِ
أَحْرَزَهَا وَالدُّنْيَا ، وَمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا حُرِمَهَا وَالْآخِرَةَ .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : اسْتَغْنِمْ تَنَفُّسَ
الْأَجَلِ ، وَإِمْكَانَ الْعَمَلِ ، وَاقْطَعْ ذِكْرَ الْمَعَاذِيرِ وَالْعِلَلِ
، فَإِنَّك فِي أَجَلٍ مَحْدُودٍ ، وَنَفَسٍ مَعْدُومٍ ، وَعُمُرٍ غَيْرِ
مَمْدُودٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الطَّبِيبُ مَعْذُورٌ ،
إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الْمَحْذُورِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : اعْمَلْ عَمَلَ
الْمُرْتَحِلِ
فَإِنَّ حَادِيَ الْمَوْتِ يَحْدُوك ، لِيَوْمٍ لَيْسَ يَعْدُوك .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :
بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : غَرَّ جَهُولًا أَمَلُهْ يَمُوتُ مَنْ جَا أَجَلُهْ وَمَنْ دَنَا مِنْ حَتْفِهِ
لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حِيَلُهْ وَمَا بَقَاءُ آخِرٍ قَدْ غَابَ عَنْهُ أَوَّلُهْ
وَالْمَرْءُ لَا يَصْحَبُهُ فِي الْقَبْرِ إلَّا عَمَلُهْ وَقَالَ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ : لَا تَأْمَنْ الْمَوْتَ فِي لَحْظٍ وَلَا نَفَسِ وَإِنْ
تَمَنَّعْتَ بِالْحُجَّابِ وَالْحَرَسِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ
قَاصِدَةٌ لِكُلِّ مُدَرَّعٍ مِنْهَا وَمُتَّرَسِ تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ
تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ فَإِذَا
رَضَتْ نَفْسُك مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا وَصَفْت اعْتَضْت مِنْهَا ثَلَاثَ
خِلَالٍ : إحْدَاهَا : أَنْ تُكْفَى تَسْوِيفَ أَمَلٍ يُرْدِيك ، وَتَسْوِيلَ مُحَالٍ
يُؤْذِيك .
فَإِنَّ تَسْوِيفَ الْأَمَلِ غِرَارٌ ، وَتَسْوِيلَ
الْمُحَالِ ضِرَارٌ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ تَسْتَيْقِظَ لِعَمَلِ آخِرَتِك ،
وَتَغْتَنِمَ بَقِيَّةَ أَجَلِك بِخَيْرِ عَمَلِك .
فَإِنَّ مَنْ قَصَّرَ أَمَلَهُ ، وَاسْتَقَلَّ أَجَلَهُ
، حَسُنَ عَمَلُهُ .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَهُونَ عَلَيْك نُزُولُ مَا
لَيْسَ عَنْهُ مَحِيصٌ ، وَيَسْهُلَ عَلَيْك حُلُولُ مَا لَيْسَ إلَى دَفْعِهِ
سَبِيلٌ .
فَإِنَّ مَنْ تَحَقَّقَ أَمْرًا تَوَطَّأَ لِحُلُولِهِ ،
فَهَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِهِ
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : { نَبِّهْ بِالتَّفَكُّرِ قَلْبَك ،
وَجَافٍ عَنْ النَّوْمِ جَنْبَك ، وَاتَّقِ اللَّهَ رَبَّك } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عِظْنِي .
فَقَالَ : ارْضَ بِالْقَوْتِ وَخَفْ مِنْ الْفَوْتِ ،
وَاجْعَلْ صَوْمَك الدُّنْيَا وَفِطْرَك الْمَوْتَ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : مَا رَأَيْت يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ ، أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا يَقِين
فِيهِ ، مِنْ يَقِينٍ نَحْنُ فِيهِ
.
فَلَئِنْ كُنَّا مُقِرِّينَ إنَّا لِحَمْقَى ، وَلَئِنْ
كُنَّا
جَاحِدِينَ إنَّا لَهَلْكَى .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ - : نَهَارُك ضَيْفُك فَأَحْسِنْ إلَيْهِ فَإِنَّك إنْ أَحْسَنْت إلَيْهِ
ارْتَحَلَ بِحَمْدِك ، وَإِنْ أَسَأْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِذَمِّك ، وَكَذَلِكَ
لَيْلُك .
وَقَالَ الْجَاحِظُ ، فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وُجِدَ
مَكْتُوبًا فِي حَجَرٍ : يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ رَأَيْت يَسِيرَ مَا بَقِيَ مِنْ
أَجَلِك ، لَزَهِدْت فِي طَوِيلِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِك ، وَلَرَغِبْت فِي
الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِك ، وَلَقَصَّرْت مِنْ حِرْصِك وَحِيَلِك ، وَإِنَّمَا يَلْقَاك
غَدًا نَدَمُك ، لَوْ قَدْ زَلَّتْ بِك قَدَمُك ، وَأَسْلَمَك أَهْلُك وَحَشَمُك ،
وَتَبَرَّأَ مِنْك الْقَرِيبُ ، وَانْصَرَفَ عَنْك الْحَبِيبُ .
وَلَمَّا حَضَرَ بِشْرَ بْنَ مَنْصُورٍ الْمَوْتُ فَرِحَ
، فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْرَحُ بِالْمَوْتِ ؟ فَقَالَ : أَتَجْعَلُونَ قُدُومِي
عَلَى خَالِقٍ أَرْجُوهُ كَمُقَامِي مَعَ مَخْلُوقٍ أَخَافُهُ ؟ وَقِيلَ لِأَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ :
لَوْ أَرْسَلْت إلَى الطَّبِيبِ ؟ فَقَالَ : قَدْ رَآنِي .
قَالُوا : فَمَا قَالَ لَك ؟ قَالَ : قَالَ : إنِّي
فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ .
وَقِيلَ لِلرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ ، وَقَدْ اعْتَلَّ :
نَدْعُو لَك بِالطَّبِيبِ ؟ قَالَ : قَدْ أَرَدْت ذَلِكَ فَذَكَرْت عَادًا
وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَعَلِمْت
أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ الدَّاءُ وَالْمُدَاوِي فَهَلَكُوا جَمِيعًا .
وَسَأَلَ أَنُوشِرْوَانَ : مَتَى يَكُونُ عَيْشُ
الدُّنْيَا أَلَذَّ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَهُ فِي
حَيَاتِهِ مَعْمُولًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ ذَكَرَ الْمَنِيَّةَ
نَسِيَ الْأُمْنِيَّةَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : عَنْ الْمَوْتِ تَسَلْ ،
وَهُوَ كَرِيشَةٍ تُسَلُّ ، وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْأَمَلُ حِجَابُ
الْأَجَلِ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ
لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَنَّا إذَا مُتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ
الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ وَلَكِنَّا إذَا مُتْنَا بُعِثْنَا وَنُسْأَلُ
بَعْدَ ذَا عَنْ كُلِّ شَيِّ وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ
: أَلَا إنَّمَا الدُّنْيَا مَقِيلٌ لِرَاكِبٍ قَضَى وَطَرًا مِنْ مَنْزِلٍ ثُمَّ هَجَّرَا
وَرَاحَ وَلَا يَدْرِي عَلَامَ قُدُومُهُ أَلَا كُلُّ مَا قَدَّمْت تَلْقَى
مُوَفَّرَا وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا
الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اكْسِبْ
طَيِّبًا ، وَاعْمَلْ صَالِحًا ، وَاسْأَلْ اللَّهَ تَعَالَى رِزْقَ يَوْمٍ
بِيَوْمٍ ، وَاعْدُدْ نَفْسَك مِنْ الْمَوْتَى } .
وَكَتَبَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَم إلَى أَخٍ لَهُ :
قَدِّمْ جَهَازَك ، وَافْرَغْ مِنْ زَادِك ، وَكُنْ وَصِيَّ نَفْسِك وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَصَابَ الدُّنْيَا مَنْ
حَذِرَهَا ، وَأَصَابَتْ الدُّنْيَا مَنْ أَمِنَهَا .
وَمَرَّ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ
- بِقَوْمٍ فَقِيلَ : هَؤُلَاءِ زُهَّادٌ .
فَقَالَ : مَا قَدْرُ الدُّنْيَا حَتَّى يُحْمَدَ مَنْ
زَهِدَ فِيهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : السَّعِيدُ مَنْ
اعْتَبَرَ بِأَمْسِهِ ، وَاسْتَظْهَرَ لِنَفْسِهِ ، وَالشَّقِيُّ مَنْ جَمَعَ
لِغَيْرِهِ وَبَخِلَ عَلَى نَفْسِهِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا تَبِتْ عَنْ غَيْرِ
وَصِيَّةٍ إنْ كُنْت مِنْ جِسْمِك فِي صِحَّةٍ ، وَمِنْ عُمُرِك فِي فُسْحَةٍ ،
فَإِنَّ الدَّهْرَ خَائِنٌ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ كَائِنٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَنْ كَانَ يَعْلَمُ
أَنَّ الْمَوْتَ مُدْرِكُهُ وَالْقَبْرَ مَسْكَنُهُ وَالْبَعْثَ مُخْرِجُهُ وَأَنَّهُ
بَيْنَ جَنَّاتٍ سَتُبْهِجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ نَارٍ سَتُنْضِجُهُ
فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَى التَّقْوَى بِهِ سَمْجٌ وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ
أَسْمَجُهُ تَرَى الَّذِي اتَّخَذَ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا لَمْ يَدْرِ أَنَّ
الْمَنَايَا سَوْفَ تُزْعِجُهُ وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ لَكُمْ
نِهَايَةً فَانْتَهُوا إلَى نِهَايَتِكُمْ ، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا
إلَى مَعَالِمِكُمْ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ :
أَجَلٍ
قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِيهِ ، وَأَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا
يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ .
فَلْيَتَزَوَّدْ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ،
وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ ، وَمِنْ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَإِنَّ
الدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُمْ وَأَنْتُمْ خُلِقْتُمْ لِلْآخِرَةِ .
فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ
الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٍ ، إلَّا الْجَنَّةُ
أَوْ النَّارُ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ - : أَمْسُ أَجَلٌ ، وَالْيَوْمُ عَمَلٌ ، وَغَدًا أَمَلٌ .
فَأَخَذَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ هَذَا الْمَعْنَى
فَنَظَمَهُ شَعْرًا : لَيْسَ فِيمَا مَضَى وَلَا فِي الَّذِي يَأْتِيك مِنْ
لَذَّةٍ لِمُسْتَحْلِيهَا إنَّمَا أَنْتَ طُولَ عُمُرِك مَا عَمَرْت فِي
السَّاعَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا عَلِّلْ النَّفْسَ بِالْكَفَافِ وَإِلَّا
طَلَبَتْ مِنْك فَوْقَ مَا يَكْفِيهَا وَقِيلَ لِزَاهِدٍ : مَا لَك تَمْشِي عَلَى
الْعَصَا وَلَسْت بِكَبِيرٍ وَلَا مَرِيضٍ ؟ فَقَالَ : إنِّي أَعْلَمُ أَنِّي مُسَافِرٌ
وَأَنَّهَا دَارُ بُلْغَةٍ وَإِنَّ الْعَصَا مِنْ آلَةِ السَّفَرِ .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : حَمَلْت الْعَصَا
لَا الضَّعْفُ أَوْجَبَ حَمْلَهَا عَلَيَّ وَلَا أَنِّي تَحَنَّيْت مِنْ كِبَرِ
وَلَكِنَّنِي أَلْزَمْت نَفْسِي حَمْلَهَا لِأُعْلِمَهَا أَنِّي مُقِيمٌ عَلَى
سَفَرِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ : الدُّنْيَا سَاعَةٌ ، فَاجْعَلْهَا طَاعَةً .
وَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
رَتَعْنَا فِي الدُّنْيَا جَاهِلِينَ ، وَعِشْنَا فِيهَا غَافِلِينَ ،
وَأُخْرِجْنَا مِنْهَا كَارِهِينَ
.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْمَرْءُ أَسِيرُ عُمُرٍ
يَسِيرٍ .
وَقِيلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاعِظِ : عَجَبًا لِمَنْ
يَخَافُ الْعِقَابَ كَيْفَ لَا يَكُفَّ عَنْ الْمَعَاصِي ، وَعَجَبًا لِمَنْ
يَرْجُو الثَّوَابَ كَيْفَ لَا يَعْمَلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْمُسِيءُ مَيِّتٌ وَإِنْ
كَانَ فِي دَارِ الْحَيَاةِ ، وَالْمُحْسِنُ حَيٌّ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ
الْأَمْوَاتِ ، وَكُلٌّ بِالْأَثَرِ يَوْمُهُ أَوْ غَدُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى أَلْسِنَةٍ
تَصِفُ ،
وَقُلُوبٍ تَعْرِفُ ، وَأَعْمَالٍ تُخَالِفُ .
وَقَالَ آخَرُ : اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلَانِ
فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا .
وَقَالَ آخَرُ : اعْمَلُوا لِآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ ، كَأَنَّهَا تَطِيرُ .
وَقَالَ آخَرُ : الْمَوْتُ قُصَارَاك ، فَخُذْ مِنْ
دُنْيَاك لِأُخْرَاك .
وَقَالَ آخَرُ : عِبَادَ اللَّهِ ، الْحَذَرَ الْحَذَرَ
، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ ، وَلَقَدْ أَمْهَلَ
، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أَهْمَلَ
.
وَقَالَ آخَرُ : الْأَيَّامُ صَحَائِفُ أَعْمَالِكُمْ ،
فَخَلِّدُوهَا أَجْمَلَ أَفْعَالِكُمْ
.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : اقْبَلْ نُصْحَ
الْمَشِيبِ وَإِنْ عَجَّلَ .
وَقِيلَ : مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ ، إلَّا وَعَظَتْ
بِأَمْسٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَضَى أَمْسُك الْأَدْنَى شَهِيدًا مُعَدَّلًا وَيَوْمُك هَذَا بِالْفِعَالِ
شَهِيدُ فَإِنْ تَكُ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفَتْ إسَاءَةً فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ
وَأَنْتَ حَمِيدُ وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْك إلَى غَدٍ لَعَلَّ غَدًا
يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا رَأَيْت مِثْلَ
الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا ، وَمَا رَأَيْت مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا } .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ :
أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا حِينَ نَظَرَ النَّاسُ
إلَى ظَاهِرِهَا ، وَإِلَى آجِلِ الدُّنْيَا حِينَ نَظَرَ النَّاسُ إلَى
عَاجِلِهَا ، فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَ قُلُوبَهُمْ ،
وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَتْرُكُهُمْ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: النَّاسُ طَالِبَانِ يَطْلُبَانِ : فَطَالِبٌ يَطْلُبُ الدُّنْيَا فَارْفُضُوهَا
فِي نَحْرِهِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدْرَكَ الَّذِي يَطْلُبُهُ مِنْهَا فَهَلَكَ
بِمَا أَصَابَ مِنْهَا ، وَطَالِبٌ يَطْلُبُ الْآخِرَةَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ
طَالِبًا يَطْلُبُ الْآخِرَةَ فَنَافِسُوهُ فِيهَا .
وَدَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ الشَّامَ
فَقَالَ : يَا أَهْلَ الشَّامِ اسْمَعُوا قَوْلَ أَخٍ نَاصِحٍ ، فَاجْتَمَعُوا
عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ تَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ ، وَتَجْمَعُونَ
مَا لَا تَأْكُلُونَ .
إنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ بَنَوْا مَشِيدًا ،
وَأَمَّلُوا بَعِيدًا ، وَجَمَعُوا كَثِيرًا فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا ،
وَجَمْعُهُمْ ثُبُورًا ، وَمَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : إنَّ الدُّنْيَا غَرَّتْ أَقْوَامًا
فَعَمِلُوا فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَاجَلَهُمْ الْمَوْتُ فَخَلَّفُوا
مَالَهُمْ لِمَنْ لَا يَحْمَدُهُمْ وَصَارُوا لِمَنْ لَا يَعْذُرْهُمْ ، وَقَدْ
خُلِقْنَا بَعْدَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ لِلَّذِي كَرِهْنَاهُ مِنْهُمْ
فَنَجْتَنِبَهُ ، وَاَلَّذِي غَبَطْنَاهُمْ بِهِ فَنَسْتَعْمِلَهُ .
وَمَرَّ بَعْضُ الزُّهَّادِ بِبَابِ مَلِكٍ فَقَالَ :
بَابٌ جَدِيدٌ ، وَمَوْتٌ عَتِيدٌ ، وَسَفَرٌ بَعِيدٌ .
وَمَرَّ بَعْضُ الزُّهَّادِ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ
عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : مِسْكِينٌ سَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ جُبَّةً .
وَمَرَّ بِهِ آخَرُ فَأَعْطَاهُ جُبَّةً ، فَقَالَ :
صَدَقَ اللَّهُ { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا أَنْصَفَ مِنْ
نَفْسِهِ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ ، وَزَهِدَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ .
وَقَالَ آخَرُ : بِطُولِ الْأَمَلِ تَقْسُو الْقُلُوبُ ،
وَبِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ تَقِلُّ الذُّنُوبُ .
وَقَالَ آخَرُ : إيَّاكَ وَالْمُنَى فَإِنَّهَا مِنْ
بِضَائِعِ النَّوْكَى ، وَتُثَبِّطُ عَنْ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى .
وَقَالَ آخَرُ : قَصِّرْ أَمَلَك فَإِنَّ الْعُمُرَ
قَصِيرٌ ، وَأَحْسِنْ سِيرَتَك فَالْبِرُّ يَسِيرٌ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : نَسِيرُ إلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَيَّامُنَا تُطْوَى
وَهُنَّ رَوَاحِلُ وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ إذَا مَا
تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِي بَاطِلُ وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا
فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ نَازِلُ تَرَحَّلْ عَنْ الدُّنْيَا
بِزَادٍ مِنْ التُّقَى فَعُمْرُك أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلَائِلُ وَكَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَيْنِ
الْبَيْتَيْنِ
: فَاعْمَلْ
عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّك مَيِّتُ وَاكْدَحْ لِنَفْسِك أَيُّهَا الْإِنْسَانْ
فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إذْ مَضَى وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ
كَانْ وَنَظَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي الْمِرْآةِ فَقَالَ : أَنَا
الْمَلِكُ الشَّابُّ .
فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ لَهُ : أَنْتَ نِعْمَ
الْمَتَاعُ لَوْ كُنْت تَبْقَى غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ
فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْك عَيْبٌ كَانَ فِي النَّاسِ غَيْرُ أَنَّك فَانِ وَرَوَى
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { خَطَبَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فَقَالَ : أَيُّهَا
النَّاسُ كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ
فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ
.
وَكَأَنَّ الَّذِينَ نُشَيِّعُ مِنْ الْأَمْوَاتِ سَفَرٌ
عَمَّا قَلِيلٍ إلَيْنَا رَاجِعُونَ ، نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ وَنَأْكُلُ
تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ ، وَأَمِنَّا
كُلَّ جَائِحَةٍ .
طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ ،
وَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَرَحِمَ أَهْلَ
الدَّيْنِ وَالْمَسْكَنَةِ ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ .
طُوبَى لِمَنْ أَدَّبَ نَفْسَهُ وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ
، وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ .
طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمٍ ، وَأَنْفَقَ مِنْ فَضْلٍ
، وَأَمْسَكَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ ، وَلَمْ يَعْدُهَا إلَى
بِدْعَةٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { زُورُوا الْقُبُورَ تَذَكَّرُوا بِهَا الْآخِرَةَ وَغَسِّلُوا
الْمَوْتَى فَإِنَّهَا مُعَالَجَةُ الْأَجْسَادِ الْخَاوِيَةِ وَمَوْعِظَةٌ
بَلِيغَةٌ } .
وَحَفَرَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَم فِي دَارِهِ قَبْرًا
فَكَانَ إذَا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ قَسْوَةً جَاءَ فَاضْطَجَعَ فِي الْقَبْرِ فَمَكَثَ
مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَقُولُ : { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
فِيمَا تَرَكْتُ } .
ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ : قَدْ
أَرْجَعْتُك فَجِدِّي .
فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو
مُحْرِزٍ
الطُّفَاوِيُّ كَفَتْك الْقُبُورُ مَوَاعِظَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا أَبْلَغُ الْعِظَاتِ
؟ قَالَ : النَّظَرُ إلَى مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ ، فَأَخَذَهُ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ : وَعَظَتْك أَجْدَاثٌ صُمُتْ وَنَعَتَك أَزْمِنَةٌ خُفُتْ
وَتَكَلَّمَتْ عَنْ أَوْجُهٍ تُبْلَى وَعَنْ صُوَرٍ سُبُتْ وَأَرَتْك قَبْرَك فِي الْحَيَاةِ
وَأَنْتَ حَيٌّ لَمْ تَمُتْ يَا شَامِتًا بِمَنِيَّتِي إنَّ الْمَنِيَّةَ لَمْ
تَفُتْ فَلَرُبَّمَا انْقَلَبَ الشِّمَاتُ فَحَلَّ بِالْقَوْمِ الشُّمُتْ وَوُجِدَ
عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ : قَهَرْنَا مَنْ قَهَرْنَا فَصِرْنَا لِلنَّاظِرِينَ
عِبْرَةً .
وَعَلَى آخَرَ : مَنْ أَمَّلَ الْبَقَاءَ وَقَدْ رَأَى
مَصَارِعَنَا فَهُوَ مَغْرُورٌ
.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَا أَكْثَرُ مَنْ
يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يُطِيعُهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَمُتْ لَمْ
يَفُتْ .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : لَنَا مِنْ كُلِّ مَيِّتٍ
عِظَةٌ بِحَالِهِ ، وَعِبْرَةٌ بِمَالِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ
بِمَوْتِ وَلَدٍ ، لَمْ يَتَّعِظْ بِقَوْلِ أَحَدٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا نَقَصَتْ سَاعَةٌ
مِنْ أَمْسِك ، إلَّا بِبِضْعَةٍ مِنْ نَفْسِك .
فَأَخَذَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ : إنَّ مَعَ
الدَّهْرِ فَاعْلَمَنَّ غَدًا فَانْظُرْ بِمَا يَنْقَضِي مَجِيءُ غَدِهْ مَا ارْتَدَّ
طَرْفُ امْرِئٍ بِلَذَّتِهِ إلَّا وَشَيْءٌ يَمُوتُ مِنْ جَسَدِهْ وَلَمَّا مَاتَ الْإِسْكَنْدَرُ
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَانَ الْمَلِكُ أَمْسِ أَنْطَقَ مِنْهُ الْيَوْمَ ،
وَهُوَ الْيَوْمَ أَوَعْظُ مِنْهُ أَمْسِ .
فَأَخَذَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ
: كَفَى حُزْنًا بِدَفْنِك ثُمَّ إنِّي نَفَضْت تُرَابَ قَبْرِك عَنْ يَدَيَّا
وَكَانَتْ فِي حَيَاتِك لِي عِظَاتٌ وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْك حَيَّا
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَوْ كَانَ لِلْخَطَايَا رِيحٌ لَافْتَضَحَ النَّاسُ
وَلَمْ يَتَجَالَسُوا .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ
: أَحْسَنَ اللَّهُ بِنَا أَنَّ الْخَطَايَا لَا تَفُوحُ فَإِذَا الْمَسْتُورُ
مِنَّا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ فَضُوحُ وَهَذَا جَمِيعُهُ مَأْخُوذٌ
مِنْ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ تَكَاشَفْتُمْ مَا
تَدَافَنْتُمْ } .
وَكَتَبَ رَجُلٌ إلَى أَبِي الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ إنِّي وَاثِقٌ مِنْك بِوُدِّكْ فَأَعِنِّي بِأَبِي
أَنْتَ عَلَى عَيْبِي بِرُشْدِكْ فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ : أَطِعْ اللَّهَ
بِجَهْدِكْ رَاغِبًا أَوْ دُونَ جَهْدِكْ أَعْطِ مَوْلَاك الَّذِي تَطْلُبُ مِنْ
طَاعَةِ عَبْدِكْ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ سَرَّهُ بَنُوهُ سَاءَتْهُ نَفْسُهُ .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ : ابْنُ ذِي
الِابْنِ كُلَّمَا زَادَ مِنْهُ مَشْرَعٌ زَادَ فِي فَنَاءِ أَبِيهِ مَا بَقَاءُ
الْأَبِ الْمُلِحِّ عَلَيْهِ بِدَبِيبِ الْبِلَى شَبَابُ بَنِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ
مَا حُكِيَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةٍ ،
فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ يَقُولُ : إذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ
أَوْلَادُهَا وَارْتَعَشَتْ مِنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا وَجَعَلَتْ أَسَقَامُهَا تَعْتَادُهَا
تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا وَكَتَبَ رَجُلٌ إلَى صَالِحِ بْنِ عَبْدِ
الْقُدُّوسِ : الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ فَلَيْتَ شَعْرِي
بَعْدَ الْبَابِ مَا الدَّارُ فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ : الدَّارُ جَنَّاتُ عَدْنٍ
إنْ عَمِلْت بِمَا يُرْضِي الْإِلَهَ وَإِنْ خَالَفْت فَالنَّارُ هُمَا مَحَلَّانِ
مَا لِلنَّاسِ غَيْرُهُمَا فَانْظُرْ لِنَفْسِك مَاذَا أَنْتَ مُخْتَارُ
الْبَابُ الرَّابِعُ
أَدَبُ الدُّنْيَا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِنَافِذِ قُدْرَتِهِ وَبَالِغِ
حِكْمَتِهِ ، خَلَقَ الْخَلْقَ بِتَدْبِيرِهِ وَفَطَرَهُمْ بِتَقْدِيرِهِ ،
فَكَانَ مِنْ لَطِيفِ مَا دَبَّرَهُ وَبَدِيعِ مَا قَدَّرَهُ ، أَنَّهُ خَلَقَهُمْ
مُحْتَاجِينَ وَفَطَرَهُمْ عَاجِزِينَ ، لِيَكُونَ بِالْغِنَى مُنْفَرِدًا
وَبِالْقُدْرَةِ مُخْتَصًّا حَتَّى يُشْعِرَنَا بِقُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَالِقٌ ، وَيُعْلِمَنَا
بِغِنَاهُ أَنَّهُ رَازِقٌ ، فَنُذْعِنَ بِطَاعَتِهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً
وَنُقِرَّ بِنَقَائِصِنَا عَجْزًا وَحَاجَةً .
ثُمَّ جَعَلَ الْإِنْسَانَ أَكْثَرَ حَاجَةً مِنْ
جَمِيعِ الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْحَيَوَانِ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ
عَنْ جِنْسِهِ ، وَالْإِنْسَانُ مَطْبُوعٌ عَلَى الِافْتِقَارِ إلَى جِنْسِهِ .
وَاسْتِعَانَتُهُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِطَبْعِهِ ،
وَخِلْقَةٌ قَائِمَةٌ فِي جَوْهَرِهِ
.
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {
وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا
} .
يَعْنِي عَنْ الصَّبْرِ عَمَّا هُوَ إلَيْهِ مُفْتَقِرٌ
وَاحْتِمَالِ مَا هُوَ عَنْهُ عَاجِزٌ
.
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ حَاجَةً مِنْ
جَمِيعِ الْحَيَوَانِ كَانَ أَظْهَرَ عَجْزًا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الشَّيْءِ
افْتِقَارٌ إلَيْهِ ، وَالْمُفْتَقِرُ إلَى الشَّيْءِ عَاجِزٌ بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ :
اسْتِغْنَاؤُك عَنْ الشَّيْءِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِغْنَائِك بِهِ .
وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ
بِكَثْرَةِ الْحَاجَةِ وَظُهُورِ الْعَجْزِ نِعْمَةً عَلَيْهِ وَلُطْفًا بِهِ ؛
لِيَكُونَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَمُهَانَةُ الْعَجْزِ يَمْنَعَانِهِ مِنْ طُغْيَانِ
الْغِنَى وَبَغْيِ الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّ الطُّغْيَانَ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِهِ
إذَا اسْتَغْنَى ، وَالْبَغْيَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ إذَا قَدَرَ .
وَقَدْ أَنْبَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْهُ
فَقَالَ : { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } .
ثُمَّ لِيَكُونَ أَقْوَى الْأُمُورِ شَاهِدًا عَلَى
نَقْصِهِ ، وَأَوْضَحَهَا دَلِيلًا عَلَى عَجْزِهِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِابْنِ
الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَعَيَّرْتَنِي بِالنَّقْصِ وَالنَّقْصُ شَامِلٌ
وَمَنْ ذَا
الَّذِي يُعْطَى الْكَمَالَ فَيَكْمُلُ وَأَشْهَدُ أَنِّي نَاقِصٌ غَيْرَ أَنَّنِي
إذَا قِيسَ بِي قَوْمٌ كَثِيرٌ تَقَلَّلُوا تَفَاضَلَ هَذَا الْخَلْقُ بِالْفَضْلِ
وَالْحِجَا فَفِي أَيِّمَا هَذَيْنِ أَنْتَ مُفَضَّلُ وَلَوْ مَنَحَ اللَّهُ
الْكَمَالَ ابْنَ آدَمَ لَخَلَّدَهُ وَاَللَّهُ مَا شَاءَ يَفْعَلُ وَلَمَّا
خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مَاسَّ الْحَاجَةِ ظَاهِرَ الْعَجْزِ جَعَلَ لِنَيْلِ
حَاجَتِهِ أَسْبَابًا ، وَلِدَفْعِ عَجْزِهِ حِيَلًا دَلَّهُ عَلَيْهَا
بِالْعَقْلِ ، وَأَرْشَدَهُ إلَيْهَا بِالْفَطِنَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } .
قَالَ مُجَاهِدٌ : قَدَّرَ أَحْوَالَ خَلْقِهِ فَهَدَى
إلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ } .
يَعْنِي الطَّرِيقَيْنِ : طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ
الشَّرِّ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْعَقْلُ دَالًا عَلَى أَسْبَابِ
مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِدْرَاكَ
وَالظَّفَرَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا قَسَمَ وَقَدَّرَ كَيْ لَا يَعْتَمِدُوا فِي الْأَرْزَاقِ
عَلَى عُقُولِهِمْ ، وَفِي الْعَجْزِ عَلَى فِطَنِهِمْ ، لِتَدُومَ لَهُ
الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ ، وَيَظْهَرَ مِنْهُ الْغِنَى وَالْقُدْرَةُ .
وَرُبَّمَا عَزَبَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَنْ سَاءَ
ظَنُّهُ بِخَالِقِهِ حَتَّى صَارَ سَبَبًا لِضَلَالِهِ .
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : سُبْحَانَ مَنْ أَنْزَلَ
الْأَيَّامَ مَنْزِلَهَا وَصَيَّرَ النَّاسَ مَرْفُوضًا وَمَرْمُوقَا فَعَاقِلٌ
فَطِنٌ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٌ خَرِقٌ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا هَذَا الَّذِي
تَرَكَ الْأَلْبَابَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَاقِلَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا وَلَوْ
حَسُنَ ظَنُّ الْعَاقِلِ فِي صِحَّةِ نَظَرِهِ لَعَلِمَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ
مَا صَارَ بِهِ صِدِّيقًا لَا زِنْدِيقًا ؛ لِأَنَّ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ مَا
هُوَ ظَاهِرٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَامِضٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَغِيبُ حِكْمَةٍ
اسْتَأْثَرَ بِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ { حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ } .
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَسْبَابَ
حَاجَاتِهِ وَحِيَلَ
عَجْزِهِ فِي
الدُّنْيَا الَّتِي جَعَلَهَا دَارَ تَكْلِيفٍ وَعَمَلٍ ، كَمَا جَعَلَ الْآخِرَةَ
دَارَ قَرَارٍ وَجَزَاءٍ ، فَلَزِمَ لِذَلِكَ أَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانُ إلَى
دُنْيَاهُ حَظًّا مِنْ عِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا غِنَى بِهِ عَنْ التَّزَوُّدِ
مِنْهَا لِآخِرَتِهِ ، وَلَا لَهُ بُدٌّ مِنْ سَدِّ الْخَلَّةِ فِيهَا عِنْدَ
حَاجَتِهِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ نَقْضٌ لِمَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ مِنْ تَرْكِ فُضُولِهَا ، وَزَجْرِ النَّفْسِ عَنْ الرَّغْبَةِ فِيهَا .
بَلْ الرَّاغِبُ فِيهَا مَلُومٌ ، وَطَالِبُ فُضُولِهَا
مَذْمُومٌ .
وَالرَّغْبَةُ إنَّمَا تَخْتَصُّ بِمَا جَاوَزَ قَدْرَ
الْحَاجَةِ ، وَالْفُضُولُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ
الْكِفَايَةِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } .
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ : فَإِذَا فَرَغْت مِنْ
أُمُورِ دُنْيَاك فَانْصَبْ فِي عِبَادَةِ رَبِّك .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَرْغِيبًا لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، وَلَكِنْ نَدَبَهُ إلَى أَخْذِ
الْبُلْغَةِ مِنْهَا .
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَيْسَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ وَلَا
الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا ، وَلَكِنَّ خَيْرَكُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نِعْمَ الْمَطِيَّةُ الدُّنْيَا فَارْتَحِلُوهَا تُبَلِّغُكُمْ
الْآخِرَةَ } .
وَذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الدُّنْيَا دَارُ
صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا ، وَدَارُ نَجَاةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا ، وَدَارُ غِنًى
لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا .
وَحَكَى مُقَاتِلٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ : يَا رَبِّ حَتَّى مَتَى
أَتَرَدَّدُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : أَمْسِكْ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ
طَلَبُ الْمَعَاشِ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ - : مَكْتُوبٌ فِي
التَّوْرَاةِ
: إذَا
كَانَ فِي الْبَيْتِ بُرٌّ فَتَعَبَّدْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاطْلُبْ ، يَا ابْنَ
آدَمَ حَرِّكْ يَدَك يُسَبَّبْ لَك رِزْقُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ مِنْ الرَّغْبَةِ
فِي الدُّنْيَا اكْتِسَابُ مَا يَصُونَ الْعِرْضَ فِيهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَيْسَ مِنْ الْحِرْصِ
اجْتِلَابُ مَا يَقُوتُ الْبَدَنَ
.
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : لَا تُتْبِعْ
الدُّنْيَا وَأَيَّامَهَا ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِك الدَّائِرَهْ مِنْ شَرَفِ
الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلِهَا أَنَّ بِهَا تُسْتَدْرَكُ الْآخِرَهْ فَإِذًا قَدْ
لَزِمَ بِمَا بَيَّنَّاهُ النَّظَرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَوَجَبَ سَتْرُ أَحْوَالِهَا
، وَالْكَشْفُ عَنْ جِهَةِ انْتِظَامِهَا وَاخْتِلَالِهَا ، لِنَعْلَمَ أَسْبَابَ
صَلَاحِهَا وَفَسَادِهَا ، وَمَوَادَّ عُمْرَانِهَا وَخَرَابِهَا ، لِتَنْتَفِيَ
عَنْ أَهْلِهَا شِبْهُ الْحَيْرَةِ ، وَتَنْجَلِيَ لَهُمْ أَسْبَابُ الْخِيَرَةِ ،
فَيَقْصِدُوا الْأُمُورَ مِنْ أَبْوَابِهَا ، وَيَعْتَمِدُوا صَلَاحَ قَوَاعِدِهَا
وَأَسْبَابِهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاحَ الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ : أَوَّلُهُمَا مَا يَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُ جُمْلَتهَا .
وَالثَّانِي : مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْ أَهْلِهَا .
فَهُمَا شَيْئَانِ لَا صَلَاحَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا
بِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَلُحَتْ حَالُهُ مَعَ فَسَادِ الدُّنْيَا
وَاخْتِلَالِ أُمُورِهَا لَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَعَدَّى إلَيْهِ فَسَادُهَا ،
وَيَقْدَحَ فِيهِ اخْتِلَالُهَا ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَسْتَمِدُّ ، وَلَهَا
يَسْتَعِدُّ .
وَمَنْ فَسَدَتْ حَالُهُ مَعَ صَلَاحِ الدُّنْيَا
وَانْتِظَامِ أُمُورِهَا لَمْ يَجِدْ لِصَلَاحِهَا لَذَّةً ، وَلَا
لِاسْتِقَامَتِهَا أَثَرًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ دُنْيَا نَفْسِهِ ، فَلَيْسَ
يَرَى الصَّلَاحَ إلَّا إذَا صَلَحَتْ لَهُ وَلَا يَجِدُ الْفَسَادَ إلَّا إذَا
فَسَدَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ أَخَصُّ وَحَالَهُ أَمَسُّ .
فَصَارَ نَظَرُهُ إلَى مَا يَخُصُّهُ مَصْرُوفًا ،
وَفِكْرُهُ عَلَى مَا يَمَسُّهُ مَوْقُوفًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ قَطُّ لِجَمِيعِ
أَهْلِهَا مُسْعِدَةً ، وَلَا عَنْ كَافَّةِ ذَوِيهَا مُعْرِضَةً ؛ لِأَنَّ
إعْرَاضَهَا
عَنْ جَمِيعِهِمْ
عَطَبٌ وَإِسْعَادُهَا لِكَافَّتِهِمْ فَسَادٌ لِائْتِلَافِهِمْ بِالِاخْتِلَافِ
وَالتَّبَايُنِ ، وَاتِّفَاقِهِمْ بِالْمُسَاعَدَةِ وَالتَّعَاوُنِ .
فَإِذَا تَسَاوَى جَمِيعُهُمْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُهُمْ
إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ سَبِيلًا ، وَبِهِمْ مِنْ الْحَاجَةِ وَالْعَجْزِ
مَا وَصَفْنَا ، فَيَذْهَبُوا ضَيْعَةً وَيَهْلَكُوا عَجْزًا .
وَإِذَا تَبَايَنُوا وَاخْتَلَفُوا صَارُوا مُؤْتَلِفِينَ
بِالْمَعُونَةِ مُتَوَاصِلِينَ بِالْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ ذَا الْحَاجَةِ وُصُولٌ ،
وَالْمُحْتَاجَ إلَيْهِ مَوْصُولٌ
.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } .
قَالَ الْحَسَنُ : مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ فَهَذَا
غَنِيٌّ وَهَذَا فَقِيرٌ ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ يَعْنِي لِلِاخْتِلَافِ
بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ
} .
غَيْرَ أَنَّ الدُّنْيَا إذَا صَلَحَتْ كَانَ
إسْعَادُهَا مَوْفُورًا ، وَإِعْرَاضُهَا مَيْسُورًا .
إلَّا أَنَّهَا إذَا مَنَحَتْ هَنَتْ وَأَوْدَعَتْ
وَإِذَا اسْتَرَدَّتْ رَفَقَتْ وَأَبْقَتْ .
وَإِذَا فَسَدَتْ الدُّنْيَا كَانَ إسْعَادُهَا مَكْرًا
، وَإِعْرَاضُهَا غَدْرًا ؛ لِأَنَّهَا إذَا مَنَحَتْ كَدَّتْ وَأَتْعَبَتْ ،
وَإِذَا اسْتَرَدَّتْ اسْتَأْصَلَتْ وَأَجْحَفَتْ .
وَمَعَ هَذَا فَصَلَاحُ الدُّنْيَا مُصْلِحٌ لِسَائِرِ
أَهْلِهَا لِوُفُورِ أَمَانَاتِهِمْ ، وَظُهُورِ دِيَانَاتِهِمْ .
وَفَسَادُهَا مُفْسِدٌ لِسَائِرِ أَهْلِهَا لِقِلَّةِ
أَمَانَاتِهِمْ ، وَضَعْفِ دِيَانَاتِهِمْ .
وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي مَشَاهِدِ الْحَالِ تَجْرِبَةً
وَعُرْفًا ، كَمَا يَقْتَضِيهِ دَلِيلُ الْحَالِ تَعْلِيلًا وَكَشْفًا ، فَلَا
شَيْءَ أَنْفَعُ مِنْ صَلَاحِهَا ، كَمَا لَا شَيْءَ أَضَرُّ مِنْ فَسَادِهَا ؛ لِأَنَّ
مَا تَقْوَى بِهِ دِيَانَاتُ النَّاسِ وَتَتَوَفَّرُ أَمَانَاتُهُمْ فَلَا شَيْءَ
أَحَقُّ بِهِ نَفْعًا ، كَمَا أَنَّ مَا بِهِ تَضْعُفُ دِيَانَاتُهُمْ وَتَذْهَبُ
أَمَانَاتُهُمْ فَلَا شَيْءَ أَجْدَرُ بِهِ ضَرَرًا .
وَأَنْشَدْت لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ : النَّاسُ
مِثْلُ زَمَانِهِمْ قَدُّ الْحِذَاءِ عَلَى مِثَالِهْ
وَرِجَالُ دَهْرِك مِثْلُ دَهْرِك فِي تَقَلُّبِهِ وَحَالِهْ وَكَذَا إذَا فَسَدَ الزَّمَانُ جَرَى الْفَسَادُ عَلَى رِجَالِهْ
وَإِذْ قَدْ
بَلَغَ بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذَلِكَ ، فَسَنَبْدَأُ بِذِكْرِ مَا يُصْلِحُ
الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَتْلُوهُ بِوَصْفِ مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الْإِنْسَانِ
فِيهَا .
اعْلَمْ أَنَّ مَا بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا حَتَّى
تَصِيرَ أَحْوَالُهَا مُنْتَظِمَةً ، وَأُمُورُهَا مُلْتَئِمَةً ، سِتَّةُ
أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُهَا ، وَإِنْ تَفَرَّعَتْ ، وَهِيَ : دِينٌ مُتَّبَعٌ وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ
وَعَدْلٌ شَامِلٌ وَأَمْنٌ عَامٌّ وَخِصْبٌ دَائِمٌ وَأَمَلٌ فَسِيحٌ .
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : فَهِيَ الدِّينُ الْمُتَّبَعُ فَلِأَنَّهُ
يَصْرِفُ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا ، وَيَعْطِفُ الْقُلُوبَ عَنْ إرَادَتِهَا
، حَتَّى يَصِيرَ قَاهِرًا لِلسَّرَائِرِ ، زَاجِرًا لِلضَّمَائِرِ ، رَقِيبًا
عَلَى النُّفُوسِ فِي خَلَوَاتِهَا ، نَصُوحًا لَهَا فِي مُلِمَّاتِهَا .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُوصَلُ بِغَيْرِ الدِّينِ
إلَيْهَا ، وَلَا يَصْلُحُ النَّاسُ إلَّا عَلَيْهَا .
فَكَأَنَّ الدِّينَ أَقْوَى قَاعِدَةٍ فِي صَلَاحِ
الدُّنْيَا وَاسْتِقَامَتِهَا ، وَأَجْدَى الْأُمُورَ نَفْعًا فِي انْتِظَامِهَا
وَسَلَامَتِهَا .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ ،
مُذْ فَطَرَهُمْ عُقَلَاءَ ، مِنْ تَكْلِيفٍ شَرْعِيٍّ ، وَاعْتِقَادٍ دِينِيٍّ
يَنْقَادُونَ لِحُكْمِهِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِهِمْ الْآرَاءُ ، وَيَسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ
فَلَا تَتَصَرَّفُ بِهِمْ الْأَهْوَاءُ
.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ ، فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ هَلْ جَاءَا مَجِيئًا وَاحِدًا ، أَمْ
سَبَقَ الْعَقْلُ ثُمَّ تَبِعَهُ الشَّرْعُ ؟ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : جَاءَ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ
مَعًا مَجِيئًا وَاحِدًا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : سَبَقَ الْعَقْلُ ثُمَّ
تَبِعَهُ الشَّرْعُ ؛ لِأَنَّ بِكَمَالِ الْعَقْلِ يُسْتَدَلُّ عَلَى صِحَّةِ
الشَّرْعِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ
الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى
} .
وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ مِنْهُ إلَّا عِنْدَ كَمَالِ
عَقْلِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الدِّينَ مِنْ أَقْوَى الْقَوَاعِدِ فِي صَلَاحِ
الدُّنْيَا ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْأَوْحَدُ فِي صَلَاحِ الْآخِرَةِ .
وَمَا كَانَ بِهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ
فَحَقِيقٌ بِالْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَمَسِّكًا وَعَلَيْهِ مُحَافِظًا ،
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْأَدَبُ أَدَبَانِ : أَدَبُ شَرِيعَةٍ وَأَدَبُ
سِيَاسَةٍ .
فَأَدَبُ الشَّرِيعَةِ مَا أَدَّى الْفَرْضَ ، وَأَدَبُ
السِّيَاسَةِ مَا عَمَرَ الْأَرْضَ
.
وَكِلَاهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدْلِ الَّذِي بِهِ سَلَامَةُ
السُّلْطَانِ ، وَعِمَارَةُ الْبُلْدَانِ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَرْضَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَمَنْ خَرَّبَ الْأَرْضَ فَقَدْ ظَلَمَ غَيْرَهُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ : مَا صِحَّةٌ أَبَدًا
بِنَافِعَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الدِّينُ وَالْخُلُقُ
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ
الثَّانِيَةُ : فَهِيَ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ تَتَأَلَّفُ مِنْ رَهْبَتِهِ
الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ ، وَتَجْتَمِعُ لِهَيْبَتِهِ الْقُلُوبُ
الْمُتَفَرِّقَةُ ، وَتَكُفُّ بِسَطْوَتِهِ الْأَيْدِي الْمُتَغَالِبَةُ ،
وَتَمْتَنِعُ مِنْ خَوْفِهِ النُّفُوسُ الْعَادِيَةُ ؛ لِأَنَّ فِي طِبَاعِ
النَّاسِ مِنْ حُبِّ الْمُغَالَبَةِ عَلَى مَا آثَرُوهُ وَالْقَهْرِ لِمَنْ
عَانَدُوهُ ، مَا لَا يَنْكَفُّونَ عَنْهُ إلَّا بِمَانِعٍ قَوِيٍّ ، وَرَادِعٍ
مَلِيٍّ .
وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُتَنَبِّي بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ :
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنْ الْأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى
جَوَانِبِهِ الدَّمُ وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا
عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ مِنْ
الظُّلْمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : إمَّا عَقْلٌ زَاجِرٌ ،
أَوْ دِينٌ حَاجِرٌ ، أَوْ سُلْطَانٌ رَادِعٌ ، أَوْ عَجْزٌ صَادٌّ .
فَإِذَا تَأَمَّلْتهَا لَمْ تَجِدْ خَامِسًا يَقْتَرِنُ
بِهَا وَرَهْبَةُ السُّلْطَانِ أَبْلَغُهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ
رُبَّمَا كَانَا مَضْعُوفَيْنِ ، أَوْ بِدَوَاعِي الْهَوَى مَغْلُوبَيْنِ .
فَتَكُونُ رَهْبَةُ السُّلْطَانِ أَشَدَّ زَجْرًا
وَأَقْوَى رَدْعًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ : { السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَأْوِي
إلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ
بِالْقُرْآنِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ حُرَّاسًا فِي السَّمَاءِ وَحُرَّاسًا
فِي الْأَرْضِ ، فَحُرَّاسُهُ فِي السَّمَاءِ الْمَلَائِكَةُ ، وَحُرَّاسُهُ فِي
الْأَرْضِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ أَرْزَاقَهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ النَّاسِ .
} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِمَامُ الْجَائِرُ خَيْرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَكُلٌّ لَا
خَيْرَ فِيهِ ، وَفِي بَعْضِ الشَّرِّ خَيْرٌ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : {
سُبَّتْ الْعَجَمُ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا تَسُبُّوهَا فَإِنَّهَا عَمَّرَتْ
بِلَادَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَاشَ فِيهَا عِبَادُ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : السُّلْطَانُ فِي نَفْسِهِ إمَامٌ
مَتْبُوعٌ ، وَفِي سِيرَتِهِ دِينٌ مَشْرُوعٌ ، فَإِنْ ظَلَمَ لَمْ يَعْدِلْ
أَحَدٌ فِي حُكْمٍ ، وَإِنْ عَدَلَ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ عَلَى ظُلْمٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إنَّ أَقْرَبَ
الدَّعَوَاتِ مِنْ الْإِجَابَةِ دَعْوَةُ السُّلْطَانِ الصَّالِحِ ، وَأَوْلَى
الْحَسَنَاتِ بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فِي وُجُوهِ
الْمَصَالِحِ .
فَهَذِهِ آثَارُ السُّلْطَانِ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا
وَمَا يَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُهَا
.
ثُمَّ لِمَا فِي السُّلْطَانِ مِنْ حِرَاسَةِ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا وَالذَّبِّ عَنْهُمَا وَدَفْعِ الْأَهْوَاءِ مِنْهُ ، وَحِرَاسَةِ
التَّبْدِيلِ فِيهِ ، وَزَجْرِ مَنْ شَذَّ عَنْهُ بِارْتِدَادٍ ، أَوْ بَغَى فِيهِ
بِعِنَادٍ ، أَوْ سَعَى فِيهِ بِفَسَادٍ .
وَهَذِهِ أُمُورٌ إنْ لَمْ تَنْحَسِمْ عَنْ الدِّينِ
بِسُلْطَانٍ قَوِيٍّ وَرِعَايَةٍ وَافِيَةٍ أَسْرَعَ فِيهِ تَبْدِيلُ ذَوِي
الْأَهْوَاءِ ، وَتَحْرِيفُ ذَوِي الْآرَاءِ ، فَلَيْسَ دِينٌ زَالَ سُلْطَانُهُ
إلَّا بُدِّلَتْ أَحْكَامُهُ ، وَطُمِسَتْ أَعْلَامُهُ .
وَكَانَ لِكُلِّ زَعِيمٍ فِيهِ بِدْعَةٌ ، وَلِكُلِّ
عَصْرٍ فِيهِ وِهَايَةُ أَثَرٍ
.
كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ
تَجْتَمِعُ بِهِ الْقُلُوبُ حَتَّى يَرَى أَهْلُهُ الطَّاعَةَ فِيهِ فَرْضًا ، وَالتَّنَاصُرَ
عَلَيْهِ حَتْمًا ، لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ لُبْثٌ وَلَا لِأَيَّامِهِ صَفْوٌ ،
وَكَانَ سُلْطَانَ قَهْرٍ ، وَمَفْسَدَةَ دَهْرٍ .
وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَ إقَامَةُ إمَامٍ يَكُونُ
سُلْطَانَ الْوَقْتِ وَزَعِيمَ الْأُمَّةِ لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا
بِسُلْطَانِهِ ، وَالسُّلْطَانُ جَارِيًا عَلَى سُنَنِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْمُلْكُ
بِالدِّينِ يَبْقَى ، وَالدِّينُ بِالْمُلْكِ يَقْوَى .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ وَجَبَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ
أَوْ بِالشَّرْعِ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : وَجَبَ بِالْعَقْلِ ؛ لِأَنَّهُ
مَعْلُومٌ
مِنْ حَالِ الْعُقَلَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ ، الْفَزَعُ إلَى زَعِيمٍ مَنْدُوبٍ
لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِهِ بِالشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِالْإِمَامِ الْقِيَامُ بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ ، كَإِقَامَةِ
الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ ، وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ الِاسْتِغْنَاءُ
عَنْهَا بِأَنْ لَا يُرَادَ التَّعَبُّدُ بِهَا فَبِأَنْ يَجُوزَ الِاسْتِغْنَاءِ
عَمَّا يُرَادُ إلَّا لَهَا أَوْلَى
.
وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ بَعْثَةِ
الْأَنْبِيَاءِ .
فَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ ، قَالَ
بِوُجُوبِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ
.
وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ ، مَنَعَ
مِنْ وُجُوبِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ
بِبَعْثَتِهِمْ تَعْرِيفُ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَكَانَ يَجُوزُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ
أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ مُصْلِحَةً لَهُمْ ، لَمْ يَجِبْ بَعْثَةُ
الْأَنْبِيَاءِ إلَيْهِمْ .
فَأَمَّا
إقَامَةُ إمَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، وَبَلَدٍ وَاحِدٍ فَلَا
يَجُوزُ إجْمَاعًا .
فَأَمَّا فِي بُلْدَانَ شَتَّى وَأَمْصَارٍ
مُتَبَاعِدَةٍ فَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ لِلْمَصَالِحِ
.
وَإِذَا كَانَ اثْنَيْنِ فِي بَلَدَيْنِ أَوْ نَاحِيَتَيْنِ
كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْوَمَ بِمَا فِي يَدَيْهِ ، وَأَضْبَطَ لِمَا
يَلِيهِ .
وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَعْثَةُ نَبِيَّيْنِ فِي
عَصْرٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ النُّبُوَّةِ ، كَانَتْ
الْإِمَامَةُ أَوْلَى وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ الْإِمَامَةِ .
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ إقَامَةَ إمَامَيْنِ
فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ شَرْعًا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا بُويِعَ أَمِيرَانِ
فَاقْتُلُوا أَحَدَهُمَا } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا وَلَّيْتُمْ أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ قَوِيًّا
فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ .
وَإِذَا وَلَّيْتُمْ عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي
دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ ، وَإِنْ وَلَّيْتُمْ عَلِيًّا
تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا
} .
فَبَيَّنَ بِظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ إقَامَةَ
جَمِيعِهِمْ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ لَا يَصِحُّ ، وَلَوْ صَحَّ لَأَشَارَ إلَيْهِ ،
وَلَنَبَّهَ عَلَيْهِ .
وَاَلَّذِي
يَلْزَمُ سُلْطَانَ الْأَمَةِ مِنْ أُمُورِهَا سَبْعَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا :
حِفْظُ الدِّينِ مِنْ تَبْدِيلٍ فِيهِ ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ
غَيْرِ إهْمَالٍ لَهُ .
وَالثَّانِي : حِرَاسَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنْ
الْأُمَّةِ مِنْ عَدُوٍّ فِي الدِّينِ أَوْ بَاغِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ .
وَالثَّالِثُ : عِمَارَةُ الْبُلْدَانِ بِاعْتِمَادِ
مَصَالِحِهَا ، وَتَهْذِيبِ سُبُلِهَا وَمَسَالِكِهَا .
وَالرَّابِعُ : تَقْدِيرُ مَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ
الْأَمْوَالِ بِسُنَنِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ فِي أَخْذِهَا
وَإِعْطَائِهَا .
وَالْخَامِسُ : مُعَانَاةُ الْمَظَالِمِ وَالْأَحْكَامِ
بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَاعْتِمَادِ النَّصَفَةِ فِي فَصْلِهَا .
وَالسَّادِسُ : إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى
مُسْتَحِقِّهَا مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ فِيهَا ، وَلَا تَقْصِيرٍ عَنْهَا .
وَالسَّابِعُ : اخْتِيَارُ خُلَفَائِهِ فِي الْأُمُورِ
أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكِفَايَةِ فِيهَا ، وَالْأَمَانَةِ عَلَيْهَا .
فَإِذَا فَعَلَ مَنْ أَفْضَى إلَيْهِ سُلْطَانُ
الْأُمَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ كَانَ مُؤَدِّيًا
لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ، مُسْتَوْجِبًا لِطَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ
، مُسْتَحِقًّا لِصِدْقِ مَيْلِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ .
وَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا ، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّهَا
وَوَاجِبِهَا ، كَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا ثُمَّ هُوَ مِنْ الرَّعِيَّةِ عَلَى
اسْتِبْطَانِ مَعْصِيَةٍ وَمَقْتٍ يَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِإِظْهَارِهِمَا
وَيَتَوَقَّعُونَ الدَّوَائِرَ لِإِعْلَانِهِمَا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } .
وَفِي قَوْله تَعَالَى { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ
مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي
هُوَ مِنْ فَوْقِهِمْ أُمَرَاءُ السُّوءِ ، وَاَلَّذِي مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
عَبِيدُ السُّوءِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ مِنْ
فَوْقِهِمْ الرَّجْمُ ، وَاَلَّذِي مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الْخَسْفُ ،
وَهَذَا
قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَفِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا }
تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ ، وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْفِتَنُ وَالِاخْتِلَاطُ ،
وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ أَمِيرٍ عَلَى عَشَرَةٍ إلَّا وَهُوَ
يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ حَتَّى يَكُونَ
عَمَلُهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُ أَوْ يُوبِقُهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ
وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَشَرُّ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ
وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَا خَيْرٍ
أَحَبَّهُمْ وَأَحَبُّوهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَا شَرِّ أَبْغَضَهُمْ وَأَبْغَضُوهُ .
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَبَّبَهُ إلَى خَلْقِهِ ، فَاعْرِفْ مَنْزِلَتَك مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَتِك مِنْ النَّاسِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا لَك عِنْدَ
اللَّهِ مِثْلُ مَا لِلَّهِ عِنْدَك
.
فَكَانَ هَذَا مُوَضِّحًا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ تَبْعَثُ عَلَى
طَاعَتِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَطَاعَتُهُ فِي خَلْقِهِ تَبْعَثُ عَلَى مَحَبَّتِهِ ،
فَلِذَلِكَ كَانَتْ مَحَبَّتُهُمْ دَلِيلًا عَلَى خَيْرِهِ وَخَشْيَتِهِ ، وَبُغْضُهُمْ
دَلِيلًا عَلَى شَرِّهِ وَقِلَّةِ مُرَاقَبَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِبَعْضِ خُلَفَائِهِ : أُوصِيك أَنْ تَخْشَى اللَّهَ فِي النَّاسِ ، وَلَا
تَخْشَى النَّاسَ فِي اللَّهِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِ
جُلَسَائِهِ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ فِيمَا تَقَلَّدْت .
فَقَالَ لَهُ : لَسْت أَخَافُ عَلَيْك أَنْ تَخَافَ
اللَّهَ وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْك أَنْ لَا تَخَافَ اللَّهَ .
وَهَذَا وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ الْخَائِفَ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى
مَأْمُونٌ كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيِّ ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَ
أَخَاهُ زَيْدًا : وَاَللَّهِ إنِّي لَا أُحِبُّك حَتَّى تُحِبَّ الْأَرْضُ
الدَّمَ .
قَالَ : أَفَيَمْنَعُنِي ذَلِكَ حَقًّا ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَلَا ضَيْرَ ، إنَّمَا يَأْسَى عَلَى الْحُبِّ
النِّسَاءُ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ :
أَصْدَقَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ
مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَصْدَقَ هَذَا الْقَدْرَ ،
فَمَرَّ بِالْمَالِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ
: مَا هَذَا ؟ قَالُوا : صَدَاقُ أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : أَدْخِلُوهُ
بَيْتَ الْمَالِ .
فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ طَلْحَةُ وَقِيلَ لَهُ : كَلِّمْهُ
فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ :
مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ، لَئِنْ كَانَ عُمَرُ يَرَى لَهُ
فِيهِ حَقًّا لَا يَرُدُّهُ لِكَلَامِي ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى فِيهِ حَقًّا لَيَرُدَّنَّهُ .
قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ أَمَرَ بِالْمَالِ
فَدُفِعَ إلَى أُمِّ كُلْثُومٍ
.
وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ
فَكَتَبَ عَلَى حَائِطِ الْحَبْسِ : أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ وَمَا
زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي وَعِنْدَ
اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ سَتَعْلَمُ فِي الْمَعَادِ إنْ الْتَقَيْنَا غَدًا
عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ فَأُخْبِرَ الرَّشِيدُ بِذَلِكَ فَبَكَى
بُكَاءً شَدِيدًا ، وَدَعَا بِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ فَاسْتَحَلَّهُ وَوَهَبَ لَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهُ .
وَأَمَّا
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ : فَهِيَ عَدْلٌ شَامِلٌ يَدْعُو إلَى الْأُلْفَةِ ،
وَيَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَتَتَعَمَّرُ بِهِ الْبِلَادُ ، وَتَنْمُو بِهِ
الْأَمْوَالُ ، وَيَكْثُرُ مَعَهُ النَّسْلُ ، وَيَأْمَنُ بِهِ السُّلْطَانُ .
فَقَدْ قَالَ الْمَرْزُبَانُ لِعُمَرَ ، حِينَ رَآهُ
وَقَدْ نَامَ مُتَبَذِّلًا : عَدَلْت فَأَمِنْت فَنِمْت .
وَلَيْسَ شَيْءٌ أَسْرَعُ فِي خَرَابِ الْأَرْضِ وَلَا
أَفْسَدُ لِضَمَائِرِ الْخَلْقِ مِنْ الْجَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقِفُ عَلَى
حَدٍّ وَلَا يَنْتَهِي إلَى غَايَةٍ ، وَلِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ قِسْطٌ مِنْ
الْفَسَادِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بِئْسَ الزَّادُ إلَى الْمَعَادِ ، الْعُدْوَانُ
عَلَى الْعِبَادِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ
مُنْجِيَاتٌ ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ
.
فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ : فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ
وَالرِّضَا ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْقَصْدُ فِي
الْغِنَى وَالْفَقْرِ .
وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ : فَشُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى
مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } .
وَحُكِيَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ قَالَ لِحُكَمَاءِ
الْهِنْدِ ، وَقَدْ رَأَى قِلَّةَ الشَّرَائِعِ بِهَا : لِمَ صَارَتْ سُنَنُ
بِلَادِكُمْ قَلِيلَةً ؟ قَالُوا : لِإِعْطَائِنَا الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِنَا ،
وَلِعَدْلِ مُلُوكِنَا فِينَا .
فَقَالَ لَهُمْ : أَيُّمَا أَفْضَلُ ، الْعَدْلُ أَوْ
الشُّجَاعَةُ ؟ قَالُوا : إذَا اُسْتُعْمِلَ الْعَدْلُ أَغْنَى عَنْ الشُّجَاعَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِالْعَدْلِ
وَالْإِنْصَافِ تَكُونُ مُدَّةُ الِائْتِلَافِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الْعَدْلَ مِيزَانُ
اللَّهِ الَّذِي وَضَعَهُ لِلْخَلْقِ ، وَنَصَبَهُ لِلْحَقِّ ، فَلَا تُخَالِفْهُ
فِي مِيزَانِهِ ، وَلَا تُعَارِضْهُ فِي سُلْطَانِهِ ، وَاسْتَعِنْ عَلَى
الْعَدْلِ بِخُلَّتَيْنِ : قِلَّةُ الطَّمَعِ ، وَكَثْرَةُ الْوَرَعِ .
فَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ مِنْ إحْدَى قَوَاعِدِ
الدُّنْيَا الَّتِي لَا انْتِظَامَ لَهَا إلَّا بِهِ ، وَلَا صَلَاحَ فِيهَا إلَّا
مَعَهُ ، وَجَبَ أَنْ نَبْدَأَ بِعَدْلِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ ،
ثُمَّ
بِعَدْلِهِ فِي غَيْرِهِ .
فَأَمَّا عَدْلُهُ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ بِحَمْلِهَا
عَلَى الْمَصَالِحِ ، وَكَفِّهَا عَنْ الْقَبَائِحِ ، ثُمَّ بِالْوُقُوفِ فِي
أَحْوَالِهَا عَلَى أَعْدَلِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ تَجَاوُزٍ أَوْ تَقْصِيرٍ .
فَإِنَّ التَّجَاوُزَ فِيهَا جَوْرٌ ، وَالتَّقْصِيرَ
فِيهَا ظُلْمٌ .
وَمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَهُوَ لِغَيْرِهِ أَظْلَمُ ،
وَمَنْ جَارَ عَلَيْهَا فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِ أَجْوَرُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ تَوَانَى فِي
نَفْسِهِ ضَاعَ .
وَأَمَّا عَدْلُهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ حَالُ
الْإِنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ :
عَدْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَنْ دُونَهُ كَالسُّلْطَانِ فِي رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّئِيسِ
مَعَ صَحَابَتِهِ ، فَعَدْلُهُ فِيهِمْ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ :
بِاتِّبَاعِ الْمَيْسُورِ ، وَحَذْفِ الْمَعْسُورِ ، وَتَرْكِ التَّسَلُّطِ
بِالْقُوَّةِ ، وَابْتِغَاءِ الْحَقِّ فِي الْمَيْسُورِ .
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمَيْسُورِ أَدْوَمُ ، وَحَذْفَ
الْمَعْسُورِ أَسْلَمُ ، وَتَرْكَ التَّسَلُّطِ أَعَطْفُ عَلَى الْمَحَبَّةِ ،
وَابْتِغَاءَ الْحَقِّ أَبْعَثُ عَلَى النُّصْرَةِ .
وَهَذِهِ أُمُورٌ إنْ لَمْ تَسْلَمْ لِلزَّعِيمِ
الْمُدَبِّرِ كَانَ الْفَسَادُ بِنَظَرِهِ أَكْثَرَ ، وَالِاخْتِلَافُ
بِتَدْبِيرِهِ أَظْهَرَ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ
أَشْرَكَهُ اللَّهُ فِي سُلْطَانِهِ فَجَارَ فِي حُكْمِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُلْكُ يَبْقَى عَلَى
الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى عَلَى الظُّلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَيْسَ لِلْجَائِرِ جَارٌ
، وَلَا تَعْمُرُ لَهُ دَارٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ
صَرْعَةُ الظَّلُومِ ، وَأَنْفَذُ السِّهَامِ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ .
وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْمُلُوكِ : الْعَجَبُ مِنْ
مَلِكٍ اسْتَفْسَدَ رَعِيَّتَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عِزَّهُ بِطَاعَتِهِمْ .
وَقَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ : إذَا رَغِبَ
الْمَلِكُ عَنْ الْعَدْلِ رَغِبَتْ الرَّعِيَّةُ عَنْ طَاعَتِهِ .
وَعُوتِبَ أَنُوشِرْوَانَ عَلَى تَرْكِ عِقَابِ
الْمُذْنِبِينَ
فَقَالَ : هُمْ الْمَرْضَى وَنَحْنُ الْأَطِبَّاءُ فَإِذَا لَمْ نُدَاوِهِمْ
بِالْعَفْوِ فَمَنْ لَهُمْ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : عَدْلُ الْإِنْسَانِ مَعَ مَنْ
فَوْقَهُ ، كَالرَّعِيَّةِ مَعَ سُلْطَانِهَا ، وَالصَّحَابَةِ مَعَ رَئِيسِهَا .
فَقَدْ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِإِخْلَاصِ
الطَّاعَةِ ، وَبَذْلِ النُّصْرَةِ ، وَصِدْقِ الْوَلَاءِ .
فَإِنَّ إخْلَاصَ الطَّاعَةِ أَجْمَعُ لِلشَّمْلِ ،
وَبَذْلَ النُّصْرَةِ أَدْفَعُ لِلْوَهَنِ ، وَصِدْقَ الْوَلَاءِ أَنْفَى لِسُوءِ
الظَّنِّ .
وَهَذِهِ أُمُورٌ إنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِي الْمَرْءِ
تَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ كَانَ يَدْفَعُ عَنْهُ وَاضْطُرَّ إلَى اتِّقَاءِ مَنْ
يَتَّقِي بِهِ كَمَا قَالَ الْبُحْتُرِيُّ : مَتَى أَحْوَجْت ذَا كَرَمٍ تَخَطَّى
إلَيْك بِبَعْضِ أَخْلَاقِ اللِّئَامِ وَفِي اسْتِمْرَارِ هَذَا حَلُّ نِظَامٍ جَامِعٍ
، وَفَسَادُ صَلَاحٍ شَامِلٍ .
وَقَالَ إبرويس : أَطِعْ مَنْ فَوْقَك ، يُطِعْك مَنْ
دُونَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَا يَرْضَى عَنْ خَلْقِهِ إلَّا بِتَأْدِيَةِ حَقِّهِ ، وَحَقُّهُ شُكْرُ
النِّعْمَةِ ، وَنُصْحُ الْأُمَّةِ ، وَحُسْنُ الصَّنِيعَةِ ، وَلُزُومُ
الشَّرِيعَةِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ عَدْلُ الْإِنْسَانِ مَعَ
أَكْفَائِهِ وَيَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِتَرْكِ الِاسْتِطَالَةِ ،
وَمُجَانَبَةِ الْإِدْلَالِ ، وَكَفِّ الْأَذَى ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِطَالَةِ
آلَفُ ، وَمُجَانَبَةَ الْإِدْلَالِ أَعْطَفُ ، وَكَفَّ الْأَذَى أَنْصَفُ .
وَهَذِهِ أُمُورٌ إنْ لَمْ تَخْلُصْ فِي الْأَكْفَاءِ
أَسْرَعَ فِيهِمْ تَقَاطُعُ الْأَعْدَاءِ فَفَسَدُوا وَأَفْسَدُوا .
وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِشِرَارِ النَّاسِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ وَجَلَدَ
عَبْدَهُ ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : بَلَى
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ قَامَ خَطِيبًا
فِي بَنِي
إسْرَائِيلَ فَقَالَ : يَا بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَتَكَلَّمُوا بِالْحِكْمَةِ
عِنْدَ الْجُهَّالِ فَتَظْلِمُوهَا ، وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا
فَتَظْلِمُوهُمْ ، وَلَا تُكَافِئُوا ظَالِمًا فَيَبْطُلَ فَضْلُكُمْ .
يَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ : أَمْرٌ تَبَيَّنَ
رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ ، وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَأَمْرٌ
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَهَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِآدَابِ الْعَدْلِ فِي
الْأَحْوَالِ كُلِّهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُلُّ عَقْلٍ لَا
يُدَارَى بِهِ الْكُلُّ فَلَيْسَ بِعَقْلٍ تَامٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَا دُمْت حَيًّا فَدَارِ
النَّاسَ كُلَّهُمْ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاتِ مَنْ يَدْرِ دَارَى
وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يَرَى عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ
بِهَذِهِ الطَّبَقَاتِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ يَكُونُ عَدْلُهُمْ فِيهَا بِالتَّوَسُّطِ
فِي حَالَتَيْ التَّقْصِيرِ وَالسَّرَفِ ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ مَأْخُوذٌ مِنْ
الِاعْتِدَالِ ، فَمَا جَاوَزَ الِاعْتِدَالَ فَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ الْعَدْلِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : الْفَضَائِلُ هَيْئَاتٌ مُتَوَسِّطَةٌ
بَيْنَ خَلَّتَيْنِ نَاقِصَتَيْنِ ، وَأَفْعَالُ الْخَيْرِ تَتَوَسَّطُ بَيْنَ
رَذِيلَتَيْنِ .
فَالْحِكْمَةُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الشَّرِّ وَالْجَهَالَةِ .
وَالشُّجَاعَةُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ التَّقَحُّمِ
وَالْجُبْنِ .
وَالْعِفَّةُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الشَّرَهِ وَضَعْفِ
الشَّهْوَةِ .
وَالسَّكِينَةُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ السَّخَطِ وَضَعْفِ
الْغَضَبِ .
وَالْغَيْرَةُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَسَدِ وَسُوءِ
الْعَادَةِ .
وَالظُّرْفُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْخَلَاعَةِ
وَالْعَرَامَةِ .
وَالتَّوَاضُعُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْكِبْرِ وَدَنَاءَةِ
النَّفْسِ .
وَالسَّخَاءُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ التَّبْذِيرِ
وَالتَّقْتِيرِ .
وَالْحِلْمُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ إفْرَاطِ الْغَضَبِ
وَعَدَمِهِ .
وَالْمَوَدَّةُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْخَلَّابَةِ وَحُسْنِ
الْخُلُقِ .
وَالْحَيَاءُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقِحَةِ وَالْحِقْدِ .
وَالْوَقَارُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْهُزْءِ وَالسَّخَافَةِ .
وَإِذَا كَانَ مَا خَرَجَ عَنْ الِاعْتِدَالِ إلَى مَا
لَيْسَ
بِاعْتِدَالٍ
خُرُوجًا عَنْ الْعَدْلِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَدْلٍ ، فَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ
وَالْوُقُوفُ مَعَ الْأَوْسَطِ اقْتِدَاءً بِالْحَدِيثِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْبَلَدُ السُّوءُ
يَجْمَعُ السَّفَلَ وَيُورِثُ الْعِلَلَ ، وَالْوَلَدُ السُّوءُ يَشِينُ السَّلَفَ
وَيَهْدِمُ الشَّرَفَ ، وَالْجَارُ السُّوءُ يُفْشِي السِّرَّ وَيَهْتِكُ
السِّتْرَ .
فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، بِخُرُوجِهَا عَنْ
الْأَوْلَى إلَى مَا لَيْسَ بِأَوْلَى ، خُرُوجًا عَنْ الْعَدْلِ إلَى مَا لَيْسَ
بِعَدْلٍ .
وَلَسْت تَجِدُ فَسَادًا إلَّا وَسَبَبُ نَتِيجَتِهِ
الْخُرُوجُ فِيهِ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَدْلٍ مِنْ حَالَتَيْ
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِذَنْ لَا شَيْءَ أَنْفَعُ مِنْ الْعَدْلِ كَمَا
لَا شَيْءَ أَضَرُّ مِمَّا لَيْسَ بِعَدْلٍ .
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ
الرَّابِعَةُ : فَهِيَ أَمْنٌ عَامٌّ تَطْمَئِنَّ إلَيْهِ النُّفُوسُ وَتَنْتَشِرُ
فِيهِ الْهِمَمُ ، وَيَسْكُنُ إلَيْهِ الْبَرِيءُ ، وَيَأْنِسُ بِهِ الضَّعِيفُ .
فَلَيْسَ لِخَائِفٍ رَاحَةٌ ، وَلَا لِحَاذِرٍ
طُمَأْنِينَةٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ، الْأَمْنُ أَهْنَأُ
عَيْشٍ ، وَالْعَدْلُ أَقْوَى جَيْشٍ ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ يَقْبِضُ النَّاسَ عَنْ
مَصَالِحِهِمْ ، وَيَحْجِزُهُمْ عَنْ تَصَرُّفِهِمْ ، وَيَكُفُّهُمْ عَنْ
أَسْبَابِ الْمَوَادِّ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَوَدِهِمْ وَانْتِظَامُ جُمْلَتِهِمْ
؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ مِنْ نَتَائِجِ الْعَدْلِ ، وَالْجَوْرَ مِنْ نَتَائِجِ مَا
لَيْسَ بِعَدْلٍ .
وَقَدْ يَكُونُ الْجَوْرُ تَارَةً بِمَقَاصِدِ
الْآدَمِيِّينَ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَدْلِ ، وَتَارَةً يَكُونُ بِأَسْبَابٍ
حَادِثَةٍ مِنْ غَيْرِ مَقَاصِدِ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَكُونُ خَارِجَةً عَنْ
حَالِ الْعَدْلِ .
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا سَبَقَ مِنْ حَالِ
الْعَدْلِ مُقْنِعًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْنُ فِي انْتِظَامِ الدُّنْيَا
قَاعِدَةً كَالْعِدْلِ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْأَمْنُ الْمُطْلَقُ
مَا عَمَّ وَالْخَوْفُ قَدْ يَتَنَوَّعُ تَارَةً وَيَعُمُّ .
فَتَنَوُّعُهُ بِأَنْ يَكُونَ تَارَةً عَلَى النَّفْسِ ،
وَتَارَةً عَلَى الْأَهْلِ ، وَتَارَةً عَلَى الْمَالِ .
وَعُمُومُهُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ ،
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ حَظٌّ مِنْ الْوَهَنِ ، وَنَصِيبٌ مِنْ
الْحَزَنِ .
وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ
وَيَتَفَاضَلُ بِتَبَايُنِ جِهَاتِهِ ، وَيَكُونُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرَّغْبَةِ
فِيمَا خِيفَ عَلَيْهِ .
فَمِنْ أَجَلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّصِفَ حَالُ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِمِقْدَارٍ مِنْ الْوَهَنِ وَنَصِيبٍ مِنْ
الْحَزَنِ ، لَا سِيَّمَا وَالْخَائِفُ عَلَى الشَّيْءِ مُخْتَصُّ الْهَمِّ بِهِ مُنْصَرِفُ
الْفِكْرِ عَنْ غَيْرِهِ .
فَهُوَ يَظُنُّ أَنْ لَا خَوْفَ لَهُ إلَّا إيَّاهُ ،
فَيَغْفُلُ عَنْ قَدْرِ النِّعْمَةِ بِالْأَمْنِ فِيمَا سِوَاهُ ، فَصَارَ
كَالْمَرِيضِ الَّذِي هُوَ بِمَرَضِهِ مُتَشَاغِلٌ ، وَعَمَّا سِوَاهُ غَافِلٌ .
وَلَعَلَّ مَا صُرِفَ عَنْهُ أَعْظَمُ مِمَّا اُبْتُلِيَ
بِهِ ،
وَإِنَّمَا يُوَكَّلُ بِالْأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي .
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ - وَأَعْرَابِيٌّ حَاضِرٌ
- : مَا أَشَدَّ وَجَعَ الضِّرْسِ ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : كُلُّ دَاءٍ
أَشَدُّ دَاءً .
وَكَذَلِكَ مَنْ عَمَّهُ الْأَمْنُ كَمَنْ اسْتَوْلَتْ
عَلَيْهِ الْعَافِيَةُ ، فَهُوَ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ النِّعْمَةِ بِأَمْنِهِ
حَتَّى يَخَافَ ، كَمَا لَا يَعْرِفُ الْمُعَافَى قَدْرَ النِّعْمَةِ حَتَّى
يُصَابَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّمَا يُعْرَفُ قَدْرُ
النِّعْمَةِ بِمُقَاسَاةِ ضِدِّهَا
.
فَأَخَذَ ذَلِكَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ فَقَالَ :
وَالْحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَك بُؤْسُهَا فَهُوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ
نَعِيمُهَا فَالْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ يَتَذَكَّرَ عِنْدَ مَرَضِهِ
وَخَوْفِهِ قَدْرَ النِّعْمَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَافِيَتِهِ وَأَمْنِهِ ،
وَمَا انْصَرَفَ عَنْهُ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِهِ وَخَوْفِهِ ، فَيَسْتَبْدِلُ
بِالشَّكْوَى شُكْرًا ، وَبِالْجَزَعِ صَبْرًا ، فَيَكُونُ فَرِحًا مَسْرُورًا .
حُكِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ قَالَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ ، حِينَ لَقِيَهُ : أَيُّ شَيْءٍ كَانَ خَبَرُك بَعْدِي ؟ قَالَ : لَا
تَسْأَلْ عَمَّا فَعَلَهُ بِي إخْوَتِي سَلْنِي عَمَّا صَنَعَهُ بِي رَبِّي .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَنْسَ فِي الصِّحَّةِ
أَيَّامَ السَّقَمْ فَإِنَّ عُقْبَى تَارِكِ الْحَزْمِ نَدَمْ
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ
الْخَامِسَةُ : فَهِيَ خِصْبُ دَارٍ تَتَّسِعُ النُّفُوسُ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ
وَتَشْتَرِكُ فِيهِ ذُو الْإِكْثَارِ وَالْإِقْلَالِ .
فَيَقِلُّ فِي النَّاسِ الْحَسَدُ ، وَيَنْتَفِي عَنْهُمْ
تَبَاغُضُ الْعَدَمِ ، وَتَتَّسِعُ النُّفُوسُ فِي التَّوَسُّعِ ، وَتُكْثِرُ
الْمُوَاسَاةَ وَالتَّوَاصُلَ .
وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي لِصَلَاحِ الدُّنْيَا
وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهَا ، وَلِأَنَّ الْخِصْبَ يَئُولُ إلَى الْغِنَى
وَالْغِنَى يُورِثُ الْأَمَانَةَ وَالسَّخَاءَ .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : لَا تَسْتَقْضِيَنَّ إلَّا ذَا حَسَبٍ وَمَالٍ
، فَإِنَّ ذَا الْحَسَبِ يَخَافُ الْعَوَاقِبَ وَذَا الْمَالِ لَا يَرْغَبُ فِي
مَالِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنِّي وَجَدْت خَيْرَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فِي التُّقَى وَالْغِنَى ، وَشَرَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي
الْفُجُورِ وَالْفَقْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَلَمْ أَرَ بَعْدَ
الدِّينِ خَيْرًا مِنْ الْغِنَى وَلَمْ أَرَ بَعْدَ الْكُفْرِ شَرًّا مِنْ
الْفَقْرِ وَبِحَسَبِ الْغِنَى يَكُونُ إقْلَالُ الْبَخِيلِ وَإِعْطَاؤُهُ ،
وَإِكْثَارُ الْجَوَادِ وَسَخَاؤُهُ ، كَمَا قَالَ دِعْبِلٌ : لَئِنْ كُنْت لَا
تُولِي نَدًى دُونَ إمْرَةٍ فَلَسْت بِمُولٍ نَائِلًا آخِرَ الدَّهْرِ وَأَيُّ
إنَاءٍ لَمْ يَفِضْ عِنْدَ مِلْئِهِ وَأَيُّ بِخَيْلٍ لَمْ يَنَلْ سَاعَةَ الْوَفْرِ
وَإِذَا كَانَ الْخِصْبُ يُحْدِثُ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ مَا وَصَفْتُ ، كَانَ
الْجَدْبُ يَحْدُثُ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسَادِ مَا ضَادَّهَا .
وَكَمَا أَنَّ صَلَاحَ الْخِصْبِ عَامٌّ ، فَكَذَلِكَ فَسَادُ
الْجَدْبِ عَامٌّ ، وَمَا عَمَّ بِهِ الصَّلَاحُ إنْ وُجِدَ ، وَمَا عَمَّ بِهِ
الْفَسَادُ إنْ فُقِدَ ، فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِ الصَّلَاحِ
وَدَوَاعِي الِاسْتِقَامَةِ .
وَالْخِصْبُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : خِصْبٌ فِي
الْمَكَاسِبِ ، وَخِصْبٌ فِي الْمَوَادِّ .
فَأَمَّا خِصْبُ الْمَكَاسِبِ فَقَدْ يَتَفَرَّعُ مِنْ
خِصْبِ الْمَوَادِّ وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الْأَمْنِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا .
وَأَمَّا خِصْبُ الْمَوَادِّ فَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَنْ
أَسْبَابٍ إلَهِيَّةٍ وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ
الْعَدْلِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا .
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ
السَّادِسَةُ : فَهِيَ أَمَلٌ فَسِيحٌ يَبْعَثُ عَلَى اقْتِنَاءِ مَا يَقْصُرُ
الْعُمُرُ عَنْ اسْتِيعَابِهِ وَيَبْعَثُ عَلَى اقْتِنَاءِ مَا لَيْسَ يُؤَمَّلُ
فِي دَرَكِهِ بِحَيَاةِ أَرْبَابِهِ .
وَلَوْلَا أَنَّ الثَّانِيَ يَرْتَفِقُ بِمَا أَنْشَأَهُ
الْأَوَّلُ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ مُسْتَغْنِيًا ، لَافْتَقَرَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ
إلَى إنْشَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ السُّكْنَى وَأَرَاضِي
الْحَرْثِ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِعْوَازِ وَتَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ مَا لَا
خَفَاءَ بِهِ .
فَلِذَلِكَ مَا أَرْفَقَ اللَّهَ تَعَالَى خَلْقَهُ
بِاتِّسَاعِ الْآمَالِ إلَّا حَتَّى عَمَّرَ بِهِ الدُّنْيَا فَعَمَّ صَلَاحُهَا وَصَارَتْ
تَنْتَقِلُ بِعُمْرَانِهَا إلَى قَرْنٍ بَعْدَ قَرْنٍ ، فَيُتِمُّ الثَّانِيَ مَا
أَبْقَاهُ الْأَوَّلُ مِنْ عِمَارَتِهَا ، وَيُرَمِّمُ الثَّالِثُ مَا أَحْدَثَهُ
الثَّانِي مِنْ شَعَثِهَا لِتَكُونَ أَحْوَالُهَا عَلَى الْأَعْصَارِ مُلْتَئِمَةً
، وَأُمُورُهَا عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ مُنْتَظِمَةً .
وَلَوْ قَصُرْت الْآمَالُ مَا تَجَاوَزَ الْوَاحِدُ
حَاجَةَ يَوْمِهِ ، وَلَا تَعَدَّى ضَرُورَةَ وَقْتِهِ ، وَلَكَانَتْ تَنْتَقِلُ
إلَى مَنْ بَعْدَهُ خَرَابًا لَا يَجِدُ فِيهَا بُلْغَةً ، وَلَا يُدْرِكُ مِنْهَا
حَاجَةً .
ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدُ بِأَسْوَأَ مِنْ
ذَلِكَ حَالًا حَتَّى لَا يُنْمَى بِهَا نَبْتٌ ، وَلَا يُمْكِنُ فِيهَا لُبْثٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْأَمَلُ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِأُمَّتِي ، وَلَوْلَاهُ
لَمَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرًا وَلَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَلِلنُّفُوسِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى
وَجَلٍ مِنْ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ تُقَوِّيهَا فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا وَالدَّهْرُ
يَقْبِضُهَا وَالنَّفْسُ تَنْشُرُهَا وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا وَأَمَّا حَالُ
الْأَمَلِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي
الْغَفْلَةِ عَنْهَا ، وَقِلَّةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا .
وَقَدْ أَفْصَحَ لَبِيدٌ مَعَ أَعْرَابِيَّةٍ بِمَا
تَبَيَّنَ بِهِ حَالُ الْأَمَلِ فِي الْأَمْرَيْنِ ، فَقَالَ : وَأَكْذِبُ
النَّفْسَ إذَا حَدَّثْتُهَا إنَّ صِدْقَ النَّفْسِ
يُزْرِي بِالْأَمَلْ
غَيْرَ أَنْ لَا تَكْذِبَنَّهَا بِالتُّقَى وَاجْزِهَا بِالْبِرِّ لِلَّهِ الْأَجَلْ
وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْآمَالِ وَالْأَمَانِي .
أَنَّ الْآمَالَ مَا تَقَيَّدَتْ بِأَسْبَابٍ ،
وَالْأَمَانِيَ مَا تَجَرَّدَتْ عَنْهَا .
فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ السِّتُّ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا
أَحْوَالُ الدُّنْيَا ، وَتَنْتَظِمُ أُمُورُ جُمْلَتِهَا ، فَإِنْ كَمُلَتْ
فِيهَا كَمُلَ صَلَاحُهَا .
وَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الدُّنْيَا تَامًّا كَامِلًا
، وَأَنْ يَكُونَ صَلَاحُهَا عَامًّا شَامِلًا ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى
التَّغْيِيرِ وَالْفَنَاءِ ، مُنْشَأَةٌ عَلَى التَّصَرُّمِ وَالِانْقِضَاءِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلًا يَقُولُ : قَلَبَ
اللَّهُ الدُّنْيَا ، قَالَ : فَإِذَنْ تَسْتَوِي ؛ لِأَنَّهَا مَقْلُوبَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمِنْ عَادَةِ
الْأَيَّامِ أَنَّ خُطُوبَهَا إذَا سَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ سَاءَ جَانِبُ وَمَا
أَعْرِفُ الْأَيَّامَ إلَّا ذَمِيمَةً وَلَا الدَّهْرَ إلَّا وَهُوَ لِلثَّأْرِ
طَالِبُ وَبِحَسَبِ مَا اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِهَا يَكُونُ اخْتِلَالُهَا .
فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ
الْإِنْسَانِ فِيهَا فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ ، هِيَ قَوَاعِدُ أَمْرِهِ وَنِظَامُ
حَالِهِ ، وَهِيَ : نَفْسٌ مُطِيعَةٌ إلَى رُشْدِهَا مُنْتَهِيَةٌ عَنْ غَيِّهَا ،
وَأُلْفَةٌ جَامِعَةٌ تَنْعَطِفُ الْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَيَنْدَفِعُ الْمَكْرُوهُ بِهَا
، وَمَادَّةٌ كَافِيَةٌ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَيْهَا وَيَسْتَقِيمُ
أَوَدُهُ بِهَا .
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الْأُولَى الَّتِي هِيَ نَفْسٌ
مُطِيعَةٌ : فَلِأَنَّهَا إذَا أَطَاعَتْهُ مَلَكَهَا ، وَإِذَا عَصَتْهُ
مَلَكَتْهُ وَلَمْ يَمْلِكْهَا
.
وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ فَهُوَ بِأَنْ لَا
يَمْلِكَ غَيْرَهَا أَحْرَى ، وَمَنْ عَصَتْهُ نَفْسُهُ كَانَ بِمَعْصِيَةِ
غَيْرِهَا أَوْلَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يَنْبَغِي
لِلْعَاقِلِ أَنْ يَطْلُبَ طَاعَةَ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَتَطْمَعُ أَنْ يُطِيعَك
قَلْبُ سُعْدَى وَتَزْعُمُ أَنَّ قَلْبَك قَدْ عَصَاك وَطَاعَةُ نَفْسِهِ تَكُونُ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا نُصْحٌ ، وَالثَّانِي انْقِيَادٌ .
فَأَمَّا النُّصْحُ فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى
الْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا فَيَرَى الرُّشْدَ رُشْدًا وَيَسْتَحْسِنَهُ ، وَيَرَى
الْغَيَّ غَيًّا وَيَسْتَقْبِحَهُ
.
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِدْقِ النَّفْسِ إذَا سَلِمَتْ
مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ .
فَأَمَّا الِانْقِيَادُ فَهُوَ أَنْ تُسْرِعَ إلَى
الرُّشْدِ إذَا أَمَرَهَا ، وَتَنْتَهِيَ عَنْ الْغَيِّ إذَا زَجَرَهَا .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِ النَّفْسِ إذَا كُفِيَتْ
مُنَازَعَةَ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } .
وَلِلنَّفْسِ آدَابٌ هِيَ تَمَامُ طَاعَتِهَا ،
وَكَمَالُ مَصْلَحَتِهَا .
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَابًا
وَاقْتَصَرْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مَا قَدْ اقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ ،
وَاسْتَدْعَاهُ التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْأُلْفَةُ الْجَامِعَةُ : فَلِأَنَّ
الْإِنْسَانَ مَقْصُودٌ بِالْأَذِيَّةِ ، مَحْسُودٌ بِالنِّعْمَةِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ آلِفًا مَأْلُوفًا تَخَطَّفَتْهُ
أَيْدِي حَاسِدِيهِ ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِ أَهْوَاءُ أَعَادِيهِ ، فَلَمْ تَسْلَمْ
لَهُ نِعْمَةٌ ، وَلَمْ تَصْفُ لَهُ مُدَّةٌ .
فَإِذَا كَانَ آلِفًا مَأْلُوفًا انْتَصَرَ بِالْأُلْفَةِ
عَلَى أَعَادِيهِ ، وَامْتَنَعَ مِنْ حَاسِدِيهِ ، فَسَلِمَتْ نِعْمَتُهُ مِنْهُمْ
، وَصَفَتْ مُدَّتُهُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ صَفْوُ الزَّمَانِ عُسْرًا ،
وَسِلْمُهُ خَطَرًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ ، وَلَا خَيْرَ
فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ
لَكُمْ ثَلَاثًا .
يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلَا تَتَفَرَّقُوا وَأَنْ
تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ
وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ } .
وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْأُلْفَةِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَنْ قَلَّ ذَلَّ وَقَالَ قَيْسُ
بْنُ عَاصِمٍ : إنَّ الْقِدَاحَ إذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا بِالْكَسْرِ ذُو
حَنَقٍ وَبَطْشٍ أَيِّدِ عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ
فَالْوَهْنُ وَالتَّكْسِيرُ لِلْمُتَبَدِّدِ
وَإِذَا
كَانَتْ الْأُلْفَةُ بِمَا أُثْبِتَ تَجْمَعُ الشَّمْلَ وَتَمْنَعُ الذُّلَّ ،
اقْتَضَتْ الْحَالُ ذِكْرَ أَسْبَابِهَا .
وَأَسْبَابُ الْأُلْفَةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ : الدِّينُ
وَالنَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمَوَدَّةُ وَالْبِرُّ .
فَأَمَّا الدِّينُ : وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ
الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى التَّنَاصُرِ ، وَيَمْنَعُ مِنْ
التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ .
وَبِمِثْلِ ذَلِكَ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَحَاسَدُوا
وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ
أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الدِّينِ
يَقْتَضِيهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَذَكُّرِ تُرَاثِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَإِحَنِ الضَّلَالَةِ
.
فَقَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْعَرَبُ أَشَدُّ تَقَاطُعًا وَتَعَادِيًا ، وَأَكْثَرُ اخْتِلَافًا
وَتَمَادِيًا ، حَتَّى إنَّ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَفَرَّقُونَ أَحْزَابًا
فَتُثِيرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّحَزُّبِ وَالِافْتِرَاقِ أَحْقَادُ الْأَعْدَاءِ ،
وَإِحَنُ الْبُعَدَاءِ .
وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ أَشَدَّهُمْ تَقَاطُعًا
وَتَعَادِيًا ، وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ الِاخْتِلَافِ
وَالتَّبَايُنِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَى أَنْ أَسْلَمُوا فَذَهَبَتْ
إحَنُهُمْ وَانْقَطَعَتْ عَدَاوَاتُهُمْ وَصَارُوا بِالْإِسْلَامِ إخْوَانًا
مُتَوَاصِلِينَ ، وَبِأُلْفَةِ الدِّينِ أَعْوَانًا مُتَنَاصِرِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا
} .
يَعْنِي أَعْدَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ بِالْإِسْلَامِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا } .
يَعْنِي حُبًّا .
وَعَلَى حَسَبِ التَّآلُفِ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ
الْعَدَاوَةُ
فِيهِ
إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْطَعُ فِي الدِّينِ مَنْ
كَانَ بِهِ بَرًّا وَعَلَيْهِ مُشْفِقًا .
هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَقَدْ
كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ فِي الْفَضْلِ وَالْأَثَرِ الْمَشْهُورِ
فِي الْإِسْلَامِ ، قَتَلَ أَبَاهُ يَوْم بَدْرٍ وَأَتَى بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ
، حِينَ بَقِيَ عَلَى ضَلَالِهِ وَانْهَمَكَ فِي طُغْيَانِهِ .
فَلَمْ يُعْطِفْهُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ وَلَا كَفَّهُ عَنْهُ
شَفَقَةٌ ، وَهُوَ مِنْ أَبَرِّ الْأَبْنَاءِ ، تَغْلِيبًا لِلدِّينِ عَلَى
النَّسَبِ وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَاعَةِ الْأَبِ .
وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ } .
وَقَدْ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الدِّينِ عَلَى مَذَاهِبَ
شَتَّى وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَحْدُثُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ مِنْ
الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَايُنِ مِثْلُ مَا يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي
الْأَدْيَانِ .
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الدِّينَ وَالِاجْتِمَاعَ عَلَى
الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِيهِ لَمَّا كَانَ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ ، كَانَ
الِاخْتِلَافُ فِيهِ أَقْوَى أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ .
وَإِذَا تَكَافَأَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَالْمَذَاهِبِ الْمُتَبَايِنَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَعْلَى
يَدًا ، وَأَكْثَرَ عَدَدًا ، كَانَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ أَقْوَى
وَالْإِحَنُ فِيهِمْ أَعْظَمَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْضَمُّ إلَى عَدَاوَةِ الِاخْتِلَافِ
تَحَاسُدُ الْأَكْفَاءِ ، وَتَنَافُسُ النُّظَرَاءِ .
وَأَمَّا
النَّسَبُ : وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّ تَعَاطُفَ
الْأَرْحَامِ وَحَمِيَّةَ الْقَرَابَةِ يَبْعَثَانِ عَلَى التَّنَاصُرِ
وَالْأُلْفَةِ ، وَيَمْنَعَانِ مِنْ التَّخَاذُلِ وَالْفُرْقَةِ ، أَنَفَةً مِنْ اسْتِعْلَاءِ
الْأَبَاعِدِ عَلَى الْأَقَارِبِ ، وَتَوَقِّيًا مِنْ تَسَلُّطِ الْغُرَبَاءِ
الْأَجَانِبِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الرَّحِمَ إذَا تَمَاسَّتْ تَعَاطَفَتْ } .
وَلِذَلِكَ حَفِظَتْ الْعَرَبُ أَنْسَابَهَا لَمَّا
امْتَنَعَتْ عَنْ سُلْطَانٍ يَقْهَرُهَا وَيَكُفُّ الْأَذَى عَنْهَا لِتَكُونَ
بِهِ مُتَظَافِرَةً عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا ، مُتَنَاصِرَةً عَلَى مَنْ شَاقَّهَا
وَعَادَاهَا ، حَتَّى بَلَغَتْ بِأُلْفَةِ الْأَنْسَابِ تَنَاصُرَهَا عَلَى
الْقَوِيِّ الْأَيِّدِ وَتَحَكَّمَتْ بِهِ تَحَكُّمَ الْمُتَسَلِّطِ
الْمُتَشَطِّطِ .
وَقَدْ أَعْذَرَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ نَفْسَهُ حِينَ عَدِمَ عَشِيرَةً تَنْصُرُهُ ، فَقَالَ لِمَنْ بُعِثَ
إلَيْهِمْ : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
يَعْنِي عَشِيرَةً مَانِعَةً .
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَحِمَ اللَّهُ
لُوطًا ، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إلَّا فِي
ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ } .
وَقَالَ وَهْبٌ : لَقَدْ وَرَدَتْ الرُّسُلُ عَلَى لُوطٍ
وَقَالُوا : إنَّ رُكْنَك لَشَدِيدٌ
.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، { أَنَّهُ كَانَ لَا يَتْرُكُ الْمَرْءَ مُفْرَجًا حَتَّى يَضُمَّهُ
إلَى قَبِيلَةٍ يَكُونُ فِيهَا
} .
قَالَ الرِّيَاشِيُّ : الْمُفْرَجُ الَّذِي لَا
يَنْتَمِي إلَى قَبِيلَةٍ يَكُونُ مِنْهَا .
وَكُلُّ ذَلِكَ حَثٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْأُلْفَةِ وَكَفٌّ عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } .
وَإِذَا كَانَ النَّسَبُ
بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ
مِنْ الْأُلْفَةِ فَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ عَوَارِضُ تَمْنَعُ مِنْهَا ، وَتَبْعَثُ
عَلَى الْفُرْقَةِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا .
فَإِذَنْ قَدْ لَزِمَ أَنْ نَصِفَ حَالَ الْأَنْسَابِ ،
وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ .
فَجُمْلَةُ الْأَنْسَابِ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ
أَقْسَامٍ : قِسْمٌ وَالِدُونَ ، وَقِسْمٌ مَوْلُودُونَ ، وَقِسْمٌ مُنَاسِبُونَ .
وَلِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةٌ مِنْ الْبِرِّ
وَالصِّلَةِ ، وَعَارِضٌ يَطْرَأُ فَيَبْعَثُ عَلَى الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ .
فَأَمَّا الْوَالِدُونَ فَهُمْ الْآبَاءُ
وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ .
وَهُمْ مَوْسُومُونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ
بِخُلُقَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَازِمٌ بِالطَّبْعِ ، وَالثَّانِي حَادِثٌ
بِاكْتِسَابٍ .
فَأَمَّا مَا كَانَ لَازِمًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ
الْحَذَرُ وَالْإِشْفَاقُ .
وَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْوَالِدِ بِحَالٍ ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ } .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَذَرَ عَلَيْهِ يُكْسِبُ هَذِهِ
الْأَوْصَافَ ، وَيُحْدِثُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ .
وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ طَلَبَ الْوَلَدِ كَرَاهَةً
لِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ ،
لِلُزُومِهَا طَبْعًا ، وَحُدُوثِهَا حَتْمًا .
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
: مَا بَالُك تَكْرَهُ الْوَلَدَ ؟ فَقَالَ : مَا لِي وَلِلْوَلَدِ ، إنْ عَاشَ
كَدَّنِي ، وَإِنْ مَاتَ هَدَّنِي
.
وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
: أَلَا تَتَزَوَّجُ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا يُحَبُّ التَّكَاثُرُ فِي دَارِ
الْبَقَاءِ .
وَأَمَّا مَا كَانَ حَادِثًا بِالِاكْتِسَابِ فَهِيَ
الْمَحَبَّةُ الَّتِي تُنَمَّى مَعَ الْأَوْقَاتِ ، وَتَتَغَيَّرُ مَعَ تَغَيُّرِ
الْحَالَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْوَلَدُ أَنْوَطُ } .
يَعْنِي أَنَّ حُبَّهُ يَلْتَصِقُ بِنِيَاطِ الْقَلْبِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ ثَمَرَةٌ ، وَثَمَرَةُ الْقَلْبِ الْوَلَدُ } .
فَإِنْ انْصَرَفَ
الْوَالِدُ عَنْ حُبِّ الْوَلَدِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِبَعْضٍ مِنْهُ ، وَلَكِنْ
لِسَلْوَةٍ حَدَثَتْ مِنْ عُقُوقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ ، مَعَ بَقَاءِ الْحَذَرِ
وَالْإِشْفَاقِ الَّذِي لَا يَزُولُ عَنْهُ ، وَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ .
فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ الْآبَاءَ لِلْأَبْنَاءِ فَحَذَّرَهُمْ
فِتْنَتَهُمْ وَلَمْ يُوصِهِمْ بِهِمْ ، وَلَمْ يَرْضَ الْأَبْنَاءَ لِلْآبَاءِ
فَأَوْصَاهُمْ بِهِمْ .
وَإِنَّ شَرَّ الْأَبْنَاءِ مَنْ دَعَاهُ التَّقْصِيرُ إلَى
الْعُقُوقِ ، وَشَرَّ الْآبَاءِ مَنْ دَعَاهُ الْبِرُّ إلَى الْإِفْرَاطِ .
وَالْأُمَّهَاتُ أَكْثَرُ إشْفَاقًا وَأَوْفَرُ حُبًّا
لِمَا بَاشَرْنَ مِنْ الْوِلَادَةِ وَعَانَيْنَ مِنْ التَّرْبِيَةِ فَإِنَّهُنَّ
أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ نُفُوسًا
.
وَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّعَطُّفُ عَلَيْهِنَّ
أَوْفَرَ جَزَاءٍ لِفِعْلِهِنَّ ، وَكِفَاءً لِحَقِّهِنَّ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ
تَعَالَى قَدْ أَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي
الْوَصِيَّةِ ، فَقَالَ تَعَالَى
: { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ لِي أُمًّا أَنَا مُطِيعُهَا
أُقْعِدُهَا عَلَى ظَهْرِي ، وَلَا أَصْرِفُ عَنْهَا وَجْهِي ، وَأَرُدُّ إلَيْهَا
كَسْبِي ، فَهَلْ جَزَيْتهَا ؟ قَالَ لَا وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ .
قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُك
وَهِيَ تُحِبُّ حَيَاتَك ، وَأَنْتَ تَخْدُمُهَا وَتُحِبُّ مَوْتَهَا } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : حَقُّ الْوَالِدِ
أَعْظَمُ ، وَبِرُّ الْوَالِدِ أَلْزَمُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنْهَاكُمْ عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ
، وَمَنْعٍ وَهَاتِ } .
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ
بِأُمَّهَاتِكُمْ ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ } .
وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمْ الْأَوْلَادُ
وَأَوْلَادُ
الْأَوْلَادِ .
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ الصَّفْوَةَ .
وَهُمْ مُخْتَصُّونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ
بِخُلُقَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَازِمٌ ، وَالْآخَرُ مُنْتَقِلٌ .
فَأَمَّا اللَّازِمُ فَهُوَ الْأَنَفَةُ لِلْآبَاءِ مِنْ
تَهَضُّمٍ أَوْ خُمُولٍ .
وَالْأَنَفَةُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي مُقَابَلَةِ
الْإِشْفَاقِ فِي الْآبَاءِ .
وَقَدْ لَحَظَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ هَذَا
الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ :
فَأَصْبَحْت يَلْقَانِي الزَّمَانُ لِأَجْلِهِ
بِإِعْظَامِ مَوْلُودٍ وَإِشْفَاقِ وَالِدِ فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ فَهُوَ
الْإِدْلَالُ ، وَهُوَ أَوَّلُ حَالِ الْوَلَدِ ، وَالْإِدْلَالُ فِي الْأَبْنَاءِ
فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ فِي الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ بِالْآبَاءِ
أَخَصُّ ، وَالْإِدْلَالَ بِالْأَبْنَاءِ أَمَسُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُنَا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ
عَلَيْنَا ؟ قَالَ : لِأَنَّا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا } .
ثُمَّ الْإِدْلَالُ فِي الْأَبْنَاءِ قَدْ يَنْتَقِلُ
مَعَ الْكِبَرِ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا الْبِرُّ وَالْإِعْظَامُ ،
وَإِمَّا إلَى الْجَفَاءِ وَالْعُقُوقِ .
فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَشِيدًا أَوْ كَانَ الْأَبُ
بَرًّا عَطُوفًا صَارَ الْإِدْلَالُ بِرًّا وَإِعْظَامًا .
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ
شَرَاحِيلَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَرِيرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : { إنَّ حَقَّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَخْشَعَ لَهُ
عِنْدَ الْغَضَبِ ، وَيُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ النَّصَبِ وَالسَّغَبِ .
فَإِنَّ الْمُكَافِئَ لَيْسَ بِالْوَاصِلِ وَلَكِنَّ
الْوَاصِلَ مَنْ إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا } .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ غَاوِيًا أَوْ كَانَ الْوَالِدُ
جَافِيًا صَارَ الْإِدْلَالُ قَطِيعَةً وَعُقُوقًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ } .
وَبُشِّرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِمَوْلُودٍ فَقَالَ : رَيْحَانَةٌ أَشُمُّهَا ثُمَّ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ وَلَدٌ بَارٌّ
أَوْ عَدُوٌّ ضَارٌّ .
وَقَدْ قِيلَ فِي
مَنْثُورِ
الْحِكَمِ : الْعُقُوقُ ثَكْلُ مَنْ لَمْ يُثْكَلْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : ابْنُك رَيْحَانُك
سَبْعًا ، وَخَادِمُك سَبْعًا وَوَزِيرُك سَبْعًا ، ثُمَّ هُوَ صِدِّيقٌ أَوْ
عَدُوٌّ .
وَأَمَّا الْمُنَاسِبُونَ فَهُمْ مِنْ عَدَا الْآبَاءِ
وَالْأَبْنَاءِ مِمَّنْ يَرْجِعُ بِتَعْصِيبٍ أَوْ رَحِمٍ .
وَاَلَّذِي يَخْتَصُّونَ بِهِ الْحَمِيَّةُ الْبَاعِثَةُ
عَلَى النُّصْرَةِ ، وَهِيَ أَدْنَى رُتْبَةِ الْأَنَفَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَنَفَةَ
تَمْنَعُ مِنْ التَّهَضُّمِ وَالْخُمُولِ مَعًا ، وَالْحَمِيَّةُ تَمْنَعُ مِنْ التَّهَضُّمِ
وَلَيْسَ لَهَا فِي كَرَاهَةِ الْخُمُولِ نَصِيبٌ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا
يَبْعَثُ عَلَى الْأُلْفَةِ .
وَحَمِيَّةُ الْمُنَاسِبِينَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى
النُّصْرَةِ عَلَى الْبُعَدَاءِ وَالْأَجَانِبِ ، وَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِحَسَدِ
الْأَدَانِي وَالْأَقَارِبِ ، مَوْكُولَةٌ إلَى مُنَافَسَةِ الصَّاحِبِ
بِالصَّاحِبِ ، فَإِنْ حُرِسَتْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّلَاطُفِ تَأَكَّدَتْ
أَسْبَابُهَا وَاقْتَرَنَ بِحَمِيَّةِ النَّسَبِ مُصَافَاةُ الْمَوَدَّةِ ،
وَذَلِكَ أَوْكَدُ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ : أَيُّمَا أَحَبُّ
إلَيْك أَخُوك أَوْ صَدِيقُك ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقًا .
وَقَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ : الْعَيْشُ
فِي ثَلَاثٍ : سَعَةُ الْمَنْزِلِ ، وَكَثْرَةُ الْخَدَمِ ، وَمُوَافَقَةُ
الْأَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبَعِيدُ قَرِيبٌ
بِمَوَدَّتِهِ ، وَالْقَرِيبُ بَعِيدٌ بِعَدَاوَتِهِ .
وَإِنْ أُهْمِلَتْ الْحَالُ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ
ثِقَةً بِلُحْمَةِ النَّسَبِ ، وَاعْتِمَادًا عَلَى حَمِيَّةٍ الْقَرَابَةِ ،
غَلَبَ عَلَيْهَا مَقْتُ الْحَسَدِ وَمُنَازَعَةُ التَّنَافُسِ ، فَصَارَتْ الْمُنَاسَبَةُ
عَدَاوَةً وَالْقَرَابَةُ بُعْدًا
.
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ : الْأَبُ
رَبٌّ ، وَالْوَلَدُ كَمَدٌ وَالْأَخُ فَخٌّ ، وَالْعَمُّ غَمٌّ وَالْخَالُ
وَبَالٌ ، وَالْأَقَارِبُ عَقَارِبُ
.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : لُحُومُهُمْ
لَحْمِي وَهُمْ يَأْكُلُونَهُ وَمَا دَاهِيَاتُ الْمَرْءِ إلَّا أَقَارِبُهُ
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَأَثْنَى
عَلَى
وَاصِلِهَا فَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي أَمَرَ
اللَّهُ بِوَصْلِهَا ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا ، وَيَخَافُونَ سُوءَ
الْحِسَابِ فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -
أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا فَمَنْ
وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { صِلَةُ الرَّحِمِ مَنْمَاةٌ لَلْعَدَدِ ، مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ ،
مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ بِالْحُقُوقِ
، وَلَا تَجْفُوهَا بِالْعُقُوقِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صِلُوا أَرْحَامَكُمْ
فَإِنَّهَا لَا تُبْلَى عَلَيْهَا أُصُولُكُمْ ، وَلَا تُهْضَمُ عَلَيْهَا
فُرُوعُكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ لَمْ يَصْلُحْ
لِأَهْلِهِ لَمْ يَصْلُحْ لَك ، وَمَنْ لَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ لَمْ يَذُبَّ عَنْك .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ
وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ ، وَمَنْ أَجَارَ جَارَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ
وَجَارَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ :
وَحَسْبُك مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعَةٍ مُنَاوَاةُ ذِي الْقُرْبَى وَإِنْ قِيلَ
قَاطِعُ وَلَكِنْ أُوَاسِيهِ وَأَنْسَى ذُنُوبَهُ لِتُرْجِعَهُ يَوْمًا إلَيَّ الرَّوَاجِعُ
وَلَا يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ : وَاصِلٌ وَعَبْدٌ لِأَرْحَامِ
الْقَرَابَةِ قَاطِعُ
وَأَمَّا
الْمُصَاهَرَةُ : وَهِيَ
الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهَا اسْتِحْدَاثُ مُوَاصَلَةٍ ،
وَتَمَازُجُ مُنَاسَبَةٍ ، صَدَرَا عَنْ رَغْبَةٍ وَاخْتِيَارٍ ، انْعَقَدَا عَلَى
خَيْرٍ وَإِيثَارٍ ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا أَسْبَابُ الْأُلْفَةِ وَمَوَادُّ الْمُظَاهَرَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } يَعْنِي بِالْمَوَدَّةِ الْمَحَبَّةَ ، وَبِالرَّحْمَةِ الْحُنُوَّ
وَالشَّفَقَةَ ، وَهُمَا مِنْ أَوْكَدِ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَفِيهَا تَأْوِيلٌ آخَرُ قَالَهُ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْمَوَدَّةَ النِّكَاحُ ، وَالرَّحْمَةَ
الْوَلَدُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } .
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْحَفَدَةِ ، فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : هُمْ أَخْتَانُ الرَّجُلِ عَلَى بَنَاتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : هُمْ وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ
مِنْ غَيْرِهِ ، وَسُمُّوا حَفَدَةً لِتَحَفُّدِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ
وَسُرْعَتِهِمْ فِي الْعَمَلِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْقُنُوتِ ، وَإِلَيْك
نَسْعَى ، وَنَحْفِدُ أَيْ نُسْرِعُ إلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِك .
وَلَمْ تَزَلْ الْعَرَبُ تَجْتَذِبُ الْبُعَدَاءَ ،
وَتَتَأَلَّفُ الْأَعْدَاءَ بِالْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُنَافِرُ
مُؤَانِسًا ، وَيَصِيرَ الْعَدُوُّ مُوَالِيًا ، وَقَدْ يَصِيرُ لِلصِّهْرِ بَيْنَ
الِاثْنَيْنِ أُلْفَةٌ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَمُوَالَاةٌ بَيْنَ
الْعَشِيرَتَيْنِ .
حُكِيَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيَّ آلَ
الزُّبَيْرِ حَتَّى تَزَوَّجْت مِنْهُمْ أَرْمَلَةً فَصَارُوا أَحَبَّ خَلْقِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيَّ .
وَفِيهَا يَقُولُ : أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِ طُرًّا لِأَجْلِهَا
وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْت أَخْوَالَهَا كَلْبَا فَإِنْ تُسْلِمِي نُسْلِمْ
وَإِنْ تَتَنَصَّرِي
يَحُطُّ
رِجَالٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ صُلْبَا وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْمَرْءُ عَلَى دَيْنِ زَوْجَتِهِ
، لِمَا يَسْتَنْزِلُهُ الْمَيْلُ إلَيْهَا مِنْ الْمُتَابَعَةِ ، وَيَجْتَذِبُهُ
الْحُبُّ لَهَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ ، فَلَا يَجِدُ إلَى الْمُخَالَفَةِ سَبِيلًا
، وَلَا إلَى الْمُبَايَنَةِ وَالْمُشَاقَّةِ طَرِيقًا .
وَإِذَا كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ لِلنِّكَاحِ بِهَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأُلْفَةِ فَقَدْ يَنْبَغِي لِعَقْدِهَا أَحَدُ خَمْسَةِ
أَوْجُهٍ وَهِيَ : الْمَالُ وَالْجَمَالُ وَالدِّينُ وَالْأُلْفَةُ وَالتَّعَفُّفُ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ
: لِمَالِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِدِينِهَا
، فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
فَإِنْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ لِأَجْلِ الْمَالِ
وَكَانَ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ ، فَالْمَالُ إذًا هُوَ الْمَنْكُوحُ فَإِنْ
اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الِائْتِلَافِ جَازَ
أَنْ يَلْبَثَ الْعَقْدُ وَتَدُومَ الْأُلْفَةُ فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ غَيْرِهِ
مِنْ الْأَسْبَابِ وَعَرِيَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْمَوَادِّ فَأَخْلِقْ
بِالْعَقْدِ أَنْ يَنْحَلَّ وَبِالْأُلْفَةِ أَنْ تَزُولَ ، لَا سِيَّمَا إذَا
غَلَبَ الطَّمَعُ وَقَلَّ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنْ وُصِلَ إلَيْهِ فَقَدْ
يَنْقَضِي سَبَبُ الْأُلْفَةِ بِهِ
.
فَقَدْ قِيلَ : مَنْ وَدَكَّ لِشَيْءٍ تَوَلَّى مَعَ
انْقِضَائِهِ .
وَإِنْ أَعْوَزَ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَتَعَذَّرَتْ
الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ اسْتِهَانَةَ الْآيِسِ بَعْدَ شِدَّةِ
الْأَمَلِ فَحَدَثَتْ مِنْهُ عَدَاوَةُ الْخَائِبِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ الطَّمَعِ
، فَصَارَتْ الْوَصْلَةُ فُرْقَةً وَالْأُلْفَةُ عَدَاوَةً .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ وَدَكَّ طَمَعًا فِيك أَبْغَضَك
إذَا أَيِسَ مِنْك .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : مَنْ عَظَّمَك لِإِكْثَارِك
اسْتَقَلَّك عِنْدَ إقْلَالِك .
فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الْجَمَالِ ،
فَذَلِكَ أَدْوَمُ لِلْأُلْفَةِ مِنْ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ صِفَةٌ
لَازِمَةٌ ، وَالْمَالَ صِفَةٌ زَائِلَةٌ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ :
حُسْنُ
الصُّورَةِ أَوَّلُ السَّعَادَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَحْسَنُهُنَّ وَجْهًا
وَأَقَلُّهُنَّ مَهْرًا } .
فَإِنْ سَلِمَتْ الْحَالُ مِنْ الْإِدْلَالِ الْمُفْضِي
إلَى الْمَلَالِ اسْتَدَامَتْ الْأُلْفَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ الْوَصْلَةُ .
وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَمَالَ الْبَارِعَ إمَّا
لِمَا يَحْدُثُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْإِدْلَالِ وَقَدْ قِيلَ : مَنْ بَسَطَهُ
الْإِدْلَالُ قَبَضَهُ الْإِذْلَالُ وَإِمَّا لِمَا يُخَافُ مِنْ مِحْنَةِ
الرَّغْبَةِ ، وَبَلْوَى الْمُنَازَعَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا شَاوَرَ حَكِيمًا فِي
التَّزَوُّجِ فَقَالَ لَهُ : افْعَلْ وَإِيَّاكَ وَالْجَمَالَ الْبَارِعَ ،
فَإِنَّهُ مَرْعًى أَنِيقٌ .
فَقَالَ الرَّجُلُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : كَمَا
قَالَ الْأَوَّلُ : وَلَنْ تُصَادِفَ مَرْعًى مُمْرَعًا أَبَدًا إلَّا وَجَدْت
بِهِ آثَارَ مُنْتَجِعِ وَإِمَّا لِمَا يَخَافُهُ اللَّبِيبُ مِنْ شِدَّةِ
الصَّبْوَةِ ، وَيَتَوَقَّاهُ الْحَازِمُ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِ الْفِتْنَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكَ
وَمُخَالَطَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ لَحْظَ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ ، وَلَفْظَهَا سُمٌّ .
وَرَأَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ صَيَّادًا يُكَلِّمُ
امْرَأَةً فَقَالَ : يَا صَيَّادُ ، احْذَرْ أَنْ تُصَادَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
، لِابْنِهِ : امْشِ وَرَاءَ الْأَسَدِ وَلَا تَمْشِ وَرَاءَ الْمَرْأَةِ .
وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
امْرَأَةً تَقُولُ هَذَا الْبَيْتَ : إنَّ النِّسَاءَ رَيَاحِينُ خُلِقْنَ لَكُمْ
وَكُلُّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِينِ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ النِّسَاءَ
شَيَاطِينُ خُلِقْنَ لَنَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ
كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الدِّينِ فَهُوَ أَوْثَقُ الْعُقُودِ حَالًا
وَأَدْوَمُهَا أُلْفَةً وَأَحْمَدُهَا بَدْءًا وَعَاقِبَةً ؛ لِأَنَّ طَالِبَ
الدِّينِ مُتَّبِعٌ لَهُ وَمَنْ اتَّبَعَ الدِّينَ انْقَادَ لَهُ ، فَاسْتَقَامَتْ
لَهُ حَالُهُ ، وَأَمِنَ زَلَلَهُ
.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { فَاظْفَرْ
بِذَاتِ
الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَرِبَتْ يَدَاك
إنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا
يُرَادُ بِهَا سُوءٌ ، كَقَوْلِهِمْ : مَا أَشْجَعَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ .
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الْأُلْفَةِ
فَهَذَا يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ .
إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْمُكَاثَرَةُ بِاجْتِمَاعِ
الْفَرِيقَيْنِ ، وَالْمُظَافَرَةُ بِتَنَاصُرِ الْفِئَتَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ
يُقْصَدَ بِهِ تَأَلُّفُ أَعْدَاءٍ مُتَسَلِّطِينَ اسْتِكْفَاءً لِعَادِيَتِهِمْ ،
وَتَسْكِينًا لِصَوْلَتِهِمْ .
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ قَدْ يَكُونَانِ فِي
الْأَمَاثِلِ وَأَهْلِ الْمَنَازِلِ
.
وَدَاعِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ الرَّغْبَةُ ،
وَدَاعِي الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ الرَّهْبَةُ ، وَهُمَا سَبَبَانِ فِي غَيْرِ
الْمُتَنَاكِحَيْنِ ، فَإِنْ اسْتَدَامَ السَّبَبُ دَامَتْ الْأُلْفَةُ ، وَإِنْ
زَالَ السَّبَبُ بِزَوَالِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، خِيفَ زَوَالُ الْأُلْفَةِ .
إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ
الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا ، وَالْمُقَرَّبَةِ لَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي التَّعَفُّفِ
فَهُوَ الْوَجْهُ الْحَقِيقِيُّ الْمُبْتَغَى بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَمَا سِوَى
ذَلِكَ فَأَسْبَابٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَيْهِ وَمُضَافَةٌ إلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { خُلِقَ الرَّجُلُ مِنْ التُّرَابِ فَهَمُّهُ فِي
التُّرَابِ ، وَخُلِقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ فَهَمُّهَا فِي الرَّجُلِ } .
وَرَوَى عَطِيَّةُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عَكَّافِ بْنِ
رِفَاعَةَ الْهِلَالِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَهُ : { يَا عَكَّافُ أَلَكَ زَوْجَةٌ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَأَنْتَ إذًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ ،
إنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ ، وَإِنْ كُنْت مِنَّا
فَمِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحُ }
.
فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ حَثًّا عَلَى تَرْكِ
الْفَسَادِ
وَبَاعِثًا
عَلَى التَّكَاثُرِ بِالْأَوْلَادِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلْقَفَّالِ مِنْ غَزْوِهِمْ : { إذَا أَفْضَيْتُمْ
إلَى نِسَائِكُمْ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ } .
يَعْنِي فِي طَلَبِ الْوَلَدِ .
فَلَزِمَ حِينَئِذٍ فِي عَقْدِ التَّعَفُّفِ تَحَكُّمُ
الِاخْتِيَارِ فِيهِ وَالْتِمَاسُ الْأَدْوَمِ مِنْ دَوَاعِيهِ .
وَهِيَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُمْكِنُ حَصْرُ شُرُوطِهِ ،
وَنَوْعٌ لَا يُمْكِنُ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ وَتَغَايُرِ شُرُوطِهِ .
فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمَحْصُورَةُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ
شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الدِّينُ الْمُفْضِي إلَى السِّتْرِ وَالْعَفَافِ ،
وَالْمُؤَدِّي إلَى الْقَنَاعَةِ وَالْكَفَافِ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا
يَعْذِلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا
خُلُقًا .
وَخَطَبَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتِيمَةً كَانَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ : لَا أَرْضَاهَا
لَك .
قَالَ : وَلِمَ وَفِي دَارِك نَشَأَتْ ؟ قَالَ : إنَّهَا
تَتَشَرَّفُ .
قَالَ : لَا أُبَالِي .
فَقَالَ : الْآنَ لَا أَرْضَاك لَهَا .
وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : مَنْ
رَضِيَ بِصُحْبَةِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لَمْ يَرْضَ بِصُحْبَتِهِ مَنْ فِيهِ
خَيْرٌ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ الْبَاعِثُ عَلَى
حُسْنِ التَّقْدِيرِ ، الْآمِرُ بِصَوَابِ التَّدْبِيرِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ أَلُوفٌ وَمَأْلُوفٌ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالْوَدُودِ الْوَلُودِ وَلَا تَنْكِحُوا
الْحَمْقَاءَ فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضِيَاعٌ } .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْأَكْفَاءُ الَّذِينَ
يَنْتَفِي بِهِمْ الْعَارُ وَيَحْصُلُ بِهِمْ الِاسْتِكْثَارُ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَخَيَّرُوا لَنُطَفِكُمْ وَلَا تَضَعُوهَا إلَّا فِي
الْأَكْفَاءِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ قَالَ
لِوَلَدِهِ : يَا بُنَيَّ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ جَمَالُ
النِّسَاءِ
عَنْ صَرَاحَةِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ الْمَنَاكِحَ الْكَرِيمَةَ مَدْرَجَةٌ
لِلشَّرَفِ .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِبَنِيهِ :
قَدْ أَحْسَنْت إلَيْكُمْ صِغَارًا وَكِبَارًا وَقَبْلَ أَنْ تُولَدُوا .
قَالُوا :
وَكَيْفَ أَحْسَنْتَ إلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نُولَدَ ؟
قَالَ : اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْ الْأُمَّهَاتِ مَنْ لَا تُسَبُّونَ بِهَا .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ : فَأَوَّلُ إحْسَانِي
إلَيْكُمْ تَخَيُّرِي لِمَاجِدَةِ الْأَعْرَاقِ بَادٍ عَفَافُهَا وَقَدْ تَنْضَمُّ
إلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَأَحْوَالِ النَّفْسِ مَا يَلْزَمُ
التَّحَرُّزُ مِنْهُ لِبُعْدِ الْخَيْرِ عَنْهُ ، وَقِلَّةِ الرُّشْدِ فِيهِ ،
فَإِنَّ كَوَامِنَ الْأَخْلَاقِ بَادِيَةٌ فِي الصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ ، كَاَلَّذِي
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ
لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَتَزَوَّجَتْ يَا زَيْدُ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : تَزَوَّجْ تَسْتَعْفِفْ مَعَ عِفَّتِك ، وَلَا
تَتَزَوَّجْ مِنْ النِّسَاءِ خَمْسًا
.
قَالَ : وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : لَا تَتَزَوَّجْ شَهْبَرَةَ وَلَا لَهْبَرَةً
وَلَا نَهْبَرَةً وَلَا هَبْذَرَةَ وَلَا لَفُوتًا .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَعْرِفُ
مِمَّا قُلْت شَيْئًا .
قَالَ :
أَمَّا الشَّهْبَرَةُ فَالزَّرْقَاءُ الْبَذِيَّةُ ،
وَأَمَّا اللَّهْبَرَةُ فَالطَّوِيلَةُ الْمَهْزُولَةُ ، وَأَمَّا النَّهْبَرَةُ فَالْعَجُوزُ
الْمُدْبِرَةُ ، وَأَمَّا الْهَبْذَرَةُ فَالْقَصِيرَةُ الدَّمِيمَةُ ، وَأَمَّا
اللَّفُوتُ فَذَاتُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِك } .
وَقَالَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لِابْنِهِ : يَا
بُنَيَّ إيَّاكَ وَالرَّقُوبَ الْغَضُوبَ الْقَطُوبَ .
الرَّقُوبُ الَّتِي تُرَاقِبُهُ أَنْ يَمُوتَ فَتَأْخُذَ
مَالَهُ .
وَأَوْصَى بَعْضُ الْأَعْرَابِ ابْنَهُ فِي التَّزَوُّجِ
فَقَالَ : إيَّاكَ وَالْحَنَّانَةَ وَالْمَنَّانَةَ وَالْأَنَّانَةَ .
فَالْحَنَّانَةُ الَّتِي تَحِنُّ لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا ،
وَالْمَنَّانَةُ الَّتِي تَمُنُّ عَلَى زَوْجِهَا بِمَالِهَا ، وَالْأَنَّانَةُ
الَّتِي تَئِنُّ كَسَلًا وَتَمَارُضًا
.
وَقَالَ أَوْفَى بْنُ دَلْهَمٍ : النِّسَاءُ أَرْبَعٌ :
فَمِنْهُنَّ مَقْمَعٌ لَهَا سِنُّهَا
أَجْمَعُ ،
وَمِنْهُنَّ مَمْنَعٌ تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَمِنْهُنَّ مِصْدَعٌ تُفَرِّقُ
وَلَا تَجْمَعُ ، وَمِنْهُنَّ غَيْثٌ وَقَعَ بِبَلَدٍ فَأَمْرَعَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَرَى صَاحِبَ النِّسْوَانِ يَحْسَبُ
أَنَّهَا سُوءٌ وَبَوْنٌ بَيْنَهُنَّ بَعِيدُ فَمِنْهُنَّ جَنَّاتٌ يَفِيءُ
ظِلَالُهَا وَمِنْهُنَّ نِيرَانٌ لَهُنَّ وَقُودُ وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَيْنَاءِ
عَنْ أَبِي زَيْدٍ : إنَّ النِّسَاءَ كَأَشْجَارٍ نَبَتْنَ مَعًا مِنْهُنَّ مُرٌّ
وَبَعْضُ الْمَرِّ مَأْكُولُ إنَّ النِّسَاءَ وَلَوْ صُوِّرْنَ مِنْ ذَهَبٍ
فِيهِنَّ مِنْ هَفَوَاتِ الْجَهْلِ تَخْيِيلُ إنَّ النِّسَاءَ مَتَى يُنْهَيْنَ
عَنْ خُلُقٍ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مَفْعُولُ وَمَا وَعَدْنَك مِنْ شَرٍّ وَفَيْنَ
بِهِ وَمَا وَعَدْنَك مِنْ خَيْرٍ فَمَمْطُولُ فَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ
فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ شُرُوطِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَيَنْتَقِلُ بِتَنَقُّلِ الْإِنْسَانِ
وَالْأَزْمَانِ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ مُوَافَقَةِ النَّفْسِ
وَمُتَابَعَةِ الشَّهْوَةِ ؛ لِيَكُونَ أَدْوَمَ لِحَالِ الْأُلْفَةِ وَأَمَدَّ
لِأَسْبَابِ الْوَصْلَةِ .
فَإِنَّ الرَّأْيَ الْمَعْلُولَ لَا يَبْقَى عَلَى
حَالِهِ ، وَالْمَيْلَ الْمَدْخُولَ لَا يَدُومُ عَلَى دَخَلِهِ .
فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى إحْدَى حَالَتَيْنِ :
إمَّا إلَى الزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ ، وَإِمَّا إلَى النُّقْصَانِ وَالزَّوَالِ .
حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : إنِّي أُحِبُّك وَأُحِبُّ مُعَاوِيَةَ .
فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ
أَعْوَرُ ، فَإِمَّا أَنْ تَبْرَأَ وَإِمَّا أَنْ تَعْمَى .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ
السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ
ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الْوَلَدِ .
وَالْأَحْمَدُ فِيهِ الْتِمَاسُ الْحَدَاثَةِ
وَالْبَكَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِالْوِلَادَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْتَقُ
أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ
.
} وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتَقُ أَرْحَامًا أَيْ أَكْثَرُ
أَوْلَادًا .
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَكْثَرُ حُبًّا وَأَقَلُّ خَنًا .
وَهَذَا الْحَالُ هِيَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ
؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَوْضُوعٌ لَهَا ، وَالشَّرْعُ وَارِدٌ بِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَاقِرٍ } .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَنْ لَا يَلِدُ لَا وُلِدَ .
وَقَدْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ
إنْكَاحَ الْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْجَبُ
لِلْوَلَدِ وَأَبْهَى لِلْخِلْقَةِ ، وَيَجْتَنِبُونَ إنْكَاحَ الْأَهْلِ
وَالْأَقَارِبِ ، وَيَرَوْنَهُ مُضِرًّا بِخَلْقِ الْوَلَدِ بَعِيدًا مِنْ
نَجَابَتِهِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { اغْتَرِبُوا وَلَا تُضْوُوا } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا بَنِي السَّائِبِ قَدْ ضُوِيتُمْ فَانْكِحُوا فِي
الْغَرَائِبِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَجَاوَزْتُ بِنْتَ الْعَمِّ
وَهِيَ حَبِيبَةٌ مَخَافَةَ أَنْ يُضْوَى عَلَيَّ سَلِيلِي وَكَانَتْ حُكَمَاءُ
الْمُتَقَدِّمِينَ يَرَوْنَ أَنَّ أَنْجَبَ الْأَوْلَادِ خَلْقًا وَخُلُقًا مَنْ
كَانَتْ سِنُّ أُمِّهِ بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَسِنُّ أَبِيهِ مَا بَيْنَ
الثَّلَاثِينَ وَالْخَمْسِينَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ : إنَّ وَلَدَ الْغَيْرَى لَا
يُنْجِبُ ، وَإِنَّ أَنْجَبَ النِّسَاءِ الْفَرُوكُ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ
يَغْلِبُهَا عَلَى الشَّبَقِ لِزُهْدِهَا فِي الرِّجَالِ .
وَقَالُوا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا أَكْرَهَ الْمَرْأَةَ
وَهِيَ مَذْعُورَةٌ ثُمَّ أَذُكِرَتْ أَنْجَبَتْ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ
بِهِ الْقِيَامَ بِمَا يَتَوَلَّاهُ النِّسَاءُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنَازِلِ .
فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِمُعَانَاةِ
النِّسَاءِ فَلَيْسَ بِأَلْزَمَ حَالَتَيْ الزَّوْجَاتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ
أَنْ يُعَانِيَهُ غَيْرُهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ .
وَلِذَلِكَ ، قِيلَ : الْمَرْأَةُ رَيْحَانَةٌ
وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ .
وَلَيْسَ
فِي هَذَا الْقَصْدِ تَأْثِيرٌ فِي دِينٍ وَلَا قَدَحٌ فِي مُرُوءَةٍ .
وَالْأَحْمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْتِمَاسُ ذَوَاتِ
الْأَسْنَانِ وَالْحُنْكَةِ مِمَّنْ قَدْ خَبَرْنَ تَدْبِيرَ الْمَنَازِلِ
وَعَرَفْنَ عَادَاتِ الرِّجَالِ ، فَإِنَّهُنَّ أَقُومُ بِهَذَا الْحَالِ .
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ بِهِ
الِاسْتِمْتَاعُ وَهِيَ أَذَمُّ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ وَأَوْهَنُهَا
لِلْمُرُوءَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَادُ فِيهِ لِأَخْلَاقِهِ الْبَهِيمِيَّةِ ،
وَيُتَابِعُ شَهْوَتَهُ الذَّمِيمَةَ
.
وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ النَّضْرِ الْأَزْدِيُّ : شَرُّ
النِّكَاحِ نِكَاحُ الْغُلْمَةِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ
وَقَهْرِهَا بِالْإِضْعَافِ لَهَا عِنْدَ الْغَلَبَةِ ، أَوْ تَسْكِينِ النَّفْسِ
عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ ، حَتَّى لَا تَطْمَحَ لَهُ عَيْنٌ لِرِيبَةٍ وَلَا
تُنَازِعَهُ نَفْسٌ إلَى فُجُورٍ ، وَلَا يَلْحَقَهُ فِي ذَلِكَ ذَمٌّ ، وَلَا يَنَالَهُ
وَصْمٌ ، وَهُوَ بِالْحَمْدِ أَجْدَرُ وَبِالثَّنَاءِ أَحَقُّ .
وَلَوْ تَنَزَّهَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عَنْ
اسْتِبْذَالِ الْحَرَائِرِ إلَى الْإِمَاءِ كَانَ أَكْمَلَ لِمُرُوءَتِهِ ،
وَأَبْلَغَ فِي صِيَانَتِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالُ تَقِفُ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ لَا
يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فِيهَا أَوْلَى الْأُمُورِ وَهِيَ أَخْطَرُ الْأَحْوَالِ
بِالْمَنْكُوحَةِ ؛ لِأَنَّ لِلشَّهَوَاتِ غَايَاتٍ مُتَنَاهِيَةٍ يَزُولُ
بِزَوَالِهَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَا ، فَتَصِيرُ الشَّهْوَةُ فِي
الِابْتِدَاءِ ، كَرَاهِيَةً فِي الِانْتِهَاءِ .
وَلِذَلِكَ كَرِهَتْ الْعَرَبُ الْبَنَاتِ
وَوَأَدَتْهُنَّ إشْفَاقًا عَلَيْهِنَّ وَحَمِيَّةً لَهُنَّ مِنْ أَنْ
يَتَبَذَّلَهُنَّ اللِّئَامُ بِهَذِهِ الْحَالِ .
وَكَانَ مَنْ تَحَوَّبَ مِنْ قَتْلِ الْبَنَاتِ
لِرِقَّةٍ وَمَحَبَّةٍ كَانَ مَوْتُهُنَّ أَحَبَّ إلَيْهِ وَآثَرَ عِنْدَهُ .
وَلَمَّا خُطِبَ إلَى عَقِيلِ بْنِ عَلْقَمَةَ ابْنَتُهُ
الْحِرْبَاءُ قَالَ : إنِّي وَإِنْ سَبَقَ إلَيَّ الْمَهْرُ ، أَلْفٌ وَعَبْدَانِ
وَذُوَدٌ عَشْرٌ ، أَحَبُّ أَصْهَارِي إلَيَّ الْقَبْرُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ : لِكُلِّ أَبِي
بِنْتٍ يُرَاعِي شُئُونَهَا ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إذَا
حُمِدَ الصِّهْرُ فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ يُكِنُّهَا وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَأَفْضَلُهَا الْقَبْرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا
الْمُؤَاخَاةُ بِالْمَوَدَّةِ ، وَهِيَ الرَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ ؛
لِأَنَّهَا تُكْسِبُ بِصَادِقِ الْمَيْلِ إخْلَاصًا وَمُصَافَاةً ، وَيَحْدُثُ
بِخُلُوصِ الْمُصَافَاةِ وَفَاءٌ وَمُحَامَاةٌ .
وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأُلْفَةِ ، وَلِذَلِكَ آخَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ؛
لِتَزِيدَ أُلْفَتُهُمْ ، وَيَقْوَى تَظَافُرُهُمْ .
وَتَنَاصُرُهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِإِخْوَانِ الصَّفَاءِ فَإِنَّهُمْ زِينَةٌ فِي
الرَّخَاءِ وَعِصْمَةٌ فِي الْبَلَاءِ } ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَرْءُ
كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك مِنْ الْحَقِّ
مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: لِقَاءُ الْإِخْوَانِ جَلَاءُ الْأَحْزَانِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : إنَّ أَعْجَزَ
النَّاسِ مَنْ قَصَّرَ فِي طَلَبِ الْإِخْوَانِ ، وَأَعْجَزَ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ
مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِهِ
الْحَسَنِ : يَا بُنَيَّ الْغَرِيبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبِيبٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : مَنْ اتَّخَذَ إخْوَانًا
كَانُوا لَهُ أَعْوَانًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ
أَخٌ وَفِيٌّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صَدِيقٌ مُسَاعِدٌ عَضُدٌ
وَسَاعِدٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : هُمُومُ رِجَالٍ فِي
أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَهَمِّي مِنْ الدُّنْيَا صَدِيقٌ مُسَاعِدُ نَكُونُ كَرُوحٍ
بَيْنَ جِسْمَيْنِ قُسِّمَتْ فَجِسْمَاهُمَا جِسْمَانِ وَالرُّوحُ وَاحِدُ وَقِيلَ
: إنَّمَا سُمِّيَ الصَّدِيقُ صَدِيقًا لِصِدْقِهِ ، وَالْعَدُوُّ عَدُوًّا لِعَدْوِهِ
عَلَيْك .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : إنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إلَّا
مَلَأَتْهُ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ قَوْلَ بَشَّارٍ : قَدْ
تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا .
وَالْمُؤَاخَاةُ
فِي النَّاسِ قَدْ تَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أُخُوَّةٌ مُكْتَسَبَةٌ
بِالِاتِّفَاقِ الْجَارِي مَجْرَى الِاضْطِرَارِ .
وَالثَّانِيَةُ : مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَصْدِ
وَالِاخْتِيَارِ .
فَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالِاتِّفَاقِ فَهِيَ
أَوْكَدُ حَالًا ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَنْ أَسْبَابٍ تَعُودُ إلَيْهَا .
وَالْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ تُعْقَدُ لَهَا أَسْبَابٌ
تَنْقَادُ إلَيْهَا .
وَمَا كَانَ جَارِيًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ أَلْزَمُ
مِمَّا هُوَ حَادِثٌ بِالْقَصْدِ
.
وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُكْتَسَبِ
بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِالْوَجْهِ الثَّانِي الْمُكْتَسَبُ بِالْقَصْدِ .
أَمَّا الْمُكْتَسَبُ بِالِاتِّفَاقِ فَلَهُ أَسْبَابٌ
نَبْتَدِئُ بِهَا ثُمَّ نَنْتَقِلُ فِي غَايَةِ أَحْوَالِهِ الْمَحْدُودَةِ إلَى
سَبْعِ مَرَاتِبَ رُبَّمَا اسْتَكْمَلْتُهُنَّ وَرُبَّمَا وَقَفْتُ عَلَى
بَعْضِهِنَّ وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ خَاصٌّ وَسَبَبٌ مُوجِبٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ : مَا هَوَى إلَّا لَهُ سَبَبُ
يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ فَأَوَّلُ أَسْبَابِ الْإِخَاءِ : التَّجَانُسُ فِي
حَالٍ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَيَأْتَلِفَانِ بِهَا ، فَإِنْ قَوِيَ التَّجَانُسُ
قَوِيَ الِائْتِلَافُ بِهِ وَإِنْ ضَعُفَ كَانَ ضَعِيفًا مَا لَمْ تَحْدُثْ عِلَّةٌ
أُخْرَى يَقْوَى بِهَا الِائْتِلَافُ
.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الِائْتِلَافَ بِالتَّشَاكُلِ ، وَالتَّشَاكُلُ بِالتَّجَانُسِ ، فَإِذَا عُدِمَ
التَّجَانُسُ مِنْ وَجْهٍ انْتَفَى التَّشَاكُلُ مِنْ وَجْهٍ ، وَمَعَ انْتِفَاءِ
التَّشَاكُلِ يُعْدَمُ الِائْتِلَافُ
.
فَثَبَتَ أَنَّ التَّجَانُسَ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ ،
أَصْلُ الْإِخَاءِ وَقَاعِدَةُ الِائْتِلَافِ .
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عُمَرَ ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا
ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } .
وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ بِالتَّجَانُسِ مُتَعَارِفَةٌ ،
وَبِفَقْدِهِ مُتَنَاكِرَةٌ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْأَضْدَادُ لَا
تَتَّفِقُ ، وَالْأَشْكَالُ لَا تَفْتَرِقُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِحُسْنِ تُشَاكِلْ الْأَخَوَانِ يَلْبَثُ التَّوَاصُلُ .
وَلِبَعْضِهِمْ : فَلَا تَحْتَقِرْ نَفْسِي وَأَنْتَ
خَلِيلُهَا فَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَنْ يُشَاكِلُ وَقَالَ آخَرُ : فَقُلْتُ
: أَخِي قَالُوا : أَخٌ مِنْ قَرَابَةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ : إنَّ الشُّكُولَ
أَقَارِبُ نَسِيبِي فِي رَأْيِي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي وَإِنْ فَرَّقَتْنَا فِي
الْأُصُولِ الْمُنَاسِبُ ثُمَّ يَحْدُثُ بِالتَّجَانُسِ الْمُوَاصَلَةُ بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ
، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِخَاءِ .
وَسَبَبُ الْمُوَاصَلَةِ بَيْنَهُمَا وُجُودُ الِاتِّفَاقِ
مِنْهُمَا فَصَارَتْ الْمُوَاصَلَةُ نَتِيجَةَ التَّجَانُسِ ، وَالسَّبَبُ فِيهِ
وُجُودُ الِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاتِّفَاقِ مُنَفِّرٍ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : النَّاسُ إنْ وَافَقْتهمْ عَذُبُوا
أَوْ لَا فَإِنَّ جَنَاهُمْ مُرُّ كَمْ مِنْ رِيَاضٍ لَا أَنِيسَ بِهَا تُرِكَتْ
لِأَنَّ طَرِيقَهَا وَعْرُ ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُوَاصَلَةِ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ
، وَسَبَبُهَا الِانْبِسَاطُ .
ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُؤَانَسَةِ رُتْبَةٌ رَابِعَةٌ
وَهِيَ الْمُصَافَاةُ ، وَسَبَبُهَا خُلُوصُ النِّيَّةِ .
وَرُتْبَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ ، وَسَبَبُهَا
الثِّقَةُ .
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ هِيَ أَدْنَى الْكَمَالِ فِي
أَحْوَالِ الْإِخَاءِ وَمَا قَبْلَهَا أَسْبَابٌ تَعُودُ إلَيْهَا فَإِنْ
اقْتَرَنَ بِهَا الْمُعَاضَدَةُ فَهِيَ الصَّدَاقَةُ .
ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمَوَدَّةِ رُتْبَةٌ سَادِسَةٌ ،
وَهِيَ الْمَحَبَّةُ ، وَسَبَبُهَا الِاسْتِحْسَانُ .
فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِفَضَائِلِ النَّفْسِ
حَدَثَتْ رُتْبَةٌ سَابِعَةٌ ، وَهِيَ الْإِعْظَامُ .
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِلصُّورَةِ
وَالْحَرَكَاتِ حَدَثَتْ رُتْبَةٌ ثَامِنَةٌ ، وَهِيَ الْعِشْقُ وَسَبَبُهُ
الطَّمَعُ .
وَقَدْ قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
أَوَّلُ الْعِشْقِ مِزَاحٌ وَوَلَعْ ثُمَّ يَزْدَادُ إذَا زَادَ الطَّمَعْ كُلُّ
مَنْ يَهْوَى وَإِنْ غَالَتْ بِهِ رُتْبَةُ الْمِلْكِ لِمَنْ يَهْوَى تَبَعْ وَهَذِهِ
الرُّتْبَةُ آخِرُ الرُّتَبِ الْمَحْدُودَةِ ، وَلَيْسَ لِمَا جَاوَزَهَا رُتْبَةٌ
مُقَدَّرَةٌ ، وَلَا حَالَةٌ مَحْدُودَةٌ ؛
لِأَنَّهَا
قَدْ تُؤَدِّي إلَى مُمَازَجَةِ النُّفُوسِ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ ذَوَاتُهَا ،
وَتُفْضِي إلَى مُخَالَطَةِ الْأَرْوَاحِ وَإِنْ تَفَارَقَتْ أَجْسَادُهَا .
وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ غَايَتِهَا ،
وَلَا الْوُقُوفُ عِنْدَ نِهَايَتِهَا
.
وَقَدْ قَالَ الْكِنْدِيُّ : الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ
أَنْتَ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُك .
وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ أَرْضًا وَكَتَبَ لَهُ بِهَا كِتَابًا ، وَأَشْهَدَ فِيهِ نَاسًا مِنْهُمْ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَى طَلْحَةُ بِكِتَابِهِ إلَى
عُمَرَ لِيَخْتِمَهُ ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ، فَرَجَعَ طَلْحَةُ مُغْضَبًا إلَى
أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَنْتَ
الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرُ ؟ فَقَالَ : بَلْ عُمَرُ ، لَكِنَّهُ أَنَا .
وَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ فَلَا بُدَّ لَهَا
مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا ، وَبَاعِثٍ يَبْعَثُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مِنْ
وَجْهَيْنِ : رَغْبَةٌ وَفَاقَةٌ
.
فَأَمَّا الرَّغْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ
الْإِنْسَانِ فَضَائِلُ تَبْعَثُ عَلَى إخَائِهِ ، وَيَتَوَسَّمُ بِجَمِيلٍ
يَدْعُو إلَى اصْطِفَائِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَقْوَى مِنْ الَّتِي بَعْدَهَا
لِظُهُورِ الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِطَلَبِهَا ،
وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ لَهَا .
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ كَانَ مِنْ
أَهْلِهِ ، وَلَا كُلُّ مَنْ تَخَلَّقَ بِالْحُسْنَى كَانَتْ مِنْ طَبْعِهِ .
وَالْمُتَكَلِّفُ لِلشَّيْءِ مُنَافٍ لَهُ إلَّا أَنْ
يَدُومَ عَلَيْهِ مُسْتَحْسِنًا لَهُ فِي الْعَقْلِ ، أَوْ مُتَدَيَّنًا بِهِ فِي
الشَّرْعِ ، فَيَصِيرَ مُتَطَبِّعًا بِهِ لَا مَطْبُوعًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ فِي الطَّبْعِ أَنْ يَكُونَ
مَا لَيْسَ فِي التَّطَبُّعِ .
ثُمَّ نَقُولُ مِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ تَكُونَ
أَخْلَاقُ الْفَاضِلِ كَامِلَةً بِالطَّبْعِ ، وَإِنَّمَا الْأَغْلَبُ أَنْ
يَكُونَ بَعْضُ فَضَائِلِهِ بِالطَّبْعِ ، وَبَعْضُهَا بِالتَّطَبُّعِ الْجَارِي
بِالْعَادَةِ
مَجْرَى الطَّبْعِ ، حَتَّى يَصِيرَ مَا تَطَبَّعَ بِهِ فِي الْعَادَةِ أَغْلَبُ
عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ إذْ خَالَفَ الْعَادَةَ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاعْلَمْ
بِأَنَّ النَّاسَ مِنْ طِينَةٍ يَصْدُقُ فِي الثَّلْبِ لَهَا الثَّالِبُ لَوْلَا
عِلَاجُ النَّاسِ أَخْلَاقَهُمْ إذَنْ لَفَاحَ الْحَمَأُ اللَّازِبُ وَأَمَّا الْفَاقَةُ
فَهِيَ أَنْ يَفْتَقِرَ الْإِنْسَانُ ؛ لِوَحْشَةِ انْفِرَادِهِ وَمَهَانَةِ
وَحْدَتِهِ ، إلَى اصْطِفَاءِ مَنْ يَأْنِسُ بِمُوَاخَاتِهِ وَيَثِقُ بِنُصْرَتِهِ
وَمُوَالَاتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مَنْ لَمْ يَرْغَبْ
بِثَلَاثٍ بُلِيَ بِسِتٍّ : مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْإِخْوَانِ بُلِيَ
بِالْعَدَاوَةِ وَالْخِذْلَانِ ، وَمَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي السَّلَامَةِ بُلِيَ
بِالشَّدَائِدِ وَالِامْتِهَانِ ، وَمِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَعْرُوفِ بُلِيَ
بِالنَّدَامَةِ وَالْخُسْرَانِ
.
وَلَعَمْرِي إنَّ إخْوَانَ الصِّدْقِ مِنْ أَنْفَسِ الذَّخَائِرِ
وَأَفْضَلِ الْعُدَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَهْمَاءُ النُّفُوسِ وَأَوْلِيَاءُ
النَّوَائِبِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ رُبَّ صِدِّيقٍ أَوَدُّ
مِنْ شَقِيقٍ .
وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك ؟
قَالَ : صَدِيقٌ يُحَبِّبُنِي إلَى النَّاسِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : الْقَرِيبُ بِعَدَاوَتِهِ
بَعِيدٌ ، وَالْبَعِيدُ بِمَوَدَّتِهِ قَرِيبٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَمَوَدَّةٌ مِمَّنْ يُحِبُّك
مُخْلِصًا خَيْرٌ مِنْ الرَّحِمِ الْقَرِيبِ الْكَاشِحِ وَقَالَ آخَرُ : يَخُونُك
ذُو الْقُرْبَى مِرَارًا وَرُبَّمَا وَفَّى لَك عِنْدَ الْعَهْدِ مَنْ لَا
تُنَاسِبُهْ فَإِذَا عَزَمَ عَلَى اصْطِفَاءِ الْإِخْوَانِ سَبَرَ أَحْوَالَهُمْ قَبْلَ
إخَائِهِمْ ، وَكَشَفَ عَنْ أَخْلَاقِهِمْ قَبْلَ اصْطِفَائِهِمْ ؛ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ : أَسْبِرْ تُخْبَرْ .
وَلَا تَبْعَثُهُ الْوَحْدَةُ عَلَى الْإِقْدَامِ قَبْلَ
الْخِبْرَةِ ، وَلَا حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ .
فَإِنَّ الْمَلَقَ مَصَائِدُ الْعُقُولِ ، وَالنِّفَاقَ
تَدْلِيسُ الْفِطَنِ ، وَهُمَا سَجِيَّةُ الْمُتَصَنِّعِ .
وَلَيْسَ فِيمَنْ يَكُونُ النِّفَاقُ
وَالْمَلْقُ
بَعْضَ سَجَايَاهُ خَيْرٌ يُرْجَى ، وَلَا صَلَاحُ يُؤَمَّلُ .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : اعْرِفْ
الرَّجُلَ مِنْ فِعْلِهِ لَا مِنْ كَلَامِهِ ، وَاعْرِفْ مَحَبَّتَهُ مِنْ
عَيْنِهِ لَا مِنْ لِسَانِهِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : إنَّمَا أَنْفَقْت
عَلَى إخْوَانِي ؛ لِأَنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْ مَعَهُمْ النِّفَاقَ وَلَا قَصَّرْت
بِهِمْ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَقَالَ حَمَّادُ عَجْرَدُ : كَمْ مِنْ أَخٍ لَك لَيْسَ
تُنْكِرُهُ مَا دُمْت فِي دُنْيَاك فِي يَسْرِ مُتَصَنِّعٌ لَك فِي مَوَدَّتِهِ
يَلْقَاك بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ فَإِذَا عَدَا وَالدَّهْرُ ذُو غِيَرٍ دَهْرٌ
عَلَيْك عَدَا مَعَ الدَّهْرِ فَارْفُضْ بِإِجْمَالٍ مَوَدَّةَ مَنْ يَقْلِي
الْمُقِلَّ وَيَعْشَقُ الْمُثْرِي وَعَلَيْك مَنْ حَالَاهُ وَاحِدَةٌ فِي
الْعُسْرِ إمَّا كُنْت وَالْيُسْرِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْسُومٌ بِسِيمَاءِ
مَنْ قَارَبَ ، وَمَنْسُوبٌ إلَيْهِ أَفَاعِيلُ مَنْ صَاحَبَ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ
.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : مَا مِنْ شَيْءٍ أَدَلُّ عَلَى شَيْءٍ وَلَا الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ
مِنْ الصَّاحِبِ عَلَى الصَّاحِبِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اعْرِفْ أَخَاك بِأَخِيهِ
قَبْلَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : يُظَنُّ بِالْمَرْءِ مَا
يُظَنُّ بِقَرِينِهِ .
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ : عَنْ الْمَرْءِ لَا
تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي إذَا
كُنْت فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ
الرَّدِي فَلَزِمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ دُخَلَاءِ السُّوءِ
، وَيُجَانِبَ أَهْلَ الرِّيَبِ ، لِيَكُونَ مَوْفُورَ الْعَرْضِ سَلِيمَ
الْعَيْبِ ، فَلَا يُلَامُ بِمَلَامَةِ غَيْرِهِ .
وَلِهَذَا قِيلَ : التَّثَبُّتُ وَالِارْتِيَاءُ ،
وَمُدَاوَمَةُ الِاخْتِيَارِ وَالِابْتِلَاءُ ، مُتَعَذِّرٌ بَلْ مَفْقُودٌ .
وَقَدْ ضَرَبَ ذُو الرُّمَّةِ مَثَلًا بِالْمَاءِ فِيمَنْ
حَسُنَ ظَاهِرُهُ ، وَخَبُثَ بَاطِنُهُ ،
فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَاءَ يَخْبُثُ
طَعْمُهُ وَإِنْ كَانَ لَوْنُ الْمَاءِ أَبْيَضَ صَافِيَا وَنَظَرَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ إلَى رَجُلِ سُوءٍ حَسَنِ الْوَجْهِ فَقَالَ : أَمَّا الْبَيْتُ
فَحَسَنٌ ، وَأَمَّا السَّاكِنُ فَرَدِيءٌ .
فَأَخَذَ جَحْظَةُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : رَبِّ مَا
أَبْيَنَ التَّبَايُنَ فِيهِ مَنْزِلٌ عَامِرٌ وَعَقْلٌ خَرَابُ وَأَنْشَدَ فِي
بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا تَرْكَنَنَّ إلَى ذِي مَنْظَرٍ حَسَنٍ فَرُبَّ
رَائِقَةٍ قَدْ سَاءَ مَخْبَرُهَا مَا كُلُّ أَصْفَرَ دِينَارٌ لِصُفْرَتِهِ
صُفْرُ الْعَقَارِبِ أَرْدَاهَا وَأَنْكَرَهَا ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ
الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ الِامْتِحَانَ قَبْلَ الثِّقَةِ ، وَالثِّقَةَ
قَبْلَ أُنْسٍ ، أَثْمَرَتْ مَوَدَّتُهُ نَدَمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مُصَارَمَةٌ قَبْلَ
اخْتِبَارٍ ، أَفْضَلُ مِنْ مُؤَاخَاةٍ عَلَى اغْتِرَارٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَا تَثِقْ بِالصِّدِّيقِ
قَبْلَ الْخِبْرَةِ ، وَلَا نَفْعَ بِالْعَدْوِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ ، وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَحْمَدَنَّ امْرَأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ وَلَا تَذُمَّنَّهُ
مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ فَحَمْدُك الْمَرْءَ مَا لَمْ تُبْلِهِ خَطَأٌ وَذَمُّهُ
بَعْدَ حَمْدٍ شَرُّ تَكْذِيبِ
وَإِذًا قَدْ
لَزِمَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سَبْرُ الْإِخْوَانِ قَبْلَ إخَائِهِمْ ،
وَخِبْرَةُ أَخْلَاقِهِمْ قَبْلَ اصْطِفَائِهِمْ .
فَالْخِصَالُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إخَائِهِمْ بَعْدَ
الْمُجَانَسَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الِاتِّفَاقِ أَرْبَعُ خِصَالٍ :
فَالْخَصْلَةُ الْأُولَى : عَقْلٌ مَوْفُورٌ يَهْدِي إلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ .
فَإِنَّ الْحُمْقَ لَا تَثْبُتُ مَعَهُ مَوَدَّةٌ ،
وَلَا تَدُومُ لِصَاحِبِهِ اسْتِقَامَةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْبَذَاءُ لُؤْمٌ ، وَصُحْبَةُ الْأَحْمَقِ شُؤْمٌ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَدَاوَةُ الْعَاقِلِ
أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْ مَوَدَّةِ الْأَحْمَقِ ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَقَ رُبَّمَا ضَرَّ
وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَنْفَعَ ، وَالْعَاقِلُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي مَضَرَّتِهِ
، فَمَضَرَّتُهُ لَهَا حَدٌّ يَقِفُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ، وَمَضَرَّةُ الْجَاهِلِ
لَيْسَتْ بِذَاتِ حَدٍّ .
وَالْمَحْدُودُ أَقَلُّ ضَرَرًا مِمَّا هُوَ غَيْرُ
مَحْدُودٍ .
وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِلْمُسَيِّبِ بْنِ زُهَيْرٍ : مَا
مَادَّةُ الْعَقْلِ ؟ فَقَالَ : مُجَالَسَةُ الْعُقَلَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ الْجَهْلِ صُحْبَةُ ذَوِي
الْجَهْلِ ، وَمِنْ الْمُحَالِ مُجَادَلَةُ ذَوِي الْمُحَالِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَشَارَ عَلَيْك
بِاصْطِنَاعِ جَاهِلٍ أَوْ عَاجِزٍ ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا جَاهِلًا
أَوْ عَدُوًّا عَاقِلًا ؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَضُرُّك وَيَحْتَالُ فِيمَا
يَضَعُ مِنْك .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا مَا كُنْت
مُتَّخِذًا خَلِيلًا فَلَا تَثِقَنَّ بِكُلِّ أَخِي إخَاءِ فَإِنْ خُيِّرْت بَيْنَهُمْ
فَأَلْصِقْ بِأَهْلِ الْعَقْلِ مِنْهُمْ وَالْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ
لَهُ إذَا مَا تَفَاضَلَتْ الْفَضَائِلُ مِنْ كِفَاءِ وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ
: الدِّينُ الْوَاقِفُ بِصَاحِبِهِ عَلَى الْخَيْرَاتِ ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ
عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ مَوَدَّةُ غَيْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اصْطَفِ مِنْ الْإِخْوَانِ ذَا
الدِّينِ وَالْحَسَبِ وَالرَّأْيِ وَالْأَدَبِ ، فَإِنَّهُ رِدْءٌ لَك عِنْدَ
حَاجَتِك ، وَيَدٌ عِنْدَ
نَائِبَتِك
، وَأُنْسٌ عِنْدَ وَحْشَتِك ، وَزَيْنٌ عِنْدَ عَافِيَتك .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
أَخِلَّاءُ الرَّخَاءِ هُمْ كَثِيرٌ وَلَكِنْ فِي الْبَلَاءِ هُمْ قَلِيلُ فَلَا
يَغْرُرْك خِلَّةُ مَنْ تُؤَاخِي فَمَا لَك عِنْدَ نَائِبَةٍ خَلِيلُ وَكُلُّ أَخٍ
يَقُولُ أَنَا وَفِيٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ سِوَى خِلٌّ لَهُ
حَسَبٌ وَدِينٌ فَذَاكَ لِمَا يَقُولُ هُوَ الْفَعُولُ وَقَالَ آخَرُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ
فِي اللَّهِ خِلَّتُهُ فَخَلِيلُهُ مِنْهُ عَلَى خَطَرِ .
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَحْمُودَ الْأَخْلَاقِ
مَرَضِيَّ الْأَفْعَالِ ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ آمِرًا بِهِ ، كَارِهًا لِلشَّرِّ
نَاهِيًا عَنْهُ ، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الشِّرِّيرِ تُكْسِبُ الْأَعْدَاءَ
وَتُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ .
وَلَا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَةً
وَتُورِثُ مَذَمَّةً ، فَإِنَّ الْمَتْبُوعَ تَابِعُ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : إخْوَانُ
الشَّرِّ كَشَجَرِ النَّارِنْجِ يُحْرِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مُخَالَطَةُ الْأَشْرَارِ
عَلَى خَطَرٍ ، وَالصَّبْرُ عَلَى صُحْبَتِهِمْ كَرُكُوبِ الْبَحْرِ ، الَّذِي
مَنْ سَلِمَ مِنْهُ بِبَدَنِهِ مِنْ التَّلَفِ فِيهِ ، لَمْ يَسْلَمْ بِقَلْبِهِ
مِنْ الْحَذَرِ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ
تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ
الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ ، وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ
الْأَشْرَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مُجَالَسَةُ السَّفِيهِ
سَفَاهُ رَأْيٍ وَمِنْ عَقْلٍ مُجَالَسَةُ الْحَكِيمِ فَإِنَّك وَالْقَرِينُ مَعًا
سَوَاءٌ كَمَا قُدَّ الْأَدِيمُ مِنْ الْأَدِيمِ وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ :
أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَيْلٌ إلَى صَاحِبِهِ ، وَرَغْبَةٌ
فِي مُؤَاخَاتِهِ .
فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْكَدُ لِحَالِ الْمُؤَاخَاةِ وَأَمَدُّ
لِأَسْبَابِ الْمُصَافَاةِ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ إلَيْهِ طَالِبًا وَلَا
كُلُّ مَرْغُوبٍ إلَيْهِ رَاغِبًا
.
وَمَنْ طَلَبَ مَوَدَّةَ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ ، وَرَغِبَ
إلَى زَاهِدٍ فِيهِ ، كَانَ مُعَنًّى خَائِبًا ، كَمَا
قَالَ الْبُحْتُرِيُّ
: وَطَلَبْت مِنْك مَوَدَّةً لَمْ أُعْطَهَا إنَّ الْمُعَنَّى طَالِبٌ لَا
يَظْفَرُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ : فَإِنْ كَانَ لَا يُدْنِيك إلَّا
شَفَاعَةٌ فَلَا خَيْرَ فِي وُدٍّ يَكُونُ بِشَافِعِ وَأُقْسِمُ مَا تَرْكِي
عِتَابَك عَنْ قِلًى وَلَكِنْ لِعِلْمِي أَنَّهُ غَيْرُ نَافِعِ وَإِنِّي إذَا
لَمْ أَلْزَمِ الصَّبْرَ طَائِعًا فَلَا بُدَّ مِنْهُ مُكْرَهًا غَيْرَ طَائِعِ
فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ فِي إنْسَانٍ وَجَبَ إخَاؤُهُ ، وَتَعَيَّنَ
اصْطِفَاؤُهُ .
وَبِحَسَبِ وُفُورِهَا فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
الْمَيْلُ إلَيْهِ وَالثِّقَةُ بِهِ
.
وَبِحَسَبِ مَا يُرَى مِنْ غَلَبَةِ إحْدَاهَا عَلَيْهِ
يُجْعَلُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْخُلُقِ الْغَالِبِ عَلَيْهِ .
فَإِنَّ الْإِخْوَانَ عَلَى طَبَقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَأَنْحَاءٍ مُتَشَعِّبَةٍ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَالٌ يَخْتَصُّ بِهَا
فِي الْمُشَارَكَةِ ، وَثُلْمَةٌ يَسُدُّهَا فِي الْمُؤَازَرَةِ وَالْمُظَافَرَةِ
، وَلَيْسَ تَتَّفِقُ أَحْوَالُ جَمِيعِهِمْ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ التَّبَايُنَ
فِي النَّاسِ غَالِبٌ ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي الشِّيَمِ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الرِّجَالُ كَالشَّجَرِ
شَرَابُهُ وَاحِدٌ وَثَمَرُهُ مُخْتَلِفٌ .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مَنْصُورُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
فَقَالَ : بَنُو آدَمَ كَالنَّبْتِ وَنَبْتُ الْأَرْضِ أَلْوَانُ فَمِنْهُمْ
شَجَرُ الصَّنْدَلِ وَالْكَافُورُ وَالْبَانُ وَمِنْهُمْ شَجَرٌ أَفْضَلُ مَا
يَحْمِلُ قَطْرَانُ وَمَنْ رَامَ إخْوَانًا تَتَّفِقُ أَحْوَالُ جَمِيعِهِمْ رَامَ
مُتَعَذَّرًا ، بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا لَكَانَ رُبَّمَا وَقَعَ بِهِ خَلَلٌ فِي
نِظَامِهِ ، إذْ لَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْ الْإِخْوَانِ يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ
بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا الْمَجْبُولُونَ عَلَى الْخُلُقِ الْوَاحِدِ
يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَإِنَّمَا بِالِاخْتِلَافِ
يَكُونُ الِائْتِلَافُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ بِلَبِيبٍ
مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ : الْإِخْوَانُ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ
: طَبَقَةٌ كَالْغِذَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ ،
وَطَبَقَةٌ
كَالدَّوَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ أَحْيَانًا ، وَطَبَقَةٌ كَالدَّاءِ لَا يُحْتَاجُ
إلَيْهِ أَبَدًا .
وَلَعَمْرِي إنَّ النَّاسَ عَلَى مَا وَصَفَهُمْ ، لَا
الْإِخْوَانُ مِنْهُمْ .
وَلَيْسَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالدَّاءِ ، مِنْ
الْإِخْوَانِ الْمَعْدُودِينَ ، بَلْ هُمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ الْمَحْذُورِينَ .
وَإِنَّمَا يُدَاجُّونَ الْمَوَدَّةَ اسْتِكْفَافًا
لِشَرِّهِمْ ، وَتَحَرُّزًا مِنْ مُكَاشَفَتِهِمْ ، فَدَخَلُوا فِي عِدَادِ
الْإِخْوَانِ بِالْمُظَاهَرَةِ وَالْمُسَاتَرَةِ ، وَفِي الْأَعْدَاءِ عِنْدَ
الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ
.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَثَلُ الْعَدُوِّ الضَّاحِكِ
إلَيْك كَالْحَنْظَلَةِ الْخَضْرَاءِ أَوْرَاقُهَا ، الْقَاتِلِ مَذَاقُهَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تَغْتَرَّنَّ
بِمُقَارَبَةِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ كَالْمَاءِ وَإِنْ أُطِيلَ إسْخَانُهُ
بِالنَّارِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إطْفَائِهَا .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ :
تُكَاشِرُنِي ضَحِكًا كَأَنَّك نَاصِحٌ وَعَيْنُك تُبْدِي أَنَّ صَدْرَك لِي دَوِي
لِسَانُك مَعْسُولٌ وَنَفْسُك عَلْقَمٌ وَشَرُّك مَبْسُوطٌ وَخَيْرُك مُلْتَوِي
فَلَيْتَ كَفَافًا كَانَ خَيْرُك كُلُّهُ وَشَرُّك عَنِّي مَا ارْتَوَى الْمَاءَ مُرْتَوِي
فَإِذَا خَرَجَ مَنْ كَانَ كَالدَّاءِ مِنْ عِدَادِ الْإِخْوَانِ ، فَالْإِخْوَانُ
هُمْ الصِّنْفَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالْغِذَاءِ
وَكَالدَّوَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغِذَاءَ أَقْوَمُ لِلنَّفْسِ وَحَيَاتِهَا ،
وَالدَّوَاءَ عِلَاجُهَا وَصَلَاحُهَا .
وَأَفْضَلُهُمَا مَنْ كَانَ كَالْغِذَاءِ ؛ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَيْهِ أَعَمُّ .
وَإِذَا تَمَيَّزَ الْإِخْوَانُ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ
كُلٌّ مِنْهُمْ حَيْثُ نَزَلَتْ بِهِ أَحْوَالُهُ إلَيْهِ وَاسْتَقَرَّتْ
خِصَالُهُ وَخِلَالُهُ عَلَيْهِ
.
فَمَنْ قَوِيَتْ أَسْبَابُهُ قَوِيَتْ الثِّقَةُ بِهِ ، وَبِحَسَبِ
الثِّقَةِ بِهِ يَكُونُ الرُّكُونُ إلَيْهِ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : مَا أَنْتَ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ
وَإِنَّمَا نُجْحُ الْأُمُورِ بِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ فَالْيَوْمُ حَاجَتُنَا
إلَيْك وَإِنَّمَا يُدْعَى الطَّبِيبُ لِشِدَّةِ الْأَوْصَابِ
وَقَدْ
اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي اتِّخَاذِ الْإِخْوَانِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُمْ
أَوْلَى ؛ لِيَكُونُوا أَقْوَى مَنَعَةً وَيَدًا ، وَأَوْفَرَ تَحَبُّبًا
وَتَوَدُّدًا ، وَأَكْثَرَ تَعَاوُنًا وَتَفَقُّدًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَا الْعَيْشُ ؟ قَالَ
: إقْبَالُ الزَّمَانِ ، وَعِزُّ السُّلْطَانِ ، وَكَثْرَةُ الْإِخْوَانِ .
وَقِيلَ : حِلْيَةُ الْمَرْءِ كَثْرَةُ إخْوَانِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِقْلَالَ مِنْهُمْ
أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ إثْقَالًا وَكُلَفًا ، وَأَقَلُّ تَنَازُعًا
وَخُلْفًا .
وَقَالَ الْإِسْكَنْدَرُ : الْمُسْتَكْثِرُ مِنْ
الْإِخْوَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ كَالْمُسْتَوْفِرِ مِنْ الْحِجَارَةِ ،
وَالْمُقِلُّ مِنْ الْإِخْوَانِ الْمُتَخَيِّرُ لَهُمْ كَاَلَّذِي يَتَخَيَّرُ
الْجَوْهَرَ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : مَنْ كَثُرَ أَخِوَانُهُ
كَثُرَ غُرَمَاؤُهُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ : مَثَلُ
الْإِخْوَانِ كَالنَّارِ قَلِيلُهَا مَتَاعٌ وَكَثِيرُهَا بَوَارٌ .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي هَذَا
الْمَعْنَى ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ ، حَيْثُ يَقُولُ : عَدُوُّك مِنْ
صِدِّيقِك مُسْتَفَادُ فَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنْ الصِّحَابِ فَإِنَّ الدَّاءَ
أَكْثَرَ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ وَدَعْ عَنْك
الْكَثِيرَ فَكَمْ كَثِيرٌ يُعَافَ وَكَمْ قَلِيلٌ مُسْتَطَابُ فَمَا اللُّجَجُ
الْمِلَاحُ بِمُرْوِيَاتٍ وَتَلْقَى الرِّيَّ فِي النُّطَفِ الْعِذَابِ وَقَالَ بَعْضُ
الْبُلَغَاءِ : لِيَكُنْ غَرَضُك فِي اتِّخَاذِ الْإِخْوَانِ وَاصْطِنَاعِ
النُّصَحَاءِ تَكْثِيرَ الْعُدَّةِ لَا تَكْثِيرَ الْعِدَّةِ ، وَتَحْصِيلَ
النَّفْعِ لَا تَحْصِيلَ الْجَمْعِ ، فَوَاحِدٌ يَحْصُلُ بِهِ الْمُرَادُ خَيْرٌ
مِنْ أَلْفِ تُكَثِّرُ الْأَعْدَادَ
.
وَإِذَا كَانَ التَّجَانُسُ وَالتَّشَاكُلُ مِنْ
قَوَاعِدِ الْأُخُوَّةِ وَأَسْبَابِ الْمَوَدَّةِ ، كَانَ وُفُورُ الْعَقْلِ
وَظُهُورُ الْفَضْلِ يَقْتَضِي مِنْ حَالِ صَاحِبِهِ قِلَّةَ إخْوَانِهِ ؛
لِأَنَّهُ يَرُومُ مِثْلَهُ ، وَيَطْلُبُ شَكْلَهُ وَأَمْثَالُهُ مِنْ ذَوِي
الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ أَقَلُّ مِنْ أَضْدَادِهِ مِنْ ذَوِي الْحُمْقِ وَالنَّقْصِ
؛
لِأَنَّ
الْخِيَارَ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْأَقَلُّ ، فَلِذَلِكَ قَلَّ وُفُورُ الْعَقْلِ
وَالْفَضْلِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَك مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } .
فَقَلَّ بِهَذَا التَّعْلِيلِ إخْوَانُ أَهْلِ الْفَضْلِ
لِقِلَّتِهِمْ ، وَكَثُرَ إخْوَانُ ذَوِي النَّقْصِ وَالْجَهْلِ ؛ لِكَثْرَتِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ الشَّاعِرُ : لِكُلِّ امْرِئٍ
شَكْلٌ مِنْ النَّاسِ مِثْلُهُ فَأَكْثَرُهُمْ شَكْلًا أَقَلُّهُمْ عَقْلَا
وَكُلُّ أُنَاسٍ آلِفُونَ لِشَكْلِهِمْ فَأَكْثَرُهُمْ عَقْلًا أَقَلُّهُمْ
شَكْلَا لِأَنَّ كَثِيرَ الْعَقْلِ لَسْت بِوَاجِدٍ لَهُ فِي طَرِيقٍ حِينَ
يَسْلُكُهُ مِثْلَا وَكُلُّ سَفِيهٍ طَائِشٍ إنْ فَقَدْته وَجَدْت لَهُ فِي كُلِّ
نَاحِيَةٍ عِدْلَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَقَدْ
تَنْقَسِمُ أَحْوَالُ مَنْ دَخَلَ فِي عَدَدِ الْإِخْوَانِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهُمْ مَنْ
يُعِينُ وَيَسْتَعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ وَلَا
يَسْتَعِينُ .
فَأَمَّا الْمُعِينُ وَالْمُسْتَعِينُ فَهُوَ مُعَاوِضٌ
مُنْصِفٌ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوْفِي مَا لَهُ .
فَهُوَ الْقُرُوضُ يُسْعِفُ عِنْدَ الْحَاجَةِ
وَيَسْتَرِدُّ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ ، وَهُوَ مَشْكُورٌ فِي مَعُونَتِهِ ،
وَمَعْذُورٌ فِي اسْتِعَانَتِهِ
.
فَهَذَا أَعْدَلُ الْإِخْوَانِ .
وَأَمَّا مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ فَهُوَ
مُنَازِلٌ قَدْ مَنَعَ خَيْرَهُ ، وَقَمَعَ شَرَّهُ .
فَهُوَ لَا صَدِيقٌ يُرْجَى ، وَلَا عَدُوٌّ يُخْشَى .
وَقَدْ قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : التَّارِكُ لِلْإِخْوَانِ مَتْرُوكٌ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ كَالصُّورَةِ
الْمُمَثَّلَةِ يَرُوقُك حُسْنُهَا ، وَيَخُونُك نَفْعُهَا ، فَلَا هُوَ مَذْمُومٌ
لِقَمْعِ شَرِّهِ ، وَلَا هُوَ مَشْكُورٌ لِمَنْعِ خَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ
بِاللَّوْمِ أَجْدَرَ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَسْوَأُ أَيَّامِ الْفَتَى
يَوْمُ لَا يُرَى لَهُ أَحَدٌ يُزْرِي عَلَيْهِ وَيُنْكِرُ غَيْرَ أَنَّ فَسَادَ
الْوَقْتِ وَتَغَيُّرَ أَهْلِهِ يُوجِبُ شُكْرَ مَنْ كَانَ
شَرُّهُ مَقْطُوعًا
، وَإِنْ كَانَ خَيْرُهُ مَمْنُوعًا ، كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي : إنَّا لَفِي
زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ إحْسَانٌ وَإِجْمَالُ
وَأَمَّا مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ فَهُوَ لَئِيمٌ كَلٌّ ، وَمَهِينٌ
مُسْتَذَلٌّ ، قَدْ قَطَعَ عَنْهُ الرَّغْبَةَ ، وَبَسَطَ فِيهِ الرَّهْبَةَ ،
فَلَا خَيْرُهُ يُرْجَى ، وَلَا شَرُّهُ يُؤْمَنُ .
وَحَسْبُك مَهَانَةً مِنْ رَجُلٍ مُسْتَثْقِلٍ عِنْدَ
إقْلَالِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ عِنْدَ اسْتِقْلَالِهِ ، فَلَيْسَ لِمِثْلِهِ فِي
الْإِخَاءِ حَظٌّ وَلَا فِي الْوِدَادِ نَصِيبٌ .
وَهُوَ مِمَّنْ جَعَلَهُ الْمَأْمُونُ مِنْ دَاءِ
الْإِخْوَانِ لَا مِنْ دَوَائِهِمْ ، وَمِنْ سُمِّهِمْ لَا مِنْ غِذَائِهِمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَرُّ مَا فِي الْكَرِيمِ
أَنْ يَمْنَعَك خَيْرَهُ ، وَخَيْرُ مَا فِي اللَّئِيمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْك
شَرَّهُ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي
إبْدَاءِ شَوْكٍ يَرُدُّ بِهِ الْأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ فَمَا لِلْعَوْسَجِ
الْمَلْعُونِ أَبْدَى لَنَا شَوْكًا بِلَا ثَمَرٍ نَرَاهُ وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ
وَلَا يَسْتَعِينُ فَهُوَ كَرِيمُ الطَّبْعِ ، مَشْكُورُ الصُّنْعِ .
وَقَدْ حَازَ فَضِيلَتَيْ الِابْتِدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ
، فَلَا يُرَى ثَقِيلًا فِي نَائِبَةٍ ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ نَهْضَةٍ فِي
مَعُونَةٍ .
فَهَذَا أَشْرَفُ الْإِخْوَانِ نَفْسًا وَأَكْرَمُهُمْ
طَبْعًا .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَوْجَدَهُ الزَّمَانُ مِثْلَهُ -
وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ ؛ لِأَنَّهُ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالدُّرُّ
الْيَتِيمُ - أَنْ يَثْنِيَ عَلَيْهِ خِنْصَرَهُ ، وَيَعَضَّ عَلَيْهِ نَاجِذَهُ ،
وَيَكُونَ بِهِ أَشَدَّ ضَنًّا مِنْهُ بِنَفَائِسِ أَمْوَالِهِ ، وَسَنِيِّ ذَخَائِرِهِ
؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْإِخْوَانِ عَامٌّ وَنَفْعَ الْمَالِ خَاصٌّ ، وَمَنْ كَانَ
أَعَمَّ نَفْعًا فَهُوَ بِالْإِدْخَارِ أَحَقُّ .
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : يَمْضِي أَخُوك فَلَا تَلْقَى
لَهُ خَلَفًا وَالْمَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْمَالِ مُكْتَسَبُ وَقَالَ آخَرُ :
لِكُلِّ شَيْءٍ عَدِمْته عِوَضٌ وَمَا لِفَقْدِ الصَّدِيقِ مِنْ عِوَضِ ثُمَّ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يَزْهَدَ فِيهِ لِخُلُقٍ أَوْ خُلُقَيْنِ يُنْكِرُهُمَا مِنْهُ إذَا رَضِيَ
سَائِرَ
أَخْلَاقِهِ ، وَحَمِدَ أَكْثَرَ شِيَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مَغْفُورٌ
وَالْكَمَالَ مَعُوزٌ .
وَقَدْ قَالَ الْكِنْدِيُّ : كَيْفَ تُرِيدُ مِنْ
صَدِيقِك خُلُقًا وَاحِدًا وَهُوَ ذُو طَبَائِعَ أَرْبَعٍ ؟ مَعَ أَنَّ نَفْسَ
الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ النُّفُوسِ بِهِ وَمُدَبَّرَةٌ بِاخْتِيَارِهِ
وَإِرَادَتِهِ ، لَا تُعْطِيهِ قِيَادَهَا فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ ، وَلَا
تُجِيبُهُ إلَى طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّ ، فَكَيْفَ بِنَفْسِ غَيْرِهِ ، وَحَسْبُك
أَنْ يَكُونَ لَك مِنْ أَخِيك أَكْثَرُهُ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: مُعَاتَبَةُ الْأَخِ خَيْرٌ مِنْ فَقْدِهِ ، وَمَنْ لَك بِأَخِيك كُلِّهِ ؟
فَأَخَذَ الشُّعَرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
أَأُخَيَّ مَنْ لَك مِنْ بَنِي الدُّنْيَا بِكُلِّ أَخِيك مَنْ لَكْ فَاسْتَبْقِ
بَعْضَك لَا يَمْلِكُ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْت كُلَّكْ وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ
: مَا غَبَنَ الْمَغْبُونَ مِثْلُ عَقْلِهْ مَنْ لَك يَوْمًا بِأَخِيك كُلِّهْ ؟
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : طَلَبُ الْإِنْصَافِ مِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا يُزْهِدَنَّكَ فِي
رَجُلٍ حُمِدَتْ سِيرَتَهُ ، وَارْتَضَيْتَ وَتِيرَتَهُ ، وَعَرَفْتَ فَضْلَهُ ،
وَبَطَنْتَ عَقْلَهُ عَيْبٌ تُحِيطُ بِهِ كَثْرَةُ فَضَائِلِهِ ، أَوْ ذَنْبٌ
صَغِيرٌ تَسْتَغْفِرُ لَهُ قُوَّةُ وَسَائِلِهِ .
فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ ، مَا بَقِيت ، مُهَذَّبًا لَا
يَكُونُ فِيهِ عَيْبٌ ، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ .
فَاعْتَبِرْ نَفْسَك ، بَعْدَ ، أَنْ لَا تَرَاهَا
بِعَيْنِ الرِّضَى ، وَلَا تَجْرِي فِيهَا عَلَى حُكْمِ الْهَوَى ، فَإِنَّ فِي
اعْتِبَارِك وَاخْتِيَارِك لَهَا مَا يُؤَيِّسُك مِمَّا تَطْلُبُ ، وَيُعَطِّفُك
عَلَى مَنْ يُذْنِبُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى
سَجَايَاهُ كُلُّهَا كَفَى الْمَرْءُ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ وَقَالَ النَّابِغَةُ
الذُّبْيَانِيُّ : وَلَسْت بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لَا تَلُمْهُ عَلَى شَعَثٍ أَيُّ
الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ وَلَيْسَ يَنْقُضُ هَذَا الْقَوْلَ مَا وَصَفْنَا مِنْ
اخْتِيَارِهِ وَاخْتِيَارِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَعْوَزَ
فِيهِ
مَعْفُوٌّ
عَنْهُ .
وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُوحِشَك فَتْرَةٌ تَجِدُهَا
مِنْهُ ، وَلَا أَنْ تُسِيءَ الظَّنَّ فِي كَبْوَةٍ تَكُونُ مِنْهُ ، مَا لَمْ
تَتَحَقَّقْ تَغَيُّرَهُ وَتَتَيَقَّنْ تَنَكُّرَهُ .
وَلْيُصْرَفْ ذَلِكَ إلَى فَتَرَاتِ النُّفُوسِ
وَاسْتِرَاحَاتِ الْخَوَاطِرِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَغَيَّرُ عَنْ
مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ النُّفُوسِ بِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
مِنْ عَدَاوَةٍ لَهَا وَلَا مَلَلٍ مِنْهَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا
يُفْسِدَنَّكَ الظَّنُّ عَلَى صَدِيقٍ قَدْ أَصْلَحَك الْيَقِينُ لَهُ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِابْنِهِ : يَا
بُنَيَّ مَنْ غَضِبَ مِنْ إخْوَانِك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَقُلْ فِيك سُوءًا
فَاِتَّخِذْهُ لِنَفْسِك خِلًّا
.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ : مِنْ حُقُوقِ
الْمَوَدَّةِ أَخْذُ عَفْوِ الْإِخْوَانِ ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ تَقْصِيرٍ إنْ
كَانَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
قَوْله تَعَالَى : { فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } قَالَ : الرِّضَى بِغَيْرِ
عِتَابٍ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : هُمْ النَّاسُ وَالدُّنْيَا
وَلَا بُدَّ مِنْ قَذًى يُلِمُّ بِعَيْنٍ أَوْ يُكَدِّرُ مَشْرَبَا وَمِنْ قِلَّةِ
الْإِنْصَافِ أَنَّك تَبْتَغِي الْمُهَذَّبَ فِي الدُّنْيَا وَلَسْت الْمُهَذَّبَا
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : تَوَاصُلُنَا عَلَى الْأَيَّامِ بَاقٍ وَلَكِنْ
هَجْرُنَا مَطَرُ الرَّبِيعِ يَرُوعُك صَوْبُهُ لَكِنْ تَرَاهُ عَلَى عِلَّاتِهِ
دَانِي النُّزُوعِ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَلْقَى غِضَابًا سِوَى ذُلِّ الْمُطَاعِ
عَلَى الْمُطِيعِ وَأَنْشَدَنِي الْأَزْدِيُّ : لَا يُؤْيِسَنَّكَ مِنْ صَدِيقٍ
نَبْوَةٌ يَنْبُو الْفَتَى وَهُوَ الْجَوَادُ الْخِضْرِمُ فَإِذَا نَبَا
فَاسْتَبْقِهِ وَتَأَنَّهُ حَتَّى تَفِيءَ بِهِ وَطَبْعُك أَكْرَمُ وَأَمَّا
الْمَلُولُ وَهُوَ السَّرِيعُ التَّغَيُّرِ ، الْوَشِيكُ التَّنَكُّرِ ،
فَوِدَادُهُ خَطَرٌ وَإِخَاؤُهُ غَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ ،
وَلَا يَخْلُو مِنْ اسْتِحَالَةٍ
.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : إذَا أَنْتَ عَاتَبْت
الْمَلُولَ فَإِنَّمَا تَخُطُّ عَلَى صُحُفٍ مِنْ الْمَاءِ أَحَرُفَا وَهَبْهُ
ارْعَوى بَعْدَ الْعِتَابِ
أَلَمْ تَكُنْ
مَوَدَّتُهُ طَبْعًا فَصَارَتْ تَكَلُّفَا وَهُمْ نَوْعَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَلَلُهُ
اسْتِرَاحَةً ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ إخَائِهِ ، فَهَذَا أَسْلَمُ
الْمَلَلَيْنِ وَأَقْرَبُ الرَّجُلَيْنِ يُسَامِحُ فِي وَقْتِ اسْتَرَاحَتْهُ
وَحِينَ فَتْرَتِهِ ، لِيَرْجِعَ إلَى الْحُسْنَى وَيَئُوبَ إلَى الْإِخَاءِ ،
وَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَثَلُ بِمَا نَظَمَهُ الشَّاعِرُ حَيْثُ قَالَ : وَقَالُوا
يَعُودُ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ بَعْدَ مَا عَفَتْ مِنْهُ آثَارٌ وَجَفَّتْ مَشَارِعُهْ
فَقُلْت إلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمَاءُ عَائِدًا وَيُعْشِبَ شَطَّاهُ تَمُوتُ
ضَفَادِعُهْ لَكِنْ لَا يَطْرَحُ حَقَّهُ بِالتَّوَهُّمِ ، وَلَا يُسْقِطُ
حُرْمَتَهُ بِالظُّنُونِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا مَا حَالَ عَهْدُ أَخِيك
يَوْمًا وَحَادَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فَلَا تَعْجَلْ بِلَوْمِك
وَاسْتَدِمْهُ فَإِنَّ أَخَا الْحِفَاظِ الْمُسْتَدِيمُ فَإِنْ تَكُ زَلَّةٌ
مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا تَبْعُدْ عَنْ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَكُونُ مَلَلُهُ تَرْكًا وَإِطْرَاحًا ، وَلَا يُرَاجِعُ أَخًا وَلَا وُدًّا ،
وَلَا يَتَذَكَّرُ حِفَاظًا وَلَا عَهْدًا ، كَمَا قَالَ أَشْجَعُ بْنُ عُمَرَ
السُّلَمِيُّ : إنِّي رَأَيْت لَهَا مُوَاصَلَةً كَالسُّمِّ تُفْرِغُهُ عَلَى
الشَّهْدِ فَإِذَا أَخَذْت بِعَهْدِ ذِمَّتِهَا لَعِبَ الصُّدُودُ بِذَلِكَ الْعَهْدِ
وَهَذَا أَذَمُّ الرَّجُلَيْنِ حَالًا ؛ لِأَنَّ مَوَدَّتَهُ مِنْ وَسَاوِسِ
الْخَطَرَاتِ ، وَعَوَارِضِ الشَّهَوَاتِ .
وَلَيْسَ إلَّا اسْتِدْرَاكُ الْحَالِ مَعَهُ
بِالْإِقْلَاعِ قَبْلَ الْمُخَالَطَةِ ، وَحُسْنِ الْمُتَارَكَةِ بَعْدَ
الْوَرْطَةِ ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ : تَدَارَكْت نَفْسِي
فَعَرَّيْتهَا وَبَغَّضْتهَا فِيك آمَالَهَا وَمَا طَابَتْ النَّفْسُ عَنْ
سَلْوَةٍ وَلَكِنْ حَمَلْت عَلَيْهَا لَهَا وَمَا مَثَلُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ
إلَّا كَمَا قَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ : فَإِنَّك وَاطِّرَاحَك وَصْلَ
سَلْمَى لَأَحْرَى فِي مَوَدَّتِهَا نَكُوبُ كَثَاقِبَةٍ لِحَلْيٍ مُسْتَعَارٍ لِأُذْنَيْهَا
فَشَانَهُمَا الثُّقُوبُ فَأَدَّتْ حَلْيَ جَارَتِهَا إلَيْهَا وَقَدْ بَقِيَتْ
بِأُذْنَيْهَا نُدُوبُ وَإِذَا صَفَتْ لَهُ
أَخْلَاقُ
مَنْ سَبَرَهُ ، وَتَمَهَّدَتْ لَدَيْهِ أَحْوَالُ مَنْ خَبَرَهُ ، وَأَقْدَمَ
عَلَى اصْطِفَائِهِ أَخًا ، وَعَلَى اتِّخَاذِهِ خِدْنًا ، لَزِمَتْهُ حِينَئِذٍ
حُقُوقُهُ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ حُرُمَاتُهُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ مَسْعَدَةَ : الْعُبُودِيَّةُ
عُبُودِيَّةُ الْإِخَاءِ لَا عُبُودِيَّةُ الرِّقِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ جَادَ لَك
بِمَوَدَّتِهِ ، فَقَدْ جَعَلَك عَدِيلَ نَفْسِهِ .
فَأَوَّلُ حُقُوقِهِ اعْتِقَادُ مَوَدَّتِهِ ثُمَّ
إينَاسُهُ بِالِانْبِسَاطِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ ، ثُمَّ نُصْحُهُ فِي
السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، ثُمَّ تَخْفِيفُ الْأَثْقَالِ عَنْهُ ، ثُمَّ مُعَاوَنَتُهُ
فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ حَادِثَةٍ ، أَوْ يَنَالُهُ مِنْ نَكْبَةٍ .
فَإِنَّ مُرَاقَبَتَهُ فِي الظَّاهِرِ نِفَاقٌ ،
وَتَرْكَهُ فِي الشِّدَّةِ لُؤْمٌ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ أَصْحَابِك الْمُعِينُ لَك عَلَى دَهْرِك ، وَشَرُّهُمْ
مَنْ سَعَى لَك بِسُوقِ يَوْمٍ
} .
وَقِيلَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَصْحَابِ
خَيْرٌ ؟ قَالَ : الَّذِي إذَا ذَكَرْت أَعَانَك وَوَاسَاك ، وَخَيْرٌ مِنْهُ مَنْ
إذَا نَسِيت ذَكَّرَك } .
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِمَّنْ لَا يَلْتَمِسُ خَالِصَ
مَوَدَّتِي إلَّا بِمُوَافَقَةِ شَهْوَتِي ، وَمِمَّنْ سَاعَدَنِي عَلَى سُرُورِ
سَاعَتِي ، وَلَا يُفَكِّرُ فِي حَوَادِثِ غَدِيَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عُقُودُ الْغَادِرِ
مَحْلُولَةٌ ، وَعُهُودُهُ مَدْخُولَةٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا وَدَّكَ مَنْ
أَهْمَلَ وُدَّك ، وَلَا أَحَبَّك مَنْ أَبْغَضَ حُبَّك .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَكُلُّ أَخٍ عِنْدَ
الْهُوَيْنَا مُلَاطِفٌ وَلَكِنَّمَا الْإِخْوَانُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَقَالَ
صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : شَرُّ الْإِخْوَانِ مَنْ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ
مَعَ الزَّمَانِ إذَا أَقْبَلَ ، فَإِذَا أَدْبَرَ الزَّمَانُ أَدْبَرَ عَنْك .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاعِرُ فَقَالَ : شَرُّ
الْأَخِلَّاءِ مَنْ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ مَعَ الزَّمَانِ إذَا مَا خَافَ أَوْ
رَغِبَا إذَا وَتَرْت امْرَأً فَاحْذَرْ
عَدَاوَتَهُ
مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبًا إنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ
أَبْدَى مُسَالَمَةً إذَا رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا وَيَنْبَغِي أَنْ
يَتَوَقَّى الْإِفْرَاطَ فِي مَحَبَّتِهِ ، فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ دَاعٍ إلَى التَّقْصِيرِ .
وَلَئِنْ تَكُونَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا نَامِيَةً
أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَحْبِبْ
حَبِيبَك هَوْنًا مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَك يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ
بَغِيضَك هَوْنًا مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَك يَوْمًا مَا } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: لَا يَكُنْ حُبُّك كَلَفًا ، وَلَا بُغْضُك تَلَفًا .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : وَكُنْ
مَعْدِنًا لِلْخَيْرِ وَاصْفَحْ عَنْ الْأَذَى فَإِنَّك رَاءٍ مَا عَلِمْت
وَسَامِعُ وَأَحْبِبْ إذَا أَحْبَبْت حُبًّا مُقَارِبًا فَإِنَّك لَا تَدْرِي
مَتَى أَنْتَ نَازِعُ وَأَبْغِضْ إذَا أَبْغَضْت غَيْرَ مُبَايِنٍ فَإِنَّك لَا
تَدْرِي مَتَى أَنْتَ رَاجِعُ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ : لَا تَأْمَنَنَّ مِنْ
مُبْغِضٍ قُرْبَ دَارِهِ وَلَا مِنْ مُحِبٍّ أَنْ يَمَلَّ فَيَبْعُدَا وَإِنَّمَا
يَلْزَمُ مِنْ حَقِّ الْإِخَاءِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي النُّصْحِ ،
وَالتَّنَاهِي فِي رِعَايَةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَقِّ ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
إفْرَاطٌ وَإِنْ تَنَاهَى ، وَلَا مُجَاوَزَةُ حَدٍّ وَإِنْ كَثُرَ وَأَوْفَى ،
فَتَسْتَوِي حَالَتَاهُمَا فِي الْمَغِيبِ وَالْمَشْهَدِ وَلَا يَكُونُ
مَغِيبُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ مَشْهَدِهِمَا وَأَوْلَى ، فَإِنَّ فَضْلَ الْمَشْهَدِ
عَلَى الْمَغِيبِ لُؤْمٌ ، وَفَضْلَ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ كَرْمٌ ،
وَاسْتِوَاؤُهُمَا حِفَاظٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : عَلَيَّ لِإِخْوَانِي
رَقِيبٌ مِنْ الصَّفَا تَبِيدُ اللَّيَالِي وَهُوَ لَيْسَ يَبِيدُ يُذَكِّرُنِيهِمْ
فِي مَغِيبِي وَمَشْهَدِي فَسِيَّانِ مِنْهُمْ غَائِبٌ وَشَهِيدُ وَإِنِّي
لَأَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَبِرَّهُ قَرِيبًا وَأَنْ أَجْفُوَهُ وَهُوَ بَعِيدُ
وَهَكَذَا يَقْصِدُ التَّوَسُّطَ فِي زِيَارَتِهِ وَغَشَيَانِهِ ، غَيْرَ
مُقَلِّلٍ وَلَا
مُكْثِرٍ .
فَإِنَّ تَقْلِيلَ الزِّيَارَةِ دَاعِيَةُ الْهِجْرَانِ
، وَكَثْرَتَهَا سَبَبُ الْمَلَالِ
.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا أَبَا هُرَيْرَةَ
زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا }
.
وَقَالَ لَبِيدٌ : تَوَقَّفْ عَنْ زِيَارَةِ كُلِّ
يَوْمٍ إذَا أَكْثَرْت مَلَّكَ مَنْ تَزُورُ وَقَالَ آخَرُ : أَقْلِلْ زِيَارَتَك الصَّدِيقَ
وَلَا تُطِلْ هِجْرَانَهُ فَيَلِجَّ فِي هِجْرَانِهِ إنَّ الصَّدِيقَ يَلِجُّ فِي
غَشَيَانِهِ لِصَدِيقِهِ فَيَمَلُّ مِنْ غَشَيَانِهِ حَتَّى يَرَاهُ بَعْدَ طُولِ
سُرُورِهِ بِمَكَانِهِ مُتَثَاقِلًا بِمَكَانِهِ وَإِذَا تَوَانَى عَنْ صِيَانَةِ
نَفْسِهِ رَجُلٌ تُنُقِّصَ وَاسْتُخِفَّ بِشَانِهِ وَبِحَسَبِ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ فِي
عِتَابِهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعِتَابِ سَبَبٌ لِلْقَطِيعَةِ وَإِطْرَاحَ
جَمِيعِهِ دَلِيلٌ عَلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَمْرِ الصَّدِيقِ .
وَقَدْ قِيلَ : عِلَّةُ الْمُعَادَاةِ قِلَّةُ
الْمُبَالَاةِ .
بَلْ تُتَوَسَّطُ حَالَتَا تَرْكِهِ وَعِتَابِهِ
فَيُسَامِحُ بِالْمُتَارَكَةِ وَيُسْتَصْلَحُ بِالْمُعَاتَبَةِ ، فَإِنَّ
الْمُسَامَحَةَ وَالِاسْتِصْلَاحَ إذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَلْبَثْ مَعَهُمَا
نُفُورٌ ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمَا وَجْدٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تُكْثِرَنَّ
مُعَاتَبَةَ إخْوَانِك ، فَيَهُونَ عَلَيْهِمْ سَخَطُك .
وَقَالَ مَنْصُورٌ النَّمَرِيُّ : أَقْلِلْ عِتَابَ مَنْ
اسْتَرَبْت بِوُدِّهِ لَيْسَتْ تُنَالُ مَوَدَّةٌ بِعِتَابِ وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ
بُرْدٍ : إذَا كُنْت فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُعَاتِبًا صَدِيقَك لَمْ تَلْقَ الَّذِي
لَا تُعَاتِبُهْ وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَارًا عَلَى الْقَذَى ظَمِئْتَ
وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أَخَاك فَإِنَّهُ
مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ ثُمَّ إنَّ مِنْ حَقِّ الْإِخْوَانِ أَنْ
تَغْفِرَ هَفْوَتَهُمْ ، وَتَسْتُرَ زَلَّتَهُمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَامَ بَرِيئًا
مِنْ الْهَفَوَاتِ ، سَلِيمًا مِنْ الزَّلَّاتِ ، رَامَ أَمْرًا مُعْوِزًا ، وَاقْتَرَحَ
وَصْفًا مُعْجِزًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : أَيُّ عَالِمٍ لَا
يَهْفُو ، وَأَيُّ صَارِمٍ لَا يَنْبُو ، وَأَيُّ جَوَادٍ لَا
يَكْبُو .
وَقَالُوا :
مَنْ حَاوَلَ صَدِيقًا يَأْمَنُ زَلَّتَهُ وَيَدُومُ
اغْتِبَاطُهُ بِهِ ، كَانَ كَضَالِّ الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يَزْدَادُ لِنَفْسِهِ
إتْعَابًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ غَايَتِهِ بُعْدًا .
وَقِيلَ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ : أَيُّ إخْوَانِك
أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : مَنْ غَفَرَ زَلَلِي ، وَقَطَعَ عِلَلِي ، وَبَلَّغَنِي
أَمَلِي .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَا كِدْتُ أَفْحَصُ عَنْ
أَخِي ثِقَةٍ إلَّا نَدِمْتُ عَوَاقِبَ الْفَحْصِ وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ
لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أُحِبُّ مِنْ الْإِخْوَانِ كُلَّ مَوَاتِي
وَكُلَّ غَضِيضِ الطَّرْفِ عَنْ عَثَرَاتِي يُوَافِقُنِي فِي كُلِّ أَمْرٍ أُرِيدُهُ
وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْدَ وَفَاتِي فَمَنْ لِي بِهَذَا لَيْتَ أَنِّي
أَصَبْته فَقَاسَمْته مَا لِي مِنْ الْحَسَنَاتِ تَصَفَّحْت إخْوَانِي وَكَانَ
أَقَلُّهُمْ عَلَى كَثْرَةِ الْإِخْوَانِ أَهْلَ ثِقَاتِي وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ :
إذَا أَنْتَ لَمْ تَسْتَقْلِلْ الْأَمْرَ لَمْ تَجِدْ بِكَفَّيْك فِي إدْبَارِهِ
مُتَعَلِّقَا إذَا أَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ أَخَاك وَزَلَّةً إذَا زَلَّهَا
أَوْشَكْتُمَا أَنْ تَفَرَّقَا وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ
أَنَّهُ قَالَ : تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانِ يَدُمْ لَك وُدُّهُمْ .
وَوَصَّى بَعْضُ الْأُدَبَاءِ أَخًا لَهُ فَقَالَ : كُنْ
لِلْوُدِّ حَافِظًا وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُحَافِظًا ، وَلِلْخَلِّ وَاصِلًا وَإِنْ
لَمْ تَجِدْ مُوَاصِلًا .
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ إيَادٍ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ
: إذَا لَمْ تَجَاوَزْ عَنْ أَخٍ عِنْدَ زَلَّةٍ فَلَسْت غَدًا عَنْ عَثْرَتِي
مُتَجَاوِزَا وَكَيْفَ يُرَجِّيكَ الْبَعِيدُ لِنَفْعِهِ إذَا كَانَ عَنْ مَوْلَاك
خَيْرُك عَاجِزَا ظَلَمْت أَخًا كَلَّفْته فَوْقَ وُسْعِهِ وَهَلْ كَانَتْ الْأَخْلَاقُ
إلَّا غَرَائِزَا وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ ، كَاتِب الرَّضِيِّ : كُنَّا فِي
مَجْلِسِ الرَّضِيِّ فَشَكَا رَجُلٌ مِنْ أَخِيهِ ، فَأَنْشَدَ الرَّضِيُّ :
اُعْذُرْ أَخَاك عَلَى ذُنُوبِهِ وَاسْتُرْ وَغَطِّ عَلَى عُيُوبِهِ وَاصْبِرْ
عَلَى بَهْتِ السَّفِيهِ وَلِلزَّمَانِ عَلَى خُطُوبِهِ وَدَعْ الْجَوَابَ
تَفَضُّلًا وَكِلِ الظَّلُومَ إلَى حَسِيبِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْحِلْمَ عِنْدَ
الْغَيْظِ
أَحْسَنُ مِنْ
رُكُوبِهِ وَحُكِيَ عَنْ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أَنَّهَا قَالَتْ
لِزَوْجِهَا طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ ، وَكَانَ
أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ : مَا رَأَيْت قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك ،
قَالَ مَهْ وَلِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك ،
وَإِذَا أَعْسَرْت تَرَكُوك .
قَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ ،
يَأْتُونَنَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ ، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ
الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ .
فَانْظُرْ كَيْفَ تَأَوَّلَ بِكَرْمِهِ هَذَا
التَّأْوِيلَ حَتَّى جَعَلَ قَبِيحَ فِعْلِهِمْ حَسَنًا ، وَظَاهِرَ غَدْرِهِمْ
وَفَاءً .
وَهَذَا مَحْضُ الْكَرَمِ وَلُبَابُ الْفَضْلِ ، وَبِمِثْلِ
هَذَا يَلْزَمُ ذَوِي الْفَضْلِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا الْهَفَوَاتِ مِنْ
إخْوَانِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا مَا بَدَتْ مِنْ صَاحِبٍ لَك
زَلَّةٌ فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالًا لِزَلَّتِهِ عُذْرَا أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي
الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَقْرَا سَلِيمُ
دَوَاعِي الصَّبْرِ لَا بَاسِطٌ أَذًى وَلَا مَانِعٌ خَيْرًا وَلَا قَائِلٌ
هَجْرَا وَالدَّاعِي إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ شَيْئَانِ : التَّغَافُلُ الْحَادِثُ
عَنْ الْفَطِنَةِ ، وَالتَّأَلُّفُ الصَّادِرُ عَنْ الْوَفَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : وَجَدْت أَكْثَرَ أُمُورِ
الدُّنْيَا لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّغَافُلِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ شَدَّدَ نَفَّرَ
، وَمَنْ تَرَاخَى تَأَلَّفَ ، وَالشَّرَفُ فِي التَّغَافُلِ .
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ الْأَدِيبُ : الْعَاقِلُ
هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ
.
وَقَالَ الطَّائِيُّ : لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي
قَوْمِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
إنَّ فِي صِحَّةِ الْإِخَاءِ مِنْ النَّاسِ وَفِي خُلَّةِ الْوَفَاءِ لَقِلَّهْ
فَالْبَسْ النَّاسَ مَا اسْتَطَعْت عَلَى النَّقْصِ وَإِلَّا لَمْ تَسْتَقِمْ لَك خُلَّهْ
عِشْ وَحِيدًا إنْ كُنْت لَا تَقْبَلُ الْعُذْرَ وَإِنْ كُنْت لَا تَجَاوَزُ
زَلَّهْ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ خُلِقْنَا غَيْرَ أَنَّا فِي الْمَالِ
أَوْلَادُ عِلَّهْ وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا
الْفَصْلَ
تَأَلُّفُ الْأَعْدَاءِ بِمَا يُنْئِيهِمْ عَنْ الْبَغْضَاءِ وَيَعْطِفُهُمْ عَلَى
الْمَحَبَّةِ .
وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِصُنُوفٍ مِنْ الْبِرِّ
وَيَخْتَلِفُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ .
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سِمَاتِ الْفَضْلِ وَشُرُوطِ
السُّؤْدُدِ ، فَإِنَّهُ مَا أَحَدٌ يَعْدَمُ عَدُوًّا وَلَا يَفْقِدُ حَاسِدًا .
وَبِحَسَبِ قَدْرِ النِّعْمَةِ تَكْثُرُ الْأَعْدَاءُ
وَالْحَسَدَةُ ، كَمَا قَالَ الْبُحْتُرِيُّ : وَلَنْ تَسْتَبِينَ الدَّهْرَ
مَوْقِعَ نِعْمَةٍ إذَا أَنْتَ لَمْ تَدْلُلْ عَلَيْهَا بِحَاسِدِ فَإِنْ أَغْفَلَ
تَأَلُّفَ الْأَعْدَاءِ مَعَ وُفُورِ النِّعْمَةِ وَظُهُورِ الْحَسَدَةِ ،
تَوَالَى عَلَيْهِ مِنْ مَكْرِ حَلِيمِهِمْ ، وَبَادِرَةِ سَفِيهِهِمْ ، مَا تَصِيرُ
بِهِ النِّعْمَةُ غَرَامًا وَالزَّعَامَةُ مَلَامًا .
وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ } .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
، لِابْنِهِ : لَا تَسْتَكْثِرْ أَنْ يَكُونَ لَك أَلْفُ صَدِيقٍ ، فَالْأَلْفُ
قَلِيلٌ .
وَلَا تَسْتَقِلَّ أَنْ يَكُونَ لَك عَدُوٌّ وَاحِدٌ ،
فَالْوَاحِدُ كَثِيرٌ .
فَنَظَّمَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ :
فَكَثِّرْ مِنْ الْإِخْوَانِ مَا اسْتَطَعْت إنَّهُمْ بُطُونٌ إذَا
اسْتَنْجَدْتَهُمْ وَظُهُورُ وَلَيْسَ كَثِيرًا أَلْفُ خِلٍّ وَصَاحِبٍ وَإِنَّ
عَدُوًّا وَاحِدًا لَكَثِيرُ وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : مَا أَفَدْت
فِي مِلْكِك هَذَا ؟ قَالَ : مَوَدَّةَ الرِّجَالِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ عَلَامَةِ
الْإِقْبَالِ اصْطِنَاعُ الرِّجَالِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ اسْتَصْلَحَ
عَدُوَّهُ زَادَ فِي عَدَدِهِ ، وَمَنْ اسْتَفْسَدَ صَدِيقَهُ نَقَصَ مِنْ عَدَدِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْعَجَبُ مِمَّنْ
يَطْرَحُ عَاقِلًا كَافِيًا لِمَا يُضْمِرُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِ ، وَيَصْطَنِعُ
عَاجِزًا جَاهِلًا لِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
اسْتِصْلَاحِ مَنْ يُعَادِيهِ بِحُسْنِ صَنَائِعِهِ وَأَيَادِيهِ .
وَأَنْشَدَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ جَامِعَةً لِكُلِّ مَا
قَالَتْهُ الْعَرَبُ ، وَهِيَ لِلْأَفْوَهِ وَاسْمُهُ صَلَاءَةُ بْنُ عَمْرٍو
حَيْثُ يَقُولُ : بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلَمْ أَرَ غَيْرَ
خَتَّالٍ وَقَالِي وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ جَمْعًا فَمَا طَعْمٌ أَمَرُّ
مِنْ السُّؤَالِ وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ هَوْلًا وَأَصْعَبَ مِنْ
مُعَادَاةِ الرِّجَالِ وَقَالَ الْقَاضِي التَّنُوخِيُّ : إلْقَ الْعَدُوَّ
بِوَجْهٍ لَا قُطُوبَ بِهِ يَكَادُ يَقْطُرُ مِنْ مَاءِ الْبَشَاشَاتِ فَأَحْزَمُ
النَّاسِ مَنْ يَلْقَى أَعَادِيهِ فِي جِسْمِ حِقْدٍ وَثَوْبٍ مِنْ مَوَدَّاتِ
الرِّفْقُ يُمْنٌ وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ وَكَثْرَةُ الْمَزْحِ مِفْتَاحُ الْعَدَاوَاتِ
وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ ، لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَمَّا
عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي
بِالتَّحِيَّاتِ وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ كَأَنَّمَا قَدْ
حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ وَفِي اعْتِزَالِهِمْ
قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ وَلَيْسَ - وَإِنْ كَانَ بِتَأَلُّفِ الْأَعْدَاءِ
مَأْمُورًا ، وَإِلَى مُقَارِبَتِهِمْ مَنْدُوبًا - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
رَاكِنًا ، وَبِهِمْ وَاثِقًا ، بَلْ يَكُونَ مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ ، وَمِنْ
مَكْرِهِمْ عَلَى تَحَرُّزٍ ، فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ إذَا اسْتَحْكَمَتْ فِي
الطِّبَاعِ صَارَتْ طَبْعًا لَا يَسْتَحِيلُ ، وَجِبِلَّةً لَا تَزُولُ .
وَإِنَّمَا يُسْتَكْفَى بِالتَّأَلُّفِ إظْهَارُهَا ،
وَيُسْتَدْفَعُ بِهِ أَضْرَارُهَا ، كَالنَّارِ يُسْتَدْفَعُ بِالْمَاءِ
إحْرَاقُهَا ، وَيُسْتَفَادُ بِهِ إنْضَاجُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْرِقَةً
بِطَبْعٍ لَا يَزُولُ وَجَوْهَرٍ لَا يَتَغَيَّرُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَإِذَا عَجَزْت عَنْ الْعَدُوِّ
فَدَارِهِ وَامْزَحْ لَهُ إنَّ الْمِزَاحَ وِفَاقُ فَالنَّارُ بِالْمَاءِ الَّذِي
هُوَ ضِدُّهَا تُعْطِي النِّضَاجَ وَطَبْعُهَا الْإِحْرَاقُ
الْبِرُّ
فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِرُّ ، وَهُوَ الْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ
فَلِأَنَّهُ يُوصِلُ إلَى الْقُلُوبِ أَلْطَافًا ، وَيُثْنِيهَا مَحَبَّةً
وَانْعِطَافًا .
وَلِذَلِكَ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى التَّعَاوُنِ
بِهِ وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى لَهُ فَقَالَ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى } لِأَنَّ فِي التَّقْوَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي الْبِرِّ
رِضَى النَّاسِ .
وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَى
النَّاسِ فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ وَعَمَّتْ نِعْمَتُهُ .
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا ، وَبُغْضِ
مَنْ أَسَاءَ إلَيْهَا } .
وَحُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى دَاوُد - عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : ذَكِّرْ عِبَادِي إحْسَانِي إلَيْهِمْ
لِيُحِبُّونِي فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ إلَّا مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ : النَّاسُ
كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ تَحْتَ ظِلَالِهِ فَأَحَبُّهُمْ طُرًّا إلَيْهِ أَبَرُّهُمْ
لِعِيَالِهِ وَالْبِرُّ نَوْعَانِ : صِلَةٌ وَمَعْرُوفٌ .
فَأَمَّا الصِّلَةُ : فَهِيَ التَّبَرُّعُ بِبَذْلِ
الْمَالِ فِي الْجِهَاتِ الْمَحْمُودَةِ لِغَيْرِ عِوَضٍ مَطْلُوبٍ .
وَهَذَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ سَمَاحَةُ النَّفْسِ
وَسَخَاؤُهَا ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ شُحُّهَا وَإِبَاؤُهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
التَّيْمِيُّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
، قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ ،
وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ ،
بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ } .
{ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ
بْنِ حَاتِمٍ : رَفَعَ اللَّهُ عَنْ أَبِيك الْعَذَابَ الشَّدِيدَ لِسَخَائِهِ } .
{ وَبَلَغَهُ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزُّبَيْرِ إمْسَاكٌ فَجَذَبَ عِمَامَتَهُ إلَيْهِ
وَقَالَ : يَا زُبَيْرُ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْك وَإِلَى غَيْرِك يَقُولُ
أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك وَلَا تُوكِ فَأُوكِ عَلَيْك } .
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ
شَمْسُهُ إلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا
وَمُمْسِكًا تَلَفًا } .
وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ : { فَأَمَّا مَنْ
أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ
بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَعْنِي
مَنْ أَعْطَى فِيمَا أُمِرَ وَاتَّقَى فِيمَا حُظِرَ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
يَعْنِي بِالْخَلَفِ مِنْ عَطَائِهِ
.
فَعِنْدَ هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : لَسَادَاتُ النَّاسِ
: فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ وَفِي الْآخِرَةِ
الْأَتْقِيَاءُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْجُودُ عَنْ
مَوْجُودٍ .
وَقِيلَ فِي الْمَثْلِ : سُؤْدُدٌ بِلَا جُودٍ ،
كَمَلِكٍ بِلَا جُنُودٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْجُودُ حَارِسُ
الْأَعْرَاضِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ جَادَ سَادَ ،
وَمَنْ أَضْعَفَ ازْدَادَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : جُودُ الرَّجُلِ
يُحَبِّبُهُ إلَى أَضْدَادِهِ ، وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إلَى أَوْلَادِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : خَيْرُ الْأَمْوَالِ مَا
اسْتَرَقَّ حُرًّا ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا اسْتَحَقَّ شُكْرًا .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَيُظْهِرُ
عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ وَيَسْتُرهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ
تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي أَرَى كُلَّ عَيْبٍ فَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ
وَحَدُّ السَّخَاءِ بَذْلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَأَنْ
يُوصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَتَدْبِيرُ ذَلِكَ مُسْتَصْعَبٌ
، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكَرَمِ يُنْكِرُ حَدَّ
السَّخَاءِ ، وَيَجْعَلُ تَقْدِيرَ الْعَطِيَّةِ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْبُخْلِ
، وَأَنَّ الْجُودَ بَذْلُ
الْمَوْجُودِ ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ يُفْضِي إلَى الْجَهْلِ بِحُدُودِ الْفَضَائِلِ .
وَلَوْ كَانَ الْجُودُ بَذْلُ الْمَوْجُودِ لَمَا كَانَ
لِلسَّرَفِ مَوْضِعٌ وَلَا لِلتَّبْذِيرِ مَوْقِعٌ .
وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِذَمِّهِمَا وَجَاءَتْ
السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا
.
وَإِذَا كَانَ السَّخَاءُ مَحْدُودًا فَمَنْ وَقَفَ
عَلَى حَدِّهِ سُمِّيَ كَرِيمًا وَكَانَ لِلْحَمْدِ مُسْتَحِقًّا ، وَمَنْ قَصُرَ
عَنْهُ بَخِيلًا وَكَانَ لِلذَّمِّ مُسْتَوْجِبًا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَقْسَمَ اللَّهُ بِعِزَّتِهِ لَا يُجَاوِرُهُ بَخِيلٌ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { طَعَامُ الْجَوَادِ دَوَاءٌ ، وَطَعَامُ الْبَخِيلِ دَاءٌ } .
{ وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقُولُ : الشَّحِيحُ أَعْذَرُ مِنْ الظَّالِمِ ، فَقَالَ :
لَعَنَ اللَّهُ الشَّحِيحَ وَلَعَنَ الظَّالِمَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبُخْلُ جِلْبَابُ
الْمَسْكَنَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْبَخِيلُ لَيْسَ لَهُ
خَلِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْبَخِيلُ حَارِسُ
نِعْمَتِهِ ، وَخَازِنُ وَرَثَتِهِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا كُنْت جَمَّاعًا
لِمَالِكَ مُمْسِكًا فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا
إلَى غَيْرِ حَامِدٍ فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ وَتَظَاهَرَ بَعْضُ
ذَوِي النَّبَاهَةِ بِحُبِّ الثَّنَاءِ مَعَ إمْسَاكٍ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
: أَرَاك تُؤَمِّلُ حُسْنَ الثَّنَا وَلَمْ يَرْزُقْ اللَّهُ ذَاكَ الْبَخِيلَا
وَكَيْفَ يَسُودُ أَخُو بِطْنَةٍ يَمُنُّ كَثِيرًا وَيُعْطِي قَلِيلًا وَقَدْ
بَيَّنَّا حُبَّ الثَّنَاءِ وَحُبَّ الْمَالِ ، لِأَنَّ الثَّنَاءَ يَبْعَثُ عَلَى
الْبَذْلِ وَحُبَّ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنْهُ ، فَإِنْ ظَهَرَا كَانَ حُبُّ
الثَّنَاءِ كَاذِبًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : جَمَعْت
أَمْرَيْنِ
ضَاعَ الْحَزْمُ بَيْنَهُمَا تِيهُ الْمُلُوكِ وَأَخْلَاقُ الْمَمَالِيكِ أَرَدْت
شُكْرًا بِلَا بِرٍّ وَلَا صِلَةٍ لَقَدْ سَلَكْت طَرِيقًا غَيْرَ مَسْلُوكِ ظَنَنْت
عِرْضَك لَمْ يُقْرَعْ بِقَارِعَةٍ وَمَا أَرَاك عَلَى حَالٍ بِمَتْرُوكِ لَئِنْ
سَبَقْتَ إلَى مَالٍ حَظِيتَ بِهِ فَمَا سَبَقْتَ إلَى شَيْءٍ سِوَى النُّوكِ
وَقَدْ يَحْدُثُ عَنْ الْبُخْلِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ ، وَإِنْ كَانَ
ذَرِيعَةً إلَى كُلِّ مَذَمَّةٍ ، أَرْبَعَةُ أَخْلَاقٍ نَاهِيكَ بِهَا ذَمًّا
وَهِيَ : الْحِرْصُ
وَالشَّرَهُ وَسُوءُ الظَّنِّ وَمَنْعُ الْحُقُوقِ .
فَأَمَّا الْحِرْصُ فَهُوَ شِدَّةُ الْكَدْحِ
وَالْإِسْرَافِ فِي الطَّلَبِ .
وَأَمَّا الشَّرَهُ فَهُوَ اسْتِقْلَالُ الْكِفَايَةِ ،
وَالِاسْتِكْثَارُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحِرْصِ
وَالشَّرَهِ .
وَقَدْ رَوَى الْعَلَاءُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
سَالِمِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ لَا يَجْزِيهِ مِنْ الْعَيْشِ مَا يَكْفِيهِ لَمْ يَجِدْ
مَا عَاشَ مَا يُغْنِيهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الشَّرَهُ مِنْ غَرَائِزِ
اللُّؤْمِ .
وَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ فَهُوَ عَدَمُ الثِّقَةِ بِمَنْ
هُوَ لَهَا أَهْلٌ ، فَإِنْ كَانَ بِالْخَالِقِ كَانَ شَكًّا يَئُولُ إلَى ضَلَالٍ
، وَإِنْ كَانَ بِالْمَخْلُوقِ كَانَ اسْتِخَانَةً يَصِيرُ بِهَا مُخْتَانًا وَخَوَّانًا
، لِأَنَّ ظَنَّ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ نَفْسِهِ ،
فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا خَيْرًا ظَنَّهُ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنْ رَأَى فِيهَا سُوءًا
اعْتَقَدَهُ فِي النَّاسِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَثَلِ كُلُّ إنَاءٍ يَنْضَحُ بِمَا
فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ
أَنَّ الْحَزْمَ سُوءُ الظَّنِّ قِيلَ تَأْوِيلُهُ قِلَّةُ الِاسْتِرْسَالِ
إلَيْهِمْ لَا اعْتِقَادُ السُّوءِ فِيهِمْ .
وَأَمَّا مَنْعُ الْحُقُوقِ فَإِنَّ نَفْسَ الْبَخِيلِ
لَا تَسْمَحُ بِفِرَاقِ مَحْبُوبِهَا
.
وَلَا تَنْقَادُ إلَى تَرْكِ مَطْلُوبِهَا ، فَلَا
تُذْعِنُ لِحَقٍّ وَلَا تُجِيبُ إلَى إنْصَافٍ .
وَإِذَا آلَ الْبَخِيلُ إلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ
الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ ، وَالشِّيَمِ
اللَّئِيمَةِ
، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ وَلَا صَلَاحٌ مَأْمُولٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَنْصَارِ : مَنْ سَيِّدكُمْ ؟ قَالُوا : الْحُرُّ
بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَيُّ دَاءٍ
أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ
الْبَحْرِ فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُولُ الْأَضْيَافِ بِهِمْ ، فَقَالُوا :
لَيَبْعُد الرِّجَالُ مِنَّا عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إلَى
الْأَضْيَافِ بِبُعْدِ النِّسَاءِ ، وَتَعْتَذِرُ النِّسَاءُ بِبُعْدِ الرِّجَالِ
، فَفَعَلُوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ
وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ } .
وَأَمَّا السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ فَإِنَّ مَنْ زَادَ
عَلَى حَدِّ السَّخَاءِ فَهُوَ مُسْرِفٌ وَمُبَذِّرٌ ، وَهُوَ بِالذَّمِّ جَدِيرٌ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُسْرِفُوا
إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا عَالَ مَنْ اقْتَصَدَ } .
وَقَدْ قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا
خَيْرَ فِي السَّرَفِ وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : صِدِّيقُ الرَّجُلِ
قَصْدُهُ ، وَسَرَفُهُ عَدُوُّهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا كَثِيرَ مَعَ
إسْرَافٍ وَلَا قَلِيلَ مَعَ احْتِرَافٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّرَفَ وَالتَّبْذِيرَ قَدْ
يَفْتَرِقُ مَعْنَاهُمَا .
فَالسَّرَفُ : هُوَ الْجَهْلُ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ ،
وَالتَّبْذِيرُ : هُوَ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ .
وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ ، وَذَمُّ التَّبْذِيرِ أَعْظَمُ
؛ لِأَنَّ الْمُسْرِفَ يُخْطِئُ فِي الزِّيَادَةِ ، وَالْمُبَذِّرُ يُخْطِئُ فِي
الْجَهْلِ .
وَمَنْ جَهِلَ مَوَاقِعَ الْحُقُوقِ وَمَقَادِيرَهَا
بِمَالِهِ وَأَخْطَأَهَا ، فَهُوَ كَمَنْ جَهِلَهَا بِفِعَالِهِ فَتَعَدَّاهَا
وَكَمَا أَنَّهُ بِتَبْذِيرِهِ قَدْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ،
فَهَكَذَا قَدْ يُعْدَلُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ أَقَلُّ مِنْ
أَنْ
يُوضَعَ
فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ حَقٍّ وَغَيْرِ حَقٍّ .
وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلّ
سَرَفٍ فَبِإِزَائِهِ حَقٌّ مُضَيَّعٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْخَطَأُ فِي إعْطَاءِ
مَا لَا يَنْبَغِي وَمَنْعُ مَا يَنْبَغِي وَاحِدٌ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
الْحَلَالُ لَا يَحْتَمِلُ السَّرَفَ ، وَلَيْسَ يَتِمُّ السَّخَاءُ بِبَذْلِ مَا
فِي يَدِهِ حَتَّى تَسْخُوَ نَفْسُهُ عَمَّا بِيَدِ غَيْرِهِ فَلَا يَمِيلُ إلَى
طَلَبٍ وَلَا يَكُفُّ عَنْ بَذْلٍ
.
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَتَدْرِي
لِمَ اتَّخَذْتُك خَلِيلًا ؟ قَالَ
: لَا يَا رَبِّ .
قَالَ : لِأَنِّي رَأَيْتُك تُحِبُّ أَنْ تُعْطِيَ وَلَا
تُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَ .
وَرَوَى سَهْلُ بْن سَعْدٍ السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : { أَتَى رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّنِي
النَّاسُ .
فَقَالَ : ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ
وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ } .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : لَا يَنْبُلُ
الرَّجُلُ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَصْلَتَانِ : الْعِفَّةُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
، وَالتَّجَاوُزُ عَنْهُمْ .
وَقِيلَ لِسُفْيَانَ : مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا ؟
قَالَ : الزُّهْدُ فِي النَّاسِ
.
وَكَتَبَ كِسْرَى إلَى ابْنِهِ هُرْمُزَ : يَا بُنَيَّ
اسْتَقِلَّ الْكَثِيرَ مِمَّا تُعْطِي ، وَاسْتَكْثِرْ الْقَلِيلَ مِمَّا تَأْخُذُ
، فَإِنَّ قُرَّةَ عُيُونِ الْكِرَامِ فِي الْإِعْطَاءِ وَسُرُورَ اللِّئَامِ فِي الْأَخْذِ
، وَلَا تَعُدَّ الشَّحِيحَ أَمِينًا وَلَا الْكَذَّابَ حُرًّا فَإِنَّهُ لَا
عِفَّةَ مَعَ الشُّحِّ وَلَا مُرُوءَةَ مَعَ الْكَذِبِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : السَّخَاءُ سَخَاءَانِ :
أَشْرَفُهُمَا سَخَاؤُك عَمَّا بِيَدِ غَيْرِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : السَّخَاءُ أَنْ تَكُونَ
بِمَالِك مُتَبَرِّعًا وَعَنْ مَالِ غَيْرِك مُتَوَرِّعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : الْجُودُ غَايَةُ
الزُّهْدِ ، وَالزُّهْدُ غَايَةُ الْجُودِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا لَمْ تَكُنْ نَفْسُ
الشَّرِيفِ شَرِيفَةً وَإِنْ كَانَ ذَا قَدْرٍ فَلَيْسَ لَهُ شَرَفُ
وَالْبَذْلُ
عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ
سُؤَالٍ ، وَالثَّانِي مَا كَانَ عَنْ طَلَبٍ وَسُؤَالٍ .
فَأَمَّا الْمُبْتَدِئُ بِهِ فَهُوَ أَطْبَعُهُمَا
سَخَاءً ، وَأَشْرَفُهُمَا عَطَاءً
.
وَسُئِلَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - عَنْ
السَّخَاءِ فَقَالَ : مَا كَانَ مِنْهُ ابْتِدَاءٌ فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ
مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَجَلُّ النَّوَالِ مَا
وُصَلَ قَبْلَ السُّؤَالِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَفَتًى خَلَا مِنْ
مَالِهِ وَمِنْ الْمُرُوءَةِ غَيْرُ خَالِي أَعْطَاك قَبْلَ سُؤَالِهِ وَكَفَاك
مَكْرُوهَ السُّؤَالِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَذْلِ قَدْ يَكُونُ لِتِسْعَةِ
أَسْبَابٍ .
فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَرَى خَلَّةً يَقْدِرُ
عَلَى سَدِّهَا ، وَفَاقَةً يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَتِهَا ، فَلَا يَدَعْهُ
الْكَرَمُ وَالتَّدَيُّنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ زَعِيمَ صَلَاحِهَا ، وَكَفِيلَ
نَجَاحِهَا ، رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ إنْ تَدَيَّنَ وَفِي الشُّكْرِ إنْ تَكَرَّمَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : مَا النَّاسُ إلَّا
آلَةٌ مُعْتَمَلَهْ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا فَعَلَهْ وَالسَّبَبُ
الثَّانِي : أَنْ يَرَى فِي مَالِهِ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ ، وَفِي يَدِهِ
زِيَادَةً عَنْ كِفَايَتِهِ ، فَيَرَى انْتِهَازَ الْفُرْصَةِ بِهَا فَيَضَعُهَا
حَيْثُ تَكُونُ لَهُ ذُخْرًا مُعَدًّا وَغَنَمًا مُسْتَجَدًّا .
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَا أَنْصَفَك مَنْ كَلَّفَك إجْلَالِهِ وَمَنَعَك مَالِهِ .
وَقِيلَ لِهِنْدِ بِنْتِ الْحَسَنِ : مَنْ أَعْظَمُ
النَّاسِ فِي عَيْنَك ؟ قَالَتْ : مَنْ كَانَ لِي إلَيْهِ حَاجَةٌ .
وَقَالَ الشَّاعِر : وَمَا ضَاعَ مَالٌ وَرَّثَ
الْحَمْدَ أَهْلَهُ وَلَكِنَّ أَمْوَالَ الْبَخِيلِ تَضِيعُ وَالسَّبَبُ
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِتَعْرِيضٍ يَتَنَبَّهُ عَلَيْهِ لِفِطْنَتِهِ ،
وَإِشَارَةٍ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِكَرْمِهِ ، فَلَا يَدَعْهُ الْكَرْمُ أَنْ
يَغْفُلَ وَلَا الْحَيَاءُ أَنْ يَكُفَّ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا سَايَرَ بَعْضَ الْوُلَاةِ
فَقَالَ : مَا أَهْزَلَ بِرْذَوْنَك ؟ فَقَالَ : يَدُهُ مَعَ أَيْدِينَا فَوَصَلَهُ
اكْتِفَاءٌ بِهَذَا التَّعْرِيضِ
الَّذِي
بَلَغَ مَا لَا يَبْلُغُهُ صَرِيحُ السُّؤَالِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : السَّخَاءُ
حُسْنُ الْفَطِنَةِ وَاللُّؤْمُ سُوءُ التَّغَافُلِ .
وَحُكِيَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ لَمَّا
تَقَلَّدَ وَزَارَةَ الْمُعْتَضِدُ كَتَبَ إلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ : أَبَى دَهْرُنَا إسْعَافَنَا فِي نُفُوسِنَا وَأَسْعَفَنَا
فِيمَنْ نُحِبُّ وَنُكْرِمُ فَقُلْت لَهُ : نُعْمَاك فِيهِمْ أَتِمَّهَا وَدَعْ
أَمَرْنَا إنَّ الْمُهِمَّ مُقَدَّمُ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : مَا أَحْسَنَ
مَا شَكَا أَمْرَهُ بَيْنَ أَضْعَافِ مَدْحِهِ ، وَقَضَى حَاجَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَنْ لَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ
مُذَكِّرًا لَهَا رَأَى طَلَبَ الْمُسْتَنْجِدِينَ ثَقِيلًا وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ
: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِيَدٍ أَوْ جَزَاءً عَلَى صَنِيعَةِ ، فَيَرَى
تَأْدِيَةَ الْحَقِّ عَلَيْهِ طَوْعًا إمَّا أَنَفَةً وَإِمَّا شُكْرًا لِيَكُونَ
مِنْ أَسْرِ الِامْتِنَانِ طَلِيقًا ، وَمِنْ رِقِّ الْإِحْسَانِ وَعُبُودِيَّتِهِ
عَتِيقًا .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْإِحْسَانُ رِقٌّ ،
وَالْمُكَافَأَةُ عِتْقٌ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
: وَلَيْسَتْ أَيَادِي النَّاسِ عِنْدِي غَنِيمَةً وَرُبَّ يَدٍ عِنْدِي أَشَدُّ
مِنْ الْأَسْرِ وَالسَّبَبُ الْخَامِسُ : أَنْ يُؤْثِرَ الْإِذْعَانَ
بِتَقْدِيمِهِ ، وَالْإِقْرَارَ بِتَعْظِيمِهِ ، تَوْطِيدًا لِرِئَاسَةٍ هُوَ
لَهَا مُحِبٌّ ، وَعَلَى طَلَبِهَا مُكِبٌّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ دَاءٌ لَا دَوَاءَ
لَهُ وَقَلَّمَا تَجِدُ الرَّاضِينَ بِالْقَسْمِ فَتُسْتَصْعَبُ عَلَيْهِ إجَابَةُ
النُّفُوسِ لَهُ طَوْعًا إلَّا بِالِاسْتِعْطَافِ ، وَإِذْعَانُهَا لَهُ إلَّا
بِالرَّغْبَةِ وَالْإِسْعَافِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : بِالْإِحْسَانِ
يَرْتَبِطُ الْإِنْسَانُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ بَذَلَ مَالَهُ
أَدْرَكَ آمَالَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَتَرْجُو أَنْ تَسُودَ
بِلَا عَنَاءٍ وَكَيْفَ يَسُودُ ذُو الدَّعَةِ الْبَخِيلُ وَالسَّبَبُ السَّادِسُ
: أَنْ يَدْفَعَ بِهِ سَطْوَةَ أَعْدَائِهِ ، وَيَسْتَكْفِيَ بِهِ نِفَارَ
خُصَمَائِهِ ،
لِيَصِيرُوا
لَهُ بَعْدَ الْخُصُومَةِ أَعْوَانًا ، وَبَعْدَ الْعَدَاوَةِ إخْوَانًا ، إمَّا
لِصِيَانَةِ عِرْضٍ ، وَإِمَّا لِحِرَاسَةِ مَجْدٍ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَلَمْ
يَجْتَمِعْ شَرْقٌ وَغَرْبٌ لِقَاصِدٍ وَلَا الْمَجْدُ فِي كَفِّ امْرِئٍ وَالدَّرَاهِمُ
وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ تُدْعَى حُقُوقُهُ مَغَارِمَ فِي الْأَقْوَامِ وَهِيَ مَغَانِمُ
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَظُمَتْ مَرَافِقُهُ أَعْظَمَهُ مُرَافِقُهُ .
وَالسَّبَبُ السَّابِعُ : أَنْ يُرَبِّيَ بِهِ سَالِفَ
صَنِيعَةٍ أَوْلَاهَا ، وَيُرَاعِيَ بِهِ قَدِيمَ نِعْمَةٍ أَسْدَاهَا ، كَيْ لَا
يُنْسَى مَا أَوْلَاهُ أَوْ يُضَاعُ مَا أَسْدَاهُ ، فَإِنَّ مَقْطُوعَ الْبِرِّ
ضَائِعٌ وَمُهْمَلُ الْإِحْسَانِ ضَالٌّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَسَمْتُ امْرَأً بِالْبِرِّ
ثُمَّ اطَّرَحْتُهُ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَشْيَاءِ رَبُّ الصَّنَائِعِ وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ : بَدَأْت بِنُعْمَى أَوْجَبَتْ لِي
حُرْمَةً عَلَيْك فَعُدْ بِالْفَضْلِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ وَالسَّبَبُ الثَّامِنُ
: الْمَحَبَّةُ
يُؤْثِرُ بِهَا الْمَحْبُوبُ عَلَى مَالِهِ فَلَا يَضَنُّ عَلَيْهِ بِمَرْغُوبٍ ،
وَلَا يَتَنَفَّسُ عَلَيْهِ بِمَطْلُوبٍ ، لِلِّذَّةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ
أَحْظَى ، وَإِلَى نَفْسِهِ أَشْهَى ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إلَى مَحْبُوبِهَا
أَشْوَقُ وَإِلَى مَا يَلِيهِ أَسْبَقُ
.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَمَا زُرْتُكُمْ عَمْدًا وَلَكِنَّ
ذَا الْهَوَى إلَى حَيْثُ يَهْوَى الْقَلْبُ تَهْوِي بِهِ الرِّجْلُ وَهَذَا
وَإِنْ دَخَلَ فِي أَقْسَامِ الْعَطَاءِ فَخَارِجٌ عَنْ حَدِّ السَّخَاءِ ،
وَهَكَذَا الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ .
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِدُخُولِهَا تَحْتَ أَقْسَامِ
الْعَطَاءِ .
وَالسَّبَبُ التَّاسِعُ : وَلَيْسَ بِسَبَبٍ أَنْ
يَفْعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَا سَبَبٍ وَإِنَّمَا هِيَ سَجِيَّةٌ قَدْ فُطِرَ
عَلَيْهَا ، وَشِيمَةٌ قَدْ طُبِعَ بِهَا ، فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُسْتَحِقٍّ
وَمَحْرُومٍ ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ ، كَمَا قَالَ
بَشَّارٌ : لَيْسَ يُعْطِيك لِلرَّجَاءِ وَلَا لِلْخَوْفِ لَكِنْ يَلَذُّ طَعْمَ
الْعَطَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مِثْلِ
هَذَا
هَلْ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى السَّخَاءِ فَيُحْمَدُ ، أَوْ خَارِجًا عَنْهُ
فَيُذَمُّ .
وَقَالَ قَوْمٌ : هَذَا هُوَ السَّخِيُّ طَبْعًا
وَالْجَوَادُ كَرَمًا وَهُوَ أَحَقُّ مَنْ كَانَ بِهِ مَمْدُوحًا وَإِلَيْهِ
مَنْسُوبًا ، وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ : مِنْ غَيْرِ مَا سَبَبٍ يُدْنِي كَفَى
سَبَبًا لِلْحُرِّ أَنْ يَجْتَدِي حُرًّا بِلَا سَبَبِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
سَهْلٍ : إذَا لَمْ أُعْطِ إلَّا مُسْتَحِقًّا فَكَأَنَّ أَعْطَيْت غَرِيمًا .
وَقَالَ : الشَّرَفُ فِي السَّرَفِ ، فَقِيلَ لَهُ : لَا
خَيْرَ فِي السَّرَفِ .
فَقَالَ : وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : الْعَجَبُ لِمَنْ
يَرْجُو مَنْ فَوْقَهُ كَيْفَ يَحْرِمُ مَنْ دُونَهُ .
وَقَالَ بَشَّارٌ : وَمَا النَّاسُ إلَّا صَاحِبَاك
فَمِنْهُمْ سَخِيٌّ وَمَغْلُولُ الْيَدَيْنِ مِنْ الْبُخْلِ فَسَامِحْ يَدًا مَا
أَمْكَنَتْك فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَثْرِي وَالْعَوَاذِلُ فِي شُغْلِ وَقَالَ
آخَرُونَ : هَذَا خَارِجٌ مِنْ السَّخَاءِ الْمَحْمُودِ إلَى السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ
الْمَذْمُومِ ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ كَانَ الْمَنْعُ
لِغَيْرِ سَبَبٍ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَقِلُّ عَنْ الْحُقُوقِ وَيُقَصِّرُ عَنْ
الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا أَعْطَى غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ فَقَدْ يَمْنَعُ
مُسْتَحِقًّا وَمَا يَنَالُهُ مِنْ الذَّمِّ بِمَنْعِ الْمُسْتَحِقِّ أَكْثَرُ
مِمَّا يَنَالُهُ مِنْ الْحَمْدِ لِإِعْطَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ .
وَحَسْبُك ذَمًّا بِمَنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَصْدُرُ
عَنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ ، وَتُوجَدُ لِغَيْرِ عِلَّةٍ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُومًا مَحْسُورًا } .
فَنَهَى عَنْ بَسْطِهَا سَرَفًا ، كَمَا نَهَى عَنْ قَبْضِهَا
بُخْلًا ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ ذَمًّا وَعَلَى اتِّفَاقِهِمَا
لَوْمًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَكَانَ الْمَالُ يَأْتِينَا
فَكُنَّا نُبَذِّرُهُ وَلَيْسَ لَنَا عُقُولُ فَلَمَّا أَنْ تَوَلَّى الْمَالُ
عَنَّا عَقَلْنَا حِينَ لَيْسَ لَنَا فُضُولُ قَالُوا : وَلِأَنَّ الْعَطَاءَ
وَالْمَنْعَ إذَا كَانَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ أَفْضَيَا إلَى ذَمِّ الْمَمْنُوعِ
وَقِلَّةِ
شُكْرِ الْمُعْطِي .
أَمَّا الْمَمْنُوعُ فَلِأَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِ
مَنْ سِوَاهُ ، وَأَمَّا الْمُعْطِي فَإِنَّهُ وَجَدَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا
وَرُبَّمَا أَمَلَ بِالِاتِّفَاقِ أَضْعَافًا ، فَصَارَ ذَلِكَ مُفْضِيًا إلَى
اجْتِلَابِ الذَّمِّ وَإِحْبَاطِ الشُّكْرِ .
وَلَيْسَ فِيمَا أَفْضَى إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ
يُرْجَى وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ شَرًّا يُتَّقَى .
وَلِمِثْلِ هَذَا كَانَ مَنْعُ الْجَمِيعِ إرْضَاءً
لِلْجَمِيعِ وَعَطَاءً يَكُونُ الْمَنْعُ أَرْضَى مِنْهُ خُسْرَانُ مُبِينٌ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ عَنْ
سُؤَالٍ فَشُرُوطُهُ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي السَّائِلِ ،
وَالثَّانِي فِي الْمَسْئُولِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي السَّائِلِ فَثَلَاثَةُ
شُرُوطٍ : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ لِسَبَبٍ ،
وَالطَّلَبُ لِمُوجِبٍ .
فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْحَرَجُ
وَسَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الضَّرُورَةُ
تُوَقِّحُ الصُّورَةَ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَا قَبَّحَ اللَّهُ
الضَّرُورَةَ إنَّهَا تُكَلِّفُ أَعْلَى الْخَلْقِ أَدْنَى الْخَلَائِقِ وَلِلَّهِ
دَرُّ الِاتِّسَاعِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ فَضْلَ السَّبْقِ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ وَقَالَ
الْكُمَيْتُ : إذَا لَمْ تَكُنْ إلَّا الْأَسِنَّةُ مَرْكَبًا فَلَا رَأْيَ
لِلْمُضْطَرِّ إلَّا رُكُوبُهَا فَإِنْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ وَدَعَتْ
الْحَاجَةُ فِيمَا هُوَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا
يَكُونَ فَالنَّفْسُ الْمُسَامِحَةُ تَغْلِبُ الْحَاجَةَ ، وَتَسْمَحُ فِي
الطَّلَبِ ، وَتُرَاعِي مَا اسْتَقَامَ بِهِ الْأَمْرُ ، وَإِنْ نَالَهُ ذُلٌّ
وَلَحِقَهُ وَهْنٌ فَيَتَأَوَّلُ صَاحِبُهَا قَوْلَ الْبُحْتُرِيِّ : وَرُبَّمَا
كَانَ مَكْرُوهُ الْأُمُورِ إلَى مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ وَالنَّفْسُ
الشَّرِيفَةُ تَطْلُبُ الصِّيَانَةَ ، وَتُرَاعِي النَّزَاهَةَ ، وَتَحْتَمِلُ
مِنْ الضُّرِّ مَا احْتَمَلَتْ ، وَمِنْ الشِّدَّةِ مَا طَاقَتْ ، فَيَبْقَى
تَحَمُّلُهَا وَيَدُومُ تَصَوُّنُهَا ، فَتَكُونُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَدْ
يَكْتَسِي الْمَرْءُ خَزَّ الثِّيَابِ وَمِنْ
دُونِهَا
حَالُهُ مُضْنِيَهْ كَمَا يَكْتَسِي خَدُّهُ حُمْرَةً وَعِلَّتُهُ وَرَمٌ فِي
الرِّيَهْ فَلَا يَرَى أَنْ يَتَدَنَّسَ بِمَطَالِبِ الشُّؤْمِ ، وَمَطَامِعِ
اللُّؤْمِ ، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ الْوَحْشِيَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ وَتَأْنَفُ
مِنْهُ ، قَالَ الشَّاعِر : وَلَيْسَ اللَّيْثُ مِنْ جُوعٍ بِغَادٍ عَلَى جِيَفٍ تُطِيفُ
بِهَا الْكِلَابُ فَكَيْفَ بِالْإِنْسَانِ الْفَاضِلِ الَّذِي هُوَ أَكْرَمُ
الْحَيَوَانِ جِنْسًا ، وَأَشْرَفُهُ نَفْسًا ، هَلْ يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَرَى
لِوَحْشِ الْبَهَائِمِ عَلَيْهِ فَضْلًا ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : عَلَى كُلِّ
حَالٍ يَأْكُلُ الْمَرْءُ زَادَهُ عَلَى الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ وَالْحَدَثَانِ
وَالْفَضْلُ فِي مِثْلِ مَا قِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : لَوْ سَأَلْتَ جَارَك
أَعْطَاك ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ
مَا أَسْأَلُ الدُّنْيَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا فَكَيْفَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهَا .
وَوَصَفَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ قَوْمًا فَقَالَ : إذَا
افْتَرَقُوا أَغَضُّوا عَلَى الضُّرِّ خَشْيَةً وَإِنْ أَيْسَرُوا عَادُوا
سِرَاعًا إلَى الْفَقْرِ فَأَمَّا مَنْ يَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَسَّتْ ،
وَلَا حَاجَةٍ دَعَتْ ، فَذَلِكَ صَرِيحُ اللُّؤْمِ وَمَحْضُ الدَّنَاءَةِ .
وَقَلَّمَا تَجِدُ مِثْلَهُ مَلْحُوظًا أَوْ مُمَوَّلًا
مَحْظُوظًا ؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ قَادَهُ إلَى أَضْيَقِ الْأَرْزَاقِ ،
وَاللُّؤْمَ سَاقَهُ إلَى أَخْبَثِ الْمَطَاعِمِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِوَجْهِهِ مَاءٌ
إلَّا أَرَاقَهُ ، وَلَا ذُلٌّ إلَّا ذَاقَهُ ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
الْمُعَدَّلِ لِأَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ : أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ تَبْرُزُ
لِلنَّاسِ وَكِلْتَاهُمَا بِوَجْهٍ مُذَالِ لَسْت تَنْفَكُّ طَالِبًا لِوِصَالٍ
مِنْ حَبِيبٍ أَوْ طَالِبًا لِنَوَالِ أَيُّ مَاءٍ لِحُرِّ وَجْهِك يَبْقَى بَيْنَ
ذُلِّ الْهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ وَلَوْ اسْتَقْبَحَ الْعَارَ وَأَنِفَ مِنْ
الذُّلِّ لَوَجَدَ غَيْرَ السُّؤَالِ مُكْتَسِبًا يُمَوِّنُهُ ، وَلَقَدِرَ عَلَى
مَا يَصُونَهُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَطْلُبَنَّ مَعِيشَةً بِتَذَلُّلٍ
فَلَيَأْتِيَنَّكَ رِزْقُك الْمَقْدُورُ وَاعْلَمْ بِأَنَّك آخِذٌ كُلَّ الَّذِي
لَك فِي الْكِتَابِ مُقَدَّرٌ مَسْطُورُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي : مِنْ
شُرُوطِ السُّؤَالِ
أَنْ يَضِيقُ الزَّمَانُ عَنْ إرْجَائِهِ ، وَيَقْصُرَ الْوَقْتُ عَنْ إبْطَائِهِ
، فَلَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ فِي التَّأْخِيرِ فُسْحَةً ، وَلَا فِي التَّمَادِي
مُهْلَةً ، فَيَصِيرُ مِنْ الْمَعْذُورِينَ وَدَاخِلًا فِي عِدَادِ
الْمُضْطَرِّينَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسَعًا وَالزَّمَانُ
مُمْتَدًّا فَتَعْجِيلُ السُّؤَالِ لُؤْمٌ وَقُنُوطٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَبَى لِي إغْضَاءُ الْجُفُونِ
عَلَى الْقَذَى يَقِينِي أَنْ لَا عُسْرَ إلَّا مُفَرَّجُ أَلَا رُبَّمَا ضَاقَ
الْفَضَاءُ بِأَهْلِهِ وَأَمْكَنَ مِنْ بَيْنَ الْأَسِنَّةِ مَخْرَجُ وَالشَّرْطُ
الثَّالِثُ : اخْتِيَارُ الْمَسْئُولِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوَّ الْإِجَابَةِ مَأْمُولَ النُّجْحِ
إمَّا لِحُرْمَةِ السَّائِلِ أَوْ كَرَمِ الْمَسْئُولِ فَإِنْ سَأَلَ لَئِيمًا لَا
يَرْعَى حُرْمَةً ، وَلَا يُوَلِّي مَكْرُمَةً ، فَهُوَ فِي اخْتِيَارِهِ مَلُومٌ
، وَفِي سُؤَالِهِ مَحْرُومٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْمَخْذُولُ مَنْ
كَانَتْ لَهُ إلَى اللِّئَامِ حَاجَةٌ
.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَذَلُّ مِنْ
اللَّئِيمِ سَائِلُهُ ، وَأَقَلُّ مِنْ الْبَخِيلِ نَائِلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ
أَنْ يَرَى مِنْ سَاقِطٍ نَيْلًا سَنِيَّا فَلَقَدْ رَجَا أَنْ يَجْتَنِي مِنْ
عَوْسَجٍ رُطَبًا جَنِيَّا وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَسْئُولِ فَثَلَاثَةٌ .
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكْتَفِيَ بِالتَّعْرِيضِ وَلَا
يَلْجَأُ إلَى السُّؤَالِ الصَّرِيحِ ؛ لَيَصُونَ السَّائِلَ عَنْ ذُلِّ الطَّلَبِ
فَإِنَّ الْحَالَ نَاطِقَةٌ وَالتَّعْرِيضَ كَافٍ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَقُولُ وَسِتْرُ الدُّجَى
مُسْبِلٌ كَمَا قَالَ حِينَ شَكَا الضِّفْدَعُ كَلَامِي إنْ قُلْته ضَائِعٌ وَفِي
الصَّمْتِ حَتْفِي فَمَا أَصْنَعُ وَرُبَّمَا فَهِمَ الْمَسْئُولُ الْإِشَارَةَ
فَأَلْجَأَ إلَى التَّصْرِيحِ بِالْعِبَارَةِ تَهْجِينًا لِلسَّائِلِ فَيَخْجَلُ وَيَسْتَحِي
فَيَكُفُّ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ : مَنْ كَانَ مَفْقُودَ الْحَيَاءِ
فَوَجْهُهُ مِنْ غَيْرِ بَوَّابٍ لَهُ بَوَّابُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ
يَلْقَى بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيبِ ، وَيُقَابِلَ بِالطَّلَاقَةِ وَالتَّقْرِيبِ
، لِيَكُونَ
مَشْكُورًا
إنْ أَعْطَى وَمَعْذُورًا إنْ مَنَعَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إلْقِ صَاحِبَ
الْحَاجَةِ بِالْبِشْرِ فَإِنْ عَدَمْتَ شُكْرَهُ لَمْ تَعْدَمْ عُذْرَهُ .
وَقَالَ ابْنُ لَنْكَكَ : إنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ
دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ فِي حَاجَةٍ فَلَمْ يَقْضِهَا لَهُ وَظَهَرَ
لَهُ مِنْهُ ضَجَرٌ ، فَقَالَ : لَا تَدْخُلَنَّك ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ
فَلِخَيْرِ دَهْرِك أَنْ تُرَى مَسْئُولَا لَا تَجْبَهَنَّ بِالرَّدِّ وَجْهَ مُؤَمِّلٍ
فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولَا تَلْقَى الْكَرِيمَ فَتَسْتَدِلُّ
بِبِشْرِهِ وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلَا وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ
قَلِيلٍ صَائِرٌ خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوقُ جَمِيلَا وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ
: تَصْدِيقُ الْأَمَلِ وَتَحْقِيقُ الظَّنِّ بِهِ ثُمَّ اعْتِبَارُ حَالِهِ
وَحَالِ سَائِلِهِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعِ أَحْوَالٍ : فَالْحَالُ
الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُسْتَوْجِبًا وَالْمَسْئُولُ مُتَمَكِّنًا .
فَالْإِجَابَةُ هَهُنَا تَسْتَحِقُّ كَرْمًا
وَتَسْتَلْزِمُ مُرُوءَةً وَلَيْسَ لِلرَّدِّ سَبِيلٌ إلَّا لِمَنْ اسْتَوْلَى
عَلَيْهِ الْبُخْلُ ، وَهَانَ عَلَيْهِ الذَّمُّ ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ : إنِّي رَأَيْت مِنْ الْمَكَارِمِ حَسْبُكُمْ أَنْ تَلْبَسُوا
خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا فَإِذَا تَذَكَّرْتُ الْمَكَارِمَ مَرَّةً فِي مَجْلِسٍ
أَنْتُمْ بِهِ فَتَقَنَّعُوا فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِمَّنْ حَرَّمَ ثَرْوَةَ
مَالِهِ ، وَمَنَعَ حُسْنَ حَالِهِ ، أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْدَعًا فِي صَنِيعٍ
مَشْكُورٍ ، وَبِرٍّ مَذْخُورٍ
.
وَقَدْ قِيلَ لِبَخِيلٍ : لِمَ حَبَسْتَ مَالَك ؟ قَالَ
: لِلنَّوَائِبِ .
فَقِيلَ لَهُ : قَدْ نَزَلَتْ بِك .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَا لَك مِنْ مَالِكِ
إلَّا الَّذِي قَدَّمْت فَابْذُلْ طَائِعًا مَالِكَا تَقُولُ أَعْمَالِي وَلَوْ
فَتَّشُوا رَأَيْت أَعْمَالَك أَعْمَى لَكَا وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ ،
وَرَفَعَ أَسْبَابَ شُكْرِهِ ، فَصَارَ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ ، مَذْمُومًا كَمَشْكُورٍ
، وَمَأْثُومًا كَمَأْجُورٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : خَزَنَ الْبَخِيلُ
عَلَيَّ صَالِحَهُ إذْ لَمْ يُثْقِلْ بِرُّهُ ظَهْرِي مَا
فَاتَنِي خَيْرُ
امْرِئٍ وَضَعَتْ عَنِّي يَدَاهُ مُؤْنَةَ الشُّكْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
لِلرَّدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ سَبِيلٌ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ
مُضِرًّا عَجَّلَ بَذْلَهُ ، وَقَطَعَ مَطْلَهُ .
وَكَانَتْ إجَابَتُهُ فِعْلًا ، وَقَوْلُهُ عَمَلًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مِنْ مُرُوءَةِ
الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ لَا يَلْجَأَ إلَى إلْحَاحٍ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ : وَمُنْتَظِرٌ سُؤَالَك
بِالْعَطَايَا وَأَشْرَفُ مِنْ عَطَايَاهُ السُّؤَالْ إذَا لَمْ يَأْتِك
الْمَعْرُوفُ طَوْعًا فَدَعْهُ فَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ مَالْ وَإِنْ كَانَ فِي
الْوَقْتِ مُهْلَةٌ ، وَفِي التَّأْخِيرِ فُسْحَةٌ ، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ
الْفُضَلَاءِ فِيهِ .
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَعْجِيلُ
الْوَعْدِ قَوْلًا ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الْإِنْجَازُ فِعْلًا ، لِيَكُونَ
السَّائِلُ مَسْرُورًا بِتَعْجِيلِ الْوَعْدِ ثُمَّ بِآجِلِ الْإِنْجَازِ ،
وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ مَلْحُوظًا بِالْوَفَاءِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ } .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ
حَاجَةً : أَعِدُك الْيَوْمَ وَأَحْبُوك غَدًا بِالْإِنْجَازِ لِتَذُوقَ حَلَاوَةَ
الْأَمَلِ وَأَتَزَيَّنُ بِثُبُوتِ الْوَفَاءِ .
وَوَعَدَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ رَجُلًا بِحَاجَةٍ
سَأَلَهُ إيَّاهَا فَقِيلَ لَهُ : تَعِدُ وَأَنْتَ قَادِرٌ ؟ فَقَالَ : إنَّ
الْحَاجَةَ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا وَعْدٌ يَنْتَظِرُ صَاحِبُهُ نُجْحَهُ لَمْ
يَجِدْ سُرُورَهَا ؛ لِأَنَّ الْوَعْدَ طُعْمٌ وَالْإِنْجَازَ طَعَامٌ ، وَلَيْسَ
مَنْ فَاجَأَهُ الطَّعَامُ كَمَنْ يَجِدُ رِيحَهُ وَيَطْعَمُهُ فَدَعْ الْحَاجَةَ تَخْتَمِرُ
بِالْوَعْدِ ؛ لِيَكُونَ لَهَا طَعْمٌ عِنْدَ الْمُصْطَنَعِ إلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا أَحْسَنْت الْقَوْلَ
فَأَحْسِنْ الْفِعْلَ ؛ لِيَجْتَمِعَ لَك ثَمَرَةُ اللِّسَانِ وَثَمَرَةُ الْإِحْسَانِ
، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَفْعَلُ فَإِنَّك لَا تَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ
تَكْسِبُهُ ، أَوْ عَجْزٍ تَلْتَزِمُهُ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْبَذْلِ
فِعْلًا مِنْ غَيْرِ وَعْدٍ
أَوْلَى ،
وَتَقْدِيمَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَلَا انْتِظَارٍ أَحْرَى ، وَإِنَّمَا
يُقَدِّمُ الْوَعْدَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا مَعُوزٌ يَنْتَظِرُ وَجْدَهُ ،
وَإِمَّا شَحِيحٌ يُرَوِّضُ نَفْسَهُ تَوْطِئَةً .
وَلَيْسَ لِلْوَعْدِ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ
الْحَالَتَيْنِ وَجْهٌ يَصِحُّ وَلَا رَأْيٌ يَتَّضِحُ ، مَعَ مَا يُغَيِّرُهُ
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَتَتَقَلَّبُ بِهِ الْحَالُ مِنْ يَسَارٍ وَإِعْسَارٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ
الْمُقَدَّمُ أَمْرُهُ شَرْقًا وَغَرْبَا اُمْنُنْ بِخَتْمِ صَحِيفَتِي مَا دَامَ
هَذَا الطِّينُ رَطْبَا وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَفَافَهُ مِمَّا يُعِيدُ السَّهْلَ
صَعْبَا قَالُوا : وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ مِنْ الِانْكِسَارِ ، وَفِي تَوَقُّعِ
الْوَعْدِ مِنْ مَرَارَةِ الِانْتِظَارِ ، وَفِي الْعَوْدِ إلَيْهِ مِنْ ذِلَّةِ
الِاقْتِضَاءِ ، وَذِلَّةِ الِاجْتِدَاءِ ، مَا يُكَدِّرُ بِرَّهُ ، وَيُوهِنُ
شُكْرَهُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ الْحَوَائِجَ رُبَّمَا
أَزْرَى بِهَا عِنْدَ الَّذِي تَقْضِي لَهُ تَطْوِيلُهَا فَإِذَا ضَمِنْتَ
لِصَاحِبٍ لَك حَاجَةً فَاعْلَمْ بِأَنَّ تَمَامَهَا تَعْجِيلُهَا وَالْحَالُ
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ غَيْرَ مُسْتَوْجِبٍ وَالْمَسْئُولُ
غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ .
فَفِي الرَّدِّ فُسْحَةٌ وَفِي الْمَنْعِ عُذْرٌ .
غَيْرَ أَنَّهُ يَلِينُ عِنْدَ الرَّدِّ لِينًا يَقِيهِ
الذَّمَّ ، وَيُظْهِرُ عُذْرًا يَدْفَعُ عَنْهُ اللَّوْمَ .
فَلَيْسَ كُلُّ مُقِلٍّ يَعْرِفُ وَلَا مَعْذُورٍ
يُنْصِفُ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَصِفُ النَّاسَ :
يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ لَا يُنْصِفُونَنِي فَكَيْفَ وَإِنْ أَنْصَفْتُهُمْ
ظَلَمُونِي فَإِنْ كَانَ لِي شَيْءٌ تَصَدَّوْا لِأَخْذِهِ وَإِنْ جِئْتُ أَبْغِي
شَيْئَهُمْ مَنَعُونِي وَإِنْ نَالَهُمْ بَذْلِي فَلَا شُكْرَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ أَنَا
لَمْ أَبْذُلْ لَهُمْ شَتَمُونِي وَإِنْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ فَكِهُوا بِهَا
وَإِنْ صَحِبَتْنِي نِعْمَةٌ حَسَدُونِي سَأَمْنَعُ قَلْبِي أَنْ يَحِنَّ
إلَيْهِمْ وَأُغْمِضُ عَنْهُمْ نَاظِرِي وَجُفُونِي وَأَقْطَعُ أَيَّامِي بِيَوْمِ
سُهُولَةٍ أَقْضِي بِهَا عُمْرِي وَيَوْمِ حُزُونِ أَلَا إنَّ أَصْفَى الْعَيْشِ
مَا طَابَ غِبُّهُ وَمَا
نِلْتَهُ فِي
لَذَّةٍ وَسُكُونِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُسْتَوْجِبًا
، وَالْمَسْئُولُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ ، فَيَأْتِي بِالْحِمْلِ عَلَى النَّفْسِ مَا
أَمْكَنَ مِنْ يَسِيرٍ يَسُدُّ بِهِ خَلَّةً ، أَوْ يَدْفَعُ بِهِ مَذَمَّةً أَوْ
يُوَضِّحُ مِنْ أَعْذَارِ الْمُعْوِزِينَ وَتَوَجُّعِ الْمُتَأَلِّمِينَ مَا
يَجْعَلُهُ فِي الْمَنْعِ مَعْذُورًا وَبِالتَّوَجُّعِ مَشْكُورًا .
وَقَدْ قَالَ أَبُو النَّصْرِ الْعُتْبِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْت ذَا بُخْلٍ وَلَسْتُ
مُلْتَمِسًا فِي الْبُخْلِ لِي عِلَلَا لَكِنَّ طَاقَةَ مِثْلِي غَيْرُ خَافِيَةٍ
وَالنَّمْلُ يُعْذَرُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي حَمَلَا وَرُبَّمَا تَحَسَّرَ
بِحُدُوثِ الْعَجْزِ بَعْدَ تَقْدُمْ الْقُدْرَةِ عَلَى فَوْتِ الصَّنِيعَةِ
وَزَوَالِ الْعَادَةِ حَتَّى صَارَ أَضْنَى جَسَدًا وَأَزِيدَ كَمَدًا ، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ : وَكُنْتُ كَبَازِ السُّوءِ قُصَّ جَنَاحُهُ يَرَى حَسَرَاتٍ كُلَّمَا
طَارَ طَائِرُ يَرَى طَائِرَاتِ الْجَوِّ تَخْفِقُ حَوْلَهُ فَيَذْكُرُ إذْ رِيشُ
الْجَنَاحَيْنِ وَافِرُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ غَيْرَ
مُسْتَوْجِبٍ وَالْمَسْئُولُ مُتَمَكِّنًا ، وَعَلَى الْبَذْلِ قَادِرًا ،
فَيَنْظُرُ فَإِنْ خَافَ بِالرَّدِّ قَدْحَ عِرْضٍ ، أَوْ قُبْحَ هِجَاءٍ مُمْضٍ ،
كَانَ الْبَذْلُ مَنْدُوبًا صِيَانَةً لَا جُودًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ لَهُ
صَدَقَةٌ } .
وَإِنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ وَسَلِمَ مِنْهُ فَمِنْ
النَّاسِ مَنْ غَلَّبَ الْمَسْأَلَةَ وَأَمَرَ بِالْبَذْلِ لِئَلَّا يُقَابِلَ
الرَّجَاءَ بِالْخَيْبَةِ وَالْأَمَلَ بِالْإِيَاسِ .
ثُمَّ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِيَادِ الرَّدِّ
وَاسْتِسْهَالِ الْمَنْعِ الْمُفْضِي إلَى الشُّحِّ .
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ ، عَنْ الْكِسَائِيّ :
كَأَنَّك فِي الْكِتَابِ وَجَدْتَ لَاءً مُحَرَّمَةً عَلَيْك فَلَا تَحِلُّ فَمَا
تَدْرِي إذَا أَعْطَيْت مَالًا أَيُكْثِرُ مِنْ سَمَاحِك أَمْ يُقِلُّ إذَا حَضَرَ
الشِّتَاءُ فَأَنْتَ شَمْسٌ وَإِنْ حَضَرَ الْمَصِيفُ فَأَنْتَ ظِلُّ وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَسْبَابِ
وَغَلَّبَ
حَالَ السَّائِلِ وَنَدَبَ إلَى الْمَنْعِ إذَا كَانَ الْعَطَاءُ فِي غَيْرِ حَقٍّ
لِيَقْوَى عَلَى الْحُقُوقِ إذَا عُرِضَتْ ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْهَا إذَا لَزِمَتْ
وَتَعَيَّنَتْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَجُدْ
بِالْعَطَاءِ فِي غَيْرِ حَقٍّ لَيْسَ فِي مَنْعِ غَيْرِ ذِي الْحَقِّ بُخْلُ
إنَّمَا الْجُودُ أَنْ تَجُودَ عَلَى مَنْ هُوَ لِلْجُودِ وَالنَّدَى مِنْك أَهْلُ
فَأَمَّا مَنْ أَجَابَ السُّؤَالَ ، وَوَعَدَ بِالْبَذْلِ وَالنَّوَالِ ، فَقَدْ
صَارَ بِوَعْدِهِ مَرْهُونًا وَصَارَ وَفَاؤُهُ بِالْوَعْدِ مَقْرُونًا .
فَالِاعْتِبَارُ بِحَقِّ السَّائِلِ بَعْدَ الْوَعْدِ
وَلَا سَبِيلَ إلَى مُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ فِي الرَّدِّ ، فَيَسْتَوْجِبُ مَعَ
ذَمِّ الْمَنْعِ لُؤْمَ الْبُخْلِ وَمَقْتَ الْقَادِرِ وَهُجْنَةَ الْكَذُوبِ .
ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِمَطْلِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ ؛ لِمَا
فِي الْمَطْلِ مِنْ تَكْدِيرِ الصَّنِيعِ وَتَمْحِيقِ الشُّكْرِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا : الْمَطْلُ
أَحَدُ الْمَنْعَيْنِ ، وَالْيَأْسُ أَحَدُ النَّجَحَيْنِ .
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : أَظَلَّتْ عَلَيْنَا
مِنْك يَوْمًا غَمَامَةٌ أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا رَشَاشُهَا فَلَا
غَيْمُهَا يَجْلِي فَيَيْأَسُ طَامِعٌ وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي
عِطَاشُهَا ثُمَّ إذَا أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَأَوْفَى عَهْدَهُ ، لَمْ يَتْبَعْ
نَفْسَهُ مَا أَعْطَى وَيَسَّرَ إنْ كَانَتْ يَدُهُ الْعُلْيَا .
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنَّك لَا تَدْرِي إذَا جَاءَ
سَائِلٌ أَأَنْتَ بِمَا تُعْطِيهِ أَمْ هُوَ أَسْعَدُ عَسَى سَائِلٌ ذُو حَاجَةٍ
إنْ مَنَعْتَهُ مِنْ الْيَوْمِ سُؤْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ غَدٌ وَلْيَكُنْ مِنْ
سُرُورِهِ إذْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ مُقَدَّرَةً أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِهِ جَارِيَةٌ
، وَمِنْ جِهَتِهِ وَاصِلَةٌ ، لَا تَنْتَقِلُ عَنْهُ بِمَنْعٍ وَلَا تَتَحَوَّلُ
عَنْهُ بِإِيَاسٍ .
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا كَثْرَةَ عِيَالِهِ إلَى
بَعْضِ الزُّهَّادِ فَقَالَ : اُنْظُرْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَيْسَ رِزْقُهُ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَحَوِّلْهُ إلَى مَنْزِلِي .
وَقَالَ
ابْنُ سِيرِينَ لِرَجُلٍ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى دَابَّةٍ فَفَقَدَ الدَّابَّةَ :
مَا فَعَلَ بِرْذَوْنُك ؟ قَالَ : اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ فَبِعْتُهُ .
قَالَ
: أَفَتَرَاهُ خَلَّفَ رِزْقَهُ عِنْدَك ؟ وَقَالَ ابْنُ
الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ لِلَّهِ غَيْرَ مَرْعَاك مَرْعًى يَرْتَعِيهِ
وَغَيْرُ مَائِك مَاءْ إنَّ لِلَّهِ بِالْبَرِيَّةِ لُطْفًا سَبَقَ الْأُمَّهَاتِ
وَالْآبَاءْ
ثُمَّ
لِيَكُنْ غَالِبُ عَطَائِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَكْثَرُ قَصْدِهِ ابْتِغَاءَ مَا
عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَاَلَّذِي حَكَاهُ أَبُو بَكْرَةَ ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَاهُ فَقَالَ : يَا عُمَرُ الْخَيْرِ جُزِيتَ
الْجَنَّهْ اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ وَكُنْ لَنَا مِنْ الزَّمَانِ
جُنَّهْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ : إذًا أَبَا حَفْصٍ
لَأَذْهَبَنَّهْ فَقَالَ : فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ : يَكُونُ
عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ يَوْمَ تَكُونُ الْأُعْطَيَاتُ هَنَّهْ وَمَوْقِفُ الْمَسْئُولِ
بَيْنَهُنَّهْ إمَّا إلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتَهُ ثُمَّ قَالَ : يَا غُلَامُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا
لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ أَمَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ .
وَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَلَا
مِنْ طَلَبِ جَزَاءٍ وَشُكْرٍ ، وَعَرَى عَنْ امْتِنَانٍ وَنَشْرٍ ، فَكَانَ
ذَلِكَ أَشْرَفَ لِلْبَاذِلِ ، وَأَهْنَأَ لِلْقَابِلِ .
وَأَمَّا الْمُعْطِي إذَا الْتَمَسَ بِعَطَائِهِ الْجَزَاءَ
، وَطَلَبَ بِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ فَهُوَ خَارِجٌ بِعَطَائِهِ عَنْ حُكْمِ
السَّخَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ طَلَبَ بِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ ، كَانَ صَاحِبَ
سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ ، وَفِي هَذَيْنِ مِنْ الذَّمِّ مَا يُنَافِي السَّخَاءَ .
وَإِنْ طَلَبَ بِهِ الْجَزَاءَ كَانَ تَاجِرًا
مُتَرَبِّحًا لَا يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } إنَّهُ لَا
يُعْطِي عَطِيَّةً يَلْتَمِسُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا .
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ : لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِك تَسْتَكْثِرْ عَلَى رَبِّك .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : وَلَيْسَتْ يَدٌ أَوْلَيْتَهَا
بِغَنِيمَةٍ إذَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُعِدَّ لَهَا شُكْرَا غِنَى الْمَرْءِ مَا
يَكْفِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى
فَقْرَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرِيمَ يُجْتَدَى بِالْكَرَامَةِ وَاللُّطْفِ ، وَاللَّئِيمُ يَجْتَدِي بِالْمَهَانَةِ وَالْعُنْفِ ، فَلَا يَجُودُ إلَّا خَوْفًا ، وَلَا يُجِيبُ إلَّا عُنْفًا ، كَمَا قَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْتُك مِثْلَ الْجَوْزِ يَمْنَعُ لُبَّهُ صَحِيحًا وَيُعْطِي خَيْرَهُ حِينَ يُكْسَرُ فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْمَهَانَةُ طَرِيقًا إلَى اجْتِدَائِك ، وَالْخَوْفُ سَبِيلًا إلَى إعْطَائِك ، فَيَجْرِي عَلَيْك سَفَهُ الطَّعَامِ ، وَامْتِهَانُ اللِّئَامِ ، وَلْيَكُنْ جُودُك كَرْمًا وَرَغْبَةً ، لَا لُؤْمًا وَرَهْبَةً ، كَيْ لَا يَكُونَ مَعَ الْوَصْمَةِ ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ : صِرْتُ كَأَنِّي ذُبَالَةٌ نُصِبَتْ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَهِيَ تَحْتَرِقُ
وَأَمَّا
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْبِرِّ فَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَيَتَنَوَّعُ أَيْضًا
نَوْعَيْنِ : قَوْلًا وَعَمَلًا .
فَأَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ طِيبُ الْكَلَامِ وَحُسْنُ
الْبِشْرِ وَالتَّوَدُّدُ بِجَمِيلِ الْقَوْلِ .
وَهَذَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ حُسْنُ الْخُلُقِ وَرِقَّةُ
الطَّبْعِ .
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا كَالسَّخَاءِ
فَإِنَّهُ إنْ أَسْرَفَ فِيهِ كَانَ مَلِقًا مَذْمُومًا ، وَإِنْ تَوَسَّطَ
وَاقْتَصَدَ فِيهِ كَانَ مَعْرُوفًا وَبِرًّا مَحْمُودًا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ،
فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّك ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } إنَّهَا الْكَلَامُ الطَّيِّبُ وَكَانَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَتَأَوَّلُ أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ
بِأَمْوَالِكُمْ فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُنْشِدَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ هَذَا : وَحَيِّ ذَوِي
الْأَضْغَانِ تَسْبِ قُلُوبَهُمْ تَحِيَّتَك الْحُسْنَى فَقَدْ يُرْقَعُ النَّعْلُ
فَإِنْ دَحَسُوا بِالْمَكْرِ فَاعْفُ تَكَرُّمًا وَإِنْ حَبَسُوا عَنْك الْحَدِيثَ
فَلَا تَسْلُ فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيك مِنْهُ سَمَاعُهُ وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا
وَرَاءَك لَمْ يَقْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا } .
وَقِيلَ لِلْعَتَّابِيِّ : إنَّك تَلْقَى الْعَامَّةَ
بِبِشْرٍ وَتَقْرِيبٍ ، قَالَ : دَفْعُ صَنِيعَةٍ بِأَيْسَرِ مُؤْنَةٍ
وَاكْتِسَابُ إخْوَانٍ بِأَيْسَرِ مَبْذُولٍ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ
قَلَّ أَحِبَّاؤُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَبُنَيَّ إنَّ الْبِشْرَ
شَيْءٌ هَيِّنٌ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَرْءُ
لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ مَا لَمْ تَبِنْ لِلنَّاسِ أَفْعَالُهُ وَكُلُّ مَنْ يَمْنَعُنِي
بِشْرَهُ فَقَلَّمَا يَنْفَعُنِي مَالُهُ وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ بَذْلُ
الْجَاهِ
وَالْإِسْعَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَعُونَةُ فِي النَّائِبَةِ .
وَهَذَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ حُبُّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ
وَإِيثَارُ الصَّلَاحِ لَهُمْ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ سَرَفٌ ، وَلَا
لِغَايَتِهَا حَدٌّ ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ
كَثُرَتْ فَهِيَ أَفْعَالُ خَيْرٍ تَعُودُ بِنَفْعَيْنِ : نَفْعٌ عَلَى فَاعِلِهَا
فِي اكْتِسَابِ الْأَجْرِ وَجَمِيلِ الذِّكْرِ ، وَنَفْعٌ عَلَى الْمُعَانِ بِهَا
فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُ وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مَعْرُوفٍ
صَدَقَةٌ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ } .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ : { الْمَعْرُوفُ كَاسْمِهِ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الْمَعْرُوفُ وَأَهْلُهُ
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
: لَا يُزْهِدَنَّك فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَهُ فَقَدْ يَشْكُرُ
الشَّاكِرُ بِأَضْعَافِ جُحُودِ الْكَافِرِ .
وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ : مَنْ يَفْعَلْ الْخَيْرَ لَا
يَعْدَمْ جَوَائِزَهُ لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ : يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيْثُ كَانَتْ تَحَمَّلَهَا كَفُورٌ
أَمْ شَكُورُ فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ وَعِنْدَ اللَّهِ مَا كَفَرَ
الْكَفُورُ فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى ابْتِدَاءِ الْمَعْرُوفِ أَنْ
يُعَجِّلَهُ حَذَرَ فَوَاتِهِ ، وَيُبَادِرَ بِهِ خِيفَةُ عَجْزِهِ .
وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ فُرَصِ زَمَانِهِ ، وَغَنَائِمِ
إمْكَانِهِ ، وَلَا يُهْمِلُهُ ثِقَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، فَكَمْ وَاثِقٍ
بِقُدْرَةٍ فَاتَتْ فَأَعْقَبَتْ نَدَمًا ، وَمُعَوِّلٍ عَلَى مُكْنَةٍ زَالَتْ
فَأَوْرَثَتْ خَجَلًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : مَازِلْتُ أَسْمَعُ كَمْ مِنْ
وَاثِقٍ خَجِلٍ حَتَّى اُبْتُلِيتُ فَكُنْتُ الْوَاثِقَ الْخَجِلَا وَلَوْ فَطِنَ
لِنَوَائِبِ دَهْرِهِ ، وَتَحَفَّظَ مِنْ عَوَاقِبِ مَكْرِهِ ، لَكَانَتْ
مَغَانِمُهُ مَذْخُورَةً ، وَمَغَارِمُهُ مَخْبُورَةً .
فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ ثَمَرَةٌ وَثَمَرَةُ
الْمَعْرُوفِ تَعْجِيلُ السَّرَاحِ
} .
وَقِيلَ لِأَنُوشِرْوَانَ : مَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ
عِنْدَكُمْ ؟ فَقَالَ : أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَلَا تَصْطَنِعُهُ حَتَّى
يَفُوتَ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : مَنْ أَخَّرَ الْفُرْصَةَ
عَنْ وَقْتِهَا فَلْيَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَوْتِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا هَبَّتْ رِيَاحُك
فَاغْتَنِمْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ وَلَا تَغْفُلْ عَنْ
الْإِحْسَانِ فِيهَا فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ وَإِنْ دَرَّتْ
نِيَاقُك فَاحْتَلِبْهَا فَمَا تَدْرِي الْفَصِيلُ لِمَنْ يَكُونُ وَرُوِيَ أَنَّ
بَعْضَ وُزَرَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مَطَلَ رَاغِبًا إلَيْهِ فِي عَمَلٍ
يَسْتَكْفِيهِ إيَّاهُ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ بَعْدَ طُولِ الْمَطْلِ بِهِ : أَمَا يَدْعُوكَ
طُولُ الصَّبْرِ مِنِّي عَلَى اسْتِئْنَافِ مَنْفَعَتِي وَشُغْلِي وَعِلْمُك أَنَّ
ذَا السُّلْطَانَ غَادٍ عَلَى خَطَرَيْنِ مِنْ مَوْتٍ وَعَزْلِ وَأَنَّك إنْ
تَرَكْتَ قَضَاءَ حَقِّي إلَى وَقْتِ التَّفَرُّغِ وَالتَّخَلِّي سَتُصْبِحُ
نَادِمًا أَسَفًا مُعَزًّى عَلَى فَوْتِ الصَّنِيعَةِ عِنْدَ مِثْلِي وَكَتَبَ
بَعْضُ ذِي الْحُرُمَاتِ إلَى وَالٍ قَدْ قَصَّرَ فِي رِعَايَةِ حُرْمَتِهِ
يَقُولُ : أَعَلَى الصِّرَاطِ تُرِيدُ رَعِيَّةَ حُرْمَتِي أَمْ فِي الْحِسَابِ
تَمُنُّ بِالْإِنْعَامِ لِلنَّفْعِ فِي الدُّنْيَا أَرَدْتُك فَانْتَبِهْ لِحَوَائِجِي
مِنْ رَقْدَةِ النُّوَامِ وَكَتَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصِيرُ إلَى بَعْضِ
الْوُزَرَاءِ وَقَدْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ بِكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ يَقُولُ : لَنَا
كُلَّ يَوْمٍ نَوْبَةٌ قَدْ نَنُوبُهَا وَلَيْسَ لَنَا رِزْقٌ وَلَا عِنْدَنَا
فَضْلُ فَإِنْ تَعْتَذِرْ بِالشَّغْلِ عَنَّا فَإِنَّمَا تُنَاطُ بِك الْآمَالُ
مَا اتَّصَلَ الشُّغْلُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَعْرُوفِ شُرُوطًا لَا يَتِمُّ إلَّا
بِهَا ، وَلَا يَكْمُلُ إلَّا مَعَهَا
.
فَمِنْ ذَلِكَ سَتْرُهُ عَنْ إذَاعَةٍ يَسْتَطِيلُ لَهَا
، وَإِخْفَاؤُهُ عَنْ إشَاعَةٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا اصْطَنَعَتْ
الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ ، وَإِذَا صُنِعَ إلَيْك
فَانْشُرْهُ .
وَلَقَدْ قَالَ دِعْبِلٌ الْخُزَاعِيُّ : إذَا
انْتَقَمُوا أَعْلَنُوا أَمْرَهُمْ وَإِنْ أَنْعَمُوا أَنْعَمُوا بِاكْتِتَامِ
يَقُومُ الْقُعُودُ إذَا أَقْبَلُوا وَتَقْعُدُ هَيْبَتُهُمْ بِالْقِيَامِ عَلَى
أَنَّ سَتْرَ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ ظُهُورِهِ ، وَأَبْلَغَ
دَوَاعِي نَشْرِهِ ؛ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ إظْهَارِ مَا خُفِّي
وَإِعْلَانُ مَا كُتِمَ .
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ : خِلٌّ إذَا جِئْتَهُ
يَوْمًا لِتَسْأَلَهُ أَعْطَاك مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا يُخْفِي
ضَائِعَهُ وَاَللَّهُ يُظْهِرُهَا إنَّ الْجَمِيلَ إذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
وَمِنْ شُرُوطُ الْمَعْرُوفِ تَصْغِيرُهُ عَنْ أَنْ يَرَاهُ مُسْتَكْبَرًا ،
وَتَقْلِيلُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْثِرًا ، لِئَلَّا يَصِيرَ بِهِ مُدِلًّا
بَطِرًا وَمُسْتَطِيلًا أَشِرًا
.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إلَّا بِثَلَاثٍ خِصَالٍ : تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ
، فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ ، وَإِذَا
سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : زَادَك الْمَعْرُوفُ
عِنْدِي عِظَمًا إنَّهُ عِنْدَك مَيْسُورٌ حَقِيرُ وَتَنَاسَيْتَ كَأَنْ لَمْ
تَأْتِهِ وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مَشْهُورٌ خَطِيرُ وَمِنْ شُرُوطِ الْمَعْرُوفِ : مُجَانَبَةُ
الِامْتِنَانِ بِهِ وَتَرْكُ الْإِعْجَابِ بِفِعْلِهِ ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ
إسْقَاطِ الشُّكْرِ ، وَإِحْبَاطِ الْأَجْرِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالِامْتِنَانَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الشُّكْرَ
، وَيَمْحَقُ الْأَجْرَ .
ثُمَّ تَلَا : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ
بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } } وَسَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ :
فَعَلْتُ إلَيْك وَفَعَلْتُ .
فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : اُسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي
الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْمَنُّ مَفْسَدَةُ
الصَّنِيعَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كَدَّرَ مَعْرُوفًا
امْتِنَانٌ وَضَيَّعَ حَسَبًا امْتِهَانٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ
أَسْقَطَ
شُكْرِهِ ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ أُحْبِطَ أَجْرُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : قُوَّةُ الْمِنَنِ مِنْ
ضَعْفِ الْمُنَنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ
مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حُسْنٍ لَيْسَ الْكَرِيمُ إذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ وَقَالَ
أَبُو نُوَاسٍ : فَامْضِ لَا تَمْنُنْ عَلَيَّ يَدًا مَنَّك الْمَعْرُوفَ مِنْ
كَدَرِهِ وَأَنْشَدْتُ عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
لَا تَحْمِلَنَّ لِمَنْ يَمُنُّ مِنْ الْأَنَامِ عَلَيْك مِنَّهْ وَاخْتَرْ لِنَفْسِك
حَظَّهَا وَاصْبِرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ جُنَّهْ مِنَنُ الرِّجَالِ عَلَى الْقُلُوبِ
أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ الْأَسِنَّهْ وَمِنْ شُرُوطِ الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا
يَحْتَقِرَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا نَزْرًا إذَا كَانَ الْكَثِيرُ
مَعُوزًا وَكُنْت عَنْهُ عَاجِزًا ، فَإِنَّ مَنْ حَقَّرَ يَسِيرَهُ فَمَنَعَ
مِنْهُ أَعْجَزَهُ كَثِيرُهُ فَامْتَنَعَ عَنْهُ ، وَفِعْلُ قَلِيلِ الْخَيْرِ
أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ الْمَعْرُوفِ صَغِيرُهُ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ : لَا تَسْتَحِ
مِنْ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْمَنْعَ أَقَلُّ مِنْهُ ، وَلَا تَجْبُنْ عَنْ
الْكَثِيرِ فَإِنَّك أَكْثَرُ مِنْهُ
.
وَقَالَ الشَّاعِرُ : اعْمَلْ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْتَ
وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَنْ تُحِيطَ بِكُلِّهِ وَمَتَى تَفْعَلُ الْكَثِيرَ مِنْ
الْخَيْرِ إذَا كُنْتَ تَارِكًا لِأَقَلِّهِ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا
لَا كُلْفَةَ عَلَى مُولِيهِ ، وَلَا مَشَقَّةَ عَلَى مُسْدِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
جَاهٌ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْأَدْنَى وَيَرْتَفِقُ بِهِ التَّابِعُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : ظِلُّ الْفَتَى يَنْفَعُ مَنْ
دُونَهُ وَمَا لَهُ فِي ظِلِّهِ حَظُّ وَاعْلَمْ أَنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ
تَسَعَ جَمِيعَ النَّاسِ مَعْرُوفُك وَلَا أَنْ تُولِيَهُمْ إحْسَانَك ،
فَاعْتَمِدْ بِذَلِكَ أَهْلَ الْفَضْلِ مِنْهُمْ وَالْحِفَاظِ وَاقْصِدْ بِهِ
ذَوِي الرِّعَايَةِ وَالْوِدَادِ ؛ لِيَكُونَ مَعْرُوفُك فِيهِمْ نَامِيًا ،
وَصَنِيعُك عِنْدَهُمْ زَاكِيًا
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ { لَا تَنْفَعُ الصَّنِيعَةُ إلَّا عِنْدَ ذِي حَسَبٍ وَدِينٍ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ صَنَائِعَهُ فِي أَهْلِ الْحِفَاظِ } .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
إنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ
الْمَصْنَعِ فَإِذَا صَنَعْتَ صَنِيعَةً فَاعْمَلْ بِهَا لِلَّهِ أَوْ لِذَوِي
الْقَرَابَةِ أَوْ دَعْ وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا خَيْرَ فِي
مَعْرُوفٍ إلَى غَيْرِ عَرُوفٍ
.
وَقَدْ ضَرَبَ الشَّاعِرُ بِهِ مَثَلًا قَالَ : كَحِمَارِ
السُّوءِ إنْ أَشْبَعْتَهُ رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : عَلَى قَدْرِ الْمَغَارِسِ يَكُونُ اجْتِنَاءُ الْغَارِسِ ،
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : لَعَمْرُك مَا الْمَعْرُوفُ فِي
غَيْرِ أَهْلِهِ وَفِي أَهْلِهِ إلَّا كَبَعْضِ الْوَدَائِعِ فَمُسْتَوْدَعٌ ضَاعَ
الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ وَمُسْتَوْدَعٌ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ ضَائِعِ وَمَا
النَّاسُ فِي شُكْرِ الصَّنِيعَةِ عِنْدَهُمْ وَفِي كُفْرِهَا إلَّا كَبَعْضِ
الْمَزَارِعِ فَمَزْرَعَةٌ طَابَتْ وَأَضْعَفَ نَبْتُهَا وَمَزْرَعَةٌ أَكْدَتْ
عَلَى كُلِّ زَارِعِ وَأَمَّا مَنْ أُسْدِيَ إلَيْهِ الْمَعْرُوفُ وَاصْطُنِعَ إلَيْهِ
الْإِحْسَانُ فَقَدْ صَارَ بِأَسْرِ الْمَعْرُوفِ مَوْثُوقًا ، وَفِي مِلْكِ
الْإِحْسَانِ مَرْقُوقًا ، وَلَزِمَهُ ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُكَافَأَةِ ،
أَنْ يُكَافِئَ عَلَيْهَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يُقَابِلَ
الْمَعْرُوفَ بِنَشْرِهِ ، وَيُقَابِلَ الْفَاعِلَ بِشُكْرِهِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَوْدَعَ مَعْرُوفًا فَلْيَنْشُرْهُ فَإِنْ نَشَرَهُ
فَقَدْ شَكَرَهُ ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ } .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَتَمَثَّلُ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ :
ارْفَعْ ضَعِيفَك لَا يَخُونُك ضَعْفُهُ يَوْمًا فَتُدْرِكُهُ الْعَوَاقِبُ قَدْ
نَمَا يُجْزِيك أَوْ يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ
مَنْ
أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْت فَقَدْ جَزَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُدِّي عَلَيَّ قَوْلَ الْيَهُودِيِّ - قَاتَلَهُ اللَّهُ - لَقَدْ أَتَانِي جَبْرَائِيلُ
بِرِسَالَةٍ مِنْ رَبِّي تَعَالَى
: أَيُّمَا رَجُلٍ صَنَعَ إلَى أَخِيهِ صَنِيعَةً فَلَمْ
يَجِدْ لَهَا جَزَاءً إلَّا الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ فَقَدْ كَافَأَهُ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الشُّكْرُ قَيْدُ
النِّعَمِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ
الْإِنْعَامَ فَاعْدُدْهُ مِنْ الْأَنْعَامِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ قِيمَةُ كُلِّ نِعْمَةٍ
شُكْرُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُفْرُ النِّعَمِ مِنْ
أَمَارَاتِ الْبَطَرِ وَأَسْبَابِ الْغِيَرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : الْكَرِيمُ شَكُورٌ أَوْ
مَشْكُورٌ ، وَاللَّئِيمُ كَفُورٌ أَوْ مَكْفُورٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا زَوَالَ لِلنِّعْمَةِ
مَعَ الشُّكْرِ ، وَلَا بَقَاءَ لَهَا مَعَ الْكُفْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : شُكْرُ الْإِلَهِ بِطُولِ
الثَّنَاءِ وَشُكْرُ الْوُلَاةِ بِصِدْقِ الْوَلَاءِ وَشُكْرُ النَّظِيرِ بِحُسْنِ
الْجَزَاءِ وَشُكْرُك الدُّونَ بِحُسْنِ الْعَطَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَلَوْ كَانَ
يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ عُلُوِّ مَكَانِ لَمَا
أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِشُكْرِهِ فَقَالَ : اُشْكُرُوا لِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ
فَإِنَّ مَنْ شَكَرَ مَعْرُوفَ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ ، وَنَشَرَ أَفْضَالَ مَنْ
أَنْعَمَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ النِّعْمَةِ ، وَقَضَى مُوجِبِ
الصَّنِيعَة ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا اسْتِدَامَةُ ذَلِكَ إتْمَامًا
لِشُكْرِهِ لِيَكُونَ لِلْمَزِيدِ مُسْتَحِقًّا وَلِمُتَابَعَةِ الْإِحْسَانِ
مُسْتَوْجِبًا .
حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أُتِيَ إلَيْهِ بِقَوْمٍ مِنْ
الْخَوَارِجِ ، وَكَانَ فِيهِمْ صَدِيقٌ لَهُ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ إلَّا ذَلِكَ
الصَّدِيقُ فَإِنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ وَوَصَلَهُ .
فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ
فَقَالَ لَهُ : عُدْ إلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ .
فَقَالَ هَيْهَاتَ ، غَلَّ يَدًا مُطْلِقُهَا
وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعْتِقُهَا
.
وَأَنْشَأَ يَقُولُ : أَأُقَاتِلُ
الْحَجَّاجَ
فِي سُلْطَانِهِ بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ إنِّي إذًا لَأَخُو
الدَّنَاءَةِ وَاَلَّذِي شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ غَدَرَاتُهُ مَاذَا أَقُولُ
إذَا وَقَفْتُ إزَاءَهُ فِي الصَّفِّ وَاحْتَجَّتْ لَهُ فَعَلَاتُهُ أَأَقُولُ
جَارَ عَلَيَّ لَا إنِّي إذًا لَأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ
وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ أَنَّ صَنَائِعًا غُرِسَتْ لَدَيَّ فَحَنْظَلَتْ
نَخَلَاتُهُ وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمَعْرُوفُ رِقٌّ ،
وَالْمُكَافَأَةُ عِتْقٌ .
وَمِنْ أَشْكَرِ النَّاسِ الَّذِي يَقُولُ :
لَأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِهِ إنَّ اهْتِمَامَك بِالْمَعْرُوفِ
مَعْرُوفُ وَلَا أَلُومَك إنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ فَالشَّيْءُ بِالْقَدَرِ
الْمَحْتُومِ مَصْرُوفُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي يَتَعَجَّلُ
الْمَعْرُوفَ وَيَتَقَدَّمُ الْبِرَّ قَدْ يَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ : فَيَكُونُ
تَارَةً مِنْ حُسْنِ الثِّقَةِ بِالْمَشْكُورِ فِي وُصُولِ بِرِّهِ وَإِسْدَاءِ
عُرْفِهِ وَلَا رَأْيَ لِمَنْ يُحْسِنُ بِهِ ظَنَّ شَاكِرٍ أَنْ يُخْلِفَ حُسْنَ
ظَنِّهِ فِيهِ ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ : قَدْ أَوْرَقَتْ فِيك آمَالِي
بِوَعْدِك لِي وَلَيْسَ فِي وَرَقِ الْآمَالِ لِي ثَمَرُ وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً
مِنْ فَرْطِ شُكْرِ الرَّاجِي وَحُسْنِ مُكَافَأَةِ الْآمِلِ ، فَلَا يَرْضَى
لِنَفْسِهِ إلَّا بِتَعْجِيلِ الْحَقِّ وَإِسْلَافِ الشُّكْرِ .
وَلَيْسَ لِمَنْ صَادَفَ لِمَعْرُوفِهِ مَعْدِنًا
زَاكِيًا ، وَمُغْرِسًا نَامِيًا ، أَنْ يُفَوِّتَ نَفْسَهُ غُنْمًا ، وَلَا يَحْرِمَهَا
رِبْحًا فَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ .
وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً ارْتِهَانًا لِلْمَأْمُولِ ،
وَحُبًّا لِلْمَسْئُولِ .
وَبِحَسَبِ مَا أَسْلَفَ مِنْ الشُّكْرِ يَكُونُ
الذَّمُّ عِنْدَ الْإِيَاسِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ حُكَمَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ : مَنْ شَكَرَكَ عَلَى مَعْرُوفٍ لَمْ تُسْدِهِ إلَيْهِ
فَعَاجِلْهُ بِالْبِرِّ وَإِلَّا انْعَكَسَ فَصَارَ ذَمًّا .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : وَمَا الْحِقْدُ إلَّا
تَوْأَمُ الشُّكْرِ فِي الْفَتَى وَبَعْضُ السَّجَايَا يُنْسَبْنَ إلَى بَعْضِ
فَحَيْثُ تَرَى حِقْدًا عَلَى ذِي إسَاءَةٍ فَثَمَّ تَرَى شُكْرًا عَلَى حُسْنِ
الْقَرْضِ إذَا الْأَرْضُ أَدَّتْ
رِيعَ مَا
أَنْتَ زَارِعٌ مِنْ الْبَذْرِ فِيهَا فَهِيَ نَاهِيك مِنْ أَرْضِ وَأَمَّا مَنْ
سَتَرَ مَعْرُوفَ الْمُنْعِمِ وَلَمْ يَشْكُرْهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ نِعَمِهِ
، فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَجَحَدَ الصَّنِيعَةَ .
وَإِنَّ مِنْ أَذَمِّ الْخَلَائِقِ ، وَأَسْوَأِ
الطَّرَائِقِ ، مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ قُبْحَ الرَّدِّ وَسُوءَ الْمَنْعِ .
فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا
يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ
لِمُنْعِمِهِ اسْتَحَقَّ قَطْعَ النِّعْمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : مَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ
الْمُفِيدِ اسْتَوْجَبَ حِرْمَانَ الْمَزِيدِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَنْكَرَ
الصَّنِيعَةَ اسْتَوْجَبَ قُبْحَ الْقَطِيعَةِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ
لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : مَنْ جَاوَزَ النِّعْمَةَ
بِالشُّكْرِ لَمْ يَخْشَ عَلَى النِّعْمَةِ مُغْتَالَهَا لَوْ شَكَرُوا
النِّعْمَةَ زَادَتْهُمْ مَقَالَةُ اللَّهِ الَّتِي قَالَهَا لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
لَكِنَّمَا كُفْرُهُمْ غَالَهَا وَالْكُفْرُ بِالنِّعْمَةِ يَدْعُو إلَى
زَوَالِهَا وَالشُّكْرُ أَبْقَى لَهَا وَهَذَا آخِرُ مَا يَتَعَلَّقُ
بِالْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ الْجَامِعَةِ .
فَأَمَّا
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ : فَهِيَ الْمَادَّةُ الْكَافِيَةُ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ
لَازِمَةٌ لَا يُعَرَّى مِنْهَا بَشَرٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا
لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } فَإِذَا عَدَمَ
الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ نَفْسِهِ لَمْ تَدُمْ لَهُ حَيَاةٌ ، وَلَمْ
تَسْتَقِمْ لَهُ دُنْيَا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ لَحِقَهُ
مِنْ الْوَهْنِ فِي نَفْسِهِ وَالِاخْتِلَالِ فِي دُنْيَاهُ بِقَدْرِ مَا تَعَذَّرَ
مِنْ الْمَادَّةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَائِمَ بِغَيْرِهِ يَكْمُلُ
بِكَمَالِهِ وَيَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِهِ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الْمَوَادُّ مَطْلُوبَةً لِحَاجَةِ
الْكَافَّةِ إلَيْهَا أُعْوِزَتْ بِغَيْرِ طَلَبٍ ، وَعُدِمَتْ لِغَيْرِ سَبَبٍ .
وَأَسْبَابُ الْمَوَدَّةِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَجِهَاتُ
الْمَكَاسِبِ مُتَشَعِّبَةٌ ؛ لِيَكُونَ اخْتِلَافُ أَسْبَابِهَا عِلَّةَ
الِائْتِلَافِ بِهَا ، وَتَشَعُّبُ جِهَاتِهَا تَوْسِعَةً لِطُلَّابِهَا ، كَيْ
لَا يَجْتَمِعُوا عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ فَلَا يَلْتَئِمُونَ ، أَوْ يَشْتَرِكُوا
فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَكْتَفُونَ .
ثُمَّ هَدَاهُمْ إلَيْهَا بِعُقُولِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ
إلَيْهَا بِطِبَاعِهِمْ حَتَّى لَا يَتَكَلَّفُوا ائْتِلَافَهُمْ فِي الْمَعَايِشِ
الْمُخْتَلِفَةِ فَيَعْجِزُوا وَلَا يُعَاوَنُوا بِتَقْدِيرِ مَوَادِّهِمْ
بِالْمَكَاسِبِ الْمُتَشَعِّبَةِ ، فَيَخْتَلُّوا حِكْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى اطَّلَعَ بِهَا عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ .
وَقَدْ أَنْبَأَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ أَخْبَارًا وَإِذْكَارًا فَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } .
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ
قَتَادَةُ : أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَصْلُحُ ثُمَّ هَدَاهُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : أَعْطَى كُلَّ شَيْءِ زَوْجَةً
ثُمَّ هَدَاهُ لِنِكَاحِهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } .
يَعْنِي مَعَايِشَهُمْ مَتَى يَزْرَعُونَ وَمَتَى يَغْرِسُونَ
: { وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : {
وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } قَالَ عِكْرِمَةُ : قَدَّرَ فِي كُلِّ
بَلْدَةٍ مِنْهَا مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأُخْرَى لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ زَيْدٍ : قَدَّرَ أَرْزَاقَ أَهْلِهَا سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ الزِّيَادَةَ
فِي أَرْزَاقِهِمْ .
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ مَعَ مَا
هَدَاهُمْ إلَيْهِ مِنْ مَكَاسِبِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ مِنْ مَعَايِشِهِمْ
دِينًا يَكُونُ حُكْمًا وَشَرْعًا يَكُونُ قَيِّمًا ؛ لِيَصِلُوا إلَى
مَوَادِّهِمْ بِتَقْدِيرِهِ ، وَيَطْلُبُوا أَسْبَابَ مَكَاسِبِهِمْ بِتَدْبِيرِهِ
، حَتَّى لَا يَنْفَرِدُوا بِإِرَادَتِهِمْ فَيَتَغَالَبُوا ، وَتَسْتَوْلِي عَلَيْهِمْ
أَهْوَاؤُهُمْ فَيَتَقَاطَعُوا
.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ :
الْحَقُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ اللَّهُ - جَلَّ جَلَالَهُ - فَلِأَجْلِ
ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ الْمَوَادَّ مَطْلُوبَةً بِالْإِلْهَامِ حَتَّى جَعَلَ
الْعَقْلَ هَادِيًا إلَيْهَا ، وَالدِّينَ قَاضِيًا عَلَيْهَا ؛ لِتَتِمَّ
السَّعَادَةُ وَتَعُمَّ الْمَصْلَحَةُ
.
ثُمَّ إنَّهُ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - جَعَلَ سَدَّ
حَاجَتِهِمْ وَتَوَصُّلِهِمْ إلَى مَنَافِعِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : بِمَادَّةٍ
وَكَسْبٍ .
فَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ حَادِثَةٌ عَنْ اقْتِنَاءِ
أُصُولٍ نَامِيَةٍ بِذَوَاتِهَا
.
وَهِيَ شَيْئَانِ : نَبْتٌ نَامٍ وَحَيَوَانٌ
مُتَنَاسِلٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى
وَأَقْنَى } .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ : أَغْنَى خَلْقَهُ بِالْمَالِ ،
وَأَقْنَى جَعَلَ لَهُمْ قُنْيَةً وَهِيَ أُصُولُ الْأَمْوَالِ .
وَأَمَّا الْمَكْسَبُ فَيَكُونُ بِالْأَفْعَالِ
الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْمَادَّةِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُؤَدَّيْ إلَى الْحَاجَةِ .
وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَقَلُّبٌ فِي
تِجَارَةٍ .
وَالثَّانِي : تَصَرُّفٌ فِي صِنَاعَةٍ .
وَهَذَانِ هُمَا فَرْعٌ لِوَجْهَيْ الْمَادَّةِ ،
فَصَارَتْ أَسْبَابُ الْمَوَادِّ الْمَأْلُوفَةِ ، وَجِهَاتُ الْمَكَاسِبِ
الْمَعْرُوفَةِ
، مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : نَمَاءُ زِرَاعَةٍ ، وَنِتَاجُ حَيَوَانٍ ، وَرِبْحُ
تِجَارَةٍ ، وَكَسْبُ صِنَاعَةٍ .
وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ رَجَاءٍ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ
الْمَأْمُونِ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَعَايِشُ النَّاسِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ : زِرَاعَةٌ وَصِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ وَإِمَارَةٌ .
فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا كَانَ كَلًّا عَلَيْهَا .
وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَتْ أَسْبَابُ الْمَوَادِّ بِمَا
ذَكَرْنَاهُ فَسَنَصِفُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَوْلٍ مُوجَزٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ
مِنْ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الزِّرَاعَةُ : فَهِيَ مَادَّةُ أَهْلِ الْحَضَرِ
وَسُكَّانِ الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ ، وَالِاسْتِمْدَادُ بِهَا أَعَمُّ نَفْعًا ،
وَأَوْفَى فَرْعًا .
وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمَثَلَ
فَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ سَاهِرَةٌ لِعَيْنٍ نَائِمَةٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نِعْمَتْ
لَكُمْ النَّخْلَةُ تَشْرَبُ مِنْ عَيْنٍ خَرَّارَةٍ وَتُغْرَسُ فِي أَرْضٍ
خَوَّارَةٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّخْلُ
: هِيَ الرَّاسِخَاتُ فِي الْوَحْلِ الْمَطْعِمَاتُ فِي الْمَحَلِّ } .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : خَيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ
خَرَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ تَسْهَرُ إذَا نِمْتَ ، وَتَشْهَدُ إذَا غِبْتَ
، وَتَكُونُ عُقْبًا إذَا مِتَّ
.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ } .
يَعْنِي الزَّرْعَ .
وَحُكِيَ عَنْ الْمُعْتَضِدِ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ يُنَاوِلُنِي
الْمِسْحَاةَ وَقَالَ : خُذْهَا فَإِنَّهَا مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ .
وَقَالَ كِسْرَى لِلْمُوبَدِ : مَا قِيمَةُ تَاجِي هَذَا
؟ فَأَطْرَقَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : مَا أَعْرِفُ لَهُ قِيمَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ
مَطْرَةٌ فِي نَيْسَانَ فَإِنَّهَا تُصْلِحُ مِنْ مَعَايِشِ الرَّعِيَّةِ مَا
تَكُونُ قِيمَتُهُ مِثْلَ تَاجِ الْمَلِكِ .
وَلَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنَ
شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ : اُدْلُلْنِي عَلَى مَا أُعَالِجُهُ .
فَأَنْشَأَ ابْنُ شِهَابٍ يَقُولُ : تَتَبَّعْ خَبَايَا
الْأَرْضِ وَادْعُ مَلِيكَهَا لَعَلَّك يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتُرْزَقَا
فَيُؤْتِيك مَالًا وَاسِعًا ذَا مَتَانَةٍ إذَا مَا مِيَاهُ الْأَرْضِ غَارَتْ
تَدَفَّقَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ بِمَا لَيْسَ يَتَّسِعُ كِتَابُنَا هَذَا لِبَسْطِ الْقَوْلِ فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ فَضَّلَ الزَّرْعَ فَلِقُرْبِ مَدَاهُ ، وَوُفُورِ جَدَاهُ وَمَنْ فَضَّلَ الشَّجَرَ فَلِثُبُوتِ أَصْلِهِ وَتَوَالِي ثَمَرِهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي
مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ نِتَاجُ الْحَيَوَانِ : فَهُوَ مَادَّةُ أَهْلِ
الْفَلَوَاتِ وَسُكَّانِ الْخِيَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَسْتَقِرَّ بِهِمْ
دَارٌ ، وَلَمْ تَضُمَّهُمْ أَمْصَارٌ افْتَقَرُوا إلَى الْأَمْوَالِ
الْمُنْتَقِلَةِ مَعَهُمْ ، وَمَا لَا يَنْقَطِعُ نَمَاؤُهُ بِالظَّعْنِ
وَالرِّحْلَةِ ، فَاقْتَنَوْا الْحَيَوَانَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقِلُّ فِي
النَّقْلَةِ بِنَفْسِهِ ، وَيَسْتَغْنِي عَنْ الْعُلُوفَةِ بِرَعْيِهِ .
ثُمَّ هُوَ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ ، فَكَانَ
اقْتِنَاؤُهُ عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ أَيْسَرَ لِقِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَتَسْهِيلِ
الْكُلْفَةِ بِهِ ، وَكَانَتْ جَدْوَاهُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ لِوُفُورِ نَسْلِهِ
وَاقْتِيَاتِ رِسْلِهِ إلْهَامًا مِنْ اللَّهِ لِخَلْقِهِ فِي تَعْدِيلِ
الْمَصَالِحِ فِيهِمْ ، وَإِرْشَادِ الْعِبَادِ فِي قَسْمِ الْمَنَافِعِ
بَيْنَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ وَسِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ } .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ .
وَمِنْهُ تَأَوَّلَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ قَوْله
تَعَالَى : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
} .
أَيْ كَثَّرْنَا عَدَدَهُمْ .
وَأَمَّا السِّكَّةُ الْمَأْبُورَةُ فَهِيَ النَّخْلُ
الْمُؤَبَّرَةُ الْحُمُلُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي الْغَنَمِ سِمَنُهَا مَعَاشٌ ، وَصُوفُهَا
رِيَاشٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ
لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مَالُك يَا أَبَا
ظَبْيَانَ ؟ قَالَ قُلْت : عَطَائِي أَلْفَانِ
.
قَالَ : اتَّخِذْ مِنْ هَذَا الْحَرْثِ وَالسَّائِبَاتِ
قَبْلَ أَنْ تَلِيَك غِلْمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَا تَعُدُّ الْعَطَاءَ مَعَهُمْ
مَالًا ، وَالسَّائِبَاتُ النِّتَاجُ
.
وَحُكِيَ أَنَّ { امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اتَّخَذْت
غَنَمًا أَبْتَغِي نَسْلَهَا وَرِسْلَهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْمِي .
فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَتْ :
سُودٌ .
فَقَالَ : عَفِّرِي } .
وَهَذَا مِثْلُ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِ الْآدَمِيِّينَ : اغْتَرِبُوا وَلَا تُضْوُوا } .
وَأَمَّا
الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهِيَ التِّجَارَةُ : فَهِيَ فَرْعٌ لِمَادَّتَيْ
الزَّرْعِ وَالنِّتَاجِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ وَالْحَرْثِ وَالْبَاقِي
فِي السَّائِبَاتِ } .
وَهِيَ نَوْعَانِ : تُقَلَّبُ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ
قِلَّةٍ وَلَا سَفَرٍ ، وَهَذَا تَرَبُّصٌ وَاخْتِصَارٌ وَقَدْ رَغِبَ عَنْهُ
ذَوُو الِاقْتِدَارِ وَزَهِدَ فِيهِ ذَوُو الْأَخْطَارِ .
وَالثَّانِي : تَقَلُّبٌ بِالْمَالِ بِالْأَسْفَارِ
وَنَقْلُهُ إلَى الْأَمْصَارِ ، فَهَذَا أَلْيَقُ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَأَعَمُّ
جَدْوَى وَمَنْفَعَةً ، غَيْرَ أَنَّهُ أَكْثَرُ خَطَرًا ، وَأَعْظَمُ غَرَرًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ لَعَلَى قَلَتٍ إلَّا
مَا وَقَى اللَّهُ } .
يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ ، وَفِي التَّوْرَاةِ : يَا ابْنَ
آدَمَ أَحْدِثْ سَفَرًا أُحْدِثُ لَك رِزْقًا .
وَأَمَّا الرَّابِعُ
مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ الصِّنَاعَةُ : فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِمَا مَضَى مِنْ
الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَتَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً : صِنَاعَةٌ فِكْرٍ
، وَصِنَاعَةُ عَمَلٍ ، وَصِنَاعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ فِكْرٍ وَعَمَلٍ ؛
لِأَنَّ النَّاسَ آلَاتٌ لِلصِّنَاعَاتِ ، وَأَشْرَفُهُمْ نَفْسًا مُتَهَيِّئ
لِأَشْرَفِهَا جِنْسًا ، كَمَا أَنَّ أَرْذَلَهُمْ نَفْسًا مُتَهَيِّئ
لِأَرْذَلِهَا جِنْسًا ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مَا يُلَائِمُهُ ،
وَيَدْعُو إلَى مَا يُجَانِسُهُ .
وَحُكِيَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ لَمَّا أَرَادَ
الْخُرُوجَ إلَى أَقَاصِي الْأَرْضِ قَالَ لأرسطاطاليس : اُخْرُجْ مَعِي .
قَالَ : قَدْ نَحِلَ جِسْمِي وَضَعُفْتُ عَنْ
الْحَرَكَةِ فَلَا تُزْعِجُنِي
.
قَالَ فَمَا أَصْنَعُ فِي عُمَّالِي خَاصَّةً ؟ قَالَ
اُنْظُرْ إلَى مَنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ فَأَحْسَنَ سِيَاسَتِهِمْ فَوَلِّهِ
الْجُنُودَ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةٌ فَأَحْسَنَ تَدْبِيرِهَا فَوَلِّهِ
الْخَرَاجَ .
فَنَبَّهَ بِاعْتِبَارِ الطِّبَاعِ عَلَى مَا أَغْنَاهُ
عَنْ كُلْفَةِ التَّجْرِبَةِ .
وَأَشْرَفُ الصِّنَاعَاتِ صِنَاعَةُ الْفِكْرِ وَهِيَ
مُدَبِّرَةٌ ، وَأَرْذَلُهَا صِنَاعَةُ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ نَتِيجَةُ
الْفِكْرِ وَتَدْبِيرُهُ .
فَأَمَّا صِنَاعَةُ الْفِكْرِ فَقَدْ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : مَا وَقَفَ عَلَى التَّدْبِيرَاتِ الصَّادِرَةِ عَنْ نَتَائِجِ
الْآرَاءِ الصَّحِيحَةِ كَسِيَاسَةِ النَّاسِ وَتَدْبِيرِ الْبِلَادِ .
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لِلسِّيَاسَةِ كِتَابًا لَخَّصْنَا
فِيهِ مِنْ جُمَلِهَا مَا لَيْسَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْكِتَابُ زِيَادَةً عَلَيْهَا .
وَالثَّانِي : مَا أَدَّتْ إلَى الْمَعْلُومَاتِ
الْحَادِثَةِ عَنْ الْأَفْكَارِ النَّظَرِيَّةِ .
وَقَدْ مَضَى فِي فَضْلِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِنَا
هَذَا بَابٌ أَغْنَى مَا فِيهِ عَنْ زِيَادَةِ قَوْلٍ فِيهِ .
وَأَمَّا صِنَاعَةُ الْعَمَلِ فَقَدْ تَنْقَسِمُ
قِسْمَيْنِ : عَمَلٌ صِنَاعِيٌّ ، وَعَمَلٌ بَهِيمِيٌّ .
فَالْعَمَلُ الصِّنَاعِيُّ أَعْلَاهَا رُتْبَةً ؛
لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُعَاطَاةٍ فِي تَعَلُّمِهِ ، وَمُعَانَاةٍ فِي
تَصَوُّرِهِ ، فَصَارَ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ الْفِكْرِيَّةِ .
وَالْآخَرُ
إنَّمَا هُوَ صِنَاعَةُ كَدٍّ وَآلَةُ مِهْنَةٍ .
وَهِيَ الصِّنَاعَةُ الَّتِي تَقْتَصِرُ عَلَيْهَا
النُّفُوسِ الرَّذِلَةُ ، وَتَقِفُ عَلَيْهَا الطِّبَاعُ الْخَاسِئَةُ .
كَمَا قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : لِكُلِّ
سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٍ ، وَكَمَا قَالَ الْمُتَلَمِّسُ : وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ
يُسَامُ بِهِ إلَّا الْأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتِدُ هَذَا عَلَى
الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ
وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْفِكْرِ وَالْعَمَلِ فَقَدْ تَنْقَسِمُ
قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ صِنَاعَةُ الْفِكْرِ أَغْلَبَ
وَالْعَمَلُ تَبَعًا كَالْكِتَابَةِ
.
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ صِنَاعَةُ الْعَمَلِ
أَغْلَبَ وَالْفِكْرُ تَبَعًا كَالْبِنَاءِ .
أَعْلَاهُمَا رُتْبَةً مَا كَانَتْ صِنَاعَةُ الْفِكْرِ
أَغْلَبُ عَلَيْهَا وَالْعَمَلُ تَبَعًا لَهَا .
فَهَذِهِ أَحْوَالُ الْخَلْقِ الَّتِي رَكَّبَهُمْ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا فِي ارْتِيَادِ مَوَادِّهِمْ ، وَوَكَلَهُمْ إلَى
نَظَرِهِمْ فِي طَلَبِ مَكَاسِبِهِمْ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هِمَمِهِمْ فِي
الْتِمَاسِهِمْ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأُلْفَتِهِمْ ، فَسُبْحَانَ مَنْ
تَفَرَّدَ فِينَا بِلُطْفِ حِكْمَتِهِ ، وَأَظْهَرَ فِطَنَنَا بِعَزَائِمِ قُدْرَتِهِ .
وَإِذْ
قَدْ وَضَحَ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ الْمَوَادِّ وَجِهَاتِ الْكَسْبِ ، فَلَيْسَ
يَخْلُو حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنْ
يَطْلُبَ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، وَيَلْتَمِسَ وَفْقَ حَاجَتِهِ ، مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهَا ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى
نُقْصَانٍ مِنْهَا .
فَهَذِهِ أَحَدُ أَحْوَالُ الطَّالِبِينَ ، وَأَعْدَلُ
مَرَاتِبِ الْمُقْتَصِدِينَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيَّ كَلِمَاتٍ
فَدَخَلْنَ فِي أُذُنِي وَوَقَرْنَ فِي قَلْبِي : مَنْ أَعْطَى فَضْلَ مَالِهِ
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ، وَمَنْ أَمْسَكَ فَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَلَا يَلُمْ اللَّهُ عَلَى
كَفَافٍ } .
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جنيدة قَالَ : قُلْت : { يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا يَكْفِينِي مِنْ الدُّنْيَا ؟ قَالَ : مَا يَسُدُّ جَوْعَتَك ، وَيَسْتُرُ
عَوْرَتَك .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ حَمَّادًا
فَبَخٍ بَخٍ فَلْقٌ مِنْ خُبْزٍ وَجُزْءٌ مِنْ مَاءٍ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَمَّا
فَوْقَ الْإِزَارِ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي
قَوْله تَعَالَى : { إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } .
أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ بَيْتًا وَزَوْجَةً وَخَادِمًا
فَهُوَ مَلِكٌ .
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ
فَهُوَ مَلِكٌ } .
وَهُوَ فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ
بِالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ مُطَاعٌ فِي أَمْرِهِ ، وَفِي الدَّارِ مَحْجُوبٌ
إلَّا عَنْ إذْنِهِ .
وَلَيْسَ عَلَى مَنْ طَلَبَ الْكِفَايَةَ وَلَمْ
يُجَاوِزْ تَبَعَاتِ الزِّيَادَةِ إلَّا تَوَخِّي الْحَلَالَ مِنْهُ ، وَإِجْمَالَ
الطَّلَبِ فِيهِ ، وَمُجَانَبَةَ الشُّبْهَةِ الْمُمَازَجَةِ لَهُ .
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْحَلَالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك
، فَلَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ } .
{ وَسُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزُّهْدِ فَقَالَ : أَمَا إنَّهُ لَيْسَ
بِإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلَا تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، وَلَكِنْ أَنْ تَكُونَ بِمَا
بِيَدِ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْك بِمَا فِي يَدِيك ، وَأَنْ يَكُونَ ثَوَابُ
الْمُصِيبَةِ أَرْجَحَ عِنْدَك مِنْ بَقَائِهَا } .
وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ :
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَكَمِيِّ : إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَدَعَ مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَك مَا
يَكُونُ حَاجِزًا بَيْنَك وَبَيْنَ الْحَرَامِ فَافْعَلْ ، فَإِنَّهُ مَنْ
اسْتَوْعَبَ الْحَلَالَ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى الْحَرَامِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله
تَعَالَى : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } .
فَقَالَ عِكْرِمَةُ : يَعْنِي كَسْبًا حَرَامًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ إنْفَاقُ مَنْ لَا يُوقِنُ
بِالْخَلَفِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : الدِّرْهَمُ عَقْرَبُ
فَإِنْ أَحْسَنْتَ رُقْيَتَهَا وَإِلَّا فَلَا تَأْخُذْهَا .
وَقِيلَ : مَنْ قَلَّ تَوَقِّيهِ كَثُرَتْ مَسَاوِئُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ الْأَمْوَالِ مَا
أَخَذْته مِنْ الْحَلَالِ وَصَرَفْته فِي النَّوَالِ ، وَشَرُّ الْأَمْوَالِ مَا
أَخَذْته مِنْ الْحَرَامِ ، وَصَرَفْته فِي الْآثَامِ .
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ الْفَقِيهُ كَثِيرًا مَا
يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ : الْمَالُ يُنْقَدُ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ
يَوْمًا وَيَبْقَى بَعْدَ ذَاكَ آثَامُهُ لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لِإِلَهِهِ
حَتَّى يَطِيبَ شَرَابُهُ وَطَعَامُهُ وَيَطِيبَ مَا يَجْنِي وَيَكْسِبَ أَهْلُهُ
وَيَطِيبَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ كَلَامُهُ نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ
رَبِّهِ فَعَلَى النَّبِيِّ صَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمُعْتَمِرِ
السُّلَمِيِّ قَالَ : النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : أَغْنِيَاءٌ وَفُقَرَاءُ وَأَوْسَاطُ .
فَالْفُقَرَاءُ مَوْتَى إلَّا مَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ
بِعِزِّ الْقَنَاعَةِ ، وَالْأَغْنِيَاءُ سُكَارَى إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِتَوَقُّعِ الْغِيَرِ
.
وَأَكْثَرُ الْخَيْرِ مَعَ أَكْثَرِ الْأَوْسَاطِ ،
وَأَكْثَرُ الشَّرِّ مَعَ أَكْثَرِ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ ؛ لِسُخْفِ
الْفَقْرِ وَبَطْرِ الْغَنِيِّ .
وَالْأَمْرُ
الثَّانِي : أَنْ يُقَصِّرَ عَنْ طَلَبِ كِفَايَتِهِ ، وَيَزْهَدَ فِي الْتِمَاسِ
مَادَّتِهِ .
وَهَذَا التَّقْصِيرُ قَدْ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ : فَيَكُونُ تَارَةً كَسَلًا ، وَتَارَةً تَوَكُّلًا ، وَتَارَةً زُهْدًا
وَتَقَنُّعًا .
فَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِكَسَلٍ فَقَدْ حُرِمَ
ثَرْوَةُ النَّشَاطِ ، وَمَرَحُ الِاغْتِبَاطِ ، فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَكُونَ
كَلًّا قَصِيًّا ، أَوْ ضَائِعًا شَقِيًّا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { كَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ ، وَكَادَ الْفَقْرُ
أَنْ يَكُونَ كُفْرًا } .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ
الْحَيَاةِ فَالصِّحَّةُ .
وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِثْلَهَا فَالْغِنَى ، وَإِنْ
كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْمَوْتِ فَالْمَرَضُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِثْلَهُ
فَالْفَقْرُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْقَبْرُ خَيْرٌ
مِنْ الْفَقْرِ .
وَوُجِدَ فِي نِيلِ مِصْرَ مَكْتُوبٌ عَلَى حَجَرٍ :
عُقْبُ الصَّبْرِ نَجَاحٌ وَغِنًى وَرِدَاءُ الْفَقْرِ مِنْ نَسْجِ الْكَسَلِ
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَعُوذُ بِك اللَّهُمَّ مِنْ بَطَرِ الْغِنَى
وَمِنْ نَكْهَةِ الْبَلْوَى وَمِنْ ذِلَّةِ الْفَقْرِ وَمِنْ أَمَلٍ يَمْتَدُّ فِي
كُلِّ شَارِفٍ يُرْجِعُنِي مِنْهُ بِحَظِّ يَدٍ صِفْرِ إذَا لَمْ تُدَنِّسْنِي
الذُّنُوبُ بِعَارِهَا فَلَسْتُ أُبَالِي مَا تَشَعَّثَ مِنْ أَمْرِي وَإِذَا
كَانَ تَقْصِيرُهُ لِتَوَكُّلٍ فَذَلِكَ عَجْزٌ قَدْ أَعْذَرَ بِهِ نَفْسَهُ ،
وَتَرْكُ حَزْمٍ قَدْ غَيَّرَ اسْمَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا
بِالتَّوَكُّلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحِيَلِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْقَضَاءِ
بَعْدَ الْإِعْوَازِ .
وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ ، قَالَ : { ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَذَكَرَ فِيهِ خَيْرًا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
خَرَجَ مَعَنَا حَاجًّا فَإِذَا نَزَلْنَا مُنْزِلًا لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى
نَرْحَلَ ، فَإِذَا ارْتَحَلْنَا لَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
حَتَّى نَنْزِلَ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ
كَانَ يَكْفِيهِ عَلَفَ نَاقَتِهِ
وَصُنْعَ
طَعَامِهِ ؟ قَالُوا كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ مِنْ تَوَكُّلِ
الْمَرْءِ إضَاعَتُهُ لِلْحَزْمِ ، وَلَا مِنْ الْحَزْمِ إضَاعَةُ نَصِيبِهِ مِنْ
التَّوَكُّلِ .
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِزُهْدٍ وَتَقَنُّعٍ فَهَذِهِ
حَالُ مَنْ عَلِمَ بِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ بِتَبِعَاتِ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ ،
وَخَافَ عَلَيْهَا بَوَائِقَ الْهَوَى وَالْقُدْرَةِ ، فَآثَرَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى
، وَزَجَرَ النَّفْسَ عَنْ رُكُوبِ الْهَوَى .
فَقَدْ رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ
شَمْسُهُ إلَّا وَعَلَى جَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا
خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إلَى
رَبِّكُمْ إنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى } .
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { انْتِظَارُ
الْفَرْجِ مِنْ اللَّهِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ ، وَمَنْ رَضِيَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ بِالْقَلِيلِ مِنْ الرِّزْقِ رَضِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ
مِنْ الْعَمَلِ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مِنْ نُبْلِ الْفَقْرِ أَنَّك لَا تَجِدُ أَحَدًا يَعْصِي
اللَّهَ لِيَفْتَقِرَ .
فَأَخَذَهُ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فَقَالَ : يَا عَائِبَ
الْفَقْرِ أَلَا تَزْدَجِرْ عَيْبُ الْغَنِيِّ أَكْثَرُ لَوْ تَعْتَبِرْ مِنْ
شَرَفِ الْفَقْرِ وَمِنْ فَضْلِهِ عَلَى الْغِنَى إنْ صَحَّ مِنْك النَّظَرْ
أَنَّك تَعْصِي لِتَنَالَ الْغِنَى وَلَسْتَ تَعْصِي اللَّهَ كَيْ تَفْتَقِرْ
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : دَلِيلُك أَنَّ الْفَقْرَ خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى وَأَنَّ
قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ الْمُثْرِي لِقَاؤُك مَخْلُوقًا عَصَى اللَّهَ
بِالْغِنَى وَلَمْ تَرَ مَخْلُوقًا عَصَى اللَّهَ بِالْفَقْرِ وَهَذِهِ الْحَالُ
إنَّمَا تَصِحُّ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ فَأَطَاعَتْهُ ، وَصَدَّقَهَا
فَأَجَابَتْهُ ،
حَتَّى
لَانَ قِيَادُهَا ، وَهَانَ عِنَادُهَا .
وَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالْقَلِيلِ لَمْ
يَقْنَعْ بِالْكَثِيرِ ، كَمَا كَتَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : يَا أَخِي ، مَنْ اسْتَغْنَى
بِاَللَّهِ اكْتَفَى ، وَمَنْ انْقَطَعَ إلَى غَيْرِهِ تَعَنَّى ، وَمَنْ كَانَ
مِنْ قَلِيلِ الدُّنْيَا لَا يَشْبَعُ ، لَمْ يُغْنِهِ مِنْهَا كَثْرَةُ مَا يَجْمَعُ
، فَعَلَيْك مِنْهَا بِالْكَفَافِ ، وَأَلْزَمْ نَفْسَك الْعَفَافِ ، وَإِيَّاكَ
وَجَمْعَ الْفُضُولِ ، فَإِنَّ حِسَابَهُ يَطُولُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : هَيْهَاتَ مِنْك الْغِنَى
إنْ لَمْ يُقْنِعْك مَا حَوَيْت
.
فَأَمَّا مَنْ أَعْرَضَتْ نَفْسُهُ عَنْ قَبُولِ
نُصْحِهِ ، وَجَمَحَتْ بِهِ عَنْ قَنَاعَةِ زُهْدِهِ ، فَلَيْسَ إلَى إكْرَاهِهَا
سَبِيلٌ وَلَا لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا وَجْهٌ إلَّا بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُرُوءَةِ .
وَأَنْ يَسْتَنْزِلَهَا إلَى الْيَسِيرِ الَّذِي لَا
تَنْفِرُ مِنْهُ فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَنْزَلَهَا إلَى مَا هُوَ أَقَلُّ
مِنْهُ ؛ لِتَنْتَهِيَ بِالتَّدْرِيجِ إلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَتَسْتَقِرُّ
بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّمْرِينِ عَلَى الْحَالِ الْمَحْبُوبَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ
الْمَكْرُوهَ يَسْهُلُ بِالتَّمْرِينِ
.
فَهَذَا حُكْمُ مَا فِي الْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ
التَّقْصِيرِ عَنْ طَلَبِ الْكِفَايَةِ
.
وَأَمَّا الْأَمْرُ
الثَّالِثُ : فَهُوَ أَنْ لَا يَقْنَعَ بِالْكِفَايَةِ وَيَطْلُبَ الزِّيَادَةَ
وَالْكَثْرَةَ ، فَقَدْ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ : أَحَدُهَا :
مُنَازَعَةُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا تُنَالُ إلَّا بِزِيَادَةِ الْمَالِ
وَكَثْرَةِ الْمَادَّةِ ، فَإِذَا نَازَعَتْهُ الشَّهْوَةُ طَلَبَ مِنْ الْمَالِ
مَا يُوَصِّلُهُ .
وَلَيْسَ لِلشَّهَوَاتِ حَدٌّ مُتَنَاهٍ فَيَصِيرُ
ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنَّ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ .
وَمَنْ لَمْ يَتَنَاهَ طَلَبُهُ اسْتَدَامَ كَدُّهُ
وَتَعَبُهُ ، وَمَنْ اسْتَدَامَ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ لَمْ يَفِ الْتِذَاذَهُ
بِنَيْلِ شَهَوَاتِهِ بِمَا يُعَانِيهِ مِنْ اسْتِدَامَةِ كَدِّهِ وَإِتْعَابِهِ ،
مَعَ مَا قَدْ لَزِمَهُ مِنْ ذَمِّ الِانْقِيَادِ لِمُغَالَبَةِ الشَّهَوَاتِ ،
وَالتَّعَرُّضِ لِاكْتِسَابِ التَّبِعَاتِ ، حَتَّى يَصِيرَ كَالْبَهِيمَةِ
الَّتِي قَدْ انْصَرَفَ طَلَبُهَا إلَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ شَهْوَتُهَا ، فَلَا
تَنْزَجِرُ عَنْهُ بِعَقْلٍ وَلَا تَنْكَفُّ عَنْهُ بِقَنَاعَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا
حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَهْوَتِهِ ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ ،
وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا وَكَلَهُ إلَى نَفْسِهِ } .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَإِنَّك إنْ أَعْطَيْتَ
بَطْنَك هَمَّهُ وَفَرْجَك نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا وَالسَّبَبُ
الثَّانِي : أَنْ يَطْلُبَ الزِّيَادَةَ وَيَلْتَمِسَ الْكَثْرَةَ لِيَصْرِفَهَا
فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ ، وَيَتَقَرَّبَ بِهَا فِي جِهَاتِ الْبِرِّ ، وَيَصْطَنِعَ
بِهَا الْمَعْرُوفَ ، وَيُغِيثَ بِهَا الْمَلْهُوفَ .
فَهَذَا أَعْذَرُ وَبِالْحَمْدِ أَحْرَى وَأَجْدَرُ ،
إذَا انْصَرَفَتْ عَنْهُ تَبِعَاتُ الْمَطَالِبِ ، وَتَوَقَّى شُبُهَاتِ
الْمَكَاسِبِ ، وَأَحْسَنَ التَّقْدِيرَ فِي حَالَتَيْ فَائِدَتِهِ وَإِفَادَتِهِ
عَلَى قَدْرِ الزَّمَانِ ، وَبِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ آلَةٌ لِلْمَكَارِمِ
وَعَوْنٌ عَلَى الدِّينِ وَمُتَأَلِّفٌ لِلْإِخْوَانِ ، وَمَنْ فَقَدَهُ مِنْ
أَهْلِ الدُّنْيَا قَلَّتْ الرَّغْبَةُ فِيهِ وَالرَّهْبَةُ مِنْهُ ،
وَمَنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ بِمَوْضِعِ رَهْبَةٍ وَلَا رَغْبَةٍ اسْتَهَانُوا بِهِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ
أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ حِسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا هَذَا الْمَالُ } .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ
الْمَالُ : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٍ } يَعْنِي الْمَالَ وَ : {
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } يَعْنِي الْمَالَ : {
فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } يَعْنِي مَالًا .
وَقَالَ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
إنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ يَعْنِي الْمَالَ .
وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَالَ خَيْرًا
إذَا كَانَ فِي الْخَيْرِ مَصْرُوفًا ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى إلَى الْخَيْرِ فَهُوَ
فِي نَفْسِهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ
قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فَقَالَ
السُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ : فِي الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ وَفِي الْآخِرَةِ
الْجَنَّةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ
خَوَاتِمُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لَا تُؤْكَلُ وَلَا تُشْرَبُ حَيْثُ قَصَدْتَ بِهَا
قَضَيْتَ حَاجَتَك .
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ : اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي حَمْدًا
وَمَجْدًا فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إلَّا بِفِعَالٍ وَلَا مَجْدَ إلَّا بِمَالٍ .
وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الزِّنَادِ : لِمَ تُحِبُّ الدَّرَاهِمَ
وَهِيَ تُدِينُك مِنْ الدُّنْيَا ؟ فَقَالَ : هِيَ وَإِنْ أَدْنَتْنِي مِنْهَا
فَقَدْ صَانَتْنِي عَنْهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ
فَقَدْ صَانَ الْأَكْرَمَيْنِ : الدِّينُ وَالْعِرْضُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ اسْتَغْنَى
كَرُمَ عَلَى أَهْلِهِ .
وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِبَعْضِ
الْعُلَمَاءِ فَتَحَرَّكَ لَهُ وَأَكْرَمَهُ فَقِيلَ لَهُ : بَعْدَ ذَلِكَ
أَكَانَتْ لَك إلَى هَذَا حَاجَةٌ ؟ قَالَ لَا .
وَلَكِنِّي
رَأَيْت ذَا الْمَالِ مَهِيبًا .
وَسَأَلَ رَجُلٌ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدَ
وَعَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ فِي عَشْرِ دِيَاتٍ فَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيَّ دِيَةٌ .
وَقَالَ عَتَّابٌ : الْبَاقِي عَلَيَّ .
فَقَالَ مُحَمَّدٌ : نِعْمَ الْعَوْنُ الْيَسَارُ عَلَى
الْمَجْدِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : فَلَوْ كُنْتُ
مُثْرًى بِمَالٍ كَثِيرٍ لَجُدْتُ وَكُنْتُ لَهُ بَاذِلَا فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ
لَا تُسْتَطَاعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُهَا فَاضِلًا وَكَانَ يُقَالُ :
الدَّرَاهِمُ مَرَاهِمُ ؛ لِأَنَّهَا تُدَاوِي كُلَّ جُرْحٍ ، وَيَطِيبُ بِهَا
كُلُّ صُلْحٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّالِ : رُزِقْتُ مَالًا وَلَمْ
أُرْزَقْ مُرُوءَتَهُ وَمَا الْمُرُوءَةُ إلَّا كَثْرَةُ الْمَالِ إذَا أَرَدْتُ رُقَى
الْعَلْيَاءِ يُقْعِدُنِي عَمَّا يُنَوِّهُ بِاسْمِي رِقَّةُ الْحَالِ وَقِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ الْفَقْرُ مَخْذَلَةٌ ، وَالْغِنَى مَجْدَلَةٌ ، وَالْبُؤْسُ
مَرْذَلَةٌ ، وَالسُّؤَالُ مَبْذَلَةٌ
.
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ : أُقِيمُ بِدَارِ الْحَزْمِ
مَا دَامَ حَزْمُهَا وَأَحْرَى إذَا حَالَتْ بِأَنْ أَتَحَوَّلَا فَإِنِّي وَجَدْتُ
النَّاسَ إلَّا أَقَلَّهُمْ خِفَافَ عُهُودٍ يُكْثِرُونَ التَّثَقُّلَا بَنِي
أُمِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ يَرَوْنَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا سَيِّدَ الْأَمْرِ
جَحْفَلَا وَهُمْ لِمُقِلِّ الْمَالِ أَوْلَادُ عِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ مَحْضًا فِي
الْعَشِيرَةِ مِخْوَلَا وَقَالَ بِشْرٌ الضَّرِيرُ : كَفَى حُزْنًا أَنِّي أَرُوحُ
وَأَغْتَدِي وَمَا لِي مِنْ مَالٍ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأَكْثَرُ مَا أَلْقَى الصَّدِيقَ
بِمَرْحَبًا وَذَلِكَ لَا يَكْفِي الصَّدِيقَ وَلَا يُرْضِي وَقَالَ آخَرُ :
أَجَلَّك قَوْمٌ حِينَ صِرْتَ إلَى الْغِنَى وَكُلُّ غَنِيٍّ فِي الْعُيُونِ
جَلِيلُ وَلَيْسَ الْغِنَى إلَّا غِنًى زَيَّنَ الْفَتَى عَشِيَّةَ يُقْرِي أَوْ
غَدَاةَ يُنِيلُ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ
مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنْ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ ، وَمَا أَبْطَرَ
مِنْ الْغِنَى مَذْمُومٌ ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى تَفْضِيلِ الْغِنَى عَلَى
الْفَقْرِ ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ ، وَالْقُدْرَةُ أَفْضَلُ
مِنْ الْعَجْزِ
.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ
النَّبَاهَةِ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى
الْغِنَى ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ وَالْغَنِيَّ مُلَابِسٌ ، وَتَرْكُ
الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ
السَّلَامَةِ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ
الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ
الْغِنَى ؛ لِيَصِلَ إلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ ، وَيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ الْحَالَيْنِ
، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ ، وَأَنَّ خِيَارَ
الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا .
وَقَدْ مَضَى شَوَاهِدُ كُلِّ فَرِيقٍ فِي مَوْضِعِهِ
بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ
.
وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَطْلُبَ الزِّيَادَةَ
وَيَقْتَنِيَ الْأَمْوَالَ ؛ لِيَدَّخِرَهَا لِوَلَدِهِ ، وَيَخْلُفُهَا عَلَى
وَرَثَتِهِ ، مَعَ شِدَّةِ ضَنِّهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَكَفِّهِ عَنْ صَرْفِ ذَلِكَ
فِي حَقِّهِ ، إشْفَاقًا عَلَيْهِمْ مِنْ كَدْحِ الطَّلَبِ ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ
، وَهَذَا شَقِيٌّ بِجَمْعِهَا ، مَأْخُوذٌ بِوِزْرِهَا ، قَدْ اسْتَحَقَّ
اللَّوْمَ مِنْ وُجُوهٍ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ .
مِنْهَا : سُوءُ ظَنِّهِ بِخَالِقِهِ أَنَّهُ لَا
يَرْزُقُهُمْ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ
.
وَقَدْ قِيلَ : قَتَلَ الْقُنُوطُ صَاحِبَهُ ، وَفِي
حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ رَاحَةُ الْقُلُوبِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : كَيْفَ تَبْقَى عَلَى
حَالَتِكَ وَالدَّهْرُ فِي إحَالَتِكَ
.
وَمِنْهَا : الثِّقَةُ بِبَقَاءِ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ
مَعَ نَوَائِبِ الزَّمَانِ وَمَصَائِبِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : الدَّهْرُ حَسُودٌ لَا يَأْتِي عَلَى
شَيْءٍ إلَّا غَيَّرَهُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمَالُ مَلُولٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الدُّنْيَا إنْ بَقِيَتْ لَك
لَا تَبْقَى لَهَا .
وَمِنْهَا : مَا حُرِمَ مِنْ مَنَافِعِ مَالِهِ ،
وَسُلِبَ مِنْ وُفُورِ حَالِهِ
.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا مَالُك لَك أَوْ لِلْوَارِثِ
أَوْ لِلْجَائِحَةِ فَلَا تَكُنْ أَشْقَى الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ اطْرَحْ كَوَاذِبَ آمَالِك :
وَكُنْ وَارِثَ مَالِك .
وَمِنْهَا : مَا لَحِقَهُ مِنْ شَقَاءِ جَمْعِهِ ،
وَنَالَهُ مِنْ
عَنَاءِ
كَدِّهِ ، حَتَّى صَارَ سَاعِيًا مَحْرُومًا ، وَجَاهِدًا مَذْمُومًا .
وَقَدْ قِيلَ : رُبَّ مَغْبُوطٍ بِمَسَرَّةٍ هِيَ
دَاؤُهُ ، وَمَرْحُومٍ مِنْ سَقَمٍ هُوَ شِفَاؤُهُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَمَنْ كَلَّفَتْهُ النَّفْسُ
فَوْقَ كَفَافِهَا فَمَا يَنْقَضِي حَتَّى الْمَمَاتِ عَنَاؤُهُ وَمِنْهَا : مَا
يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ وِزْرِهِ وَآثَامِهِ ، وَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ مِنْ تَبِعَاتِهِ
وَأَجْرَامِهِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا
ثَقُلَ بُكَاءُ وَلَدِهِ عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ : جَادَ لَكُمْ هِشَامٌ
بِالدُّنْيَا وَجُدْتُمْ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ ، وَتَرَكَ لَكُمْ مَا كَسَبَ
وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ ، مَا أَسْوَأُ حَالِ هِشَامٍ إنْ لَمْ
يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ
فَقَالَ : تَمَتَّعْ بِمَالِك قَبْلَ الْمَمَاتِ وَإِلَّا فَلَا مَالَ إنْ أَنْتَ
مُتَّا شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ لِغَيْرِك بُعْدًا وَسُحْقًا وَمَقْتَا
فَجَادُوا عَلَيْك بِزُورِ الْبُكَاءِ وَجُدْتَ عَلَيْهِمْ بِمَا قَدْ جَمَعْتَا
وَأَرْهَنْتَهُمْ كُلَّ مَا فِي يَدَيْك وَخَلَّوْك رَهْنًا بِمَا قَدْ كَسَبْتَا
وَرُوِيَ أَنَّ { الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِّنِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلٌ
يَكْفِيك خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُرْدِيك ، يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ
نَفْسٌ تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ إمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا ، يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْإِمَارَةَ أَوَّلُهَا نَدَامَةٌ ،
وَأَوْسَطُهَا مَلَامَةٌ ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا مَنْ عَدَلَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كَيْفَ تَعْدِلُونَ مَعَ الْأَقَارِبِ } .
وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : إنِّي أَخَافُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُهُ .
فَقَالَ : إنَّك خَلَّفْتَ مَالَك وَلَوْ قَدَّمْتَهُ
لَسَرَّك اللُّحُوقِ بِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ
كَثْرَةُ مَالِ الْمَيِّتِ تُعَزِّي وَرَثَتَهُ عَنْهُ .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الرُّومِيِّ فَقَالَ
وَزَادَ : أَبْقَيْتَ مَالَك مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أَبْقَى
لَك الْمَالُ الْقَوْمُ بَعْدَك فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ
حَالَتْ بِك الْحَالُ مَلُّوا الْبُكَاءَ فَمَا يُبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ
وَاسْتَحْكَمَ الْقَوْلُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَالُ وَلَّتْهُمْ عَنْك دُنْيَا أَقْبَلَتْ
لَهُمْ وَأَدْبَرَتْ عَنْك وَالْأَيَّامُ أَحْوَالُ وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنْ
يَجْمَعَ الْمَالَ وَيَطْلُبَهُ اسْتِحْلَالًا لِجَمْعِهِ ، وَشَغَفًا
بِاحْتِرَامِهِ .
فَهَذَا أَسْوَأُ النَّاسِ حَالًا فِيهِ ، وَأَشَدُّهُمْ
حُزْنًا لَهُ ، قَدْ تَوَجَّهَتْ إلَيْهِ سَائِرُ الْمَلَاوِمِ حَتَّى صَارَ
وَبَالًا عَلَيْهِ وَمَذَامَّ .
{ وَفِي مِثْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : تَبًّا لِلذَّهَبِ تَبًّا لِلْفِضَّةِ .
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَصْحَابَك
قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا
: أَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ : لِسَانًا ذَاكِرًا
، وَقَلْبًا شَاكِرًا ، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ } .
وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
قَالَ : { مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيَّةٌ .
ثُمَّ مَاتَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ
، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيَّتَانِ } .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
مَاتَ عَلَى عَهْدِهِ مَنْ تَرَكَ أَمْوَالًا جَمَّةً ، وَأَحْوَالًا ضَخْمَةً ،
فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا كَانَ فِي هَذَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَظَاهَرَا
بِالْقَنَاعَةِ وَاحْتَجْنَا مَا لَيْسَ بِهِمَا إلَيْهِ حَاجَةٌ فَصَارَ مَا
احْتَجْنَاهُ
وِزْرًا عَلَيْهِمَا ، وَعِقَابًا لَهُمَا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ وَلَمْ
تَكُنْ ذَا نَدًى فَأَنْتَ إذًا وَالْمُقْتِرُونَ سَوَاءُ عَلَى أَنَّ فِي
الْأَمْوَالِ يَوْمًا تِبَاعَةً عَلَى أَهْلِهَا وَالْمُقْتِرُونَ بَرَاءُ
وَأَنْشَدْتُ عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ
الَّذِي رُزِقَ الْيَسَارَ وَلَمْ يُصِبْ حَمْدًا وَلَا أَجْرًا لَغَيْرُ مُوَفَّقِ
وَالْجِدُّ يُدْنِي كُلَّ شَيْءٍ شَاسِعٍ وَالْجِدُّ يَفْتَحُ كُلَّ بَابٍ
مُغْلَقِ وَأَحَقُّ خَلْقِ اللَّهِ بِالْهَمِّ امْرُؤٌ ذُو هِمَّةٍ عُلْيَا
وَعَيْشٍ ضَيِّقِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ بُؤْسُ
اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ فَإِذَا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَجْدُودًا حَوَى
عُودًا فَأَوْرَقَ فِي يَدَيْهِ فَحَقِّقْ وَإِذَا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَخْذُولًا
أَتَى مَاءً لِيَشْرَبَهُ فَجَفَّ فَصَدِّقْ اللُّبُّ الْعَقْلُ .
تَقُولُ : لَبِيبٌ ذُو لُبٍّ .
وَالْجِدُّ فِي اللُّغَةِ الْحَظُّ ، وَهُوَ الْبَخْتُ ،
وَالْجَدُّ أَيْضًا الْعَظَمَةُ
.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ
رَبِّنَا } .
وَالْجَدُّ مَصْدَرُ جَدَّ الشَّيْءُ إذَا قُطِعَ
وَالْجِدُّ بِالْكَسْرِ الِانْكِمَاشُ فِي الْأُمُورِ أَيْ الِاجْتِهَادُ فِيهَا ،
وَهُوَ أَيْضًا الْحَقُّ ضِدُّ الْهَزْلِ .
وَبِالْحَاءِ إذَا مَنَعَ الرِّزْقَ وَمَجْدٌ مَجْدُودٍ
لَا يُقَالُ فِيهِمَا إلَّا بِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ .
وَآفَةُ مَنْ بُلِيَ بِالْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ ،
وَمُنِيَ بِالْإِمْسَاكِ وَالِادِّخَارِ ، حَتَّى انْصَرَفَ عَنْ رُشْدِهِ فَغَوَى
، وَانْحَرَفَ عَنْ سُنَنِ قَصْدِهِ فَهَوَى ، أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ
وَبُعْدُ الْأَمَلِ فَيَبْعَثُهُ حُبُّ الْمَالِ عَلَى الْحِرْصِ فِي طَلَبِهِ ،
وَيَدْعُوهُ بُعْدُ الْأَمَلِ عَلَى الشُّحِّ بِهِ .
وَالْحِرْصُ وَالشُّحُّ أَصْلٌ لِكُلِّ ذَمٍّ ، وَسَبَبٌ
لِكُلِّ لُؤْمٍ ؛ لِأَنَّ الشُّحَّ يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ ، وَيَبْعَثُ
عَلَى الْقَطِيعَةِ وَالْعُقُوقِ
.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { شَرُّ مَا أُعْطَى الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْغَنِيُّ
الْبَخِيلُ
كَالْقَوِيِّ الْجَبَانِ .
وَأَمَّا الْحِرْصُ فَيَسْلُبُ فَضَائِلَ النَّفْسِ ؛
لِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّوَفُّرِ عَلَى الْعِبَادَةِ ؛
لِتَشَاغُلِهِ عَنْهَا ، وَيَبْعَثُ عَلَى التَّوَرُّطِ فِي الشُّبُهَاتِ ؛ لِقِلَّةِ
تَحَرُّزِهِ مِنْهَا .
وَهَذِهِ الثَّلَاثُ خِصَالُ هُنَّ جَامِعَاتُ الرَّذَائِلِ
، سَالِبَاتُ الْفَضَائِلِ ، مَعَ أَنَّ الْحَرِيصَ لَا يَسْتَزِيدُ بِحِرْصِهِ
زِيَادَةً عَلَى رِزْقِهِ سِوَى إذْلَالِ نَفْسِهِ ، وَإِسْخَاطِ خَالِقِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَرِيصُ الْجَاهِدُ وَالْقَنُوعُ الزَّائِدُ
يَسْتَوْفِيَانِ أَكْلَهُمَا غَيْرُ مُنْتَقِصٍ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَعَلَامَ
التَّهَافُتُ فِي النَّارِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْحِرْصُ مَفْسَدَةٌ
لِلدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ ، وَاَللَّهِ مَا عَرَفْتُ مِنْ وَجْهِ رَجُلٍ حِرْصًا
فَرَأَيْتُ أَنَّ فِيهِ مُصْطَنَعًا
.
وَقَالَ آخَرُ : الْحَرِيصُ أَسِيرُ مَهَانَةٍ لَا
يُفَكُّ أَسْرُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْمَقَادِيرُ
الْغَالِبَةُ لَا تُنَالُ بِالْمُغَالَبَةِ ، وَالْأَرْزَاقُ الْمَكْتُوبَةُ لَا
تُنَالُ بِالشِّدَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ ، فَذَلِّلْ لِلْمَقَادِيرِ نَفْسَك وَاعْلَمْ
بِأَنَّك غَيْرُ نَائِلٍ بِالْحِرْصِ إلَّا حَظَّك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : رُبَّ حَظٍّ أَدْرَكَهُ
غَيْرُ طَالِبِهِ ، وَدُرٍّ أَحْرَزَهُ غَيْرُ جَالِبِهِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ
حَازِمٍ : يَا أَسِيرَ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ فِي غِلِّ الْهَوَانِ إنَّ عِزَّ
الْيَأْسِ خَيْرٌ لَك مِنْ ذُلِّ الْأَمَانِي سَامِحْ الدَّهْرَ إذَا عَزَّ وَخُذْ
صَفْوَ الزَّمَانِ إنَّمَا أُعْدِمَ ذُو الْحِرْصِ وَأُثْرِيَ ذُو الْتَوَانِي وَلَيْسَ
لِلْحَرِيصِ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ يَقِفُ عِنْدَهَا ، وَلَا نِهَايَةٌ مَحْدُودَةٌ
يَقْنَعُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ بِالْحِرْصِ إلَى مَا أَمَّلَ أَغْرَاهُ
ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْحِرْصِ وَالْأَمَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَأَى إضَاعَةَ
الْغِنَى لُؤْمًا ، وَالصَّبْرَ عَلَيْهِ حَزْمًا ، وَصَارَ بِمَا سَلَفَ مِنْ
رَجَائِهِ أَقْوَى رَجَاءً وَأَبْسَطَ أَمَلًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مَعَهُ
خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ } .
وَقِيلَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : مَا بَالُ
الْمَشَايِخِ أَحْرِصُ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الشَّبَابِ ؟ قَالَ : ؛ لِأَنَّهُمْ
ذَاقُوا مِنْ طَعْمِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَذُقْهُ الشَّبَابُ .
وَلَوْ صَدَقَ الْحَرِيصُ نَفْسَهُ وَاسْتَنْصَحَ
عَقْلَهُ لَعَلِمَ أَنَّ مِنْ تَمَامِ السَّعَادَةِ وَحُسْنِ التَّوْفِيقِ
الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَنَاعَةَ بِالْقَسْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اقْتَصِدُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ مَا رُزِقْتُمُوهُ
أَشَدُّ طَلَبًا لَكُمْ مِنْكُمْ لَهُ وَمَا حُرِمْتُمُوهُ فَلَنْ تَنَالُوهُ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ } .
وَرُوِيَ
{ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
: إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ
لَك : اقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ
إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا
يُنَادِي : مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ
عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتِ } .
وَقِيلَ : مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ : رُدُّوا
أَبْصَارَكُمْ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا شُغْلًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : {
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قَالَ : بِالْقَنَاعَةِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ بَاعَ الْحِرْصَ
بِالْقَنَاعَةِ ظَفَرَ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : قَدْ يَخِيبُ الْجَاهِدُ
السَّاعِي ، وَيَظْفَرُ الْوَادِعُ الْهَادِي .
فَأَخَذَهُ الْبُحْتُرِيُّ فَقَالَ : لَمْ أَلْقَ
مَقْدُورًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ فِي الْحَظِّ إمَّا نَاقِصًا أَوْ زَائِدَا
وَعَجِبْتُ لِلْمَحْدُودِ يُحْرَمُ نَاصِبًا كَلَفًا وَلِلْمَجْدُودِ يَغْنَمُ
قَاعِدَا مَا خَطْبُ مَنْ حُرِمَ الْإِرَادَةَ قَاعِدًا
خَطْبُ
الَّذِي حُرِمَ الْإِرَادَةَ جَاهِدَا وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ مَنْ
قَنَعَ كَانَ غَنِيًّا وَإِنْ كَانَ مُقْتِرًا ، وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ كَانَ فَقِيرًا
وَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ إذَا طَلَبْتَ الْعِزَّ
فَاطْلُبْهُ بِالطَّاعَةِ ، وَإِذَا طَلَبْتَ الْغِنَى فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ
، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنَّ نَصْرُهُ ، وَمَنْ لَزِمَ
الْقَنَاعَةَ زَالَ فَقْرُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْقَنَاعَةُ عِزُّ
الْمُعْسِرِ ، وَالصَّدَقَةُ حِرْزُ الْمُوسِرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إنِّي أَرَى مَنْ لَهُ
قُنُوعٌ يُدْرِكُ مَا نَالَ أَوْ تَمَنَّى وَالرِّزْقُ يَأْتِي بِلَا عَنَاءٍ
وَرُبَّمَا فَاتَ مَنْ تَعَنَّى وَالْقَنَاعَةُ قَدْ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ .
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَقْنَعَ بِالْبُلْغَةِ
مِنْ دُنْيَاهُ ، وَيَصْرِفَ نَفْسَهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِمَا سِوَاهُ .
وَهَذَا أَعْلَى مَنَازِلِ الْقَنَاعَةِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا
فَلَا تَكُنْ عَلَى حَالَةٍ إلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ
دِينَارٍ : أَزْهَدُ النَّاسِ مَنْ لَا تَتَجَاوَزُ رَغْبَتُهُ مِنْ الدُّنْيَا بُلْغَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الرِّضَى بِالْكَفَافِ
يُؤَدِّي إلَى الْعَفَافِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : يَا رُبَّ ضَيِّقٍ
أَفْضَلِ مِنْ سَعَةٍ ، وَعَنَاءٍ خَيْرٍ مِنْ دَعَةٍ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهِهِ - : أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ
كُلَّ عِزٍّ وَأَيُّ غِنًى أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِك
رَأْسَ مَالٍ وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ تَحَرَّزْ حِينَ تَغْنَى عَنْ
بِخَيْلٍ وَتَنَعَّمْ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي :
أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ الْقَنَاعَةُ إلَى الْكِفَايَةِ ، وَيَحْذِفُ الْفُضُولَ
وَالزِّيَادَةَ .
وَهَذِهِ أَوْسَطُ حَالِ الْمُقْتَنِعِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزْقِهِ حِجَابٌ ،
فَإِنْ قَنَعَ وَاقْتَصَدَ أَتَاهُ رِزْقُهُ ،
وَإِنْ
هَتَكَ الْحِجَابَ لَمْ يَزِدْ فِي رِزْقِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا فَوْقَ الْكَفَافِ
إسْرَافٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ رَضِيَ
بِالْمَقْدُورِ قَنَعَ بِالْمَيْسُورِ
.
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : تَطْلُبُ الْأَكْثَرَ فِي
الدُّنْيَا وَقَدْ تَبْلُغُ الْحَاجَةَ مِنْهَا بِالْأَقَلِّ وَأَنْشَدْتُ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُدَبَّرِ : إنَّ الْقَنَاعَةَ وَالْعَفَافَ لَيُغْنِيَانِ
عَنْ الْغِنَى فَإِذَا صَبَرْتَ عَنْ الْمُنَى فَاشْكُرْ فَقَدْ نِلْتَ الْمُنَى
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ الْقَنَاعَةُ إلَى الْوُقُوفِ
عَلَى مَا سَنَحَ فَلَا يَكْرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ، وَلَا
يَطْلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا .
وَهَذِهِ الْحَالُ أَدْنَى مَنَازِلِ أَهْلِ
الْقَنَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ .
أَمَّا الرَّغْبَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَكْرَهُ
الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا سَنَحَتْ .
وَأَمَّا الرَّهْبَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ
الْمُتَعَذَّرَ عَنْ نُقْصَانِ الْمَادَّةِ إذَا تَعَذَّرَتْ .
وَفِي مِثْلِهِ قَالَ ذُو النُّونِ - رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ - : مَنْ كَانَتْ قَنَاعَتُهُ سَمِينَةً طَابَتْ لَهُ كُلُّ مَرَقَةٍ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ ،
عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الدُّنْيَا دُوَلٌ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَك أَتَاك
عَلَى ضَعْفِك ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْك لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِك ، وَمَنْ
انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِمَّا فَاتَ اسْتَرَاحَ بَدَنُهُ ، وَمَنْ رَضِيَ بِمَا
رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرَّتْ عَيْنُهُ } .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ وَجَدْتُ شَيْئَيْنِ
: شَيْئًا هُوَ لِي لَنْ أَعْجَلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ وَلَوْ طَلَبْتُهُ بِقُوَّةِ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَشَيْئًا هُوَ لِغَيْرِي وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ
أَنَلْهُ فِيمَا مَضَى وَلَا أَنَالُهُ فِيمَا بَقِيَ يَمْنَعُ الَّذِي لِي مِنْ غَيْرِي
كَمَا يَمْنَعُ الَّذِي لِغَيْرِي مِنِّي ، فَفِي أَيِّ هَذَيْنِ أُفْنِي عُمْرِي
وَأُهْلِكُ نَفْسِي .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : لَا تَأْخُذُونِي
بِالزَّمَانِ وَلَيْسَ لِي
تَبَعًا وَلَسْتُ
عَلَى الزَّمَانِ كَفِيلَا مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ رَوْضَ
الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولَا لَوْ جَارَ سُلْطَانُ الْقُنُوعِ وَحُكْمِهِ
فِي الْخَلْقِ مَا كَانَ الْقَلِيلُ قَلِيلَا الرِّزْقُ لَا تَكْمَدْ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ يَأْتِي وَلَمْ تَبْعَثْ عَلَيْهِ رَسُولَا وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْأَدَبِ لِابْنِ الرُّومِيِّ : جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ
فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ جُنُونٌ مِنْك أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ وَيُرْزَقُ
فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَ
مَسْئُولٍ ، وَأَفْضَلَ مَأْمُولٍ ، أَنْ يُحْسِنَ إلَيْنَا التَّوْفِيقَ فِيمَا
مَنَحَ ، وَيَصْرِفَ عَنَّا الرَّغْبَةَ فِيمَا مَنَعَ ؛ اسْتِكْفَافًا
لِتَبِعَاتِ الثَّرْوَةِ ، وَمُوبِقَاتِ الشَّهْوَةِ .
رَوَى شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ ، عَنْ أَبِي الْجِذْعِ
، عَنْ أَعْمَامِهِ وَأَجْدَادِهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ أُمَّتِي الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا حَتَّى
يَبْطَرُوا ، وَلَمْ يُقْتِرُوا حَتَّى يَسْأَلُوا } وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ :
عِنْدِي مِنْ الْأَيَّامِ مَا لَوْ أَنَّهُ أَضْحَى بِشَارِبٍ مُرْقِدٍ مَا
غَمَّضَا لَا تَطْلُبَنَّ الرِّزْقَ بَعْدَ شِمَاسِهِ فَتَرُومَهُ شِبَعًا إذَا
مَا غَيَّضَا مَا عُوِّضَ الصَّبْرَ امْرُؤٌ إلَّا رَأَى مَا فَاتَهُ دُونَ
الَّذِي قَدْ عُوِّضَا
الْبَابُ
الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ اعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى شِيَمٍ
مُهْمَلَةٍ ، وَأَخْلَاقٍ مُرْسَلَةٍ ، لَا يَسْتَغْنِي مَحْمُودُهَا عَنْ
التَّأْدِيبِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْمُرْضِي مِنْهَا عَنْ التَّهْذِيبِ ؛ لِأَنَّ
لِمَحْمُودِهَا أَضْدَادًا مُقَابِلَةً يُسْعِدُهَا هَوًى مُطَاعٌ وَشَهْوَةٌ
غَالِبَةٌ ، فَإِنْ أَغْفَلَ تَأْدِيبَهَا تَفْوِيضًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ
تَوَكُّلًا عَلَى أَنْ تَنْقَادَ إلَى الْأَحْسَنِ بِالطَّبْعِ أَعْدَمَهُ
التَّفْوِيضُ دَرَكَ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَأَعْقَبَهُ التَّوَكُّلُ نَدَمَ
الْخَائِبِينَ ، فَصَارَ مِنْ الْأَدَبِ عَاطِلًا ، وَفِي صُورَةِ الْجَهْلِ
دَاخِلًا ؛ لِأَنَّ الْأَدَبَ مُكْتَسَبٌ بِالتَّجْرِبَةِ ، أَوْ مُسْتَحْسَنٌ
بِالْعَادَةِ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مُوَاضَعَةٌ .
وَذَلِكَ لَا يُنَالُ بِتَوْقِيفِ الْعَقْلِ وَلَا
بِالِانْقِيَادِ لِلطَّبْعِ حَتَّى يُكْتَسَبَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُعَانَاةِ ،
وَيُسْتَفَادَ بِالدُّرْبَةِ وَالْمُعَاطَاةِ .
ثُمَّ يَكُونُ الْعَقْلُ عَلَيْهِ قَيِّمًا وَزَكِيُّ
الطَّبْعِ إلَيْهِ مُسَلِّمًا .
وَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ مُغْنِيًا عَنْ الْأَدَبِ
لَكَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَدَبِهِ مُسْتَغْنِينَ ،
وَبِعُقُولِهِمْ مُكْتَفِينَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ } .
وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : مَنْ أَدَّبَك ؟ قَالَ : مَا أَدَّبَنِي أَحَدٌ
وَلَكِنِّي رَأَيْتُ جَهْلَ الْجَاهِلِ فَجَانَبْتُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَهَا
وَصْلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ ، فَحَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَتَّصِلَ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى بِخُلُقٍ مِنْهَا .
وَقَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ : مِنْ فَضِيلَةِ
الْأَدَبِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ بِكُلِّ لِسَانٍ ، وَمُتَزَيَّنٌ بِهِ فِي كُلِّ
مَكَان ، وَبَاقٍ ذِكْرُهُ عَلَى أَيَّامِ الزَّمَانِ .
وَقَالَ مَهْبُودٌ : شُبِّهَ الْعَالِمُ الشَّرِيفُ
الْقَدِيمُ الْأَدَبِ بِالْبُنْيَانِ الْخَرَابِ الَّذِي كُلَّمَا عَلَا سُمْكُهُ
كَانَ أَشَدَّ
لِوَحْشَتِهِ
وَبِالنَّهْرِ الْيَابِسِ الَّذِي كُلَّمَا كَانَ أَعْرَضَ وَأَعْمَقَ كَانَ
أَشَدَّ لِوُعُورَتِهِ ، وَبِالْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ الْمُعَطَّلَةِ الَّتِي
كُلَّمَا طَالَ خَرَابُهَا ازْدَادَ نَبَاتُهَا غَيْرَ الْمُنْتَفَعِ بِهِ
الْتِفَافًا وَصَارَ لِلْهَوَامِّ مَسْكَنًا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : مَا نَحْنُ إلَى مَا
نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَوَاسِّنَا مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجِ
مِنَّا إلَى الْأَدَبِ الَّذِي هُوَ لِقَاحُ عُقُولِنَا ، فَإِنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ
فِي الثَّرَى لَا تَقْدِرُ أَنْ تَطْلُعَ زَهْرَتُهَا وَنَضَارَتُهَا إلَّا
بِالْمَاءِ الَّذِي يَعُودُ إلَيْهَا مِنْ مُسْتَوْدَعِهَا .
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
أَعْرَابِيًّا قَالَ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ الْعَقْلُ بِلَا أَدَبٍ كَالشَّجَرِ
الْعَاقِرِ ، وَمَعَ الْأَدَبِ دِعَامَةٌ أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا الْأَلْبَابَ ،
وَحِلْيَةٌ زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا عَوَاطِلَ الْأَحْسَابِ ، فَالْعَاقِلُ لَا
يَسْتَغْنِي وَإِنْ صَحَّتْ غَرِيزَتُهُ ، عَنْ الْأَدَبِ الْمُخْرِجِ زَهْرَتُهُ
، كَمَا لَا تَسْتَغْنِي الْأَرْضُ وَإِنْ عَذُبَتْ تُرْبَتُهَا عَنْ الْمَاءِ
الْمُخْرِجِ ثَمَرَتُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْأَدَبُ صُورَةُ
الْعَقْلِ فَصَوِّرْ عَقْلَك كَيْفَ شِئْتَ .
وَقَالَ آخَرُ : الْعَقْلُ بِلَا أَدَبٍ كَالشَّجَرِ
الْعَاقِرِ ، وَمَعَ الْأَدَبِ كَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ .
وَقِيلَ الْأَدَبُ أَحَدُ الْمَنْصِبَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءُ : الْفَضْلُ بِالْعَقْلِ
وَالْأَدَبِ ، لَا بِالْأَصْلِ وَالْحَسَبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ سَاءَ أَدَبُهُ ضَاعَ
نَسَبُهُ ، وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءُ : ذَكِّ قَلْبَك بِالْأَدَبِ كَمَا
تُذَكَّى النَّارُ بِالْحَطَبِ ، وَاِتَّخِذْ الْأَدَبَ غُنْمًا ، وَالْحِرْصَ
عَلَيْهِ حَظًّا ، يَرْتَجِيكَ رَاغِبٌ ، وَيَخَافُ صَوْلَتَك رَاهِبٌ ،
وَيُؤَمِّلُ نَفْعَكَ ، وَيُرْجَى عَدْلُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْأَدَبُ وَسِيلَةٌ إلَى
كُلِّ فَضِيلَةٍ ، وَذَرِيعَةٌ إلَى كُلِّ شَرِيعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : الْأَدَبُ يَسْتُرُ قَبِيحَ
النَّسَبِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ فِيهِ : فَمَا خَلَقَ
اللَّهُ
مِثْلَ الْعُقُولِ
وَلَا اكْتَسَبَ النَّاسُ مِثْلَ الْأَدَبْ وَمَا كَرَمُ الْمَرْءِ إلَّا التُّقَى
وَلَا حَسَبُ الْمَرْءِ إلَّا النَّسَبْ وَفِي الْعِلْمِ زَيْنٌ لِأَهْلِ الْحِجَا
وَآفَةُ ذِي الْحِلْمِ طَيْشُ الْغَضَبْ وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَإِنْ يَكُ الْعَقْلُ مَوْلُودًا فَلَسْتُ أَرَى ذَا الْعَقْلِ
مُسْتَغْنِيًا عَنْ حَادِثِ الْأَدَبْ إنِّي رَأَيْتُهُمَا كَالْمَاءِ مُخْتَلِطًا
بِالتُّرْبِ تَظْهَرُ مِنْهُ زَهْرَةُ الْعُشَبْ وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَتْهُ فِي
مَوَالِدِهِ غَرِيزَةُ الْعَقْلِ حَاكَى الْبُهْمَ فِي الْحَسَبْ وَالتَّأْدِيبُ
يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا لَزِمَ الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ فِي
صِغَرِهِ .
وَالثَّانِي مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ
نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ .
فَأَمَّا التَّأْدِيبُ اللَّازِمُ لِلْأَبِ فَهُوَ أَنْ
يَأْخُذَ وَلَدَهُ بِمَبَادِئِ الْآدَابِ لِيَأْنَسَ بِهَا ، وَيَنْشَأَ عَلَيْهَا
، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا عِنْدَ الْكِبْرِ لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَبَادِئِهَا
فِي الصِّغَرِ ؛ لِأَنَّ نُشُوءَ الصِّغَرِ عَلَى الشَّيْءِ يَجْعَلُهُ
مُتَطَبِّعًا بِهِ .
وَمَنْ أُغْفِلَ تَأْدِيبُهُ فِي الصِّغَرِ كَانَ
تَأْدِيبُهُ فِي الْكِبَرِ عَسِيرًا
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نِحْلَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ
حَسَنٍ يُفِيدُهُ إيَّاهُ ، أَوْ جَهْلٍ قَبِيحٍ يَكْفِهِ عَنْهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بَادِرُوا بِتَأْدِيبِ
الْأَطْفَالِ قَبْلَ تَرَاكُمِ الْأَشْغَالِ وَتَفَرُّقِ الْبَالِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْغُصُونَ إذَا
قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ وَلَا يَلِينُ إذَا قَوَّمْتَهُ الْخَشَبُ قَدْ يَنْفَعُ
الْأَدَبُ الْأَحْدَاثَ فِي صِغَرٍ وَلَيْسَ يَنْفَعُ عِنْدَ الشَّيْبَةِ
الْأَدَبُ وَقَالَ آخَرُ : يَنْشُو الصَّغِيرُ عَلَى مَا كَانَ وَالِدُهُ إنَّ الْأُصُولَ
عَلَيْهَا تَنْبُتُ الشَّجَرُ وَأَمَّا الْأَدَبُ اللَّازِمُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ
نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ فَأَدَبَانِ : أَدَبُ مُوَاضَعَةٍ وَاصْطِلَاحٍ ، وَأَدَبُ
رِيَاضَةٍ وَاسْتِصْلَاحٍ .
فَأَمَّا أَدَبُ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ
فَيُؤْخَذُ
تَقْلِيدًا
عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْعُقَلَاءِ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ
اسْتِحْسَانُ الْأُدَبَاءِ .
وَلَيْسَ لِاصْطِلَاحِهِمْ عَلَى وَضْعِهِ تَعْلِيلٌ
مُسْتَنْبَطٌ ، وَلَا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ مُوجِبٌ ،
كَاصْطِلَاحِهِمْ عَلَى مُوَاضَعَاتِ الْخِطَابِ ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى
هَيْئَاتِ اللِّبَاسِ ، حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ الْآنَ إذَا تَجَاوَزَ مَا اتَّفَقُوا
عَلَيْهِ مِنْهَا صَارَ مُجَانِبًا لِلْأَدَبِ ، مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ .
لِأَنَّ فِرَاقَ الْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ ، وَمُجَانَبَةَ
مَا صَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِالْمُوَاضَعَةِ ، مُفْضٍ إلَى اسْتِحْقَاقِ
الذَّمِّ بِالْعَقْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَتِهِ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ
وَمَعْنًى حَادِثٌ .
وَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يُوضَعَ
ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيَرَوْنَهُ حَسَنًا ، وَيَرَوْنَ
مَا سِوَاهُ قَبِيحًا ، فَصَارَ هَذَا مُشَارِكًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ مِنْ
حَيْثُ تَوَجُّهُ الذَّمِّ عَلَى تَارِكِهِ وَمُخَالِفًا لَهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ
كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يُوضَعَ عَلَى خِلَافِهِ .
وَأَمَّا أَدَبُ الرِّيَاضَةِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فَهُوَ
مَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى حَالٍ لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ
بِخِلَافِهَا ، وَلَا أَنْ تَخْتَلِفَ الْعُقَلَاءُ فِي صَلَاحِهَا وَفَسَادِهَا .
وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْلِيلُهُ بِالْعَقْلِ
مُسْتَنْبَطٌ ، وَوُضُوحُ صِحَّتِهِ بِالدَّلِيلِ مُرْتَبِطٌ .
وَلِلنَّفْسِ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ شَاهِدٌ
أَلْهَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى إرْشَادًا لَهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بَيَّنَ لَهَا مَا
تَأْتِي مِنْ الْخَيْرِ وَتَذَرُ مِنْ الشَّرِّ .
وَسَنَذْكُرُ تَعْلِيلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ ،
فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهِ وَأَحَقُّ
.
فَأَوَّلُ مُقَدَّمَاتِ أَدَبِ الرِّيَاضَةِ
وَالِاسْتِصْلَاحِ أَنْ لَا يَسْبِقَ إلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ ، فَيَخْفَى
عَنْهُ مَذْمُومُ شِيَمِهِ وَمَسَاوِئُ أَخْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ
بِالشَّهَوَاتِ آمِرَةٌ ، وَعَنْ الرُّشْدِ زَاجِرَةٌ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْدَى
أَعْدَائِك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك ، ثُمَّ أَهْلُك ، ثُمَّ عِيَالُك } .
وَدَعَتْ أَعْرَابِيَّةٌ لِرَجُلٍ فَقَالَتْ : كَبَتَ
اللَّهُ كُلَّ عَدُوٍّ لَك إلَّا نَفْسَك .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : قَلْبِي إلَى
مَا ضَرَّنِي دَاعِي يُكْثِرُ أَسْقَامِي وَأَوْجَاعِي كَيْفَ احْتِرَاسِي مِنْ
عَدُوِّي إذَا كَانَ عَدُوِّي بَيْنَ أَضْلَاعِي فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ
كَذَلِكَ فَحُسْنُ الظَّنِّ بِهَا ذَرِيعَةٌ إلَى تَحْكِيمِهَا ، وَتَحْكِيمُهَا
دَاعٍ إلَى سَلَاطَتِهَا وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ بِهَا .
فَإِذَا صَرَفَ حُسْنَ الظَّنِّ عَنْهَا وَتَوَسَّمَهَا
بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّسْوِيفِ وَالْمَكْرِ فَازَ بِطَاعَتِهَا ،
وَانْحَازَ عَنْ مَعْصِيَتِهَا
.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الْعَاجِزُ مَنْ عَجَزَ عَنْ سِيَاسَةِ نَفْسِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ سَاسَ نَفْسَهُ
سَادَ نَاسَهُ .
فَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ
النَّاسُ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّهَامِ طَاعَتِهَا
، وَرَدِّ مُنَاصَحَتِهَا .
فَإِنَّ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَ لَهَا مَكْرٌ يُرْدِي
فَلَهَا نُصْحٌ يُهْدِي .
فَلَمَّا كَانَ حُسْنُ الظَّنِّ بِهَا يُعْمِي عَنْ
مَسَاوِئِهَا ، كَانَ سُوءُ الظَّنِّ بِهَا يُعْمِي عَنْ مَحَاسِنِهَا .
وَمَنْ عَمِيَ عَنْ مَحَاسِنِ نَفْسِهِ كَانَ كَمَنْ
عَمِيَ عَنْ مَسَاوِئِهَا ، فَلَمْ يَنْفِ عَنْهَا قَبِيحًا وَلَمْ يَهْدِ
إلَيْهَا حَسَنًا .
وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ :
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي التُّهْمَةِ لِنَفْسِهِ مُعْتَدِلًا ، وَفِي حُسْنِ
الظَّنِّ بِهَا مُقْتَصِدًا ، فَإِنَّهُ إنْ تَجَاوَزَ مِقْدَارَ الْحَقِّ فِي التُّهْمَةِ
ظَلَمَهَا فَأَوْدَعَهَا ذِلَّةَ الْمَظْلُومِينَ ، وَإِنْ تَجَاوَزَ بِهَا
الْحَقَّ فِي مِقْدَارِ حُسْنِ الظَّنِّ أَوْدَعَهَا تَهَاوُنَ الْآمَنِينَ ،
وَلِكُلِّ ذَلِكَ مِقْدَارٌ مِنْ الشُّغْلِ ، وَلِكُلِّ شُغْلٍ مِقْدَارٌ مِنْ
الْوَهْنِ ، وَلِكُلِّ وَهْنٍ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَهْلِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
كَانَ
لِغَيْرِهِ
أَظْلَمَ ، وَمَنْ هَدَمَ دِينَهُ كَانَ لِمَجْدِهِ أَهْدَمَ .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِهَا
أَبْلُغُ فِي صَلَاحِهَا ، وَأَوْفَرُ فِي اجْتِهَادِهَا ؛ لِأَنَّ لِلنَّفْسِ
جَوْرًا لَا يَنْفَكُّ إلَّا بِالسَّخَطِ عَلَيْهَا ، وَغُرُورًا لَا يَنْكَشِفُ
إلَّا بِالتُّهْمَةِ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ تَجُورُ إدْلَالًا وَتَغُرُّ
مَكْرًا ، فَإِنْ لَمْ يُسِئْ الظَّنَّ بِهَا غَلَبَ عَلَيْهِ جَوْرُهَا ،
وَتَمَوَّهَ عَلَيْهِ غُرُورُهَا فَصَارَ بِمَيْسُورِهَا قَانِعًا ،
وَبِالشُّبْهَةِ مِنْ أَفْعَالِهَا رَاضِيًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ
أَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ .
وَقَالَ كُشَاجِمُ : لَمْ أَرْضَ عَنْ نَفْسِي مَخَافَةَ
سُخْطِهَا وَرِضَا الْفَتَى عَنْ نَفْسِهِ إغْضَابُهَا وَلَوْ أَنَّنِي عَنْهَا
رَضِيتُ لَقَصَّرَتْ عَمَّا تَزِيدُ بِمِثْلِهِ آدَابُهَا وَتَبَيَّنَتْ آثَارَ ذَاكَ
فَأَكْثَرَتْ عَذْلِي عَلَيْهِ فَطَالَ فِيهِ عِتَابُهَا وَقَدْ اُسْتُحْسِنَ
قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ : وَيُسِيءُ بِالْإِحْسَانِ ظَنًّا لَا كَمَنْ
هُوَ بِابْنِهِ وَبِشَعْرِهِ مَفْتُونُ فَلَمْ يَرَوْا إسَاءَةَ ظَنِّهِ
بِالْإِحْسَانِ ذَمًّا وَلَا اسْتِقْلَالَ عِلْمِهِ لَوْمًا ، بَلْ رَأَوْا ذَلِكَ
أَبْلَغَ فِي الْفَضْلِ وَأَبْعَثَ عَلَى الِازْدِيَادِ فَإِذَا عَرَفَ مِنْ
نَفْسِهِ مَا تُجِنُّ ، وَتَصَوَّرَ مِنْهَا مَا تُكِنُّ ، وَلَمْ يُطَاوِعْهَا فِيمَا
تُحِبُّ إذَا كَانَ غَيًّا ، وَلَا صَرَفَ عَنْهَا مَا تَكْرَهُ إذَا كَانَ
رُشْدًا ، فَقَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي مِلْكِهَا ، وَغَلَبَهَا بَعْدَ
أَنْ كَانَ فِي غَلْبِهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ } .
وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : إذَا عَصَتْكَ
نَفْسُك فِيمَا كَرِهْتَ فَلَا تُطِعْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ ، وَلَا يَغُرَّنَّك
ثَنَاءٌ مَنْ جَهِلَ أَمْرَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ قَوِيَ عَلَى
نَفْسِهِ تَنَاهَى فِي الْقُوَّةِ ، وَمَنْ صَبَرَ عَنْ شَهْوَتِهِ بَالَغَ فِي
الْمُرُوَّةِ .
فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ نَفْسَهُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ
مَا
أَكَنَّتْ ، وَخِبْرَةِ مَا أَجَنَّتْ بِتَقْوِيمِ عِوَجِهَا وَإِصْلَاحِ
فَسَادِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّهَا قَالَتْ { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ ؟
قَالَ إذَا عَرَفَ نَفْسَهُ } .
ثُمَّ يُرَاعِي مِنْهَا مَا صَلُحَ وَاسْتَقَامَ مِنْ زَيْعٍ
يَحْدُثُ عَنْ إغْفَالٍ ، أَوْ مَيْلٍ يَكُونُ عَنْ إهْمَالٍ ؛ لِيَتِمَّ لَهُ
الصَّلَاحُ وَتَسْتَدِيمَ لَهُ السَّعَادَةُ ، فَإِنَّ الْمُغَفَّلَ بَعْدَ
الْمُعَانَاةِ ضَائِعٌ ، وَالْمُهْمِلَ بَعْدَ الْمُرَاعَاةِ زَائِغٌ .
وَسَنَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ أَدَبِ الرِّيَاضَةِ
وَالِاسْتِصْلَاحِ فُصُولًا تَحْتَوِي عَلَى مَا يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ
الْأَخْلَاقِ ، وَيَجِبُ مُعَانَاتُهُ مِنْ الْأَدَبِ ، وَهِيَ سِتَّةُ فُصُولٍ
مُتَفَرِّعَةٍ .
مُجَانَبَةُ
الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مُجَانَبَةِ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ
: لِأَنَّهُمَا يَسْلُبَانِ الْفَضَائِلَ ، وَيُكْسِبَانِ الرَّذَائِلَ .
وَلَيْسَ لِمَنْ اسْتَوْلَيَا عَلَيْهِ إصْغَاءٌ لِنُصْحٍ
، وَلَا قَبُولٌ لِتَأْدِيبٍ ؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ بِالْمَنْزِلَةِ ،
وَالْعُجْبَ يَكُونُ بِالْفَضِيلَةِ
.
فَالْمُتَكَبِّرُ يُجِلُّ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ
الْمُتَعَلِّمِينَ ، وَالْمُعْجَبُ يَسْتَكْثِرُ فَضْلَهُ عَنْ اسْتِزَادَةِ
الْمُتَأَدِّبِينَ .
فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ فِيهِمَا
بِإِبَانَةِ مَا يُكْسِبَانِهِ مِنْ ذَمٍّ ، وَيُوجِبَانِهِ مِنْ لَوْمٍ .
فَنَقُولُ :
أَمَّا الْكِبْرُ فَيُكْسِبُ الْمَقْتَ وَيُلْهِي عَنْ
التَّأَلُّفِ وَيُوغِرُ صُدُورَ الْإِخْوَانِ ، وَحَسْبُك بِذَلِكَ سُوءًا عَنْ اسْتِقْصَاءِ
ذَمِّهِ .
وَلِذَلِكَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَنْهَاك عَنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَالْكِبْرِ
، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْتَجِبُ مِنْهُمَا } .
وَقَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ : مَا الْكِبْرُ إلَّا
فَضْلُ حُمْقٍ لَمْ يَدْرِ صَاحِبُهُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِهِ فَيَصْرِفُهُ إلَى
الْكِبْرِ .
وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَ بِالْحَقِّ .
وَحُكِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشِّخِّيرِ نَظَرَ إلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ
يَسْحَبُهَا وَيَمْشِي الْخُيَلَاءَ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مَا
هَذِهِ الْمِشْيَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ فَقَالَ الْمُهَلَّبُ
: أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ فَقَالَ : بَلْ أَعْرِفُك ، أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ ،
وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ ، وَحَشْوُك فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بَوْلٌ وَعَذِرَةٌ .
فَأَخَذَ ابْنُ عَوْفٍ هَذَا الْكَلَامَ فَنَظَمَهُ
شِعْرًا فَقَالَ : عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ وَكَانَ بِالْأَمْسِ
نُطْفَةً مَذِرَهْ وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِهِ يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ
جِيفَةً قَذِرَهْ وَهُوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوَتِهِ مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ
يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ وَقَدْ كَانَ الْمُهَلَّبُ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَخْدَعَ
نَفْسَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ غَيْرِ الصَّوَابِ ، وَلَكِنَّهَا زَلَّةٌ مِنْ
زَلَّاتِ
الِاسْتِرْسَالِ
، وَخَطِيئَةٌ مِنْ خَطَايَا الْإِدْلَالِ .
فَأَمَّا الْحُمْقُ الصَّرِيحُ ، وَالْجَهْلُ الْقَبِيحُ
، فَهُوَ مَا حُكِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَلَسَ فِي
حَلْقَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ يُقْرِئُ النَّاسَ
، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ جَلَسْتُ إلَيْكُمْ ؟ قَالُوا :
جَلَسْتَ لِتَسْمَعَ .
قَالَ : لَا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَتَوَاضَعَ
لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ إلَيْكُمْ
.
فَهَلْ يُرْجَى مِنْ هَذَا فَضْلٌ أَوْ يَنْفَعُ فِيهِ
عَذَلٌ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : لَمَّا عَرَفَ أَهْلُ النَّقْصِ
حَالَهُمْ عِنْدَ ذَوِي الْكَمَالِ اسْتَعَانُوا بِالْكِبْرِ لِيُعَظِّمَ صَغِيرًا
، وَيَرْفَعَ حَقِيرًا ، وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ .
وَأَمَّا الْإِعْجَابُ فَيُخْفِي الْمَحَاسِنَ
وَيُظْهِرُ الْمَسَاوِئَ وَيُكْسِبُ الْمَذَامَّ وَيَصُدُّ عَنْ الْفَضَائِلِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعُجْبَ لَيَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ
النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : الْإِعْجَابُ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الْأَلْبَابِ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : النِّعْمَةُ الَّتِي لَا
يُحْسَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّوَاضُعُ ، وَالْبَلَاءُ الَّذِي لَا يُرْحَمُ
صَاحِبُهُ مِنْهُ الْعُجْبُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عُجْبُ الْمَرْءِ
بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ
.
وَلَيْسَ إلَى مَا يُكْسِبُهُ الْكِبْرُ مِنْ الْمَقْتِ
حَدٌّ ، وَلَا إلَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعُجْبُ مِنْ الْجَهْلِ غَايَةٌ ، حَتَّى
إنَّهُ لَيُطْفِئَ مِنْ الْمَحَاسِنِ مَا انْتَشَرَ ، وَيَسْلُبَ مِنْ الْفَضَائِلِ
مَا اشْتَهَرَ .
وَنَاهِيَك بِسَيِّئَةٍ تُحْبِطُ كُلَّ حَسَنَةٍ
وَبِمَذَمَّةِ تَهْدِمُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ، مَعَ مَا يُثِيرُهُ مِنْ حَنَقٍ
وَيُكْسِبُهُ مِنْ حِقْدٍ .
حَكَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ : قِيلَ لِلْحَجَّاجِ
كَيْفَ وَجَدْت مَنْزِلَك بِالْعِرَاقِ ؟ قَالَ : خَيْرُ مَنْزِلٍ لَوْ كَانَ
اللَّهُ بَلَّغَنِي قَتْلَ أَرْبَعَةٍ فَتَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بِدِمَائِهِمْ :
مُقَاتِلُ بْنُ مُسْمِعٍ وَلِي سِجِسْتَانَ فَأَتَاهُ النَّاسُ
فَأَعْطَاهُمْ
الْأَمْوَالَ ، فَلَمَّا عُزِلَ دَخَلَ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ فَبَسَطَ النَّاسُ
لَهُ أَرْدِيَتَهُمْ فَمَشَى عَلَيْهَا ، وَقَالَ لِرَجُلٍ يُمَاشِيهِ : لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ
الْعَامِلُونَ .
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّيْمِيُّ
خَوَّفَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَمْرٌ فَخَطَبَ خُطْبَةً أَوْجَزَ فِيهَا ، فَنَادَى
النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الْمَسْجِدِ : أَكْثَرَ اللَّهُ فِينَا مِثْلَك .
فَقَالَ : لَقَدْ كَلَّفْتُمْ اللَّهَ شَطَطًا .
وَمَعْبَدُ بْنُ زُرَارَةَ كَانَ ذَات يَوْمٍ جَالِسًا
فِي طَرِيقٍ فَمَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ كَيْفَ
الطَّرِيقُ إلَى مَوْضِعِ كَذَا ؟ فَقَالَ : يَا هَنَاهُ مِثْلِي يَكُونُ مِنْ
عَبِيدِ اللَّهِ .
وَأَبُو شِمَالٍ الْأَسَدِيُّ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ فَالْتَمَسَهَا
النَّاسُ فَلَمْ يَجِدُوهَا ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنْ لَمْ يَرُدَّ إلَيَّ
رَاحِلَتِي لَا صَلَّيْتُ لَهُ صَلَاةً أَبَدًا .
فَالْتَمَسَهَا النَّاسُ فَوَجَدُوهَا ، فَقَالُوا لَهُ
: قَدْ رَدَّ اللَّهُ رَاحِلَتَك فَصَلِّ .
فَقَالَ : إنَّ يَمِينِي يَمِينُ مُصِرٍّ .
فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ كَيْفَ أَفْضَيْ بِهِمْ
الْعُجْبُ إلَى حُمْقٍ صَارُوا بِهِ نَكَالًا فِي الْأَوَّلِينَ ، وَمَثَلًا فِي
الْآخَرِينَ .
وَلَوْ تَصَوَّرَ الْمُعْجَبُ الْمُتَكَبِّرُ مَا فُطِرَ
عَلَيْهِ مِنْ جِبِلَّةٍ ، وَبُلِيَ بِهِ مِنْ مِهْنَةٍ ، لَخَفَضَ جَنَاحَ
نَفْسِهِ وَاسْتَبْدَلَ لِينًا مِنْ عُتُوِّهِ ، وَسُكُوتًا مِنْ نُفُورِهِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : عَجِبْتُ لِمَنْ
جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ ، وَقَدْ وَصَفَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الْإِنْسَانَ فَقَالَ : يَا مُظْهِرَ الْكِبْرِ إعْجَابًا
بِصُورَتِهِ اُنْظُرْ خَلَاكَ فَإِنَّ النَّتْنَ تَثْرِيبُ لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ فِيمَا
فِي بُطُونِهِمْ مَا اسْتَشْعَرَ الْكِبْرَ شُبَّانٌ وَلَا شِيبُ هَلْ فِي ابْنِ
آدَمَ مِثْلُ الرَّأْسِ مَكْرُمَةً وَهُوَ بِخَمْسٍ مِنْ الْأَقْذَارِ مَضْرُوبُ
أَنْفٌ يَسِيلُ وَأُذْنٌ رِيحُهَا سَهِكٌ وَالْعَيْنُ مُرْفَضَّةٌ وَالثَّغْرُ
مَلْعُوبُ يَا ابْنَ التُّرَابِ وَمَأْكُولَ التُّرَابِ غَدًا أَقْصِرْ فَإِنَّك
مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبُ وَأَحَقُّ مَنْ كَانَ
لِلْكِبْرِ
مُجَانِبًا ، وَلِلْإِعْجَابِ مُبَايِنًا ، مَنْ جَلَّ فِي الدُّنْيَا قَدْرُهُ ، وَعَظُمَ
فِيهَا خَطَرُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَقِلُّ بِعَالِي هِمَّتِهِ كُلَّ كَثِيرٍ ،
وَيَسْتَصْغِرُ مَعَهَا كُلَّ كَبِيرٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ : لَا يَنْبَغِي
لِلشَّرِيفِ أَنْ يَرَى شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطِيرًا فَيَكُونُ
بِهَا نَابِهًا .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى :
تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَشْرَفُ لَك مِنْ شَرَفِك .
وَكَانَ يُقَالُ : اسْمَانِ مُتَضَادَّانِ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ : التَّوَاضُعُ وَالشَّرَفُ
.
وَلِلْكِبْرِ أَسْبَابٌ : فَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ
عُلُوُّ الْيَدِ ، وَنُفُوذُ الْأَمْرِ ، وَقِلَّةُ مُخَالَطَةِ الْأَكْفَاءِ .
وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا مَشَوْا خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَبْعِدُوا عَنِّي خَفْقَ
نِعَالِكُمْ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى الرِّجَالِ .
وَمَشَوْا خَلْفَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ ارْجِعُوا
فَإِنَّهَا زِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ .
وَرَوَى قَيْسُ بْنُ حَازِمٍ { أَنَّ رَجُلًا أُتِيَ
بِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَتْهُ رِعْدَةٌ ،
فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَوِّنْ عَلَيْك فَإِنَّمَا
أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ } .
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَسْمًا لِمَوَادِّ الْكِبْرِ ، وَقَطْعًا لِذَرَائِعِ الْإِعْجَابِ ،
وَكَسْرًا لِأَشَرِ النَّفْسِ ، وَتَذْلِيلًا لِسَطْوَةِ الِاسْتِعْلَاءِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَلَمَّا
اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ :
أَيُّهَا النَّاسُ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْعَى عَلَى خَالَاتِ لِي مِنْ بَنِي
مَخْزُومٍ فَيَقْبِضُ لِي الْقَبْضَةَ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَأَظَلُّ
الْيَوْمَ وَأَيَّ يَوْمٍ .
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَاَللَّهِ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ قَصَّرْتَ بِنَفْسِك
.
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيْحَك يَا
ابْنَ عَوْفٍ إنِّي خَلَوْت فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي ، فَقَالَتْ أَنْتَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ذَا أَفْضَلُ مِنْك فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَهَا نَفْسَهَا .
وَلِلْإِعْجَابِ أَسْبَابٌ : فَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ
كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَإِطْرَاءِ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ
جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً وَمَكْسَبًا ، وَالتَّمَلُّقَ خَدِيعَةً وَمَلْعَبًا
، فَإِذَا وَجَدُوهُ مَقْبُولًا فِي الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ أَغْرَوْا أَرْبَابَهَا
بِاعْتِقَادِ كَذِبِهِمْ ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُزَكِّي رَجُلًا فَقَالَ لَهُ : قَطَعْتَ
مَطَاهُ لَوْ سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ بَعْدَهَا } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الْمَدْحُ ذَبْحُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : قَابِلُ الْمَدْحِ
كَمَادِحِ نَفْسِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ رَضِيَ أَنْ
يُمْدَحَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ أَمْكَنَ السَّاخِرَ مِنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ إنْ كَانَ
أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ وَلَا أُزَكِّي
عَلَى اللَّهِ أَحَدًا } .
وَقِيلَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ
الْكُتُبِ السَّالِفَةِ : عَجِبْت لِمَنْ قِيلَ فِيهِ الْخَيْرُ وَلَيْسَ فِيهِ
كَيْفَ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ قِيلَ فِيهِ الشَّرُّ وَهُوَ فِيهِ كَيْفَ
يَغْضَبُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا جَاهِلًا غَرَّهُ
إفْرَاطُ مَادِحِهِ لَا يَغْلِبَنَّ جَهْلُ مَنْ أَطْرَاك عِلْمُك بِك أَثْنَى
وَقَالَ بِلَا عِلْمٍ أَحَاطَ بِهِ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالْمَحْصُولِ مِنْ رِيَبِك
وَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ
يَسْتَفِزَّهَا ، وَيَمْنَعَهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ لَهَا ، فَإِنَّ
لِلنَّفْسِ مَيْلًا لِحُبِّ الثَّنَاءِ وَسَمَاعِ الْمَدْحِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : يَهْوَى الثَّنَاءَ مُبَرِّزٌ
وَمُقَصِّرٌ حُبُّ الثَّنَاءِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ فَإِذَا سَامَحَ
نَفْسَهُ فِي
مَدْحِ الصَّبْوَةِ ، وَتَابَعَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّهْوَةِ ، تَشَاغَلَ بِهَا
عَنْ الْفَضَائِلِ الْمَمْدُوحَةِ ، وَلَهَا بِهَا عَنْ الْمَحَاسِنِ
الْمَمْنُوحَةِ ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مِنْ مَدْحِهِ كَذِبًا ، وَالْبَاطِنُ مِنْ
ذَمِّهِ صِدْقًا ، وَعِنْدَ تَقَابُلِهِمَا يَكُونُ الصِّدْقُ أَلْزَمَ
الْأَمْرَيْنِ .
وَهَذِهِ خُدْعَةٌ لَا يَرْتَضِيهَا عَاقِلٌ وَلَا
يَنْخَدِعُ بِهَا مُمَيِّزٌ .
وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ بِالْمَدْحِ يُسْرِفُ
مَعَ الْقَبُولِ وَيَكُفُّ مَعَ الْإِبَاءِ ، فَلَا يَغْلِبُهُ حُسْنُ الظَّنِّ
عَلَى تَصْدِيقِ مَدْحٍ هُوَ أَعْرَفُ بِحَقِيقَتِهِ وَلْتَكُنْ تُهْمَةُ
الْمَادِحِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ .
فَقَلَّ مَدْحٌ كَانَ جَمِيعُهُ صِدْقًا ، وَقَلَّ
ثَنَاءٌ كَانَ لَهُ حَقًّا .
وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الْفَضْلِ أَنْ يُطْلِقُوا
أَلْسِنَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ تَحَرُّزًا مِنْ التَّجَاوُزِ فِيهِ ،
وَتَنْزِيهًا عَنْ التَّمَلُّقِ بِهِ
.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَكُونُوا عَيَّابِينَ وَلَا تَكُونُوا
لَعَّانِينَ وَلَا مُتَمَادَحِينَ وَلَا مُتَمَاوِتِينَ } .
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا مَدَحَ قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ
نَفْسِي ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي خَيْرًا
مِمَّا يَحْسَبُونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا
يَقُولُونَ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ
فِعَالِهِ فَمَادِحُهُ يَهْذِي وَإِنْ كَانَ مُفْصِحَا وَرُبَّمَا آلَ حُبُّ
الْمَدْحِ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَادِحَ نَفْسِهِ ، إمَّا لِتَوَهُّمِهِ
أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَفَلُوا عَنْ فَضْلِهِ ، وَأَخَلُّوا بِحَقِّهِ .
وَإِمَّا لِيَخْدَعَهُمْ بِتَدْلِيسِ نَفْسِهِ
بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ مُتَّبَعٌ ،
وَصِدْقٌ مُسْتَمَعٌ .
وَإِمَّا لِتَلَذُّذِهِ بِسَمَاعِ الثَّنَاءِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ
بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ ، مَا يَتَغَنَّى بِنَفْسِهِ طَرَبًا إذَا لَمْ
يَسْمَعْ صَوْتًا مُطْرِبًا وَلَا غِنَاءً مُمْتِعًا .
وَلِأَيِّ
ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ الْجَهْلُ الصَّرِيحُ ، وَالنَّقْصُ الْفَضِيحُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَا شَرَفٌ أَنْ
يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ أَعْمَالًا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ وَمَا كُلُّ
حِينٍ يَصْدُقُ الْمَرْءُ ظَنُّهُ وَلَا كُلُّ أَصْحَابِ التِّجَارَةِ يَرْبَحُ وَلَا
كُلُّ مَنْ تَرْجُو لِغَيْبِك حَافِظًا وَلَا كُلُّ مَنْ ضَمَّ الْوَدِيعَةَ
يَصْلُحُ وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرْشِدَ إخْوَانَ الصِّدْقِ الَّذِينَ
هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ ، وَمُرَائِي الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ ، عَلَى مَا
يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ الَّتِي صَرَفَهُ حَسَنُ الظَّنِّ
عَنْهَا .
فَإِنَّهُمْ أَمْكَنُ نَظَرًا ، وَأَسْلَمُ فِكْرًا ،
وَيَجْعَلُونَ مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ عِوَضًا عَنْ
تَصْدِيقِ الْمَدْحِ فِيهِ .
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ
إذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ
} .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيْنَا مَسَاوِئَنَا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : أَتُحِبُّ أَنْ تُهْدَى
إلَيْك عُيُوبُك ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مِنْ نَاصِحٍ .
وَمِمَّا يُقَارِبُ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : مَنْ تَرَى أَنْ نُوَلِّيَهُ حِمْصَ ؟ فَقَالَ : رَجُلًا صَحِيحًا
مِنْك ، صَحِيحًا لَك
.
قَالَ : تَكُونُ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ .
قَالَ : لَا تَنْتَفِعُ بِي مَعَ سُوءِ ظَنِّي بِك
وَسُوءِ ظَنِّك بِي .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَظْهَرَ عَيْبَ
نَفْسِهِ فَقَدْ زَكَّاهَا .
فَإِذَا قَطَعَ أَسْبَابَ الْكِبْرِ وَحَسَمَ مَوَادَّ
الْعُجْبِ اعْتَاضَ بِالْكِبْرِ تَوَاضُعًا وَبِالْعُجْبِ تَوَدُّدًا .
وَذَلِكَ مِنْ أَوْكَدَ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ
وَأَقْوَى مَوَادِّ النِّعَمِ وَأَبْلَغِ شَافِعٍ إلَى الْقُلُوبِ يَعْطِفُهَا
إلَى الْمَحَبَّةِ وَيُثْنِيهَا عَنْ الْبُغْضِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ بَرِئَ مِنْ ثَلَاثٍ
نَالَ ثَلَاثًا : مَنْ بَرِئَ مِنْ السَّرَفِ نَالَ الْعِزَّ .
وَمَنْ
بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَفَ .
وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ نَالَ الْكَرَامَةَ .
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : التَّوَاضُعُ
مَصَائِدُ الشَّرَفِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ دَامَ
تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُهُ .
وَقَدْ تُحْدِثُ الْمَنَازِلُ وَالْوِلَايَاتُ لِقَوْمٍ
أَخْلَاقًا مَذْمُومَةً يُظْهِرُهَا سُوءُ طِبَاعِهِمْ ، وَلِآخَرِينَ فَضَائِلَ
مَحْمُودَةً يَبْعَثُ عَلَيْهَا زَكَاءُ شِيَمِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَقَلُّبَ
الْأَحْوَالِ سَكَرَةٌ تُظْهِرُ مِنْ الْأَخْلَاقِ مَكْنُونَهَا ، وَمِنْ
السَّرَائِرِ مَخْزُونَهَا ، لَا سِيَّمَا إذَا هَجَمَتْ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ وَطَرَقَتْ
مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : فِي تَقَلُّبِ
الْأَحْوَالِ تُعْرَفُ جَوَاهِرُ الرِّجَالِ .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : مَنْ كَانَتْ
وِلَايَتُهُ فَوْقَ قُدْرَةٍ تَكَبَّرَ لَهَا ، وَمَنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ دُونَ
قُدْرَةٍ تَوَاضَعَ لَهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : النَّاسُ فِي
الْوِلَايَةِ رَجُلَانِ : رَجُلٌ يُجِلُّ الْعَمَلَ بِفَضْلِهِ وَمُرُوءَتِهِ ، وَرَجُلٌ
يَجِلُّ بِالْعَمَلِ لِنَقْصِهِ وَدَنَاءَتِهِ .
فَمَنْ جَلَّ عَنْ عَمَلِهِ ازْدَادَ بِهِ تَوَاضُعًا
وَبِشْرًا ، وَمَنْ جَلَّ عَنْهُ عَمَلُهُ ازْدَادَ بِهِ تَجَبُّرًا وَتَكَبُّرًا .
حُسْنُ الْخُلُقِ
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي حُسْنِ الْخُلُقِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَكُمْ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَأَكْرِمُوهُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ فَإِنَّهُ لَا
يَكْمُلُ إلَّا بِهِمَا } .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ
بِأَدْوَأِ الدَّاءِ ؟ قَالُوا بَلَى
.
قَالَ الْخُلُقُ الدَّنِيُّ وَاللِّسَانُ الْبَذِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ
ضَاقَ رِزْقُهُ .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْحَسَنُ الْخُلُقِ مَنْ
نَفْسُهُ فِي رَاحَةٍ ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ .
وَالسَّيِّئُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ ،
وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَاشِرْ
أَهْلَك بِأَحْسَنِ أَخْلَاقِك فَإِنَّ الثَّوَاءَ فِيهِمْ قَلِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا لَمْ تَتَّسِعْ
أَخْلَاقُ قَوْمٍ تَضِيقُ بِهِمْ فَسِيحَاتُ الْبِلَادِ إذَا مَا الْمَرْءُ لَمْ
يُخْلَقُ لَبِيبًا فَلَيْسَ اللُّبُّ عَنْ قِدَمِ الْوِلَادِ فَإِذَا حَسُنَتْ
أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُوهُ ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ
الْأُمُورُ الصِّعَابُ ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { حُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجُوَارِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ
وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ سَعَةِ الْأَخْلَاقِ
كُنُوزُ الْأَرْزَاقِ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَثْرَةِ
الْأَصْفِيَاءِ الْمُسْعِدِينَ ، وَقِلَّةِ الْأَعْدَاءِ الْمُجْحِفِينَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَحَبُّكُمْ إلَيَّ أَحْسَنكُمْ أَخْلَاقًا ، الْمُوَطَّئُونَ
أَكْنَافًا ، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ } .
وَحُسْنُ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ ،
لَيِّنَ الْجَانِبِ ، طَلِيقَ الْوَجْهِ ، قَلِيلَ النُّفُورِ ، طَيِّبَ
الْكَلِمَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَقَالَ : { أَهْلُ الْجَنَّةِ كُلُّ
هَيِّنٍ
لَيِّنٍ سَهْلٍ طَلْقٍ } .
وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ حُدُودًا
مُقَدَّرَةً وَمَوَاضِعَ مُسْتَحَقَّةً ، مَا قَالَ الشَّاعِرُ : أَصْفُو
وَأَكْدُرُ أَحْيَانًا لِمُخْتَبِرِي وَلَيْسَ مُسْتَحْسَنًا صَفْوٌ بِلَا كَدَرِ
وَلَيْسَ يُرِيدُ بِالْكَدَرِ الَّذِي هُوَ الْبَذَاءُ وَشَرَاسَةُ الْخُلُقِ ، فَإِنَّ
ذَلِكَ ذَمٌّ لَا يُسْتَحْسَنُ وَعَيْبٌ لَا يَرْتَضِي .
وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْكَفَّ وَالِانْقِبَاضَ فِي
مَوْضِعٍ يُلَامُ فِيهِ الْمُسَاعِدُ وَيُذَمُّ فِيهِ الْمُوَافِقُ ، فَإِذَا
كَانَتْ لِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ حُدُودٌ مُقَدَّرَةٌ وَمَوَاضِعُ مُسْتَحَقَّةٌ
فَإِنْ تَجَاوَزَ بِهَا الْحَدَّ صَارَتْ مَلَقًا وَإِنْ عَدْلَ بِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا
صَارَتْ نِفَاقًا .
وَالْمَلَقُ ذُلٌّ ، وَالنِّفَاقُ لُؤْمٌ ، وَلَيْسَ
لِمَنْ وُسِمَ بِهِمَا وُدٌّ مَبْرُورٌ وَلَا أَثَرٌ مَشْكُورٌ .
وَقَدْ رَوَى حَكِيمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { شَرُّ
النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ
بِوَجْهٍ } .
وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ
أَنْ يَكُونَ وَجِيهًا عِنْد اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُرْوَةَ : لَأَنْ يَكُونَ لِي
نِصْفُ وَجْهٍ وَنِصْفُ لِسَانٍ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ قُبْحِ الْمَنْظَرِ
وَعَجْزِ الْمَخْبَرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا
لِسَانَيْنِ وَذَا قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِّ النِّفَاقَ لِأَهْلِهِ
وَعَلَيْك فَالْتَمِسْ الطَّرِيقَا وَارْغَبْ بِنَفْسِك أَنْ تُرَى إلَّا عَدُوًّا
أَوْ صَدِيقَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ وُدُّهُ
بِلِسَانِهِ خَئُونٌ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لَا يَتَذَمَّمُ يُضَاحِكُنِي عَجَبًا
إذَا مَا لَقِيتُهُ وَيَصْدُفُنِي مِنْهُ إذَا غِبْتُ أَسْهُمُ كَذَلِكَ ذُو
الْوَجْهَيْنِ يُرْضِيك شَاهِدًا وَفِي غَيْبِهِ إنْ غَابَ صَابٌ وَعَلْقَمُ
وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْوَطَاءُ إلَى الشَّرَاسَةِ
وَالْبَذَاءِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ ، وَأُمُورٍ
طَارِئَةٍ
، تَجْعَلُ اللِّينَ خُشُونَةً وَالْوَطَاءَ غِلْظَةً وَالطَّلَاقَةَ عُبُوسًا .
فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْوِلَايَةُ الَّتِي تُحْدِثُ
فِي الْأَخْلَاقِ تَغَيُّرًا ، وَعَلَى الْخُلَطَاءِ تَنَكُّرًا ، إمَّا مِنْ
لُؤْمِ طَبْعٍ ، وَإِمَّا مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ تَاهَ فِي وِلَايَتِهِ ذَلَّ فِي
عَزْلِهِ .
وَقِيلَ : ذُلُّ الْعَزْلِ يُضْحِكُ مِنْ تِيهِ
الْوِلَايَةِ .
وَمِنْهَا : الْعَزْلُ فَقَدْ يَسُوءُ بِهِ الْخُلُقُ
وَيَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ إمَّا لِشِدَّةِ أَسَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ صَبْرٍ .
حَكَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ
عُزِلَ عَنْ وِلَايَةٍ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إنِّي وَجَدْتهَا
حُلْوَةَ الرَّضَاعِ مَرَّةَ الْفِطَامِ .
وَمِنْهَا : الْغِنَى فَقَدْ تَتَغَيَّرُ بِهِ أَخْلَاقُ
اللَّئِيمِ بَطَرًا ، وَتَسُوءُ طَرَائِقُهُ أَشَرًا .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ : غَضْبَانُ يَعْلَمُ أَنَّ
الْمَالَ سَاقٍ لَهُ مَا لَمْ يَسْقِهِ لَهُ دِينٌ وَلَا خُلُقُ فَمَنْ يَكُنْ
عَنْ كِرَامِ النَّاسِ يَسْأَلُنِي فَأَكْرَمُ النَّاسِ مَنْ كَانَتْ لَهُ وَرِقُ
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَإِنْ تَكُنْ الدُّنْيَا أَنَالَتْك ثَرْوَةً
فَأَصْبَحْت ذَا يُسْرٍ وَقَدْ كُنْت ذَا عُسْرِ لَقَدْ كَشَفَ الْإِثْرَاءُ مِنْك
خَلَائِقًا مِنْ اللُّؤْمِ كَانَتْ تَحْتَ ثَوْبٍ مِنْ الْفَقْرِ وَبِحَسَبِ مَا
أَفْسَدَهُ الْغِنَى كَذَلِكَ يُصْلِحُهُ الْفَقْرُ .
وَكَتَبَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ إلَى الْحَجَّاجِ
أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ الْتَاثُوا عَلَيْهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ
عَنْهُمْ الْأَرْزَاقَ ، فَفَعَلَ فَسَاءَتْ حَالُهُمْ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ
فَقَالُوا : أَقِلْنَا .
فَكَتَبَ إلَى الْحَجَّاجِ فِيهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ :
إنْ كُنْت آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَأَجْرِ عَلَيْهِمْ مَا كُنْتَ تُجْرِي .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ جُنْدُ اللَّهِ الْأَكْبَرَ
يُذِلُّ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَتَكَبَّرُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّ ابْنَ آدَمَ بِثَلَاثٍ
مَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ لِشَيْءٍ : الْفَقْرُ ، وَالْمَرَضُ ، وَالْمَوْتُ } .
وَمِنْهَا
: الْفَقْرُ
فَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْخُلُقُ إمَّا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ الِاسْتِكَانَةِ
أَوْ أَسَفًا عَلَى فَائِتِ الْغِنَى
.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا ، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ
يَغْلِبَ الْقَدَرَ } .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَأَعْجَبُ
حَالَاتِ ابْنِ آدَمَ خَلْقُهُ يَضِلُّ إذَا فَكَّرْتَ فِي كُنْهِهِ الْفِكْرُ
فَيَفْرَحُ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ بَقَاؤُهُ وَيَجْزَعُ مِمَّا صَارَ وَهُوَ لَهُ
ذُخْرُ وَرُبَّمَا تَسَلَّى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْأَمَانِي ، وَإِنْ قَلَّ صِدْقُهَا .
فَقَدْ قِيلَ : قَلَّمَا تَصْدُقُ الْأُمْنِيَّةُ
وَلَكِنْ قَدْ يُعْتَاضُ بِهَا سَلْوَةً مِنْ هَمٍّ أَوْ مَسَرَّةٍ بِرَجَاءٍ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : حَرِّكْ مُنَاك
إذَا اغْتَمَمْت فَإِنَّهُنَّ مَرَاوِحُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا تَمَنَّيْت بِتَّ
اللَّيْلَ مُغْتَبِطًا إنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ وَمِنْهَا الْهُمُومُ
الَّتِي تُذْهِلُ اللُّبَّ ، وَتَشْغَلُ الْقَلْبَ ، فَلَا تَتْبَعُ الِاحْتِمَالَ
وَلَا تَقْوَى عَلَى صَبْرٍ .
وَقَدْ قِيلَ : الْهَمُّ كَالسُّمِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْحُزْنُ كَالدَّاءِ
الْمَخْزُونِ فِي فُؤَادِ الْمَحْزُونِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : هُمُومُك بِالْعَيْشِ
مَقْرُونَةٌ فَمَا تَقْطَعُ الْعَيْشَ إلَّا بِهِمْ إذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا
نَقْصُهُ تَرَقَّبْ زَوَالًا إذَا قِيلَ تَمْ إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا
فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ وَحَامِ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الْإِلَهِ فَإِنَّ
الْإِلَهَ سَرِيعُ النِّقَمْ حَلَاوَةُ دُنْيَاك مَسْمُومَةٌ فَمَا تَأْكُلُ
الشَّهْدَ إلَّا بِسُمْ فَكَمْ قَدَرٌ دَبَّ فِي مُهْلَةٍ فَلَمْ يَعْلَمْ
النَّاسُ حَتَّى هَجَمْ وَمِنْهَا الْأَمْرَاضُ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا الطَّبْعُ
مَا يَتَغَيَّرُ بِهَا الْجِسْمُ ، فَلَا تَبْقَى الْأَخْلَاقُ عَلَى اعْتِدَالٍ
وَلَا يُقْدَرُ مَعَهَا عَلَى احْتِمَالٍ .
وَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي : آلَةُ الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابُ
فَإِذَا وَلَّيَا عَنْ الْمَرْءِ وَلَّى وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا
مَلَّ حَيَاةً وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلَّا وَإِذَا لَمْ تَجِدْ
مِنْ
النَّاسِ كُفُئًا ذَاتَ خِدْرٍ أَرَادَتْ الْمَوْتَ بَعْلَا أَبَدًا تَسْتَرِدُّ
مَا تَهَبُ الدُّنْيَا فَيَا لَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلَا وَمِنْهَا عُلُوُّ
السِّنِّ وَحُدُوثُ الْهَرَمِ لِتَأْثِيرِهِ فِي آلَةِ الْجَسَدِ كَذَلِكَ يَكُونُ
تَأْثِيرُهُ فِي أَخْلَاقِ النَّفْسِ ، فَكَمَا يَضْعُفُ الْجَسَدُ عَنْ احْتِمَالِ
مَا كَانَ يُطِيقُهُ مِنْ أَثْقَالٍ فَكَذَلِكَ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ أَثْقَالِ
مَا كَانَتْ تَصْبِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوِفَاقِ ، وَمَضِيقِ
الشِّقَاقِ .
وَكَذَلِكَ مَا ضَاهَاهُ .
وَقَالَ مَنْصُورٌ النَّمَرِيُّ : مَا كُنْتُ أُوفِي
شَبَابِي كُنْهَ عِزَّتِهِ حَتَّى مَضَى فَإِذَا الدُّنْيَا لَهُ تَبَعُ
أَصْبَحْتُ لَمْ تُطْعِمِي ثُكْلَ الشَّبَابِ وَلَمْ تَشْجَيْ لِغُصَّتِهِ
فَالْعُذْرُ لَا يَقَعُ مَا كَانَ أَقْصَرَ أَيَّامِ الشَّبَابِ وَمَا أَبْقَى
حَلَاوَةَ ذِكْرَاهُ الَّتِي تَدَعُ مَا وَاجَهَ الشَّيْبُ مِنْ عَيْنٍ وَإِنْ رَمَقَتْ
إلَّا لَهَا نَبْوَةٌ عَنْهُ وَمُرْتَدَعُ قَدْ كِدْت تَقْضِي عَلَى فَوْتِ
الشَّبَابِ أَسًى لَوْلَا يُعَزِّيك أَنَّ الْعُمْرَ مُنْقَطِعُ فَهَذِهِ سَبْعَةُ
أَسْبَابٍ أَحْدَثَتْ سُوءَ خُلُقٍ كَانَ عَامًّا .
وَهَا هُنَا سَبَبٌ خَاصٌّ يُحْدِثُ سُوءَ خُلُقٍ خَاصٍّ
وَهُوَ الْبُغْضُ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ فَتُحْدِثُ نُفُورًا عَلَى
الْمُبْغَضِ ، فَيَؤُولُ إلَى سُوءِ خُلُقٍ يَخُصُّهُ دُونَ غَيْرِهِ .
فَإِذَا كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ حَادِثًا بِسَبَبٍ كَانَ
زَوَالُهُ مَقْرُونًا بِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، ثُمَّ بِالضِّدِّ .
الْحَيَاءُ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْحَيَاءِ : اعْلَمْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ
مَعَانٍ كَامِنَةٌ تُعْرَفُ بِسِمَاتٍ دَالَّةٍ كَمَا قَالَتْ الْعَرَبُ فِي
أَمْثَالِهَا : تُخْبِرُ عَنْ مَجْهُولِهِ مَرَآتُهُ وَكَمَا قَالَ سَلَمُ بْنُ
عَمْرٍو الشَّاعِرِ ، لَا تَسْأَلْ الْمَرْءَ عَنْ خَلَائِقِهِ فِي وَجْهِهِ شَاهِدٌ
مِنْ الْخَبَرِ فَسِمَةُ الْخَيْرِ الدَّعَةُ وَالْحَيَاءُ ، وَسِمَةُ الشَّرِّ
الْقِحَةُ وَالْبَذَاءُ .
وَكَفَى بِالْحَيَاءِ خَيْرًا أَنْ يَكُونَ عَلَى
الْخَيْرِ دَلِيلًا ، وَكَفَى بِالْقِحَةِ وَالْبَذَاءِ شَرًّا أَنْ يَكُونَا إلَى
الشَّرِّ سَبِيلًا .
وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ
مِنْ النِّفَاقِ } .
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعِيُّ فِي مَعْنَى الصَّمْتِ
، وَالْبَيَانُ فِي مَعْنَى التَّشَادُقِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ :
{ إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ } .
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْبَذَاءُ مِنْ
الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ
ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : حَيَاةُ الْوَجْهِ
بِحَيَائِهِ ، كَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْغَرْسِ بِمَائِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ الْعُلَمَاءُ : يَا عَجَبًا
كَيْفَ لَا تَسْتَحْيِي مِنْ كَثْرَةِ مَا لَا تَسْتَحْيِي وَتَبْقَى مِنْ طُولِ
مَا لَا تَبْقَى .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ
عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَلَا خَيْرَ
فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُهُ حَيَاؤُك فَاحْفَظْهُ عَلَيْك وَإِنَّمَا يَدُلُّ
عَلَى فِعْلِ الْكَرِيمِ حَيَاؤُهُ وَلَيْسَ لِمَنْ سُلِبَ الْحَيَاءَ صَادٌّ عَنْ
قَبِيحٍ وَلَا زَاجِرٌ عَنْ مَحْظُورٍ ، فَهُوَ يَقْدَمُ عَلَى مَا يَشَاءُ
وَيَأْتِي مَا
يَهْوَى ،
وَبِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ .
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ رِبْعِيٍّ عَنْ
أَبِي مَنْصُورٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى
: يَا ابْنَ آدَمَ إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ } .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمَعَاصِي
عِنْدَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ مَنْ جَهِلَ مَعَانِيَ
الْكَلَامِ وَمُوَاضَعَاتِ الْخِطَابِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ
: إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ
الْحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُودُ مَا
بَقِيَ اللِّحَاءُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ : مَعْنَى
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ دَعَاهُ تَرْكُ الْحَيَاءِ إلَى أَنْ
يَعْمَلَ مَا يَشَاءُ لَا يَرْدَعُهُ عَنْهُ رَادِعٌ .
فَلِيَسْتَحِي الْمَرْءُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَرْدَعُهُ .
وَسَمِعْت مَنْ يَحْكِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إذَا عُرِضَتْ عَلَيْك
أَفْعَالُك الَّتِي هَمَمْت بِفِعْلِهَا فَلَمْ تَسْتَحِ مِنْهَا لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا
فَاصْنَعْ مَا شِئْت مِنْهَا .
فَجَعَلَ الْحَيَاءَ حَكَمًا عَلَى أَفْعَالِهِ وَكِلَا
الْقَوْلَيْنِ حَسَنٌ .
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجَ الذَّمِّ لَا مَخْرَجَ
الْمَدْحِ .
لَكِنْ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ بِمَا يُضَاهِي الْقَوْلَ
الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَحْبَبْت
أَنْ تَسْمَعَهُ أُذُنَاك فَأْتِهِ ، وَمَا كَرِهْت أَنْ تَسْمَعَهُ أُذُنَاك فَاجْتَنِبْهُ } .
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَعْنَى
الصَّرِيحِ فِيهِ وَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فِي الْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ أَصَحَّ إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَحَادِيثُ رَسُولِ
اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهَا مُتَّفِقَةَ الْمَعَانِي بَلْ اخْتِلَافُ
مَعَانِيهَا أَدْخَلُ فِي الْحِكْمَةِ وَأَبْلَغُ فِي الْفَصَاحَةِ إذَا لَمْ
يُضَادَّ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْإِنْسَانِ قَدْ
يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدِهَا : حَيَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالثَّانِي : حَيَاؤُهُ مِنْ النَّاسِ .
وَالثَّالِثِ : حَيَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ .
فَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ
بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَالْكَفِّ عَنْ زَوَاجِرِهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
حَقَّ الْحَيَاءِ .
فَقِيلَ :
يَا رَسُولُ اللَّهِ فَكَيْفَ نَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ ؟ قَالَ : مَنْ حَفِظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى ، وَالْبَطْنَ
وَمَا وَعَى ، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، وَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ،
فَقَدْ اسْتَحَى مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَبْلَغِ الْوَصَايَا .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ ، مُصَنِّفُ
الْكِتَابِ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي : فَقَالَ :
اسْتَحِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : تَغَيَّرَ النَّاسُ .
قُلْتُ :
وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : كُنْتُ
أَنْظُرُ إلَى الصَّبِيِّ فَأَرَى مِنْ وَجْهِهِ الْبِشْرَ وَالْحَيَاءَ ، وَأَنَا
أَنْظُرُ إلَيْهِ الْيَوْمَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ .
ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَصَايَا وَعِظَاتٍ
تَصَوَّرْتُهَا ، وَأَذْهَلَنِي السُّرُورُ عَنْ حِفْظِهَا وَوَدِدْت أَنِّي لَوْ حَفِظْتهَا .
فَلَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ الْوَصِيَّةِ بِالْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَجَعَلَ مَا
سَلَبَهُ الصَّبِيُّ مِنْ الْبِشْرِ وَالْحَيَاءِ سَبَبًا لِتَغَيُّرِ النَّاسِ ،
وَخَصَّ الصَّبِيَّ ؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِيهِ بِالطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ .
فَصَلَّى اللَّهَ وَسَلِمْ عَلَى مَنْ هَدَى أُمَّتَهُ ،
وَتَابَعَ إنْذَارَهَا ،
وَقَطَعَ أَعْذَارَهَا
، وَأَوْصَلَ تَأْدِيبَهَا ، وَحَفِظَ تَهْذِيبَهَا ، وَجَعَلَ لِكُلِّ عَصْرٍ
حَظًّا مِنْ زَوَاجِرِهِ ، وَنَصِيبًا مِنْ أَوَامِرِهِ .
أَعَانَنَا اللَّهُ عَلَى قَبُولِهَا بِالْعَمَلِ ،
وَعَلَى اسْتِدَامَتِهَا بِالتَّوْفِيقِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ قَالَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ عِظْنِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
اسْتَحِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِحْيَاءَك مِنْ ذَوِي الْهَيْبَةِ مِنْ قَوْمِك } .
وَهَذَا الْحَيَاءُ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الدَّيْنِ
وَصِحَّةِ الْيَقِينِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { قِلَّةُ الْحَيَاءِ كُفْرٌ } .
يَعْنِي مِنْ اللَّهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ
أَوَامِرِهِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْحَيَاءُ نِظَامُ الْإِيمَانِ فَإِذَا انْحَلَّ نِظَامُ الشَّيْءِ تَبَدَّدَ مَا
فِيهِ وَتَفَرَّقَ } .
وَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ النَّاسِ فَيَكُونُ بِكَفِّ
الْأَذَى وَتَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِالْقَبِيحِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اتَّقَى اللَّهَ اتَّقَى النَّاسَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ أَتَى
الْجُمُعَةَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ انْصَرَفُوا فَتَنْكَبَّ الطَّرِيقَ عَنْ
النَّاسِ ، وَقَالَ : لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنْ النَّاسِ .
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : وَلَقَدْ أَصْرِفُ
الْفُؤَادَ عَنْ الشَّيْءِ حَيَاءً وَحُبُّهُ فِي السَّوَادِ أُمْسِكُ النَّفْسَ
بِالْعَفَافِ وَأُمْسِي ذَاكِرًا فِي غَدٍ حَدِيثَ الْأَعَادِي وَهَذَا النَّوْعُ
مِنْ الْحَيَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْمُرُوءَةِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ } .
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِقِلَّةِ مُرُوءَتِهِ
، وَظُهُورِ شَهْوَتِهِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مُرُوءَةَ الرَّجُلِ مَمْشَاهُ
وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ وَمَجْلِسُهُ وَإِلْفُهُ وَجَلِيسُهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا
حَالَ بَيْنِي
وَبَيْنَ رُكُوبِهَا
إلَّا الْحَيَاءُ إذَا رُزِقَ الْفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا تَقَلَّبَ فِي الْأُمُورِ
كَمَا يَشَاءُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا
وَتَسْتَحِي مَخْلُوقًا فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ وَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ
فَيَكُونُ بِالْعِفَّةِ وَصِيَانَةِ الْخَلَوَاتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لِيَكُنْ اسْتِحْيَاؤُك
مِنْ نَفْسِك أَكْثَرَ مِنْ اسْتِحْيَائِك مِنْ غَيْرِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَمِلَ فِي السِّرِّ
عَمَلًا يَسْتَحِي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَيْسَ لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ قَدْرٌ .
وَدَعَا قَوْمٌ رَجُلًا كَانَ يَأْلَفُ عِشْرَتَهُمْ ،
فَلَمْ يُجِبْهُمْ ، وَقَالَ : إنِّي دَخَلْت الْبَارِحَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ
وَأَنَا أَسْتَحِي مِنْ سِنِي .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَسِرِّي كَإِعْلَانِي
وَتِلْكَ خَلِيقَتِي وَظُلْمَةُ لَيْلِي مِثْلُ ضَوْءِ نَهَارِي وَهَذَا النَّوْعُ
مِنْ الْحَيَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضِيلَةِ النَّفْسِ وَحُسْنِ السَّرِيرَةِ .
فَمَتَى كَمُلَ حَيَاءُ الْإِنْسَانِ مِنْ وُجُوهِهِ
الثَّلَاثَةِ ، فَقَدْ كَمُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ ، وَانْتَفَتْ عَنْهُ
أَسْبَابُ الشَّرِّ ، وَصَارَ بِالْفَضْلِ مَشْهُورًا ، وَبِالْجَمِيلِ مَذْكُورًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَإِنِّي لِيُثْنِيَنِي
عَنْ الْجَهْلِ وَالْخَنَى وَعَنْ شَتْمِ ذِي الْقُرْبَى خَلَائِقُ أَرْبَعُ
حَيَاءٌ وَإِسْلَامٌ وَتَقْوَى وَطَاعَةٌ لِرَبِّي وَمِثْلِي مَنْ يَضُرُّ
وَيَنْفَعُ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ وُجُوهِ الْحَيَاءِ لَحِقَهُ مِنْ النَّقْصِ
بِإِخْلَالِهِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنْ الْفَضْلِ بِكَمَالِهِ .
وَقَدْ قَالَ الرِّيَاشِيُّ : يُقَالُ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الشَّعْرِ :
وَحَاجَةٌ دُونَ أُخْرَى قَدْ سَخَتْ لَهَا جَعَلْتُهَا لِلَّتِي أَخْفَيْتُ
عُنْوَانَا إنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ
عُرْيَانَا
الْحِلْمُ
وَالْغَضَبُ الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْحِلْمِ وَالْغَضَبِ : رَوَى مُحَمَّدُ
بْنُ حَارِثٍ الْهِلَالِيُّ { أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَيْتُك بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنْ الْجَاهِلِينَ } .
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ : يَا
جِبْرِيلُ مَا هَذَا قَالَ : لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ .
ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك
أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ
ظَلَمَكَ } .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي
ضَمْضَمٍ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْتُ
بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ ،
وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءُ
} .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ حَلِمَ
سَادَ ، وَمَنْ تَفَهَّمَ ازْدَادَ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ غَرَسَ شَجَرَةَ
الْحِلْمِ اجْتَنَى ثَمَرَةَ السِّلْمِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا ذَبٌّ عَنْ
الْأَعْرَاضِ كَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أُحِبُّ مَكَارِمَ
الْأَخْلَاقِ جَهْدِي وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا وَأَصْفَحُ عَنْ
سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا وَمَنْ هَابَ
الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا فَالْحِلْمُ
مِنْ أَشْرَفِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَقِّهَا بِذَوِي الْأَلْبَابِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
سَلَامَةِ الْعِرْضِ وَرَاحَةِ الْجَسَدِ وَاجْتِلَابِ الْحَمْدِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ - : أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ
أَنْصَارُهُ .
وَحَدُ الْحِلْمِ ضَبْطُ النَّفْسِ عَنْ
هَيَجَانِ
الْغَضَبِ .
وَهَذَا يَكُونُ عَنْ بَاعِثٍ وَسَبَبٍ .
وَأَسْبَابُ الْحِلْمِ الْبَاعِثَةُ عَلَى ضَبْطِ
النَّفْسِ عَشَرَةٌ : أَحَدُهَا
: الرَّحْمَةُ لِلْجُهَّالِ وَذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ يُوَافِقُ
رِقَّةً .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مِنْ أَوْكَدِ
الْحِلْمِ رَحْمَةُ الْجُهَّالِ
.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلَامًا :
يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا ، وَدَعْ
لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا ، فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا
بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ .
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ : إنْ كُنْت مَا
قُلْت فَغَفَرَ اللَّهُ لِي ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْت فَغَفَرَ اللَّهُ
لَك .
وَاغْتَاظَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى
خَادِمٍ لَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ : لِلَّهِ دَرُّ
التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً .
وَقَسَّمَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِطَافًا
فَأَعْطَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ قَطِيفَةً فَلَمْ تُعْجِبْهُ ، فَحَلَفَ
أَنْ يَضْرِبَ بِهَا رَأْسَ مُعَاوِيَةَ .
فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :
أَوْفِ بِنَذْرِك وَلْيَرْفُقْ الشَّيْخُ بِالشَّيْخِ .
وَالثَّانِي : مِنْ أَسْبَابِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى
الِانْتِصَارِ وَذَلِكَ مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ وَحُسْنِ الثِّقَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَدَرْت عَلَى عَدُوِّك فَاجْعَلْ الْعَفْوَ شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ مِنْ الْكَرَمِ
عُقُوبَةُ مَنْ لَا يَجِدْ امْتِنَاعًا مِنْ السَّطْوَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَحْسَنُ الْمَكَارِمِ
عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ ، وُجُودُ الْمُفْتَقِرِ .
وَالثَّالِثُ : مِنْ أَسْبَابِهِ : التَّرَفُّعُ عَنْ
السِّبَابِ وَذَلِكَ مِنْ شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ .
كَمَا قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : شَرَفُ النَّفْسِ أَنْ
تَحْمِلَ الْمَكَارِهَ كَمَا تَحْمِلُ الْمَكَارِمَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى يَحْيَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدًا لِحِلْمِهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَا يَبْلُغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ
وَإِنْ كَرَمُوا
حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لِأَقْوَامِ وَيَشْتُمُوا فَتَى الْأَلْوَانِ
مُسْفِرَةً لَا صَفْحَ ذُلٍّ وَلَكِنْ صَفْحَ أَحْلَامِ وَالرَّابِعُ مِنْ
أَسْبَابِهِ : الِاسْتِهَانَةُ بِالْمُسِيءِ وَذَلِكَ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ الْكِبْرِ
وَالْإِعْجَابِ ، مَا حُكِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَمَّا
وَلِيَ الْعِرَاقَ جَلَسَ يَوْمًا لِعَطَاءِ الْجُنْدِ وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ
فَنَادَى أَيْنَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَاهُ
الزُّبَيْرُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ إنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ فِي الْأَرْضِ .
فَقَالَ : أَوَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنِّي أُقِيدُهُ
بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ؟ فَلْيَظْهَرْ آمِنًا لِيَأْخُذَ عَطَاءَهُ مُوَفَّرًا .
فَعَدَّ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مُسْتَحْسَنِ الْكِبْرِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الزُّعَمَاءِ فِي
شِعْرِهِ : أَوَكُلَّمَا طَنَّ الذُّبَابُ طَرَدْتُهُ إنَّ الذُّبَابَ إذًا
عَلَيَّ كَرِيمُ وَأَكْثَرُ رَجُلٌ مِنْ سَبِّ الْأَحْنَفِ وَهُوَ لَا يُجِيبُهُ
فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا مَنَعَهُ مِنْ جَوَابِي إلَّا هَوَانِي عَلَيْهِ .
وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : نَجَا بِكَ
لُؤْمُكَ مَنْجَى الذُّبَابِ حَمَتْهُ مَقَاذِيرُهُ أَنْ يُنَالَا وَأَسْمَعَ
رَجُلٌ ابْنَ هُبَيْرَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : إيَّاكَ
أَعَنَى .
فَقَالَ لَهُ : وَعَنْك أُعْرِضْ .
وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : فَاذْهَبْ فَأَنْتَ
طَلِيقُ عِرْضِكَ إنَّهُ عِرْضٌ عَزَزْتَ بِهِ وَأَنْتَ ذَلِيلُ وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ عَلِيٍّ : إذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلَا تُجِبْهُ فَخَيْرٌ مِنْ إجَابَتِهِ
السُّكُوتُ سَكَتُّ عَنْ السَّفِيهِ فَظَنَّ أَنِّي عَيِيتُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا
عَيِيتُ وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِهِ
: الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ جَزَاءِ الْجَوَابِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِيَانَةِ النَّفْسِ وَكَمَالِ
الْمُرُوءَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : احْتِمَالُ
السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ
خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ
وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ .
وَقَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ : وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ
فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ
تُرِقُّونَ
مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ أَغَرَّكُمْ أَنِّي بِأَحْسَنِ شِيمَةٍ
بَصِيرٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشِ أَخْرَقُ وَإِنْ تَكُ قَدْ فَاحَشْتَنِي
فَقَهَرْتَنِي هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالْفُحْشِ أَحْذَقُ .
وَالسَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِهِ : التَّفَضُّلُ عَلَى
السِّبَابِ .
فَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ وَحُبِّ التَّأَلُّفِ ،
كَمَا قِيلَ لِلْإِسْكَنْدَرِ : إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا يُنْقِصَانِك وَيَثْلُبَانِكَ
فَلَوْ عَاقَبْتَهُمَا .
فَقَالَ : هُمَا بَعْدَ الْعُقُوبَةِ أَعْذَرُ فِي
تَنَقُّصِي وَثَلْبِي .
فَكَانَ هَذَا تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَأَلُّفًا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ
قَالَ : مَا عَادَانِي أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَخَذْت فِي أَمْرِهِ بِإِحْدَى ثَلَاثِ
خِصَالٍ : إنْ كَانَ أَعْلَى مِنِّي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْت
قَدْرِي عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ .
فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ ، فَنَظَمَهُ شِعْرًا فَقَالَ :
سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ
الْجَرَائِمُ فَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ
وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ وَأَتْبَعُ
فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا أَصُونُ
بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ
هَفَا تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ .
وَالسَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ : اسْتِنْكَافُ
السِّبَابِ وَقَطْعُ السِّبَابِ
.
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْحَزْمِ ، كَمَا حُكِيَ أَنَّ
رَجُلًا قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ : وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً
لَسَمِعْت عَشْرًا .
فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ : وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا
لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً .
وَحُكِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ لِعَامِرِ بْنِ مُرَّةَ الزُّهْرِيِّ : مَنْ أَحْمَقُ
النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ .
قَالَ : صَدَقْت ، فَمَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ ؟ قَالَ
مَنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ الصَّمْتَ فِي عُقُوبَةِ الْجُهَّالِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَا أَدْرَكْت أُمِّي
فَأَبَرُّهَا
، وَلَكِنْ لَا أَسُبُّ أَحَدًا فَيَسُبُّهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : فِي إعْرَاضِك صَوْنُ
أَعْرَاضِك .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ
لِلسَّفِيهِ عَنْ الْأَذَى وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقَا
فَتَنْدَمَ إذْ لَا تَنْفَعَنَّكَ نَدَامَةٌ كَمَا نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا
تَفَرَّقَا وَقَالَ آخَرُ : قُلْ مَا بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ حِلْمِي أَصَمُّ
وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ .
وَالثَّامِنُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الْخَوْفُ مِنْ
الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَوَابِ
.
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَرُبَّمَا
أَوْجَبَهُ الرَّأْيُ وَاقْتَضَاهُ الْحَزْمُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْحِلْمُ
حِجَابُ الْآفَاتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : اُرْفُقْ إذَا خِفْتَ مِنْ ذِي
هَفْوَةٍ خَرَقًا لَيْسَ الْحَلِيمُ كَمَنْ فِي أَمْرِهِ خَرَقُ .
وَالتَّاسِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الرِّعَايَةُ لِيَدٍ
سَالِفَةٍ ، وَحُرْمَةٍ لَازِمَةٍ
.
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْوَفَاءِ وَحُسْنِ الْعَهْدِ ،
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : أَكْرَمُ الشِّيَمِ أَرْعَاهَا لِلذِّمَمِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ الْوَفَاءَ عَلَى الْكَرِيمِ
فَرِيضَةٌ وَاللُّؤْمُ مَقْرُونٌ بِذِي الْإِخْلَافِ وَتَرَى الْكَرِيمَ لِمَنْ
يُعَاشِرُ مُنْصِفًا وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَانِبَ الْإِنْصَافِ .
وَالْعَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الْمَكْرُ وَتَوَقُّعُ
الْفُرَصِ الْخَلْفِيَّةِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الدَّهَاءِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ ظَهَرَ
غَضَبُهُ قَلَّ كَيْدُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : غَضَبُ الْجَاهِلِ فِي
قَوْلِهِ ، وَغَضَبُ الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا سَكَتَّ عَنْ
الْجَاهِلِ فَقَدْ أَوْسَعْتَهُ جَوَابًا وَأَوْجَعْتَهُ عِقَابًا .
وَقَالَ إيَاسُ بْنُ قَتَادَةَ : تُعَاقِبُ أَيْدِينَا
وَيَحْلُمُ رَأْيُنَا وَنَشْتُمُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالتَّكَلُّمِ وَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَلَلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمًا أَضَرُّ لَهُ
مِنْ شَتْمِهِ حِينَ يَشْتُمُ .
فَهَذِهِ عَشْرَةُ أَسْبَابٍ تَدْعُو إلَى الْحِلْمِ .
وَبَعْضُ الْأَسْبَابِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ .
وَلَيْسَ إذَا كَانَ بَعْضُ أَسْبَابِهِ
مَفْضُولًا
مَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَتِيجَتُهُ مِنْ الْحِلْمِ مَذْمُومَةً .
وَأَمَّا الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَهُ
لَلْحِلْمِ أَفْضَلُ أَسْبَابِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحِلْمُ كُلُّهُ فَضْلًا .
وَإِنْ عَرِيَ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانَ
ذُلًّا وَلَمْ يَكُنْ حِلْمًا ، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْحِلْمِ
أَنَّهُ ضَبْطُ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ ، فَإِذَا فَقَدَ الْغَضَبَ
لِسَمَاعِ مَا يُغْضِبُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَقِلَّةِ الْحَمِيَّةِ .
وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ : ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ
إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : لَا يُعْرَفُ الْجَوَادُ إلَّا فِي الْعُسْرَةِ ،
وَالشُّجَاعُ إلَّا فِي الْحَرْبِ ، وَالْحَلِيمُ إلَّا فِي الْغَضَبِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَيْسَتْ الْأَحْلَامُ فِي حَالِ
الرِّضَى إنَّمَا الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَقَالَ آخَرُ : مَنْ يَدَّعِي
الْحِلْمَ أَغْضِبْهُ لِتَعْرِفَهُ لَا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إلَّا سَاعَةَ الْغَضَبِ
وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَادِرُ
تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا وَلَا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَلِيمٌ إذَا مَا أَوْرَدَ الْأَمْرَ أَصْدَرَا فَلَمْ يُنْكِرْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ
.
وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ
حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الْإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ
فَضَائِلِ النَّفْسِ الشَّجَاعَةَ ، وَالْأَنَفَةَ ، وَالْحَمِيَّةَ ،
وَالْغَيْرَةَ ، وَالدِّفَاعَ ، وَالْأَخْذَ بِالثَّأْرِ ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ
مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ .
فَإِذَا عَدِمَهَا الْإِنْسَانُ هَانَ بِهَا وَلَمْ
يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ ، وَلَا لِوُفُورِ حِلْمِهِ
فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ .
وَقَدْ قَالَ الْمَنْصُورُ : إذَا كَانَ الْحِلْمُ
مَفْسَدَةً كَانَ الْعَفْوُ مَعْجَزَةً
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَفْوُ يُفْسِدُ مِنْ
اللَّئِيمِ بِقَدْرِ إصْلَاحِهِ مِنْ الْكَرِيمِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : أَكْرِمُوا
سُفَهَاءَكُمْ فَإِنَّهُمْ يَقُونَكُمْ
الْعَارَ
وَالشَّنَارَ .
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : مَا قَلَّ
سُفَهَاءُ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا
.
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَالْحَرْبُ
تَرْكَبُ رَأْسَهَا فِي مَشْهَدٍ عَدْلُ السَّفِيهِ بِهِ بِأَلْفِ حَلِيمِ
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إغْرَاءٌ بِتَحَكُّمِ الْغَضَبِ وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ
عِنْدَ حُدُوثِ مَا يُغْضِبُ ، فَيَكْسِبُ بِالِانْقِيَادِ لِلْغَضَبِ مِنْ الرَّذَائِلِ
أَكْثَرَ مِمَّا يَسْلُبُهُ عَدَمُ الْغَضَبِ مِنْ الْفَضَائِلِ .
وَلَكِنْ إذَا ثَارَ بِهِ الْغَضَبُ عِنْدَ هُجُومِ مَا يُغْضِبُهُ
كَفَّ سَوْرَتَهُ بِحَزْمِهِ ، وَأَطْفَأَ ثَائِرَتَهُ بِحِلْمِهِ ، وَوَكَّلَ
مَنْ اسْتَحَقَّ الْمُقَابَلَةَ إلَى غَيْرِهِ .
وَلَمْ يَعْدَمْ مُسِيئًا مُكَافِيًا كَمَا لَمْ
يَعْدَمْ مُحْسِنًا مُجَازِيًا
.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : دَخَلَ بَيْتًا مَا أُخْرِجَ
مِنْهُ .
أَيْ إنْ أُخْرِجَ مِنْهُ خَيْرٌ دَخَلَهُ خَيْرٌ ،
وَإِنْ أُخْرِجَ مِنْهُ شَرٌّ دَخَلَهُ شَرٌّ .
وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ : إذَا
أَمِنَ الْجُهَّالُ جَهْلَك مَرَّةً فَعِرْضُك لِلْجُهَّالِ غُنْمٌ مِنْ الْغُنْمِ
فَعَمِّ عَلَيْهِ الْحِلْمَ وَالْجَهْلَ وَالْقِهِ بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ
الْعَدَاوَةِ وَالسِّلْمِ إذَا أَنْتَ جَازَيْت السَّفِيهَ كَمَا جَزَى فَأَنْتَ سَفِيهٌ
مِثْلُهُ غَيْرُ ذِي حِلْمِ وَلَا تُغْضِبَنَّ عِرْضَ السَّفِيهِ وَدَارِهِ
بِحِلْمٍ فَإِنْ أَعْيَا عَلَيْكُمْ فَبِالصَّرْمِ فَيَرْجُوك تَارَاتٍ وَيَخْشَاك
تَارَةً وَيَأْخُذُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِالْحَزْمِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بُدًّا
مِنْ الْجَهْلِ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِجُهَّالٍ فَذَاكَ مِنْ الْعَزْمِ وَهَذِهِ
مِنْ أَحْكَمِ أَبْيَاتٍ وَجَدْتُهَا فِي تَدْبِيرِ الْحِلْمِ وَالْغَضَبِ .
وَهَذَا التَّدْبِيرُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا
يَجِدُ الْإِنْسَانُ بُدًّا مِنْ مُقَارَنَتِهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إطْرَاحِهِ
وَمُتَارَكَتِهِ ، إمَّا لِخَوْفِ شَرِّهِ أَوْ لِلُّزُومِ أَمْرِهِ .
فَأَمَّا مَنْ أَمْكَنَ إطْرَاحُهُ وَلَمْ يَضُرَّ
إبْعَادُهُ ، فَالْهَوَانُ بِهِ أَوْلَى وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَصْوَبُ .
فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ اسْتَفَادَ
بِتَحْرِيكِ الْغَضَبِ فَضَائِلَهُ وَأَمِنَ بِكَفِّ نَفْسِهِ عَنْ الِانْقِيَادِ
لَهُ
رَذَائِلَهُ
، وَصَارَ الْحِلْمُ مُدَبِّرًا لِلْأُمُورِ الْمُغْضِبَةِ بِقَدْرٍ لَا يَعْتَرِيهِ
نَقْصٌ بِعَدَمِ الْغَضَبِ ، وَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ بِفَقْدِ الْحِلْمِ .
وَلَوْ عَزَبَ عَنْهُ الْحِلْمُ حَتَّى انْقَادَ لِغَضَبِهِ
ضَلَّ عَنْهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهِ ، وَضَعُفَ رَأْيُهُ عَنْ خِيرَةِ
أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ ، حَتَّى يَصِيرَ بَلِيدَ الرَّأْيِ ، مَغْمُورَ
الرَّوِيَّةِ ، مَقْطُوعَ الْحُجَّةِ ، مَسْلُوبَ الْعَزَاءِ ، قَلِيلَ الْحِيلَةِ
، مَعَ مَا يَنَالُهُ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَجَسَدِهِ حَتَّى يَصِيرَ
أَضَرَّ عَلَيْهِ مِمَّا غَضِبَ لَهُ
.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ
شَطَطُهُ كَثُرَ غَلَطُهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : مَا الَّذِي يُبَاعِدُنِي عَنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟
قَالَ : لَا تَغْضَبْ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ
الْعَبْدُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، إذَا غَضِبَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءُ : مَنْ رَدَّ غَضَبَهُ
هَدَّ مَنْ أَغْضَبَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا هَيَّجَ جَأْشَك
كَغَيْظٍ أَجَاشَكَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ عِظْنِي .
قَالَ : لَا تَغْضَبْ .
فَيَنْبَغِي لِذِي اللُّبِّ السَّوِيِّ وَالْحَزْمِ
الْقَوِيِّ أَنْ يَتَلَقَّى قُوَّةَ الْغَضَبِ بِحِلْمِهِ فَيَصُدَّهَا ،
وَيُقَابِلَ دَوَاعِيَ شِرَّتِهِ بِحَزْمِهِ فَيَرُدُّهَا ، لِيَحْظَى بِأَجَلِّ
الْخِبْرَةِ وَيَسْعَدَ بِحَمِيدِ الْعَاقِبَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : فِي إغْضَابِك رَاحَةُ
أَعْصَابِك .
وَسَبَبُ الْغَضَبِ هُجُومُ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ
مِمَّنْ دُونَهَا ، وَسَبَبُ الْحُزْنِ هُجُومُ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ مِمَّنْ
فَوْقَهَا .
وَالْغَضَبُ يَتَحَرَّكُ مِنْ دَاخِلِ الْجَسَدِ إلَى
خَارِجِهِ ، وَالْحُزْنُ يَتَحَرَّك مِنْ خَارِجِ الْجَسَدِ إلَى دَاخِلِهِ .
فَلِذَلِكَ قَتَلَ الْحُزْنُ وَلَمْ يَقْتُلْ الْغَضَبُ
لِبُرُوزِ الْغَضَبِ وَكُمُونِ الْحُزْنِ .
وَصَارَ الْحَادِثُ عَنْ الْغَضَبِ السَّطْوَةَ
وَالِانْتِقَامَ لِبُرُوزِهِ ، وَالْحَادِثُ عَنْ الْحُزْنِ الْمَرَضَ
وَالْأَسْقَامَ لِكُمُونِهِ .
وَلِذَلِكَ أَفْضَى الْحُزْنُ إلَى الْمَوْتِ وَلَمْ
يُفِضْ
إلَيْهِ
الْغَضَبُ .
فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِتَسْكِينِ الْغَضَبِ إذَا هَجَمَ أَسْبَابًا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى
الْحِلْمِ مِنْهَا : أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى
الْخَوْفِ مِنْهُ ، وَيَبْعَثُهُ الْخَوْفُ مِنْهُ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ ،
فَيَرْجِعُ إلَى أَدَبِهِ وَيَأْخُذُ بِنَدْبِهِ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ الْغَضَبُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا
نَسِيتَ } قَالَ عِكْرِمَةُ : يَعْنِي إذَا غَضِبْتَ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ
يَنْزَغَنَّكَ أَيْ يُغْضِبَنَّكَ ، فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَعْنِي أَنَّهُ سَمِيعٌ بِجَهْلِ مَنْ جَهِلَ ، عَلِيمٌ
بِمَا يُذْهِبُ عَنْك الْغَضَبَ
.
وَذُكِرَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا يَا ابْنَ
آدَمَ اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك حِينَ أَغْضَبُ ، فَلَا أَمْحَقُك
فِيمَنْ أَمْحَقُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْفُرْسِ كَتَبَ
كِتَابًا وَدَفَعَهُ إلَى وَزِيرٍ لَهُ وَقَالَ : إذَا غَضِبْتُ فَنَاوِلْنِيهِ .
وَكَانَ فِيهِ : مَا لَك وَالْغَضَبُ إنَّمَا أَنْتَ
بَشَرٌ ، ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْك مَنْ فِي السَّمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ ذَكَرَ قُدْرَةَ
اللَّهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْ قُدْرَتَهُ فِي ظُلْمِ عِبَادِ اللَّهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ مُحَارِبٍ
لِهَارُونَ الرَّشِيدِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَسْأَلُك بِاَلَّذِي أَنْتَ
بَيْنَ يَدَيْهِ أَذَلُّ مِنِّي بَيْنَ يَدَيْك ، وَبِاَلَّذِي هُوَ أَقْدَرُ
عَلَى عِقَابِك مِنْك عَلَى عِقَابِي لَمَا عَفَوْتَ عَنِّي .
فَعَفَا عَنْهُ لَمَّا ذَكَّرَهُ قُدْرَةَ اللَّهِ
تَعَالَى .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَسْوَةَ فَقَالَ : اطَّلِعْ فِي الْقُبُورِ
وَاعْتَبِرْ بِالنُّشُورِ } .
وَكَانَ بَعْضُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ إذَا غَضِبَ أُلْقِيَ
عِنْدَهُ مَفَاتِيحُ تُرَبِ الْمُلُوكِ فَيَزُولُ غَضَبُهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنْ
الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ
الْحَالَةِ
الَّتِي هُوَ فِيهَا إلَى حَالَةٍ غَيْرِهَا ، فَيَزُولُ عَنْهُ الْغَضَبُ بِتَغَيُّرِ
الْأَحْوَالِ وَالتَّنَقُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ .
وَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ الْمَأْمُونِ إذَا غَضِبَ أَوْ
شُتِمَ .
وَكَانَتْ الْفُرْسُ تَقُولُ : إذَا غَضِبَ الْقَائِمُ
فَلْيَجْلِسْ وَإِذَا غَضِبَ الْجَالِسُ فَلْيَقُمْ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ
الْغَضَبُ مِنْ النَّدَمِ وَمَذَمَّةِ الِانْتِقَامِ .
وَكَتَبَ إبْرُوِيزُ إلَى ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ : إنَّ
كَلِمَةً مِنْك تَسْفِكُ دَمًا وَأُخْرَى مِنْك تَحْقِنُ دَمًا ، وَإِنَّ نَفَاذَ
أَمْرِك مَعَ كَلَامِك ، فَاحْتَرِسْ ، فِي غَضَبِك ، مِنْ قَوْلِك أَنْ تُخْطِئَ
، وَمِنْ لَوْنِك أَنْ يَتَغَيَّرَ ، وَمِنْ جَسَدِك أَنْ يَخِفَّ ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ
تُعَاقِبُ قُدْرَةً ، وَتَعْفُو حِلْمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْغَضَبُ عَلَى مَنْ لَا
تَمْلِكُ عَجْزٌ ، وَعَلَى مَنْ تَمْلِكُ لُؤْمٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إيَّاكَ وَعِزَّةَ
الْغَضَبِ فَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى ذُلِّ الْعُذْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَإِذَا مَا اعْتَرَتْك
فِي الْغَضَبِ الْعِزَّةُ فَاذْكُرْ تَذَلُّلَ الِاعْتِذَارِ وَمِنْهَا : أَنْ
يَذْكُرَ ثَوَابَ الْعَفْوِ ، وَجَزَاءَ الصَّفْحِ ، فَيَقْهَرُ نَفْسَهُ عَلَى
الْغَضَبِ رَغْبَةً فِي الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ ، وَحَذَرًا مِنْ اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ
وَالْعِقَابِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَنْ لَهُ أَجْرٌ
عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَقُمْ .
فَيَقُومُ الْعَافُونَ عَنْ النَّاسِ .
ثُمَّ تَلَا : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ } } .
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ ، فِي أُسَارَى ابْنِ الْأَشْعَثِ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاك مَا
تُحِبُّ مِنْ الظَّفَرِ فَأَعْطِ اللَّهَ مَا يُحِبُّ مِنْ الْعَفْوِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْخَيْرُ ثَلَاثُ خِصَالٍ فَمَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ
اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ : مَنْ إذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ
، وَإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ
مِنْ
حَقٍّ ، وَإِذَا قَدَرَ عَفَا } .
وَأَسْمَعَ رَجُلٌ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
كَلَامًا فَقَالَ عُمَرُ : أَرَدْتَ أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ لِعِزَّةِ
السُّلْطَانِ فَأَنَالُ مِنْك الْيَوْمَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا انْصَرِفْ
رَحِمَك اللَّهُ .
وَمِنْهَا :
أَنْ يَذْكُرَ انْعِطَافَ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ ،
وَمَيْلَ النُّفُوسِ إلَيْهِ ، فَلَا يَرَى إضَاعَةَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرِ النَّاسِ
عَنْهُ فَيَرْغَبُ فِي التَّأَلُّفِ وَجَمِيلِ الثَّنَاءِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَطِيَّةَ ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَا ازْدَادَ أَحَدٌ بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا ، فَاعْفُوا يُعِزُّكُمْ اللَّهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَيْسَ مِنْ عَادَةِ
الْكِرَامِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ ، وَلَا مِنْ شُرُوطِ الْكَرَمِ إزَالَةُ النِّعَمِ .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
: إنِّي شَاوَرْتُ فِي أَمْرِك فَأَشَارُوا عَلَيَّ بِقَتْلِك إلَّا أَنِّي
وَجَدْتُ قَدْرَك فَوْقَ ذَنْبِك فَكَرِهْتُ الْقَتْلَ لِلَازِمِ حُرْمَتِك .
فَقَالَ
: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْمُشِيرَ أَشَارَ
بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي السِّيَاسَةِ ، إلَّا أَنَّك أَبَيْت أَنْ
تَطْلُبَ النَّصْرَ إلَّا مِنْ حَيْثُ عَوَّدَتْهُ مِنْ الْعَفْوِ فَإِنْ عَاقَبْت
فَلَكَ نَظِيرٌ ، وَإِنْ عَفَوْتَ فَلَا نَظِيرَ لَك .
وَأَنْشَأَ يَقُولُ : الْبِرُّ بِي مِنْكَ وَطَّا
الْعُذْرَ عِنْدَكَ لِي فِيمَا فَعَلْتَ فَلَمْ تَعْذِلْ وَلَمْ تَلُمْ وَقَامَ
عِلْمُكَ بِي فَاحْتَجَّ عِنْدَكَ لِي مَقَامُ شَاهِدٍ عَدْلٍ غَيْرِ مُتَّهَمِ
لَئِنْ جَحَدْتُكَ مَعْرُوفًا مَنَنْتَ بِهِ إنِّي لَفِي اللُّؤْمِ أَحْظَى مِنْكَ
بِالْكَرَمِ تَعْفُو بِعَدْلٍ وَتَسْطُو إنْ سَطَوْتَ بِهِ فَلَا عَدِمْنَاكَ مِنْ
عَافٍ وَمُنْتَقِمِ
الصِّدْقُ
وَالْكَذِبُ .
الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ : قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
} .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك فَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ
وَالصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَصْلَحَ مِنْ لِسَانِهِ ، وَأَقْصَرَ
مِنْ عِنَانِهِ ، وَأَلْزَمَ طَرِيقَ الْحَقِّ مِقْوَلَهُ ، وَلَمْ يُعَوِّدْ
الْخَطَلَ مَفْصِلَهُ } .
وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : { قِيلَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا ؟ قَالَ :
نَعَمْ .
قِيلَ : أَفَيَكُونُ بَخِيلًا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : أَفَيَكُونُ كَذَّابًا ؟ قَالَ : لَا } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي
قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } أَيْ لَا
تَخْلِطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ
.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْكَذَّابُ لِصٌّ ؛
لِأَنَّ اللِّصَّ يَسْرِقُ مَالَك ، وَالْكَذَّابُ يَسْرِقُ عَقْلَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْخَرَسُ خَيْرٌ مِنْ
الْكَذِبِ وَصِدْقُ اللِّسَانِ أَوَّلُ السَّعَادَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الصَّادِقُ مُصَانٌ
خَلِيلٌ ، وَالْكَاذِبُ مُهَانٌ ذَلِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَا سَيْفَ كَالْحَقِّ ،
وَلَا عَوْنَ كَالصِّدْقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَا شَيْءٌ إذَا
فَكَّرْتَ فِيهِ بِأَذْهَبَ لِلْمُرُوءَةِ وَالْجَمَالِ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي
لَا خَيْرَ فِيهِ وَأَبْعَدَ بِالْبَهَاءِ مِنْ الرِّجَالِ وَالْكَذِبُ جِمَاعُ
كُلِّ شَرٍّ ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ لِسُوءِ عَوَاقِبِهِ ، وَخُبْثِ نَتَائِجِهِ ؛
لِأَنَّهُ يُنْتِجُ النَّمِيمَةَ ، وَالنَّمِيمَةُ تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ ،
وَالْبَغْضَاءُ تُؤَوَّلُ إلَى الْعَدَاوَةِ ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ
وَلَا رَاحَةٌ .
وَلِذَلِكَ
قِيلَ : مَنْ قَلَّ صِدْقُهُ قَلَّ صَدِيقُهُ .
وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ يَدْخُلَانِ الْأَخْبَارَ
الْمَاضِيَةَ ، كَمَا أَنَّ الْوَفَاءَ وَالْخُلْفَ يَدْخُلَانِ الْمَوَاعِيدَ
الْمُسْتَقْبَلَةَ .
فَالصِّدْقُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى مَا
هُوَ عَلَيْهِ ، وَالْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ
عَلَيْهِ .
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَوَاعٍ .
فَدَوَاعِي الصِّدْقِ لَازِمَةٌ ، وَدَوَاعِي الْكَذِبِ
عَارِضَةٌ ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلٌ مُوجِبٌ وَشَرْعٌ مُؤَكَّدٌ
، فَالْكَذِبُ يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ وَيَصُدُّ عَنْهُ الشَّرْعُ .
وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَسْتَفِيضَ الْأَخْبَارُ
الصَّادِقَةُ حَتَّى تَصِيرَ مُتَوَاتِرَةً ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَفِيضَ
الْأَخْبَارُ الْكَاذِبَةُ ؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَ النَّاسِ فِي الصِّدْقِ
وَالْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ لِاتِّفَاقِ الدَّوَاعِي ، فَدَوَاعِي الصِّدْقِ يَجُوزُ
أَنْ يَتَّفِقَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ عَلَيْهَا ، حَتَّى إذَا تَلَقَّوْا خَبَرًا
، وَكَانُوا عَدَدًا يَنْتَفِي عَنْ مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةُ ، وَقَعَ فِي
النَّفْسِ صِدْقُهُ ؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَيْهِ نَافِعَةٌ ، وَاتِّفَاقُ
النَّاسِ فِي الدَّوَاعِي النَّافِعَةِ مُمْكِنٌ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ ،
الَّذِي لَا يُمْكِنُ مُوَاطَأَةُ مِثْلِهِمْ ، عَلَى نَقْلِ خَبَرٍ يَكُونُ
كَذِبًا ؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَيْهِ غَيْرُ نَافِعَةٍ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ
ضَارَّةً .
وَلَيْسَ فِي جَارِي الْعَادَةِ أَنْ يَتَّفِقَ
الْجَمْعُ الْكَثِيرُ عَلَى دَوَاعٍ غَيْرِ نَافِعَةٍ .
وَلِذَلِكَ جَازَ اتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى الصِّدْقِ ؛
لِجَوَازِ اتِّفَاقِ دَوَاعِيهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى
الْكَذِبِ لِامْتِنَاعِ اتِّفَاقِ دَوَاعِيهِمْ .
وَإِذَا كَانَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ دَوَاعٍ فَلَا
بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا سَنَحَ بِهِ الْخَاطِرُ مِنْ دَوَاعِيهِمَا .
أَمَّا دَوَاعِي الصِّدْقِ فَمِنْهَا : الْعَقْلُ ؛
لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِقُبْحِ الْكَذِبِ ، لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَجْلِبْ نَفْعًا
وَلَمْ يَدْفَعْ ضَرَرًا .
وَالْعَقْلُ يَدْعُو إلَى فِعْلِ مَا كَانَ
مُسْتَحْسَنًا ، وَيَمْنَعُ مِنْ إتْيَانِ مَا كَانَ
مُسْتَقْبَحًا .
وَلَيْسَ مَا اُسْتُحْسِنَ مِنْ مُبَالَغَاتِ
الشُّعَرَاءِ ، حَتَّى صَارَ كَذِبًا صُرَاحًا ، اسْتِحْسَانًا لِلْكَذِبِ فِي
الْعَقْلِ كَاَلَّذِي أَنَشَدَنِيهِ الْأَزْدِيُّ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ :
تَوَهَّمَهُ فِكْرِي فَأَصْبَحَ خَدُّهُ وَفِيهِ مَكَانُ الْوَهْمِ مِنْ فِكْرَتِي
أَثَرُ وَصَافَحَهُ كَفِّي فَآلَمَ كَفَّهُ فَمِنْ لَمْسِ كَفِي فِي أَنَامِلِهِ عَقْرُ
وَمَرَّ بِقَلْبِي خَاطِرًا فَجَرَحْتُهُ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ يَجْرَحُهُ
الْفِكْرُ وَكَقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ وَإِنْ كَانَ دُونَ هَذِهِ
الْمُبَالَغَةِ : تَقُولُ وَقَدْ كَتَبْتُ دَقِيقَ خَطِّي إلَيْهَا : لِمَ
تَجَنَّبْتَ الْجَلِيلَا فَقُلْت لَهَا
: نَحِلْتُ فَصَارَ خَطِّي مُسَاعَدَةً لِكَاتِبِهِ
نَحِيلَا لِأَنَّهُ خَرَجَ مُخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ
وَالِاقْتِدَارِ عَلَى صَنْعَةِ الشَّعْرِ ، وَأَنَّ شَوَاهِدَ الْحَالِ
تُخْرِجُهُ عَنْ تَلْبِيسِ الْكَذِبِ ، وَكَذَلِكَ مَا اُسْتُحْسِنَ فِي
الصَّنْعَةِ وَلَمْ يُسْتَقْبَحْ فِي الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ الْكَذِبُ
مُسْتَقْبَحًا فِيهِ .
وَمِنْهَا : الدِّينُ الْوَارِدُ بِاتِّبَاعِ الصِّدْقِ وَحَظْرِ
الْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِإِرْخَاصِ مَا حَظَرَهُ
الْعَقْلُ ، بَلْ قَدْ جَاءَ الشَّرْعُ زَائِدًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ
مِنْ حَظْرِ الْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِحَظْرِ الْكَذِبِ وَإِنْ
جَرَّ نَفْعًا أَوْ دَفَعَ ضَرَرًا
.
وَالْعَقْلُ إنَّمَا حَظْرَ مَا لَا يَجْلِبُ نَفْعًا
وَلَا يَدْفَعُ ضَرَرًا .
وَمِنْهَا :
الْمُرُوءَةُ فَإِنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْكَذِبِ
بَاعِثَةٌ عَلَى الصِّدْقِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْنَعُ مَنْ فَعَلَ مَا كَانَ مُسْتَكْرَهًا
، فَأَوْلَى مَنْ فَعَلَ مَا كَانَ مُسْتَقْبَحًا .
وَمِنْهَا : حُبُّ الثَّنَاءِ وَالِاشْتِهَارِ
بِالصِّدْقِ حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلٌ وَلَا يَلْحَقُهُ نَدَمٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لِيَكُنْ مَرْجِعُك
إلَى الْحَقِّ وَمَنْزَعُكَ إلَى الصِّدْقِ ، فَالْحَقُّ أَقْوَى مُعِينٍ ،
وَالصِّدْقُ أَفْضَلُ قَرِينٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : عَوِّدْ لِسَانَك قَوْلَ
الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ إنَّ اللِّسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ مُعْتَادُ مُوَكَّلٌ
بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَانْظُرْ كَيْفَ تَرْتَادُ .
وَأَمَّا دَوَاعِي
الْكَذِبِ فَمِنْهَا : اجْتِلَابُ النَّفْعِ وَاسْتِدْفَاعُ الضُّرِّ ، فَيَرَى
أَنَّ الْكَذِبَ أَسْلَمُ وَأَغْنَمُ فَيُرَخِّصُ لِنَفْسِهِ فِيهِ اغْتِرَارًا
بِالْخُدَعِ ، وَاسْتِشْفَافًا لِلطَّمَعِ .
وَرُبَّمَا كَانَ الْكَذِبُ أَبْعَدَ لِمَا يُؤَمِّلُ
وَأَقْرَبَ لِمَا يَخَافُ ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَالشَّرَّ
لَا يَصِيرُ خَيْرًا .
وَلَيْسَ يُجْنَى مِنْ الشَّوْكِ الْعِنَبُ وَلَا مِنْ
الْكَرْمِ الْحَنْظَلُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَحَرَّوْا الصِّدْقَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّ فِيهِ
الْهَلَكَةَ فَإِنَّ فِيهِ النَّجَاةَ ، وَتَجَنَّبُوا الْكَذِبَ وَإِنْ
رَأَيْتُمْ أَنَّ فِيهِ النَّجَاةَ فَإِنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: لَأَنْ يَضَعَنِي الصِّدْقُ وَقَلَّمَا يَفْعَلُ ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ
يَرْفَعَنِي الْكَذِبُ وَقَلَّمَا يَفْعَلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الصِّدْقُ مُنْجِيك
وَإِنْ خِفْته ، وَالْكَذِبُ مُرْدِيك وَإِنْ أَمِنْته .
وَقَالَ الْجَاحِظُ : الصِّدْقُ وَالْوَفَاءُ
تَوْأَمَانِ ، وَالصَّبْرُ وَالْحِلْمُ تَوْأَمَانِ فِيهِنَّ تَمَامُ كُلِّ دِينٍ
، وَصَلَاحُ كُلِّ دُنْيَا ، وَأَضْدَادُهُنَّ سَبَبُ كُلِّ فُرْقَةٍ وَأَصْلُ
كُلِّ فَسَادٍ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُؤْثِرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ
مُسْتَعْذَبًا وَكَلَامُهُ مُسْتَظْرَفًا ، فَلَا يَجِدُ صِدْقًا يُعْذَبُ وَلَا حَدِيثًا
يُسْتَظْرَفُ ، فَيَسْتَحْلِي الْكَذِبَ الَّذِي لَيْسَتْ غَرَائِبُهُ مَعُوزَةً ،
وَلَا ظَرَائِفُهُ مُعْجِزَةً .
وَهَذَا النَّوْعُ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّا قَبْلُ ؛
لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةِ النَّفْسِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ .
وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ : لَمْ يَكْذِبْ أَحَدٌ قَطُّ
إلَّا لِصِغَرِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : لَا تَتَهَاوَنْ
بِإِرْسَالِ الْكِذْبَةِ مِنْ الْهَزْلِ فَإِنَّهَا تُسْرِعُ إلَى إبْطَالِ
الْحَقِّ .
وَمِنْهَا :
أَنْ يَقْصِدَ بِالْكَذِبِ التَّشَفِّيَ مِنْ عَدُوِّهِ
فَيُسَمِّهِ بِقَبَائِحَ يَخْتَرِعُهَا عَلَيْهِ ، وَيَصِفُهُ بِفَضَائِحَ
يَنْسُبُهَا إلَيْهِ .
وَيَرَى أَنَّ مَعَرَّةَ الْكَذِبِ غُنْمٌ
وَأَنَّ
إرْسَالَهَا فِي الْعَدُوِّ سَهْمٌ وَسُمٌّ .
وَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّوْعَيْنِ
الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْكَذِبِ الْمُعِرِّ وَالشَّرِّ
الْمُضِرِّ .
وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ شَهَادَةِ
الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ .
وَمِنْهَا :
أَنْ تَكُونَ دَوَاعِي الْكَذِبِ قَدْ تَرَادَفَتْ
عَلَيْهِ حَتَّى أَلِفَهَا ، فَصَارَ الْكَذِبُ لَهُ عَادَةً ، وَنَفْسُهُ إلَيْهِ
مُنْقَادَةٌ ، حَتَّى لَوْ رَامَ مُجَانَبَةَ الْكَذِبِ عَسِرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ
الْعَادَةَ طَبْعٌ ثَانٍ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مَنْ اسْتَحْلَى رَضَاعَ
الْكَذِبِ عَسِرَ فِطَامُهُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا يَلْزَمُ
الْكَذَّابَ شَيْءٌ إلَّا غَلَبَ عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَذَّابِ قَبْلَ خِبْرَتِهِ
أَمَارَاتٍ دَالَّةً عَلَيْهِ .
فَمِنْهَا :
أَنَّك إذَا لَقَّنْتَهُ الْحَدِيثَ تَلَقَّنَهُ وَلَمْ
يَكُنْ بَيْنَ مَا لَقَّنْته وَبَيْنَ مَا أَوْرَدَهُ فَرْقٌ عِنْدَهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّك إذَا شَكَّكْتَهُ فِيهِ تَشَكَّكَ
حَتَّى يَكَادَ يَرْجِعُ فِيهِ ، وَلَوْلَاك مَا تَخَالَجَهُ الشَّكُّ فِيهِ .
وَمِنْهَا :
أَنَّك إذَا رَدَدْت عَلَيْهِ قَوْلَهُ حُصِرَ
وَارْتَبَكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نُصْرَةُ الْمُحْتَجِّينَ ، وَلَا بُرْهَانُ الصَّادِقِينَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ : الْكَذَّابُ كَالسَّرَابِ .
وَمِنْهَا :
مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ رِيبَةِ الْكَذَّابِينَ
وَيَنُمُّ عَلَيْهِ مِنْ ذِلَّةِ الْمُتَوَهِّمِينَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَا
يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِمَا فِي الطَّبْعِ مِنْ آثَارِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : الْعَيْنَانِ أَنَمُّ
مِنْ اللِّسَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْوُجُوهُ مَرَايَا
تُرِيك أَسْرَارَ الْبَرَايَا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : تُرِيكَ أَعْيُنُهُمْ مَا
فِي صُدُورِهِمْ إنَّ الْعُيُونَ يُؤَدِّي سِرَّهَا النَّظَرُ وَإِذَا اتَّسَمَ
بِالْكَذِبِ نُسِبَتْ إلَيْهِ شَوَارِدُ الْكَذِبِ الْمَجْهُولَةُ ، وَأُضِيفَتْ
إلَى أَكَاذِيبِهِ زِيَادَاتٌ مُفْتَعَلَةٌ حَتَّى يَصِيرَ الْكَاذِبُ مَكْذُوبًا
عَلَيْهِ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَعَرَّةِ الْكَذِبِ مِنْهُ
وَمَضَرَّةِ
الْكَذِبِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : حَسْبُ الْكَذُوبِ مِنْ
الْبَلِيَّةِ بَعْضُ مَا يُحْكَى عَلَيْهِ فَإِذَا سَمِعْت بِكِذْبَةٍ مِنْ
غَيْرِهِ نُسِبَتْ إلَيْهِ ثُمَّ إنَّهُ إنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ اُتُّهِمَ ،
وَإِنْ جَانَبَ الْكَذِبَ كُذِّبَ ، حَتَّى لَا يُعْتَقَدُ لَهُ حَدِيثٌ يُصَدَّقُ
، وَلَا كَذِبٌ مُسْتَنْكَرٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا عُرِفَ الْكَذَّابُ
بِالْكَذِبِ لَمْ يَكَدْ يُصَدَّقُ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ صَادِقَا وَمِنْ آفَةِ
الْكَذَّابِ نِسْيَانُ كِذْبِهِ وَتَلْقَاهُ ذَا حِفْظٍ إذَا كَانَ صَادِقَا
وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِإِرْخَاصِ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ وَإِصْلَاحِ
ذَاتِ الْبَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّوْرِيَةِ ، وَالتَّأْوِيلِ دُونَ التَّصْرِيحِ
بِهِ .
فَإِنَّ السُّنَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَرِدَ بِإِبَاحَةِ
الْكَذِبِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنْفِيرِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ
التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ ، كَمَا { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَطَرَّفَ بِرِدَاءٍ وَانْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مِنْ مَاءٍ } ، فَوَرَّى عَنْ
الْإِخْبَارِ بِنَسَبِهِ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ .
فَظَنَّ السَّائِلُ أَنَّهُ عَنَى الْقَبِيلَةَ
الْمَنْسُوبَةَ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُخْلَقُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ ،
فَبَلَغَ مَا أَحَبَّ مِنْ إخْفَاءِ نَفْسِهِ وَصَدَقَ فِي خَبَرِهِ .
وَكَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ مَعَهُ فَتَلْقَاهُ الْعَرَبُ وَهُمْ
يَعْرِفُونَ أَبَا بَكْرٍ وَلَا يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُ : هَادٍ
يَهْدِينِي السَّبِيلَ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ يَعْنِي هِدَايَةَ الطَّرِيقِ ،
وَهُوَ إنَّمَا يُرِيدُ هِدَايَةَ سَبِيلِ الْخَيْرِ ، فَيَصْدُقُ فِي قَوْلِهِ
وَيُوَرِّي عَنْ مُرَادِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي أَنْ يَعِفَّ الرَّجُلَ عَنْ الْكَذِبِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى
{ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
} .
أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَكِنَّهُ مَعَارِيضُ الْكَلَامِ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ
يُصَرَّحَ فِيهِ بِالْكَذِبِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ مِنْ الصِّدْقِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَذِبِ فِي الْقُبْحِ وَالْمَعَرَّةِ
وَيَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْأَذَى وَالْمَضَرَّةِ ، وَهِيَ الْغِيبَةُ
وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّعَايَةُ .
فَأَمَّا الْغِيبَةُ فَإِنَّهَا خِيَانَةٌ وَهَتْكُ
سِتْرٍ يَحْدُثَانِ عَنْ حَسَدٍ وَغَدْرٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } .
يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَحْمُهُ مَيِّتًا
لَا تَحِلُّ غِيبَتُهُ حَيًّا .
وَرُوِيَ {
أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَتَا تَغْتَابَانِ النَّاسَ
فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَامَتَا عَمَّا
أُحِلَّ لَهُمَا ، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمَا } .
وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ
بِظَهْرِ الْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحَرِّمَ
لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ } .
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : الْغِيبَةُ رَعْيُ
اللِّئَامِ .
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى ، يَقُولُ : الْغِيبَةُ فَاكِهَةُ النِّسَاءِ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
إنِّي اغْتَبْتُك فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ .
فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أَحِلَّ لَك مَا حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْك .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : لَا تُعِنْ النَّاسَ عَلَى
عَيْبِك بِسُوءِ غَيْبِك .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي
النَّاسِ مَا سَتَرُوا فَيَهْتِكَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ
مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَرُبَّمَا
عَذَرَ الْمُغْتَابُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَقُولُ حَقًّا وَيُعْلِنُ فِسْقًا .
وَيَسْتَشْهِدُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَيْسَتْ غِيبَتُهُمْ
بِغِيبَةٍ الْإِمَامُ الْجَائِرُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَالْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ } .
فَيَبْعُدُ مِنْ الصَّوَابِ وَيُجَانِبُ الْأَدَبَ ؛
لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ
بِالْغِيبَةِ
صَادِقًا فَقَدْ هَتَكَ سِتْرًا كَانَ بِصَوْنِهِ أَوْلَى وَجَاهَرَ مَنْ أَسَرَّ
وَأَخْفَى .
وَرُبَّمَا دَعَا الْمُغْتَابَ ذَلِكَ إلَى إظْهَارِ مَا
كَانَ يَسْتُرُهُ ، وَالْمُجَاهَرَةِ بِمَا كَانَ يُضْمِرُهُ ، فَلَمْ يَفِدْ
ذَلِكَ إلَّا فَسَادَ أَخْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَلَاحٌ
لِغَيْرِهِ .
وَقَدْ قِيلَ لِأَنُوشِرْوَان : مَا الَّذِي لَا خَيْرَ
فِيهِ ؟ قَالَ : مَا ضَرَّنِي وَلَمْ يَنْفَعْ غَيْرِي ، أَوْ ضَرَّ غَيْرِي
وَلَمْ يَنْفَعْنِي ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خَيْرًا .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تُبْدِ مِنْ
الْعُيُوبِ مَا سَتَرَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ .
وَقَدْ رَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ
أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْغِيبَةِ فَقَالَ : هِيَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيك مَا فِيهِ
فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ
بَهَتَهُ } .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْله
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } إنَّهُ اسْتِهْزَاءُ الْمُسْلِمِ بِمَنْ
أَعْلَنَ بِفِسْقِهِ .
{ وَدَخَلَتْ امْرَأَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَفْتِيَةً فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقْصَرَهَا .
فَقَالَ : مَهْلًا إيَّاكِ وَالْغِيبَةَ .
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا قُلْت مَا
فِيهَا .
قَالَ : أَجَلْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ بُهْتَانًا } .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ صِفَةِ اللَّئِيمِ ،
فَقَالَ : اللَّئِيمُ إذَا غَابَ عَابَ ، وَإِذَا حَضَرَ اغْتَابَ .
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْكَارِ
لِأَفْعَالِ هَؤُلَاءِ وَلَا يَكُونُ الْإِنْكَارُ غِيبَةً ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ
عَنْ مُنْكَرٍ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ إنْكَارِ الْمُجَاهِرِ وَغِيبَةِ الْمُسَاتَرِ .
وَأَمَّا النَّمِيمَةُ : فَهِيَ أَنْ تَجْمَعَ إلَى
مَذَمَّةِ الْغِيبَةِ رَدَاءَةً وَشَرًّا ، وَتَضُمَّ إلَى لُؤْمِهَا دَنَاءَةً
وَغَدْرًا .
ثُمَّ تُؤَوَّلُ إلَى تَقَاطُعِ الْمُتَوَاصِلِينَ ،
وَتَبَاغُضِ
الْمُتَحَابِّينَ .
وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : مِنْ شِرَارِكُمْ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ
، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ الْعُيُوبَ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَلْعُونٌ ذُو الْوَجْهَيْنِ ، مَلْعُونٌ ذُو اللِّسَانَيْنِ
مَلْعُونٌ كُلُّ شَفَّارٍ ، مَلْعُونٌ كُلُّ قَتَّاتٍ ، مَلْعُونٌ كُلُّ مَنَّانٍ } .
الشَّفَّارُ الْمُحَرِّشُ بَيْنَ النَّاسِ يُلْقِي
بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ ، وَالْقَتَّاتُ النَّمَّامُ وَقِيلَ النَّمَّامُ الَّذِي
يَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ يَتَحَدَّثُونَ فَيَنُمُّ حَدِيثَهُمْ ، وَالْقَتَّاتُ
هُوَ الَّذِي يَسْتَمِعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَنُمُّ حَدِيثَهُمْ
، وَالْمَنَّانُ هُوَ الَّذِي يَصْنَعُ الْخَيْرَ وَيَمُنُّ بِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : النَّمِيمَةُ سَيْفٌ
قَاتِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَمْ يَمْشِ مَاشٍ شَرٌّ
مِنْ وَاشٍ .
فَأَمَّا السِّعَايَةُ فَهِيَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ ؛
لِأَنَّهَا تَجْمَعُ إلَى مَذَمَّةِ الْغِيبَةِ وَلُؤْمِ النَّمِيمَةِ ،
التَّغْرِيرَ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، وَالْقَدَحَ فِي الْمَنَازِلِ
وَالْأَحْوَالِ .
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا دَيُّوثٌ وَلَا
قَلَّاعٌ } .
الدَّيُّوثُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
، سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَدُثُّ بَيْنَهُمْ .
وَالْقَلَّاعُ هُوَ السَّاعِي الَّذِي يَقَعُ فِي
النَّاسِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي الرَّجُلَ
الْمُتَمَكِّنَ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَلَا يَزَالُ يَقَعُ فِيهِ حَتَّى يَقْلَعَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : السَّاعِي بَيْنَ
مَنْزِلَتَيْنِ قَبِيحَتَيْنِ :
إمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَقَ فَقَدْ خَانَ الْأَمَانَةَ ،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَذَبَ فَخَالَفَ الْمُرُوءَةَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ
: الصِّدْقُ يُزَيِّنُ كُلَّ أَحَدٍ إلَّا السُّعَاةَ ، فَإِنَّ
السَّاعِيَ أَذَمُّ وَآثَمُ مَا يَكُونُ إذَا صَدَقَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : النَّمِيمَةُ دَنَاءَةٌ
وَالسِّعَايَةُ رَدَاءَةٌ ، وَهُمَا رَأْسُ الْغَدْرِ وَأَسَاسُ الشَّرِّ
فَتَجَنَّبْ سُبُلَهُمَا ، وَاجْتَنِبْ أَهْلَهُمَا .
وَوَقَعَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى قِصَّةِ سَاعٍ
سَعَى إلَيْهِ : نَحْنُ نَرَى قَبُولَ السِّعَايَةِ شَرًّا مِنْهَا ؛ لِأَنَّ
السِّعَايَةَ دَلَالَةٌ ، وَالْقَبُولَ إجَازَةٌ ، فَاتَّقُوا السَّاعِيَ
فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي سِعَايَتِهِ صَادِقًا كَانَ فِي صِدْقِهِ آثِمًا ، إذْ
لَمْ يَحْفَظْ الْحُرْمَةَ وَيَسْتُرْ الْعَوْرَةَ .
وَقَالَ الْإِسْكَنْدَرُ لِرَجُلٍ سَعَى إلَيْهِ بِرَجُلٍ
: أَتُحِبُّ أَنْ نَقْبَلَ مِنْك مَا تَقُولُ فِيهِ عَلَى أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُ
مَا يَقُولُ فِيك ؟ قَالَ : لَا
.
قَالَ : فَكُفَّ عَنْ الشَّرِّ يَكُفَّ عَنْك الشَّرُّ .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى مُوسَى - عَلَى
نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ فِي بَلَدِك سَاعِيًا وَلَسْتُ أُخْبِرُك
وَهُوَ فِي أَرْضِك .
قَالَ يَا رَبِّ دُلَّنِي عَلَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَهُ
فَقَالَ : يَا مُوسَى أَكْرَهُ النَّمِيمَةَ وَأَنُمُّ .
الْحَسَدُ
وَالْمُنَافَسَةُ .
الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْحَسَدِ وَالْمُنَافَسَةِ :
اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ مَعَ إضْرَارِهِ بِالْبَدَنِ وَفَسَادِهِ
لِلدَّيْنِ ، حَتَّى لَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ ،
فَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } وَنَاهِيكَ بِحَالِ ذَلِكَ
شَرًّا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { دَبَّ إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْبَغْضَاءُ وَالْحَسَدُ
هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ وَاَلَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أُنَبِّئُكُمْ
بِأَمْرٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ اُفْشُوَا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } .
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ
الْحَسَدِ وَأَنَّ التَّحَابُبَ يَنْفِيهِ وَأَنَّ السَّلَامَ يَبْعَثُ عَلَى
التَّحَابُبِ ، فَصَارَ السَّلَامُ إذًا نَافِيًا لِلْحَسَدِ .
وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُوَافِقُ
هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } قَالَ
مُجَاهِدٌ : مَعْنَاهُ ادْفَعْ بِالسَّلَامِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : قَدْ يَلْبَثُ النَّاسُ حِينًا
لَيْسَ بَيْنُهُمْ وُدٌّ فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللُّطْفُ وَقَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ : الْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ ،
يَعْنِي حَسَدَ إبْلِيسَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ
اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ ، يَعْنِي حَسَدَ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ حَتَّى
قَتَلَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ رَضِيَ بِقَضَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَسْخَطْهُ أَحَدٌ ، وَمَنْ قَنَعَ بِعَطَائِهِ لَمْ
يَدْخُلْهُ حَسَدٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : النَّاسُ حَاسِدٌ
وَمَحْسُودٌ ، وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ حَسُودٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا رَأَيْتُ ظَالِمًا
أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ الْحَسُودِ نَفَسٌ دَائِمٌ ، وَهَمٌّ لَازِمٌ ،
وَقَلْبٌ هَائِمٌ .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : إنَّ
الْحَسُودَ الظَّلُومَ فِي كَرْبٍ يَخَالُهُ
مَنْ يَرَاهُ
مَظْلُومَا ذَا نَفَسٍ دَائِمٍ عَلَى نَفَسٍ يُظْهِرُ مِنْهَا مَا كَانَ
مَكْتُومَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَمِّ الْحَسَدِ إلَّا أَنَّهُ خُلُقٌ دَنِيءٌ
يَتَوَجَّهُ نَحْوَ الْأَكْفَاءِ وَالْأَقَارِبِ ، وَيَخْتَصُّ بِالْمُخَالِطِ
وَالْمُصَاحِبِ ، لَكَانَتْ النَّزَاهَةُ عَنْهُ كَرَمًا ، وَالسَّلَامَةُ مِنْهُ
مَغْنَمًا .
فَكَيْفَ وَهُوَ بِالنَّفْسِ مُضِرٌّ ، وَعَلَى الْهَمِّ
مُصِرٌّ ، حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى بِصَاحِبِهِ إلَى التَّلَفِ مِنْ غَيْرِ
نِكَايَةٍ فِي عَدُوٍّ وَلَا إضْرَارٍ بِمَحْسُودِ .
وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
لَيْسَ فِي خِصَالِ الشَّرِّ أَعْدَلُ مِنْ الْحَسَدِ ، يَقْتُلُ الْحَاسِدَ
قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَحْسُودِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : يَكْفِيك مِنْ الْحَاسِدِ
أَنَّهُ يَغْتَمُّ فِي وَقْتِ سُرُورِك
.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : عُقُوبَةُ الْحَاسِدِ
مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ : مَا
أَطْوَلَ عُمُرَك ، قَالَ : تَرَكْتُ الْحَسَدَ فَبَقِيتُ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي : إنِّي
لَأَحْسُدُك عَلَى مَا أَرَى مِنْ صَبْرِك عَلَى الْخُصُومِ ، وَوُقُوفِك عَلَى
غَامِضِ الْحُكْمِ .
فَقَالَ : مَا نَفَعَك اللَّهُ بِذَلِكَ وَلَا ضَرَّنِي .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى : اصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الْحَسْوِ دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهُ
فَالنَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَهَا إنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ وَحَقِيقَةُ
الْحَسَدِ شِدَّةُ الْأَسَى عَلَى الْخَيْرَاتِ تَكُونُ لِلنَّاسِ الْأَفَاضِلِ وَهُوَ
غَيْرُ الْمُنَافَسَةِ ، وَرُبَّمَا غَلِطَ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُنَافَسَةَ
فِي الْخَيْرِ هِيَ الْحَسَدُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوا ؛ لِأَنَّ
الْمُنَافَسَةَ طَلَبُ التَّشَبُّهِ بِالْأَفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ ضَرَرٍ
عَلَيْهِمْ .
وَالْحَسَدُ مَصْرُوفٌ إلَى الضَّرَرِ ؛ لِأَنَّ
غَايَتَهُ أَنْ يَعْدَمَ الْأَفَاضِلُ فَضْلَهُمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ
الْفَضْلُ لَهُ ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُنَافَسَةِ وَالْحَسَدِ .
فَالْمُنَافَسَةُ إذًا فَضِيلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ
إلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : نَافِسْ عَلَى الْخَيْرَاتِ أَهْلَ
الْعُلَا فَإِنَّمَا الدُّنْيَا أَحَادِيثُ كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ كَادِحٌ فَوَارِثٌ
مِنْهُمْ وَمَوْرُوثُ وَاعْلَمْ أَنَّ دَوَاعِيَ الْحَسَدِ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهُمَا :
بُغْضُ الْمَحْسُودِ فَيَأْسَى عَلَيْهِ بِفَضِيلَةٍ تَظْهَرُ ، أَوْ مَنْقَبَةٍ
تُشْكَرُ ، فَيُثِيرُ حَسَدًا قَدْ خَامَرَ بُغْضًا .
وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَكُونُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ
أَضَرَّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُبْغِضُ كُلَّ النَّاسِ .
وَالثَّانِي :
أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْمَحْسُودِ فَضْلٌ يَعْجِزُ عَنْهُ
فَيَكْرَهُ تَقَدُّمَهُ فِيهِ وَاخْتِصَاصَهُ بِهِ ، فَيُثِيرُ ذَلِكَ حَسَدًا لَوْلَاهُ
لَكَفَّ عَنْهُ .
وَهَذَا أَوْسَطُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُدُ
الْأَكْفَاءُ مَنْ دَنَا ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِحَسَدِ مِنْ عَلَا .
وَقَدْ يَمْتَزِجُ بِهَذَا النَّوْعِ ضَرْبٌ مِنْ
الْمُنَافَسَةِ وَلَكِنَّهَا مَعَ عَجْزٍ فَلِذَلِكَ صَارَتْ حَسَدًا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاسِدِ شُحٌّ
بِالْفَضَائِلِ ، وَبُخْلٌ بِالنِّعَمِ وَلَيْسَتْ إلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْهَا ،
وَلَا بِيَدِهِ فَيَدْفَعُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا مَوَاهِبُ قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ
مَنْ شَاءَ فَيَسْخَطُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَضَائِهِ ، وَيَحْسُدُ عَلَى
مَا مَنَحَ مِنْ عَطَائِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
عِنْدَهُ أَكْثَرَ ، وَمِنَحُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَسَدِ أَعَمَّهَا
وَأَخْبَثُهَا إذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ رَاحَةٌ ، وَلَا لِرِضَاهُ غَايَةٌ ، فَإِنْ
اقْتَرَنَ بِشَرٍّ وَقُدْرَةٍ كَانَ بُورًا وَانْتِقَامًا ، وَإِنْ صَادَفَ
عَجْزًا وَمَهَانَةً كَانَ كَمَدًا وَسَقَامًا .
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْحَسُودُ مِنْ
الْهَمِّ كَسَاقِي السُّمِّ ، فَإِنْ سَرَى سُمُّهُ زَالَ عَنْهُ غَمُّهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ بِحَسَبِ فَضْلِ الْإِنْسَانِ وَظُهُورِ
النِّعْمَةِ عَلَيْهِ يَكُونُ حَسَدُ النَّاسِ لَهُ .
فَإِنْ كَثُرَ فَضْلُهُ كَثُرَ حُسَّادُهُ ، وَإِنْ
قَلَّ قَلُّوا ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْفَضْلِ يُثِيرُ الْحَسَدَ ،
وَحُدُوثَ
النِّعْمَةِ يُضَاعِفُ الْكَمَدَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِسَتْرِهَا فَإِنَّ كُلَّ
ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا كَانَتْ
نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ إلَّا وَجَدَ لَهَا حَاسِدًا ، فَلَوْ كَانَ
الرَّجُلُ أَقْوَمَ مِنْ الْقَدْحِ لَمَا عَدِمَ غَامِزًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي
غَيْرُ لَائِمِهِمْ قَبْلِي مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا فَدَامَ
لِي وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا بِهِمْ وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ
وَرُبَّمَا كَانَ الْحَسَدُ مُنَبِّهًا عَلَى فَضْلِ الْمَحْسُودِ وَنَقْصِ الْحَسُودِ
، كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ
فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ
فِيمَا جَاوَرَتْ مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ لَوْلَا التَّخَوُّفُ
لِلْعَوَاقِبِ لَمْ يَزَلْ لِلْحَاسِدِ النُّعْمَى عَلَى الْمَحْسُودِ فَأَمَّا
مَا يَسْتَعْمِلُهُ مَنْ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِ الْحَسَدُ ، وَكَانَ طَبْعُهُ
إلَيْهِ مَائِلًا لِيَنْفِيَ عَنْهُ وَيُكْفَاهُ وَيَسْلَمُ مِنْ ضَرَرِهِ
وَعَدَاوَتِهِ ، فَأُمُورٌ هِيَ لَهُ حَسْمٌ إنْ صَادَفَهَا عَزْمٌ .
فَمِنْهَا
: اتِّبَاعُ الدِّينِ فِي اجْتِنَابِهِ ، وَالرُّجُوعِ
إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آدَابِهِ ، فَيَقْهَرُ نَفْسَهُ عَلَى مَذْمُومِ
خُلُقِهَا ، وَيَنْقُلُهَا عَنْ لَئِيمِ طَبْعِهَا .
وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الطِّبَاعِ عَسِرًا لَك
بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّدْرِيجِ يَسْهُلُ مِنْهَا مَا اُسْتُصْعِبَ ، وَيُحَبَّبُ
مِنْهَا مَا أَتْعَبَ وَإِنْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ رَبُّهُ خَلَقَهُ
كَيْفَ يُخَلِّي خَلْقَهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَانَى تَهْذِيبَ نَفْسِهِ
تَظَاهَرَ بِالتَّخَلُّقِ دُونَ الْخُلُقِ ، ثُمَّ بِالْعَادَةِ يَصِيرُ
كَالْخُلُقِ .
قَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : فَلَمْ أَجِدْ
الْأَخْلَاقَ إلَّا تَخَلُّقًا وَلَمْ أَجِدْ الْأَفْضَالَ إلَّا تَفَضُّلَا
وَمِنْهَا : الْعَقْلُ الَّذِي يَسْتَقْبِحُ بِهِ مِنْ نَتَائِجِ الْحَسَدِ مَا لَا يُرْضِيهِ
، وَيَسْتَنْكِفُ
مِنْ
هُجْنَةِ مُسَاوِيهِ ، فَيُذَلِّلُ نَفْسَهُ أَنَفَةً ، وَيَقْهَرُهَا حَمِيَّةً ،
فَتُذْعِنُ لِرُشْدِهَا ، وَتُجِيبُ إلَى صَلَاحِهَا .
وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لِذِي النَّفْسِ الْأَبِيَّةِ ،
وَالْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْهِمَّةِ يَجِلُّ عَنْ دَنَاءَةِ
الْحَسَدِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَبِيٌّ لَهُ نَفْسَانِ
نَفْسٌ زَكِيَّةُ وَنَفْسٌ إذَا مَا خَافَتْ الظُّلْمَ تُشْمِسُ وَمِنْهَا : أَنْ
يَسْتَدْفِعَ ضَرَرَهُ ، وَيَتَوَقَّى أَثَرَهُ ، وَيَعْلَمَ أَنَّ مَكَانَتَهُ
فِي نَفْسِهِ أَبْلُغُ وَمِنْ الْحَسَدِ أَبْعَدُ ، فَيَسْتَعْمِلُ الْحَزْمَ فِي دَفْعِ
مَا كَدَّهُ وَأَكْمَدَهُ لِيَكُونَ أَطْيَبَ نَفْسًا وَأَهْنَأَ عَيْشًا .
وَقَدْ قِيلَ : الْعَجَبُ لِغَفْلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ
سَلَامَةِ الْأَجْسَادِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : بَصِيرٌ بِأَعْقَابِ
الْأُمُورِ كَأَنَّمَا يَرَى بِصَوَابِ الرَّأْيِ مَا هُوَ وَاقِعُ وَمِنْهَا :
مَا يَرَى مِنْ نُفُورِ النَّاسِ عَنْهُ وَبُعْدِهِمْ مِنْهُ فَيَخَافُهُمْ إمَّا
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةٍ ، أَوْ عَلَى عِرْضِهِ مِنْ مَلَامَةٍ ،
فَيَتَأَلَّفُهُمْ بِمُعَالَجَةِ نَفْسِهِ وَيَرَاهُمْ إنْ صَلَحُوا أَجْدَى
نَفْعًا وَأَخْلَصُ وُدًّا .
وَقَالَ ابْنُ الْعَمِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
دَاوِي جَوًى بِجَوًى وَلَيْسَ بِحَازِمٍ مَنْ يَسْتَكِفُّ النَّارَ
بِالْحَلْفَاءِ وَقَالَ الْمُؤَمَّلُ بْنُ أُمَيْلٍ : لَا تَحْسَبُونِي غَنِيًّا
عَنْ مَوَدَّتِكُمْ إنِّي إلَيْكُمْ وَإِنْ أَيَسَرْتُ مُفْتَقِرُ وَمِنْهَا :
أَنْ يُسَاعِدَ الْقَضَاءَ وَيَسْتَسْلِمَ لِلْمَقْدُورِ ، وَلَا يَرَى أَنْ
يُغَالِبَ قَضَاءَ اللَّهِ فَيَرْجِعُ مَغْلُوبًا ، وَلَا أَنْ يُعَارِضَهُ فِي
أَمْرِهِ فَيُرَدُّ مَحْرُومًا مَسْلُوبًا .
وَقَدْ قَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ : إذَا لَمْ
يُسَاعِدْنَا الْقَضَاءُ سَاعَدْنَاهُ
.
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : قَدْرُ اللَّهِ كَائِنٌ
حِينَ يَقْضِي وُرُودُهُ قَدْ مَضَى فِيك عِلْمُهُ وَانْتَهَى مَا يُرِيدُهُ
فَأَرِدْ مَا يَكُونُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَا تُرِيدُهُ فَإِنْ أَظْفَرَتْهُ
السَّعَادَةُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَهَدَتْهُ الْمَرَاشِدُ إلَى
اسْتِعْمَالِ الصَّوَابِ ، سَلِمَ مِنْ سَقَامِهِ ، وَخَلُصَ مِنْ
غَرَامِهِ
، وَاسْتَبْدَلَ بِالنَّقْصِ فَضْلًا وَاعْتَاضَ مِنْ الذَّمِّ حَمْدًا .
وَلَمَنْ اسْتَنْزَلَ نَفْسَهُ عَنْ مَذَمَّةٍ
فَصَرَفَهَا عَنْ لَائِمَةٍ هُوَ أَظْهَرُ حَزْمًا وَأَقْوَى عَزْمًا مِمَّنْ
كَفَتْهُ النَّفْسُ جِهَادَهَا ، وَأَعْطَتْهُ قِيَادَهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفَتَّنٍ تَوَّابٍ .
وَإِنْ صَدَّتْهُ الشَّهْوَةُ عَنْ مَرَاشِدِهِ ،
وَأَضَلَّهُ الْحِرْمَانُ عَنْ مَقَاصِدِهِ ، فَانْقَادَ لِلطَّبْعِ اللَّئِيمِ ،
وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْخُلُقُ الذَّمِيمِ ، حَتَّى ظَهَرَ حَسَدُهُ وَاشْتَدَّ
كَمَدُهُ ، فَقَدْ بَاءَ بِأَرْبَعِ مَذَامَّ : إحْدَاهُنَّ : حَسَرَاتُ الْحَسَدِ
وَسَقَامُ الْجَسَدِ ، ثُمَّ لَا يَجِدُ لِحَسْرَتِهِ انْتِهَاءً ، وَلَا يُؤَمِّلُ
لِسَقَامِهِ شِفَاءً .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : الْحَسَدُ دَاءُ الْجَسَدِ .
وَالثَّانِيَةُ : انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَانْحِطَاطُ
الْمَرْتَبَةِ لِانْحِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ ، وَنُفُورِهِمْ مِنْهُ وَقَدْ قِيلَ
فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْحَسُودُ لَا يَسُودُ .
وَالثَّالِثَةُ : مَقْتُ النَّاسِ لَهُ حَتَّى لَا
يَجِدَ فِيهِمْ مُحِبًّا ، وَعَدَاوَتُهُمْ لَهُ حَتَّى لَا يَرَى فِيهِمْ
وَلِيًّا ، فَيَصِيرُ بِالْعَدَاوَةِ مَأْثُورًا ، وَبِالْمَقْتِ مَزْجُورًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { شَرُّ النَّاسِ مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُوهُ } .
وَالرَّابِعَةُ : إسْخَاطُ اللَّهِ تَعَالَى فِي
مُعَارَضَتِهِ ، وَاجْتِنَاءِ الْأَوْزَارِ فِي مُخَالَفَتِهِ ، إذْ لَيْسَ يَرَى
قَضَاءَ اللَّهِ عَدْلًا ، وَلَا لِنِعَمِهِ مِنْ النَّاسِ أَهْلًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْحَاسِدُ
مُغْتَاظٌ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ، بَخِيلٌ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ ، طَالِبُ
مَا لَا يَجِدُهُ .
وَإِذَا بُلِيَ الْإِنْسَانُ بِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِنْ
حُسَّادِ النِّعَمِ وَأَعْدَاءِ الْفَضْلِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ ،
وَتَوَقَّى مَصَارِعَ كَيْدِهِ ، وَتَحَرَّزَ مِنْ غَوَائِلِ حَسَدِهِ ،
وَأَبْعَدَ
عَنْ مُلَابَسَتِهِ .
وَإِدْنَائِهِ لِعَضْلِ دَائِهِ ، وَإِعْوَازِ دَوَائِهِ .
فَقَدْ قِيلَ : حَاسِدُ النِّعْمَةِ لَا يُرْضِيهِ إلَّا
زَوَالُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ ضَرَّ بِطَبْعِهِ
فَلَا تَأْنَسْ بِقُرْبِهِ ، فَإِنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ صَعْبُ الْمَرَامِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : أَسَدٌ تُقَارِبُهُ خَيْرٌ
مِنْ حَسُودٍ تُرَاقِبُهُ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : أَعْطَيْتُ كُلَّ
النَّاسِ مِنْ نَفْسِي الرِّضَى إلَّا الْحَسُودَ فَإِنَّهُ أَعْيَانِي مَا إنَّ
لِي ذَنْبًا إلَيْهِ عَلِمْتُهُ إلَّا تَظَاهَرَ نِعْمَةَ الرَّحْمَنِ وَأَبَى
فَمَا يُرْضِيهِ إلَّا ذِلَّتِي وَذَهَابُ أَمْوَالِي وَقَطْعُ لِسَانِي وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ : الطِّيَرَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ ، وَالْحَسَدُ .
فَإِذَا تَطَيَّرْت فَلَا تَرْجِعْ ، وَإِذَا ظَنَنْتَ
فَلَا تَتَحَقَّقْ ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ } .
الْمُوَاضَعَةُ
وَالْإِصْلَاحُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ
فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا تَكُونُ الْمُوَاضَعَةُ فِي فُرُوعِهِ ،
وَالْعَقْلُ مُوجِبٌ لِأُصُولِهِ
.
وَالثَّانِي مَا تَكُونُ الْمُوَاضَعَةُ فِي فُرُوعِهِ
وَأُصُولِهِ .
وَذَلِكَ مُتَّضِحٌ فِي الْفُصُولِ الَّتِي نَذْكُرُهَا
إذَا سُبِرَتْ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ
.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ وَالصَّمْتِ :
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ تَرْجُمَانٌ يُعَبِّرُ عَنْ مُسْتَوْدَعَاتِ
الضَّمَائِرِ ، وَيُخْبِرُ بِمَكْنُونَاتِ السَّرَائِرِ ، لَا يُمْكِنُ
اسْتِرْجَاعُ بَوَادِرِهِ ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّ شَوَارِدِهِ .
فَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ زَلَلِهِ
بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ أَوْ بِالْإِقْلَالِ مِنْهُ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ ، أَوْ سَكَتَ
فَسَلِمَ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ :
{ يَا مُعَاذُ أَنْتَ سَالِمٌ مَا سَكَتَّ ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَعَلَيْك أَوْ
لَك } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : اللِّسَانُ مِعْيَارٌ أَطَاشَهُ الْجَهْلُ وَأَرْجَحَهُ الْعَقْلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْزَمْ الصَّمْتَ
تُعَدُّ حَكِيمًا ، جَاهِلًا كُنْتَ أَوْ عَالِمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : سَعِدَ مَنْ لِسَانُهُ
صَمُوتٌ ، وَكَلَامُهُ قُوتٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مِنْ أَعْوَذِ مَا
يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعَاقِلُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا لِحَاجَتِهِ أَوْ
مَحَجَّتِهِ ، وَلَا يُفَكِّرُ إلَّا فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ فِي آخِرَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْزَمْ الصَّمْتَ
فَإِنَّهُ يُكْسِبُك صَفْوَ الْمَحَبَّةِ ، وَيُؤْمِنُك سُوءَ الْمَغَبَّةِ ،
وَيُلْبِسُك ثَوْبَ الْوَقَارِ ، وَيَكْفِيكَ مَئُونَةَ الِاعْتِذَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : اعْقِلْ لِسَانَك إلَّا
عَنْ حَقٍّ تُوَضِّحُهُ ، أَوْ بَاطِلٍ تَدْحَضُهُ ، أَوْ حِكْمَةٍ تَنْشُرُهَا ،
أَوْ نِعْمَةٍ تَذْكُرُهَا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْتُ الْعِزَّ فِي أَدَبٍ وَعَقْلٍ
وَفِي الْجَهْلِ الْمَذَلَّةُ وَالْهَوَانُ وَمَا حُسْنُ الرِّجَالِ لَهُمْ
بِحُسْنٍ إذَا لَمْ
يُسْعِدْ
الْحُسْنَ الْبَيَانُ كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَرَاهُ لَهُ وَجْهٌ
وَلَيْسَ لَهُ لِسَانُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ شُرُوطًا لَا يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ
مِنْ الزَّلَلِ إلَّا بِهَا ، وَلَا يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ إلَّا بَعْدَ أَنْ
يَسْتَوْفِيَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ
يَكُونَ الْكَلَامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا فِي اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ
دَفْعِ ضَرَرٍ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي
مَوْضِعِهِ ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إصَابَةَ فُرْصَتِهِ .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى
قَدْرِ حَاجَتِهِ .
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ
الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ مَتَى أَخَلَّ
الْمُتَكَلِّمُ بِشَرْطٍ مِنْهَا فَقَدْ أَوْهَنَ فَضِيلَةَ بَاقِيهَا .
وَسَنَذْكُرُ تَعْلِيلَ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا بِمَا
يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِهِ .
فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الدَّاعِي إلَى
الْكَلَامِ ؛ فَلِأَنَّ مَا لَا دَاعِيَ لَهُ هَذَيَانٌ ، وَمَا لَا سَبَبَ لَهُ
هَجْرٌ .
وَمَنْ سَامَحَ نَفْسَهُ فِي الْكَلَامِ ، إذَا عَنَّ
وَلَمْ يُرَاعِ صِحَّةَ دَوَاعِيهِ ، وَإِصَابَةَ مَعَانِيهِ ، كَانَ قَوْلُهُ
مَرْذُولًا ، وَرَأْيُهُ مَعْلُولًا ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ
أَنَّ شَابًّا كَانَ يُجَالِسُ الْأَحْنَفَ وَيُطِيلُ الصَّمْتَ ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ
الْأَحْنَفَ فَخَلَتْ الْحَلْقَةُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَفُ : تَكَلَّمْ
يَا ابْنَ أَخِي .
فَقَالَ : يَا عَمِّ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَقَطَ مِنْ
شُرَفِ هَذَا الْمَسْجِدِ هَلْ كَانَ يَضُرُّهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي
لَيْتَنَا تَرَكْنَاك مَسْتُورًا
.
ثُمَّ تَمَثَّلَ الْأَحْنَفُ بِقَوْلِ الْأَعْوَرِ
الشَّنِّيُّ : وَكَائِنٌ تَرَى مِنْ صَاحِبٍ لَك مُعْجِبٌ زِيَادَتُهُ أَوْ
نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ
يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَكَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
الْفَقِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَجْلِسُ إلَيْهِ فَيُطِيلُ الصَّمْتَ ، فَقَالَ
لَهُ أَبُو يُوسُفَ : أَلَا تَسْأَلُ ؟ قَالَ : بَلَى .
مَتَى يُفْطِرُ الصَّائِمُ ؟ قَالَ : إذَا غَرَبَتْ
الشَّمْسُ .
قَالَ :
فَإِنْ لَمْ تَغْرُبْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ :
فَتَبَسَّمَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَمَثَّلَ بِبَيْتِيِّ الْخَطَفِيِّ
جَدِّ جَرِيرٍ : عَجِبْتُ لِإِزْرَاءِ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ وَصَمْتِ الَّذِي
قَدْ كَانَ بِالْعِلْمِ أَعْلَمَا وَفِي الصَّمْتِ سِتْرٌ لِلْغَبِيِّ وَإِنَّمَا
صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَمِمَّا أُطْرِفُك بِهِ عَنِّي
أَنِّي كُنْتُ يَوْمًا فِي مَجْلِسِي بِالْبَصْرَةِ وَأَنَا مُقْبِلٌ عَلَى
تَدْرِيسِ أَصْحَابِي إذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مُسِنٌّ قَدْ نَاهَزَ
الثَّمَانِينَ أَوْ جَاوَزَهَا
.
فَقَالَ لِي : قَدْ قَصَدْتُك بِمَسْأَلَةٍ اخْتَرْتُك
لَهَا .
فَقُلْت :
اسْأَلْ - عَافَاك اللَّهُ - وَظَنَنْتُهُ يَسْأَلُ عَنْ
حَادِثٍ نَزَلَ بِهِ ، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي عَنْ نَجْمِ إبْلِيسَ ، وَنَجْمِ
آدَمَ ، مَا هُوَ ؟ فَإِنَّ هَذَيْنِ لِعِظَمِ شَأْنِهِمَا لَا يُسْأَلُ عَنْهُمَا
إلَّا عُلَمَاءُ الدِّينِ .
فَعَجِبْتُ وَعَجِبَ مَنْ فِي مَجْلِسِي مِنْ سُؤَالِهِ
وَبَدَرَ إلَيْهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِالْإِنْكَارِ وَالِاسْتِخْفَافِ
فَكَفَفْتُهُمْ وَقُلْتُ : هَذَا لَا يَقْنَعُ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ إلَّا
بِجَوَابٍ مِثْلِهِ .
فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ ، وَقُلْتُ : يَا هَذَا إنَّ
الْمُنَجِّمِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ نُجُومَ النَّاسِ لَا تُعْرَفُ إلَّا
بِمَعْرِفَةِ مَوَالِيدِهِمْ فَإِنْ ظَفَرْتَ بِمَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَاسْأَلْهُ .
فَحِينَئِذٍ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ : جَزَاك اللَّهُ
خَيْرًا .
ثُمَّ انْصَرَفَ مَسْرُورًا .
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ وَقَالَ : مَا
وَجَدْت إلَى وَقْتِي هَذَا مَنْ يَعْرِفُ مَوْلِدَ هَذَيْنِ .
فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ كَيْفَ أَبَانُوا بِالْكَلَامِ
عَنْ جَهْلِهِمْ ، وَأَعْرَبُوا بِالسُّؤَالِ عَنْ نَقْصِهِمْ ، إذْ لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ دَاعٍ إلَيْهِ ، وَلَا رَوِيَّةٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ .
وَلَوْ صَدَرَ عَنْ رَوِيَّةٍ وَدَعَا إلَيْهِ دَاعٍ
لَسَلِمُوا مِنْ شَيْنِهِ ، وَبَرِئُوا مِنْ عَيْبِهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لِسَانُ الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ فَإِذَا أَرَادَ
الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى قَلْبِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ وَإِنْ كَانَ
عَلَيْهِ
أَمْسَكَ .
وَقَلْبُ الْجَاهِلِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ يَتَكَلَّمُ
بِكُلِّ مَا عَرَضَ لَهُ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَنْ لَمْ
يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَقْلُ الْمَرْءِ
مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : احْبِسْ لِسَانَك قَبْلَ
أَنْ يُطِيلَ حَبْسَك أَوْ يُتْلِفَ نَفْسَك ، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى بِطُولِ
حَبْسٍ مِنْ لِسَانٍ يَقْصُرُ عَنْ الصَّوَابِ ، وَيُسْرِعُ إلَى الْجَوَابِ .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَمِمَّا كَانَتْ
الْحُكَمَاءُ قَالَتْ لِسَانُ الْمَرْءِ مِنْ تَبَعِ الْفُؤَادِ وَكَانَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ يَحْسِمُ الرُّخْصَةَ فِي الْكَلَامِ وَيَقُولُ : إذَا جَالَسْت الْجُهَّالَ
فَأَنْصِتْ لَهُمْ ، وَإِذَا جَالَسْت الْعُلَمَاءَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ ، فَإِنَّ
فِي إنْصَاتِك لِلْجُهَّالِ زِيَادَةً فِي الْحِلْمِ ، وَفِي إنْصَاتِك لِلْعُلَمَاءِ
زِيَادَةً فِي الْعِلْمِ .
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَا يَقَعُ
مَوْقِعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَمَا لَا يَنْفَعُ مِنْ الْكَلَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هَذَيَانٌ وَهَجْرٌ ، فَإِنْ قَدَّمَ مَا يَقْتَضِي
التَّأْخِيرَ كَانَ عَجَلَةً وَخَرَقًا وَإِنْ أَخَّرَ مَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ
كَانَ تَوَانِيًا وَعَجْزًا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ قَوْلًا ، وَفِي كُلِّ
زَمَانٍ عَمَلًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : تَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى
مَوَاضِعِهِ وَكَلَامُهَا مِنْ بَعْدِهَا نَزْرُ وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ :
وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ .
فَإِنَّ الْكَلَامَ إنْ لَمْ يَنْحَصِرْ بِالْحَاجَةِ ،
وَلَمْ يُقَدَّرْ بِالْكِفَايَةِ ، لَمْ يَكُنْ لِحَدِّهِ غَايَةٌ ، وَلَا
لِقَدْرِهِ نِهَايَةٌ .
وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلَامِ مَحْصُورًا كَانَ
حَصْرًا إنْ قَصُرَ ، وَهَذْرًا إنْ كَثُرَ .
وَرُوِيَ {
أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَكَلَّمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَوَّلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَمْ دُونَ لِسَانِك مِنْ حِجَابٍ ؟ قَالَ : شَفَتَايَ
وَأَسْنَانِي .
قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ
الِانْبِعَاقَ فِي الْكَلَامِ }
.
فَنَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ امْرِئٍ أَوْجَزَ فِي
كَلَامِهِ ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَاجَتِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى رَجُلًا
يُكْثِرُ الْكَلَامَ وَيُقِلُّ السُّكُوتَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إنَّمَا خَلْقَ لَك أُذُنَيْنِ وَلِسَانًا وَاحِدًا لِيَكُونَ مَا تَسْمَعُهُ
ضِعْفَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ
كَثُرَتْ آثَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : أُنْذِرُكُمْ فُضُولَ
الْمَنْطِقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : كَلَامُ الْمَرْءِ
بَيَانُ فَضْلِهِ ، وَتَرْجُمَانُ عَقْلِهِ ، فَاقْصُرْهُ عَلَى الْجَمِيلِ
وَاقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى الْقَلِيلِ ، وَإِيَّاكَ مَا يُسْخِطُ سُلْطَانَك ، وَيُوحِشُ
إخْوَانَك ، فَمَنْ أَسْخَطَ سُلْطَانَهُ تَعَرَّضَ لِلْمَنِيَّةِ وَمَنْ أَوْحَشَ
إخْوَانَهُ تَبَرَّأَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَزِنْ الْكَلَامَ إذَا
نَطَقْتَ فَإِنَّمَا يُبْدِي عُيُوبَ ذَوِي الْعُيُوبِ الْمَنْطِقُ
وَلِمُخَالَفَةِ قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ الْكَلَامِ حَالَتَانِ : تَقْصِيرٌ
يَكُونُ حَصْرًا ، وَتَكْثِيرٌ يَكُونُ هَذْرًا ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ .
وَشَيْنُ الْهَذَرِ أَشْنَعُ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي
الْغَالِبِ أَخْوَفَ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إلَّا حَصَائِدُ
أَلْسِنَتِهِمْ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَقْتَلُ الرَّجُلِ بَيْنَ
فَكَّيْهِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْحَصْرُ خَيْرٌ مِنْ الْهَذْرِ ؛
لِأَنَّ الْحَصْرَ يُضَعِّفُ الْحُجَّةَ ، وَالْهَذْرَ يُتْلِفُ الْمَحَجَّةَ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت اللِّسَانَ عَلَى
أَهْلِهِ إذَا سَاسَهُ الْجَهْلُ لَيْثًا مُغِيرَا وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ :
يَا رُبَّ أَلْسِنَةٍ كَالسُّيُوفِ تَقْطَعُ أَعْنَاقَ أَصْحَابِهَا .
وَمَا يَنْقُصُ مِنْ هَيْئَاتِ الرِّجَالِ يَزِيدُ فِي
بِهَائِهَا وَأَلْبَابِهَا .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ إذَا
كَثُرَ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَزَادَ عَلَى حَدِّ الْكِفَايَةِ ، وَكَانَ
صَوَابًا لَا يَشُوبُهُ
خَطَلٌ ،
وَسَلِيمًا لَا يَتَعَوَّدُهُ زَلَلٌ ، فَهُوَ الْبَيَانُ وَالسَّحَرُ الْحَلَالُ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَقَدْ
ذُمَّ الْكَلَامُ فِي مَجْلِسِهِ : كَلًّا إنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ
عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَيُحْسِنَ ، وَلَيْسَ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى
أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُحْسِنَ .
وَوَصَفَ بَعْضُهُمْ الْكَاتِبَ فَقَالَ : الْكَاتِبُ
مَنْ إذَا أَخَذَ شِبْرًا كَفَاهُ ، وَإِذَا وَجَدَ طُومَارًا أَمْلَاهُ .
وَأَنْشُدَ بَعْضُهُمْ فِي خُطَبَاءِ إيَادٍ : يَرْمُونَ
بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ صَالِحٍ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إذَا أَقْلَلْتَ مِنْ
الْكَلَامِ أَكْثَرْتَ مِنْ الصَّوَابِ
.
فَقَالَ : يَا أَبَتِ فَإِنْ أَنَا أَكْثَرْتُ
وَأَكْثَرْت يَعْنِي كَلَامًا وَصَوَابًا .
فَقَالَ : يَا بُنَيَّ مَا رَأَيْتُ مَوْعُوظًا أَحَقَّ
بِأَنْ يَكُونَ وَاعِظًا مِنْك
.
وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ : تَكَلَّمْ
وَسَدِّدْ مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّمَا كَلَامُكَ حَيٌّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ فَإِنْ
لَمْ تَجِدْ قَوْلًا سَدِيدًا تَقُولُهُ فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَّدَادِ
سَدَادُ وَقِيلَ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ : مَا فِيك عَيْبٌ إلَّا كَثْرَةُ الْكَلَامِ
، فَقَالَ : أَفَتَسْمَعُونَ صَوَابًا أَوْ خَطَأً ؟ قَالُوا : لَا بَلْ صَوَابًا .
قَالَ : فَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْجَاحِظُ : لِلْكَلَامِ
غَايَةٌ ، وَلِنَشَاطِ السَّامِعِينَ نِهَايَةٌ .
وَمَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الِاحْتِمَالِ ، وَدَعَا
إلَى الِاسْتِثْقَالِ وَالْمَلَالِ ، فَذَلِكَ الْفَاضِلُ هُوَ الْهَذْرُ .
وَصَدَقَ أَبُو عُثْمَانَ ؛ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ
وَإِنْ كَانَ صَوَابًا يُمِلُّ السَّامِعَ وَيُكِلُّ الْخَاطِرَ وَهُوَ صَادِرٌ
عَنْ إعْجَابٍ بِهِ لَوْلَاهُ قَصُرَ عَنْهُ .
وَمَنْ أُعْجِبَ بِكَلَامِهِ اسْتَرْسَلَ فِيهِ ،
وَالْمُسْتَرْسِلُ فِي الْكَلَامِ كَثِيرُ الزَّلَلِ دَائِمُ الْعِثَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أُعْجِبَ بِقَوْلِهِ
أُصِيبَ بِعَقْلِهِ .
وَلَيْسَ لِكَثْرَةِ الْهَذْرِ رَجَاءٌ يُقَابِلُ
خَوْفَهُ ، وَلَا نَفْعٌ يُوَازِي ضُرَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ
مِنْ
نَفْسِهِ الزَّلَلَ ، وَمِنْ سَامِعِيهِ الْمَلَلَ .
وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَيْنِ حَاجَةٌ دَاعِيَةٌ
وَلَا نَفْعٌ مَرْجُوٌّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَبْغَضُكُمْ إلَيَّ الْمُتَفَيْهِقُ الْمِكْثَارُ
وَالْمُلِحُّ الْمِهْذَارُ } .
وَسَأَلَ رَجُلٌ حَكِيمًا فَقَالَ : مَتَى أَتَكَلَّمُ ؟
قَالَ : إذَا اشْتَهَيْتَ الصَّمْتَ
.
فَقَالَ : مَتَى أَصْمُتُ ؟ قَالَ : إذَا اشْتَهَيْتَ
الْكَلَامَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى : إذَا كَانَ الْإِيجَازُ
كَافِيًا كَانَ الْإِكْثَارُ عِيًّا ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْثَارُ وَاجِبًا كَانَ التَّقْصِيرُ
عَجْزًا .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إذَا تَمَّ الْعَقْلُ
نَقَصَ الْكَلَامُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَطَالَ صَمْتَهُ
اجْتَلَبَ مِنْ الْهَيْبَةِ مَا يَنْفَعُهُ ، وَمِنْ الْوَحْشَةِ مَا لَا
يَضُرُّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عِيٌّ تَسْلَمُ مِنْهُ
خَيْرٌ مِنْ مَنْطِقٍ تَنْدَمُ عَلَيْهِ فَاقْتَصِرْ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا
يُقِيمُ حُجَّتَك ، وَيُبَلِّغُ حَاجَتَك ، وَإِيَّاكَ وَفُضُولَهُ فَإِنَّهُ يُزِلُّ
الْقَدَمَ ، وَيُورِثُ النَّدَمَ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : فَمُ الْعَاقِلِ
مُلَجَّمٌ إذَا هَمَّ بِالْكَلَامِ أَحْجَمَ ، وَفَمُ الْجَاهِلِ مُطْلَقٌ
كُلَّمَا شَاءَ أَطْلَقَ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْكَلَامَ يَغُرُّ
الْقَوْمَ جِلْوَتُهُ حَتَّى يَلِجَّ بِهِ عِيٌّ وَإِكْثَارُ وَأَمَّا الشَّرْطُ
الرَّابِعُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ ؛ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ
عُنْوَانُ الْإِنْسَانِ يُتَرْجِمُ عَنْ مَجْهُولِهِ ، وَيُبَرْهِنُ عَنْ
مَحْصُولِهِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِتَهْذِيبِ أَلْفَاظِهِ حَرِيًّا
وَبِتَقْوِيمِ لِسَانِهِ مَلِيًّا
.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ : يُعْجِبُنِي جَمَالُك .
قَالَ :
وَمَا جَمَالُ الرَّجُلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
لِسَانُهُ } .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : مَا الْإِنْسَانُ
لَوْلَا اللِّسَانُ هَلْ إلَّا بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ أَوْ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ ؟
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اللِّسَانُ وَزِيرُ الْإِنْسَانِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كَلَامُ الْمَرِيدِ وَافِدُ أَدَبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ
الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ ، وَعَلَى أَصْلِهِ بِفِعْلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَإِنَّ لِسَانَ
الْمَرْءِ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ وَلَيْسَ
يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْكَلَامِ لَا لِمَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْبَلَاغَةِ ،
وَكَلَّفَهَا لُزُومَ الْفَصَاحَةِ ، حَتَّى يَصِيرَ مُتَدَرِّبًا بِهَا
مُعْتَادًا لَهَا ، فَلَا يَأْتِيَ بِكَلَامٍ مُسْتَكْرَهِ اللَّفْظِ وَلَا مُخْتَلِّ
الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ عَلَى مَعَانٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا
لِأَلْفَاظِهَا غَايَةٌ ، وَإِنَّمَا الْبَلَاغَةُ أَنْ تَكُونَ بِالْمَعَانِي
الصَّحِيحَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فِي أَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ .
فَتَكُونُ فَصَاحَةُ الْأَلْفَاظِ مَعَ صِحَّةِ
الْمَعَانِي هِيَ الْبَلَاغَةُ
.
وَقَدْ قِيلَ لِلْيُونَانِيِّ ؛ مَا الْبَلَاغَةُ ؟
قَالَ : اخْتِيَارُ الْكَلَامِ وَتَصْحِيحُ الْأَقْسَامِ .
وَقِيلَ ذَلِكَ لِلرُّومِيِّ ، فَقَالَ : حَسَنُ
الِاخْتِصَارِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ وَالْغَزَارَةُ يَوْمَ الْإِطَالَةِ .
وَقِيلَ لِلْهِنْدِيِّ فَقَالَ : مَعْرِفَةُ الْفَصْلِ
مِنْ الْوَصْلِ .
وَقِيلَ لِلْعَرَبِيِّ فَقَالَ : مَا حَسُنَ إيجَازُهُ
وَقَلَّ مَجَازُهُ .
وَقِيلَ لِلْبَدْوِيِّ فَقَالَ : مَا دُونَ السَّحَرِ
وَفَوْقَ الشِّعْرِ ، يَفُتُّ الْخَرْدَلَ وَيَحُطُّ الْجَنْدَلَ .
وَقِيلَ لِلْحَضَرِيِّ فَقَالَ : مَا كَثُرَ إعْجَازُهُ
وَتَنَاسَبَتْ صُدُورُهُ وَأَعْجَازُهُ
.
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : الْبَلَاغَةُ قِلَّةُ
الْحَصْرِ وَالْجَرَاءَةُ عَلَى الْبَشَرِ .
وَسَأَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الْقَرْيَةِ عَنْ
الْإِيجَازِ قَالَ : أَنْ تَقُولَ فَلَا تُبْطِئَ وَأَن تُصِيبَ فَلَا تُخْطِئَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَيْرُ الْكَلَامِ قَلِيلٌ عَلَى
كَثِيرٍ دَلِيلُ وَالْعِيُّ مَعْنًى قَصِيرٌ يَحُوبُهُ لَفْظٌ طَوِيلُ وَفِي
الْكَلَامِ فُضُولٌ وَفِيهِ قَالٌ وَقِيلُ وَأَمَّا صِحَّةُ الْمَعَانِي فَتَكُونُ
مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إيضَاحُ تَفْسِيرِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ
مُشْكِلَةً وَلَا مُجْمَلَةً .
وَالثَّانِي : اسْتِيفَاءُ تَقْسِيمِهَا حَتَّى لَا
يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ
مِنْهَا
وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ فِيهَا .
وَالثَّالِثُ : صِحَّةُ مُقَابَلَاتِهَا .
وَالْمُقَابَلَةُ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
مُقَابَلَةُ الْمَعْنَى بِمَا يُوَافِقُهُ وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ ؛
لِأَنَّ الْمَعَانِيَ تَصِيرُ مُتَشَاكِلَةً .
وَالثَّانِي مُقَابَلَتُهُ بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ
حَقِيقَةُ الْمُقَابَلَةِ .
وَلَيْسَ لِلْمُقَابَلَةِ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ : الْمُوَافَقَةُ فِي الِائْتِلَافِ وَالْمُضَادَّةُ مَعَ
الِاخْتِلَافِ .
فَأَمَّا فَصَاحَةُ الْأَلْفَاظِ فَتَكُونُ بِثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مُجَانَبَةُ الْغَرِيبِ الْوَحْشِيِّ حَتَّى لَا يَمُجَّهُ
سَمْعٌ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُ طَبْعٌ
.
وَالثَّانِي : تَنَكُّبُ اللَّفْظِ الْمُسْتَبْذَلِ ،
وَالْعُدُولُ عَنْ الْكَلَامِ الْمُسْتَرْذَلِ ، حَتَّى لَا يَسْتَسْقِطَهُ خَاصِّيٌّ
وَلَا يَنْبُوَ عَنْ فَهْمِهِ عَامِّيٌّ .
كَمَا قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ : أَمَّا
أَنَا فَلَمْ أَرَ قَوْمًا أَمْثَلَ طَرِيقَةً فِي الْبَلَاغَةِ مِنْ الْكُتَّابِ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ الْتَمَسُوا مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَعِّرًا
وَحْشِيًّا وَلَا سَاقِطًا عَامِّيًّا
.
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ
كَالْقَوَالِبِ لِمَعَانِيهَا فَلَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُصُ عَنْهَا .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ ، فِي وَصِيَّتِهِ
فِي الْبَلَاغَةِ : إذَا لَمْ تَجِدْ اللَّفْظَةَ وَاقِعَةً مَوْقِعَهَا ، وَلَا
صَائِرَةً إلَى مُسْتَقَرِّهَا ، وَلَا حَالَّةً فِي مَرْكَزِهَا ، بَلْ
وَجَدْتهَا قَلِقَةً فِي مَكَانِهَا ، نَافِرَةً عَنْ مَوْضِعِهَا ، فَلَا تُكْرِهُهَا
عَلَى الْقَرَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، فَإِنَّك إنْ لَمْ تَتَعَاطَ قَرِيضَ
الشِّعْرِ الْمَوْزُونِ ، وَلَمْ تَتَكَلَّفْ اخْتِيَارَ الْكَلَامِ الْمَنْثُورِ
، لَمْ يَعِبْك بِتَرْكِ ذَلِكَ أَحَدٌ
.
وَإِذَا أَنْتَ تَكَلَّفْتَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ حَاذِقًا
فِيهِمَا عَابَك مَنْ أَنْتَ أَقَلُّ عَيْبًا مِنْهُ ، وَأَزْرَى عَلَيْك مَنْ
أَنْتَ فَوْقَهُ .
وَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى
يَلِيقُ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ إمَّا لِعُرْفٍ مُسْتَعْمَلٍ ، أَوْ لِاتِّفَاقٍ
مُسْتَحْسَنٍ ، حَتَّى إذَا
ذَكَرْت
تِلْكَ الْمَعَانِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ نَافِرَةً عَنْهَا ، وَإِنْ
كَانَتْ أَفْصَحَ وَأَوْضَحَ لِاعْتِيَادِ مَا سِوَاهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا يَكُونُ الْبَلِيغُ
بَلِيغًا حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى كَلَامُهُ أَسْبَقَ إلَى فَهْمِك مِنْ لَفْظِهِ
إلَى سَمْعِك .
وَأَمَّا مُعَاطَاةُ الْإِعْرَابِ وَتَجَنُّبُ اللَّحَنِ
فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الصَّوَابِ وَالْبَلَاغَةُ أَعْلَى مِنْهُ رُتْبَةً
، وَأَشْرَفُ مَنْزِلَةً .
وَلَيْسَ لِمَنْ لَحَنَ فِي كَلَامِهِ مُدْخَلٌ فِي
الْأُدَبَاءِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ الْبُلَغَاءُ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِلْكَلَامِ آدَابًا إنْ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ أَذْهَبَ رَوْنَقَ
كَلَامِهِ ، وَطَمَسَ بَهْجَةَ بَيَانِهِ ، وَلَهَا النَّاسَ عَنْ مَحَاسِنِ
فَضْلِهِ بِمُسَاوِي أَدَبِهِ ، فَعَدَلُوا عَنْ مَنَاقِبِهِ بِذِكْرِ مَثَالِبِهِ .
فَمِنْ آدَابِهِ : أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ فِي مَدْحٍ
وَلَا يُسْرِفَ فِي ذَمٍّ وَإِنْ كَانَتْ النَّزَاهَةُ عَنْ الذَّمِّ كَرَمًا
وَالتَّجَاوُزُ فِي الْمَدْحِ مَلَقًا يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةٍ .
وَالسَّرَفُ فِي الذَّمِّ انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ
شَرٍّ ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ .
يُرْوَى أَنَّهُ { لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ تَمِيمٍ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ
فَمَدَحَهُ ، فَقَالَ قَيْسٌ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ
أَنِّي خَيْرٌ مِمَّا وَصَفَ وَلَكِنْ حَسَدَنِي ، فَذَمَّهُ عَمْرٌو وَقَالَ : وَاَللَّهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت فِي الْأُولَى وَمَا كَذَبْت فِي الْأُخْرَى ؛
لِأَنِّي رَضِيتُ فِي الْأُولَى فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت وَسَخِطْت فِي
الْأُخْرَى فَقُلْت أَقْبَحَ مَا عَلِمْت .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا } .
عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ
وَالذَّمِّ مُتَعَذِّرَةٌ لَا سِيَّمَا إذَا مَدَحَ تَقَرُّبًا وَذَمَّ تَحَنُّقًا .
وَحُكِيَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ :
سَهِرْت لَيْلَتِي أُفَكِّرُ فِي كَلِمَةٍ أُرْضِي بِهَا سُلْطَانِي وَلَا
أُسْخِطُ بِهَا رَبِّي فَمَا وَجَدْتهَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ الرَّجُلَ
لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَخْرُجُ وَمَا مَعَهُ دِينُهُ .
قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يُرْضِيهِ بِمَا
يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
.
وَسَمِعَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَجُلًا يَصِفُ رَجُلًا
وَيُبَالِغُ فِي مَدْحِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَأً
لِامْرِئٍ فَلَا تَغْلُ فِي وَصْفِهِ وَاقْصِدْ فَإِنَّك إنْ تَغْلُ تَغْلُ
الظُّنُونُ فِيهِ إلَى الْأَمَدِ الْأَبْعَدِ فَيَضْأَلُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ
لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ
وَمِنْ آدَابِهِ
: أَنْ لَا تَبْعَثَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي
وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ يَعْجِزُ عَنْهُمَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِمَا .
فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ بِهِمَا لِسَانَهُ وَأَرْسَلَ
فِيهِمَا عِنَانَهُ ، وَلَمْ يَسْتَثْقِلْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ
الْعَمَلِ ، صَارَ وَعْدُهُ نَكْثًا وَوَعِيدُهُ عَجْزًا .
وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ ، مَرَّ بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ
: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ لَهَا ؟ قَالُوا : لَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ .
قَالَ : إنَّهُ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ وَيَقُولُ لَهَا
زَوِّجِينِي نَفْسَك أُسْكِنُكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ : كَذَبَ الْعُصْفُورُ فَإِنَّ
غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ بِالصُّخُورِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِنَهَا هُنَاكَ
، وَلَكِنْ كُلُّ خَاطِبٍ كَاذِبٌ
.
وَمِنْ آدَابِهِ : إنْ قَالَ قَوْلًا حَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ
، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ صَدَّقَهُ فَعَمِلَهُ ، فَإِنَّ إرْسَالَ الْقَوْلِ
اخْتِيَارٌ ، وَالْعَمَلَ بِهِ اضْطِرَارٌ .
وَلَئِنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَقُلْ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ
يَقُولَ مَا لَمْ يَفْعَلْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا
لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَلَامِ أَيْ يَكْتَفِي بِالْفِعْلِ مِنْ الْقَوْلِ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : الْقَوْلُ مَا صَدَّقَهُ
الْفِعْلُ وَالْفِعْلُ مَا وَكَّدَهُ الْعَقْلُ لَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ إذَا لَمْ
يَكُنْ يُقِلُّهُ مِنْ تَحْتِهِ الْأَصْلُ
وَمِنْ
آدَابِهِ : أَنْ يُرَاعِيَ مَخَارِجَ كَلَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِ
وَأَغْرَاضِهِ فَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا قَرَنَهُ بِاللِّينِ وَاللُّطْفِ ، وَإِنْ
كَانَ تَرْهِيبًا خَلَطَهُ بِالْخُشُونَةِ وَالْعُنْفِ ، فَإِنَّ لِينَ اللَّفْظِ
فِي التَّرْهِيبِ وَخُشُونَتُهُ فِي التَّرْغِيبِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضِعِهِمَا
وَتَعْطِيلٌ لِلْمَقْصُودِ بِهِمَا ، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ لَغْوًا وَالْغَرَضُ
الْمَقْصُودُ لَهْوًا .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ
: يَا بُنَيَّ إنْ كُنْت فِي قَوْمٍ فَلَا تَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ
فَوْقَك فَيَمْقُتُوك ، وَلَا بِكَلَامِ مَنْ هُوَ دُونَك فَيَزْدَرُوك .
وَمِنْ
آدَابِهِ : أَنْ
لَا يَرْفَعَ بِكَلَامِهِ صَوْتًا مُسْتَنْكَرًا وَلَا يَنْزَعِجَ لَهُ
انْزِعَاجًا مُسْتَهْجَنًا ، وَلْيَكُفَّ عَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ طَيْشًا وَعَنْ
حَرَكَةٍ تَكُونُ عِيًّا ، فَإِنَّ نَقْصَ الطَّيْشِ أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِ
الْبَلَاغَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ :
أَخَطِيبٌ أَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ لَوْلَا أَنَّك تُكْثِرُ الرَّدَّ ، وَتُشِيرُ
بِالْيَدِ ، وَتَقُولُ أَمَّا بَعْدُ
.
وَمِنْ آدَابِهِ
: أَنْ يَتَجَافَى هَجَرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلَامِ ، وَلْيَعْدِلْ
إلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ ؛
لِيَبْلُغَ الْغَرَضَ وَلِسَانُهُ نَزِهٌ وَأَدَبُهُ مَصُونٌ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي قَوْله
تَعَالَى : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } .
قَالَ : كَانُوا إذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ كَنَّوْا
عَنْهَا .
وَكَمَا أَنَّهُ يَصُونُ لِسَانَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَهَكَذَا يَصُونُ عَنْهُ سَمْعَهُ ، فَلَا يَسْمَعُ خَنَاءً وَلَا يُصْغِي إلَى
فُحْشٍ فَإِنَّ سَمَاعَ الْفُحْشِ دَاعٍ إلَى إظْهَارِهِ ، وَذَرِيعَةٌ إلَى
إنْكَارِهِ .
وَإِذَا وَجَدَ عَنْ الْفُحْشِ مَعْرِضًا كَفَّ
قَائِلُهُ وَكَانَ إعْرَاضُهُ أَحَدَ النَّكِيرَيْنِ ، كَمَا أَنَّ سَمَاعَهُ
أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَارِثِ
الْهَاشِمِيُّ : تَحَرَّ مِنْ الطُّرُقِ أَوْسَاطَهَا وَعُدْ عَنْ الْمَوْضِعِ
الْمُشْتَبِهْ وَسَمْعَك صُنْ عَنْ قَبِيحِ الْكَلَا مِ كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنْ
النُّطْقِ بِهِ فَإِنَّك عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقَبِيحِ شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ
فَانْتَبِهْ وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى فُحْشِ الْقَوْلِ وَهَجْرِهِ فِي وُجُوبِ
اجْتِنَابِهِ ، وَلُزُومِ تَنَكُّبِهِ ، مَا كَانَ شَنِيعَ الْبَدِيهَةِ
مُسْتَنْكَرَ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ سَلِيمًا ، وَبَعْدَ الْكَشْفِ
وَالرَّوِيَّةِ مُسْتَقِيمًا ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ الْأَزْدِيُّ عَنْ الصُّولِيِّ
لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّفِينَ مِنْ الشُّعَرَاءِ إنَّنِي شَيْخٌ كَبِيرٌ كَافِرٌ
بِاَللَّهِ سِيرِي أَنْتِ رَبِّي وَإِلَهِي رَازِقُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يُرِيدُ
بِقَوْلِهِ كَافِرٌ أَيْ لَابِسٌ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ التَّغْطِيَةُ .
وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْكَافِرُ بِاَللَّهِ كَافِرًا ؛
لِأَنَّهُ قَدْ غَطَّى نِعْمَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ .
وَقَوْلُهُ بِاَللَّهِ سِيرِي يُقْسِمُ عَلَيْهَا أَنْ
تَسِيرَ .
وَقَوْلُهُ أَنْتَ رَبِّي يَعْنِي رَبِّي وَلَدَك مِنْ
التَّرْبِيَةِ .
وَإِلَهِي رَازِقُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ كَمَا أَنَّهُ
رَازِقُ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ .
فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الشَّنِيعِ ،
وَالتَّعَمُّقِ الْبَشِيعِ ، مَا اعْتَاضَ مِنْ حَيْثُ
الْبَدِيهَةُ
إذَا سَلَّمَ بَعْدَ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ إلَّا لُؤْمًا إنْ حَسُنَ فِيهِ
الظَّنُّ ، أَوْ ذَمًّا إنْ قَوِيَ فِيهِ الِارْتِيَابُ .
وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ خَلِيعٍ بَطِرٍ
أَوْ مُرْتَابٍ أَشِرٍ .
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُصَلُّوا عَلَى
النَّبِيِّ } فَخَارِجٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّلْبِيسِ .
وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ
عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ الْمُحْدَوْدِبِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ
النَّبْوَةِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَرَادَ الطَّرِيقَ ، وَمِنْهُ
سُمِّيَ رُسُلُ اللَّهِ أَنْبِيَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ الطُّرُقُ إلَيْهِ .
إنَّمَا زَالَ عَنْهُ التَّلْبِيسُ إذَا قَالَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ تَلْبِيسًا شَنِيعًا
؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ خِطَابِهِ وَشَوَاهِدَ أَحْوَالِهِ يَصْرِفَانِ كَلَامَهُ
عَنْ التَّجَوُّزِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِي أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ إلَى مَا يَجُوزُ أَنْ
يَرِدَ بِهِ شَرْعٌ وَيَنْهَى عَنْهُ نَبِيٌّ .
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ
افْتَرَقَ وُجُودُهُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ .
وَمِنْ آدَابِهِ
أَنْ يَجْتَنِبَ أَمْثَالَ الْعَامَّةِ الْغَوْغَاءِ وَيَتَخَصَّصَ بِأَمْثَالِ
الْعُلَمَاءِ الْأُدَبَاءِ فَإِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ أَمْثَالًا
تُشَاكِلُهُمْ ، فَلَا تَجِدْ لِسَاقِطٍ إلَّا مَثَلًا سَاقِطًا وَتَشْبِيهًا
مُسْتَقْبَحًا .
وَلِلسُّقَّاطِ أَمْثَالٌ فَمِنْهَا تَمَثُّلُهُمْ
لِلشَّيْءِ الْمُرِيبِ ، كَمَا قَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ : إذَا مَا كُنْتَ ذَا
بَوْلٍ صَحِيحٍ أَلَا فَاضْرِبْ بِهِ وَجْهَ الطَّبِيبِ وَلِذَلِكَ عِلَّتَانِ .
إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْأَمْثَالَ مِنْ هَوَاجِسِ
الْهِمَمِ وَخَطِرَاتِ النُّفُوسِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِذِي الْهِمَّةِ السَّاقِطَةِ
إلَّا مَثَلٌ مَرْذُولٌ ، وَتَشْبِيهٌ مَعْلُولٌ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ الْأَمْثَالَ مُسْتَخْرَجَةٌ
مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَمَثِّلِينَ بِهَا ، فَبِحَسَبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ تَكُونُ
أَمْثَالُهُمْ .
فَلِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ
أَمْثَالِ الْخَاصَّةِ وَأَمْثَالِ الْعَامَّةِ .
وَرُبَّمَا أَلَّفَ الْمُتَخَصِّصُ مَثَلًا عَامِّيًّا
أَوْ تَشْبِيهًا رَكِيكًا ؛ لِكَثْرَةِ مَا يَطْرُقُ سَمْعَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ
الْأَرَاذِلِ فَيَسْتَرْسِلُ فِي ضَرْبِهِ مَثَلًا فَيَصِيرُ بِهِ مَثَلًا ،
كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ يَوْمًا عَنْ أَنْسَابِ
بَعْضِ الْعَرَبِ فَقَالَ : عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ : أَسْقَطَ
اللَّهُ جَنْبَيْك أَتَخَاطَبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ
؟ فَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ ، مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ أَعْلَمَ بِمَا
يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْكَلَامِ فِي مُحَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْأَصْمَعِيِّ
الَّذِي هُوَ وَاحِدُ عَصْرِهِ وَقَرِيعُ دَهْرِهِ .
وَلِلْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلَامِ مَوْقِعٌ فِي الْأَسْمَاعِ
وَتَأْثِيرٌ فِي الْقُلُوبِ لَا يَكَادُ الْكَلَامُ الْمُرْسَلُ يَبْلُغُ
مَبْلَغَهَا ، وَلَا يُؤَثِّرُ تَأْثِيرَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ بِهَا
لَائِحَةٌ ، وَالشَّوَاهِدَ بِهَا وَاضِحَةٌ ، وَالنُّفُوسَ بِهَا وَامِقَةٌ ،
وَالْقُلُوبَ بِهَا وَاثِقَةٌ ، وَالْعُقُولُ لَهَا مُوَافِقَةٌ .
فَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فِي كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ
وَجَعَلَهَا
مِنْ دَلَائِلِ رُسُلِهِ وَأَوْضَحَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ ؛ لِأَنَّهَا
فِي الْعُقُولِ مَعْقُولَةٌ ، وَفِي الْقُلُوبِ مَقْبُولَةٌ .
وَلَهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : صِحَّةُ
التَّشْبِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا
وَالْكُلُّ عَلَيْهَا مُوَافِقًا
.
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُسْرِعَ وُصُولُهَا لِلْفَهْمِ ،
وَيُعَجَّلَ تَصَوُّرُهَا فِي الْوَهْمِ ، مِنْ غَيْرِ ارْتِيَاءٍ فِي
اسْتِخْرَاجِهَا وَلَا كَدٍّ فِي اسْتِنْبَاطِهَا .
وَالرَّابِعُ : أَنْ تُنَاسِبَ حَالَ السَّامِعِ
لِتَكُونَ أَبْلَغَ تَأْثِيرًا وَأَحْسَنَ مَوْقِعًا .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ
هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ كَانَتْ زِينَةً لِلْكَلَامِ وَجَلَاءً
لِلْمَعَانِي وَتَدَبُّرًا لِلْأَفْهَامِ .
الصَّبْرُ
وَالْجَزَعُ الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ : اعْلَمْ أَنَّ مِنْ حُسْنِ
التَّوْفِيقِ وَإِمَارَاتِ السَّعَادَةِ الصَّبْرُ عَلَى الْمُلِمَّاتِ
وَالرِّفْقِ عِنْدَ النَّوَازِلِ ، وَبِهِ نَزَلَ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } .
يَعْنِي اصْبِرُوا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ ، وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ ، وَرَابَطُوا فِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : عَلَى الْجِهَادِ
.
وَالثَّانِي : عَلَى انْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُحْبِطُ
اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ
وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسْجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ
الرِّبَاطُ } .
فَنَزَلَ الْكِتَابُ بِتَأْكِيدِ الصَّبْرِ فِيمَا
أَمَرَ بِهِ وَنَدَبَ إلَيْهِ ، وَجَعَلَهُ مِنْ عَزَائِمِ التَّقْوَى فِيمَا
افْتَرَضَهُ وَحَثَّ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الصَّبْرُ سِتْرٌ مِنْ الْكُرُوبِ وَعَوْنٌ عَلَى الْخُطُوبِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو ، وَالْقَنَاعَةُ سَيْفٌ لَا يَنْبُو .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : لَمْ أَسْمَعْ أَعْجَبَ
مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ أَنَّ
الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ يُعَيِّرَانِ مَا بَالَيْت أَيَّهُمَا رَكِبْتُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : أَفْضَلُ الْعُدَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ خِلَالِك
الصَّبْرُ عَلَى اخْتِلَالِك .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَحَبَّ
الْبَقَاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصَائِبِ قَلْبًا صَبُورًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِالصَّبْرِ عَلَى
مَوَاقِعِ الْكُرْهِ تُدْرَكُ الْحُظُوظُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ،
وَهُوَ عُبَيْدُ
بْنُ الْأَبْرَصِ : صَبِّرْ النَّفْسَ عِنْدَ كُلِّ مُلِمٍّ إنَّ فِي الصَّبْرِ
حِيلَةَ الْمُحْتَالِ لَا تُضَيِّقَنَّ فِي الْأُمُورِ فَقَدْ تُكْشَفُ غِمَاؤُهَا
بِغَيْرِ احْتِيَالِ رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ لَهُ فُرْجَةٌ
كَحِلِّ الْعِقَالِ وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ فِي كِتَابِ الْيَتِيمَةِ :
الصَّبْرُ صَبْرَانِ : فَاللِّئَامُ
أَصْبَرُ أَجْسَامًا ، وَالْكِرَامُ أَصْبَرُ نُفُوسًا .
وَلَيْسَ الصَّبْرُ الْمَمْدُوحُ صَاحِبُهُ أَنْ يَكُونَ
الرَّجُلُ قَوِيَّ الْجَسَدِ عَلَى الْكَدِّ وَالْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ
صِفَاتِ الْحَمِيرِ ، وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ غَلُوبًا ، وَلِلْأُمُورِ مُتَحَمِّلًا
، وَلِجَأْشِهِ عِنْدَ الْحِفَاظِ مُرْتَبِطًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ ،
وَهُوَ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَحْمُودٌ .
فَأَوَّلُ أَقْسَامِهِ وَأَوْلَاهَا : الصَّبْرُ عَلَى
امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى
اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ بِهِ تَخْلُصُ الطَّاعَةُ وَبِهَا يَصِحُّ الدِّينُ
وَتُؤَدَّى الْفُرُوضُ وَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ ، كَمَا قَالَ فِي مُحْكِمِ الْكِتَابِ
: { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ
بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ
} .
وَلَيْسَ لِمَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَلَى طَاعَةٍ حَظٌّ
مِنْ بِرٍّ وَلَا نَصِيبٌ مِنْ صَلَاحٍ ، وَمَنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ صَبْرًا
يُكْسِبُهَا ثَوَابًا .
وَيَدْفَعُ عَنْهَا عِقَابًا ، كَانَ مِنْ سُوءِ
الِاخْتِيَارِ بَعِيدًا مِنْ الرَّشَادِ حَقِيقًا بِالضَّلَالِ .
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى : يَا مَنْ يَطْلُبُ مِنْ الدُّنْيَا مَا لَا يَلْحَقُهُ أَتَرْجُو أَنْ
تَلْحَقَ مِنْ الْآخِرَةِ مَا لَا تَطْلُبُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
: أَرَاك امْرَأً تَرْجُو مِنْ اللَّهِ عَفْوَهُ وَأَنْتَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ
مُقِيمُ تَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَأَنْتَ مُقَصِّرٌ فَيَا مَنْ يُدَاوِي
النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصَّبْرِ إنَّمَا يَكُونُ
لِفَرْطِ
الْجَزَعِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصَبَرَ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَمَنْ جَزَعَ مِنْ عِقَابِهِ وَقَفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ .
وَالْقِسْمُ
الثَّانِي : الصَّبْرُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَوْقَاتُهُ مِنْ رَزِيَّةٍ قَدْ
أَجْهَدَهُ الْحُزْنُ عَلَيْهَا ، أَوْ حَادِثَةٍ قَدْ كَدَّهُ الْهَمُّ بِهَا
فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهَا يَعْقُبُهُ الرَّاحَةُ مِنْهَا ، وَيُكْسِبُهُ الْمَثُوبَةَ
عَنْهَا .
فَإِنْ صَبَرَ طَائِعًا وَإِلَّا احْتَمَلَ هَمَّا
لَازِمًا وَصَبَرَ كَارِهًا آثِمًا
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي
وَيَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي فَلْيَخْتَرْ رَبًّا سِوَايَ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ : إنَّك إنْ صَبَرْت جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ
وَأَنْتَ مَأْجُورٌ ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو تَمَّامٍ فِي شَعْرِهِ
فَقَالَ : وَقَالَ عَلِيٌّ فِي التَّعَازِي لِأَشْعَثَ وَخَافَ عَلَيْهِ بَعْضَ
تِلْكَ الْمَآثِمِ : أَتَصْبِرُ لِلْبَلْوَى عَزَاءً وَخَشْيَةً فَتُؤْجَرُ أَوْ
تَسْلُو سُلُوَّ الْبَهَائِمْ وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لِلْمَهْدِيِّ : إنَّ
أَحَقَّ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَجِدْ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلًا .
وَأَنْشَدَ :
وَلَئِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَاصْبِرْ لَهَا عَظُمَتْ
مُصِيبَةُ مُبْتَلٍ لَا يَصْبِرُ وَقَالَ آخَرُ : تَصَبَّرْتُ مَغْلُوبًا وَإِنِّي
لَمُوجَعٌ كَمَا صَبَرَ الظَّمْآنُ فِي الْبَلَدِ الْقَفْرِ وَلَيْسَ اصْطِبَارِي
عَنْك صَبْرَ اسْتِطَاعَةٍ وَلَكِنَّهُ صَبْرٌ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ
وَالْقِسْمُ
الثَّالِثُ : الصَّبْرُ عَلَى مَا فَاتَ إدْرَاكُهُ مِنْ رَغْبَةٍ مَرْجُوَّةٍ ،
وَأَعْوَزَ نَيْلُهُ مِنْ مَسَرَّةٍ مَأْمُولَةٍ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهَا
يُعْقِبُ السَّلْوَ مِنْهَا ، وَالْأَسَفُ بَعْدَ الْيَأْسِ خَرَقٌ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ ،
وَظُلِمَ فَغَفَرَ ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ ، فَأُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ
وَهُمْ مُهْتَدُونَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اجْعَلْ مَا طَلَبْته
مِنْ الدُّنْيَا فَلَمْ تَنَلْهُ مِثْلَ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِك فَلَمْ
تَقُلْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا مَلَكَ الْقَضَاءُ
عَلَيْك أَمْرًا فَلَيْسَ يَحِلُّهُ غَيْرُ الْقَضَاءِ فَمَا لَك وَالْمُقَامُ
بِدَارِ ذُلٍّ وَدَارُ الْعِزِّ وَاسِعَةُ الْفَضَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ
: إنْ كُنْت تَجْزَعُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ يَدِك فَاجْزَعْ عَلَى مَا لَا يَصِلُ
إلَيْك .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : لَا تُطِلْ الْحُزْنَ
عَلَى فَائِتٍ فَقَلَّمَا يُجْدِي عَلَيْكَ الْحَزَنْ سِيَّانِ مَحْزُونٌ عَلَى
فَائِتٍ وَمُضْمِرٌ حُزْنًا لِمَا لَمْ يَكُنْ
وَالْقِسْمُ
الرَّابِعُ : الصَّبْرُ فِيمَا يُخْشَى حُدُوثُهُ مِنْ رَهْبَةٍ يَخَافُهَا ، أَوْ
يَحْذَرُ حُلُولَهُ مِنْ نَكْبَةٍ يَخْشَاهَا فَلَا يَتَعَجَّلْ هَمَّ مَا لَمْ
يَأْتِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْهُمُومِ كَاذِبَةٌ وَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ
الْخَوْفِ مَدْفُوعٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بِالصَّبْرِ يُتَوَقَّعُ الْفَرْجُ وَمَنْ يُدْمِنُ قَرْعَ
بَابٍ يَلِجُ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا
تَحْمِلَنَّ عَلَى يَوْمِك هَمَّ غَدِك ، فَحَسْبُ كُلِّ يَوْمٍ هَمُّهُ .
وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ لِحَارِثَةَ بْنِ زَيْدٍ : إذَا
الْهَمُّ أَمْسَى وَهُوَ دَاءٌ فَأَمْضِهِ وَلَسْتَ بِمُمْضِيهِ وَأَنْتَ
تُعَاذِلُهْ وَلَا تُنْزِلَنَّ أَمْرَ الشَّدِيدَةِ بِامْرِئٍ إذَا هَمَّ أَمْرًا
عَوَّقَتْهُ عَوَاذِلُهْ وَقُلْ لِلْفُؤَادِ إنْ تَجِدْ بِك ثَوْرَةً مِنْ
الرَّوْعِ فَافْرَحْ أَكْثَرُ الْهَمِّ بَاطِلُهْ
وَالْقِسْمُ
الْخَامِسُ : الصَّبْرُ فِيمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ رَغْبَةٍ يَرْجُوهَا ، وَيَنْتَظِرُ
مِنْ نِعْمَةٍ يَأْمُلُهَا فَإِنَّهُ إنْ أَدْهَشَهُ التَّوَقُّعُ لَهَا ،
وَأَذْهَلَهُ التَّطَلُّعُ إلَيْهَا انْسَدَّتْ عَلَيْهِ سُبُلُ الْمَطَالِبِ
وَاسْتَفَزَّهُ تَسْوِيلُ الْمَطَامِعِ فَكَانَ أَبْعَدَ لِرَجَائِهِ وَأَعْظَمَ
لِبَلَائِهِ .
وَإِذَا كَانَ مَعَ الرَّغْبَةِ وَقُورًا وَعِنْدَ
الطَّلَبِ صَبُورًا انْجَلَتْ عَنْهُ عَمَايَةُ الدَّهَشِ وَانْجَابَتْ عَنْهُ
حِيرَةُ الْوَلَهِ ، فَأَبْصَرَ رُشْدَهُ وَعَرَفَ قَصْدَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الصَّبْرُ ضِيَاءٌ } .
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَكْشِفُ
ظُلْمَ الْحِيرَةِ ، وَيُوَضِّحُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ صَبَرَ ظَفِرَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : كَانَ مَكْتُوبًا فِي
قَصْرِ أَزْدَشِيرِ : الصَّبْرُ مِفْتَاحُ الدَّرَكِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِحُسْنِ التَّأَنِّي
تَسْهُلُ الْمَطَالِبُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ صَبَرَ نَالَ
الْمُنَى ، وَمَنْ شَكَرَ حَصَّنَ النُّعْمَى .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ : إنَّ الْأُمُورَ إذَا
سُدَّتْ مَطَالِبُهَا فَالصَّبْرُ يَفْتَقُ مِنْهَا كُلَّ مَا ارْتَتَجَا لَا
تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ إذَا اسْتَعَنْتَ بِصَبْرٍ أَنْ تَرَى
فَرَجَا أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلْأَبْوَابِ
أَنْ يَلِجَا
وَالْقِسْمُ
السَّادِسُ : الصَّبْرُ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ حَلَّ مِنْ أَمْرٍ
مَخُوفٍ .
فَبِالصَّبْرِ فِي هَذَا تَنْفَتِحُ وُجُوهُ الْآرَاءِ ،
وَتُسْتَدْفَعُ مَكَائِدُ الْأَعْدَاءِ ، فَإِنَّ مَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَزَبَ
رَأْيُهُ ، وَاشْتَدَّ جَزَعُهُ ، فَصَارَ صَرِيعَ هُمُومِهِ ، وَفَرِيسَةَ
غُمُومِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ
اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَى فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ ، وَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَاصْبِرْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا } .
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَالْفَرَجَ
مَعَ الْكَرْبِ ، وَالْيُسْرَ مَعَ الْعُسْرِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الصَّبْرُ مُسْتَأْصِلُ الْحِدْثَانِ ، وَالْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ
الزَّمَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِمِفْتَاحِ عَزِيمَةِ
الصَّبْرِ تُعَالَجُ مَغَالِيقُ الْأُمُورِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عِنْدَ انْسِدَادِ
الْفَرَجِ تَبْدُو مَطَالِعُ الْفَرَجِ
.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا اسْتَكَدَّ شَيَاطِينَهُ
فِي الْبِنَاءِ شَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ ، لَعَنَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ :
أَلَسْتُمْ تَذْهَبُونَ فَرْغًا وَتَرْجِعُونَ مَشَاغِيلَ ؟ قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : فَفِي ذَلِكَ رَاحَةٌ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - فَشَغْلَهُمْ ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى
إبْلِيسَ ، لَعَنَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ : أَلَسْتُمْ تَسْتَرِيحُونَ بِاللَّيْلِ ؟
قَالُوا : بَلَى .
قَالَ فَفِي هَذَا رَاحَةٌ لَكُمْ نِصْفُ دَهْرِكُمْ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَشَغْلَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ ،
لَعَنَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ : الْآنَ جَاءَكُمْ الْفَرَجُ ، فَمَا لَبِثَ أَنْ
أُصِيبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَيِّتًا عَلَى عَصَاهُ .
فَإِذَا
كَانَ هَذَا فِي نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَعْمَلُ بِأَمْرِهِ وَيَقِفُ عَلَى حَدِّهِ فَكَيْفَ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ مِنْ أَيْدٍ عَادِيَةٍ ، وَسَاقَهُ الْقَضَاءُ مِنْ حَوَادِثَ نَازِلَةٍ ، هَلْ تَكُونُ مَعَ التَّنَاهِي إلَّا مُنْقَرِضَةً وَعِنْدَ بُلُوغِ الْغَايَةِ إلَّا مُنْحَسِرَةً ؟ وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ مَا مِنْ مُلِمَّةٍ تَدُومُ عَلَى حَيٍّ وَإِنْ هِيَ جَلَّتْ فَإِنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فَلَا تَخْضَعَنَّ لَهَا وَلَا تُكْثِرْ الشَّكْوَى إذَا النَّعْلُ زَلَّتْ فَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ قَدْ بُلِي بِنَوَائِبَ فَصَابَرَهَا حَتَّى مَضَتْ وَاضْمَحَلَّتْ وَكَمْ غَمْرَةٍ هَاجَتْ بِأَمْوَاجِ غَمْرَةٍ تَلَقَّيْتهَا بِالصَّبْرِ حَتَّى تَجَلَّتْ وَكَانَتْ عَلَى الْأَيَّامِ نَفْسِي عَزِيزَةٌ فَلَمَّا رَأَتْ صَبْرِي عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتْ فَقُلْتُ لَهَا : يَا نَفْسُ مُوتِي كَرِيمَةً فَقَدْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَنَا ثُمَّ وَلَّتْ
وَلِتَسْهِيلِ
الْمَصَائِبِ وَتَخْفِيفِ الشَّدَائِدِ أَسْبَابٌ إذَا قَارَنْت حَزْمًا ،
وَصَادَفْت عَزْمًا .
هَانَ وَقْعُهَا ، وَقَلَّ تَأْثِيرُهَا وَضَرَرُهَا .
فَمِنْهَا :
إشْعَارُ النَّفْسِ بِمَا تَعْلَمُهُ مِنْ نُزُولِ
الْفَنَاءِ وَتَقَضِّي الْمُسِرِّ وَأَنَّ لَهَا آجَالًا مُنْصَرِمَةٌ وَمُدَدًا مُنْقَضِيَةٌ
، إذْ لَيْسَ لِلدُّنْيَا حَالٌ تَدُومُ وَلَا لِمَخْلُوقٍ فِيهَا بَقَاءٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا
إلَّا كَمَثَلِ رَاكِبٍ مَالَ إلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ
وَتَرَكَهَا } .
وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ الدُّنْيَا فَقَالَ : تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ .
وَسَأَلَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَلِيسًا
لَهُ عَنْ الدُّنْيَا فَقَالَ : إذَا أَقْبَلَتْ أَدْبَرَتْ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : الدُّنْيَا أَمَدٌ
وَالْآخِرَةُ أَبَدٌ .
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ : إنْ أَحْبَبْت أَنْ لَا
تَغْتَمَّ فَلَا تَقْتَنِ مَا بِهِ تَهْتَمُّ .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ
أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِ يُكَدِّرُ مَا أَعْطَى وَيَسْلُبُ مَا
أَسْدَى فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى مَا يَسُوءُهُ فَلَا يَتَّخِذْ شَيْئًا
يَخَافُ لَهُ فَقْدَا وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لِحَكِيمِنَا بُقْرَاطَ
خَيْرُ قَضِيَّةٍ وَوَصِيَّةٍ تَنْفِي الْهُمُومَ الرُّكَّدَا قَالَ الْهُمُومُ تَكُونُ
مِنْ طَبْعِ الْوَرَى فِي لُبْثِ مَا فِي طَبْعِهِ أَنْ يَنْفَدَا فَإِذَا
اقْتَنَيْتَ مِنْ الزُّجَاجَةِ قَابِلًا لِلْكَسْرِ فَانْكَسَرَتْ فَلَا تَكُ
مُكْمَدَا وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِسَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ :
إنَّمَا الدُّنْيَا هِبَاتٌ وَعَوَارٍ مُسْتَرَدَّهْ شِدَّةٌ بَعْدَ رَخَاءٍ
وَرَخَاءٌ بَعْدَ شِدَّهْ وَلَمَّا قُتِلَ بَزَرْجَمْهَرُ وُجِدَ فِي جَيْبِ
قَمِيصِهِ رُقْعَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ
: إذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ فَفِيمَ الْكَدُّ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ دَوَامٌ فَفِيمَ السُّرُورُ ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ
دَوَامَ مُلْكٌ فَفِيمَ الْحِيلَةُ
.
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : رَأَيْتُ
حَيَاةَ الْمَرْءِ
رَهْنًا بِمَوْتِهِ وَصِحَّتُهُ رَهْنًا كَذَلِكَ بِالسَّقَمِ إذَا طَابَ لِي
عَيْشٌ تَنَغَّصَ طِيبُهُ بِصِدْقِ يَقِينِي أَنْ سَيَذْهَبُ كَالْحُلْمِ وَمَنْ
كَانَ فِي عَيْشٍ يُرَاعِي زَوَالَهُ فَذَلِكَ فِي بُؤْسٍ وَإِنْ كَانَ فِي نِعَمِ
وَمِنْهَا : أَنْ يَتَصَوَّرَ انْجِلَاءَ الشَّدَائِدِ وَانْكِشَافَ الْهُمُومِ ، وَأَنَّهَا
تُقَدَّرُ بِأَوْقَاتٍ لَا تَنْصَرِمُ قَبْلَهَا ، وَلَا تَسْتَدِيمُ بَعْدَهَا ،
فَلَا تَقْصُرُ بِجَزَعٍ وَلَا تَطُولُ بِصَبْرٍ ، وَأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَمُرُّ
بِهَا يَذْهَبُ مِنْهَا بِشَطْرٍ وَيَأْخُذُ مِنْهَا بِنَصِيبٍ ، حَتَّى تَنْجَلِيَ
وَهُوَ عَنْهَا غَافِلٌ .
وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ
عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ ، فَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ : قُلْ لَهُ كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي
مِنْ نِعَمِهِ يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ وَالْحُكْمُ
لِلَّهِ تَعَالَى .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ
: لَوْ أَنَّ مَا أَنْتُمُو فِيهِ يَدُومُ لَكُمْ ظَنَنْتُ مَا أَنَا فِيهِ
دَائِمًا أَبَدَا لَكِنَّنِي عَالِمٌ أَنِّي وَأَنَّكُمْ سَنَسْتَجْدِي خِلَافَ
الْحَالَتَيْنِ غَدَا وَأَنْشَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَبَّك لَيْسَ تُحْصَى أَيَادِيهِ
الْحَدِيثَةُ وَالْقَدِيمَهْ تَسَلَّ عَنْ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ
وَلَا هُمُومُكَ بِالْمُقِيمَهْ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا إلَيْك
بِنَظْرَةٍ مِنْهُ رَحِيمَهْ وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي مَا وُقِيَ مِنْ
الرَّزَايَا ، وَكُفِيَ مِنْ الْحَوَادِثِ ، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رَزِيَّتِهِ
وَأَشَدُّ مِنْ حَادِثَتِهِ ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَمْنُوحٌ بِحُسْنِ الدِّفَاعِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ } .
وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ فِي نَائِبَةٍ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟
قَالَ : بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ : خَيْرٌ مَنْشُورٌ وَشَرٌّ مَسْتُورٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَكْرَهْ
الْمَكْرُوهَ عِنْدَ حَوْلِهِ إنَّ الْعَوَاقِبَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَهْ كَمْ
نِعْمَةٍ لَا تَسْتَقِلُّ
بِشُكْرِهَا
لِلَّهِ فِي طَيِّ الْمَكَارِهِ كَامِنَهْ وَمِنْهَا : أَنْ يَتَأَسَّى بِذَوِي
الْغِيَرِ ، وَيَتَسَلَّى بِأُولِي الْعِبَرِ .
وَيَعْلَمَ أَنَّهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَدَدًا
وَالْأَسْرَعُونَ مَدَدًا ، فَيَسْتَجِدَّ مِنْ سَلْوَةِ الْأَسَى وَحُسْنِ
الْعَزَا مَا يُخَفِّفُ شَجْوَهُ ، وَيُقِلُّ هَلَعَهُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: أَلْصِقُوا بِذَوِي الْغِيَرِ تَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ .
وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَرَاثِي الشُّعَرَاءِ .
قَالَ الْبُحْتُرِيُّ : فَلَا عُجْبَ لِلْأُسْدِ إنْ
ظَفِرَتْ بِهَا كِلَابُ الْأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِي فَحَرْبَةُ
وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلْجِمِ
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ : الْمَرْءُ بَيْنَ مَصَائِب لَا تَنْقَضِي حَتَّى يُوَارَى
جِسْمُهُ فِي رَمْسِهِ فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي أَهْلِهِ وَمُعَجَّلٌ
يَلْقَى الرَّدَى فِي نَفْسِهِ وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النِّعَمَ
زَائِرَةٌ ، وَأَنَّهَا لَا مَحَالَةَ زَائِلَةٌ ، وَأَنَّ السُّرُورَ بِهَا إذَا
أَقْبَلَتْ مَشُوبٌ بِالْحَذَرِ مِنْ فِرَاقِهَا إذَا أَدْبَرَتْ ، وَأَنَّهَا لَا
تَفْرَحُ بِإِقْبَالِهَا فَرَحًا حَتَّى تُعْقِبَ بِفِرَاقِهَا تَرَحًا ، فَعَلَى
قَدْرِ السُّرُورِ يَكُونُ الْحُزْنُ
.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمَفْرُوحُ
بِهِ هُوَ الْمَحْزُونُ عَلَيْهِ
.
وَقِيلَ : مَنْ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُحِبُّ
فَلْيَتَوَقَّعْ غَايَةَ مَا يَكْرَهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ
نَائِبَةٍ إلَى انْقِضَاءٍ حَسُنَ عَزَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ .
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
كَيْفَ تَرَى الدُّنْيَا ؟ قَالَ : شَغَلَنِي تَوَقُّعُ بَلَائِهَا عَنْ الْفَرَحِ
بِرَخَائِهَا .
فَأَخَذَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ : تَزِيدُهُ
الْأَيَّامُ إنْ أَقْبَلَتْ شِدَّةَ خَوْفٍ لِتَصَارِيفِهَا كَأَنَّهَا فِي حَالِ
إسْعَافِهَا تُسْمِعْهُ وَقْعَ تَخْوِيفِهَا وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ سُرُورَهُ
مَقْرُونٌ بِمُسَاءَةِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ حُزْنُهُ مَقْرُونٌ بِسُرُورِ
غَيْرِهِ .
إذْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَنْقُلُ مِنْ صَاحِبٍ إلَى
صَاحِبٍ ، وَتَصِلُ صَاحِبًا
بِفِرَاقِ
صَاحِبٍ .
فَتَكُونُ سُرُورًا لِمَنْ وَصَلَتْهُ وَحُزْنًا لِمَنْ
فَارَقَتْهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا قَرَعْت عَصَا عَلَى عَصَا إلَّا فَرِحَ لَهَا قَوْمٌ وَحَزِنَ
آخَرُونَ } .
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : مَتَى أَرَتْ الدُّنْيَا
نَبَاهَةَ خَامِلٍ فَلَا تَرْتَقِبْ إلَّا خُمُولَ نَبِيهِ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي
: بِذَا قَضَتْ الْأَيَّامُ مَا بَيْنَ أَهْلِهَا مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ : أَلَا إنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ
أَيْكَةٍ إذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ فَلَا تَفْرَحَنَّ مِنْهَا
لِشَيْءٍ تُفِيدُهُ سَيَذْهَبُ يَوْمًا مِثْلَ مَا أَنْتَ ذَاهِبُ وَمَا هَذِهِ
الْأَيَّامُ إلَّا فَجَائِعٌ وَمَا الْعَيْشُ وَاللَّذَّاتُ إلَّا مَصَائِبُ
وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَوَارِقَ الْإِنْسَانِ مِنْ دَلَائِلِ فَضْلِهِ
، وَمِحَنَهُ مِنْ شَوَاهِدِ نُبْلِهِ
.
وَلِذَلِكَ إحْدَى عِلَّتَيْنِ : إمَّا ؛ لِأَنَّ الْكَمَالَ
مُعْوِزٌ وَالنَّقْصُ لَازِمٌ ، فَإِذَا تَوَاتَرَ الْفَضْلُ عَلَيْهِ صَارَ
النَّقْصُ فِيمَا سِوَاهُ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ زَادَ فِي عَقْلِهِ نَقَصَ مِنْ
رِزْقِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا انْتَقَصَتْ جَارِحَةٌ مِنْ إنْسَانٍ إلَّا
كَانَتْ ذَكَاءً فِي عَقْلِهِ }
.
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : مَا جَاوَزَ الْمَرْءُ
مِنْ أَطْرَافِهِ طَرَفًا إلَّا تَخَوَّنَهُ النُّقْصَانُ مِنْ طَرَفِ وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ ، لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ الْكَاتِبِ : إذَا
جَمَعَتْ بَيْنَ امْرَأَيْنِ صِنَاعَةٌ فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَدْرِيَ الَّذِي هُوَ
أَحْذَقُ فَلَا تَتَفَقَّدْ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا جَرَتْ بِهِ لَهُمَا
الْأَرْزَاقُ حِينَ تُفَرَّقُ فَحَيْثُ يَكُونُ النَّقْصُ فَالرِّزْقُ وَاسِعٌ
وَحَيْثُ يَكُونُ الْفَضْلُ فَالرِّزْقُ ضَيِّقُ وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ
مَحْسُودٌ ، وَبِالْأَذَى مَقْصُودٌ ، فَلَا يَسْلَمُ فِي بِرِّهِ مِنْ مُعَادٍ
وَاشْتِطَاطِ مُنَاوٍ .
وَقَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ : مِحَنُ الْفَتَى يُخْبِرْنَ
عَنْ فَضْلِ الْفَتَى كَالنَّارِ مُخْبِرَةٌ بِفَضْلِ الْعَنْبَرِ وَقَلَّمَا تَكُونُ
مِحْنَةُ
فَاضِلٍ
إلَّا مِنْ جِهَةِ نَاقِصٍ ، وَبَلْوَى عَالِمٍ إلَّا عَلَى يَدِ جَاهِلٍ .
وَذَلِكَ لِاسْتِحْكَامِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا
بِالْمُبَايَنَةِ ، وَحُدُوثِ الِانْتِقَامِ ؛ لِأَجَلِ التَّقَدُّمِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَا غَرْوَ أَنْ يُمْنَى
عَلِيمٌ بِجَاهِلِ فَمِنْ ذَنَبِ التِّنِّينِ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ وَمِنْهَا :
مَا يَعْتَاضُهُ مِنْ الِارْتِيَاضِ بِنَوَائِبِ عَصْرِهِ ، وَيَسْتَفِيدُهُ مِنْ الْحُنْكَةِ
بِبَلَاءِ دَهْرِهِ ، فَيَصْلُبُ عُودُهُ وَيَسْتَقِيمُ عَمُودُهُ ، وَيَكْمُلُ
بِأَدْنَى شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ ، وَيَتَّعِظُ بِحَالَتَيْ عَفْوِهِ وَبَلَائِهِ .
حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ : دَخَلْت عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَعَلَيْهِ خُلَعُ الرِّضَا بَعْدَ النَّكْبَةِ فَلَمَّا
مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي : يَا أَبَا الْعَبَّاسِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ :
نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَدَّبَتْنِي وَإِنَّمَا يُوعَظُ الْأَدِيبُ قَدْ ذُقْتُ حُلْوًا
وَذُقْتُ مُرًّا كَذَاك عَيْشُ الْفَتَى ضُرُوبُ لَمْ يَمْضِ بُؤْسٌ وَلَا نَعِيمٌ
إلَّا وَلِيَ فِيهِمَا نَصِيبُ كَذَاكَ مَنْ صَاحَبَ اللَّيَالِي تَغْدُوهُ مِنْ
دَرِّهَا الْخُطُوبُ فَقُلْت : لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ ؟ قَالَ : لِي .
وَمِنْهَا : أَنْ يَخْتَبِرَ أُمُورَ زَمَانِهِ ،
وَيَتَنَبَّهُ عَلَى صَلَاحِ شَأْنِهِ ، فَلَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ ، وَلَا
يَطْمَعُ فِي اسْتِوَاءٍ ، وَلَا يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ
، أَوْ تَخْلُو مِنْ تَقَلُّبٍ وَاسْتِحَالَةٍ ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا
وَخَبَرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إنِّي رَأَيْتُ
عَوَاقِبَ الدُّنْيَا فَتَرَكْتُ مَا أَهْوَى لِمَا أَخْشَى فَكَّرْتُ فِي
الدُّنْيَا وَعَالَمِهَا فَإِذَا جَمِيعُ أُمُورِهَا تَفْنَى وَبَلَوْتُ أَكْثَرَ
أَهْلِهَا فَإِذَا كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ يَسْعَى أَسْنَى مَنَازِلِهَا
وَأَرْفَعُهَا فِي الْعِزِّ أَقْرَبُهَا مِنْ الْمَهْوَى تَعْفُو مَسَاوِيهَا
مَحَاسِنَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّعْيِ وَالْبُشْرَى وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ
فَمَا مَيَّزْتُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى أَتُرَاكَ تَدْرِي كَمْ رَأَيْتَ
مِنْ الْأَحْيَاءِ ثُمَّ
رَأَيْتُهُمْ
مَوْتَى فَإِذَا ظَفِرَ الْمُصَابُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَخَفَّفَتْ
عَنْهُ أَحْزَانُهُ ، وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ أَشْجَانُهُ ، فَصَارَ وَشْيَك
السَّلْوَةِ قَلِيلَ الْجَزَعِ حَسَنَ الْعَزَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ حَاذَرَ لَمْ
يَهْلَعْ ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ يَجْزَعْ ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لَمْ يَكُنْ
مُتَوَجِّعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَا يَكُونُ الْأَمْرُ
سَهْلًا كُلُّهُ إنَّمَا الدُّنْيَا سُرُورٌ وَحُزُونُ هَوِّنْ الْأَمْرَ تَعِشْ
فِي رَاحَةٍ قَلَّ مَا هَوَّنْتَ إلَّا سَيَهُونُ تَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي دَارِ
الْفَنَا ضَلَّ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا لَا يَكُونُ فَإِنْ أَغْفَلَ نَفْسَهُ عَنْ دَوَاعِي
السَّلْوَةِ وَمَنَعَهَا مِنْ أَسْبَابِ الصَّبْرِ ، تَضَاعَفَ عَلَيْهِ مِنْ
شِدَّةِ الْأَسَى وَهَمِّ الْجَزَعِ مَا لَا يُطِيقُ عَلَيْهِ صَبْرًا وَلَا
يَجِدُ عَنْهُ سَلْوًا .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : إنَّ الْبَلَاءَ يُطَاقُ
غَيْرُ مُضَاعَفٍ فَإِذَا تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ فَإِذَا سَاعَدَهُ
جَزَعُهُ بِالْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ ، وَأَمَدَّهُ هَلَعُهُ بِالذَّرَائِعِ
الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، فَقَدْ سَعَى فِي حَتْفِهِ وَأَعَانَ عَلَى تَلَفِهِ .
فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ : تَذَكُّرُ الْمُصَابِ حَتَّى
لَا يَتَنَاسَاهُ ، وَتَصَوُّرُهُ حَتَّى لَا يَعْزُبَ عَنْهُ ، وَلَا يَجِدُ مِنْ
التَّذْكَارِ سَلْوَةً ، وَلَا يَخْلِطُ مَعَ التَّصَوُّرِ تَعْزِيَةً .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَا تَسْتَفِزُّوا الدُّمُوعَ بِالتَّذَكُّرِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَلَا يَبْعَثُ الْأَحْزَانَ
مِثْلُ التَّذَكُّرِ وَمِنْهَا :
الْأَسَفُ وَشِدَّةُ الْحَسْرَةِ فَلَا يَرَى مِنْ
مُصَابِهِ خَلَفًا ، وَلَا يَجِدُ لِمَفْقُودِهِ بَدَلًا ، فَيَزْدَادُ
بِالْأَسَفِ وَلَهًا ، وَبِالْحَسْرَةِ هَلَعًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِكَيْلَا
تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا بُلِيتَ فَثِقْ
بِاَللَّهِ وَارْضَ بِهِ إنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللَّهُ إذَا
قَضَى اللَّهُ فَاسْتَسْلِمْ لِقُدْرَتِهِ مَا لِامْرِئٍ حِيلَةٌ فِيمَا قَضَى
اللَّهُ
الْيَأْسُ
يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ لَا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الصَّانِعَ اللَّهُ
وَمِنْهَا : كَثْرَةُ الشَّكْوَى وَبَثُّ الْجَزَعِ .
فَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاصْبِرْ صَبْرًا
جَمِيلًا } .
إنَّهُ الصَّبْرُ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ وَلَا بَثَّ .
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا صَبَرَ مَنْ بَثَّ } .
وَحَكَى كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي
التَّوْرَاةِ : مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَشَكَا إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا
يَشْكُو رَبَّهُ .
وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ مِنْ
الْبَادِيَةِ فَسَمِعَتْ صُرَاخًا فِي دَارٍ فَقَالَتْ : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ
لَهَا : مَاتَ لَهُمْ إنْسَانٌ
.
فَقَالَتْ : مَا أَرَاهُمْ إلَّا مِنْ رَبِّهِمْ
يَسْتَغِيثُونَ ، وَبِقَضَائِهِ يَتَبَرَّمُونَ ، وَعَنْ ثَوَابِهِ يَرْغَبُونَ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ ضَاقَ
قَلْبُهُ اتَّسَعَ لِسَانُهُ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا تُكْثِرْ
الشَّكْوَى إلَى الصَّدِيقِ وَارْجِعْ إلَى الْخَالِقِ لَا الْمَخْلُوقِ لَا
يَخْرُجُ الْغَرِيقُ بِالْغَرِيقِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَشْكُ
دَهْرَكَ مَا صَحَحْتَ بِهِ إنَّ الْغِنَى هُوَ صِحَّةُ الْجِسْمِ هَبْكَ
الْخَلِيفَةَ كُنْتَ مُنْتَفِعًا بِغَضَارَةِ الدُّنْيَا مَعَ السَّقَمِ وَمِنْهَا : الْيَأْسُ مِنْ
خَيْرِ مُصَابِهِ ، وَدَرَكِ طُلَّابِهِ ، فَيَقْتَرِنُ بِحُزْنِ الْحَادِثَةِ
قُنُوطُ الْإِيَاسِ فَلَا يَبْقَى مَعَهَا صَبْرٌ ، وَلَا يَتَّسِعُ لَهَا صَدْرٌ .
وَقَدْ قِيلَ : الْمُصِيبَةُ بِالصَّبْرِ أَعْظَمُ
الْمُصِيبَتَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : اصْبِرِي أَيَّتُهَا
النَّفْسُ فَإِنَّ الصَّبْرَ أَحْجَى رُبَّمَا خَابَ رَجَاءٌ وَأَتَى مَا لَيْسَ
يُرْجَى وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ
لِلْحُرِّ دَائِمٌ وَلَوْ دَامَ شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ لَقَدْ
عَرَّفَتْكَ الْحَادِثَاتُ بِبُؤْسِهَا وَقَدْ أُدِّبْتَ إنْ كَانَ يَنْفَعُكَ الْأَدَبْ
وَلَوْ طَلَبَ الْإِنْسَانُ مِنْ صَرْفِ دَهْرِهِ دَوَامَ الَّذِي يَخْشَى
لَأَعْيَاهُ مَا طَلَبْ وَمِنْهَا : أَنْ يَعْرَى بِمُلَاحَظَةِ مِنْ حِيطَتْ
سَلَامَتُهُ وَحُرِسَتْ
نِعْمَتُهُ
حَتَّى الْتَحَفَ بِالْأَمْنِ وَالدَّعَةِ ، وَاسْتَمْتَعَ بِالثَّرْوَةِ
وَالسَّعَةِ .
وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ
بِالرَّزِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسَاوِيًا ، وَأُفْرِدَ بِالْحَادِثَةِ بَعْدَ
أَنْ كَانَ مُكَافِيًا ، فَلَا يَسْتَطِيعُ صَبْرًا عَلَى بَلْوَى ، وَلَا
يَلْزَمُ شُكْرًا عَلَى نُعْمَى
.
وَلَوْ قَابَلَ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ مُلَاحَظَةَ مَنْ شَارَكَهُ
فِي الرَّزِيَّةِ وَسَاوَاهُ فِي الْحَادِثَةِ لَتَكَافَأَ الْأَمْرَانِ فَهَانَ
عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَحَانَ مِنْهُ الْفَرَجُ .
وَأَنْشَدْتُ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ : أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ صَبْرًا إنَّ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْرَا كَمْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ
حُرًّا لَمْ يَكُ بِالْأَمْسِ حُرَّا مَلَكَ الصَّبْرَ فَأَضْحَى مَالِكًا خَيْرًا
وَشَرَّا اشْرَبْ الصَّبْرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الصَّبْرِ أَمَرَّا وَأَنْشَدْتُ
لِبَعْضِ أَهْلِ الْأَدَبِ : يُرَاعُ الْفَتَى لِلْخَطْبِ تَبْدُو صُدُورُهُ فَيَأْسَى
وَفِي عُقْبَاهُ يَأْتِي سُرُورُهُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا
تَرَاكَمَتْ دُجَاهُ بَدَا وَجْهُ الصَّبَاحِ وَنُورُهُ فَلَا تَصْحَبَنَّ
الْيَأْسَ إنْ كُنْتَ عَالِمًا لَبِيبًا فَإِنَّ الدَّهْرَ شَتَّى أُمُورُهُ وَاعْلَمْ
أَنَّهُ قَلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى حَادِثَةٍ وَتَمَاسَكَ فِي نَكْبَةٍ إلَّا أَنَّ
انْكِشَافَهَا وَشِيكًا ، وَكَانَ الْفَرَجُ مِنْهُ قَرِيبًا .
أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ أَنَّ أَبَا
أَيُّوبَ الْكَاتِبَ حُبِسَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى ضَاقَتْ
حِيلَتُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ فَكَتَبَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ يَشْكُو لَهُ طُولَ
حَبْسِهِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَابَ رُقْعَتُهُ بِهَذَا : صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ
صَبْرٌ مُبَرِّحُ فَإِذَا عَجَزْت عَنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا إنَّ الَّذِي عَقَدَ
الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ عُقَدُ الْمَكَارِهِ فِيكَ يَمْلِكُ حَلَّهَا صَبْرًا فَإِنَّ
الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَةً وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا فَأَجَابَهُ
أَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ : صَبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَهَا وَسَتَنْجَلِي
بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا كَرَمًا
بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ
فِي
السَّجْنِ إلَّا أَيَّامًا حَتَّى أُطْلِقَ مُكَرَّمًا .
وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ : إذَا
اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَأَوْطَنَتْ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ وَأَرْسَتْ فِي مَكَانَتِهَا الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ
أَتَاك عَلَى قُنُوطٍ مِنْك غَوْثٌ يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إذَا تَنَاهَتْ فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ .
الْفَصْلُ
الثَّالِثُ فِي الْمَشُورَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ
لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ النَّاصِحِ
، وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ .
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَشُورَةِ
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ
إرْشَادِهِ ، وَوَعَدَ بِهِ مِنْ تَأْيِيدِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : {
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }
.
قَالَ قَتَادَةُ : أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ
تَأَلُّفًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : أَمَرَهُ بِمُشَاوِرَتِهِمْ لِمَا
عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى : أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ
وَيَتْبَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَشُورَتِهِمْ غَنِيًّا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمَشُورَةُ حِصْنٌ مِنْ النَّدَامَةِ ، وَأَمَانٌ مِنْ
الْمَلَامَةِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ
الِاسْتِبْدَادُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُسَدِّدُهَا بِرَأْيِهِ
، وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ
أَهْلُ الرَّأْيِ ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بِأَمْرِهِ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ
مُرْشِدًا .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ الْمَشُورَةَ
وَالْمُنَاظَرَةَ بَابَا رَحْمَةٍ وَمِفْتَاحَا بَرَكَةٍ لَا يَضِلُّ مَعَهُمَا
رَأْيٌ وَلَا يُفْقَدُ مَعَهُمَا حَزْمٌ .
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ : مَنْ أُعْجِبَ
بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ ، وَمَنْ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ
بَعِيدًا .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْمُشَاوِرُ فِي رَأْيِهِ
نَاظِرٌ مِنْ وَرَائِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُشَاوَرَةُ
رَاحَةٌ لَك وَتَعَبٌ عَلَى غَيْرِك
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ
الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ ، وَلَا نَدِمَ مَنْ اسْتَشَارَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ
أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْيِهِ آرَاءَ الْعُقَلَاءِ ، وَيَجْمَعَ إلَى عَقْلِهِ
عُقُولَ الْحُكَمَاءِ ، فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ
الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ .
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ
فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى
عَلَيْك غَضَاضَةً فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
فَإِذَا
عَزَمَ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ قَدْ
اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ : إحْدَاهُنَّ : عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ
تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { اسْتَرْشِدُوا الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ
مُحَمَّدٍ : احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ
عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك
بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقَ إلَيْك مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ .
وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ : مَا أَكْثَرُ
صَوَابِكُمْ ؟ قَالَ : نَحْنُ أَلْفُ رَجُلٍ وَفِينَا حَازِمٌ وَنَحْنُ نُطِيعُهُ
فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِمٍ .
وَكَانَ يُقَالُ : إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ :
شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غَيْرِهِ ، أَوْ كَبِيرٌ
قَدْ أَخَذَ الدَّهْرُ مِنْ عَقْلِهِ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ
يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ ، وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْأَيَّامُ تَهْتِكُ لَك عَنْ
الْأَسْتَارِ الْكَامِنَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : التَّجَارِبُ لَيْسَ
لَهَا غَايَةٌ ، وَالْعَاقِلُ مِنْهَا فِي زِيَادَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ اسْتَعَانَ بِذَوِي
الْعُقُولِ فَازَ بِدَرَكِ الْمَأْمُولِ .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : وَمَا كُلُّ
ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيك نُصْحَهُ وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ وَلَكِنْ
إذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ فَحُقَّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ وَالْخَصْلَةُ
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقًى ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ
صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ
.
وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ
السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ
.
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
أَرَادَ
أَمْرًا
فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدَ أُمُورِهِ } .
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا
وَدُودًا ، فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ
وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تُشَاوِرْ إلَّا
الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ ، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ ، وَإِيَّاكَ
وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إلَى الْأَفْنِ ، وَعَزْمَهُنَّ
إلَى الْوَهْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ
الْحَازِمِ ظَفَرٌ ، وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَصْفِ ضَمِيرًا لِمَنْ
تُعَاشِرُهُ وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي
مَوَدَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْك ظَاهِرُهُ مَنْ يَكْشِفْ النَّاسَ لَا يَجِدْ
أَحَدًا تَصِحُّ مِنْهُمْ لَهُ سَرَائِرُهُ أَوْشَكَ أَنْ لَا يَدُومَ وَصْلُ أَخٍ
فِي كُلِّ زَلَّاتِهِ تُنَافِرُهُ وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ
سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ ، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ
فِكْرَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ
خَاطِرٌ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ
يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ .
وَكَانَ كِسْرَى إذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ بَعَثَ إلَى
مَرَازِبَتِهِ فَاسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ قَصَّرُوا فِي الرَّأْيِ ضَرَبَ
قَهَارِمَتِهِ وَقَالَ : أَبْطَأْتُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ فَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَلَا
مُشِيرَ كَذِي نُصْحٍ وَمَقْدِرَةٍ فِي مُشْكِلِ الْأَمْرِ فَاخْتَرْ ذَاكَ
مُنْتَصِحًا وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ
غَرَضٌ يُتَابِعُهُ ، وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ ، فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ
وَالْهَوَى صَادٌّ ، وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ
الْأَغْرَاضُ فَسَدَ .
وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ
بْنِ أَبِي لَهَبٍ : وَقَدْ يَحْكُمُ الْأَيَّامَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا وَيُرْدِي
الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبُ وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى
وَهُوَ مُخْطِئٌ
وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبُ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ
الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ ، فَلَا
تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَضْلِ
رَأْيِك ، وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِك ، فَإِنَّ
رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ ، وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ ،
لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ
الشَّهْوَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّوَدُّدُ
إلَى النَّاسِ ، وَمَا اسْتَغْنَى مُسْتَبِدٌّ بِرَأْيِهِ ، وَمَا هَلَكَ أَحَدٌ
عَنْ مَشُورَةٍ ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَلَكَةً كَانَ أَوَّلُ مَا
يُهْلِكُهُ رَأْيَهُ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى
بِرَأْيِهِ .
وَقَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِابْنِهِ : شَاوِرْ مَنْ
جَرَّبَ الْأُمُورَ فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيِهِ مَا قَامَ عَلَيْهِ
بِالْغَلَاءِ وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نِصْفُ رَأْيِك مَعَ
أَخِيك فَشَاوِرْهُ لِيَكْمُلَ لَك الرَّأْيُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ اسْتَغْنَى
بِرَأْيِهِ ضَلَّ ، وَمَنْ اكْتَفَى بِعَقْلِهِ زَلَّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْخَطَأُ مَعَ
الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الِاسْتِبْدَادِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِيلَيَّ لَيْسَ الرَّأْيُ فِي
صَدْرِ وَاحِدٍ أَشِيرَا عَلَيَّ بِاَلَّذِي تَرَيَانِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَتَصَوَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ إنْ شَاوَرَ فِي أَمْرِهِ ظَهَرَ لِلنَّاسِ
ضَعْفُ رَأْيِهِ ، وَفَسَادُ رَوِيَّتِهِ ، حَتَّى افْتَقَرَ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ .
فَإِنَّ هَذِهِ مَعَاذِيرُ النَّوْكَى وَلَيْسَ يُرَادُ الرَّأْيُ
لِلْمُبَاهَاةِ بِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِلِانْتِفَاعِ بِنَتِيجَتِهِ
وَالتَّحَرُّزِ مِنْ الْخَطَأِ عِنْدَ زَلَلِهِ .
وَكَيْفَ يَكُونُ عَارًا مَا أَدَّى إلَى صَوَابٍ
وَصَدَّ عَنْ خَطَأٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَقِّحُوا عُقُولَكُمْ بِالْمُذَاكَرَةِ ،
وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ بِالْمُشَاوَرَةِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ كَمَالِ عَقْلِك
اسْتِظْهَارُك عَلَى عَقْلِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْك
الْأُمُورُ وَتَغَيَّرَ لَك الْجُمْهُورُ فَارْجِعْ إلَى رَأْيِ الْعُقَلَاءِ ،
وَافْزَعْ إلَى اسْتِشَارَةِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَأْنَفْ مِنْ الِاسْتِرْشَادِ
، وَلَا تَسْتَنْكِفْ مِنْ الِاسْتِمْدَادِ .
فَلَأَنْ تَسْأَلَ وَتَسْلَمَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ
تَسْتَبِدَّ وَتَنْدَمَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تُكْثِرَ مِنْ اسْتِشَارَةِ ذَوِي
الْأَلْبَابِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَمْرِ الْجَلِيلِ فَقَلَّمَا يَضِلُّ عَنْ
الْجَمَاعَةِ رَأْيٌ ، أَوْ يَذْهَبُ عَنْهُمْ صَوَابٌ ، لِإِرْسَالِ الْخَوَاطِرِ
الثَّاقِبَةِ وَإِجَالَةِ الْأَفْكَارِ الصَّادِقَةِ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهَا
مُمْكِنٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهَا جَائِزٌ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَكْثَرَ
الْمَشُورَةَ لَمْ يَعْدَمْ عِنْدَ الصَّوَابِ مَادِحًا ، وَعِنْدَ الْخَطَأِ
عَاذِرًا ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ الْجَمَاعَةِ بَعِيدًا .
فَإِذَا اسْتَشَارَ الْجَمَاعَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ
أَهْلُ الرَّأْيِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ وَانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ بِهِ .
فَمَذْهَبُ الْفُرْسِ أَنَّ الْأَوْلَى اجْتِمَاعُهُمْ
عَلَى الِارْتِيَاءِ وَإِجَالَةِ الْفِكْرِ لِيَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا
قَدَحَهُ خَاطِرُهُ ، وَأَنْتَجَهُ فِكْرُهُ حَتَّى إذَا كَانَ فِيهِ قَدْحٌ
عُورِضَ ، أَوْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ رَدٌّ نُوقِضَ ، كَالْجَدَلِ الَّذِي تَكُونُ
فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ ، وَتَقَعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاجَرَةُ ، فَإِنَّهُ
لَا يَبْقَى فِيهِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْقَرَائِحِ عَلَيْهِ خَلَلٌ إلَّا ظَهَرَ ،
وَلَا زَلَلٌ إلَّا بَانَ .
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ إلَى
أَنَّ الْأَوْلَى اسْتِسْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالْمَشُورَةِ لَيُجِيلَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِكْرَهُ فِي الرَّأْيِ طَمَعًا فِي الْحُظْوَةِ بِالصَّوَابِ ،
فَإِنَّ الْقَرَائِحَ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتَكَدَّهَا الْفِكْرُ وَاسْتَفْرَغَهَا
الِاجْتِهَادُ ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ
فَوَّضَتْ
وَكَانَ الْأَوَّلُ مِنْ بِدَائِهَا مَتْبُوعًا .
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهٌ ،
وَوَجْهُ الثَّانِي أَظْهَرُ .
وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي الْأَوْلَى غَيْرُ هَذَيْنِ
الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الشُّورَى فَإِنْ
كَانَتْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ هَلْ هِيَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ
عَلَيْهَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ
الِاعْتِرَاضُ عَلَى فَسَادِهِ ، أَوْ ظُهُورُ الْحُجَّةِ فِي صَلَاحِهِ .
وَهَذَا مَعَ الِاجْتِمَاعِ أَبْلَغُ ، وَعِنْدَ
الْمُنَاظَرَةِ أَوْضَحُ ، وَإِنْ كَانَتْ الشُّورَى فِي خَطْبٍ قَدْ اسْتُبْهِمَ
صَوَابُهُ ، وَاسْتُعْجِمَ جَوَابُهُ ، مِنْ أُمُورٍ خَافِيَةٍ وَأَحْوَالٍ
غَامِضَةٍ لَمْ يَحْصُرْهَا عَدَدٌ وَلَمْ يَجْمَعْهَا تَقْسِيمٌ وَلَا عُرِفَ
لَهَا جَوَابٌ يَكْشِفُ عَنْ خَطَئِهِ وَصَوَابِهِ .
فَالْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ
بِفِكْرِهِ ، وَخُلُوِّهِ بِخَاطِرِهِ ، لِيَجْتَهِدَ فِي الْجَوَابِ ثُمَّ يَقَعَ
الْكَشْفُ عَنْهُ أَخَطَأٌ هُوَ أَمْ صَوَابٌ ، فَيَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي
الْجَوَابِ مُنْفَرِدًا وَالْكَشْفُ عَنْ الصَّوَابِ مُجْتَمِعًا ؛ لِأَنَّ
الِانْفِرَادَ فِي الِاجْتِهَادِ أَصَحُّ ، وَالِاجْتِمَاعَ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ
أَبْلَغُ ، فَهَكَذَا .
هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْلَمَ أَهْلُ الشُّورَى مِنْ حَسَدٍ
أَوْ تَنَافُسٍ ، فَيَمْنَعَهُمْ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّوَابِ لِصَاحِبِهِ .
ثُمَّ يَعْرِضُ الْمُسْتَشِيرُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ
مُشَارَكَتِهِمْ فِي الِارْتِيَاءِ وَالِاجْتِهَادِ فَإِذَا تَصَفَّحَ أَقَاوِيلَ
جَمِيعِهِمْ كَشَفَ عَنْ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا ، وَبَحَثَ عَنْ نَتَائِجِهَا
وَعَوَاقِبِهَا ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْأَمْرِ مُقَلِّدًا وَلَا فِي الرَّأْيِ
مُفَوِّضًا ، فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ مَعَ ارْتِيَاضِهِ بِالِاجْتِهَادِ
ثَلَاثَ خِصَالٍ : إحْدَاهُنَّ : مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ رَوِيَّتِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : مَعْرِفَةُ عَقْلِ صَاحِبِهِ وَصَوَابِ
رَأْيِهِ .
وَالثَّالِثَةُ : وُضُوحُ مَا اسْتَعْجَمَ مِنْ
الرَّأْيِ وَافْتِتَاحُ مَا أُغْلِقَ مِنْ الصَّوَابِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ الرَّأْيُ أَمْضَاهُ فَلَمْ
يُؤَاخِذْهُمْ
بِعَوَاقِبِ الْإِكْدَاءِ فِيهِ ، فَإِنَّ مَا عَلَى النَّاصِحِ الِاجْتِهَادُ ،
وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّجْحِ لَا سِيَّمَا وَالْمَقَادِيرُ غَالِبَةٌ .
وَمَتَى عُرِفَ مِنْهُ تَعَقُّبُ الْمُشِيرِ وَكَلَ إلَى
رَأْيِهِ ، وَأَسْلَمَ إلَى نَفْسِهِ ، فَصَارَ فَرْدًا لَا يُعَانُ بِرَأْيٍ
وَلَا يُمَدُّ بِمَشُورَةٍ .
وَقَدْ قَالَتْ الْفُرْسُ فِي حِكَمِهَا : أَضْعَفُ
الْحِيلَةِ خَيْرٌ مِنْ أَقْوَى الشِّدَّةِ .
وَأَقَلُّ التَّأَنِّي خَيْرٌ مِنْ أَكْثَرِ الْعَجَلَةِ
، وَالدَّوْلَةُ رَسُولُ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ .
وَإِذَا اسْتَبَدَّ الْمَلِكُ بِرَأْيِهِ عَمِيَتْ
عَلَيْهِ الْمَرَاشِدُ .
وَإِذَا ظَفِرَ بِرَأْيٍ مِنْ خَامِلٍ لَا يَرَاهُ
لِلرَّأْيِ أَهْلًا وَلَا لِلْمَشُورَةِ مُسْتَوْجِبًا اغْتَنَمَهُ عَفْوًا
فَإِنَّ الرَّأْيَ كَالضَّالَّةِ تُؤْخَذُ أَيْنَ وُجِدَتْ ، وَلَا يَهُونُ
لِمَهَانَةِ صَاحِبِهِ فَيُطْرَحُ ، فَإِنَّ الدُّرَّةَ لَا يَضَعُهَا مُهَانَةً غَائِصُهَا
، وَالضَّالَّةَ لَا تُتْرَكُ لِذِلَّةِ وَاجِدِهَا .
وَلَيْسَ يُرَادُ الرَّأْيُ لِمَكَانِ الْمُشِيرِ بِهِ
فَيُرَاعَى قَدْرُهُ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِانْتِفَاعِ الْمُسْتَشِيرِ .
وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَيْنَاءِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ :
النُّصْحُ أَرْخَصُ مَا بَاعَ الرِّجَالُ فَلَا تَرْدُدْ عَلَى نَاصِحٍ نُصْحًا
وَلَا تَلُمْ إنَّ النَّصَائِحَ لَا تَخْفَى مَنَاهِجُهَا عَلَى الرِّجَالِ ذَوِي الْأَلْبَابِ
وَالْفَهْمِ ثُمَّ لَا وَجْهَ لِمَنْ تَقَرَّرَ لَهُ رَأْيٌ أَنْ يَنِيَ فِي
إمْضَائِهِ ، فَإِنَّ الزَّمَانَ غَادِرٌ وَالْفُرَصُ مُنْتَهَزَةٌ وَالثِّقَةُ
عَجْزٌ .
وَقِيلَ لِمَلِكٍ زَالَ عَنْهُ مِلْكُهُ : مَا الَّذِي
سَلَبَك مِلْكَك ؟ قَالَ : تَأْخِيرِي عَمَلَ الْيَوْمِ لِغَدٍ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا كُنْت ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا
عَزِيمَةٍ وَلَا تَكُ بِالتَّرْدَادِ لِلرَّأْيِ مُفْسِدَا فَإِنِّي رَأَيْت
الرَّيْبَ فِي الْعَزْمِ هُجْنَةً وَإِنْفَاذُ ذِي الرَّأْيِ الْعَزِيمَةَ
أَرْشَدَا
وَيَنْبَغِي
لِمَنْ أُنْزِلَ مَنْزِلَةَ الْمُسْتَشَارِ وَأُحِلَّ مَحَلَّ النَّاصِحِ الْمَوَادِّ
حَتَّى صَارَ مَأْمُولَ النُّجْحِ ، مَرْجُوَّ الصَّوَابِ ، أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ
هَذِهِ النِّعْمَةِ بِإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ ، وَيُكَافِئَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ
بِبَذْلِ النُّصْحِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا
اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ
} .
وَرُبَّمَا أَبْطَرَتْهُ الْمُشَاوَرَةُ فَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ
فَاحْذَرْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ فَلَيْسَ لِلْمُعْجَبِ رَأْيٌ صَحِيحٌ وَلَا
رَوِيَّةٌ سَلِيمَةٌ ، وَرُبَّمَا شَحَّ فِي الرَّأْيِ لِعَدَاوَةٍ أَوْ حَسَدٍ
فَوَرَّى أَوْ مَكَرَ فَاحْذَرْ الْعَدُوَّ وَلَا تَثِقْ بِحَسُودٍ .
وَلَا عُذْرَ لِمَنْ اسْتَشَارَهُ عَدُوٌّ أَوْ صَدِيقٌ
أَنْ يَكْتُمَ رَأْيًا وَقَدْ اُسْتُرْشِدَ وَلَا أَنْ يَخُونَ وَقَدْ اُؤْتُمِنَ .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { الْمُسْتَشِيرُ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ } .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دُرَيْدٍ : وَأَجِبْ أَخَاكَ
إذَا اسْتَشَارَكَ نَاصِحًا وَعَلَى أَخِيكَ نَصِيحَةً لَا تَرْدُدْ وَلَا يَنْبَغِي
أَنْ يُشِيرَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشَارَ إلَّا فِيمَا مَسَّ ، وَلَا أَنْ
يَتَبَرَّعَ بِالرَّأْيِ إلَّا فِيمَا لَزِمَ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ
يَكُونَ رَأْيُهُ مُتَّهَمًا أَوْ مُطْرَحًا ، وَفِي أَيِّ هَذَيْنِ كَانَ
وَصْمَةً .
وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّأْيُ مَقْبُولًا إذَا كَانَ
عَنْ رَغْبَةٍ وَطَلَبٍ ، أَوْ كَانَ لِبَاعِثٍ وَسَبَبٍ .
رَوَى أَبُو بِلَالٍ الْعِجْلِيُّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ
بْنِ الْيَمَانِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إذَا اُسْتُشْهِدْتَ فَاشْهَدْ
، وَإِذَا اُسْتُعِنْتَ فَأَعِنْ ، وَإِذَا اُسْتُشِرْتَ فَلَا تُعَجِّلْ حَتَّى
تَنْظُرَ } .
وَقَالَ بَيْهَسٌ الْكِلَابِيُّ : مِنْ النَّاسِ مَنْ
إنْ يَسْتَشِرْكَ فَتَجْتَهِدْ لَهُ الرَّأْيَ يَسْتَغْشِشْك مَا لَا تُبَايِعُهْ
فَلَا تَمْنَحَنَّ الرَّأْيَ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ فَلَا
أَنْتَ مَحْمُودٌ وَلَا الرَّأْيُ نَافِعُهْ
كِتْمَانُ
السِّرِّ الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي كِتْمَانِ السِّرِّ : اعْلَمْ أَنَّ كِتْمَانَ
الْأَسْرَارِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاحِ ، وَأَدْوَمِ لِأَحْوَالِ
الصَّلَاحِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَعِينُوا عَلَى الْحَاجَاتِ بِالْكِتْمَانِ
فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : سِرُّك أَسِيرُك فَإِنْ تَكَلَّمْت بِهِ صِرْت أَسِيرَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ
كُنْ جَوَادًا بِالْمَالِ فِي مَوْضِعِ الْحَقِّ ، ضَنِينًا بِالْأَسْرَارِ عَنْ
جَمِيعِ الْخَلْقِ .
فَإِنَّ أَحْمَدَ جُودِ الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِي
وَجْهِ الْبِرِّ ، وَالْبُخْلُ بِمَكْتُومِ السِّرِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ
كَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا أَسَرَّك مَا كَتَمْت
سِرَّك .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : مَا لَمْ تُغَيِّبْهُ
الْأَضَالِعُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ ضَائِعٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ
أُسَيْدٍ : وَلَا تُفْشِ سِرَّك إلَّا إلَيْك فَإِنَّ لِكُلِّ نَصِيحٍ نَصِيحَا
فَإِنِّي رَأَيْتُ وُشَاةَ الرِّجَالِ لَا يَتْرُكُونَ أَدِيمًا صَحِيحَا وَكَمْ
مِنْ إظْهَارِ سِرٍّ أَرَاقَ دَمَ صَاحِبِهِ ، وَمَنَعَ مِنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ ،
وَلَوْ كَتَمَهُ كَانَ مِنْ سَطْوَتِهِ آمِنًا ، وَفِي عَوَاقِبِهِ سَالِمًا ، وَلِنَجَاحِ
حَوَائِجِهِ رَاجِيًا .
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ : مَنْ حَصَّنَ سِرَّهُ فَلَهُ
بِتَحْصِينِهِ خَصْلَتَانِ : الظَّفَرُ بِحَاجَتِهِ ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ
السَّطَوَاتِ .
وَإِظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ
إظْهَارِهِ سِرَّ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَبُوءُ بِإِحْدَى وَصْمَتَيْنِ : الْخِيَانَةُ
إنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ، أَوْ النَّمِيمَةُ إنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا .
فَأَمَّا الضَّرَرُ فَرُبَّمَا اسْتَوَيَا فِيهِ
وَتَفَاضَلَا .
وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ ، وَهُوَ فِيهِمَا مَلُومٌ .
وَفِي الِاسْتِرْسَالِ بِإِبْدَاءِ السِّرِّ دَلَائِلُ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مَذْمُومَةٍ : إحْدَاهَا : ضِيقُ الصَّدْرِ ، وَقِلَّةُ
الصَّبْرِ ، حَتَّى أَنَّهُ
لَمْ
يَتَّسِعْ لِسِرٍّ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَبْرٍ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ
بِلِسَانِهِ وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ إذَا ضَاقَ صَدْرُ
الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ وَالثَّانِيَةُ
: الْغَفْلَةُ عَنْ تَحَذُّرِ الْعُقَلَاءِ ، وَالسَّهْوُ عَنْ يَقِظَةِ
الْأَذْكِيَاءِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : انْفَرِدْ بِسِرِّك
وَلَا تُودِعْهُ حَازِمًا فَيَزِلَّ ، وَلَا جَاهِلًا فَيَخُونَ .
وَالثَّالِثَةُ : مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْغَدْرِ ،
وَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ الْخَطَرِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : سِرُّك مِنْ دَمِك
فَإِذَا تَكَلَّمْت بِهِ فَقَدْ أَرَقْتَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُسْتَغْنَى
فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ صَدِيقٍ مُسَاهِمٍ ، وَاسْتِشَارَةِ نَاصِحٍ مُسَالِمٍ .
فَلْيَخْتَرْ الْعَاقِلُ لِسِرِّهِ أَمِينًا إنْ لَمْ
يَجِدْ إلَى كَتْمِهِ سَبِيلًا ، وَلْيَتَحَرَّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يَأْتَمِنُهُ
عَلَيْهِ وَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ
.
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ أَمِينًا
كَانَ عَلَى الْأَسْرَارِ مُؤْتَمَنًا
.
وَالْعِفَّةُ عَنْ الْأَمْوَالِ أَيْسَرُ مِنْ
الْعِفَّةِ عَنْ إذَاعَةِ الْأَسْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُذِيعَ سِرَّ
نَفْسِهِ بِبَادِرَةِ لِسَانِهِ ، وَسَقَطِ كَلَامِهِ ، وَيَشُحُّ بِالْيَسِيرِ
مِنْ مَالِهِ ، حِفْظًا لَهُ وَضَنًّا بِهِ ، وَلَا يَرَى مَا أَذَاعَ مِنْ
سِرِّهِ كَبِيرًا فِي جَنْبِ مَا حَفِظَهُ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ مَعَ عِظَمِ
الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ
.
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أُمَنَاءُ الْأَسْرَارِ
أَشَدَّ تَعَذُّرًا وَأَقَلَّ وُجُودًا مِنْ أُمَنَاءِ الْأَمْوَالِ .
وَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ أَيْسَرَ مِنْ كَتْمِ
الْأَسْرَارِ ؛ لِأَنَّ إحْرَازَ الْأَمْوَالِ مَنِيعَةٌ وَإِحْرَازَ الْأَسْرَارِ
بَارِزَةٌ يُذِيعُهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ ، وَيُشِيعُهَا كَلَامٌ سَابِقٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الْقُلُوبُ أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ ، وَالشِّفَاءُ أَقْفَالُهَا
وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا ، فَلْيَحْفَظْ كُلُّ امْرِئٍ مِفْتَاحَ سِرِّهِ .
وَمِنْ صِفَاتِ أَمِينِ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ ذَا
عَقْلٍ
صَادٍّ ،
وَدِينٍ حَاجِزٍ ، وَنُصْحٍ مَبْذُولٍ ، وَوُدٍّ مَوْفُورٍ ، وَكَتُومًا
بِالطَّبْعِ .
فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِذَاعَةِ ،
وَتُوجِبُ حِفْظَ الْأَمَانَةِ ، فَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : قُلُوبُ الْعُقَلَاءِ
حُصُونُ الْأَسْرَارِ .
وَلْيَحْذَرْ صَاحِبُ السِّرِّ أَنْ يُودِعَ سِرَّهُ
مَنْ يَتَطَلَّعُ إلَيْهِ ، وَيُؤْثِرُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ طَالِبَ
الْوَدِيعَةِ خَائِنٌ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تُنْكِحْ خَاطِبَ
سِرِّك .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : لَا تَدَعْ
سِرًّا إلَى طَالِبِهِ مِنْك فَالطَّالِبُ لِلسِّرِّ مُذِيعُ وَلْيَحْذَرْ
كَثْرَةَ الْمُسْتَوْدَعِينَ لِسِرِّهِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُمْ سَبَبُ الْإِذَاعَةِ
، وَطَرِيقٌ إلَى الْإِشَاعَةِ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ
هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مُعْوِزٌ ، وَلَا بُدَّ إذَا كَثُرُوا
مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا .
وَالثَّانِي :
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى
نَفْيِ الْإِذَاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا
يُضَافُ إلَيْهِ ذَنْبٌ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عَتْبٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُلَّمَا كَثُرَتْ
خِزَانُ الْأَسْرَارِ ازْدَادَتْ ضَيَاعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَسِرُّك مَا كَانَ
عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي وَقَالَ آخَرُ : فَلَا
تَنْطِقْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِي ثُمَّ لَوْ
سَلِمَ مِنْ إذَاعَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إدْلَالِهِمْ وَاسْتِطَالَتِهِمْ ، فَإِنَّ
لِمَنْ ظَفِرَ بِسِرٍّ مِنْ فَرْطِ الْإِدْلَالِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِطَالَةِ ، مَا
إنْ لَمْ يَحْجِزْهُ عَنْهُ عَقْلٌ وَلَمْ يَكُفَّهُ عَنْهُ فَضْلٌ ، كَانَ
أَشَدَّ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ وَخُضُوعِ الْعَبْدِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَفْشَى
سِرَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِ الْمُتَأَمِّرُونَ .
فَإِذَا اخْتَارَ وَأَرْجُو أَنْ يُوَفَّقَ
لِلِاخْتِيَارِ ، وَاضْطَرَّ إلَى اسْتِيدَاعِ سِرِّهِ وَلَيْتَهُ كُفِيَ
الِاضْطِرَارُ ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ لَهُ أَدَاءُ
الْأَمَانَةِ
فِيهِ بِالتَّحَفُّظِ وَالتَّنَاسِي لَهُ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ بِبَالٍ وَلَا
يَدُورَ لَهُ فِي خَلَدٍ .
ثُمَّ يَرَى ذَلِكَ حُرْمَةً يَرْعَاهَا وَلَا يُدِلُّ
إدْلَالَ اللِّئَامِ .
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسَرَّ إلَى صَدِيقٍ لَهُ
حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ : أَفَهِمْت ؟ قَالَ : بَلْ جَهِلْتُ .
قَالَ : أَحَفِظْت ؟ قَالَ : بَلْ نَسِيتُ .
وَقِيلَ لِرَجُلٍ : كَيْفَ كِتْمَانُك لِلسِّرِّ ؟ قَالَ
: أَجْحَدُ الْخَبَرَ وَأَحْلِفُ لِلْمُسْتَخْبِرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى
نِسْيَانِ مَا اشْتَمَلَتْ مِنِّي الضُّلُوعُ عَلَى الْأَسْرَارِ وَالْخَبَرِ
لَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ يَنْسَى سَرَائِرَهُ إذَا كُنْتُ مِنْ نَشْرِهَا يَوْمًا
عَلَى خَطَرِ وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ تَذَاكَرَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِ
حِفْظَ السِّرِّ فَقَالَ ابْنُهُ : وَمُسْتَوْدَعِي سِرًّا تَضَمَّنْتُ سِرَّهُ
فَأَوْدَعْتُهُ مِنْ مُسْتَقَرِّ الْحَشَى قَبْرَا وَلَكِنَّنِي أُخْفِيهِ عَنِّي
كَأَنَّنِي مِنْ الدَّهْرِ يَوْمًا مَا أَحَطْتُ بِهِ خُبْرَا وَمَا السِّرُّ فِي
قَلْبِي كَمَيْتٍ بِحُفْرَةٍ لِأَنِّي أَرَى الْمَدْفُونَ يَنْتَظِرُ النَّشْرَا
الْمِزَاحُ
وَالضَّحِكُ الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْمِزَاحِ وَالضَّحِكِ : اعْلَمْ أَنَّ
لِلْمِزَاحِ إزَاحَةً عَنْ الْحُقُوقِ ، وَمَخْرَجًا إلَى الْقَطِيعَةِ
وَالْعُقُوقِ ، يَصِمُ الْمَازِحَ وَيُؤْذِي الْمُمَازَحَ .
فَوَصْمَةُ الْمَازِحِ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الْهَيْبَةَ
وَالْبَهَاءَ ، وَيُجْرِيَ عَلَيْهِ الْغَوْغَاءَ وَالسُّفَهَاءَ .
وَأَمَّا أَذِيَّةُ الْمُمَازِحِ فَلِأَنَّهُ مَعْقُوقٌ
بِقَوْلٍ كَرِيهٍ وَفِعْلٍ مُمْضٍ إنْ أَمْسَكَ عَنْهُ أَحْزَنَ قَلْبَهُ ، وَإِنْ
قَابَلَ عَلَيْهِ جَانَبَ أَدَبَهُ
.
فَحُقَّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَّقِيَهُ وَيُنَزِّهَ
نَفْسَهُ عَنْ وَصْمَةِ مَسَاوِئِهِ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمِزَاحُ اسْتِدْرَاجٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَاخْتِدَاعٌ مِنْ الْهَوَى } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : اتَّقُوا
الْمِزَاحَ فَإِنَّهَا حِمْقَةٌ تُورِثُ ضَغِينَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّمَا الْمِزَاحُ
سِبَابٌ إلَّا أَنَّ صَاحِبَهُ يُضْحِكُ .
وَقِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمِزَاحُ مِزَاحًا
لِأَنَّهُ يُزِيحُ عَنْ الْحَقِّ
.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : الْمِزَاحُ مِنْ
سُخْفٍ أَوْ بَطَرٍ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمِزَاحُ يَأْكُلُ
الْهَيْبَةَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ مِزَاحُهُ
زَالَتْ هَيْبَتُهُ ، وَمَنْ ذَكَرَ خِلَافَهُ طَابَتْ غَيْبَتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ قَلَّ عَقْلُهُ
كَثُرَ هَزْلُهُ .
وَذَكَرَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ الْمِزَاحَ فَقَالَ :
يَصُكُّ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ بِأَشَدَّ مِنْ الْجَنْدَلِ ، وَيُنْشِقُهُ أَحْرَقَ
مِنْ الْخَرْدَلِ ، وَيُفْرِغُ عَلَيْهِ أَحَرَّ مِنْ الْمِرْجَلِ ، ثُمَّ يَقُولُ
: إنَّمَا كُنْتُ أُمَازِحُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : خَيْرُ الْمِزَاحِ لَا
يُنَالُ ، وَشَرُّهُ لَا يُقَالُ
.
فَنَظَمَهُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ
الْجَامِعَةِ لِلْآدَابِ فَقَالَ وَزَادَ : شَرُّ مِزَاحِ الْمَرْءِ لَا يُقَالُ
وَخَيْرُهُ يَا صَاحِ لَا يُنَالُ وَقَدْ يُقَالُ كَثْرَةُ الْمِزَاحِ مِنْ
الْفَتَى تَدْعُو إلَى التَّلَاحِ إنَّ الْمِزَاحَ بَدْؤُهُ حَلَاوَهْ لَكِنَّمَا
آخِرُهُ
عَدَاوَهْ
يَحْتَدُّ مِنْهُ الرَّجُلُ الشَّرِيفُ وَيَجْتَرِي بِسُخْفِهِ السَّخِيفُ وَقَالَ
أَبُو نُوَاسٍ : خَلِّ جَنْبَيْك لِرَامٍ وَامْضِ عَنْهُ بِسَلَامِ مُتْ بِدَاءِ
الصَّمْتِ خَيْرٌ لَك مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ إنَّمَا السَّالِمُ مَنْ أَلْجَمَ
فَاهُ بِلِجَامِ رُبَّمَا اسْتَفْتَحَ بِالْمَزْحِ مَغَالِيقَ الْحِمَامِ
وَالْمَنَايَا آكِلَاتٌ شَارِبَاتٌ لِلْأَنَامِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا
يَعْرَى مِنْ الْمِزَاحِ مَنْ كَانَ سَهْلًا فَالْعَاقِلُ يَتَوَخَّى بِمِزَاحِهِ
إحْدَى حَالَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إحْدَاهُمَا : إينَاسُ الْمُصَاحِبِينَ وَالتَّوَدُّدُ
إلَى الْمُخَالِطِينَ .
وَهَذَا يَكُونُ بِمَا أَنِسَ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ ،
وَبُسِطَ مِنْ مُسْتَحْسَنِ الْفِعْلِ
.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ :
اقْتَصِدْ فِي مِزَاحِك فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ يُذْهِبُ الْبَهَاءَ ،
وَيُجَرِّئُ عَلَيْك السُّفَهَاءَ ، وَإِنَّ التَّقْصِيرَ فِيهِ يَفُضُّ عَنْك
الْمُؤَانِسِينَ ، وَيُوحِشُ مِنْك الْمُصَاحِبِينَ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْفِيَ بِالْمِزَاحِ
مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سَأَمٍ ، وَأَحْدَثَ بِهِ مِنْ هَمٍّ .
فَقَدْ قِيلَ : لَا بُدَّ لِلْمَصْدُورِ أَنْ يَنْفُثَ .
وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ : أَفْدِ
طَبْعَك الْمَكْدُودَ بِالْجِدِّ رَاحَةً يُجَمُّ وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ
الْمَزْحِ وَلَكِنْ إذَا أَعْطَيْتَهُ الْمَزْحَ فَلْيَكُنْ بِمِقْدَارِ مَا
تُعْطِي الطَّعَامَ مِنْ الْمِلْحِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي لَأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } .
فَمِنْ مِزَاحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
رُوِيَ { أَنَّ عَجُوزًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَتْهُ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَدْعُ لِي بِالْمَغْفِرَةِ
.
فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْجَنَّةَ لَا
يَدْخُلُهَا الْعَجَائِزُ ، فَصَرَخَتْ
.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَمَا قَرَأْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا
أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا } } .
{
وَأَتَتْهُ
أُخْرَى فِي حَاجَةٍ لِزَوْجِهَا فَقَالَ لَهَا : وَمَنْ زَوْجُك ؟ فَقَالَتْ :
فُلَانٌ .
فَقَالَ لَهَا : الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ ؟
فَقَالَتْ : لَا .
فَقَالَ : بَلَى .
فَانْصَرَفَتْ عَجْلَى إلَى زَوْجِهَا وَجَعَلَتْ
تَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ فَقَالَ لَهَا :
مَا شَأْنُك ؟ فَقَالَتْ : أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي عَيْنَيْك بَيَاضًا .
فَقَالَ : أَمَّا تَرَيْنَ بَيَاضَ عَيْنَيَّ أَكْثَرَ
مِنْ سَوَادِهَا ، } .
وَأَتَى رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنِّي احْتَلَمْتُ عَلَى أُمِّي .
فَقَالَ : أَقِيمُوهُ فِي الشَّمْسِ وَاضْرِبُوا ظِلَّهُ
الْحَدَّ .
وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الشَّيْطَانِ
فَقَالَ : نَحْنُ نَرْضَى مِنْهُ بِالْكَفَافِ .
وَقِيلَ لَهُ : مَا اسْمُ امْرَأَةِ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ
اللَّهُ - ؟ فَقَالَ : ذَاكَ نِكَاحٌ مَا شَهِدْنَاهُ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِغُلَامٍ : بِكَمْ تَعْمَلُ مَعِي ؟
قَالَ : بِطَعَامِي .
فَقَالَ لَهُ : أَحْسِنْ قَلِيلًا .
قَالَ : فَأَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي صَالِحِ بْنِ حَسَّانَ ، وَكَانَ
مُحَدِّثًا ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ : أَفْقَهُ النَّاسِ وَضَّاحُ
الْيَمَنِ فِي قَوْلِهِ : إذَا قُلْت هَاتِي نَوِّلِينِي تَبَرَّمَتْ وَقَالَتْ
مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ فِعْلِ مَا حَرُمْ فَمَا نَوَّلَتْ حَتَّى تَضَرَّعْتُ عِنْدَهَا
وَأَنْبَأْتُهَا مَا رَخَّصَ اللَّهُ فِي اللَّمَمْ فَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى
حَدِّ الْخَلَاعَةِ فَهُجْنَةٌ وَمَذَمَّةٌ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ ، وَكَانَ مُحَدِّثًا ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إلَى
أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ : وَإِذَا الْمَعِدَةُ جَاشَتْ فَارْمِهَا
بِالْمَنْجَنِيقِ بِثَلَاثٍ مِنْ نَبِيذٍ لَيْسَ بِالْحُلْوِ الرَّقِيقِ أَمَا
تَرَى كَيْفَ طَرَقَ بِخَلَاعَتِهِ التُّهْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَزْحِ
فِيمَا لَعَلَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ ، وَبَعِيدٌ عَنْهُ .
وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مُسْتَرْسِلًا فِي مِزَاحِهِ .
رَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ
مَرْوَانَ رُبَّمَا كَانَ يَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَيَرْكَبُ حِمَارًا
قَدْ
شَدَّ
عَلَيْهِ بَرْذَعَةً فَيَسِيرُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ : الطَّرِيقُ قَدْ
جَاءَ الْأَمِيرُ .
وَرُبَّمَا أَتَى الصِّبْيَانَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
لُعْبَةَ الْأَعْرَابِ فَلَا يَشْعُرُونَ حَتَّى يُلْقِيَ نَفْسَهُ بَيْنَهُمْ
وَيَضْرِبَ بِرِجْلِهِ فَيَفْزَعُ الصِّبْيَانُ فَيَنْفِرُونَ ، وَهَذَا خُرُوجٌ
عَنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَسْمَحِ بِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْفِعْلِ
مِنْهُ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ .
وَقَدْ { كَانَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ مَزَّاحًا فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِك
رَمَدٌ ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَمْضُغُ عَلَى النَّاحِيَةِ
الْأُخْرَى } .
وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ صُهَيْبٌ أَنْ يُعَرِّضَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَزْحِ فِي جَوَابِهِ ؛
لِأَنَّ اسْتِخْبَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَتَضَمَّنُ
الْمَزْحَ ، فَأَجَابَهُ عَنْ اسْتِخْبَارِهِ بِمَا يُوَافِقُهُ مُسَاعِدَةً
لِغَرَضِهِ ، وَتَقَرُّبًا مِنْ قَلْبِهِ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ
يَجْعَلَ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزْحًا ؛
لِأَنَّ الْمَزْحَ هَزْلٌ ، وَمَنْ جَعَلَ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَهُ ،
الْمُؤَدِّي إلَى خَلْقِهِ أَوَامِرَهُ ، هَزْلًا وَمَزْحًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ، وَصُهَيْبٌ كَانَ أَطَوْعَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ
أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ
.
فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَنَا سَابِقُ الْعَرَبِ ، وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرُّومَ ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ
الْفُرْسَ ، وَبِلَالٌ سَابِقُ الْحَبَشِ } .
وَمِنْ مُسْتَحْسَنِ الْمَزْحِ وَمُسْتَسْمَحِ الدُّعَابَةِ
مَا حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ الْكِنْدِيِّ أَنَّ الْقُشَيْرِيَّ
وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ الْأَعْرَابِ فَقَالَ : يَا أَعْرَابِيُّ مِمَّنْ أَنْتَ ؟
فَقَالَ : مِنْ عَقِيلٍ .
قَالَ : مِنْ أَيِّ عَقِيلٍ ؟ قَالَ : مِنْ بَنِي
خَفَاجَةَ .
فَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ : رَأَيْت شَيْخًا مِنْ بَنِي
خَفَاجَةَ .
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : مَا شَأْنُهُ ؟ قَالَ : لَهُ
إذَا
جَنَّ الظَّلَامُ حَاجَةٌ .
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : مَا هِيَ ؟ قَالَ : كَحَاجَةِ
الدِّيكِ إلَى الدَّجَاجَةِ .
فَاسْتَعْبَرَ الْأَعْرَابِيُّ ضَاحِكًا ، وَقَالَ : -
قَاتَلَك اللَّهُ - مَا أَعْرَفَك بِسَرَائِرِ الْقَوْمِ .
فَانْظُرْ كَيْفَ بَلَغَ بِهَذَا الْمَزْحَ غَايَتَهُ ،
وَلِسَانُهُ نَزِهٌ ، وَعِرْضُهُ مَصُونٌ .
وَهَذَا غَايَةُ مَا يَتَسَامَحُ بِهِ الْفُضَلَاءُ مِنْ
الْخَلَاعَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَكْرَهَ الْفَحْوَى وَالنَّزَاهَةُ عَنْ مِثْلِهِ
أَوْلَى .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْتَرْسِلَ فِي مُمَازَحَةِ عَدُوٍّ
فَيَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا إلَى إعْلَانِ الْمَسَاوِئِ وَهُوَ مُجِدٌّ ، وَيُفْسِحَ
لَهُ فِي التَّشَفِّي مَزْحًا وَهُوَ مُحِقٌّ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا مَازَحْت
عَدُوَّك ظَهَرَتْ لَهُ عُيُوبُك
.
وَأَمَّا الضَّحِكُ فَإِنَّ اعْتِيَادَهُ شَاغِلٌ عَنْ
النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ، مُذْهِلٌ عَنْ الْفِكْرِ فِي
النَّوَائِبِ الْمُلِمَّةِ .
وَلَيْسَ لِمَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ هَيْبَةٌ وَلَا وَقَارٌ
، وَلَا لِمَنْ وُصِمَ بِهِ خَطَرٌ وَلَا مِقْدَارٌ .
رَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَا لِهَذَا
الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا } إنَّ
الصَّغِيرَةَ الضَّحِكُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : إذَا ضَحِكَ الْعَالِمُ ضِحْكَةً مَجَّ مِنْ الْعِلْمِ مَجَّةً .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : ضِحْكَةُ الْمُؤْمِنِ
غَفْلَةٌ مِنْ قَلْبِهِ .
وَالْقَوْلُ فِي الضَّحِكِ كَالْقَوْلِ فِي الْمِزَاحِ
إنْ تَجَافَاهُ الْإِنْسَانُ نَفَرَ عَنْهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ ، وَإِنْ أَلِفَهُ
كَانَتْ حَالُهُ مَا وَصَفْنَا
.
فَلْيَكُنْ بَدَلُ الضَّحِكِ عِنْدَ الْإِينَاسِ
تَبَسُّمًا .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: التَّبَسُّمُ دُعَابَةٌ .
وَهَذَا
أَبْلَغُ
فِي الْإِينَاسِ مِنْ الضَّحِكِ الَّذِي هُوَ قَدْ يَكُونُ اسْتِهْزَاءً
وَتَعَجُّبًا .
وَلَيْسَ يُنْكَرُ مِنْهُ الْمَرَّةَ النَّادِرَةَ
لِطَارِئٍ اسْتَغْفَلَ النَّفْسَ عَنْ دَفْعِهِ .
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ أَمْلَكُ الْخَلْقِ لِنَفْسِهِ ، قَدْ تَبَسَّمَ حَتَّى بَدَتْ
نَوَاجِذُهُ .
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
الْفَصْلُ
السَّادِسُ فِي الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَضَرَّ
بِالرَّأْيِ وَلَا أَفْسَدَ لِلتَّدْبِيرِ مِنْ اعْتِقَادِ الطِّيَرَةِ ، وَمَنْ
ظَنَّ أَنَّ خُوَارَ بَقَرَةٍ أَوْ نَعِيبَ غُرَابٍ يَرُدُّ قَضَاءً أَوْ يَدْفَعُ
مَقْدُورًا فَقَدْ جَهِلَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ } .
فَالْعَدْوَى مَا يَظُنُّهُ النَّاسُ مِنْ تَعَدِّي
الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تُعْدِي ، فَقِيلَ : { يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرَى النُّقْطَةَ مِنْ الْجَرَبِ فِي مِشْفَرِ الْبَعِيرِ
فَتَتَعَدَّى إلَى جَمِيعِهِ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَا أَعْدَى
الْأَوَّلَ ؟ } وَأَمَّا الْهَامَةُ فَهُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ تَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا طَلَّ دَمُهُ فَلَمْ
يُدْرَك بِثَأْرِهِ صَاحَتْ هَامَتُهُ فِي الْقَبْرِ : اسْقُونِي .
قَالَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ يَعْنِيهَا : يَا عَمْرُو
إلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الْهَامَةُ
اسْقُونِي وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ : وَكَيْفَ وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا
وَأَقْبُرًا يَصِيحُ صَدَاهَا بِالْعَشِيِّ وَهَامُهَا تَفَانَوْا وَلَمْ
يَبْقَوْا وَكُلُّ قَبِيلَةٍ سَرِيعٌ إلَى وِرْدِ الْفِنَاءِ كِرَامُهَا وَأَمَّا
الصَّفَرُ فَهُوَ كَالْحَيَّةِ يَكُونُ فِي الْجَوْفِ يُصِيبُ الْمَاشِيَةَ
وَالنَّاسَ ، وَهُوَ أَعْدَى عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَرَبِ .
وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : لَا يُمْسِكُ السَّاقَ
مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ وَرَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا
حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا ، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : طِيَرَةُ النَّاسِ لَا تَرُدُّ
قَضَاءً فَاعْذُرْ الدَّهْرَ لَا تُشَبِّهْ بِلَوْمِ أَيُّ يَوْمٍ تَخُصُّهُ
بِسُعُودٍ وَالْمَنَايَا يَنْزِلْنَ فِي كُلِّ يَوْمِ لَيْسَ يَوْمٌ إلَّا وَفِيهِ
سُعُودٌ وَنُحُوسٌ
تَجْرِي
لِقَوْمٍ وَقَوْمِ وَقَدْ كَانَتْ الْفُرْسُ أَكْثَرَ النَّاسِ طِيَرَةً .
وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا أَرَادَتْ سَفَرًا نَفَّرَتْ
أَوَّلَ طَائِرٍ تَلْقَاهُ فَإِنْ طَارَ يَمْنَةً سَارَتْ وَتَيَمَّنَتْ ، وَإِذَا
طَارَ يَسْرَةً رَجَعَتْ وَتَشَاءَمَتْ ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : { أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا } .
وَحَكَى عِكْرِمَةُ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَمَرَّ طَائِرٌ يَصِيحُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
الْقَوْمِ : خَيْرٌ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ .
وَقَالَ لَبِيدٌ : لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ
بِالْحَصَى وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ
قَلَّمَا يَخْلُو مِنْ الطِّيَرَةِ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا مَنْ عَارَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ
فِي إرَادَتِهِ ، وَصَدَّهُ الْقَضَاءُ عَنْ طَلِبَتِهِ ، فَهُوَ يَرْجُو
وَالْيَأْسُ عَلَيْهِ أَغْلَبُ ، وَيَأْمُلُ وَالْخَوْفُ إلَيْهِ أَقْرَبُ .
فَإِذَا عَاقَهُ الْقَضَاءُ ، وَخَانَهُ الرَّجَاءُ ،
جَعَلَ الطِّيَرَةَ عُذْرَ خَيْبَتِهِ ، وَغَفَلَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَمَشِيئَتِهِ ، فَإِذَا تَطَيَّرَ أَحْجَمَ عَنْ الْإِقْدَامِ وَيَئِسَ
مِنْ الظَّفَرِ وَظَنَّ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ مُطَّرِدٌ وَأَنَّ الْعِبْرَةَ
فِيهِ مُسْتَمِرَّةٌ .
ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ عَادَةً فَلَا يَنْجَحُ لَهُ
سَعْيٌ ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ قَصْدٌ
.
فَأَمَّا مَنْ سَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ وَوَافَقَهُ
الْقَضَاءُ فَهُوَ قَلِيلُ الطِّيَرَةِ لِإِقْدَامِهِ ثِقَةً بِإِقْبَالِهِ
وَتَعْوِيلًا عَلَى سَعَادَتِهِ ، فَلَا يَصُدُّهُ خَوْفٌ وَلَا يَكُفُّهُ حُزْنٌ
وَلَا يَئُوبُ ، إلَّا ظَافِرًا ، وَلَا يَعُودُ إلَّا مُنْجِحًا ؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ
بِالْإِقْدَامِ ، وَالْخَيْبَةَ مَعَ الْإِحْجَامِ ، فَصَارَتْ الطِّيَرَةُ مِنْ
سِمَاتِ الْإِدْبَارِ وَاطِّرَاحُهَا مِنْ إمَارَاتِ الْإِقْبَالِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ مُنِيَ بِهَا وَبُلِيَ أَنْ يَصْرِفَ
عَنْ نَفْسِهِ وَسَاوِسَ النَّوْكَى وَدَوَاعِيَ الْخَيْبَةِ وَذَرَائِعَ
الْحِرْمَانِ ، وَلَا يَجْعَلَ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا فِي نَقْضِ عَزَائِمِهِ
وَمُعَارَضَةِ خَالِقِهِ .
وَيَعْلَمَ
أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ غَالِبٌ ، وَأَنَّ رِزْقَهُ لَهُ طَالِبٌ
، إلَّا أَنَّ الْحَرَكَةَ سَبَبٌ فَلَا يُثْنِيهِ عَنْهَا مَا لَا يَضُرُّ
مَخْلُوقًا وَلَا يَدْفَعُ مَقْدُورًا .
وَلْيَمْضِ فِي عَزَائِمِهِ وَاثِقًا بِاَللَّهِ
تَعَالَى إنْ أُعْطِيَ وَرَاضِيًا بِهِ إنْ مُنِعَ .
فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةً :
الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالْحَسَدُ فَمَخْرَجُهُ مِنْ الطِّيَرَةِ أَنْ لَا
يَرْجِعَ وَمَخْرَجُهُ مِنْ الظَّنِّ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ وَمَخْرَجُهُ مِنْ الْحَسَدِ
أَنْ لَا يَبْغِيَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { كَفَّارَةُ الطِّيَرَةِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْخَيْرُ فِي تَرْكِ
الطِّيَرَةِ .
وَلْيَقُلْ إنْ عَارَضَهُ فِي الطِّيَرَةِ رَيْبٌ ، أَوْ
خَامَرَهُ فِيهَا وَهْمٌ ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَطَيَّرَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ
إلَّا أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلَّا أَنْتَ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَزَلْنَا
دَارًا فَكَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا ، وَكَثُرَتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا ، ثُمَّ
تَحَوَّلْنَا عَنْهَا إلَى أُخْرَى فَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا ، وَقَلَّ
فِيهَا عَدَدُنَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
ذَرُوهَا فَهِيَ ذَمِيمَةٌ } .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الطِّيَرَةِ وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّكِ
بِمَا فَارَقَ وَتَرْكِ مَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ إلَى مَا أَنِسَ بِهِ .
وَأَمَّا الْفَأْلُ فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْعَزْمِ
وَبَاعِثٌ عَلَى الْجِدِّ وَمَعُونَةٌ عَلَى الظَّفَرِ .
فَقَدْ تَفَاءَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ وَحُرُوبِهِ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
سَمِعَ كَلِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ : أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ } .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ تَفَاءَلَ أَنْ يَتَأَوَّلَ
الْفَأْلَ بِأَحْسَنِ تَأْوِيلَاتِهِ وَلَا يَجْعَلَ لِسُوءِ الظَّنِّ عَلَى
نَفْسِهِ سَبِيلًا .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ الْبَلَاءَ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ } .
رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَكَا إلَى
اللَّهِ تَعَالَى طُولَ الْحَبْسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا يُوسُفُ
أَنْتَ حَبَسْت نَفْسَك حَيْثُ قُلْت رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَوْ قُلْت
الْعَافِيَةُ أَحَبُّ إلَيَّ لَعُوفِيت
.
وَحُكِيَ أَنَّ الْمُؤَمَّلَ بْنَ أُمَيْلٍ الشَّاعِرَ
لَمَّا قَالَ يَوْمَ الْحِيرَةِ : شَفَّ الْمُؤَمَّلَ يَوْمَ الْحِيرَةِ النَّظَرُ
لَيْتَ الْمُؤَمَّلَ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ بَصَرُ عَمِيَ فَأَتَاهُ آتٍ فِي
مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ : هَذَا مَا طَلَبْت
.
وَحُكِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ تَفَاءَلَ يَوْمًا فِي الْمُصْحَفِ فَخَرَجَ لَهُ قَوْله تَعَالَى : {
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فَمَزَّقَ الْمُصْحَفَ
وَأَنْشَأَ يَقُولُ : أَتُوعِدُ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فَهَا أَنَا ذَاكَ
جَبَّارٌ عَنِيدُ إذَا مَا جِئْت رَبَّك يَوْمَ حَشْرٍ فَقُلْ يَا رَبِّ
مَزَّقَنِي الْوَلِيدُ فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا أَيَّامًا حَتَّى قُتِلَ شَرَّ
قِتْلَةٍ ، وَصُلِبَ رَأْسُهُ عَلَى قَصْرِهِ ، ثُمَّ عَلَى سُورِ بَلَدِهِ .
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَغْيِ وَمَصَارِعِهِ ،
وَالشَّيْطَانِ وَمَكَائِدِهِ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَعَلَيْهِ تَوَكُّلُنَا .
الْفَصْلُ
السَّابِعُ فِي الْمُرُوءَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَوَاهِدِ الْفَضْلِ وَدَلَائِلِ
الْكَرَمِ الْمُرُوءَةَ الَّتِي هِيَ حِلْيَةُ النُّفُوسِ وَزِينَةُ الْهِمَمِ .
فَالْمُرُوءَةُ مُرَاعَاةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَكُونُ
عَلَى أَفْضَلِهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا قَبِيحٌ عَنْ قَصْدٍ وَلَا
يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا ذَمٌّ بِاسْتِحْقَاقٍ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ ،
وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ ، فَهُوَ
مِمَّنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ شَرَائِطِ
الْمُرُوءَةِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ الْحَرَامِ ، وَيَتَصَلَّفَ عَنْ الْآثَامِ ،
وَيُنْصِفَ فِي الْحِكَمِ ، وَيَكُفَّ عَنْ الظُّلْمِ ، وَلَا يَطْمَعَ فِيمَا لَا
يَسْتَحِقُّ ، وَلَا يَسْتَطِيلَ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَرِقُّ ، وَلَا يُعِينَ
قَوِيًّا عَلَى ضَعِيفٍ ، وَلَا يُؤْثِرَ دَنِيًّا عَلَى شَرِيفٍ ، وَلَا يُسِرَّ مَا
يَعْقُبُهُ الْوِزْرُ وَالْإِثْمُ ، وَلَا يَفْعَلَ مَا يُقَبِّحُ الذِّكْرَ
وَالِاسْمَ .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ
الْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ فَقَالَ : الْعَقْلُ يَأْمُرُك بِالْأَنْفَعِ ،
وَالْمُرُوءَةُ تَأْمُرُك بِالْأَجْمَلِ .
وَلَنْ تَجِدَ الْأَخْلَاقَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ
حَدِّ الْمُرُوءَةِ مُنْطَبِعَةً ، وَلَا عَنْ الْمُرَاعَاةِ مُسْتَغْنِيَةً ،
وَإِنَّمَا الْمُرَاعَاةُ هِيَ الْمُرُوءَةُ لَا مَا انْطَبَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ
الْأَخْلَاقِ ؛ لِأَنَّ غُرُورَ الْهَوَى وَنَازِعَ الشَّهْوَةِ يَصْرِفَانِ
النَّفْسَ أَنْ تَرْكَبَ الْأَفْضَلَ مِنْ خَلَائِقِهَا ، وَالْأَجْمَلَ مِنْ
طَرَائِقِهَا ، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْهَا ، وَبَعِيدٌ أَنْ تَسْلَمَ إلَّا لِمَنْ
اسْتَكْمَلَ شَرَفَ الْأَخْلَاقِ طَبْعًا ، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَهْذِيبِهَا
تَكَلُّفًا وَتَطَبُّعًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : مَنْ لَك بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ
مَحْضٌ يَخْبُثُ بَعْضٌ وَيَطِيبُ بَعْضُ ثُمَّ لَوْ اسْتَكْمَلَ الْفَضْلَ
طَبْعًا ، وَفِي الْمُعْوِزِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْمِلًا ، لَكَانَ فِي
الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ
، وَالْمَوْضُوعِ مِنْ
اصْطِلَاحِ عَصْرِهِ ، مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِهَا مَا لَا
يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْمُعَانَاةِ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّفَقُّدِ
وَالْمُرَاعَاةِ .
فَثَبُتَ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّفْسِ عَلَى أَفْضَلِ
أَحْوَالِهَا هِيَ الْمُرُوءَةُ
.
وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْقَادُ لَهَا مَعَ
ثِقَلِ كُلَفِهَا إلَّا مَنْ تَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ رَغْبَةً فِي
الْحَمْدِ ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ الْمَلَاذُ حَذَرًا مِنْ الذَّمِّ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : سَيِّدُ الْقَوْمِ أَشْقَاهُمْ .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَالْحَمْدُ
شَهْدٌ لَا يُرَى مُشْتَارَهُ يَجْنِيهِ إلَّا مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ غُلٌّ
لِحَامِلِهِ وَيَحْسَبُهُ الَّذِي لَمْ يُوهِ عَاتِقَهُ خَفِيفَ الْمَحْمَلِ
وَقَدْ لَحَظَ الْمُتَنَبِّي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ
النَّاسُ كُلُّهُمْ الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ وَلَهُ أَيْضًا : وَإِذَا كَانَتْ
النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ وَالدَّاعِي إلَى
اسْتِسْهَالِ ذَلِكَ شَيْئَانِ
: أَحَدُهُمَا : عُلُوُّ الْهِمَّةِ .
وَالثَّانِي شَرَفُ النَّفْسِ .
أَمَّا عُلُوُّ الْهِمَّةِ فَلِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى
التَّقَدُّمِ وَدَاعٍ إلَى التَّخْصِيصِ أَنَفَةً مِنْ خُمُولِ الضَّعَةِ ،
وَاسْتِنْكَارًا لِمَهَانَةِ النَّقْصِ
.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا ،
وَيَكْرَهُ دَنِيَّهَا وَسَفْسَافَهَا
} .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُصَغِّرَنَّ هِمَّتَكُمْ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَقْعَدَ
عَنْ الْمَكْرُمَاتِ مِنْ صِغَرِ الْهِمَمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهِمَّةُ رَايَةُ
الْجِدِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عُلُوِّ الْهِمَمِ بَذْرُ
النِّعَمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا طَلَبَ رَجُلَانِ
أَمْرًا ظَفِرَ بِهِ أَعْظَمُهُمَا مُرُوءَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ تَرَكَ الْتِمَاسَ
الْمَعَالِي بِسُوءِ الرَّجَاءِ لَمْ يَنَلْ جَسِيمًا .
وَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ : فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ قَبُولُ
التَّأْدِيبِ ، وَاسْتِقْرَارُ
التَّقْوِيمِ
وَالتَّهْذِيبِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا جَمَحَتْ عَنْ الْأَفْضَلِ وَهِيَ
بِهِ عَارِفَةٌ ، وَنَفَرَتْ عَنْ التَّأْدِيبِ وَهِيَ لَهُ مُسْتَحْسِنَةٌ ؛
لِأَنَّهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَطْبُوعَةٍ ، وَلَهُ غَيْرُ مُلَائِمَةٍ ، فَتَصِيرُ
مِنْهُ أَنْفَرَ ، وَلِضِدِّهِ الْمُلَائِمِ آثَرَ .
وَقَدْ قِيلَ : مَا أَكْثَرُ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ
وَلَا يُطِيعُهُ .
وَإِذَا شَرُفَتْ النَّفْسُ كَانَتْ لِلْآدَابِ
طَالِبَةً ، وَفِي الْفَضَائِل رَاغِبَةً ، فَإِذَا مَازَحَهَا صَارَتْ طَبْعًا
مُلَائِمًا فَنَمَا وَاسْتَقَرَّ
.
فَأَمَّا مَنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَسُلِبَ شَرَفُ
النَّفْسِ فَقَدْ صَارَ عُرْضَةً لِأَمْرٍ أَعْوَزَتْهُ آلَتُهُ ، وَأَفْسَدَتْهُ
جَهَالَتُهُ ، فَصَارَ كَضَرِيرٍ يَرُومُ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ ، وَأَخْرَسَ
يُرِيدُ الْخُطْبَةَ ، فَلَا يَزِيدُهُ الِاجْتِهَادُ إلَّا عَجْزًا وَالطَّلَبُ
إلَّا عَوَزًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا هَلَكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ } .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَسْوَأُ النَّاسِ
حَالًا ؟ قَالَ : مَنْ بَعُدَتْ هِمَّتُهُ ، وَاتَّسَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ ،
وَقَصُرَتْ آلَتُهُ ، وَقَلَّتْ مَقْدِرَتُهُ .
وَقَالَ أُفْنُونُ التَّغْلِبِيُّ : وَلَا خَيْرَ فِيمَا
يَكْذِبُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَتِقْوَالِهِ لِلشَّيْءِ يَا لَيْتَ ذَا لِيَا
لَعَمْرُك مَا يَدْرِي امْرُؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي إذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ
اللَّهُ وَاقِيَا وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَإِنَّهَا
تَذْهَبُ بِبَهْجَةِ مَا خُوِّلْتُمْ ، وَتَسْتَصْغِرُونَ بِهَا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُنَى مِنْ
بَضَائِعِ النَّوْكَى .
فَإِنْ صَادَفَ بِهِمَّتِهِ حَظًّا نَالَ بِهِ أَمَلًا
كَانَ فِيمَا نَالَهُ كَالْمُغْتَصِبِ ، وَفِيمَا وَصَلَ إلَيْهِ كَالْمُتَغَلِّبِ
، إذْ لَيْسَ فِي الْحُظُوظِ تَقْدِيرٌ لِحَقٍّ ، وَلَا تَمْيِيزٌ لِمُسْتَحِقٍّ ،
وَإِنَّمَا هِيَ كَالسَّحَابِ الَّذِي يَمْسِكُ عَنْ مَنَابِتِ الْأَشْجَارِ إلَى
مَغَايِصِ الْبِحَارِ وَيَتْرُكُ حَيْثُ صَادَفَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبٍ ، فَإِنْ
صَادَفَ أَرْضًا طَيِّبَةً نَفَعَ وَإِنْ صَادَفَ أَرْضًا خَبِيثَةً ضَرَّ .
كَذَلِكَ
الْحَظُّ إنْ صَادَفَ نَفْسًا شَرِيفَةً نَفَعَ ، وَكَانَ نِعْمَةً عَامَّةً ،
وَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا دَنِيَّةً ضَرَّ وَكَانَ نِقْمَةً طَامَّةً .
وَحُكِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ بِالْعَذَابِ فَأُوحِيَ إلَيْهِ قَدْ مَلَكْت
سُفْلَهَا عَلَى أَعْلَاهَا فَقَالَ : يَا رَبِّ كُنْتُ أُحِبُّ لَهُمْ عَذَابًا
عَاجِلًا ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَوَلَيْسَ هَذَا كُلَّ الْعَذَابِ
الْعَاجِلِ الْأَلِيمِ ؟ فَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ
فَإِنَّ الْفَضْلَ بِهِ عَاطِلٌ ، وَالْقَدْرَ بِهِ خَامِلٌ ، وَهُوَ كَالْقُوَّةِ
فِي الْجِلْدِ الْكَسِلِ ، وَالْجَبَانِ الْفَشِلِ ، تَضِيعُ قُوَّتُهُ بِكَسَلِهِ
، وَجَلَدُهُ بِفَشَلِهِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ دَامَ
كَسَلُهُ خَابَ أَمَلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَكَحَ الْعَجْزُ
التَّوَانِي فَخَرَجَ مِنْهُمَا النَّدَامَةُ ، وَنَكَحَ الشُّؤْمُ الْكَسَلَ
فَخَرَجَ مِنْهُمَا الْحِرْمَانُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ
لِنَفْسِكَ حَقَّهَا هَوَانًا بِهَا كَانَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَنَا فَنَفْسَكَ
أَكْرِمْهَا وَإِنْ ضَاقَ مَسْكَنٌ عَلَيْك لَهَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنَا
وَإِيَّاكَ وَالسُّكْنَى بِمَنْزِلِ ذِلَّةٍ يُعَدُّ مُسِيئًا فِيهِ مَنْ كَانَ
مُحْسِنَا وَشَرَفُ النَّفْسِ مَعَ صِغَرِ الْهِمَّةِ أَوْلَى مِنْ عُلُوِّ
الْهِمَّةِ مَعَ دَنَاءَةِ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ مَعَ
دَنَاءَةِ نَفْسِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ،
وَمُتَخَطِّيًا إلَى الْتِمَاسِ مَا لَا يَسْتَوْجِبُهُ .
وَمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ مَعَ صِغَرِ هِمَّتِهِ فَهُوَ
تَارِكٌ لِمَا يَسْتَحِقُّ وَمُقَصِّرٌ عَمَّا يَجِبُ لَهُ .
وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الذَّمِّ نَصِيبٌ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَا أَصْعَبُ
شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ ؟ قَالَ : أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَكْتُمَ
الْأَسْرَارَ .
فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ وَاقْتَرَنَ بِشَرَفِ
النَّفْسِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ كَانَ الْفَضْلُ بِهِمَا ظَاهِرًا ، وَالْأَدَبُ
بِهِمَا
وَافِرًا
، وَمَشَاقُّ الْحَمْدِ بَيْنَهُمَا مُسَهَّلَةً ، وَشُرُوطُ الْمُرُوءَةِ
بَيْنَهُمَا مُتَبَيَّنَةً .
وَقَدْ قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ
الرَّقَاشِيُّ : إنَّ الْمُرُوءَةَ لَيْسَ يُدْرِكُهَا امْرُؤٌ وَرِثَ
الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا أَمَرَتْهُ نَفْسٌ بِالدَّنَاءَةِ وَالْخَنَا
وَنَهَتْهُ عَنْ سُبُلِ الْعُلَا فَأَطَاعَهَا فَإِذَا أَصَابَ مِنْ الْمَكَارِمِ
خَلَّةً يَبْنِي الْكَرِيمُ بِهَا الْمَكَارِمَ بَاعَهَا وَاعْلَمْ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرُوءَةِ
أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَأَخْفَى مِنْ أَنْ تَظْهَرَ ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا
يَقُومُ فِي الْوَهْمِ حِسًّا ، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِيهِ شَاهِدُ الْحَالِ
حَدْسًا ، وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ بِالْفِعْلِ وَيَخْفَى بِالتَّغَافُلِ .
فَلِذَلِكَ أَعْوَزَ اسْتِيفَاءُ شُرُوطِهَا إلَى جُمَلٍ
يَتَنَبَّهُ الْفَاضِلُ عَلَيْهَا بِيَقِظَتِهِ ، وَيَسْتَدِلُّ الْعَاقِلُ
عَلَيْهَا بِفِطْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُنَا هَذَا
مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِهَا .
وَإِنَّمَا
نَذْكُرُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَشْهَرَ مِنْ قَوَاعِدِهَا وَأُصُولِهَا ،
وَالْأَظْهَرَ مِنْ شُرُوطِهَا وَحُقُوقِهَا ، مَحْصُورًا فِي تَقْسِيمٍ جَامِعٍ
وَهُوَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شُرُوطُ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ .
وَالثَّانِي : شُرُوطُهَا فِي غَيْرِهِ .
فَأَمَّا شُرُوطُهَا فِي نَفْسِهِ بَعْدَ الْتِزَامِ مَا
أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَحْكَامِهِ فَيَكُونُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ وَهِيَ :
الْعِفَّةُ وَالنَّزَاهَةُ وَالصِّيَانَةُ .
فَأَمَّا الْعِفَّةُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا
الْعِفَّةُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالثَّانِي الْعِفَّةُ عَنْ الْمَآثِمِ .
فَأَمَّا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَحَارِمِ فَنَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا ضَبْطُ الْفَرْجِ عَنْ الْحَرَامِ ، وَالثَّانِي كَفُّ اللِّسَانِ
عَنْ الْأَعْرَاضِ .
فَأَمَّا ضَبْطُ الْفَرْجِ عَنْ الْحَرَامِ فَلِأَنَّهُ
مَعَ وَعِيدِ الشَّرْعِ وَزَاجِرِ الْعَقْلِ مَعَرَّةٌ فَاضِحَةٌ ، وَهَتْكَةٌ
وَاضِحَةٌ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ وُقِيَ شَرَّ ذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ وَقَبْقَبِهِ فَقَدْ
وُقِيَ } .
يُرِيدُ بِذَبْذَبِهِ الْفَرْجَ ، وَبِلَقْلَقِهِ
اللِّسَانَ ، وَبِقَبْقَبِهِ الْبَطْنَ
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْعَفَافِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَفَافُ الْفَرْجِ
وَالْبَطْنِ .
} وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِلَةُ
الرَّحِمِ .
وَسَأَلَ الْمُغِيرَةَ فَقَالَ : هِيَ الْعِفَّةُ عَمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحِرْفَةُ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى .
وَسَأَلَ يَزِيدَ : فَقَالَ هِيَ الصَّبْرُ عَلَى
الْبَلْوَى ، وَالشُّكْرُ عَلَى النُّعْمَى ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ،
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : أَنْتَ مِنِّي حَقًّا .
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ لِابْنِهِ هُرْمُزَ : مَنْ الْكَامِلُ
الْمُرُوءَةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ حَصَّنَ دِينَهُ وَوَصَلَ رَحِمَهُ وَأَكْرَمَ
إخْوَانَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَحَبَّ
الْمَكَارِمَ اجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ
.
وَقِيلَ : عَارُ الْفَضِيحَةِ يُكَدِّرُ لَذَّتَهَا .
وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْأَدَبِ
لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ
رُكُوبِ الْعَارِ وَالْعَارُ خَيْرٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَاَللَّهُ مِنْ هَذَا
وَهَذَا جَارِي وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : إرْسَالُ الطَّرْفِ .
وَالثَّانِي : اتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : { يَا
عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَك
وَالثَّانِيَةَ عَلَيْك } .
وَفِي قَوْلِهِ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ
تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا تُتْبِعْ نَظَرَ عَيْنَيْك نَظَرَ قَلْبِك ،
وَالثَّانِي لَا تُتْبِعْ الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ
الَّتِي تُوقِعُهَا عَمْدًا .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
إيَّاكُمْ وَالنَّظْرَةَ بَعْدَ النَّظْرَةِ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ
الشَّهْوَةَ ، وَكَفَى بِهَا لِصَاحِبِهَا فِتْنَةً .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ - : الْعُيُونُ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ
اسْتَدْعَى حَتْفَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَكُنْتَ مَتَى
أَرْسَلْتَ طَرْفَك رَائِدًا لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ
صَابِرُ وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَهِيَ خَادِعَةُ الْعُقُولِ وَغَادِرَةُ الْأَلْبَابِ
، وَمُحَسِّنَةُ الْقَبَائِحِ ، وَمُسَوِّلَةُ الْفَضَائِحِ .
وَلَيْسَ عَطَبٌ إلَّا وَهِيَ لَهُ سَبَبٌ ، وَعَلَيْهِ
أَلَبُّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {
أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَحُفِظَ مِنْ الشَّيْطَانِ :
مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ يَرْغَبُ ، وَحِينَ يَرْهَبُ ، وَحِينَ يَشْتَهِي ، وَحِينَ
يَغْضَبُ } .
وَقَهْرُهَا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ
أُمُورٍ : أَحَدُهَا غَضُّ الطَّرْفِ عَنْ إثَارَتِهَا ، وَكَفُّهُ عَنْ
مُسَاعَدَتِهَا .
فَإِنَّهُ الرَّائِدُ الْمُحَرِّكُ ، وَالْقَائِدُ
الْمُهْلِكُ .
رَوَى سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ ،
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَقَبَّلُوا إلَيَّ بِسِتٍّ
أَتَقَبَّلُ إلَيْكُمْ بِالْجَنَّةِ
.
قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا
حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبُ ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفُ ، وَإِذَا
اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُونُ ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ،
وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } .
وَالثَّانِي : تَرْغِيبُهَا فِي الْحَلَالِ عِوَضًا ، وَإِقْنَاعُهَا
بِالْمُبَاحِ بَدَلًا ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ شَيْئًا إلَّا وَأَغْنَى
عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ نَوَازِعِ الشَّهْوَةِ ،
وَتَرْكِيبِ الْفِطْرَةِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ ، وَحَاجِزًا
عَنْ مُخَالَفَتِهِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ إلَّا وَأَعَانَ عَلَيْهِ ، وَلَا نَهَى
عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ
.
وَالثَّالِثُ : إشْعَارُ النَّفْسِ تَقْوَى اللَّهِ
تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ ، وَاتِّقَاءَهُ فِي زَوَاجِره ، وَإِلْزَامُهَا مَا
أَلْزَمَ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَتَحْذِيرُهَا مَا حَذَّرَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ،
وَإِعْلَامُهَا أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ضَمِيرٌ ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ
قِطْمِيرٌ .
وَأَنَّهُ يُجَازِي الْمُحْسِنَ وَيُكَافِئُ الْمُسِيءَ
، وَبِذَلِكَ نَزَلَتْ كُتُبُهُ وَبَلَّغَتْ رُسُلُهُ .
رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ
الْقُرْآنِ : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى
كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ التَّوْرَاةِ : إذَا لَمْ
تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت .
وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الْإِنْجِيلِ : شَرُّ النَّاسِ
مَنْ لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا .
وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الزَّبُورِ : مَنْ يَزْرَعْ
خَيْرًا حَصَدَ زَرْعَهُ غِبْطَةً
.
فَإِذَا أَشْعَرهَا مَا وَصَفْتُ انْقَادَتْ إلَى
الْكَفِّ وَأَذْعَنَتْ بِالِاتِّقَاءِ فَسَلِمَ دِينُهُ وَظَهَرَتْ مُرُوءَتُهُ .
فَهَذَا شَرْطٌ وَأَمَّا كَفُّ اللِّسَانِ عَنْ
الْأَعْرَاضِ فَلِأَنَّهُ مَلَاذُ السُّفَهَاءِ ، وَانْتِقَامُ أَهْلِ
الْغَوْغَاءِ ، وَهُوَ مُسْتَسْهَلُ الْكَلَفِ
إذَا لَمْ
يَقْهَرْ نَفْسَهُ عَنْهُ بِرَادِعٍ كَافٍ وَزَاجِرٍ صَادٍّ تَلَبَّطَ
بِمَعَارِّهِ ، وَتَخَبَّطَ بِمَضَارِّهِ ، وَظَنَّ أَنَّهُ لِتَجَافِي النَّاسِ
عَنْهُ حِمًى يُتَّقَى ، وَرُتْبَةً تُرْتَقَى ، فَهَلَكَ وَأَهْلَكَ .
فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ
} .
فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ
الصُّدُورِ ، وَإِبْدَاءِ الشُّرُورِ ، وَإِظْهَارِ الْبَذَاءِ ، وَاكْتِسَابِ
الْأَعْدَاءِ ، وَلَا يَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَزْنٌ لِمَوْمُوقٍ وَلَا
مُرُوءَةٌ لِمَلْحُوظٍ ثُمَّ هُوَ بِهَا مَوْتُورٌ مَوْزُورٌ ؛ وَلِأَجْلِهَا
مَهْجُورٌ مَزْجُورٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ
لِسَانِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ
بِفُضُولِ الْكَلَامِ وَفُضُولِ الْمَالِ .
وَمَا قَدَحَ فِي الْأَعْرَاضِ مِنْ الْكَلَامِ
نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَدَحَ فِي عِرْضِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ
إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ : الْكَذِبُ وَفُحْشُ الْقَوْلِ .
وَالثَّانِي
: مَا تَجَاوَزَهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ
أَشْيَاءَ : الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّعَايَةُ وَالسَّبُّ بِقَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ .
وَرُبَّمَا كَانَ السَّبُّ أَنْكَاهَا لِلْقُلُوبِ
وَأَبْلَغَهَا أَثَرًا فِي النُّفُوسِ
.
وَلِذَلِكَ زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَدِّ تَغْلِيظًا
وَبِالتَّفْسِيقِ تَشْدِيدًا وَتَصْعِيبًا .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا انْتِقَامٌ
يَصْدُرُ عَنْ سَفَهٍ أَوْ بَذَاءٌ يَحْدُثُ عَنْ لُؤْمٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ غِرٌّ
كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ
} .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : الِاسْتِطَالَةُ لِسَانُ
الْجُهَّالِ .
وَكَفُّ النَّفْسِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ بِمَا
يَصُدُّهَا مِنْ الزَّوَاجِرِ أَسْلَمُ وَهُوَ بِذَوِي الْمُرُوءَةِ أَجْمَلُ .
فَهَذَا شَرْطٌ وَأَمَّا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَآثِمِ
فَنَوْعَانِ
: أَحَدُهُمَا
: الْكَفُّ عَنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالظُّلْمِ ، وَالثَّانِي : زَجْرُ النَّفْسِ عَنْ الْإِسْرَارِ
بِخِيَانَةٍ .
فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِالظُّلْمِ فَعُتُوٌّ مُهْلِكٌ
وَطُغْيَانٌ مُتْلِفٌ ، وَهُوَ يَئُولُ إنْ اسْتَمَرَّ إلَى فِتْنَةٍ أَوْ جَلَاءٍ .
فَأَمَّا الْفِتْنَةُ فِي الْأَغْلَبِ فَتُحِيطُ
بِصَاحِبِهَا ، وَتَنْعَكِسُ عَنْ الْبَادِئِ بِهَا ، فَلَا تَنْكَشِفُ إلَّا
وَهُوَ بِهَا مَصْرُوعٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئِ إلَّا بِأَهْلِهِ }
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ فَمَنْ أَيْقَظَهَا صَارَ طَعَامًا لَهَا } .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : الْفِتْنَةُ حَصَادٌ
لِلظَّالِمَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : صَاحِبُ الْفِتْنَةِ
أَقْرَبُ شَيْءٍ أَجَلًا وَأَسْوَأُ شَيْءٍ عَمَلًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَكُنْتَ كَعَنْزِ
السُّوءِ قَامَتْ لِحَتْفِهَا إلَى مُدْيَةٍ تَحْتَ الثَّرَى تَسْتَثِيرُهَا
وَأَمَّا الْجَلَاءُ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الظَّالِمِ وَتَطَاوُلِ
مُدَّتِهِ فَيَصِيرُ ظُلْمُهُ مَعَ الْمُكْنَةِ جَلَاءً وَفَنَاءٍ ، كَالنَّارِ
إذَا وَقَعَتْ فِي يَابِسِ الشَّجَرِ فَلَا تُبْقِي مَعَهَا مَعَ تَمَكُّنِهَا
شَيْئًا حَتَّى إذَا أَفْنَتْ مَا وَجَدَتْ اضْمَحَلَّتْ وَخَمَدَتْ .
فَكَذَا حَالُ الظَّالِمِ مُهْلِكٌ ثُمَّ هَالِكٌ .
وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : الْجَرَاءَةُ
وَالْقَسْوَةُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {
اُطْلُبُوا الْفَضْلَ وَالْمَعْرُوفَ عِنْدَ الرُّحَمَاءِ مِنْ أُمَّتِي تَعِيشُوا
فِي أَكْنَافِهِمْ } .
وَالصَّادُّ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى آثَارَ اللَّهِ تَعَالَى
فِي الظَّالِمِينَ فَإِنَّ لَهُ فِيهِمْ عِبَرًا ، وَيَتَصَوَّرَ عَوَاقِبَ
ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ فِيهَا مُزْدَجَرًا
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَنْوِ ظُلْمَ أَحَدٍ غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ مَا اجْتَرَمَ } .
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
يَا عَلِيُّ اتَّقِ
دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ حَقَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا
يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : وَيْلٌ لِلظَّالِمِ
مِنْ يَوْمِ الْمَظَالِمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ جَارَ حُكْمُهُ
أَهْلَكَهُ ظُلْمُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَا مِنْ يَدٍ إلَّا
يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلَا ظَالِمٍ إلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ وَأَمَّا
الِاسْتِسْرَارُ بِالْخِيَانَةِ فَضِعَةٌ لِأَنَّهُ بِذُلِّ الْخِيَانَةِ مَهِينٌ
، وَلِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِهِ مُسْتَكِينٌ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ يَخُنْ
يَهُنْ .
وَقَالَ خَالِدٌ الرَّبَعِيُّ : قَرَأْت فِي بَعْضِ
الْكُتُبِ السَّالِفَةِ أَنَّ مِمَّا تُعَجِّلُ عُقُوبَةً وَلَا تُؤَخِّرُ
الْأَمَانَةُ تُخَانُ وَالْإِحْسَانُ يُكْفَرُ وَالرَّحِمُ تُقْطَعُ وَالْبَغْيُ
عَلَى النَّاسِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَمِّ الْخِيَانَةِ إلَّا مَا
يَجِدُهُ الْخَائِنُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَذَلَّةِ لَكَفَاهُ زَاجِرًا ، وَلَوْ تَصَوَّرَ
عُقْبَى أَمَانَتِهِ وَجَدْوَى ثِقَتِهِ لَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَحِ
بَضَائِعِ جَاهِهِ وَأَقْوَى شُفَعَاءِ تَقَدُّمِهِ مَعَ مَا يَجِدُهُ فِي
نَفْسِهِ مِنْ الْعِزِّ وَيُقَابَلُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِعْظَامِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ
خَانَك } .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ إلَيْك وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْك
إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } .
يَعْنُونَ أَنَّ أَمْوَالَ الْعَرَبِ حَلَالٌ لَهُمْ ؛
لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ إلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي إلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا
مُؤَدَّاةٌ إلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَلَا يَجْعَلُ مَا يَتَظَاهَرُ بِهِ مِنْ
الْأَمَانَةِ زُورًا
وَلَا مَا
يُبْدِيهِ مِنْ الْعِفَّةِ غُرُورًا فَيَنْهَتِكَ الزُّورُ وَيَنْكَشِفُ
الْغُرُورُ فَيَكُونُ مَعَ هَتْكِهِ لِلتَّدْلِيسِ أَقْبَحَ وَلِمَعَرَّةِ
الرِّيَاءِ أَفْضَحَ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ تَرَ الْأَمَانَةَ
مَغْنَمًا وَالصَّدَقَةَ مَغْرَمًا
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ الْتَمَسَ أَرْبَعًا
بِأَرْبَعٍ الْتَمَسَ مَا لَا يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ الْجَزَاءَ بِالرِّيَاءِ
الْتَمَسَ مَا لَا يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ مَوَدَّةَ النَّاسِ بِالْغِلْظَةِ
الْتَمَسَ مَا لَا يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ وَفَاءَ الْإِخْوَانِ بِغَيْرِ
وَفَاءٍ الْتَمَسَ مَا لَا يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ الْعِلْمَ بِرَاحَةِ
الْجَسَدِ الْتَمَسَ مَا لَا يَكُونُ
.
وَالدَّاعِي إلَى الْخِيَانَةِ شَيْئَانِ : الْمَهَانَةُ
وَقِلَّةُ الْأَمَانَةِ ، فَإِذَا حَسَمَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا وَصَفْتُ
ظَهَرَتْ مُرُوءَتُهُ ، فَهَذَا شَرْطٌ قَدْ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ أَقْسَامَ
الْعِفَّةِ .
وَأَمَّا
النَّزَاهَةُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : النَّزَاهَةُ عَنْ الْمَطَامِعِ
الدَّنِيَّةِ .
وَالثَّانِي النَّزَاهَةُ عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيبَةِ .
فَأَمَّا الْمَطَامِعُ الدَّنِيَّةُ ؛ فَلِأَنَّ
الطَّمَعَ ذُلٌّ وَالدَّنَاءَةَ لُؤْمٌ ، وَهُمَا أَدْفَعُ شَيْءٍ لِلْمُرُوءَةِ .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ طَمَعٍ
يَهْدِي إلَى طَبْعٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَخْضَعَنَّ
لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْك فِي الدِّينِ وَاسْتَرْزِقْ
اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ فَإِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ
وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : الشَّرَهُ وَقِلَّةُ الْأَنَفَةِ فَلَا
يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَجْلِ شَرَهِهِ ، وَلَا
يَسْتَنْكِفُ مِمَّا مُنِعَ ، وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا لِقِلَّةِ أَنَفَتِهِ .
وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ قَدْرًا ،
وَيَرَى الْمَالَ أَعْظَمَ خَطَرًا ، فَيَرَى بَذْلَ أَهْوَنِ الْأَمْرَيْنِ
لِأَجَلِّهِمَا مَغْنَمًا ، وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَهُ أَجَلَّ
وَنَفْسُهُ عَلَيْهِ أَقَلَّ إصْغَاءٌ لِتَأْنِيبٍ ، وَلَا قَبُولٌ لِتَأْدِيبٍ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَوْصِنِي .
قَالَ :
عَلَيْك بِالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ،
وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ ، وَإِذَا صَلَّيْت صَلَاةً
فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَنْ كَانَتْ
الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمُّهُ سَبَتْهُ الْمُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ الْمَطَامِعُ
وَحَسْمُ هَذِهِ الْمَطَامِعِ شَيْئَانِ : الْيَأْسُ وَالْقَنَاعَةُ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ رُوحَ
الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ
رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا
يَحْمِلَنَّكُمْ إبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ
تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إلَّا
بِطَاعَتِهِ } .
فَهَذَا شَرْطٌ .
وَأَمَّا مَوَاقِفُ الرِّيبَةِ فَهِيَ التَّرَدُّدُ
بَيْنَ مَنْزِلَتَيْ حَمْدٍ وَذَمٍّ ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ حَالَتَيْ سَلَامَةٍ
وَسَقَمٍ ، فَتَتَوَجَّهُ إلَيْهِ لَائِمَةُ الْمُتَوَهِّمِينَ ، وَيَنَالُهُ
ذِلَّةُ الْمُرِيبِينَ ، وَكَفَى بِصَاحِبِهَا مَوْقِفًا إنْ صَحَّ افْتَضَحَ ، وَإِنْ
لَمْ يَصِحَّ اُمْتُهِنَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } .
وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الْمُرُوءَةِ
فَقَالَ : أَنْ لَا تَعْمَلَ فِي السِّرِّ عَمَلًا تَسْتَحِي مِنْهُ فِي
الْعَلَانِيَةِ .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ : مَا وَجَدْت
شَيْئًا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الْوَرَعِ
.
قِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ : إذَا ارْتَبْتَ
بِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ .
وَالدَّاعِي إلَى هَذِهِ الْحَالِ شَيْئَانِ :
الِاسْتِرْسَالُ ، وَحُسْنُ الظَّنِّ
.
وَالْمَانِعُ مِنْهُمَا شَيْئَانِ : الْحَيَاءُ ،
وَالْحَذَرُ .
وَرُبَّمَا انْتَفَتْ الرِّيبَةُ بِحُسْنِ الثِّقَةِ
وَارْتَفَعَتْ التُّهْمَةُ بِطُولِ الْخِبْرَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ رَآهُ بَعْضُ الْحَوَارِيِّينَ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ
امْرَأَةٍ ذَاتِ فُجُورٍ فَقَالَ : يَا رُوحَ اللَّهِ مَا تَصْنَعُ هُنَا ؟
فَقَالَ : الطَّبِيبُ إنَّمَا يُدَاوِي الْمَرْضَى .
وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَرِيقًا
إلَى الِاسْتِرْسَالِ وَلْيَكُنْ الْحَذَرُ عَلَيْهِ أَغْلَبَ ، وَإِلَى الْخَوْفِ
مِنْ تَصْدِيقِ التُّهَمِ أَقْرَبَ ، فَمَا كُلُّ رِيبَةٍ يَنْفِيهَا حُسْنُ
الثِّقَةِ .
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ الرِّيَبِ وَأَصْوَنُهُمْ مِنْ
التُّهَمِ ، { وَقَفَ مَعَ زَوْجَتِهِ صَفِيَّةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى بَابِ
مَسْجِدٍ يُحَادِثُهَا وَكَانَ مُعْتَكِفًا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ
الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَسْرَعَا فَقَالَ لَهُمَا : عَلَى رِسْلِكُمَا
إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ
.
فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَفِيكَ شَكٌّ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَهْ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ
مَجْرَى لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَخَشِيتُ
أَنْ
يَقْذِفَ فِي قَلْبَيْكُمَا سُوءًا } .
فَكَيْفَ مَنْ تَخَالَجَتْ فِيهِ الشُّكُوكُ
وَتَقَابَلَتْ فِيهِ الظُّنُونُ فَهَلْ يَعْرَى مَنْ فِي مَوَاقِفِ الرِّيَبِ مِنْ
قَادِحٍ مُحَقَّقٍ ، وَلَائِمٍ مُصَدَّقٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إذَا لَمْ يَشْقَ الْمَرْءُ إلَّا بِمَا عَمِلَ فَقَدْ سَعِدَ } .
وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْحَزْمَ وَغَلَّبَ الْحَذَرَ
وَتَرَكَ مَوَاقِفَ الرِّيَبِ وَمَظَانَّ التُّهَمِ ، وَلَمْ يَقِفْ مَوْقِفَ
الِاعْتِذَارِ وَلَا عُذْرَ لِمُخْتَارٍ لَمْ يَخْتَلِجْ فِي نَزَاهَتِهِ شَكٌّ
وَلَمْ يَقْدَحْ فِي عِرْضِهِ إفْكٌ
.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَصُونُك أَنْ أُدِلَّ
عَلَيْك ظَنًّا لِأَنَّ الظَّنَّ مِفْتَاحُ الْيَقِينِ وَقَالَ سَهْلُ بْنُ
هَارُونَ : مُؤْنَةُ الْمُتَوَقِّفِ أَيْسَرُ مِنْ تَكَلُّفِ الْمُعَسَّفِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ
بِمَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ مَخْدُوعٌ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ ، لِأَبِي بَكْرٍ
الصُّولِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ : أَحْسَنْتُ ظَنِّي بِأَهْلِ دَهْرِي
فَحُسْنُ ظَنِّي بِهِمْ دَهَانِي لَا آمَنُ النَّاسَ بَعْدَ هَذَا مَا الْخَوْفُ
إلَّا مِنْ الْأَمَانِ فَهَذَا شَرْطٌ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ نَوْعَيْ النَّزَاهَةِ .
وَأَمَّا الصِّيَانَةُ
وَهِيَ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : صِيَانَةُ النَّفْسِ
بِالْتِمَاسِ كِفَايَتِهَا وَتَقْدِيرِ مَادَّتِهَا .
وَالثَّانِي : صِيَانَتُهَا عَنْ تَحَمُّلِ الْمِنَنِ
مِنْ النَّاسِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الِاسْتِعَانَةِ .
وَأَمَّا الْتِمَاسُ الْكِفَايَةِ وَتَقْدِيرُ
الْمَادَّةِ ؛ فَلِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إلَى النَّاسِ كُلُّ مُهْتَضَمٍ وَذَلِيلٍ
مُسْتَثْقَلٍ .
وَهُوَ لِمَا فُطِرَ عَلَيْهِ ، مُحْتَاجٌ إلَى مَا
يَسْتَمِدُّهُ لِيُقِيمَ أَوَدَ نَفْسِهِ ، وَيَدْفَعَ ضَرُورَةَ وَقْتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا : كَلْبٌ
جَوَّالٌ خَيْرٌ مِنْ أَسَدٍ رَابِضٍ
.
وَمَا يَسْتَمِدُّهُ نَوْعَانِ : لَازِمٌ وَنَدْبٌ .
فَأَمَّا اللَّازِمُ فَمَا أَقَامَ بِالْكِفَايَةِ
وَأَفْضَى إلَى سَدِّ الْخَلَّةِ
.
وَعَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : وَاحِدُهَا
: اسْتِطَابَتُهُ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَتَوَقِّي الْمَحْظُورَةِ فَإِنَّ
الْمَوَادَّ الْمُحَرَّمَةَ مُسْتَخْبَثَةُ الْأُصُولِ ، مَمْحُوقَةُ الْمَحْصُولِ
، إنْ صَرَفَهَا فِي بِرٍّ لَمْ يُؤْجَرْ ، وَإِنْ صَرَفَهَا فِي مَدْحٍ لَمْ
يُشْكَرْ ، ثُمَّ هُوَ لِأَوْزَارِهَا مُحْتَقِبٌ ، وَعَلَيْهَا مُعَاقَبٌ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { لَا يُعْجِبُك رَجُلٌ كَسَبَ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَإِنْ أَنْفَقَهُ
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ فَهُوَ زَادُهُ إلَى النَّارِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَرُّ الْمَالِ مَا
لَزِمَك إثْمُ مَكْسَبِهِ وَحُرِمْتَ أَجْرَ إنْفَاقِهِ .
وَنَظَرَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى رَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِ السُّلْطَانِ يَتَصَدَّقُ عَلَى مِسْكِينٍ ، فَقَالَ : اُنْظُرْ
إلَيْهِمْ حَسَنَاتُهُمْ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ : سُرَّ مَنْ عَاشَ مَالُهُ
فَإِذَا حَاسَبَهُ اللَّهُ سَرَّهُ الْإِعْدَامُ وَالثَّانِي : طَلَبُهُ مِنْ أَحْسَنِ جِهَاتِهِ
الَّتِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهَا غَضٌّ ، وَلَا يَتَدَنَّسُ لَهُ بِهَا عِرْضٌ ،
فَإِنَّ الْمَالَ يُرَادُ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ لَا لِابْتِذَالِهَا ،
وَلِعِزِّ النُّفُوسِ لَا لِإِذْلَالِهَا .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ :
يَا حَبَّذَا الْمَالُ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأُرْضِي بِهِ رَبِّي .
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ الضَّرِيرُ : كَفَى حُزْنًا أَنِّي
أَرُوحُ وَأَغْتَدِي وَمَا لِي مِنْ مَالٍ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأَكْثَرُ مَا
أَلْقَى الصَّدِيقَ بِمَرْحَبًا وَذَلِكَ لَا يَكْفِي الصَّدِيقَ وَلَا يُرْضِي وَسُئِلَ
ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
اُطْلُبُوا الْحَوَائِجَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوهِ } .
فَقَالَ : مَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي
تَحِلُّ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَأَنَّى فِي تَقْدِيرِ
مَادَّتِهِ وَتَدْبِيرِ كِفَايَتِهِ بِمَا لَا يَلْحَقُهُ خَلَلٌ وَلَا يَنَالُهُ
زَلَلٌ ، فَإِنَّ يَسِيرَ الْمَالِ مَعَ حُسْنِ التَّقْدِيرِ ، وَإِصَابَةِ
التَّدْبِيرِ ، أَجْدَى نَفْعًا وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا مِنْ كَثِيرِهِ مَعَ سُوءِ
التَّدْبِيرِ ، وَفَسَادِ التَّقْدِيرِ ، كَالْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ إذَا رُوعِيَ يَسِيرُهُ
زَكَا ، وَإِنْ أُهْمِلَ كَثِيرُهُ اضْمَحَلَّ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
الْكَمَالُ فِي ثَلَاثَةٍ : الْعِفَّةُ فِي الدِّينِ ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ ،
وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : فُلَانٌ غَنِيٌّ .
فَقَالَ : لَا أَعْرِفُ ذَلِكَ مَا لَمْ أَعْرِفْ
تَدْبِيرَهُ فِي مَالِهِ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِيمَا
يَسْتَمِدُّهُ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الْمُرُوءَةِ فِي
نَفْسِهِ .
وَسُئِلَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ الْمُرُوءَةِ
فَقَالَ : الْعِفَّةُ وَالْحِرْفَةُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ
لَا تَكُنْ عَلَى أَحَدٍ كَلًّا فَإِنَّك تَزْدَادُ ذُلًّا ، وَاضْرِبْ فِي
الْأَرْضِ عَوْدًا وَبَدْءًا ، وَلَا تَأْسَفْ لِمَالٍ كَانَ فَذَهَبَ ، وَلَا
تَعْجَزْ عَنْ الطَّلَبِ لِوَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ .
فَهَذَا حَالُ اللَّازِمِ وَقَدْ كَانَ ذَوُو الْهِمَمِ
الْعَلِيَّةِ وَالنُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ يَرَوْنَ مَا وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ
كَسْبًا أَفْضَلَ مِمَّا وَصَلَ إلَيْهِ إرْثًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِرْثِ فِي
جَدْوَى غَيْرِهِ وَبِالْكَسْبِ مُجْدٍ إلَى غَيْرِهِ ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا
فِي الْفَضْلِ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ
كُشَاجِمُ
: لَا
أَسْتَلِذُّ الْعَيْشَ لَمْ أَدْأَبْ لَهُ طَلَبًا وَسَعْيًا فِي الْهَوَاجِرِ
وَالْغَلَسْ وَأَرَى حَرَامًا أَنْ يُؤَاتِيَنِي الْغِنَى حَتَّى يُحَاوَلَ
بِالْعَنَاءِ وَيُلْتَمَسْ فَاصْرِفْ نَوَالَكَ عَنْ أَخِيكَ مُوَفِّرًا
فَاللَّيْثُ لَيْسَ يُسِيغُ إلَّا مَا افْتَرَسْ وَأَمَّا النَّدْبُ فَهُوَ مَا
فَضَلَ عَنْ الْكِفَايَةِ ، وَزَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ
فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ طَالِبِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَقَاعَدَ عَلَى
مَرَاتِبِ الرُّؤَسَاءِ ، وَتَقَاصَرَ عَنْ مُطَاوَلَةِ النُّظَرَاءِ ،
وَانْقَبَضَ عَنْ مُنَافَسَةِ الْأَكْفَاءِ ، فَحَسْبُهُ مَا كَفَاهُ فَلَيْسَ فِي
الزِّيَادَةِ إلَّا شَرَهٌ وَلَا فِي الْفُضُولِ إلَّا نَهَمٌ ، وَكِلَاهُمَا
مَذْمُومٌ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي وَخَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : الدُّنْيَا كَلٌّ عَلَى الْعَاقِلِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : الْمُسْتَغْنِي
عَنْ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا كَمُطْفِئِ النَّارِ بِالتِّبْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اشْتَرِ مَاءَ وَجْهِك
بِالْقَنَاعَةِ وَتَسَلَّ عَنْ الدُّنْيَا لِتَجَافِيهَا عَنْ الْكِرَامِ .
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَمِ
وَتَحَرَّكَتْ فِيهِ أَرْيَحِيَّةُ الْكَرَمِ وَآثَرَ أَنْ يَكُونَ رَأْسًا
وَمُقَدَّمًا ، وَأَنْ يُرَى فِي النُّفُوسِ مُعَظَّمًا وَمُفَخَّمًا
فَالْكِفَايَةُ لَا تُقِلُّهُ حَتَّى يَكُونَ مَالُهُ فَاضِلًا ، وَنَائِلُهُ
فَائِضًا .
فَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ : مَا الْمُرُوءَةُ
فِيكُمْ ؟ قَالَ : طَعَامٌ مَأْكُولٌ ، وَنَائِلٌ مَبْذُولٌ ، وَبِشْرٌ مَقْبُولٌ .
وَقَدْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : فَلَوْ مُدَّ سَرْوِي
بِمَالٍ كَثِيرٍ لَجُدْتُ وَكُنْتُ لَهُ بَاذِلَا فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ لَا
تُسْتَطَاعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُهَا فَاضِلَا وَأَمَّا صِيَانَتُهَا عَنْ
تَحَمُّلِ الْمِنَنِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الِاسْتِعَانَةِ ؛ فَلِأَنَّ
الْمِنَّةَ اسْتِرْقَاقُ الْأَحْرَارِ تُحْدِثُ ذِلَّةً فِي الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ
وَسَطْوَةً فِي الْمَانِّ بِهِ
.
وَالِاسْتِرْسَالُ فِي الِاسْتِعَانَةِ
تَثْقِيلٌ
وَمَنْ ثَقَّلَ عَلَى النَّاسِ هَانَ ، وَلَا قَدْرَ عِنْدَهُمْ لِمُهَانٍ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَدَمَك
بَنُوك .
فَقَالَ : أَغْنَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِابْنِهِ الْحَسَنِ فِي وَصِيَّتِهِ لَهُ : يَا بُنَيَّ إنْ اسْتَطَعْتَ
أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ ، وَلَا تَكُنْ
عَبْدَ غَيْرِك وَقَدْ جَعَلَك اللَّهُ حُرًّا ، فَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
أَكْرَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ
كَثِيرًا .
وَقَالَ زِيَادٌ لِبَعْضِ الدَّهَاقِينِ : مَا الْمُرُوءَةُ
فِيكُمْ ؟ قَالَ : اجْتِنَابُ الرِّيَبِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبُلُ مُرِيبٌ ،
وَإِصْلَاحُ الرَّجُلِ مَالَهُ فَإِنَّهُ مِنْ مُرُوءَتِهِ وَقِيَامِهِ
بِحَوَائِجِهِ وَحَوَائِجِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبُلُ مَنْ احْتَاجَ إلَى
أَهْلِهِ وَلَا مَنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيقِ
لِقَاؤُهُ وَأَخُو الْحَوَائِجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ وَأَخُوك مَنْ وَفَّرْتَ مَا
فِي كِيسِهِ فَإِذَا عَبَثْتَ بِهِ فَأَنْتَ ثَقِيلُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ
لُحْمَةً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ التَّعَاوُنِ وَلَا يَسْتَقِلُّونَ عَنْ
الْمُسَاعِدِ وَالْمُظَافِرِ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ تَعَاوُنُ ائْتِلَافٍ
يَتَكَافَئُونَ فِيهِ وَلَا يَتَفَاضَلُونَ وَرُبَّمَا كَانَ الْمُسْتَعِينُ فِيهِ
مُفَضَّلًا ، وَالْمُعِينُ مُسْتَفْضِلًا كَاسْتِعَانَةِ السُّلْطَانِ بِجُنْدِهِ
وَالْمُزَارِعِ بِأَكَرَتِهِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا بُدٌّ وَلَا لِأَحَدٍ عَنْهُ
غِنًى ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَصَوَّنُ عَنْهُ الْكِرَامُ تَعَاوُنُ التَّفْضِيلِ
فَيَنْقَبِضُونَ عَنْ أَنْ يَسْتَعِينُوا لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِمْ يَدٌ ،
وَيُسَارِعُونَ أَنْ يُعِينُوا لَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ يَدٌ .
وَمَنْ أَقْدَمَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ عَلَى
الِاسْتِعَانَةِ بِجَاهٍ أَوْ بِمَالٍ فَقَدْ أَوْهَى مُرُوءَتَهُ ، وَاسْتَبْذَلَ
صِيَانَتَهُ ، وَمَنْ دَعَاهُ الِاضْطِرَارُ لِنَائِبٍ أَلَمَّ أَوْ حَادِثٍ
هَجَمَ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ يَتَنَفَّسُ بِهِ مِنْ خِنَاقِ كَرْبِهِ ، وَيَتَخَلَّصُ
بِهِ مِنْ
وِثَاقِ
نَوَائِبِهِ ، فَلَا لَوْمَ عَلَى مُضْطَرٍّ .
فَإِنْ أَغْنَتْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْجَاهِ عَنْ
الِاسْتِعَانَةِ بِالْمَالِ ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّعَرُّضِ لِلْمَالِ ،
وَيَعْدِلُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْحَوَائِجَ عِنْدَهُمْ أَنْجَحُ
وَهِيَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلُ ، وَهُمْ لِذَلِكَ مَنْدُوبُونَ ، فَهُمْ لَا
يَجِدُونَ لَهُمْ مُسَاوِيًا وَلِيَصْبِرَنَّ عَلَى إبْطَائِهِمْ فَإِنَّ
تَرَاكُمَ الْأُمُورِ عَلَيْهِمْ يَشْغَلُهُمْ إلَّا عَنْ الْمُلِحِّ الصَّبُورِ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : قَدِّمْ لِحَاجَتِك بَعْضَ
لَجَاجَتِك .
وَقَالَ أَبُو سَارَةَ سُحَيْمُ بْنُ الْأَعْرَفِ :
تُعِدُّ قَرَابَةً وَتُعِدُّ صِهْرًا وَيَسْعَدُ بِالْقَرَابَةِ مَنْ رَعَاهَا
وَمَا زُرْنَاك مِنْ عَدَمٍ وَلَكِنْ يَهَشُّ إلَى الْإِمَارَةِ مَنْ رَجَاهَا
وَأَيًّا مَا فَعَلْتَ فَإِنَّ نَفْسِي تَعُدُّ صَلَاحَ نَفْسِك مِنْ غِنَاهَا
فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ صَلَاحُ حَالِهِ إلَّا بِمَالٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى نَوَائِبِهِ
كَانَ لَهُ مَعَ الضَّرُورَةِ فُسْحَةٌ
.
لَكِنْ إنْ وَجَدَهُ قَرْضًا مَرْدُودًا لَمْ يَأْخُذْهُ
صِلَةً وَجُودًا ، فَإِنَّ الْقَرْضَ مُسْتَسْمَحٌ بِهِ فِي الْمُرُوآت .
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ مَا أَعْلَى اللَّهُ مِنْ قَدْرِهِ وَفَضَّلَهُ عَلَى خَلْقِهِ ،
قَدْ اقْتَرَضَ ثُمَّ قَضَى فَأَحْسَنَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ أَعْيَاهُ رِزْقُ اللَّهِ تَعَالَى حَلَالًا فَلْيَسْتَدِنْ
عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ
} .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْمُسْتَدِينُ تَاجِرُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ } .
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : إنْ لَمْ يَكُنْ كُثْرٌ فَقُلْ
عَطِيَّةٌ يَبْلُغْ بِهَا بَاغِي الرِّضَا بَعْضَ الرِّضَا أَوْ لَمْ يَكُنْ
هِبَةٌ فَقَرْضٌ يُسِّرَتْ أَسْبَابُهُ وَكَوَاهِبٍ مَنْ أَقْرَضَا وَلَئِنْ كَانَ
الدَّيْنُ رِقًّا فَهُوَ أَسْهَلُ مِنْ رِقِّ الْإِفْضَالِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْبَقَاءَ وَلَا بَقَاءَ
فَلْيُبَاكِرْ الْغَدَاءَ وَلْيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ .
قِيلَ : وَمَا فِي خِفَّةِ الرِّدَاءِ مِنْ الْبَقَاءِ ؟
قَالَ : قِلَّةُ الدَّيْنِ .
فَإِنْ
أَعْوَزَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِسْمَاحًا فَهُوَ الرِّقُّ الْمُذِلُّ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : لَا مُرُوءَةَ لِمُقِلٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ قَبِلَ صِلَتَك فَقَدْ
بَاعَك مُرُوءَتَهُ وَأَذَلَّ لِقَدْرِك عِزَّهُ وَجَلَالَتَهُ .
وَاَلَّذِي يَتَمَاسَكُ بِهِ الْبَاقِي مِنْ مُرُوءَةِ
الرَّاغِبِينَ ، وَالْيَسِيرِ التَّافِهِ مِنْ صِيَانَةِ السَّائِلِينَ ، وَإِنْ
لَمْ يَبْقَ لِذِي رَغْبَةٍ مُرُوءَةٌ وَلَا لِسَائِلٍ تَصَوُّنٌ أَرْبَعَةُ
أُمُورٍ هِيَ جَهْدُ الْمُضْطَرِّ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَجَافَى ضَرَعَ
السَّائِلِينَ ، وَأُبَّهَةَ الْمُسْتَقِلِّينَ .
فَيَذِلَّ بِالضَّرَعِ وَيُحْرَمَ بِالْأُبَّهَةِ ،
وَلْيَكُنْ مِنْ التَّجَمُّلِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ مِثْلِهِ مِنْ ذَوِي
الْحَاجَاتِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يُفْحِشُ
زَوَالَ النِّعَمِ ؟ قَالَ : إذَا زَالَ مَعَهَا التَّجَمُّلُ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ
الْجَهْمِ : هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتهَا تَتَحَمَّلُ وَلِلدَّهْرِ أَيَّامٌ
تَجُورُ وَتَعْدِلُ وَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ جَمِيلَةٌ وَأَحْسَنُ
أَخْلَاقِ الرِّجَالِ التَّفَضُّلُ وَلَا عَارَ إنْ زَالَتْ عَنْ الْحُرِّ
نِعْمَةٌ وَلَكِنَّ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّجَمُّلُ وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتَصِرَ
فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا دَعَتْهُ إلَيْهِ الضَّرُورَةُ ، وَقَادَتْهُ إلَيْهِ
الْحَاجَةُ ، وَلَا يَجْعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الِاغْتِنَامِ فَيَحْرُمُ
بِاغْتِنَامِهِ ، وَلَا يُعْذَرُ فِي ضَرُورَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَلِفَ
الْمَسْأَلَةَ أَلِفَهُ الْمَنْعُ
.
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْذُرَ فِي الْمَنْعِ
وَيَشْكُرَ عَلَى الْإِجَابَةِ فَإِنَّهُ إنْ مُنِعَ فَعَمَّا لَا يَمْلِكُ ،
وَإِنْ أُجِيبَ فَإِلَى مَا لَا يَسْتَحِقُّ .
فَقَدْ قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ : لَا تَغْضَبَنَّ
عَلَى امْرِئٍ فِي مَالِهِ وَعَلَى كَرَائِمِ صُلْبِ مَالِكَ فَاغْضَبْ وَالرَّابِعُ
: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى سُؤَالِ مَنْ كَانَ لِلْمَسْأَلَةِ أَهْلًا ، وَكَانَ
النُّجْحُ عِنْدَهُ مَأْمُولًا ، فَإِنَّ ذَوِي الْمُكْنَةِ كَثِيرٌ وَالْمُعِينُ
مِنْهُمْ قَلِيلٌ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : {
الْخَيْرُ
كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ } .
وَالْمَرْجُوُّ لِلْإِجَابَةِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ
خِصَالُهَا وَهِيَ ثَلَاثٌ : إحْدَاهُنَّ : كَرَمُ الطَّبْعِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ مُسَاعِدٌ
، وَاللَّئِيمَ مُعَانِدٌ .
وَقَدْ قِيلَ : الْمَخْذُولُ مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى
اللِّئَامِ حَاجَةٌ .
وَالثَّانِيَةُ : سَلَامَةُ الصَّدْرِ فَإِنَّ
الْعَدُوَّ إلْبٌ عَلَى نَكْبَتِك ، وَحَرْبٌ فِي نَائِبَتِك .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ أَوْغَرْت صَدْرَهُ اسْتَدْعَيْت
شَرَّهُ ، فَإِنْ رَقَّ لَك بِكَرَمِ طَبْعِهِ ، وَرَحِمَك بِحُسْنِ ظَفَرِهِ ،
فَأَعْظِمْ بِهَا مِنْحَةً أَنْ يَصِيرَ عَدُوُّك لَك رَاحِمًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَحَسْبُك مِنْ حَادِثٍ
بِامْرِئٍ تَرَى حَاسِدِيهِ لَهُ رَاحِمَيْنَا وَالْخَامِسُ : ظُهُورُ الْمُكْنَةِ
فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ مَا لَا يُمْكِنُ فَقَدْ أَحَالَ ، وَكَانَ كَمُسْتَنْهِضِ
الْمَسْجُونِ ، وَمُسْتَسْعِفِ الْمَدْيُونِ ، وَكَانَ بِالرَّدِّ خَلِيقًا ، وَبِالْحِرْمَانِ
حَقِيقًا .
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : مَنْ
لَا يَعْرِفُ لَا حَتَّى يُقَالَ لَهُ لَا فَهُوَ أَحْمَقُ .
وَوَصَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَهْتَمِ ابْنَهُ
فَقَالَ : يَا بُنَيَّ لَا تَطْلُبْ الْحَوَائِجَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، وَلَا
تَطْلُبْهَا فِي غَيْرِ حِينِهَا ، وَلَا تَطْلُبْ مَا لَسْتَ لَهُ مُسْتَحِقًّا
فَإِنَّك إنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ كُنْتَ حَقِيقًا بِالْحِرْمَانِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَلَا تَسْأَلَنَّ امْرَأً حَاجَةً
يُحَاوِلُ مِنْ رَبِّهِ مِثْلَهَا فَيَتْرُكَ مَا كُنْتَ حَمَّلْتَهُ وَيَبْدَأُ
بِحَاجَتِهِ قَبْلَهَا فَهَذَا مَا يَخْتَصُّ بِشُرُوطِ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ .
وَأَمَّا
شُرُوطُ الْمُرُوءَةِ فِي غَيْرِهِ فَثَلَاثَةٌ : الْمُؤَازَرَةُ وَالْمُيَاسَرَةُ
وَالْإِفْضَالُ .
أَمَّا الْمُؤَازَرَةُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا :
الْإِسْعَافُ بِالْجَاهِ ، وَالثَّانِي الْإِسْعَافُ فِي النَّوَائِبِ .
فَأَمَّا الْإِسْعَافُ بِالْجَاهِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ
الْأَعْلَى قَدْرًا ، وَالْأَنْفَذِ أَمْرًا ، وَهُوَ أَرْخَصُ الْمَكَارِمِ
ثَمَنًا وَأَلْطَفُ الصَّنَائِعِ مَوْقِعًا ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ مِنْ
الْمَالِ نَفْعًا .
وَهُوَ الظِّلُّ الَّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ الْمُضْطَرُّونَ
، وَالْحِمَى الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ الْخَائِفُونَ .
فَإِنْ أَوَطْأَهُ اتَّسَعَ بِكَثْرَةِ الْأَنْصَارِ
وَالشِّيَعِ ، وَإِنْ قَبَضَهُ انْقَطَعَ بِنُفُورِ الْغَاشِيَةِ وَالتَّبَعِ ،
فَهُوَ بِالْبَذْلِ يُنَمَّى وَيَزِيدُ ، وَبِالْكَفِّ يَنْقُصُ وَيَبِيدُ ، فَلَا
عُذْرَ لِمَنْ مُنِحَ جَاهًا أَنْ يَبْخَلَ بِهِ فَيَكُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ
الْبَخِيلِ بِمَالِهِ الَّذِي قَدْ يُعِدُّهُ لِنَوَائِبِهِ ، وَيَسْتَبْقِيهِ
لِلَذَّتِهِ ، وَيَكْنِزُهُ لِذُرِّيَّتِهِ .
وَبِضِدِّ ذَلِكَ مَنْ بَخِلَ بِجَاهِهِ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ أَضَاعَهُ بِالشُّحِّ وَبَدَّدَهُ بِالْبُخْلِ وَحَرَمَ نَفْسَهُ غَنِيمَةَ
مُكْنَتِهِ ، وَفُرْصَةَ قُدْرَتِهِ ، فَلَمْ يُعْقِبْهُ إلَّا نَدَمًا عَلَى
فَائِتٍ وَأَسَفًا عَلَى ضَائِعٍ وَمَقْتًا يَسْتَحْكِمُ فِي النُّفُوسِ وَذَمًّا قَدْ
يَنْتَشِرُ فِي النَّاسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّ
خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ أَحْسَنُهُمْ صَنِيعًا إلَى عِيَالِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اصْنَعْ الْخَيْرَ عِنْدَ
إمْكَانِهِ يَبْقَى لَك حَمْدُهُ عِنْدَ زَوَالِهِ ، وَأَحْسِنْ وَالدَّوْلَةُ لَك
يُحْسَنُ لَك ، وَالدَّوْلَةُ عَلَيْك ، وَاجْعَلْ زَمَانَ رَخَائِك عُدَّةً
لِزَمَانِ بَلَائِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ عَلَامَةِ
الْإِقْبَالِ اصْطِنَاعُ الرِّجَالِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : بَذْلُ الْجَاهِ أَحَدُ
الْحِبَاءَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : الْعَرَبُ تَقُولُ :
مَنْ أَمَّلَ شَيْئًا هَابَهُ وَمِنْ جَهِلَ شَيْئًا عَابَهُ .
وَبَذْلُ الْجَاهِ قَدْ
يَكُونُ مِنْ
كَرَمِ النَّفْسِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَضِدُّهُ مِنْ ضِدِّهِ وَلَيْسَ بَذْلُ
الْجَاهِ لِالْتِمَاسِ الْجَزَاءِ بَذْلًا مَشْكُورًا ، وَإِنَّمَا هُوَ بَائِعُ
جَاهِهِ وَمُعَاوِضُ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَآلَائِهِ فَكَانَ بِالذَّمِّ
أَحَقَّ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ لِعَلِيِّ بْنِ عَبَّاسٍ
الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَبْذُلُ الْعُرْفَ حِينَ يَبْذُلُهُ
كَمُشْتَرِي الْحَمْدِ أَوْ كَمُعْتَاضِهِ بَلْ يَفْعَلُ الْعُرْفَ حِينَ
يَفْعَلُهُ لِجَوْهَرِ الْعُرْفِ لَا لِأَعْرَاضِهِ وَعَلَى مَنْ أُسْعِدَ
بِجَاهِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ يَسْتَكْثِرُ بِهَا الشُّكْرَ وَيَسْتَمِدُّ بِهَا
الْمَزِيدَ مِنْ الْأَجْرِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَسْهِلَ الْمَعُونَةَ
مَسْرُورًا ، وَلَا يَسْتَثْقِلَهَا كَارِهًا ، فَيَكُونَ بِنِعَمِ اللَّهِ
تَعَالَى مُتَبَرِّمًا وَلِإِحْسَانِهِ مُسْخِطًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ
عَظُمَتْ مَئُونَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ
} .
فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ تِلْكَ الْمَئُونَةَ عَرَضَ
تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ
.
وَالثَّانِي :
مُجَانَبَةُ الِاسْتِطَالَةِ وَتَرْكُ الِامْتِنَانِ
فَإِنَّهُمَا مِنْ لُؤْمِ الطَّبْعِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَفِيهِمَا هَدْمُ
الصَّنِيعِ ، وَإِحْبَاطُ الشُّكْرِ
.
وَقَدْ قِيلَ لِلْحَكِيمِ الْيُونَانِيِّ : مَنْ أَضْيَقُ
النَّاسِ طَرِيقًا وَأَقَلُّهُمْ صَدِيقًا ؟ قَالَ : مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ
بِعُبُوسِ وَجْهِهِ وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَقْرِنَ بِمَشْكُورِ
سَعْيِهِ تَقْرِيعًا بِذَنْبٍ وَلَا تَوْبِيخًا عَلَى هَفْوَةٍ فَلَا يَفِي مَضَضُ
التَّوْبِيخِ بِإِدْرَاكِ النُّجْحِ وَيَصِيرُ الشُّكْرُ وَجْدًا وَالْحَمْدُ
عَيْبًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ } .
وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ : أَلَمْ تَعْلَمَا
أَنَّ الْمَلَامَةَ نَفْعُهَا قَلِيلٌ إذَا مَا الشَّيْءُ وَلَّى فَأَدْبَرَا
وَأَمَّا الْإِسْعَافُ فِي النَّوَائِبِ فَلِأَنَّ الْأَيَّامَ غَادِرَةٌ ، وَالنَّوَازِلَ
غَائِرَةٌ ، وَالْحَوَادِثَ عَارِضَةٌ ،
وَالنَّوَائِبَ
رَاكِضَةٌ ، فَلَا يَعْذُرُ فِيهَا إلَّا عَلِيمٌ ، وَلَا يَسْتَنْقِذُهُ مِنْهَا
إلَّا سَلِيمٌ .
وَقَدْ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : كَفَى زَاجِرًا
لِلْمَرْءِ أَيَّامُ دَهْرِهِ تَرُوحُ لَهُ بِالْوَاعِظَاتِ وَتَغْتَدِي فَإِذَا
وُجِدَ الْكَرِيمُ مُصَابًا بِحَوَادِث دَهْرِهِ حَثَّهُ الْكَرْمُ وَشُكْرُ النِّعَمِ
عَلَى الْإِسْعَافِ فِيهَا بِمَا اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إلَيْهِ وَوَجَدَ قُدْرَةً
عَلَيْهِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرٌ مِنْ الْخَيْرُ مُعْطِيهِ وَشَرٌّ مِنْ الشَّرِّ
فَاعِلُهُ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : هَلْ شَيْءٌ خَيْرٌ
مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؟ قَالَ : مُعْطِيهِمَا .
وَالْإِسْعَافُ فِي النَّوَائِبِ نَوْعَانِ : وَاجِبٌ
وَتَبَرُّعٌ .
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَمَا اخْتَصَّ بِثَلَاثَةِ
أَصْنَافٍ وَهُمْ : الْأَهْلُ وَالْإِخْوَانُ وَالْجِيرَانُ .
أَمَّا الْأَهْلُ فَلِمُمَاسَّةِ الرَّحِمِ وَتَعَاطُفِ
النَّسَبِ .
وَقَدْ قِيلَ : لَمْ يَسُدْ مَنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى
غَيْرِهِ .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : وَإِنَّ امْرَأً نَالَ
الْمُنَى ثُمَّ لَمْ يَنَلْ قَرِيبًا وَلَا ذَا حَاجَةٍ لَزَهِيدُ وَإِنَّ امْرَأً
عَادَى الرِّجَالَ عَلَى الْغِنَى وَلَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْغِنَى لَحَسُودُ وَأَمَّا
الْإِخْوَانُ فَلِمُسْتَحْكَمِ الْوُدُّ وَمُتَأَكِّدُ الْعَهْدِ .
سُئِلَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ الْمُرُوءَةِ
فَقَالَ : صِدْقُ اللِّسَانِ وَمُؤَاسَاةُ الْإِخْوَانِ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى
فِي كُلِّ مَكَان .
وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ : صِفَةُ الصَّدِيقِ
أَنْ يَبْذُلَ لَك مَالَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَنَفْسَهُ عِنْدَ النَّكْبَةِ ،
وَيَحْفَظَك عِنْدَ الْمَغِيبِ
.
وَرَأَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلَيْنِ يَصْطَحِبَانِ
لَا يَفْتَرِقَانِ فَسَأَلَ عَنْهُمَا فَقِيلَ : هُمَا صَدِيقَانِ .
فَقَالَ : مَا بَالُ أَحَدِهِمَا فَقِيرٌ وَالْآخَرِ
غَنِيٌّ .
وَأَمَّا الْجَارُ فَلِدُنُوِّ دَارِهِ وَاتِّصَالِ
مَزَارِهِ .
قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : لَيْسَ حُسْنُ
الْجُوَارِ كَفَّ الْأَذَى بَلْ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَجَارَ جَارَهُ
أَعَانَهُ اللَّهُ وَأَجَارَهُ
.
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَحْسَنَ إلَى جَارِهِ فَقَدْ دَلَّ عَلَى حُسْنِ
نِجَارِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَلِلْجَارِ حَقٌّ
فَاحْتَرِزْ مِنْ إذَائِهِ وَمَا خَيْرُ جَارٍ لَا يَزَالُ مُؤَاذِيًا فَيَجِبُ
فِي حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِ الْكَرَمِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ
تَحَمُّلُ أَثْقَالِهِمْ ، وَإِسْعَافُهُمْ فِي نَوَائِبِهِمْ وَلَا فُسْحَةَ
لِذِي مُرُوءَةٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُكْنَةِ أَنْ يَكِلَهُمْ إلَى غَيْرِهِ ، أَوْ
يُلْجِئَهُمْ إلَى سُؤَالِهِ ، وَلْيَكُنْ سَائِلَ كَرَمِ نَفْسِهِ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِيَالُ كَرَمِهِ وَأَضْيَافُ مُرُوءَتِهِ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ
يُلْجِئَ عِيَالَهُ وَأَضْيَافَهُ إلَى الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فَهَكَذَا مَنْ
عَالَهُ كَرَمُهُ وَأَضَافَتْهُ مُرُوءَتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ
الْمَرْجُوِّ نَائِلُهُ وَالْمُسْتَجَارِ بِهِ فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَنْ لَا
يُنِيلَ الْأَقَاصِيَ صَوْبَ رَاحَتِهِ حَتَّى يَخُصَّ بِهِ الْأَدْنَى مِنْ
الْخَدَمِ إنَّ الْفُرَاتَ إذَا جَاشَتْ غَوَارِبُهُ رَوَّى السَّوَاحِلَ ثُمَّ
امْتَدَّ فِي الْأُمَمِ وَأَمَّا التَّبَرُّعُ فِيمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ مِنْ الْبُعَدَاءِ الَّذِينَ لَا يُدْلُونَ بِنَسَبٍ ، وَلَا
يَتَعَلَّقُونَ بِسَبَبٍ ، فَإِنْ تَبَرَّعَ بِفَضْلِ الْكَرَمِ وَفَائِضِ
الْمُرُوءَةِ فَنَهَضَ فِي حَوَادِثِهِمْ ، وَتَكَفَّلَ بِنَوَائِبِهِمْ ، فَقَدْ
زَادَ عَلَى شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ وَتَجَاوَزَهَا إلَى شُرُوطِ الرِّئَاسَةِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : أَيُّ شَيْءٍ مِنْ
أَفْعَالِ النَّاسِ يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْإِلَهِ ؟ قَالَ : الْإِحْسَانُ إلَى
النَّاسِ ، وَإِنْ كَفَّ تَشَاغُلًا بِمَا لَزِمَ فَلَا لَوْمَ مَا لَمْ يَلْجَأْ
إلَيْهِ مُضْطَرٌّ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْكُلِّ مُعْوِزٌ وَالتَّكَفُّلَ بِالْجَمِيعِ
مُتَعَذِّرٌ .
فَهَذَا حُكْمُ الْمُؤَازَرَةِ .
وَأَمَّا
الْمُيَاسَرَةِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعَفْوُ عَنْ الْهَفَوَاتِ ،
وَالثَّانِي الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ .
فَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الْهَفَوَاتِ : فَلِأَنَّهُ لَا
مُبَرَّأَ مِنْ سَهْوٍ وَزَلَلٍ ، وَلَا سَلِيمَ مِنْ نَقْصٍ أَوْ خَلَلٍ ، وَمَنْ
رَامَ سَلِيمًا مِنْ هَفْوَةٍ ، وَالْتَمَسَ بَرِيئًا مِنْ نَبْوَةٍ ، فَقَدْ تَعَدَّى
عَلَى الدَّهْرِ بِشَطَطِهِ ، وَخَادَعَ نَفْسَهُ بِغَلَطِهِ ، وَكَانَ مِنْ
وُجُودِ بُغْيَتِهِ بَعِيدًا وَصَارَ بِاقْتِرَاحِهِ فَرْدًا وَحِيدًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَا صَدِيقَ لِمَنْ
أَرَادَ صَدِيقًا لَا عَيْبَ فِيهِ
.
وَقِيلَ لِأَنُوشِرْوَانَ : هَلْ مِنْ أَحَدٍ لَا عَيْبَ
فِيهِ ؟ قَالَ : مَنْ لَا مَوْتَ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ الدَّهْرِ لَا يُوجِدُهُ
مَا طَلَبَ ، وَلَا يُنِيلُهُ مَا أَحَبَّ ، وَكَانَ الْوَحِيدُ فِي النَّاسِ
مَرْفُوضًا قَصِيًّا ، وَالْمُنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَحْشِيًّا ، لَزِمَهُ
مُسَاعِدَةُ زَمَانِهِ فِي الْقَضَاءِ ، وَمُيَاسَرَةُ إخْوَانِهِ فِي الصَّفْحِ وَالْإِغْضَاءِ .
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا
أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا
تَجْتَمِعُ إلَّا فِي كَرِيمٍ :
حُسْنُ الْمَحْضَرِ وَاحْتِمَالُ الزَّلَّةِ وَقِلَّةُ
الْمَلَالِ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : فَعُذْرُك مَبْسُوطٌ
لِذَنْبٍ مُقَدَّمٍ وَوُدُّك مَقْبُولٌ بِأَهْلٍ وَمَرْحَبِ وَلَوْ بَلَّغَتْنِي
عَنْكَ أُذْنِي أَقَمْتُهَا لَدَيَّ مَقَامَ الْكَاشِحِ الْمُتَكَذِّبِ فَلَسْتُ بِتَقْلِيبِ
اللِّسَانِ مُصَارِمًا خَلِيلًا إذَا مَا الْقَلْبُ لَمْ يَتَقَلَّبْ وَإِذَا
كَانَ الْإِغْضَاءُ حَتْمًا وَالصَّفْحُ كَرَمًا تَرَتَّبَ بِحَسَبِ الْهَفْوَةِ
وَتَنَزَّلُ بِقَدْرِ الذَّنْبِ
.
وَالْهَفَوَاتُ نَوْعَانِ : صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ .
فَالصَّغَائِرُ مَغْفُورَةٌ ، وَالنُّفُوسُ بِهَا
مَعْذُورَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مَعَ أَطْوَارِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ ،
وَأَخْلَاقِهِمْ الْمُتَفَاضِلَةِ ، لَا يَسْلَمُونَ مِنْهَا .
فَكَانَ الْوَجْدُ فِيهَا مُطَّرَحًا ، وَالْعَتْبُ
مُسْتَقْبَحًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ :
مَنْ
هَجَرَ أَخَاهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ كَانَ كَمَنْ زَرَعَ زَرْعًا ثُمَّ حَصَدَهُ
فِي غَيْرِ أَوَانِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : وَشَرُّ الْأَخِلَّاءِ
مَنْ لَمْ يَزَلْ يُعَاتِبُ طَوْرًا وَطَوْرًا يَذُمْ يُرِيك النَّصِيحَةَ عِنْدَ
اللِّقَاءِ وَيَبْرِيك فِي السِّرِّ بَرْيَ الْقَلَمْ وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَنَوْعَانِ
: أَنْ يَهْفُوَ بِهَا خَاطِئًا ، وَيَزِلَّ بِهَا سَاهِيًا ، فَالْحَرَجُ فِيهَا
مَرْفُوعٌ ، وَالْعَتْبُ عَنْهَا مَوْضُوعٌ ؛ لِأَنَّ هَفْوَةَ الْخَاطِرِ هَدَرٌ
وَلَوْمَهُ هَذْرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تَقْطَعْ أَخَاك
إلَّا بَعْدَ عَجْزِ الْحِيلَةِ عَنْ اسْتِصْلَاحِهِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : حَقُّ الصَّدِيقِ
أَنْ تَحْتَمِلَ لَهُ ثَلَاثًا : ظُلْمَ الْغَضَبِ ، وَظُلْمَ الدَّالَّةِ ،
وَظُلْمَ الْهَفْوَةِ .
وَحَكَى ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ غُلَامًا هَاشِمِيًّا عَرْبَدَ
عَلَى قَوْمٍ فَأَرَادَ عَمُّهُ أَنْ يُسِيءَ بِهِ فَقَالَ : يَا عَمِّ إنِّي قَدْ
أَسَأْت وَلَيْسَ مَعِي عَقْلِي فَلَا تُسِئْ بِي وَمَعَك عَقْلُك .
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ : لَمْ أُؤَاخِذْكَ إذْ جَنَيْتَ
لِأَنِّي وَاثِقٌ مِنْك بِالْإِخَاءِ الصَّحِيحِ فَجَمِيلُ الْعَدُوِّ غَيْرُ
جَمِيلٍ وَقَبِيحُ الصَّدِيقِ غَيْرُ قَبِيحِ فَإِنْ تَشَبَّهَ خَطَؤُهُ
بِالْعَمْدِ ، وَسَهْوُهُ بِالْقَصْدِ ، تَثَبَّتَ وَلَمْ يَلُمْ بِالتَّوَهُّمِ
فَيَكُونَ مَلُومًا ، وَلِذَلِكَ قِيلَ
: التَّثَبُّتُ نِصْفُ الْعَفْوِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يُفْسِدُك الظَّنُّ
عَلَى صَدِيقٍ أَصْلَحَك الْيَقِينُ لَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ هُذَيْلٍ : فَبَعْضُ الْأَمْرِ
تُصْلِحُهُ بِبَعْضٍ فَإِنَّ الْغَثَّ يَحْمِلُهُ السَّمِينُ وَلَا تَعْجَلْ
بِظَنِّك قَبْلَ خُبْرٍ فَعِنْدَ الْخُبْرِ تَنْقَطِعُ الظُّنُونُ تَرَى بَيْنَ
الرِّجَالِ الْعَيْنُ فَضْلًا وَفِيمَا أَضْمَرُوا الْفَضْلُ الْمُبِينُ كَلَوْنِ الْمَاءِ
مُشْتَبَهًا وَلَيْسَتْ تُخْبِرُ عَنْ مَذَاقَتِهِ الْعُيُونُ وَالثَّانِي : أَنْ
يَعْتَمِدَ مَا اجْتَرَمَ مِنْ كَبَائِرِهِ ، وَيَقْصِدَ مَا اجْتَرَحَ مِنْ
سَيِّئَاتِهِ .
وَلَا يَخْلُو فِيمَا أَتَاهُ مِنْ أَرْبَعِ أَحْوَالٍ :
فَالْحَالُ الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ مَوْتُورًا قَدْ قَابَلَ عَلَى وَتْرَتِهِ
وَكَافَأَ
عَلَى مُسَاءَتِهِ فَاللَّائِمَةُ عَلَى مَنْ وَتَرَهُ عَائِدَةٌ ، وَإِلَى الْبَادِئِ
بِهَا رَاجِعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكَافِئَ أَعَذْرُ ، وَإِنْ كَانَ الصَّفْحُ
أَجْمَلَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالْمُشَارَّةَ فَإِنَّهَا تُمِيتُ الْغَيْرَةَ
وَتُحْيِي الْغُرَّةَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ فَعَلَ مَا شَاءَ
لَقِيَ مَا لَمْ يَشَأْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ نَالَتْهُ إسَاءَتُك
هَمَّهُ مُسَاءَتُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أُولِعَ بِقُبْحِ
الْمُعَامَلَةِ أُوجِعَ بِقُبْحِ الْمُقَابَلَةِ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا وَتَرْت
امْرَأً فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا
إنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُسَالَمَةً إذَا رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا
وَالْإِغْضَاءُ عَنْ هَذَا أَوْجَبُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمُكَافَأَةُ ذَنْبًا
لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى عُقْبَى إسَاءَتِهِ ، فَإِنْ وَاصَلَ الشَّرَّ وَاصَلْته
الْمُكَافَأَةُ .
وَقَدْ قِيلَ : بِاعْتِزَالِك الشَّرَّ يَعْتَزِلُك
وَبِحُسْنِ النَّصَفَةِ يَكُونُ الْمُوَاصِلُونَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كُنْت سَبَبًا
لِبَلَائِهِ وَجَبَ عَلَيْك التَّلَطُّفُ لَهُ فِي عِلَاجِهِ مِنْ دَائِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ : إذَا كُنْت لَمْ
تُعْرِضْ عَنْ الْجَهْلِ وَالْخَنَا أَصَبْت حَلِيمًا أَوْ أَصَابَك جَاهِلُ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا قَدْ اسْتَحْكَمَتْ شَحْنَاؤُهُ
، وَاسْتَوْعَرَتْ سَرَّاؤُهُ ، وَاسْتَخْشَنَتْ ضَرَّاؤُهُ ، فَهُوَ يَتَرَبَّصُ
بِدَوَائِرِ السَّوْءِ انْتِهَازَ فُرَصِهِ ، وَيَتَجَرَّعُ بِمَهَانَةِ الْعَجْزِ
مَرَارَةَ غُصَصِهِ ، فَإِذَا ظَفِرَ بِنَائِبَةٍ سَاعَدَهَا ، وَإِذَا شَاهَدَ
نِعْمَةً عَانَدَهَا ، فَالْبُعْدُ مِنْهُ حَذَرًا أَسْلَمُ ، وَالْكَفُّ عَنْهُ
مُتَارَكَةً أَغْنَمُ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْلَمُ مِنْ عَوَاقِبِ شَرِّهِ ، وَلَا
يُفْلَتُ مِنْ غَوَائِلِ مَكْرِهِ
.
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَا تَعْرِضَنَّ
لِعَدُوِّك فِي دَوْلَتِهِ فَإِذَا زَالَتْ كُفِيَتْ شَرَّهُ .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ كَذَبَ مَنْ
قَالَ إنَّ
الشَّرَّ بِالشَّرِّ
يُطْفَأُ ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُوقِدْ نَارَيْنِ وَلْيَنْظُرْ هَلْ
تُطْفِئُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، وَإِنَّمَا يُطْفِئُ الْخَيْرُ الشَّرَّ كَمَا
يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : كَفَاك مِنْ اللَّهِ
نَصْرًا أَنْ تَرَى عَدُوَّك يَعْصِي اللَّهَ فِيك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِالسِّيرَةِ
الْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُعَادِي
.
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : وَأُقْسِمُ لَا أَجْزِيكَ
بِالشَّرِّ مِثْلَهُ كَفَى بِاَلَّذِي جَازَيْتنِي لَك جَازِيَا وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ
: أَنْ يَكُونَ لَئِيمَ الطَّبْعِ خَبِيثَ الْأَصْلِ قَدْ أَغْرَاهُ لُؤْمُ الطَّبْعِ
عَلَى سُوءِ الِاعْتِقَادِ ، وَبَعَثَهُ خُبْثُ الْأَصْلِ عَلَى إتْيَانِ
الْفَسَادِ ، فَهُوَ لَا يَسْتَقْبِحُ الشَّرَّ وَلَا يَكُفَّ عَنْ الْمَكْرُوهِ .
فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَطَمُّ ؛ لِأَنَّ الْأَضْرَارَ
بِهَا أَعَمُّ ، وَلَا سَلَامَةَ مِنْ مِثْلِهِ إلَّا بِالْبُعْدِ وَالِانْقِبَاضِ
، وَلَا خَلَاصَ مِنْهُ إلَّا بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ ، فَإِنَّهُ كَالسَّبُعِ
الضَّارِي فِي سَوَارِحِ الْغَنَمِ وَكَالنَّارِ الْمُتَأَجِّجَةِ فِي يَابِسِ
الْحَطَبِ لَا يَقْرَبُهَا إلَّا تَالِفٌ وَلَا يَدْنُو مِنْهَا إلَّا هَالِكٌ .
رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
النَّاسُ كَشَجَرَةٍ ذَاتِ جَنًى وَيُوشِكُ أَنْ يَعُودُوا كَشَجَرَةٍ ذَاتِ
شَوْكٍ إنْ نَاقَدْتَهُمْ نَاقَدُوكَ ، وَإِنْ هَرَبْتَ مِنْهُمْ طَلَبُوكَ ،
وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوكَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ الْمَخْرَجُ
؟ قَالَ : أَقْرِضْهُمْ مِنْ عَرْضِك لِيَوْمِ فَاقَتِك } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ : الْعَاقِلُ
الْكَرِيمُ صَدِيقُ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا مَنْ ضَرَّهُ ، وَالْجَاهِلُ اللَّئِيمُ
عَدُوُّ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا مَنْ نَفَعَهُ .
وَقَالَ : شَرُّ مَا فِي الْكَرِيمِ أَنْ يَمْنَعَك
خَيْرَهُ ، وَخَيْرُ مَا فِي اللَّئِيمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْك شَرَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَعْدَاؤُك دَاؤُك وَفِي
الْبُعْدِ عَنْهُمْ شِفَاؤُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : شَرَفُ الْكَرِيمِ
تَغَافُلُهُ عَنْ اللَّئِيمِ .
وَوَصَّى بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ ابْنَهُ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إذَا سَلِمَ النَّاسُ مِنْك فَلَا
عَلَيْك أَنْ لَا تَسْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا اجْتَمَعَتْ هَاتَانِ
النِّعْمَتَانِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ نُفَيْلَةَ : الْخَيْرُ
وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ فَالْخَيْرُ مُسْتَتْبَعٌ وَالشَّرُّ
مَحْذُورُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا قَدْ اسْتَحْدَثَ
نَبْوَةً وَتَغَيُّرًا ، أَوْ أَخًا قَدْ اسْتَجَدَّ جَفْوَةً وَتَنَكُّرًا ،
فَأَبْدَى صَفْحَةَ عُقُوقِهِ ، وَاطَّرَحَ لَازِمَ حُقُوقِهِ ، وَعَدَلَ عَنْ
بِرِّ الْإِخَاءِ إلَى جَفْوَةِ الْأَعْدَاءِ .
فَهَذَا قَدْ يَعْرِضُ فِي الْمَوَدَّاتِ الْمُسْتَقِيمَةِ
كَمَا تَعْرِضُ الْأَمْرَاضُ فِي الْأَجْسَامِ السَّلِيمَةِ فَإِنْ عُولِجَتْ
أَقْلَعَتْ ، وَإِنْ أُهْمِلَتْ أَسْقَمَتْ ثُمَّ أَتْلَفَتْ .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : دَوَاءُ الْمَوَدَّةِ
كَثْرَةُ التَّعَاهُدِ .
وَقَالَ كُشَاجِمُ : أَقِلْ ذَا الْوُدِّ عَثَرْتَهُ
وَقِفْهُ عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَهْ وَلَا تُسْرِعْ بِمَعْتَبَةٍ
إلَيْهِ فَقَدْ يَهْفُو وَنِيَّتُهُ سَلِيمَهْ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ مُتَارَكَةَ
الْإِخْوَانِ إذَا نَفَرُوا أَصْلَحُ ، وَاطِّرَاحَهُمْ إذَا فَسَدُوا أَوْلَى ،
كَأَعْضَاءِ الْجَسَدِ إذَا فَسَدَتْ كَانَ قَطْعُهَا أَسْلَمَ فَإِنْ شَحَّ بِهَا
سَرَتْ إلَى نَفْسِهِ ، وَكَالثَّوْبِ إذَا خَلِقَ كَانَ اطِّرَاحُهُ بِالْجَدِيدِ
لَهُ أَجْمَلَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : رَغْبَتُك فِيمَنْ
يَزْهَدُ فِيك ذُلُّ نَفْسٍ ، وَزُهْدُك فِيمَنْ يَرْغَبُ فِيك صِغَرُ هِمَّةٍ .
وَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : مَنْ تَغَيَّرَ عَلَيْك
فِي مَوَدَّتِهِ فَدَعْهُ حَيْثُ كَانَ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِ .
وَقَالَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُبْزُ أَرُزِّيٍّ :
صِلْ مَنْ دَنَا وَتَنَاسَ مَنْ بَعُدَا لَا تُكْرِهَنَّ عَلَى الْهَوَى أَحَدَا
قَدْ أَكْثَرَتْ حَوَّاءُ إذْ وَلَدَتْ فَإِذَا جَفَا وَلَدٌ فَخُذْ وَلَدَا
فَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ قَلَّ وَفَاؤُهُ ، وَضَعُفَ إخَاؤُهُ ، وَسَاءَتْ طَرَائِقُهُ
، وَضَاقَتْ خَلَائِقُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلُ الِاحْتِمَالِ ، وَلَا
صَبْرٌ عَلَى الْإِدْلَالِ ، فَقَابَلَ عَلَى الْجَفْوَةِ ،
وَعَاقَبَ
عَلَى الْهَفْوَةِ ، وَاطَّرَحَ سَالِفَ الْحُقُوقِ ، وَقَابَلَ الْعُقُوقَ
بِالْعُقُوقِ ، فَلَا بِالْفَضْلِ أَخَذَ وَلَا إلَى الْعَفْوِ أَخْلَدَ .
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَطْغَى عَلَيْهِ
فَتُرْدِيهِ ، وَأَنَّ جِسْمَهُ قَدْ يَسْقَمُ عَلَيْهِ فَيُؤْلِمُهُ وَيُؤْذِيهِ
، وَهُمَا أَخَصُّ بِهِ وَأَحْنَى عَلَيْهِ مِنْ صَدِيقٍ قَدْ تَمَيَّزَ بِذَاتِهِ
، وَانْفَصَلَ بِأَدَوَاتِهِ فَيُرِيدُ مِنْ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ مَا لَا يَجِدُهُ
مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ .
هَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ وَمَحْضُ الْجَهْلِ مَعَ أَنَّ
مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ بَقِيَ فَرْدًا وَانْقَلَبَ الصَّدِيقُ فَصَارَ عَدُوًّا .
وَعَدَاوَةُ مَنْ كَانَ صَدِيقًا أَعْظَمُ مِنْ
عَدَاوَةِ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَدُوًّا
.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَوْصَانِي رَبِّي بِسَبْعٍ : الْإِخْلَاصُ فِي السِّرِّ
وَالْعَلَانِيَةِ وَأَنْ أَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي
وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا ، وَنُطْقِي ذِكْرًا
وَنَظَرِي عِبْرَةً } .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ لَا تَتْرُكْ
صَدِيقَك الْأَوَّلَ فَلَا يَطْمَئِنَّ إلَيْك الثَّانِي ، يَا بُنَيَّ اتَّخَذَ
أَلْفَ صَدِيقٍ وَالْأَلْفُ قَلِيلٌ وَلَا تَتَّخِذْ عَدُوًّا وَاحِدًا
وَالْوَاحِدُ كَثِيرٌ .
وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ : مَا
تَقُولُ فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ ؟ قَالَ : هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجُودِ
وَالْبُخْلِ فَتَمَسَّكْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ .
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَسْتَقْبِلْ
الْأَمْرَ لَمْ تَجِدْ بِكَفَّيْكَ فِي إدْبَارِهِ مُتَعَلِّقَا إذَا أَنْتَ لَمْ
تَتْرُكْ أَخَاكَ وَزَلَّةً إذَا زَلَّهَا أَوْشَكْتُمَا أَنْ تَفَرَّقَا فَإِذَا كَانَ
الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ فَمِنْ حُقُوقِ الصَّفْحِ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِ
الْهَفْوَةِ لِيَعْرِفَ الدَّاءَ فَيُعَالِجَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الدَّاءَ
لَمْ يَقِفْ عَلَى الدَّوَاءِ كَمَا قَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي : فَإِنَّ الْجُرْحَ
يَنْفِرُ بَعْدَ حِينٍ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى فَسَادِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّبَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِمِلَلٍ أَوْ زَلَلٍ .
فَإِنْ كَانَ
لِمِلَلٍ
فَمَوَدَّاتُ الْمَلُولِ ظِلُّ الْغَمَامِ وَحُلْمُ النِّيَامِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تَأْمَنَنَّ
لِمَلُولٍ ، وَإِنْ تَحَلَّى بِالصِّلَةِ وَعِلَاجُهُ أَنْ يُتْرَكَ عَلَى
مَلَلِهِ فَيَمَلَّ الْجَفَاءَ كَمَا مَلَّ الْإِخَاءَ .
وَإِنْ كَانَ لِزَلَلٍ لُوحِظَتْ أَسْبَابُهُ فَإِنْ
كَانَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي التَّأْوِيلِ وَشُبْهَةٌ تَئُولُ إلَى جَمِيلٍ حَمَلَهُ
عَلَى أَجْمَلِ تَأْوِيلِهِ وَصَرَفَهُ إلَى أَحْسَنِ جِهَةٍ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ
عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ صَدِيقَانِ لَهُ فَعَرَجَ
عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَطَوَاهُ الْآخَرُ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ :
نَعَمْ عَرَجَ عَلَيْنَا هَذَا بِفَضْلِهِ ، وَطَوَانَا ذَاكَ بِثِقَتِهِ بِنَا .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ
دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ : وَتَزْعُمُ لِلْوَاشِينَ أَنِّي فَاسِدٌ عَلَيْكَ وَأَنِّي
لَسْتُ فِيمَا عَهِدْتَنِي وَمَا فَسَدَتْ لِي يَعْلَمُ اللَّهُ نِيَّةٌ عَلَيْكَ وَلَكِنْ
خُنْتَنِي فَاتَّهَمْتَنِي غَدَرْتَ بِعَهْدِي عَامِدًا وَأَخَفْتَنِي فَخِفْتُ
وَلَوْ آمَنْتَنِي لَأَمِنْتَنِي
.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِزَلَلِهِ فِي التَّأْوِيلِ
مَدْخَلٌ نَظَرَ بَعْدَ زَلَلِهِ فَإِنْ ظَهَرَ نَدَمُهُ وَبَانَ خَجَلُهُ
فَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالْخَجَلُ إنَابَةٌ ، وَلَا ذَنْبَ لِتَائِبٍ وَلَا لَوْمَ
عَلَى مُنِيبٍ ، وَلَا يُكَلَّفُ عُذْرًا عَمَّا سَلَفَ ، فَيُلْجَأَ إلَى ذُلِّ التَّحْرِيفِ
، أَوْ خَجَلِ التَّعْنِيفِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالْمَعَاذِرَ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَفَاجِرُ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَفَى بِمَا
يُعْتَذَرُ مِنْهُ تُهْمَةً .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ لِرَجُلٍ اعْتَذَرَ
إلَيْهِ : لَا يَدْعُوَنَّكَ أَمْرٌ قَدْ تَخَلَّصْت مِنْهُ إلَى الدُّخُولِ فِي
أَمْرٍ لَعَلَّك لَا تَخْلُصُ مِنْهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَفِيعُ الْمُذْنِبِ
إقْرَارُهُ ، وَتَوْبَتُهُ اعْتِذَارُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ لَمْ يَقْبَلْ
التَّوْبَةَ عَظُمَتْ خَطِيئَتُهُ ، وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَى التَّائِبِ
قَبُحَتْ إسَاءَتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْكَرِيمُ مَنْ
أَوْسَعَ
الْمَغْفِرَةَ إذَا ضَاقَتْ بِالْمُذْنِبِ الْمَعْذِرَةُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : الْعُذْرُ يَلْحَقُهُ
التَّحْرِيفُ وَالْكَذِبُ وَلَيْسَ فِي غَيْرِ مَا يُرْضِيك لِي أَرَبُ وَقَدْ
أَسَأْتُ فَبِالنُّعْمَى الَّتِي سَلَفَتْ إلَّا مَنَنْتَ بِعَفْوٍ مَا لَهُ
سَبَبُ وَإِنْ عَجَّلَ الْعُذْرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ وَقَدَّمَ التَّنَصُّلَ قَبْلَ
إنَابَتِهِ فَالْعُذْرُ تَوْبَةٌ وَالتَّنَصُّلُ إنَابَةٌ فَلَا يَكْشِفُ عَنْ
بَاطِنِ عُذْرِهِ ، وَلَا يُعَنَّفُ بِظَاهِرِ غَدْرِهِ ، فَيَكُونَ لَئِيمَ
الظَّفَرِ سِيءَ الْمُكَافَأَةِ
.
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ غَلَبَتْهُ الْحِدَةُ فَلَا
تَغْتَرَّ بِمَوَدَّتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَافِعُ الْمُذْنِبِ
خُضُوعُهُ إلَى عُذْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ
يَأْتِيكَ مُعْتَذِرًا إنْ بَرَّ عِنْدَك فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا فَقَدْ
أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا
وَإِنْ تَرَكَ نَفْسَهُ فِي زَلَلِهِ ، وَلَمْ يَتَدَارَكْ بِعُذْرِهِ
وَتَنَصُّلِهِ ، وَلَا مَحَاهُ بِتَوْبَتِهِ ، وَإِنَابَتِهِ ، رَاعَيْت فِي الْمُتَارَكَةِ
فَسَتَجِدُهُ لَا يَنْفَكُّ فِيهَا مِنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّ
عَنْ سَيِّئِ عَمَلِهِ ، وَأَقْلَعَ عَنْ سَالِفِ زَلَلِهِ ، فَالْكَفُّ إحْدَى
التَّوْبَتَيْنِ ، وَالْإِقْلَاعُ أَحَدُ الْعُذْرَيْنِ .
فَكُنْ أَنْتَ الْمُعْتَذِرُ عَنْهُ بِصَفْحِك
وَالْمُتَنَصِّلُ لَهُ بِفَضْلِك
.
فَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : الْمُحْسِنُ عَلَى الْمُسِيءِ أَمِيرٌ .
وَالثَّانِي :
أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ عَلَى مَا أَسْلَفَ مِنْ
زَلَلِهِ غَيْرَ تَارِكٍ وَلَا مُتَجَاوِزٍ فَوُقُوفُ الْمَرَضِ أَحَدُ البرأين ، وَكَفُّهُ
عَنْ الزِّيَادَةِ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ، وَقَدْ اسْتَبْقَى بِالْوُقُوفِ عَنْ
الْمُتَجَاوِزِ أَحَدَ شَطْرَيْهِ فَعَوَّلَ بِهِ عَلَى صَلَاحِ شَطْرِهِ الْآخَرِ .
وَإِيَّاكَ وَإِرْجَاءَهُ فَإِنَّ الْإِرْجَاءَ يُفْسِدُ
شَطْرَ صَلَاحِهِ ، وَالتَّلَافِيَ يُصْلِحُ شَطْرَ فَسَادِهِ ، فَإِنَّ مَنْ
سَقِمَ مِنْ جِسْمِهِ مَا لَمْ يُعَالِجْهُ سَرَى السَّقَمُ إلَى صِحَّتِهِ ،
وَإِنْ عَالَجَهُ سَرَتْ
الصِّحَّةُ
إلَى سَقَمِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَجَاوَزَ مَعَ الْأَوْقَاتِ
فَيَزِيدَ فِيهِ عَلَى مُرُورِ الْأَيَّامِ ، فَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ
فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهُ وَتَأَتَّى اسْتِصْلَاحُهُ ، وَذَلِكَ
بِاسْتِنْزَالِهِ عَنْهُ إنْ عَلَا ، وَبِإِرْغَابِهِ إنْ دَنَا ، وَبِعِتَابِهِ
إنْ سَاوَى ، وَإِلَّا فَآخِرُ الدَّاءِ الْعَيَاءِ الْكَيُّ .
وَمَنْ بَلَغَتْ بِهِ الْأَعْذَارُ إلَى غَايَتِهَا
فَلَا لَائِمَةَ عَلَيْهِ وَالْمُقِيمُ عَلَى شِقَاقِهِ بَاغٍ مَصْرُوعٌ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ أَغْمَدَهُ
فِي رَأْسِهِ فَهَذَا شَرْطٌ .
وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ ؛ فَلِأَنَّ
الِاسْتِيفَاءَ مُوحِشٌ وَالِاسْتِقْصَاءَ مُنَفِّرٌ وَمَنْ أَرَادَ كُلَّ حَقِّهِ
مِنْ النُّفُوسِ الْمُسْتَصْعَبَةِ بِشُحٍّ أَوْ طَمَعٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ إلَّا
بِالْمُنَافَرَةِ وَالْمُشَاقَّةِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُخَاشَنَةِ
وَالْمُشَاحَّةِ ؛ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَقْتِ مَنْ شَاقَّهَا
وَنَافَرَهَا ، وَبُغْضِ مَنْ شَاحَّهَا وَنَازَعَهَا ، كَمَا اسْتَقَرَّ حُبُّ
مَنْ يَاسَرَهَا وَسَامَحَهَا فَكَانَ أَلْيَقُ لِأُمُورِ الْمُرُوءَةِ
اسْتِلْطَافَ النُّفُوسِ بِالْمُيَاسَرَةِ وَالْمُسَامَحَةِ ، وَتَأَلُّفَهَا
بِالْمُقَارَبَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ عَاشَرَ إخْوَانَهُ
بِالْمُسَامَحَةِ دَامَتْ لَهُ مَوَدَّاتُهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إذَا أَخَذْت عَفْوَ
الْقُلُوبِ زَكَا رِيعُك ، وَإِنْ اسْتَقْصَيْت أَكْدَيْتَ .
وَالْمُسَامَحَةُ نَوْعَانِ فِي عُقُودٍ وَحُقُوقٍ .
فَأَمَّا الْعُقُودُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَهْلَ
الْمُنَاجَزَةِ ، قَلِيلَ الْمُحَاجَزَةِ مَأْمُونَ الْغَيْبَةِ بَعِيدًا مِنْ
الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا
كُتِبَ لَهُ مِنْهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا
أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ ؟ قَالُوا :
بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : التَّغَابُنُ لِلضَّعِيفِ } .
وَحَكَى ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ
عُبَيْدِ اللَّهِ اشْتَرَى لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إزَارًا بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ
وَنِصْفٍ فَأَعْطَى التَّاجِرَ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ ، فَقَالَ : ثَمَنُهُ سِتَّةُ
دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ .
فَقَالَ : إنِّي اشْتَرَيْته لِرَجُلٍ لَا يُقَاسِمُ
أَخَاهُ دِرْهَمًا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُسَاهَلَةَ فِي
الْعُقُودِ عَجْزٌ ، وَأَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ فِيهَا حَزْمٌ ، حَتَّى أَنَّهُ
لَيُنَافِسُ فِي الْحَقِيرِ ، وَإِنْ جَادَ بِالْجَلِيلِ الْكَثِيرِ كَاَلَّذِي
حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَقَدْ مَاكَسَ فِي دِرْهَمٍ ، وَهُوَ يَجُودُ
بِمَا يَجُودُ بِهِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : ذَلِكَ مَالِي أَجْوَدُ
بِهِ وَهَذَا عَقْلِي بَخِلْت بِهِ
.
وَهَذَا إنَّمَا يَنْسَاعُ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ فِي
دَفْعِ مَا يُخَادِعُهُمْ بِهِ الْأَدْنِيَاءُ ، وَيُغَابِنُهُمْ بِهِ
الْأَشِحَّاءُ ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ .
فَأَمَّا مُمَاكَسَةُ الِاسْتِنْزَالِ وَالِاسْتِسْمَاحِ
فَكَلَّا ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْكَرْمِ وَمُبَايِنٌ لِلْمُرُوءَةِ .
وَأَمَّا الْحُقُوقُ فَتَتَنَوَّعُ الْمُسَامَحَةُ
فِيهَا نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي الْأَحْوَالِ ، وَالثَّانِي فِي الْأَمْوَالِ .
فَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْأَحْوَالِ فَهُوَ
إطْرَاحُ الْمُنَازَعَةِ فِي الرُّتَبِ وَتَرْكُ الْمُنَافَسَةِ فِي التَّقَدُّمِ .
فَإِنَّ مُشَاحَّةَ النُّفُوسِ فِيهَا أَعْظَمُ
وَالْعِنَادَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ ، فَإِنْ سَامَحَ فِيهَا وَلَمْ يُنَافِسْ كَانَ
مَعَ أَخْذِهِ بِأَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَحْسَنِ الْآدَابِ
أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ مِنْ إفْضَالِهِ بِرَغَائِبِ الْأَمْوَالِ ، ثُمَّ هُوَ أَزْيَدُ
فِي رُتْبَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَقَدُّمِهِ .
وَإِنْ شَاحَّ فِيهَا وَنَازَعَ كَانَ مَعَ ارْتِكَابِهِ
لِأَخْشَنِ الْأَخْلَاقِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَهْجَنِ الْآدَابِ أَنْكَى فِي
النُّفُوسِ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ وَطَعْنِ السِّنَانِ ، ثُمَّ هُوَ أَخْفَضُ
لِلْمَرْتَبَةِ وَأَمْنَعُ مِنْ التَّقَدُّمِ .
حُكِيَ أَنَّ فَتًى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ تَخَطَّى رِقَابَ
النَّاسِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّ الْآدَابَ
مِيرَاثُ الْأَشْرَافِ وَلَسْتُ أَرَى عِنْدَك
مَنْ
سَلَفِك إرْثًا .
وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَتَتَنَوَّعُ
ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : مُسَامَحَةُ إسْقَاطٍ لِعُدْمٍ ، وَمُسَامَحَةُ تَخْفِيفٍ
لِعَجْزٍ ، وَمُسَامَحَةُ إنْكَارٍ لِعُسْرَةٍ .
وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا تَفَضُّلٌ
مَأْثُورٌ وَتَآلُفٌ مَشْكُورٌ
.
وَإِذَا كَانَ الْكَرِيمُ قَدْ يَجُودُ بِمَا تَحْوِيهِ
يَدُهُ ، وَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجُودَ بِمَا خَرَجَ
عَنْ يَدِهِ فَطَابَ نَفْسًا بِفِرَاقِهِ .
وَقَدْ تَصِلُ الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ إلَى مَنْ
لَا يَقْبَلُ الْبِرَّ وَيَأْبَى الصِّلَةَ فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَوْقِعًا
وَأَزْكَى مَحَلًّا .
وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا آمَنُ مِنْ
رَدِّ السَّائِلِ وَمَنْعِ الْمُجْتَدِي ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ كَمَا اجْتَرَأَ
عَلَى سُؤَالِك فَسَيَجْتَرِئُ عَلَى سُؤَالِ غَيْرِك إنْ رَدَدْته .
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَارَ أَسِيرَ حَقِّك ، وَرَهِينَ
دَيْنِك يَجِدُ بُدًّا مِنْ مُسَامَحَتِك وَمُيَاسَرَتِك ، ثُمَّ لَك مَعَ ذَلِكَ
حُسْنُ الثَّنَاءِ وَجَزِيلُ الْأَجْرِ
.
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمَرْءُ
بَعْدَ الْمَوْتِ أُحْدُوثَةٌ يَفْنَى وَتَبْقَى مِنْهُ آثَارُهْ فَأَحْسَنُ
الْحَالَاتِ حَالُ امْرِئٍ تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهْ فَهَذِهِ حَالُ
الْمُيَاسَرَةِ .
وَأَمَّا
الْإِفْضَالُ فَنَوْعَانِ : إفْضَالُ اصْطِنَاعٍ ، وَإِفْضَالُ اسْتِكْفَافٍ
وَدِفَاعٍ .
فَأَمَّا إفْضَالُ الِاصْطِنَاعِ فَنَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا أَسَدَاهُ جُودًا فِي شَكُورٍ .
وَالثَّانِي : مَا تَأَلَّفَ بِهِ نَبْوَةَ نُفُورٍ .
وَكِلَاهُمَا مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ لِمَا فِيهِمَا
مِنْ ظُهُورِ الِاصْطِنَاعِ ، وَتَكَاثُرِ الْأَشْيَاعِ وَالْأَتْبَاعِ .
وَمَنْ قَلَّتْ صَنَائِعُهُ فِي الشَّاكِرِينَ ،
وَأَعْرَضَ عَنْ تَأَلُّفِ النَّافِرِينَ ، كَانَ فَرْدًا مَهْجُورًا ، وَتَابِعًا
مَحْقُورًا .
وَلَا مُرُوءَةَ لِمَتْرُوكٍ مُطَّرَحٍ ، وَلَا قَدْرَ
لِمَحْقُورٍ مُهْتَضَمٍ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَا طَاوَعَنِي
النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ أَرَدْتُهُ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى بَسَطْتُ لَهُمْ طَرَفًا
مِنْ الدُّنْيَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَقَلُّ مَا يَجِبُ
لِلْمُنْعِمِ بِحَقِّ نِعْمَتِهِ أَنْ لَا يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مَعْصِيَتِهِ .
وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ : مَنْ جَمَعَ
الْمَالَ وَلَمْ يَجُدْ بِهِ وَتَرَكَ الْمَالَ لِعَامِ جَدْبِهِ هَانَ عَلَى
النَّاسِ هَوَانَ كَلْبِهِ يَبْقَى الثَّنَاءُ وَتَذْهَبُ الْأَمْوَالُ وَلِكُلِّ
دَهْرٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالُ مَا نَالَ مَحْمَدَةَ الرِّجَالِ وَشُكْرَهُمْ إلَّا الْجَوَادُ
بِمَالِهِ الْمِفْضَالُ لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلَاوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى
يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فِعَالُ فَإِنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحَالُ عَنْ الِاصْطِنَاعِ
بِمَالِهِ فَقَدْ عَدِمَ مِنْ آلَةِ الْمَكَارِمِ عِمَادَهَا ، وَفَقَدَ مِنْ
شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ سِنَادَهَا ، فَلْيُوَاسِ بِنَفْسِهِ مُوَاسَاةَ
الْمُسَاعِفِ وَلْيَسْعَدْ بِهَا إسْعَادَ الْمُتَأَلِّفِ .
قَالَ الْمُتَنَبِّي : فَلْيُسْعِدْ النُّطْقُ إنْ لَمْ
تُسْعَدْ الْحَالُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهَا ، وَإِنْ أَجْهَدَهَا إلَّا تَبَعًا
لِلْمُفْضِلِينَ قَلِيلَةً بَيْنَ الْمُكْثِرِينَ فَإِنَّ النَّاسَ لَا
يُسَاوَوْنَ بَيْنَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعِ ، وَلَا يُقْنِعُهُمْ الْقَوْلُ دُونَ
الْفِعْلِ ، وَلَا يُغْنِيهِمْ الْكَلَامُ عَنْ الْمَالِ ، وَيَرَوْنَهُ
كَالصَّدَى إنْ رَدَّ صَوْتًا لَمْ يَجِدْ نَفْعًا ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
يَجُودُ بِالْوَعْدِ وَلَكِنَّهُ يَدْهُنُ مِنْ قَارُورَةٍ فَارِغَهْ
فَكُلُّ مَا
خَرَجَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْمَالِ كَانَ فَارِغًا ، وَكُلُّ مَا عَدَا الْإِفْضَالَ
بِهِ كَانَ هَيِّنًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِي شُرُوطِ الْإِفْضَالِ
مَا أَقْنَعَ .
وَأَمَّا إفْضَالُ الِاسْتِكْفَافِ ؛ فَلِأَنَّ ذَا
الْفَضْلِ لَا يَعْدَمُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ وَمُعَانِدَ فَضِيلَةٍ يَعْتَرِيهِ
الْجَهْلُ بِإِظْهَارِ عِنَادِهِ ، وَيَبْعَثُهُ اللُّؤْمُ عَلَى الْبَذَاءِ
بِسَفَهِهِ فَإِنْ غَفَلَ عَنْ اسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ ، وَأَعْرَضَ عَنْ
اسْتِدْفَاعِ أَهْلِ الْبَذَاءِ ، صَارَ عِرْضُهُ هَدَفًا لِلْمَثَالِبِ ،
وَحَالُهُ عُرْضَةً لِلنَّوَائِبِ ، وَإِذَا اسْتَكْفَى السَّفِيهَ وَاسْتَدْفَعَ
الْبَذِيءَ صَانَ عَرْضَهُ وَحَمَى نِعْمَتَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ذُبُّوا
بِأَمْوَالِكُمْ عَنْ أَحْسَابِكُمْ
.
وَامْتَدَحَ رَجُلٌ الزُّهْرِيَّ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ
، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَتُعْطِي عَلَى كَلَامِ الشَّيْطَانِ ؟ فَقَالَ : مَنْ
ابْتَغَى الْخَيْرَ اتَّقَى الشَّرَّ
.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ أَرَادَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَلْيُعْطِ الشُّعَرَاءَ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ سَاتِرٌ يَسْتُرُ
بِهِ مَا ضَمِنَ مِنْ مَدْحٍ أَوْ هِجَاءٍ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ : لَا
تُؤَاخِ شَاعِرًا فَإِنَّهُ يَمْدَحُك بِثَمَنٍ وَيَهْجُوك مَجَّانًا ،
وَلِاسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ بِالْإِفْضَالِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يُخْفِيَهُ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ فِيهِ مَطَامِعُ السُّفَهَاءِ فَيَتَوَصَّلُونَ إلَى
اجْتِذَابِهِ بِسَبِّهِ ، وَإِلَى مَالِهِ بِثَلْبِهِ .
وَالثَّانِي :
أَنْ يَتَطَلَّبَ لَهُ فِي الْمُجَامَلَةِ وَجْهًا
وَيَجْعَلَهُ فِي الْإِفْضَالِ عَلَيْهِ سَبَبًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ
عَلَى السَّفَهِ وَاسْتِدَامَةِ الْبَذَاءِ .
وَاعْلَمْ أَنَّك مَا حَيِيتَ مَلْحُوظُ الْمَحَاسِنِ
مَحْفُوظُ الْمَسَاوِئِ .
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ حَدِيثٌ مُنْتَشِرٌ لَا
يُرَاقِبُك صَدِيقٌ ، وَلَا يُحَامِي عَنْك شَقِيقٌ ، فَكُنْ أَحْسَنَ حَدِيثٍ
يُنْشَرُ يَكُنْ
سَعْيُك
فِي النَّاسِ مَشْكُورًا ، وَأَجْرُك عِنْدَ اللَّهِ مَذْخُورًا .
فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ مَيْمُونٍ ، أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ
وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ
شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ
} .
فَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ شُرُوطِ
الْمُرُوءَةِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ شُرُوطِهَا وَمَا
اتَّصَلَ بِحُقُوقِهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
آدَابٌ
مَنْثُورَةٌ الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي آدَابٍ مَنْثُورَةٍ : اعْلَمْ أَنَّ
الْآدَابَ مَعَ اخْتِلَافِهَا بِتَنَقُّلِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ
لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى حَصْرِهَا ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ
كُلُّ إنْسَانٍ مَا بَلَغَهُ الْوُسْعُ مِنْ آدَابِ زَمَانِهِ ، وَاسْتَحْسَنَ
بِالْعُرْفِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكَانَ الْأَوَّلُ
قَدْ أَغْنَى الثَّانِيَ عَنْهَا ، وَالْمُتَقَدِّمُ قَدْ كَفَى الْمُتَأَخِّرَ
تَكَلُّفَهَا ، وَإِنَّمَا حَظُّ الْأَخِيرِ أَنْ يَتَعَانَى حِفْظَ الشَّارِدِ
وَجَمْعَ الْمُفْتَرِقِ .
ثُمَّ يَعْرِضَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حُكْمِ زَمَانِهِ ،
وَعَادَاتِ وَقْتِهِ ، فَيُثْبِتَ مَا كَانَ مُوَافِقًا ، وَيَنْفِيَ مَا كَانَ
مُخَالِفًا ، ثُمَّ يَسْتَمِدَّ خَاطِرَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ زِيَادَةٍ
وَاسْتِخْرَاجِ فَائِدَةٍ فَإِنْ أَسْعَفَ بِشَيْءٍ فَازَ بِدَرَكِهِ ، وَحَظِيَ
بِفَضِيلَتِهِ ، ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا كَانَ مَأْلُوفًا مِنْ
كَلَامِ الْوَقْتِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ كُلِّ وَقْتٍ فِي
الْكَلَامِ عَادَةً تُؤْلَفُ ، وَعِبَارَةً تُعْرَفُ ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي
النُّفُوسِ وَأَسْبَقَ إلَى الْأَفْهَامِ .
ثُمَّ يُرَتِّبُ ذَلِكَ عَلَى أَوَائِلِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ
، وَيُثْبِتُهُ عَلَى أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْجِنْسُ
فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعُلُومِ طَرِيقَةً هِيَ أَوْضَحُ مَسْلَكًا
وَأَسْهَلُ مَأْخَذًا .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ هِيَ حَظُّ الْأَخِيرِ فِيمَا
يُعَانِيهِ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ تَصْنِيفٍ مُسْتَحْدَثٍ
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ تَعَاطِي مَا تَقَدَّمَ بِهِ الْأَوَّلُ عَنَاءً
ضَائِعًا وَتَكَلُّفًا مُسْتَهْجَنًا
.
وَنَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُمِدَّنَا بِالتَّوْفِيقِ لِتَأْدِيَةِ
هَذِهِ الشُّرُوطِ ، وَتُنْهِضَنَا الْمَعُونَةُ بِتَوْفِيَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ ،
حَتَّى نَسْلَمَ مِنْ ذَمِّ التَّكَلُّفِ وَنَبْرَأَ مِنْ عُيُوبِ التَّقْصِيرِ ،
وَإِنْ كَانَ الْيَسِيرُ مَغْفُورًا وَالْخَاطِئُ مَعْذُورًا .
فَقَدْ قِيلَ : مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فَقَدْ
اسْتَهْدَفَ فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدْ اسْتَعْطَفَ ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ
اسْتَقْذَفَ .
وَقَدْ
مَضَتْ
أَبْوَابٌ تَضَمَّنَتْ فُصُولًا رَأَيْتُ إتْبَاعَهَا بِمَا لَمْ أُحِبَّ
الْإِخْلَالَ بِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ حَالُ الْإِنْسَانِ فِي مَأْكَلِهِ
وَمَشْرَبِهِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : حَاجَةٌ مَاسَّةٌ
وَشَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ .
فَأَمَّا الْحَاجَةُ فَتَدْعُو إلَى مَا سَدَّ الْجُوعَ
وَسَكَّنَ الظَّمَأَ .
وَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا ؛ لِمَا
فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْجَسَدِ .
وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ
الْوِصَالِ بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ
النَّفْسَ وَيُعْجِزُ عَنْ الْعِبَادَةِ .
وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ وَيَدْفَعُ
عَنْهُ الْعَقْلُ ، وَلَيْسَ لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ
بِرٍّ ، وَلَا نَصِيبٌ مِنْ زُهْدٍ ؛ لِأَنَّ مَا حَرَمَهَا مِنْ فِعْلِ
الطَّاعَاتِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا ، إذْ
لَيْسَ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ ثَوَابٌ يُقَابِلُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ ، وَإِتْيَانَ
الْقُرَبِ ، وَمَنْ أَخْسَرَ نَفْسَهُ رِبْحًا مَوْفُورًا ، أَوْ أَحْرَمَهَا
أَجْرًا مَذْخُورًا ، كَانَ زُهْدُهُ فِي الْخَيْرِ أَقْوَى مِنْ رَغْبَتِهِ وَلَمْ
يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ إلَّا الشَّهْوَةُ بِرِيَائِهِ
وَسُمْعَتِهِ .
وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَتَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ :
شَهْوَةٌ فِي الْإِكْثَارِ وَالزِّيَادَةِ وَشَهْوَةٌ فِي تَنَاوُلِ الْأَلْوَانِ
الْمُلِذَّةِ .
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَهْوَةُ
الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَالْإِكْثَارِ عَلَى مِقْدَارِ
الْكِفَايَةِ ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ
تَنَاوُلَ مَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ نَهَمٌ مُعَرٍّ وَشَرَهٌ مُضِرٌّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ
لِلدِّينِ مُورِثَةٌ لِلسَّقَمِ مُكْسِلَةٌ عَنْ الْعِبَادَةِ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ كُنْتَ
بَطِنًا فَعُدَّ نَفْسَك زَمِنًا
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَقْلِلْ طَعَامًا
تُحْمَدْ مَنَامًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الرُّعْبُ لُؤْمٌ
وَالنَّهَمُ
شُؤْمٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَكْبَرُ الدَّوَاءِ
تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَكَمْ مِنْ لُقْمَةٍ
مَنَعَتْ أَخَاهَا بِلَذَّةِ سَاعَةٍ أَكَلَاتِ دَهْرِ وَكَمْ مِنْ طَالِبٍ
يَسْعَى لِأَمْرٍ وَفِيهِ هَلَاكُهُ لَوْ كَانَ يَدْرِي وَقَالَ آخَرُ : كَمْ
دَخَلَتْ أَكْلَةٌ حَشَا شَرِهٍ فَأَخْرَجَتْ رُوحَهُ مِنْ الْجَسَدِ لَا بَارَكَ
اللَّهُ فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ هَلَاكُ النُّفُوسِ فِي الْمَعِدِ وَرُبَّ أَكْلَةٍ
هَاضَتْ آكِلًا وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ
.
رَوَى أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ ، قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وِعَاءً مَلِيئًا شَرًّا مِنْ بَطْنٍ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ
وَثُلُثًا لِلرِّيحِ } .
وَأَمَّا
النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَشْيَاءِ الْمَلَذَّةِ وَمُنَازَعَةُ النُّفُوسِ
إلَى طَلَبِ الْأَنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ
النَّفْسِ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا
أَوْلَى ، وَقَهْرَهَا عَنْ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى ، لِيَذِلَّ لَهُ
قِيَادُهَا .
وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا
وَمَا تَهْوَى بَطَرٌ يُطْغِي وَأَشَرٌ يُرْدِي ؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِهَا غَيْرُ
مُتَنَاهِيَةٍ فَإِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ مِنْ شَهَوَاتِ وَقْتِهَا
تَعَدَّتْهَا إلَى شَهَوَاتٍ قَدْ اسْتَحْدَثَتْهَا ، فَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ
أَسِيرَ شَهَوَاتٍ لَا تَنْقَضِي ، وَعَبْدَ هَوًى لَا يَنْتَهِي .
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يُرْجَ لَهُ
صَلَاحٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَضْلٌ
.
وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ : يَا
خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ لِتَطْلُبَ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ
خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ
بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إنْسَانُ وَلِلْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مَا
حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَزْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَمُرُّ عَلَى الْفَاكِهَةِ فَيَشْتَهِيهَا
فَيَقُولُ : مَوْعِدُك الْجَنَّةُ
.
وَقَالَ آخَرُ : تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا
أَوْلَى ، وَإِعْطَاؤُهَا مَا اشْتَهَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَحْرَى ؛ لِمَا فِيهِ
مِنْ ارْتِيَاحِ النَّفْسِ بِنَيْلِ شَهَوَاتِهَا ، وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ
لَذَّاتِهَا ، فَتَنْحَسِرُ عَنْهَا ذِلَّةُ الْمَقْهُورِ ، وَبَلَادَةُ
الْمَجْبُورِ ، وَلَا تَقْصُرُ عَنْ دَرَكٍ وَلَا تَعْصِي فِي نَهْضَةٍ وَلَا
تَكِلُّ عَنْ اسْتِعَانَةٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ تَوَسُّطُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى
؛ لِأَنَّ فِي إعْطَائِهَا كُلَّ شَهَوَاتِهَا بَلَادَةٌ وَالنَّفْسُ الْبَلِيدَةُ
عَاجِزَةٌ ، وَفِي مَنْعِهَا عَنْ الْبَعْضِ كَفٌّ لَهَا عَنْ السَّلَاطَةِ ،
وَفِي تَمْكِينِهَا مِنْ الْبَعْضِ حَسْمٌ لَهَا عَنْ الْبَلَادَةِ .
وَهَذَا لَعَمْرِي أَشْبَهُ الْمَوَاهِبِ بِالسَّلَامِ ؛
لِأَنَّ التَّوَسُّطَ فِي الْأُمُورِ أَحْمَدُ .
وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَأْكُولِ
وَالْمَشْرُوبِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يُتْبَعَ بِذِكْرِ الْمَلْبُوسِ .
اعْلَمْ أَنَّ
الْحَاجَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ أَدْعَى فَهِيَ إلَى
الْمَلْبُوسِ مَاسَّةٌ وَبِهَا إلَيْهِ فَاقَةٌ ؛ لِمَا فِي الْمَلْبُوسِ مِنْ
حِفْظِ الْجَسَدِ وَدَفْعِ الْأَذَى وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَحُصُولِ الزِّينَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ
التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } .
فَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا
) ، أَيْ خَلَقْنَا لَكُمْ مَا تَلْبَسُونَ مِنْ الثِّيَابِ .
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ أَيْ يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ
وَسُمِّيَتْ الْعَوْرَةُ سَوْأَة ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهَا انْكِشَافُهَا
مِنْ جَسَدِهِ .
وَقَوْلُهُ :
وَرِيشًا ، فِيهِ أَرْبَعَةِ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا
أَنَّهُ الْمَالُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اللِّبَاسُ
وَالْعَيْشُ وَالنِّعَمُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالثَّالِثُ
أَنَّهُ الْمَعَاشُ وَهُوَ قَوْلُ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ ، وَالرَّابِعُ أَنَّهُ
الْجَمَالُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ .
وَقَوْلُهُ : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ، فِيهِ سِتَّةُ تَأْوِيلَاتٍ
: أَحَدُهَا : أَنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى هُوَ الْإِيمَانُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ
وَالسُّدِّيِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَهُوَ
قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالرَّابِعُ : هُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ
قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
.
وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ الْحَيَاءُ وَهَذَا قَوْلُ
مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ .
وَالسَّادِسُ : هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ
.
وَقَوْلُهُ :
ذَلِكَ خَيْرٌ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : قَدْ أَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ، ثُمَّ قَالَ
: ذَلِكَ خَيْرٌ ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ خَيْرٌ كُلُّهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى لِبَاسِ
التَّقْوَى وَمَعْنَى
الْكَلَامِ
، وَإِنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ الرِّيَاشِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا قَوْلُ
قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ .
فَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ اللِّبَاسِ
وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ عُلِمَ أَنَّهُ مَعُونَةٌ مِنْهُ لِشِدَّةِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي اللِّبَاسِ ثَلَاثَةُ
أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا دَفْعُ الْأَذَى
.
وَالثَّانِي : سَتْرُ الْعَوْرَةِ .
وَالثَّالِثُ : الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ .
فَأَمَّا دَفْعُ الْأَذَى بِهِ فَوَاجِبٌ بِالْعَقْلِ ؛
لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَاجْتِلَابَ الْمَنَافِعِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } .
فَأَخْبَرَ بِحَالِهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا اكْتِفَاءً
بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ ، وَاسْتِغْنَاءً بِمَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ الطَّبْعُ .
وَيَعْنِي بِالظِّلَالِ الشَّجَرَ وَبِالْأَكْنَانِ جَمْعِ
كِنٍّ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَكَنُ فِيهِ ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ
سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ ،
وَبِقَوْلِهِ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ الدُّرُوعَ الَّتِي تَقِي
الْبَأْسَ وَهُوَ الْحَرْبُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ : تَقِيهِمْ الْحَرَّ وَلَمْ
يَذْكُرْ الْبَرْدَ ، وَقَالَ : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَلَمْ
يَذْكُرْ السَّهْلَ ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْمَ
كَانُوا أَصْحَابَ جِبَالٍ وَخِيَامٍ فَذَكَرَ لَهُمْ الْجِبَالَ وَكَانُوا
أَصْحَابَ حَرٍّ دُونَ بَرْدٍ فَذَكَرَ لَهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا هُوَ
مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ
أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ السَّرَابِيلَ
الَّتِي تَقِي الْحَرَّ أَيْضًا تَقِي الْبَرْدَ وَمَنْ اتَّخَذَ مِنْ الْجِبَالِ
أَكْنَانًا اتَّخَذَ مِنْ السَّهْلِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَأَمَّا
سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ أَوْ
بِالشَّرْعِ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : وَجَبَ سَتْرُهَا بِالْعَقْلِ لِمَا فِي
ظُهُورِهَا مِنْ الْقُبْحِ ، وَمَا كَانَ قَبِيحًا فَالْعَقْلُ مَانِعٌ مِنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَكَلَا مِنْ
الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ تَنْبِيهًا لِعُقُولِهِمَا فِي
سَتْرِ مَا رَأَيَاهُ مُسْتَقْبَحًا مِنْ سَوْآتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا
قَدْ كُلِّفَا سَتْرَ مَا لَمْ يَبْدُ لَهُمَا .
وَلَا كُلِّفَاهُ بَعْدَ أَنْ بَدَتْ لَهُمَا وَقَبْلَ
سَتْرِهَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ
وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْجَسَدِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْعَقْلُ
سَتْرَ بَاقِيهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْعَوْرَةُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ مِنْ سَتْرِهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا .
وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ مَعَ مَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ وُفُورِ الْعَقْلِ وَصِحَّةِ الْأَلْبَابِ يَطُوفُونَ
بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيُحَرِّمُونَ عَلَى نُفُوسِهِمْ اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ .
وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْقُرْبَةِ ،
وَإِنَّمَا الْقُرَبُ مَا اُسْتُحْسِنَتْ فِي الْعَقْلِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : خُذُوا زِينَتَكُمْ ، الثِّيَابَ
الَّتِي تَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مَا حَرَّمْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
مِنْ اللَّحْمِ وَالْوَدَكِ .
وَفِي قَوْله تَعَالَى : وَلَا تُسْرِفُوا تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ .
وَالثَّانِي : لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا فَإِنَّهُ
إسْرَافٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ
.
فَأَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَتْرَهَا
وَجَبَ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ
.
وَأَمَّا
الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ فَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَقْلٌ أَوْ شَرْعٌ .
وَفِي هَذَا النَّوْعِ قَدْ يَقَعُ التَّجَاوُزُ
وَالتَّقْصِيرُ وَالتَّوَسُّطُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : فِي صِفَةِ الْمَلْبُوسِ وَكَيْفِيَّتِهِ .
وَالثَّانِي : فِي جِنْسِهِ وَقِيمَتِهِ .
فَأَمَّا صِفَتُهُ فَمُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ مِنْ
وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا عُرْفُ الْبِلَادِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ زِيًّا
مَأْلُوفًا ، وَلِأَهْلِ الْمَغْرِبِ زِيًّا مَأْلُوفًا ، وَكَذَلِكَ لِمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ عَادَاتٌ فِي اللِّبَاسِ
مُخْتَلِفَةٌ .
وَالثَّانِي :
عُرْفُ الْأَجْنَاسِ فَإِنَّ لِلْأَجْنَادِ زِيًّا
مَأْلُوفًا ، وَلِلتُّجَّارِ زِيًّا مَأْلُوفًا ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ سِوَاهُمَا
مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ عَادَاتٌ فِي اللِّبَاسِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عَادَاتُ النَّاسِ فِي
اللِّبَاسِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِيَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ سِمَةً
يَتَمَيَّزُونَ بِهَا ، وَعَلَامَةً لَا يَخْفُونَ مَعَهَا ، فَإِنْ عَدَلَ أَحَدٌ
عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَجِنْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خَرَقًا وَحُمْقًا .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعُرْيُ الْفَادِحُ خَيْرٌ مِنْ
الزِّيِّ الْفَاضِحِ .
وَأَمَّا جِنْسُ الْمَلْبُوسِ وَقِيمَتُهُ فَمُعْتَبَرٌ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالْمُكْنَةِ مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
فَإِنَّ لِلْمُوسِرِ فِي الزِّيِّ قَدْرًا ، وَلِلْمُعْسِرِ دُونَهُ .
وَالثَّانِي :
بِالْمَنْزِلَةِ وَالْحَالِ فَإِنَّ لِذِي الْمَنْزِلَةِ
الرَّفِيعَةِ فِي الزِّيِّ قَدْرًا ، وَلِلْمُنْخَفِضِ عَنْهُ دُونَهُ
لِيَتَفَاضَلَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ أَحْوَالِهِمْ فَيَصِيرُوا بِهِ مُتَمَيِّزِينَ .
فَإِنْ عَدَلَ الْمُوسِرُ إلَى زِيِّ الْمُعْسِرِ كَانَ
شُحًّا وَبُخْلًا ، وَإِنْ عَدَلَ الرَّفِيعُ إلَى زِيِّ الدَّنِيءِ كَانَ
مَهَانَةً وَذُلًّا ، وَإِنْ عَدَلَ الْمُعْسِرُ إلَى زِيِّ الْمُوسِرِ كَانَ
تَبْذِيرًا وَسَرَفًا ، وَإِنْ عَدَلَ الدَّنِيءُ إلَى زِيِّ الرَّفِيعِ كَانَ
جَهْلًا وَتَخَلُّفًا .
وَلُزُومُ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ، وَاعْتِبَارُ
الْحَدِّ الْمَقْصُودِ ، أَدَلُّ عَلَى الْعَقْلِ
وَأَمْنَعُ
مِنْ الذَّمِّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ لُبْسَتَيْنِ : لُبْسَةٌ مَشْهُورَةٌ وَلُبْسَةٌ
مَحْقُورَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ
مَا لَا يَزْدَرِيك فِيهِ الْعُظَمَاءُ ، وَلَا يَعِيبُهُ عَلَيْك الْحُكَمَاءُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْك
إذْ فَاجَأَتْهَا وَعَلَيْك مِنْ شَهْرِ الثِّيَابِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ
فَكُلْ لِنَفْسِك مَا تَشَا وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ وَاعْلَمْ
أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فِي مُرَاعَاةِ
لِبَاسِهِ مِنْ غَيْرِ إكْثَارٍ وَلَا اطِّرَاحٍ ، فَإِنَّ اطِّرَاحَ
مُرَاعَاتِهَا وَتَرْكَ تَفَقُّدِهَا مَهَانَةٌ وَذُلٌّ ، وَكَثْرَةَ
مُرَاعَاتِهَا وَصَرْفَ الْهِمَّةِ إلَى الْعِنَايَةِ لَهَا دَنَاءَةٌ وَنَقْصٌ .
وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ خَلَا مِنْ فَضْلٍ ،
وَعَرِيَ عَنْ تَمْيِيزٍ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرُوءَةُ الْكَامِلَةُ ، وَالسِّيرَةُ
الْفَاضِلَةُ ؛ لِمَا يَرَى مِنْ تَمَيُّزِهِ بِذَلِكَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ،
وَخُرُوجِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ الْمُسْتَرْذَلِينَ .
وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى طَوْرَهُ ،
وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ ، كَانَ أَقْبَحَ لِذِكْرِهِ ، وَأَبْعَثَ عَلَى ذَمِّهِ .
فَكَانَ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي : لَا يُعْجِبَنَّ
مُضِيمًا حُسْنُ بِزَّتِهِ وَهَلْ يَرُوقُ دَفِينًا جَوْدَةُ الْكَفَنِ وَحَكَى
الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ إذَا اتَّسَعَ لَبِسَ أَرَثَّ
ثِيَابِهِ ، وَإِذَا ضَاقَ لَبِسَ أَحْسَنَهَا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ،
فَقَالَ : إذَا اتَّسَعْتُ تَزَيَّنَتْ بِالْجُودِ ، وَإِذَا ضِقْتُ فَبِالْهَيْئَةِ
.
وَقَدْ أَتَى ابْنُ الرُّومِيِّ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا
الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ : وَمَا الْحُلِيُّ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ يُتَمِّمُ
مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفِّرًا
لِحُسْنِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوَّرَا وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ :
لَيْسَتْ الْعِزَّةُ حُسْنَ الْبِزَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَتَرَى سَفِيهَ
الْقَوْمِ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ سَفَهًا وَيَمْسَحُ
نَعْلَهُ وَشِرَاكَهَا
وَإِذَا اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِمُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ قَطَعَهُ ذَلِكَ عَنْ
مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ وَصَارَ الْمَلْبُوسُ عِنْدَهُ أَنْفَسَ ، وَهُوَ عَلَى
مُرَاعَاتِهِ أَحْرَصُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْبَسْ مِنْ
الثِّيَابِ مَا يَخْدُمُك وَلَا يَسْتَخْدِمُك .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ لِإِيَاسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ : أَرَاك لَا تُبَالِي مَا لَبِسْت ؟ فَقَالَ : أَلْبَسُ ثَوْبًا
أَقِي بِهِ نَفْسِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ثَوْبٍ أَقِيهِ بِنَفْسِي .
فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا
فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَدِيدَ الِاطِّرَاحِ لَهَا .
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ { أَنَّ رَجُلًا
جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَيْهِ رَثَّ
الْهَيْئَةِ فَقَالَ : مَا مَالُك ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي
اللَّهُ .
فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إذَا أَنْعَمَ
عَلَى امْرِئٍ نِعْمَةً أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَثَرِهَا عَلَيْهِ } .
وَقَدْ قِيلَ : الْمُرُوءَةُ الظَّاهِرَةُ فِي
الثِّيَابِ الطَّاهِرَةِ .
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي غِلْمَانِهِ وَحَشَمِهِ إنْ
اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِهِمْ صَارَ عَلَيْهِمْ قَيِّمًا وَلَهُمْ خَادِمًا ، وَإِنْ
اطَّرَحَهُمْ قَلَّ رَشَادُهُمْ وَظَهَرَ فَسَادُهُمْ فَصَارُوا سَبَبًا
لِمَقْتِهِ ، وَطَرِيقًا إلَى ذَمِّهِ ، لَكِنْ يَكُفُّهُمْ عَنْ سَيِّئِ
الْأَخْلَاقِ وَيَأْخُذُهُمْ بِأَحْسَنِ الْآدَابِ لِيَكُونُوا كَمَا قَالَ
فِيهِمْ الشَّاعِرُ : سَهْلُ الْفِنَاءِ إذَا مَرَرْتَ بِبَابِهِ طَلْقُ الْيَدَيْنِ
مُؤَدَّبُ الْخُدَّامِ وَلْيَكُنْ فِي تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مَا يَحْفَظُ
تَجَمُّلَهُ وَيَصُونُ مُبْتَذَلَهُ
.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ادَّهِنُوا يَذْهَبْ الْبُؤْسُ عَنْكُمْ ، وَالْبَسُوا
تَظْهَرْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَحْسِنُوا إلَى مَمَالِيكِكُمْ فَإِنَّهُ
أَكْبَتُ لِعَدُوِّكُمْ } .
وَلْيَتَوَسَّطْ فِيهِمْ مَا بَيْنَ حَالَتَيْ اللِّينِ
وَالْخُشُونَةِ فَإِنَّهُ إنْ لَانَ هَانَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ خَشُنَ مَقَتُوهُ
وَكَانَ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُمْ
.
حُكِيَ أَنَّ الْمُؤَبَّذُ سَمِعَ ضَحِكَ الْخَدَّامِ
فِي
مَجْلِسِ أَنُوشِرْوَانَ
فَقَالَ : أَمَا تَمْنَعُ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ ؟ فَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ :
إنَّمَا بِهِمْ يَهَابُنَا أَعْدَاؤُنَا .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : حَشَمُ الصَّدِيقِ
عُيُونُهُمْ بَحَّاثَةٌ لِصَدِيقِهِ عَنْ صِدْقِهِ وَنِفَاقِهِ فَلْيَنْظُرَنَّ
الْمَرْءُ مِنْ غِلْمَانِهِ فَهُمْ خَلَائِفُهُ عَلَى أَخْلَاقِهِ
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِلنَّفْسِ حَالَتَيْنِ : حَالَةُ اسْتِرَاحَةٍ إنْ حَرَّمْتُهَا إيَّاهَا
كَلَّتْ ، وَحَالَةُ تَصَرُّفٍ إنْ أَرَحْتهَا فِيهَا تَخَلَّتْ .
فَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ تَقْدِيرُ حَالَيْهِ :
حَالُ نَوْمِهِ وَدَعَتِهِ ، وَحَالُ تَصَرُّفِهِ وَيَقِظَتِهِ ، فَإِنَّ لَهُمَا
قَدْرًا مَحْدُودًا وَزَمَانًا مَخْصُوصًا يَضُرُّ بِالنَّفْسِ مُجَاوَزَةُ
أَحَدِهِمَا ، وَتَغَيُّرُ زَمَانِهِمَا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نَوْمَةُ الصُّبْحَةِ مَعْجَزَةٌ مَنْفَخَةٌ
مَكْسَلَةٌ مَوْرَمَةٌ مَفْشَلَةٌ مَنْسَأَةٌ لِلْحَاجَةِ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
: النَّوْمُ ثَلَاثَةٌ : نَوْمُ خَرَقٍ وَهِيَ الصُّبْحَةُ ، وَنَوْمُ خَلَقٍ
وَهِيَ الْقَائِلَةُ ، وَنَوْمُ حُمْقٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ ، عَنْ مَيْمُونِ
بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَوْمُ الضُّحَى خَرَقٌ ، وَالْقَيْلُولَةِ خَلَقٌ ،
وَنَوْمُ الْعَشِيِّ حُمْقٌ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ لَزِمَ
الرُّقَادَ عَدِمَ الْمُرَادَ .
فَإِذَا أَعْطَى النَّفْسَ حَقَّهَا مِنْ النَّوْمِ
وَالدَّعَةِ ، وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ بِالتَّصَرُّفِ وَالْيَقِظَةِ ، خَلَصَ
بِالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ عَجْزِهَا وَكَلَالِهَا ، وَسَلِمَ بِالرِّيَاضَةِ مِنْ
بَلَادَتِهَا وَفَسَادِهَا .
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَتَنَامُ
وَالنَّاسُ بِالْبَابِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي وَأَكْرَهُ
أَنْ أُتْعِبَهَا فَلَا تَقُومَ بِي
.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَسِّمَ حَالَةَ تَصَرُّفِهِ
وَيَقِظَتِهِ عَلَى الْمُهِمِّ مِنْ حَاجَاتِهِ فَإِنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ
لَازِمَةٌ وَالزَّمَانُ يَقْصُرُ عَنْ اسْتِيعَابِ الْمُهِمِّ ، فَكَيْفَ بِهِ إنْ
تَجَاوَزَ إلَى مَا لَيْسَ بِمُهِمٍّ هَلْ يَكُونُ إلَّا : كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ
وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَفَّحَ فِي
لَيْلِهِ مَا صَدَرَ مِنْ أَفْعَالِ نَهَارِهِ ، فَإِنَّ
اللَّيْلَ
أَخْطَرُ لِلْخَاطِرِ وَأَجْمَعُ لِلْفِكْرِ .
فَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا أَمْضَاهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَا
شَاكَلَهُ وَضَاهَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا اسْتَدْرَكَهُ إنْ أَمْكَنَ
وَانْتَهَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَدَ أَفْعَالَهُ لَا
تَنْفَكُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ فِيهَا
الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ بِهَا ، أَوْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيهَا فَوَضَعَهَا
فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، أَوْ يَكُونَ قَصَّرَ فِيهَا فَنَقَصَتْ عَنْ حُدُودِهَا
، أَوْ يَكُونَ قَدْ زَادَ فِيهَا حَتَّى تَجَاوَزَتْ مَحْدُودَهَا .
وَهَذَا التَّصَفُّحُ إنَّمَا هُوَ اسْتِظْهَارٌ بَعْدَ
تَقْدِيمِ الْفِكْرِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِيَعْلَمَ بِهِ مَوَاقِعَ الْإِصَابَةِ
وَيَنْتَهِزَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ الْخَطَأِ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ كَثُرَ اعْتِبَارُهُ قَلَّ
عِثَارُهُ .
وَكَمَا يَتَصَفَّحُ أَحْوَالَ نَفْسِهِ فَكَذَا يَجِبُ
أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ غَيْرِهِ ، فَرُبَّمَا كَانَ اسْتِدْرَاكُهُ
الصَّوَابَ مِنْهَا أَسْهَلَ بِسَلَامَةِ النَّفْسِ مِنْ شُبْهَةِ الْهَوَى ،
وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ ، فَإِنْ ظَفِرَ بِصَوَابٍ وَجَدَهُ
مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ أَعْجَبَهُ جَمِيلٌ مِنْ فِعْلِهِ زَيَّنَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ
بِهِ .
فَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ تَصَفَّحَ أَفْعَالَ غَيْرِهِ
فَاقْتَدَى بِأَحْسَنِهَا وَانْتَهَى عَنْ سَيِّئِهَا .
وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السَّعِيد
مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ } .
وَقَالَ ` الشَّاعِرُ : إنَّ السَّعِيدَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ
عِظَةٌ وَفِي التَّجَارِبِ تَحْكِيمٌ وَمُعْتَبَرُ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ لِطَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ : إذَا أَعْجَبَتْك خِصَالُ امْرِئٍ فَكُنْهُ
يَكُنْ مِنْك مَا يُعْجِبُكْ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْدِ وَالْمَكْرُمَاتِ إذَا
جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ فَأَمَّا مَا يَرُومُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ ،
وَيُؤْثِرُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ مِنْ مَطَالِبِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ
الْفِكْرَ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فَإِنْ كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ أَغْلَبَ مِنْ
الْإِيَاسِ مِنْهُ وَحُمِدَتْ الْعَافِيَةُ
فِيهِ
سَلَكَهُ مِنْ أَسْهَلِ مَطَالِبِهِ وَأَلْطَفِ جِهَاتِهِ .
وَبِقَدْرِ شَرَفِهِ يَكُونُ الْإِقْدَامُ ، وَإِنْ
كَانَ الْإِيَاسُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الرَّجَاءِ مَعَ شِدَّةِ التَّغْرِيرِ
وَدَنَاءَةِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَرِّضًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا هَمَمْت بِأَمْرٍ فَفَكِّرْ فِي عَاقِبَتِهِ فَإِنْ كَانَ
رُشْدًا فَأَمْضِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيًّا فَانْتَهِ عَنْهُ } .
وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ : طَلَبُ مَا لَا يُدْرَكُ
عَجْزٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَإِيَّاكَ وَالْأَمْرَ
الَّذِي إنْ تَوَسَّعَتْ مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْك الْمَصَادِرُ فَمَا حَسَنٌ
أَنْ يَعْذُرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ عَاذِرُ
وَلْيَعْلَمْ
أَنَّ لِكُلِّ حِينٍ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِهِ خُلُقًا ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ
أَوْقَاتِ دَهْرِهِ عَمَلًا فَإِنْ تَخَلَّقَ فِي كِبَرِهِ بِأَخْلَاقِ الصِّغَرِ
، وَتَعَاطَى أَفْعَالَ الْفُكَاهَةِ وَالْبَطَرِ ، اسْتَصْغَرَهُ مَنْ هُوَ
أَصْغَرُ وَحَقَّرَهُ مَنْ هُوَ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ ، وَكَانَ كَالْمَثَلِ
الْمَضْرُوبِ بِقَوْلِ الشَّاعِر : وَكُلُّ بَازٍ يَمَسُّهُ هَرَمٌ
تَخَرَّا عَلَى رَأْسِهِ الْعَصَافِيرُ فَكُنْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ مُقْبِلًا
عَلَى شَانِكَ ، رَاضِيًا عَنْ زَمَانِك ، سِلْمًا لِأَهْلِ دَهْرِك ، جَارِيًا
عَلَى عَادَةِ عَصْرِك ، مُنْقَادًا لِمَنْ قَدَّمَهُ النَّاسُ عَلَيْك ،
مُتَحَنِّنًا عَلَى مَنْ قَدَّمَك النَّاسُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُبَايِنْهُمْ
بِالْعُزْلَةِ عَنْهُمْ فَيَمْقُتُوك ، وَلَا تُجَاهِرْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ
لَهُمْ فَيُعَادُوك ، فَإِنَّهُ لَا عَيْشَ لِمَمْقُوتٍ وَلَا رَاحَةَ لِمُعَادِي .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِبَعْضِهِمْ : إذَا
اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي وَاحِدٍ وَخَالَفَهُمْ فِي الرِّضَا وَاحِدُ فَقَدْ دَلَّ
إجْمَاعُهُمْ دُونَهُ عَلَى عَقْلِهِ أَنَّهُ فَاسِدُ
وَاجْعَلْ
نُصْحَ نَفْسِك غَنِيمَةَ عَقْلِك ، وَلَا تُدَاهِنْهَا بِإِخْفَاءِ عَيْبِك وَإِظْهَارِ
عُذْرِك ، فَيَصِرْ عَدُوُّك أَحْظَى مِنْك فِي زَجْرِ نَفْسِهِ بِإِنْكَارِك
وَمُجَاهَرَتِك مِنْ نَفْسِك الَّتِي هِيَ أَخَصُّ بِك لِإِغْرَائِك لَهَا
بِأَعْذَارِك وَمُسَاءَتِك .
فَحَسْبُك سُوءًا رَجُلٌ يَنْفَعُ عَدُوَّهُ وَيَضُرُّ
نَفْسَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَصْلِحْ نَفْسَك
لِنَفْسِك يَكُنْ النَّاسُ تَبَعًا لَك
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَصْلَحَ نَفْسَهُ
أَرْغَمَ أَنْفَ أَعَادِيهِ ، وَمَنْ أَعْمَلَ جِدَّهُ بَلَغَ كُنْهَ أَمَانِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَرَفَ مَعَابَهُ
فَلَا يَلُمْ مَنْ عَابَهُ .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو ثَابِتٍ النَّحْوِيُّ لِبَعْضِ
الشُّعَرَاءِ : وَمَصْرُوفَةٌ عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَلَوْ بَانَ عَيْبٌ
مِنْ أَخِيهِ لَأَبْصَرَا وَلَوْ كَانَ ذَا الْإِنْسَانُ يُنْصِفُ نَفْسَهُ
لَأَمْسَكَ عَنْ عَيْبِ الصَّدِيقِ وَقَصَّرَا فَهَذِّبْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَك
بِأَفْكَارِ عُيُوبِك وَانْفَعْهَا كَنَفْعِك لِعَدُوِّك فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوَاعِظُ .
أَعَانَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ عَلَى الْقَوْلِ
بِالْعَمَلِ وَعَلَى النُّصْحِ بِالْقَبُولِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَكَفَى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق