كتاب أدب الدنيا والدين على بن محمد المارودي
مُقَدِّمَةُ
الْمُؤَلِّفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الطَّوْلِ وَالْآلَاءِ ، وَصَلَّى اللَّهُ
عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى آلِهِ
وَأَصْحَابِهِ الْأَتْقِيَاءِ .
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ شَرَفَ الْمَطْلُوبِ بِشَرَفِ
نَتَائِجِهِ ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ بِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ ، وَبِحَسَبِ مَنَافِعِهِ
تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِنَايَةِ بِهِ يَكُونُ اجْتِنَاءُ
ثَمَرَتِهِ ، وَأَعْظَمُ الْأُمُورِ خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا
وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلَاحُ
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ ،
وَبِصَلَاحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ .
وَقَدْ تَوَخَّيْت بِهَذَا الْكِتَابِ الْإِشَارَةَ إلَى
آدَابِهِمَا ، وَتَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا ، عَلَى أَعْدَلِ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ إيجَازٍ وَبَسْطٍ أَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ تَحْقِيقِ
الْفُقَهَاءِ ، وَتَرْقِيقِ الْأُدَبَاءِ ، فَلَا يَنْبُو عَنْ فَهْمٍ ، وَلَا
يَدِقُّ فِي وَهْمٍ ، مُسْتَشْهِدًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ اسْمُهُ - بِمَا
يَقْتَضِيهِ ، وَمِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ -
بِمَا يُضَاهِيهِ ، ثُمَّ مُتْبِعًا ذَلِكَ بِأَمْثَالِ الْحُكَمَاءِ ، وَآدَابِ الْبُلَغَاءِ
، وَأَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَرْتَاحُ إلَى الْفُنُونِ
الْمُخْتَلِفَةِ وَتَسْأَمُ مِنْ الْفَنِّ الْوَاحِدِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنَّ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَاهْدُوا إلَيْهَا طَرَائِفَ
الْحِكْمَةِ .
فَكَأَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ ، يُحِبُّ التَّنَقُّلَ
فِي الْمَطْلُوبِ ، مِنْ مَكَان إلَى مَكَان وَكَانَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى ، يَتَنَقَّلُ كَثِيرًا فِي دَارِهِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان
وَيُنْشِدُ قَوْلَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ : لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إذْ كَانَتْ
مُدَبِّرَةً إلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ وَجَعَلْت مَا تَضَمَّنَهُ
هَذَا الْكِتَابُ خَمْسَةَ أَبْوَابٍ : الْبَابِ الْأَوَّلِ : فِي فَضْلِ الْعَقْلِ
وَذَمِّ الْهَوَى .
الْبَابِ الثَّانِي : فِي أَدَبِ الْعِلْمِ .
الْبَابِ
الثَّالِثِ
: فِي أَدَبِ الدَّيْنِ .
الْبَابِ الرَّابِعِ : فِي أَدَبِ الدُّنْيَا .
الْبَابِ الْخَامِسِ : فِي أَدَبِ النَّفْسِ .
وَإِنَّمَا أَسْتَمِدُّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حُسْنَ مَعُونَتِهِ
، وَأَسْتَوْدِعُهُ حِفَاظَ مَوْهِبَتِهِ ، بِحَوْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَهُوَ
حَسْبِي مِنْ مُعِينٍ وَحَفِيظٍ
.
الْبَابُ
الْأَوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ وَذَمُّ الْهَوَى اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ
أُسًّا وَلِكُلِّ أَدَبٍ يَنْبُوعًا ، وَأُسُّ الْفَضَائِلِ وَيَنْبُوعُ الْآدَابِ
هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ أَصْلًا وَلِلدُّنْيَا
عِمَادًا ، فَأَوْجَبَ الدِّينَ بِكَمَالِهِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَةً
بِأَحْكَامِهِ ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ
وَمَآرِبِهِمْ ، وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ ، وَجَعَلَ مَا
تَعَبَّدَهُمْ بِهِ قِسْمَيْنِ : قِسْمًا وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَوَكَّدَهُ
الشَّرْعُ ، وَقِسْمًا جَازَ فِي الْعَقْلِ فَأَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فَكَانَ
الْعَقْلُ لَهُمَا عِمَادًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِثْلَ عَقْلٍ يَهْدِي
صَاحِبَهُ إلَى هُدًى ، أَوْ يَرُدُّهُ عَنْ رَدًى } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ عُمِلَ دِعَامَةٌ وَدِعَامَةُ عَمَلِ
الْمَرْءِ عَقْلُهُ فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ أَمَا
سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْفُجَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: أَصْلُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ ، وَحَسَبُهُ دِينُهُ ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا اسْتَوْدَعَ
اللَّهُ أَحَدًا عَقْلًا إلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمًا مَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ أَفْضَلُ
مَرْجُوٍّ ، وَالْجَهْلُ أَنْكَى عَدُوٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : صَدِيقُ كُلِّ امْرِئٍ
عَقْلُهُ وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ الْمَوَاهِبِ
الْعَقْلُ ، وَشَرُّ الْمَصَائِبِ الْجَهْلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ
حَسَّانَ : يَزِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ
مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ يَشِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ
وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُهُ وَمَنَاسِبُهْ 18 يَعِيشُ الْفَتَى بِالْعَقْلِ فِي النَّاسِ
إنَّهُ عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُهْ وَأَفْضَلُ
قَسْمِ
اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ إذَا
أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ
وَمَآرِبُهْ وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ
وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ .
وَقَدْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : غَرِيزِيٍّ وَمُكْتَسَبٍ .
فَالْغَرِيزِيُّ هُوَ الْعَقْلُ الْحَقِيقِيُّ .
وَلَهُ حَدٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لَا
يُجَاوِزُهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ إلَى نُقْصَانٍ .
وَبِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ سَائِرِ
الْحَيَوَانِ ، فَإِذَا تَمَّ فِي الْإِنْسَانِ سُمِّيَ عَاقِلًا وَخَرَجَ بِهِ
إلَى حَدِّ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا تَمَّ
عَقْلُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ
وَرَوَى الضَّحَّاكُ فِي قَوْله تَعَالَى : { لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا } أَيْ
مَنْ كَانَ عَاقِلًا وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي صِفَتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ
شَتَّى .
فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ
بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ
.
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي
مَحَلِّهِ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ ؛
لِأَنَّ الدِّمَاغَ مَحَلُّ الْحِسِّ
.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ مَحَلُّهُ
الْقَلْبُ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ .
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ
لَطِيفٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ
فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجِبَ بَعْضُهَا مَا لَا يُوجِبُ سَائِرُهَا .
وَلَوْ أَوْجَبَ سَائِرُهَا مَا يُوجِبُ بَعْضُهَا
لَاسْتَغْنَى الْعَاقِلُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ عَنْ وُجُودِ عَقْلِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَوْهَرَ يَصِحُّ قِيَامُهُ
بِذَاتِهِ .
فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ
عَقْلٌ بِغَيْرِ عَاقِلٍ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ
فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْعَقْلُ هُوَ الْمُدْرِكُ
لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْنَى .
وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ
أَقْرَبَ مِمَّا
قَبْلَهُ فَبَعِيدٌ مِنْ الصَّوَابِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ
الْإِدْرَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ ، وَالْعَقْلُ عَرَضٌ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ
مِنْهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَلَذِّذًا أَوْ آلِمًا أَوْ مُشْتَهِيًا .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلُ هُوَ
جُمْلَةُ عُلُومٍ ضَرُورِيَّةٍ وَهَذَا الْحَدُّ غَيْرُ مَحْصُورٍ لِمَا
تَضَمَّنَهُ مِنْ الْإِجْمَالِ ، وَيَتَأَوَّلُهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ .
وَالْحَدُّ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمَحْدُودِ بِمَا
يَنْفِي عَنْهُ الْإِجْمَالَ وَالِاحْتِمَالَ .
وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ : إنَّ
الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ .
وَذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا وَقَعَ عَنْ
دَرَكِ الْحَوَاسِّ .
وَالثَّانِي : مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ وَاقِعًا عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ
فَمِثْلُ الْمَرْئِيَّاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالنَّظَرِ ، وَالْأَصْوَاتِ
الْمُدْرَكَةِ بِالسَّمْعِ ، وَالطُّعُومِ الْمُدْرَكَةِ بِالذَّوْقِ ،
وَالرَّوَائِحِ الْمُدْرَكَةِ بِالشَّمِّ ، وَالْأَجْسَامِ الْمُدْرَكَةِ
بِاللَّمْسِ ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِمَّنْ لَوْ أَدْرَكَ بِحَوَاسِّهِ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ثَبَتَ لَهُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ
خُرُوجَهُ فِي حَالِ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بِهِمَا وَيَعْلَمَ
لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ
أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَعَلِمَ
.
وَأَمَّا مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ
فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ ، وَأَنَّ
الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو مِنْ حُدُوثٍ أَوْ قِدَمٍ ، وَأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ
اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَنْتَفِيَ عَنْ الْعَاقِلِ مَعَ سَلَامَةِ حَالِهِ ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ ،
فَإِذَا صَارَ عَالِمًا بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ هَذَيْنِ
النَّوْعَيْنِ فَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِعَقْلِ
النَّاقَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى
شَهَوَاتِهِ
إذَا قَبُحَتْ ، كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ النَّاقَةَ مِنْ الشُّرُودِ إذَا
نَفَرَتْ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ : إذَا عَقْلُك
عَقَلَك عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَأَنْتَ عَاقِلٌ .
وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا
الْقَوْلَ فِي الْعَقْلِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْعَقْلُ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُفَرِّقُ
بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ }
.
وَكُلُّ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا أَثْبَتَ
مَحَلَّهُ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعُلُومِ كُلِّهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } .
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا
: أَنَّ الْعَقْلَ عِلْمٌ ، وَالثَّانِي : أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ .
وَفِي قَوْله تَعَالَى : { يَعْقِلُونَ بِهَا } ،
تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْلَمُونَ بِهَا ، وَالثَّانِي يَعْتَبِرُونَ بِهَا .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ
الْمُكْتَسَبُ فَهُوَ نَتِيجَةُ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ وَهُوَ نِهَايَةُ
الْمَعْرِفَةِ ، وَصِحَّةُ السِّيَاسَةِ ، وَإِصَابَةُ الْفِكْرَةِ .
وَلَيْسَ لِهَذَا حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو إنْ
اُسْتُعْمِلَ وَيَنْقُصُ إنْ أُهْمِلَ
.
وَنَمَاؤُهُ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا
بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ مِنْ هَوًى وَلَا
صَادٌّ مِنْ شَهْوَةٍ ، كَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْ
الْحُنْكَةِ وَصِحَّةِ الرَّوِيَّةِ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَمُمَارَسَةِ
الْأُمُورِ .
وَلِذَلِكَ حَمِدَتْ الْعَرَبُ آرَاءَ الشُّيُوخِ حَتَّى
قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَشَايِخُ أَشْجَارُ الْوَقَارِ ، وَمَنَاجِعُ الْأَخْبَارِ
، لَا يَطِيشُ لَهُمْ سَهْمٌ ، وَلَا يَسْقُطُ لَهُمْ وَهْمٌ ، إنْ رَأَوْك فِي قَبِيحٍ
صَدُّوك ، وَإِنْ أَبْصَرُوك عَلَى جَمِيلٍ أَمَدُّوك .
وَقِيلَ :
عَلَيْكُمْ بِآرَاءِ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ إنْ
فَقَدُوا ذَكَاءَ الطَّبْعِ فَقَدْ مَرَّتْ عَلَى عُيُونِهِمْ وُجُوهُ الْعِبْرِ ،
وَتَصَدَّتْ لِأَسْمَاعِهِمْ آثَارُ الْغَيْرِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ
نَقَصَتْ قُوَّةُ بَدَنِهِ وَزَادَتْ قُوَّةُ عَقْلِهِ .
وَقِيلَ فِيهِ : لَا تَدَعُ الْأَيَّامُ جَاهِلًا إلَّا
أَدَّبَتْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَى بِالتَّجَارِبِ
تَأَدُّبًا وَبِتَقَلُّبِ الْأَيَّامِ عِظَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : التَّجْرِبَةُ مِرْآةُ
الْعَقْلِ ، وَالْغِرَّةُ ثَمَرَةُ الْجَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كَفَى مُخَبِّرًا عَمَّا
بَقِيَ مَا مَضَى وَكَفَى عِبَرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا جَرَّبُوا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ
زَيْنٌ لِأَهْلِهِ وَلَكِنْ تَمَامُ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ وَقَالَ آخَرُ :
إذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ أَفَادَتْ لَهُ الْأَيَّامُ فِي كَرِّهَا
عَقْلَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ يَكُونُ بِفَرْطِ الذَّكَاءِ
وَحُسْنِ الْفِطْنَةِ .
وَذَلِكَ جَوْدَةٌ الْحَدْسِ فِي زَمَانٍ غَيْرِ
مُهْمِلٍ لِلْحَدْسِ ، فَإِذَا امْتَزَجَ بِالْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ صَارَتْ
نَتِيجَتُهُمَا نُمُوَّ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ كَاَلَّذِي يَكُونُ فِي
الْأَحْدَاثِ
مِنْ
وُفُورِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ ، حَتَّى قَالَ هَرِمُ بْنُ قُطْبَةَ
حِينَ تَنَافَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ : عَلَيْكُمْ بِالْحَدِيثِ السِّنِّ ،
الْحَدِيدِ الذِّهْنِ .
وَلَعَلَّ هَرِمًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُمَا عَنْ
نَفْسِهِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ
.
لَكِنْ لَمْ يُنْكِرَا قَوْلَهُ إذْعَانًا لِلْحَقِّ
فَصَارَا إلَى أَبِي جَهْلٍ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ ، وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ ، فَأَبَى
أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَرَجَعَا إلَى هَرِمٍ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا .
وَفِيهِ قَالَ لَبِيدٌ : يَا هَرِمُ ابْنَ
الْأَكْرَمِينَ مَنْصِبًا إنَّك قَدْ أُوتِيتَ حُكْمًا مُعْجِبَا وَقَدْ قَالَتْ
الْعَرَبُ عَلَيْكُمْ بِمُشَاوَرَةِ الشَّبَابِ فَإِنَّهُمْ يُنْتِجُونَ رَأْيًا
لَمْ يَنَلْهُ طُولُ الْقِدَمِ ، وَلَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ رُطُوبَةُ الْهَرِمِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت الْعَقْلَ لَمْ
يَكُنِ انْتِهَابَا وَلَمْ يُقْسَمْ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَا وَلَوْ أَنَّ
السِّنِينَ تَقَاسَمَتْهُ حَوَى الْآبَاءُ أَنْصِبَةَ الْبَنِينَا وَحَكَى
الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : قُلْت لِغُلَامٍ حَدَثٍ مِنْ أَوْلَادِ
الْعَرَبِ كَانَ يُحَادِثُنِي فَأَمْتَعَنِي بِفَصَاحَةٍ وَمَلَاحَةٍ :
أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونَ لَك مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَنْتَ أَحْمَقُ ؟
قَالَ : لَا وَاَللَّهِ .
قَالَ : فَقُلْت : وَلِمَ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ
يَجْنِيَ عَلَيَّ حُمْقِي جِنَايَةً تَذْهَبُ بِمَالِي وَيَبْقَى عَلَيَّ حُمْقِي .
فَانْظُرْ إلَى هَذَا الصَّبِيِّ كَيْفَ اسْتَخْرَجَ
بِفَرْطِ ذَكَائِهِ ، وَاسْتَنْبَطَ بِجَوْدَةِ قَرِيحَتِهِ مَا لَعَلَّهُ يَدِقُّ
عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا ، وَأَكْثَرُ تَجْرِبَةً .
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ مَا
حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
فَهَرَبُوا مِنْهُ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا لَك ؟ لِمَ
لَا تَهْرَبُ مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ أَكُنْ
عَلَى رِيبَةٍ فَأَخَافُك ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا فَأُوَسِّعُ
لَك .
فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ
الْفِطْنَةِ وَقُوَّةِ الْمِنَّةِ وَحُسْنِ الْبَدِيهَةِ .
كَيْفَ نَفَى عَنْهُ اللَّوْمَ ، وَأَثْبَتَ لَهُ
الْحُجَّةَ فَلَيْسَ لِلذَّكَاءِ غَايَةٌ ، وَلَا لِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ
نِهَايَةٌ .
وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَمَرَ الْفَرَزْدَقَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ أُسَارَى مِنْ الرُّومِ فَاسْتَعْفَاهُ
الْفَرَزْدَقُ فَلَمْ يَفْعَلْ ، وَأَعْطَاهُ سَيْفًا لَا يَقْطَعُ شَيْئًا
فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ بَلْ أَضْرَبُهُمْ بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ مُجَاشِعِ ، يَعْنِي
سَيْفَ نَفْسِهِ ، فَقَامَ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ رُومِيٍّ مِنْهُمْ فَنَبَا
السَّيْفُ عَنْهُ ، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ :
أَيَعْجَبُ النَّاسُ أَنْ أَضْحَكْت سَيِّدَهُمْ خَلِيفَةَ اللَّهِ يُسْتَسْقَى
بِهِ الْمَطَرُ لَمْ يَنْبُ سَيْفِي مِنْ رُعْبٍ وَلَا دَهَشٍ عَنْ الْأَسِيرِ
وَلَكِنْ أَخَّرَ الْقَدَرُ وَلَنْ يُقَدِّمَ نَفْسًا قَبْلَ مِيتَتِهَا جَمْعُ
الْيَدَيْنِ وَلَا الصَّمْصَامَةُ الذَّكَرُ ثُمَّ غَمَدَ سَيْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ : مَا إنْ يُعَابُ
سَيِّدٌ إذَا صَبَا وَلَا يُعَابُ صَارِمٌ إذَا نَبَا وَلَا يُعَابُ شَاعِرٌ إذَا
كَبَا ثُمَّ جَلَسَ وَهُوَ يَقُولُ : كَأَنَّ بِابْنِ الْمَرَاغَةِ قَدْ هَجَانِي
فَقَالَ : بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ
بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ قَامَ فَانْصَرَفَ وَحَضَرَ جَرِيرٌ وَخُبِّرَ
بِالْخَبَرِ وَلَمْ يُنْشَدْ لَهُ الشِّعْرُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : بِسَيْفِ أَبِي
رَغْوَانَ سَيْفِ مُجَاشِعٍ ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ ثُمَّ
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّ بِابْنِ الْقَيْنِ وَقَدْ أَجَابَنِي
فَقَالَ : وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ إذَا أَثْقَلَ
الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ فَاسْتَحْسَنَ سُلَيْمَانُ حَدْسَ الْفَرَزْدَقِ
عَلَى جَرِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ الْفَرَزْدَقَ بِشِعْرِ جَرِيرٍ وَلَمْ يُخْبِرْهُ
بِحَدْسِهِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : كَذَاك سُيُوفُ الْهِنْدِ تَنْبُو ظُبَاتُهَا
وَتَقْطَعُ أَحْيَانًا مَنَاطَ التَّمَائِمِ وَلَنْ نَقْتُلَ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ
إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ
الْمَغَارِمِ
وَهَلْ ضَرْبَةُ الرُّومِيِّ جَاعِلَةٌ لَكُمْ أَبًا عَنْ كُلَيْبٍ أَوْ أَخًا
مِثْلَ دَارِمِ فَشَاعَ حَدِيثُ الْفَرَزْدَقِ بِهَذَا حَتَّى حُكِيَ أَنَّ
الْمَهْدِيَّ أَتَى بِأَسْرَى مِنْ الرُّومِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَكَانَ
عِنْدَهُ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ فَقَالَ لَهُ : اضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْعِلْجِ .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْت مَا
اُبْتُلِيَ بِهِ الْفَرَزْدَقُ فَعُيِّرَ بِهِ قَوْمٌ إلَى الْيَوْمِ .
فَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْت تَشْرِيفَك وَقَدْ
أَعْفَيْتُك .
وَكَانَ أَبُو الْهَوْلِ الشَّاعِرُ حَاضِرًا فَقَالَ :
جَزِعْت مِنْ الرُّومِيِّ وَهُوَ مُقَيَّدٌ فَكَيْفَ وَلَوْ لَاقَيْتَهُ وَهُوَ مُطْلَقُ
دَعَاك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَتْلِهِ فَكَادَ شَبِيبٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْرَقُ
تَنَحَّ شَبِيبًا عَنْ قِرَاعِ كَتِيبَةٍ وَادْنُ شَبِيبًا مِنْ كَلَامٍ يُلَفَّقُ
وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَزْدَقِ إنْ صَحَّ مِنْ جَوْدَةِ
الْقَرِيحَتَيْنِ وَلَكِنْ مِنْ اتِّفَاقِ الْخَاطِرَيْنِ .
وَلِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : آيَةُ الْعَقْلِ
سُرْعَةُ الْفَهْمِ ، وَغَايَتُهُ إصَابَةُ الْوَهْمِ ، وَلَيْسَ لِمَنْ مُنِحَ
جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةُ الْخَاطِرِ عَجْزٌ عَنْ جَوَابٍ وَإِنْ أُعْضِلَ
، كَمَا قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ
الْعِبَادَ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى
كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ .
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَيْنَ
تَذْهَبُ الْأَرْوَاحُ إذَا فَارَقَتْ الْأَجْسَادَ ؟ قَالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ
نَارُ الْمَصَابِيحِ عِنْدَ فَنَاءِ الْأَدْهَانِ ؟ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ
جَوَابَا إسْكَاتٍ تَضَمَّنَا دَلِيلَيْ إذْعَانٍ وَحُجَّتَيْ قَهْرٍ .
وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ وَإِنْ كَانَ مُسْكِتًا
مَا حُكِيَ عَنْ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حِينَ ظَهَرَ لِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : أَلَسْت تَقُولُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَك إلَّا
مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَارْمِ نَفْسَك مِنْ ذُرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ
فَإِنَّهُ إنْ يُقَدِّرْ لَك السَّلَامَةَ تَسْلَمْ .
فَقَالَ لَهُ : يَا مَلْعُونُ إنَّ لِلَّهِ أَنْ
يَخْتَبِرَ
عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَبِرَ رَبَّهُ .
وَمِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ
أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ أَمَدَّهُمْ بِوَحْيِهِ ، وَأَيَّدَهُمْ
بِنَصْرِهِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَغْرَبُ مِمَّنْ يَلْجَأُ إلَى خَاطِرِهِ
وَيُعَوِّلُ عَلَى بَدِيهَتِهِ
.
وَرَوَى قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَمْ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالَ : دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ .
قِيلَ : فَكَمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؟
قَالَ : مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِ
.
فَكَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ سَائِلِهِ إمَّا
اخْتِبَارًا ، وَإِمَّا اسْتِبْصَارًا فَصَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْجَوَابِ مَا
أَسْكَتَ .
فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي
الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ وَهُوَ مَا يُنَمِّيهِ فَرْطُ الذَّكَاءِ بِجَوْدَةِ
الْحَدْسِ وَصِحَّةِ الْقَرِيحَةِ بِحُسْنِ الْبَدِيهَةِ ، مَعَ مَا يُنَمِّيه
الِاسْتِعْمَالُ بِطُولِ التَّجَارِبِ وَمُرُورِ الزَّمَانِ بِكَثْرَةِ
الِاخْتِبَارِ ، فَهُوَ الْعَقْلُ الْكَامِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الرَّجُلِ
الْفَاضِلِ الِاسْتِحْقَاقِ .
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
{ : أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إنَّ مِنْ خُلُقِهِ ، إنَّ مِنْ فَضْلِهِ ، إنَّ مِنْ
أَدَبِهِ .
فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ نُثْنِي عَلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ ، وَأَصْنَافِ الْخَيْرِ وَتَسْأَلُنَا
عَنْ عَقْلِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّ الْأَحْمَقَ الْعَابِدَ يُصِيبُ بِجَهْلِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ
وَإِنَّمَا يَقْرَبُ النَّاسُ مِنْ رَبِّهِمْ بِالزُّلَفِ عَلَى قَدْرِ
عُقُولِهِمْ } .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ إذَا
تَنَاهَى وَزَادَ هَلْ يَكُونُ فَضِيلَةً أَمْ لَا فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ
فَضِيلَةً ؛ لِأَنَّ الْفَضَائِلَ هَيْئَاتٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ فَضِيلَتَيْنِ
نَاقِصَتَيْنِ ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ تَوَسُّطٌ
بَيْنَ
رَذِيلَتَيْنِ فَمَا جَاوَزَ التَّوَسُّطَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَضِيلَةِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ لِلْإِسْكَنْدَرِ :
أَيُّهَا الْمَلِكُ عَلَيْك بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ
عَيْبٌ وَالنُّقْصَانَ عَجْزٌ .
هَذَا مَعَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : خَيْرُ الْأُمُورِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ ، إلَيْهِ يَرْجِعُ الْعَالِي ،
وَمِنْهُ يَلْحَقُ التَّالِي .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَذْهَبَنَّ فِي الْأُمُورِ
فَرَطَا لَا تَسْأَلَنَّ إنْ سَأَلْت شَطَطَا وَكُنْ مِنْ النَّاسِ جَمِيعًا
وَسَطَا قَالُوا : لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَقْلِ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إلَى
الدَّهَاءِ وَالْمَكْرِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ وَصَاحِبُهُ مَلُومٌ .
وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ يَعْزِلَ زِيَادًا عَنْ وِلَايَتِهِ
فَقَالَ زِيَادٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعَنْ مُوجِدَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ ؟
فَقَالَ : لَا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَكِنْ خِفْت أَنْ أَحْمِلَ عَلَى
النَّاسِ فَضْلَ عَقْلِك .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَحْكِيِّ عَنْ عُمَرَ مَا قِيلَ
قَدِيمًا : إفْرَاطُ الْعَقْلِ مُضِرٌّ بِالْجَسَدِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَاك مِنْ عَقْلِك مَا
دَلَّك عَلَى سَبِيلِ رُشْدِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : قَلِيلٌ يَكْفِي خَيْرٌ
مِنْ كَثِيرٍ يُطْغِي .
وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ :
زِيَادَةُ الْعَقْلِ فَضِيلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكْتَسَبَ غَيْرُ مَحْدُودٍ ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ زِيَادَةُ الْفَضَائِلِ الْمَحْمُودَةِ نَقْصًا مَذْمُومًا ؛
لِأَنَّ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ لَا يُسَمَّى فَضِيلَةً كَالشُّجَاعِ إذَا زَادَ
عَلَى حَدِّ الشَّجَاعَةِ نُسِبَ إلَى التَّهَوُّرِ ، وَالسَّخِيُّ إذَا زَادَ
عَلَى حَدِّ السَّخَاءِ نُسِبَ إلَى التَّبْذِيرِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ ؛
لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَحُسْنُ إصَابَةٍ
بِالظُّنُونِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَا يَكُونُ ، وَذَلِكَ فَضِيلَةٌ
لَا
نَقْصٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ مَأْلُوفٌ } .
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أَيْ بِحَسَبِ عَقْلِهِ .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَتْ الْعَرَبُ
تَقُولُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْلُهُ أَغْلَبَ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ ، كَانَ
حَتْفُهُ فِي أَغْلَبِ خِصَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ إذَا
كَثُرَ رَخُصَ إلَّا الْعَقْلَ فَإِنَّهُ إذَا كَثُرَ غَلَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الْعَاقِلَ مَنْ
عَقْلُهُ فِي إرْشَادٍ ، وَمَنْ رَأْيُهُ فِي إمْدَادٍ ، فَقَوْلُهُ سَدِيدٌ ،
وَفِعْلُهُ حَمِيدٌ ، وَالْجَاهِلُ مَنْ جَهْلُهُ فِي إغْوَاءٍ ، وَمَنْ هَوَاهُ
فِي إغْرَاءٍ ، فَقَوْلُهُ سَقِيمٌ ، وَفِعْلُهُ ذَمِيمٌ ، وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ
لِأَبِيهِ .
مَنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ عَقْلَهُ أَهْلَكَهُ أَكْثَرُ
مَا فِيهِ فَأَمَّا الدَّهَاءُ وَالْمَكْرُ فَهُوَ مَذْمُومٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ
صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ إلَى الشَّرِّ وَلَوْ صَرَفَهُ إلَى الْخَيْرِ لَكَانَ
مَحْمُودًا .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ فَقَالَ : كَانَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ ، وَأَعْقَلَ
مِنْ أَنْ يُخْدَعَ .
وَقَالَ عُمَرُ : لَسْتُ بِالْخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي
الْخِبُّ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ صَرَفَ فَضْلَ عَقْلِهِ
إلَى الشَّرِّ كَزِيَادٍ ، وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الدُّهَاةِ ، هَلْ يُسَمَّى
الدَّاهِيَةُ مِنْهُمْ عَاقِلًا أَمْ لَا .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُسَمِّيهِ عَاقِلًا ؛ لِوُجُودِ
الْعَقْلِ مِنْهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا أُسَمِّيهِ عَاقِلًا حَتَّى
يَكُونَ خَيِّرًا دَيِّنًا ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالدِّينَ مِنْ مُوجِبَاتِ
الْعَقْلِ .
فَأَمَّا الشِّرِّيرُ فَلَا أُسَمِّيهِ عَاقِلًا
وَإِنَّمَا أُسَمِّيهِ صَاحِبَ رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ .
وَقَدْ قِيلَ : الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي الزُّهَّادِ ؛ لِأَنَّهُمْ انْقَادُوا لِلْعَقْلِ وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْأَمَلِ .
وَرَوَى
لُقْمَانُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا عُوَيْمِرُ ازْدَدْ عَقْلًا
تَزْدَدْ مِنْ رَبِّك قُرْبًا .
قُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، وَمَنْ لِي
بِالْعَقْلِ ؟ قَالَ : اجْتَنِبْ مَحَارِمَ اللَّهِ ، وَأَدِّ فَرَائِضَ اللَّهِ
تَكُنْ عَاقِلًا ثُمَّ تَنَفَّلَ بِصَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ تَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا
عَقْلًا وَتَزْدَدْ مِنْ رَبِّك قُرْبًا وَبِهِ عِزًّا } .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ هَذِهِ
الْأَبْيَاتِ ، وَذَكَرَ أَنَّهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنَّ الْمَكَارِمَ أَخْلَاقٌ مُطَهَّرَةٌ فَالْعَقْلُ أَوَّلُهَا
وَالدِّينُ ثَانِيهَا وَالْعِلْمُ ثَالِثُهَا وَالْحِلْمُ رَابِعُهَا وَالْجُودُ
خَامِسُهَا وَالْعُرْفُ سَادِيهَا وَالْبِرُّ سَابِعُهَا وَالصَّبْرُ ثَامِنُهَا وَالشُّكْرُ
تَاسِعُهَا وَاللِّينُ عَاشِيهَا وَالنَّفْسُ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُهَا
وَلَسْت أَرْشُدُ إلَّا حِينَ أَعْصِيهَا وَالْعَيْنُ تَعْلَمُ فِي عَيْنَيْ
مُحَدِّثِهَا مَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا عَيْنَاك قَدْ
دَلَّتَا عَيْنَيَّ مِنْك عَلَى أَشْيَاءَ لَوْلَاهُمَا مَا كُنْت تُبْدِيهَا
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْعَقْلِ
الْغَرِيزِيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ مِنْهُ .
وَقَدْ يَنْفَكُّ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ عَنْ الْعَقْلِ
الْمُكْتَسَبِ فَيَكُونَ صَاحِبُهُ مَسْلُوبَ الْفَضَائِلِ ، مَوْفُورَ
الرَّذَائِلِ ، كَالْأَنْوَكِ الَّذِي لَا يَجِدُ لَهُ فَضِيلَةً ، وَالْأَحْمَقُ
الَّذِي قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ رَذِيلَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَحْمَقُ كَالْفَخَّارِ لَا يُرَقَّعُ وَلَا يُشَعَّبُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَحْمَقُ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ ، إذْ حَرَمَهُ
أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْحَاجَةُ إلَى
الْعَقْلِ أَقْبَحُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ
: دَوْلَةُ الْجَاهِلِ عِبْرَةُ الْعَاقِلِ ، وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ
لِبَزَرْجَمْهَرَ :
أَيُّ
الْأَشْيَاءِ خَيْرٌ لِلْمَرْءِ ؟ قَالَ : عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَإِخْوَانٌ
يَسْتُرُونَ عَيْبَهُ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَمَالٌ
يَتَحَبَّبُ بِهِ إلَى النَّاسِ
.
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَعِيٌّ صَامِتٌ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ : فَمَوْتٌ جَارِفٌ .
وَقَالَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ : الْعَقْلُ
نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَطْبُوعٌ ، وَالْآخَرُ مَسْمُوعٌ .
وَلَا يَصْلُحُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ ،
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : رَأَيْتُ الْعَقْلَ نَوْعَيْنِ
فَمَسْمُوعٌ وَمَطْبُوعُ وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كَمَا
لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ وَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ
الْعَاقِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَالْأَحْمَقَ بِمَا فِيهِ مِنْ
الرَّذَائِلِ ، فَقَالَ : الْعَاقِلُ إذَا وَالَى بَذَلَ فِي الْمَوَدَّةِ
نَصْرَهُ ، وَإِذَا عَادَى رَفَعَ عَنْ الظُّلْمِ قَدْرَهُ ، فَيُسْعِدُ
مَوَالِيَهُ بِعَقْلِهِ ، وَيَعْتَصِمُ مُعَادِيهِ بِعَدْلِهِ .
إنْ أَحْسَنَ إلَى أَحَدٍ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ بِالشُّكْرِ
، وَإِنْ أَسَاءَ إلَيْهِ مُسِيءٌ سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الْعُذْرِ ، أَوْ
مَنَحَهُ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ
.
وَالْأَحْمَقُ ضَالٌّ مُضِلٌّ إنْ أُونِسَ تَكَبَّرَ ،
وَإِنْ أُوحِشَ تَكْدَرَ ، وَإِنْ اُسْتُنْطِقَ تَخَلَّفَ ، وَإِنْ تُرِكَ
تَكَلَّفَ .
مُجَالَسَتُهُ مِهْنَةٌ ، وَمُعَاتَبَتُهُ مِحْنَةٌ ،
وَمُحَاوَرَتُهُ تَعَرٍّ ، وَمُوَالَاتُهُ تَضُرُّ ، وَمُقَارَبَتُهُ عَمَى ،
وَمُقَارَنَتُهُ شَقَا .
وَكَانَتْ مُلُوكُ الْفُرْسِ إذَا غَضِبَتْ عَلَى
عَاقِلٍ حَبَسَتْهُ مَعَ جَاهِلٍ
.
وَالْأَحْمَقُ يُسِيءُ إلَى غَيْرِهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ
قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِالشُّكْرِ ، وَيُحْسِنُ إلَيْهِ فَيَظُنُّ
أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فَيُطَالِبُهُ بِالْوَتَرِ .
فَمَسَاوِئُ الْأَحْمَقِ لَا تَنْقَضِي وَعُيُوبُهُ لَا
تَتَنَاهَى وَلَا يَقِفُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى غَايَةٍ إلَّا لَوَّحَتْ مَا
وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ أَدْنَى مِنْهَا ، وَأَرْدَى ، وَأَمَرُّ ، وَأَدْهَى .
فَمَا أَكْثَرَ الْعِبْرَ لِمَنْ نَظَرَ ، وَأَنْفَعَهَا
لِمَنْ
اعْتَبَرَ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
يُحْفَظُ الْأَحْمَقُ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا
أَقْبَلَتْ عَلَى الْجَاهِلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ بِالِاسْتِحْقَاقِ .
فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ ، أَوْ
فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ عَلَى
الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ .
فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ ، وَدَوْلَةُ
الْعَاقِلِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ
.
وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ، كَمَنْ
اسْتَوْجَبَهُ بِآلَتِهِ ، وَأَدَوَاتِهِ .
وَبَعْدُ فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي
يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ
إلَى الْوَصْلَةِ .
فَلَا يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا
بِغَيْرِ عَقْلٍ ، وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ .
فَإِنَّ الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا ، وَيُزِيلُهُ
عَنْهَا ، وَيَحُطُّهُ إلَى رُتْبَتِهِ ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ ، بَعْدَ
أَنْ تَظْهَرَ عُيُوبُهُ ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا ،
وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ مِنْ فَضَائِلِ
الْعَاقِلِ ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ ، حَتَّى يَصِيرَ
مَثَلًا فِي الْغَابِرِينَ ، وَحَدِيثًا فِي الْأَخِرِينَ ، مَعَ هَتْكِهِ فِي
عَصْرِهِ ، وَقُبْحِ ذِكْرِهِ فِي دَهْرِهِ ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ
جَابِرٍ قَالَ : كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ لَهُ حِمَارٌ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ لَعَلَفْته
مَعَ حِمَارِي .
فَهَمَّ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : إنَّمَا أُثِيبُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ .
وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ فَذُكِرَ
الْمَجُوسُ يَوْمًا عِنْدَهُ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ
أُمَّهَاتِهِمْ ، وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت
أُمِّي .
فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : - قَبَّحَهُ
اللَّهُ - أَتَرَوْنَهُ لَوْ زَادُوهُ فَعَلَ ؟ وَعَزَلَهُ
وَوَلَّى الرَّبِيعَ
الْعَامِرِيَّ - وَكَانَ مِنْ النَّوْكَى - عَلَى سَائِرِ الْيَمَامَةِ فَأَقَادَ
كَلْبًا بِكَلْبٍ فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ : شَهِدْت بِأَنَّ اللَّهَ حَقًّا
لِقَاؤُهُ وَأَنَّ الرَّبِيعَ الْعَامِرِيَّ رَقِيعُ أَقَادَ لَنَا كَلْبًا
بِكَلْبٍ وَلَمْ يَدَعْ دِمَاءَ كِلَابِ الْمُسْلِمِينَ تَضِيعُ وَلَيْسَ
لِمَعَارِّ الْجَهْلِ غَايَةٌ ، وَلَا لِمَضَارِّ الْحُمْقِ نِهَايَةٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ : لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ
بِهِ إلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا
الْهَوَى : فَصْلٌ : وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ
عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ ، وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ
الْأَخْلَاقِ قَبَائِحَهَا ، وَيُظْهِرُ مِنْ الْأَفْعَالِ فَضَائِحَهَا ،
وَيَجْعَلُ سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا ، وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
ثُمَّ تَلَا : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ
هَوَاهُ } وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
} يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ { وَتَرَبَّصْتُمْ } يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ {
وَارْتَبْتُمْ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ { وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ }
يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } يَعْنِي الْمَوْتَ { وَغَرَّكُمْ
بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَاعَةُ الشَّهْوَةِ دَاءٌ ، وَعِصْيَانُهَا دَوَاءٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طَلَّاعَةٌ تَنْزِعُ
إلَى شَرِّ غَايَةٍ .
إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ ، وَإِنَّ
الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ ، وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ
التَّوْبَةِ وَرُبَّ نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً ، وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ
حُزْنًا طَوِيلًا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ : اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الْأَمَلِ .
فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ
وَطُولَ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ
.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى
؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ
.
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ
غَلِطَ بِاسْمِهِ ، فَأَخَذَهُ الشَّاعِرُ وَقَالَ : إنَّ الْهَوَانَ هُوَ
الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا وَقِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ ، أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَقْلُ صَدِيقٌ
مَقْطُوعٌ ، وَالْهَوَى عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أَفْضَلُ
النَّاسِ
مَنْ عَصَى هَوَاهُ ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ رَفَضَ دُنْيَاهُ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ :
إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك
مَقَالُ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا مَا رَأَيْت الْمَرْءَ
يَعْتَادُهُ الْهَوَى فَقَدْ ثَكِلَتْهُ عِنْدَ ذَاكَ ثَوَاكِلُهْ وَقَدْ أَشْمَتَ
الْأَعْدَاءَ جَهْلًا بِنَفْسِهِ وَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ مَقَالًا عَوَاذِلُهْ وَمَا
يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ
الرَّأْيِ كَامِلُهْ فَلَمَّا كَانَ الْهَوَى غَالِبًا وَإِلَى سَبِيلِ
الْمَهَالِكِ مَوْرِدًا جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَيْهِ رَقِيبًا مُجَاهِدًا يُلَاحِظُ
عَثْرَةَ غَفْلَتِهِ ، وَيَدْفَعُ بَادِرَةَ سَطْوَتِهِ ، وَيَدْفَعُ خِدَاعَ
حِيلَتِهِ ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى قَوِيٌّ ، وَمَدْخَلٌ مَكْرِهِ خَفِيٌّ .
وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُؤْتَى الْعَاقِلُ
حَتَّى تَنْفُذَ أَحْكَامُ الْهَوَى عَلَيْهِ أَعْنِي بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ :
قُوَّةَ سُلْطَانِهِ وَبِالْآخَرِ خَفَاءَ مَكْرِهِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْوَى
سُلْطَانُ الْهَوَى بِكَثْرَةِ دَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ
مُغَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ فَيَكِلُّ الْعَقْلُ عَنْ دَفْعِهَا ، وَيَضْعُفُ عَنْ
مَنْعِهَا ، مَعَ وُضُوحِ قُبْحِهَا فِي الْعَقْلِ الْمَقْهُورِ بِهَا ، وَهَذَا
يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ أَكْثَرَ وَعَلَى الشَّبَابِ أَغْلَبَ ؛ لِقُوَّةِ
شَهَوَاتِهِمْ ؛ وَكَثْرَةِ دَوَاعِي الْهَوَى الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ
رُبَّمَا جَعَلُوا الشَّبَابَ عُذْرًا لَهُمْ ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
بَشِيرٍ : كُلٌّ يَرَى أَنَّ الشَّبَابَ لَهُ فِي كُلِّ مَبْلَغِ لَذَّةٍ عُذْرَا
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهَوَى مَلِكٌ غَشُومٌ ، وَمُتَسَلِّطٌ
ظَلُومٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْهَوَى عَسُوفٌ ،
وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : يَا عَاقِلًا أَرْدَى
الْهَوَى عَقْلَهُ مَالَك قَدْ سُدَّتْ عَلَيْك الْأُمُورُ أَتَجْعَلُ الْعَقْلَ
أَسِيرَ الْهَوَى إنَّمَا الْعَقْلُ
عَلَيْهِ
أَمِيرُ وَحَسْمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْعَقْلِ عَلَى النَّفْسِ
النُّفُورَةِ فَيُشْعِرُهَا مَا فِي عَوَاقِبِ الْهَوَى مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ ،
وَقُبْحِ الْأَثَرِ ، وَكَثْرَةِ الْإِجْرَامِ ، وَتَرَاكُمِ الْآثَامِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ
بِالشَّهَوَاتِ } .
أَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى الْجَنَّةِ احْتِمَالُ
الْمَكَارِهِ ، وَالطَّرِيقَ إلَى النَّارِ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا
ذَمِيمٌ ، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِرْهَابِ
، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ
وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ لِهَوَاك
مُسَوِّفًا ، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا ، وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ
فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى
دَاؤُهَا ، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا ، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ ، كَمَا
تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى
تَوَلَّتْ وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ وَمَا النَّفْسُ إلَّا
حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ فَإِذَا انْقَادَتْ
النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ الْهَوَى لَمْ
يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا ، وَبِالنَّفْسِ
مَقْهُورًا ، ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى فِي ثَوَابِ الْخَالِقِ وَثَنَاءِ
الْمَخْلُوقِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
: أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ
الِامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ
أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَعَصَى
هَوَاهُ
فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ
، فَقَدْ أَحْيَا مُرُوءَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ
الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ
شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ ، وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ غَلَّبَ
عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ
عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ
، وَأَحْرَاهُمْ بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى
طَاعَةً لِرَبِّهِ ، وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ الْهَوَى
عَلَى قَلْبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : قَدْ يُدْرِكُ الْحَازِمُ
ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى وَأَمَّا
الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ
أَفْعَالُهُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ
نَفْعًا .
وَهَذَا يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ
يَكُونَ لِلنَّفْسِ مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ
لِحُسْنِ ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ
الْمَوْعِظَةِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْهَوَى عَمًى .
قَالَ الشَّاعِرُ : حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَنْ
تَوَدُّ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَسْت بِرَاءٍ عَيْبَ ذِي
الْوُدِّ كُلِّهِ وَلَا بَعْضَ مَا فِيهِ إذَا كُنْت رَاضِيَا فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ
كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي : فَهُوَ اشْتِغَالُ الْفِكْرِ فِي تَمْيِيزِ مَا
اشْتَبَهَ فَيَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي اتِّبَاعِ مَا اسْتَسْهَلَ حَتَّى يَظُنَّ
أَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ أَمْرَيْهِ ، وَأَحْمَدُ حَالَيْهِ ، اغْتِرَارًا بِأَنَّ
الْأَسْهَلَ
مَحْمُودٌ
وَالْأَعْسَرَ مَذْمُومٌ فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَوَرَّطَ بِخِدَعِ الْهَوَى
وَرِيبَةِ الْمَكْرِ فِي كُلِّ مَخُوفٍ حَذِرٍ ، وَمَكْرُوهٍ عَسِرٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ : الْهَوَى
يَقْظَانُ وَالْعَقْلُ رَاقِدٌ فَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ ،
وَالرَّأْيُ أَنْفَعُ .
وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ ،
وَالْهَوَى وَكِيلٌ فَاضِحٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ
كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ
إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ
وَحَسْمُ السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى
نَظَرِ عَيْنِهِ .
فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ ، وَالشَّهْوَةَ مِنْ
دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ دَوَاعِي الْعَقْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ
بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ ، وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ
وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ
، فَإِنَّ الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلًا ، وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ
أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَتَرَكَ أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ ، وَلِلْهَوَى
آثَرُ .
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ :
إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ
أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ
يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ
وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ ، وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ
تَفَكَّرَ أَبْصَرَ وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ،
وَتُعَجِّلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ وَيَفُوتُ
اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ
الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ
بَعْدَ
الْفَوْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك
مُعْرِضًا ، فَلَا تَكُنْ بِهِ مُتَعَرِّضًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ
جَهْلًا وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ
الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ :
الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ ، وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ ، فَانْزِلْ عَنْ
الْهَوَى تَسْلَمْ ، وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَوَاك
بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ الْعَوَارِيّ .
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ تُرْتَجَعُ
، وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ ، وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ
الْمَآثِمِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيُّ :
سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ ، وَأَنَا أُنْشِدُ : أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ
تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا
ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى .
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ
اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي
الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ ، فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ
وَالِاعْتِقَادَاتِ ، وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ .
فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ
أَخَصُّ ، وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ .
وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا
دَوَاعِيَ الْهَوَى ، وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى ، وَيَجْعَلَ
التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا ، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ
وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ : مَا مَنْ رَوَى
أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ حَتَّى
يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ عَامِلًا مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونَ غَيْرَ مَعِيبِ وَلَقَلَّمَا
تُغْنِي إصَابَةُ قَائِلٍ أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيبِ وَقَالَ آخَرُ : يَا أَيُّهَا
الرَّجُلُ
الْمُعَلِّمُ
غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي
السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ ابْدَأْ
بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ
تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ لَا
تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ حَكَى
أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ طَارِقًا صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ
بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٍ فِي مَوْكِبِهِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَرَاهَا
وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ اللَّهُمَّ
لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ .
فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى
الْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا
إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ
مِثْلَ أَبِيك وَلَا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ .
إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلَاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي
أَهْوَائِهِمْ .
أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ
بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ ، وَلَعَلَّهُ مِنْ
أَبَرِّ بَنِيهِ .
فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا ،
وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا .
إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ ،
وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ .
هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلَاذًا
، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟
الْبَابُ الثَّانِي
أَدَبُ الْعِلْمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ
، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ ، وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ
وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ ؛ لِأَنَّ شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ ،
وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } فَمَنَعَ الْمُسَاوَاةَ
بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ لِمَا قَدْ خُصَّ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ فَضِيلَةِ
الْعِلْمِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا
الْعَالِمُونَ } فَنَفَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعَالِمِ يَعْقِلُ عَنْهُ أَمْرًا
، أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ زَجْرًا
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { أُوحِيَ إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِّي عَلِيمٌ
أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ } .
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ
وَالْآخَرُ عَابِدٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ الْعَالِمِ
عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ رَجُلًا } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ .
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : تَعَلَّمْ
الْعِلْمَ فَإِنْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك جَمَالًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك
مَالٌ كَانَ لَك مَالًا .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِبَنِيهِ :
يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ ، وَإِنْ
كُنْتُمْ وَسَطًا سُدْتُمْ ، وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِلْمُ شَرَفٌ لَا
قَدْرَ لَهُ ، وَالْأَدَبُ مَالٌ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ
خَلَفٍ ، وَالْعَمَلُ بِهِ أَكْمَلُ شَرَفٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ
فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا ، وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا
، وَيُصْلِحُ زَيْفَك وَفَاسِدَك ، وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك ، وَيُقَوِّمُ عِوَجَك
وَمَيْلَك ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك ، وَأَمَلَك .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ : قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ .
فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ فَنَظَّمَهُ شَعْرًا فَقَالَ :
لَا يَكُونُ الْعَلِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ
الْغَبِيِّ قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ قَضَاءٌ مِنْ
الْإِمَامِ عَلِيِّ وَلَيْسَ يَجْهَلُ فَضْلَ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ ؛
لِأَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْعِلْمِ .
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي فَضْلِهِ ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ لَا
يُعْلَمُ إلَّا بِهِ .
فَلَمَّا عَدِمَ الْجُهَّالُ الْعِلْمَ الَّذِي بِهِ
يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضْلِ الْعِلْمِ جَهِلُوا فَضْلَهُ ، وَاسْتَرْذَلُوا
أَهْلَهُ ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ
الْأَمْوَالِ الْمُقْتَنَاةِ ، وَالطُّرَفِ الْمُشْتَهَاةِ ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ
إقْبَالُهُمْ عَلَيْهَا ، وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ : الْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا ،
وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا .
وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عَنْ
الْعِلْمِ ، وَأَهْلِهِ انْصِرَافَ الزَّاهِدِينَ ، وَانْحَرَفُوا عَنْهُ
وَعَنْهُمْ انْحِرَافَ الْمُعَانِدِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ .
وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ
دُرَيْدٍ : جَهِلْت فَعَادَيْت الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا كَذَاك يُعَادِي الْعِلْمَ
مَنْ هُوَ جَاهِلُهْ وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ لَا
أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهْ وَقِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَمْ
الْمَالُ ؟ فَقَالَ : بَلْ الْعِلْمُ
.
قِيلَ : فَمَا بَالُنَا نَرَى الْعُلَمَاءَ عَلَى أَبْوَابِ
الْأَغْنِيَاءِ وَلَا نَكَادُ نَرَى الْأَغْنِيَاءَ عَلَى أَبْوَابِ الْعُلَمَاءِ
؟ فَقَالَ : ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ وَجَهْلِ
الْأَغْنِيَاءِ لِفَضْلِ الْعِلْمِ
.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : لِمَ لَا يَجْتَمِعُ
الْعِلْمُ وَالْمَالُ ؟ فَقَالَ : لِعِزِّ الْكَمَالِ .
فَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ : وَفِي
الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ
قَبْلَ الْقُبُورِ
قُبُورُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى
النُّشُورِ نُشُورُ وَوَقَفَ بَعْضُ الْمُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ
نَادَى : تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا بِمَا لَا يُتْعِبُ ضِرْسًا ، وَلَا يُسْقِمُ
نَفْسًا .
فَأَخْرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً .
فَقَالَ : فَاقَتِي إلَى كَلَامِكُمْ ، أَشَدُّ مِنْ
فَاقَتِي إلَى طَعَامِكُمْ ، إنِّي طَالِبُ هُدًى لَا سَائِلُ نَدًى .
فَأَذِنَ لَهُ الْعَالِمُ ، وَأَفَادَهُ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلَ عَنْهُ فَخَرَجَ جَذِلًا فَرِحًا ، وَهُوَ يَقُولُ : عِلْمٌ أَوْضَحَ
لَبْسًا ، خَيْرٌ مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ ، وَلِكُلِّ
عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ ، وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِهَا مُحَالٌ .
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ
الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ النَّاسِ
.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ
حَقَّهُ ، وَوَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا
حَيْثُ يَقُولُ : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ
الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ ،
وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ
فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُتَعَمِّقُ فِي الْعِلْمِ
كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ يَرَى أَرْضًا ، وَلَا يَعْرِف طُولًا وَلَا
عَرْضًا .
وَقِيلَ لِحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ : أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ
الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ : اسْتَفْرَغْنَا فِيهَا الْمَجْهُودَ ، فَلَمْ نَبْلُغْ
مِنْهَا الْمَحْدُودَ ، فَنَحْنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا
بَدَا عِلْمُ وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ عَنْ الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ
أَظُنُّهُمَا لَهُ : يَا نَفْسُ خُوضِي بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي فَالنَّاسُ
مَا بَيْنَ مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ لَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ إلَّا
إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ
وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ
الِاهْتِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلَاهَا ،
وَأَفْضَلِهَا .
وَأَوْلَى الْعُلُومِ ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ ؛
لِأَنَّ النَّاسَ بِمَعْرِفَتِهِ يَرْشُدُونَ ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ .
إذْ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ فَاعِلُهَا
صِفَاتِ أَدَائِهَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ } .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ
عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ
بِهَا قَدْ لَا تَكُونُ عِبَادَةً ، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ .
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُ مَا لَا
يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ
.
وَالثَّانِي : جُمْلَةُ الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَقُمْ
بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ
.
وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الدِّينِ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى فَرْضَ بَعْضِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَفَرْضَ جَمِيعِهِ عَلَى
الْكَافَّةِ كَانَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ يَجِبْ فَرْضُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَلَا
عَلَى الْكَافَّةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَرَوَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ ، أَحَدُهُمَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تَعَالَى ، وَالْآخَرُ يَتَفَقَّهُونَ
.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كِلَا الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ إلَيَّ
مِنْ صَاحِبِهِ .
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى
وَيَذْكُرُونَهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ .
وَأَمَّا الْمَجْلِسُ الْآخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ
الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ
.
وَإِنَّمَا
بُعِثْتُ مُعَلِّمًا وَجَلَسَ إلَى أَهْلِ الْفِقْهِ } .
وَرَوَى مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ
مَيْسَرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ
فِي الدِّينِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا وَخِيَارُ
عُلَمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا } .
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِيَحْمِل هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ
يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ،
وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيَّ بِخُلَفَائِي .
قَالُوا : وَمَنْ خُلَفَاؤُك ؟ قَالَ : الَّذِينَ
يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ } .
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ حَقٌّ عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ أَلَا فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا وَلَا تَمُوتُوا
جُهَّالًا } .
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا عُبِدَ اللَّهُ
بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ
مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ } .
وَرُبَّمَا مَالَ بَعْضُ الْمُتَهَاوِنِينَ بِالدِّينِ
إلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَرَأَى أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْفَضِيلَةِ ،
وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ اسْتِثْقَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الدِّينُ مِنْ
التَّكْلِيفِ ، وَاسْتِرْذَالًا لِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ التَّعَبُّدِ
وَالتَّوْقِيفِ .
وَالْكَلَامُ مَعَ مِثْلِ هَذَا فِي أَصْلٍ ، لَا
يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْفَصْلُ
.
وَلَنْ تَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ سَلِمَتْ فِطْنَتُهُ ،
وَصَحَّتْ رَوِيَّتُهُ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ
هَمَلًا
أَوْ سُدًى .
يَعْتَمِدُونَ عَلَى آرَائِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ
وَيَنْقَادُونَ لِأَهْوَائِهِمْ الْمُتَشَعِّبَةِ لِمَا تُؤَوَّلُ إلَيْهِ
أُمُورُهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ ، وَيُفْضِي إلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ
مِنْ التَّبَايُنِ وَالتَّقَاطُعِ
.
فَلَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْ دِينٍ يَتَأَلَّفُونَ بِهِ
وَيَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ الْعَقْلُ مُوجِبٌ لَهُ أَوْ مَانِعٌ وَلَوْ
تَصَوَّرَ هَذَا الْمُخْتَلُّ التَّصَوُّرَ أَنَّ الدِّينَ ضَرُورَةٌ فِي
الْعَقْلِ ، وَأَنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّينِ أَصْلٌ ، لَقَصَّرَ عَنْ التَّقْصِيرِ
، وَأَذْعَنَ لِلْحَقِّ وَلَكِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ فَضَلَّ وَأَضَلَّ .
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ
بِالدِّينِ عُلُومٌ قَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ فَضِيلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
فَقَالَ : مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ
الْفِقْهَ نَبُلَ مِقْدَارُهُ ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ ،
وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزَلَ رَأْيُهُ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ
رَقَّ طَبْعُهُ ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ .
وَلَعَمْرِي إنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَصْلُ
الْفَضَائِلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَهْمَلَ صِيَانَةَ نَفْسِهِ ثِقَةً بِمَا مَنَحَهُ
الْعِلْمُ مِنْ فَضِيلَتِهِ ، وَتَوَكُّلًا عَلَى مَا يَلْزَمُ النَّاسَ مِنْ
صِيَانَتِهِ ، سَلَوْهُ فَضِيلَةَ عِلْمِهِ وَوَسَمُوهُ بِقَبِيحِ تَبَذُّلِهِ ،
فَلَمْ يَفِ مَا أَعْطَاهُ الْعِلْمُ بِمَا سَلَبَهُ التَّبَذُّلُ ؛ لِأَنَّ
الْقَبِيحَ أَنَمُّ مِنْ الْجَمِيلِ وَالرَّذِيلَةُ أَشْهَرُ مِنْ الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّ
النَّاسَ لِمَا فِي طَبَائِعِهِمْ مِنْ الْبِغْضَةِ وَالْحَسَدِ وَنِزَاعِ
الْمُنَافَسَةِ تَنْصَرِفُ عُيُونُهُمْ عَنْ الْمَحَاسِنِ إلَى الْمَسَاوِئِ ،
فَلَا يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا وَلَا يُحَابُونَ مُسِيئًا لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ
بِالْعِلْمِ مَوْسُومًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا ، فَإِنَّ زَلَّتَهُ لَا تُقَالُ
وَهَفْوَتَهُ لَا تُعْذَرُ إمَّا لِقُبْحِ أَثَرِهَا وَاغْتِرَارِ كَثِيرٍ مِنْ
النَّاسِ بِهَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إنَّ زَلَّةَ
الْعَالِمِ كَالسَّفِينَةِ تَغْرَقُ وَيَغْرَقُ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَقِيلَ
لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟
قَالَ : زَلَّةُ الْعَالِمِ إذَا زَلَّ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ .
فَهَذَا وَجْهٌ .
وَإِمَّا لِأَنَّ الْجُهَّالَ بِذَمِّهِ أَغْرَى ،
وَعَلَى تَنَقُّصِهِ أَحْرَى ؛ لِيَسْلُبُوهُ فَضِيلَةَ التَّقَدُّمِ
وَيَمْنَعُوهُ مُبَايِنَةَ التَّخْصِيصِ عِنَادًا لِمَا جَهِلُوهُ وَمَقْتًا لِمَا
بَايَنُوهُ ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَرَى الْعِلْمَ تَكَلُّفًا وَلَوْمًا ، كَمَا
أَنَّ الْعَالِمَ يَرَى الْجَهْلَ تَخَلُّفًا وَذَمًّا .
وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْزِلَةُ السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ كَمَنْزِلَةِ
الْفَقِيهِ مِنْ
السَّفِيهِ
فَهَذَا زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ إذَا
غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى سَفِيهٍ تَقَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لِابْنِهِ : عَلَيْك بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَخُذْ
مِنْهُ ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَدُوُّ مَا جَهِلَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ
عَدُوَّ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ، وَأَنْشَدَ : تَفَنَّنْ وَخُذْ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ
فَإِنَّمَا يَفُوقُ امْرُؤٌ فِي كُلِّ فَنٍّ لَهُ عِلْمُ فَأَنْتَ عَدُوٌّ
لِلَّذِي أَنْتَ جَاهِلٌ بِهِ وَلِعِلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ وَإِذَا صَانَ
ذُو الْعِلْمِ نَفْسَهُ حَقَّ صِيَانَتِهَا ، وَلَازَمَ فِعْلَ مَا يَلْزَمُهَا
أَمِنَ تَعْيِيرَ الْمَوَالِي وَتَنْقِيصَ الْمُعَادِي ، وَجَمَعَ إلَى فَضِيلَةِ
الْعِلْمِ جَمِيلَ الصِّيَانَةِ وَعِزَّ النَّزَاهَةِ فَصَارَ بِالْمَنْزِلَةِ
الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِفَضَائِلِهِ .
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا
الْعِلْمَ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلُ دَرَجَتَيْنِ
وَلِلْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ فَضْلُ دَرَجَةٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنْ تُجِلَّ
أَهْلَ الشَّرِيعَةِ ، وَمِنْ الصَّنِيعَةِ أَنْ تَرُبَّ حُسْنَ الصَّنِيعَةِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ عَلَى
اسْتِحْسَانِ الْفَضَائِلِ ، وَاسْتِقْبَاحِ الرَّذَائِلِ ، أَنْ يَنْفِيَ عَنْ
نَفْسِهِ رَذَائِلَ الْجَهْلِ بِفَضَائِلِ الْعِلْمِ وَغَفْلَةَ الْإِهْمَالِ
بِاسْتِيقَاظِ الْمُعَانَاةِ ، وَيَرْغَبَ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةَ مُتَحَقِّقٍ لِفَضَائِلِهِ
وَاثِقٍ بِمَنَافِعِهِ ، وَلَا يُلْهِيهِ عَنْ طَلَبِهِ كَثْرَةُ مَالٍ وَجَدَهُ
وَلَا نُفُوذُ أَمْرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ .
فَإِنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ فَهُوَ إلَى الْعِلْمِ
أَحْوَجُ ، وَمَنْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ فَهُوَ بِالْعِلْمِ أَحَقُّ .
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ
: { إنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا ، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ
الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كُلُّ عِزٍّ لَا
يُوَطِّدُهُ عِلْمٌ مَذَلَّةٌ ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُؤَيِّدُهُ عَقْلٌ مَضَلَّةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ : إذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِالنَّاسِ خَيْرًا جَعَلَ الْعِلْمَ فِي مُلُوكِهِمْ ، وَالْمُلْكَ فِي
عُلَمَائِهِمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْعِلْمُ عِصْمَةُ
الْمُلُوكِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ ، وَيَرُدُّهُمْ إلَى
الْحِلْمِ ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ الْأَذِيَّةِ ، وَيُعَطِّفُهُمْ عَلَى
الرَّعِيَّةِ .
فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقَّهُ ،
وَيَسْتَبْطِنُوا أَهْلَهُ .
فَأَمَّا الْمَالُ فَظِلٌّ زَائِلٌ وَعَارِيَّةٌ
مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَيْسَ فِي كَثْرَتِهِ فَضِيلَةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ
فَضِيلَةٌ لَخَصَّ اللَّهُ بِهِ مَنْ اصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ ، وَاجْتَبَاهُ
لِنُبُوَّتِهِ .
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
مَعَ مَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ
خَلْقِهِ ، فُقَرَاءَ لَا يَجِدُونَ بُلْغَةً وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى صَارُوا فِي الْفَقْرِ مَثَلًا ، فَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : فَقْرٌ كَفَقْرِ
الْأَنْبِيَاءِ وَغُرْبَةٌ وَصَبَابَةٌ لَيْسَ الْبَلَاءُ بِوَاحِدِ وَلِعَدَمِ
الْفَضِيلَةِ فِي الْمَالِ مَنَحَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ وَحَرَمَهُ الْمُؤْمِنَ .
قَالَ الشَّاعِرُ : كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ أَمْوَالُهُ
تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ يَزْدَادُ
إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ يَا لَائِمَ الدَّهْرِ وَأَفْعَالِهِ مُشْتَغِلًا يَزْرِي
عَلَى دَهْرِهِ الدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ عَلَى
أَمْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضْلَ
مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ فَقَالَ : الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ .
الْعِلْمُ يَحْرُسُك ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالِ .
الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ .
مَاتَ خَزَّانُ الْأَمْوَالِ وَبَقِيَ خَزَّانُ
الْعِلْمِ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ ، وَأَشْخَاصُهُمْ فِي الْقُلُوبِ
مَوْجُودَةٌ .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَيُّمَا أَفْضَلُ
الْمَالُ أَمْ الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيُّمَا أَفْضَلُ
الْمَالُ أَمْ الْعَقْلُ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : لَا خَيْرَ
فِيمَنْ كَانَ خَيْرُ ثَنَائِهِ فِي النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ
وَرُبَّمَا
امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَاسْتِحْيَائِهِ
مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي كِبْرِهِ ، فَرَضِيَ
بِالْجَهْلِ أَنْ يَكُونَ مَوْسُومًا بِهِ وَآثَرَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ
مُبْتَدِئًا بِهِ .
وَهَذَا مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ ؛
لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ فَضِيلَةً فَرَغْبَةُ ذَوِي الْأَسْنَانِ فِيهِ
أَوْلَى .
وَالِابْتِدَاءُ بِالْفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ .
وَلَأَنْ يَكُونَ شَيْخًا مُتَعَلِّمًا أَوْلَى مِنْ
أَنْ يَكُونَ شَيْخًا جَاهِلًا
.
حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى شَيْخًا
كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ وَيَسْتَحِي فَقَالَ لَهُ : يَا هَذَا
أَتَسْتَحِي أَنْ تَكُونَ فِي آخِرِ عُمُرِك أَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِي أَوَّلِهِ
، وَذُكِرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ
وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفِقْهِ فَقَالَ : يَا عَمِّ مَا
عِنْدَك فِيمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَغَلُونَا
فِي الصِّغَرِ وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ .
فَقَالَ : لِمَ لَا نَتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ :
أَوْ يَحْسُنُ بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَاَللَّهِ لَأَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ خَيْرٌ
مِنْ أَنْ تَعِيشَ قَانِعًا بِالْجَهْلِ .
قَالَ :
وَإِلَى مَتَى يَحْسُنُ بِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ :
مَا حَسُنَتْ بِك الْحَيَاةُ ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَعَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِي الْجَهْلِ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ بِهِ مُدَّةُ التَّفْرِيطِ وَلَا
اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الْإِهْمَالِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : جَهْلُ
الصَّغِيرِ مَعْذُورٌ ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ فَالْجَهْلُ
بِهِ أَقْبَحُ ، وَنَقْصُهُ عَلَيْهِ أَفْضَحُ ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ السِّنِّ إذَا
لَمْ يُكْسِبْهُ فَضْلًا وَلَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا وَكَانَتْ أَيَّامُهُ فِي
الْجَهْلِ مَاضِيَةً ، وَمِنْ الْفَضْلِ خَالِيَةً ، كَانَ الصَّغِيرُ أَفْضَلَ مِنْهُ
؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَهُ أَكْثَرُ ، وَالْأَمَلَ فِيهِ أَظْهَرُ ، وَحَسْبُك
نَقْصًا فِي رَجُلٍ يَكُونُ الصَّغِيرُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْجَهْلِ أَفْضَلَ
مِنْهُ .
وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ الْأَدَبِ : إذَا لَمْ يَكُنْ مَرُّ السِّنِينَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْفَضْلِ فِي الْإِنْسَانِ سَمَّيْته طِفْلَا وَمَا تَنْفَعُ الْأَيَّامُ حِينَ يَعُدُّهَا وَلَمْ يَسْتَفِدْ فِيهِنَّ عِلْمًا وَلَا فَضْلَا أَرَى الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفِ مَائِلًا إلَى كُلِّ ذِي جَهْلٍ كَأَنَّ بِهِ جَهْلَا
وَرُبَّمَا
امْتَنَعَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِتَعَذُّرِ الْمَادَّةِ وَشَغَلَهُ
اكْتِسَابُهَا عَنْ الْتِمَاسِ الْعِلْمِ .
وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ
أَنَّهُ قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ذِي شَرَهٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ
مُسْتَعْبِدَةٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى الْعِلْمِ حَظًّا مِنْ زَمَانِهِ .
فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ زَمَانَ اكْتِسَابٍ .
وَلَا بُدَّ لِلْمُكْتَسِبِ مِنْ أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَةٍ
، وَأَيَّامِ عُطْلَةٍ .
وَمَنْ صَرَفَ كُلَّ نَفْسِهِ إلَى الْكَسْبِ حَتَّى
لَمْ يَتْرُكْ لَهَا فَرَاغًا إلَى غَيْرِهِ ، فَهُوَ مِنْ عَبِيدِ الدُّنْيَا ،
وَأُسَرَاءِ الْحِرْصِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ شَيْءٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إلَى
الْعِلْمِ فَقَدْ نَجَا } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
عُلَمَاءَ صَالِحِينَ فَجَالِسُوا الْعُلَمَاءَ وَاسْمَعُوا عِلْمًا يَدُلُّكُمْ
عَلَى الْهُدَى ، وَيَرُدُّكُمْ عَنْ الرَّدَى } .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ
أَحَاطَتْ بِهِ فَضَائِلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ صَاحَبَ
الْعُلَمَاءِ وُقِّرَ ، وَمَنْ جَالَسَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ .
وَرُبَّمَا
مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا يَظُنُّهُ مِنْ صُعُوبَتِهِ ، وَبُعْدِ
غَايَتِهِ ، وَيَخْشَى مِنْ قِلَّةِ ذِهْنِهِ وَبُعْدِ فِطْنَتِهِ .
وَهَذَا الظَّنُّ اعْتِذَارُ ذَوِي النَّقْصِ وَخِيفَةُ أَهْلِ
الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ جَهْلٌ ، وَالْخَشْيَةَ
قَبْلَ الِابْتِلَاءِ عَجْزٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَكُونَنَّ لِلْأُمُورِ هَيُوبًا
فَإِلَى خَيْبَةٍ يَصِيرُ الْهَيُوبُ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ ، وَأَخَافُ أَنْ
أُضَيِّعَهُ .
فَقَالَ : كَفَى بِتَرْكِ الْعِلْمِ إضَاعَةٌ .
وَلَيْسَ ، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ الْأَذْهَانُ
وَتَفَاوَتَتْ الْفَطِنُ ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّ مِنْهَا حَظُّهُ أَنْ يَيْأَسَ
مِنْ نَيْلِ الْقَلِيلِ وَإِدْرَاكِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حَدِّ
الْجَهَالَةِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّخْصِيصِ .
فَإِنَّ الْمَاءَ مَعَ لِينِهِ يُؤَثِّرُ فِي صَمِّ
الصُّخُورِ فَكَيْفَ لَا يُؤَثِّرُ الْعِلْمُ الزَّكِيُّ فِي نَفْسِ رَاغِبٍ
شَهِيٍّ ، وَطَالِبٍ خَلِيٍّ ، لَا سِيَّمَا وَطَالِبُ الْعِلْمِ مُعَانٌ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا
يَطْلُبُ .
}
وَرُبَّمَا
مَنَعَ ذَا السَّفَاهَةِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنْ يُصَوِّرَ فِي نَفْسِهِ
حِرْفَةَ أَهْلِهِ وَتَضَايُقَ الْأُمُورِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِهِ حَتَّى
يَسِمَهُمْ بِالْإِدْبَارِ وَيَتَوَسَّمَهُمْ بِالْحِرْمَانِ ، فَإِنْ رَأَى
مَحْبَرَةً تَطَيَّرَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى كِتَابًا أَعْرَضَ عَنْهُ ، وَإِنْ
رَأَى مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ هَرَبَ مِنْهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَالِمًا
مُقْبِلًا وَجَاهِلًا مُدْبِرًا .
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ جَمَاعَةً
ذَوِي مَنَازِلِ ، وَأَحْوَالٍ كُنْت أُخْفِي عَنْهُمْ مَا يَصْحَبُنِي مِنْ
مَحْبَرَةٍ وَكِتَابٍ لِئَلَّا أَكُونَ عِنْدَهُمْ مُسْتَثْقَلًا ، وَإِنْ كَانَ
الْبُعْدُ عَنْهُمْ مُؤْنِسًا وَمُصْلِحًا ، وَالْقُرْبُ مِنْهُمْ مُوحِشًا وَمُفْسِدًا .
فَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرَ : الْجَهْلُ فِي الْقَلْبِ
كَالنَّزِّ فِي الْأَرْضِ ، يُفْسِدُ مَا حَوْلَهُ .
لَكِنْ اتَّبَعْتُ فِيهِمْ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ
أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَالِطُوا النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ
وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ
} .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : رُبَّ جَهْلٍ
وُقِيَتْ بِهِ عُلَمَاءُ ، وَسَفَهٍ حُمِيَتْ بِهِ حُلَمَاءُ .
وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِمَّنْ لَا يُرْجَى لَهَا صَلَاحٌ
، وَلَا يُؤْمَلُ لَهَا فَلَاحٌ
.
لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعِلْمَ شَيْنٌ ،
وَأَنَّ تَرْكَهُ زَيْنٌ ، وَأَنَّ لِلْجَهْلِ إقْبَالًا مُجْدِيًا ، وَلِلْعِلْمِ
إدْبَارًا مُكْدِيًا ، كَانَ ضَلَالُهُ مُسْتَحْكِمًا وَرَشَادُهُ مُسْتَعْبَدَا ،
وَكَانَ هُوَ الْخَامِسُ الْهَالِكُ الَّذِي قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ
مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا وَلَا تَكُنْ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ } .
وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنَدًا
وَلَيْسَ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ : فِي الْعَذْلِ نَفْعٌ وَلَا فِي الْإِصْلَاحِ
مَطْمَعٌ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : مَا لَكُمْ لَا
تُعَاتِبُونَ الْجُهَّالَ ؟ فَقَالَ : إنَّا لَا
نُكَلِّفُ
الْعُمْيَ أَنْ يُبْصِرُوا ، وَلَا الصُّمَّ أَنْ يَسْمَعُوا .
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الْعِلْمِ
هَذَا النُّفُورَ ، وَتُعَانِدُ أَهْلَهُ هَذَا الْعِنَادَ ، تَرَى الْعَقْلَ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَتَنْفِرُ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا النُّفُورَ ، وَتَعْتَقِدُ
أَنَّ الْعَاقِلَ مُحَارَفٌ ، وَأَنَّ الْأَحْمَقَ مَحْظُوظٌ .
وَنَاهِيكَ بِضَلَالِ مَنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ فِي
الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ هَلْ يَكُونُ لِخَيْرٍ أَهْلًا ، أَوْ لِفَضِيلَةٍ
مَوْضِعًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَخْبَثُ النَّاسِ
الْمُسَاوِي بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ ؛ وَعِلَّةُ هَذَا أَنَّهُمْ
رُبَّمَا رَأَوْا عَاقِلًا غَيْرَ مَحْظُوظٍ ، وَعَالِمًا غَيْرَ مَرْزُوقٍ ، فَظَنُّوا
أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ هُمَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ حَظِّهِ وَرِزْقِهِ .
وَقَدْ انْصَرَفَتْ عُيُونُهُمْ عَنْ حِرْمَانِ أَكْثَرِ
النَّوْكَى وَإِدْبَارِ أَكْثَرِ الْجُهَّالِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعُقَلَاءِ
وَالْعُلَمَاءِ قِلَّةً وَعَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِمْ سِمَةٌ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ لِكَثْرَةِ
الْجُهَّالِ .
فَإِذَا ظَهَرَتْ سِمَةُ فَضْلِهِمْ وَصَادَفَ ذَلِكَ
قِلَّةَ حَظِّ بَعْضِهِمْ تَنَوَّهُوا بِالتَّمْيِيزِ وَاشْتُهِرُوا
بِالتَّعْيِينِ ، فَصَارُوا مَقْصُودِينَ بِإِشَارَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ ،
مَلْحُوظِينَ بِإِيمَاءِ الشَّامِتِينَ
.
وَالْجُهَّالُ وَالْحَمْقَى لَمَّا كَثُرُوا وَلَمْ يَتَخَصَّصُوا
انْصَرَفَتْ عَنْهُمْ النُّفُوسُ فَلَمْ يَلْحَظْ الْمَحْرُومُ مِنْهُمْ بِطَرَفِ
شَامِتٍ ، وَلَا قَصَدَ الْمَجْدُودُ مِنْهُمْ بِإِشَارَةِ عَائِبٍ .
فَلِذَلِكَ ظَنَّ الْجَاهِلُ الْمَرْزُوقُ أَنَّ
الْفَقْرَ وَالضِّيقَ مُخْتَصٌّ بِالْعِلْمِ ، وَالْعَقْلَ دُونَ الْجَهْلِ
وَالْحُمْقِ وَلَوْ فَتَّشَتْ أَحْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ ، مَعَ
قِلَّتِهِمْ ، لَوَجَدْت الْإِقْبَالَ فِي أَكْثَرِهِمْ .
وَلَوْ اخْتَبَرْت أُمُورَ الْجُهَّالِ وَالْحَمْقَى ،
مَعَ كَثْرَتِهِمْ ، لَوَجَدَتْ الْحِرْمَانَ فِي أَكْثَرِهِمْ .
وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذُو الْحَالِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُمْ
مَلْحُوظًا مُشْتَهِرًا ؛ لِأَنَّ حَظَّهُ عَجِيبٌ وَإِقْبَالَهُ مُسْتَغْرَبٌ .
كَمَا أَنَّ حِرْمَانَ الْعَاقِلِ
الْعَالِمِ
غَرِيبٌ وَإِقْلَالَهُ عَجِيبٌ .
وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ عَلَى سَالِفِ الدُّهُورِ مِنْ
ذَلِكَ مُتَعَجِّبِينَ وَبِهِ مُعْتَبِرِينَ حَتَّى قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ : مَا
أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : نُجْحُ الْجَاهِلِ وَإِكْدَاءُ الْعَاقِلِ .
لَكِنَّ الرِّزْقَ بِالْحَظِّ وَالْجَدِّ ، لَا
بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ ، حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَدُلُّ بِهَا عَلَى
قُدْرَتِهِ وَإِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَوْ جَرَتْ الْأَقْسَامُ
عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ .
فَنَظَمَهُ أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ : يَنَالُ الْفَتَى
مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ وَيُكْدِي الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ
جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي سُلْمَى : لَوْ
كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءِ لَأَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ
الْقَدَرُ يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ
وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ سَعَادَةٌ وَإِقْبَالٌ ،
وَإِنْ قَلَّ مَعَهُمَا الْمَالُ ، وَضَاقَتْ مَعَهُمَا الْحَالُ .
وَالْجَهْلَ وَالْحُمْقَ حِرْمَانٌ وَإِدْبَارٌ وَإِنْ
كَثُرَ مَعَهُمَا الْمَالُ ، وَاتَّسَعَتْ فِيهِمَا الْحَالُ ؛ لِأَنَّ
السَّعَادَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ فَكَمْ مِنْ مُكْثِرٍ شَقِيٌّ
وَمُقِلٍّ سَعِيدٌ .
وَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاهِلُ الْغَنِيُّ سَعِيدًا
وَالْجَهْلُ يَضَعُهُ .
أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَقِيرُ شَقِيًّا
وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ ؟ وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كَمْ مِنْ
ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ عِلْمُهُ ، وَمِنْ عَزِيزٍ أَذَلَّهُ جَهْلُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْجَاهِلُ
كَرَوْضَةٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُلَّمَا حَسُنَتْ
نِعْمَةُ الْجَاهِلِ ازْدَادَ قُبْحًا
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِبَنِيهِ : يَا بَنِيَّ
تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ لَمْ تَنَالُوا بِهِ مِنْ الدُّنْيَا حَظًّا
فَلَأَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ لَكُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ
بِكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ :
مَنْ لَمْ
يَفِدْ بِالْعِلْمِ مَالًا كَسَبَ بِهِ جَمَالًا ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ
الْأَدَبِ لِابْنِ طَبَاطَبَا : حَسُودٌ مَرِيضُ الْقَلْبِ يُخْفِي أَنِينَهُ
وَيَضْحَى كَئِيبَ الْبَالِ عِنْدِي حَزِينَهُ يَلُومُ عَلَيَّ أَنْ رُحْت
لِلْعِلْمِ طَالِبًا أَجْمَعُ مِنْ عِنْدِ الرُّوَاةِ فَنُونَهُ فَأَعْرِفُ
أَبْكَارَ الْكَلَامِ وَعَوْنَهُ وَأَحْفَظُ مِمَّا أَسْتَفِيدُ عُيُونَهُ
وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُكْسِبُ الْغِنَى وَيُحْسِنُ بِالْجَهْلِ
الذَّمِيمِ ظُنُونَهُ فَيَا لَائِمِي دَعْنِي أُغَالِي بِقِيمَتِي فَقِيمَةُ كُلِّ
النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ وَأَنَا أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ
الْمُذِلَّةِ ، وَبَوَادِرِ الْحُمْقِ الْمُضِلَّةِ .
وَأَسْأَلُهُ السَّعَادَةَ بِعَقْلٍ رَادِعٍ يَسْتَقِيمُ
بِهِ مَنْ زَلَّ ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ يَسْتَهْدِي بِهِ مَنْ ضَلَّ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ .
فَيَنْبَغِي
لِمَنْ زَهِدَ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَاغِبًا وَلِمَنْ رَغِبَ فِيهِ
أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا ، وَلِمَنْ طَلَبَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ
مُسْتَكْثَرًا ، وَلِمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِهِ عَامِلًا ، وَلَا
يَطْلُبُ لِتَرْكِهِ احْتِجَاجًا وَلَا لِلتَّقْصِيرِ فِيهِ عُذْرًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَا تَعْذِرَانِي فِي الْإِسَاءَةِ
إنَّهُ شِرَارُ الرِّجَالِ مَنْ يُسِيءُ فَيُعْذَرُ وَلَا يُسَوِّفُ نَفْسَهُ
بِالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَيُمَنِّيهَا بِانْقِطَاعِ الْأَشْغَالِ
الْمُتَّصِلَةِ ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ شُغْلًا وَلِكُلِّ زَمَانٍ عُذْرًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا
وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لَا تَنْقَضِي تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ وَتَبْقَى
لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِيَ وَيَقْصِدُ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاثِقًا بِتَيْسِيرِ
اللَّهِ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ
صَادِقَةٍ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ
غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ
قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ ، وَرَفْعُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ .
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ
أَوْ مَتَى يَحْتَاجُ إلَى مَا عِنْدَهُ } .
وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَطْلُبَهُ لِمِرَاءٍ أَوْ رِيَاءٍ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ بِهِ مَهْجُورٌ لَا
يَنْتَفِعُ ، وَالْمُرَائِيَ بِهِ مَحْقُورٌ لَا يَرْتَفِعُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُمَارُوا بِهِ
السُّفَهَاءَ ، وَلَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ،
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ } .
وَلَيْسَ الْمُمَارِي بِهِ هُوَ الْمُنَاظِرُ فِيهِ
طَلَبًا لِلصَّوَابِ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ الْقَاصِدُ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ
عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ
.
وَفِيهِمْ جَاءَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجَادِلُ إلَّا
مُنَافِقٌ أَوْ مُرْتَابٌ } .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ شَرًّا أَعْطَاهُمْ الْجَدَلَ ، وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ لِمُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ : أُجَادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ ظَنِينِ وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا
لِدِينِي وَأَتْرُكُ مَا عَمِلْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي وَلَيْسَ الرَّأْيُ
كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ يُصْرَفُ فِي
الشِّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ فَأَمَّا مَا عَلِمْت فَقَدْ كَفَانِي وَأَمَّا مَا
جَهِلْت فَجَنِّبُونِي وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ
: لَا يَمْنَعَنَّكَ حَذَرُ الْمِرَاءِ مِنْ حُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ ، فَإِنَّ
الْمُمَارِيَ هُوَ الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَا
يَرْجُو أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ
.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ بَاعِثًا .
وَالْبَاعِثُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْئَانِ : رَغْبَةٌ
أَوْ رَهْبَةٌ ، فَلْيَكُنْ طَالِبُ الْعِلْمِ رَاغِبًا رَاهِبًا .
أَمَّا الرَّغْبَةُ فَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى
لِطَالِبِي مَرْضَاتِهِ ، وَحَافِظِي مُفْتَرَضَاتِهِ .
وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَمِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى
لِتَارِكِي أَوَامِرِهِ ، وَمُهْمَلِي زَوَاجِرِهِ .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ أَدَّيَا
إلَى كُنْهِ الْعِلْمِ وَحَقِيقَةِ الزُّهْدِ ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ أَقْوَى
الْبَاعِثَيْنِ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالرَّهْبَةَ أَقْوَى
السَّبَبَيْنِ
فِي الزُّهْدِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : أَصْلُ الْعِلْمِ
الرَّغْبَةُ وَثَمَرَتُهُ السَّعَادَةُ ، وَأَصْلُ الزُّهْدِ الرَّهْبَةُ
وَثَمَرَتُهُ الْعِبَادَةُ فَإِذَا اقْتَرَنَ الزُّهْدُ وَالْعِلْمُ فَقَدْ
تَمَّتْ السَّعَادَةُ وَعَمَّتْ الْفَضِيلَةُ ، وَإِنْ افْتَرَقَا فَيَا وَيْحَ
مُفْتَرَقَيْنِ مَا أَضَرَّ افْتِرَاقَهُمَا ، وَأَقْبَحَ انْفِرَادَهُمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ ازْدَادَ فِي الْعِلْمِ رُشْدًا ، فَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا
زُهْدًا ، لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ
الْعِلْمِ مَا يَقْمَعُهُ ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ لَا يَنْفَعُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْفَقِيهُ بِغَيْرِ
وَرَعٍ كَالسِّرَاجِ يُضِيءُ الْبَيْتَ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ .
التَّعَلُّمُ
: فَصْلٌ
: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلُومِ أَوَائِلَ تُؤَدِّي إلَى أَوَاخِرِهَا ،
وَمَدَاخِلَ تُفْضِي إلَى حَقَائِقِهَا
.
فَلْيَبْتَدِئْ طَالِبُ الْعِلْمِ بِأَوَائِلِهَا
لِيَنْتَهِيَ إلَى أَوَاخِرِهَا ، وَبِمَدَاخِلِهَا لِتُفْضِيَ إلَى حَقَائِقِهَا .
وَلَا يَطْلُبُ الْآخِرَ قَبْلَ الْأَوَّلِ ، وَلَا
الْحَقِيقَةَ قَبْلَ الْمَدْخَلِ
.
فَلَا يُدْرِكُ الْآخِرَ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ ؛
لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى غَيْرِ أُسٍّ لَا يُبْنَى ، وَالثَّمَرُ مِنْ غَيْرِ
غَرْسٍ لَا يُجْنَى .
وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ فَاسِدَةٌ وَدَوَاعٍ وَاهِيَةٌ .
فَمِنْهَا :
أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ أَغْرَاضٌ تَخْتَصُّ
بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَدْعُو الْغَرَضُ إلَى قَصْدِ ذَلِكَ النَّوْعِ
وَيَعْدِلُ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ ، كَرَجُلٍ يُؤْثِرُ الْقَضَاءَ وَيَتَصَدَّى لِلْحُكْمِ
فَيَقْصِدُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ أَدَبَ الْقَاضِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ
الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ ، أَوْ يُحِبُّ الِاتِّسَامَ بِالشَّهَادَةِ
فَيَتَعَلَّمُ كِتَابَ الشَّهَادَاتِ فَيَصِيرُ مَوْسُومًا بِجَهْلِ مَا يُعَانِي .
فَإِذَا أَدْرَكَ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ حَازَ مِنْ
الْعِلْمِ جُمْهُورَهُ ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ مَشْهُورَهُ ، وَلَمْ يَرَ مَا بَقِيَ
مِنْهُ إلَّا غَامِضًا طَلَبُهُ عَنَاءٌ ، وَغَوِيصًا اسْتِخْرَاجُهُ فَنَاءٌ ؛
لِقُصُورِ هِمَّتِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ ، وَانْصِرَافِهَا عَمَّا تَرَكَ .
وَلَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ لَعَلِمَ أَنَّ مَا تَرَكَ
أَهَمُّ مِمَّا أَدْرَكَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعِلْمِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ ،
وَلِكُلِّ بَابٍ مِنْهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ فَلَا تَقُومُ الْأَوَاخِرُ
إلَّا بِأَوَائِلِهَا .
وَقَدْ يَصِحُّ قِيَامُ الْأَوَائِلِ بِأَنْفُسِهَا
فَيَصِيرُ طَلَبُ الْأَوَاخِرِ بِتَرْكِ الْأَوَائِلِ تَرْكًا لِلْأَوَائِلِ
وَالْأَوَاخِرِ فَإِذَنْ لَيْسَ يُعَرَّى مِنْ لَوْمٍ وَإِنْ كَانَ تَارِكُ
الْآخَرِ أَلْوَمَ .
وَمِنْهَا
: أَنْ يُحِبَّ الِاشْتِهَارَ بِالْعِلْمِ إمَّا لِتَكَسُّبٍ أَوْ لِتَجَمُّلٍ
فَيَقْصِدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَدَلِ وَطَرِيقِ
النَّظَرِ .
وَيَتَعَاطَى عِلْمَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ دُونَ مَا
اُتُّفِقَ عَلَيْهِ ؛ لِيُنَاظِرَ عَلَى الْخِلَافِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ
الْوِفَاقَ ، وَيُجَادِلَ الْخُصُومَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَذْهَبًا مَخْصُوصًا .
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ عَدَدًا قَدْ
تَحَقَّقُوا بِالْعِلْمِ تَحَقُّقَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وَاشْتُهِرُوا بِهِ
اشْتِهَارَ الْمُتَبَحِّرِينَ .
إذَا أَخَذُوا فِي مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ ظَهَرَ كَلَامُهُمْ
، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ وَاضِحِ مَذْهَبِهِمْ ضَلَّتْ أَفْهَامُهُمْ ، حَتَّى
إنَّهُمْ لَيَخْبِطُونَ فِي الْجَوَابِ خَبْطَ عَشْوَاءِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ
صَوَابٌ ، وَلَا يَتَقَرَّرُ لَهُمْ جَوَابٌ .
وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا إذَا نَمَّقُوا فِي الْمَجَالِسِ
كَلَامًا مَوْصُوفًا ، وَلَفَّقُوا عَلَى الْمُخَالِفِ حِجَابًا مَأْلُوفًا .
وَقَدْ جَهِلُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا يَعْلَمُ
الْمُبْتَدِئُ وَيَتَدَاوَلُهُ النَّاشِئُ .
فَهُمْ دَائِمًا فِي لَغَطٍ مُضِلٍّ ، أَوْ غَلَطٍ
مُذِلٍّ وَرَأَيْت قَوْمًا مِنْهُمْ يَرَوْنَ الِاشْتِغَالَ بِالْمَذَاهِبِ
تَكَلُّفًا ، وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ تَخَلُّفًا .
وَحَاجَّنِي بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ : لِأَنَّ
عِلْمَ حَافِظِ الْمَذَاهِبِ مَسْتُورٌ ، وَعِلْمُ الْمَنَاظِرِ عَلَيْهِ
مَشْهُورٌ .
فَقُلْت : فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمُ حَافِظِ الْمَذْهَبِ
مَسْتُورًا وَهُوَ سَرِيعٌ عَلَيْهِ الْجَوَابُ ، كَثِيرُ الصَّوَابِ ؟ فَقَالَ :
لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْأَلْ سَكَتَ فَلَمْ يُعْرَفْ ، وَالْمَنَاظِرُ إنْ لَمْ
يَسْأَلْ سَائِلٌ يُعْرَفُ .
فَقُلْت : أَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْحَافِظُ فَأَصَابَ
بَانَ فَضْلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ
.
قُلْت :
أَفَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْمَنَاظِرُ فَأَخْطَأَ بَانَ
نَقْصُهُ ، وَقَدْ قِيلَ : عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ
؟ فَأَمْسَكَ عَنْ جَوَابِي ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ كَابَرَ الْمَعْقُولَ ،
وَلَوْ اعْتَرَفَ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ .
وَالْإِمْسَاكُ إذْعَانٌ وَالسُّكُوتُ رِضًى ، وَأَنْ
يَنْقَادَ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُ
الْبَاطِلُ .
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَقُولُ اعْرَفُونِي وَهُوَ
غَيْرُ عَرُوفٍ وَلَا مَعْرُوفٍ وَبَعِيدٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ أَنْ
يَعْرِفَهُ .
وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ : وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ
امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمْ .
وَمِنْ أَسْبَابِ
التَّقْصِيرِ أَيْضًا أَنْ يَغْفُلَ عَنْ التَّعَلُّمِ فِي الصِّغَرِ ، ثُمَّ
يَشْتَغِلَ بِهِ فِي الْكِبَرِ فَيَسْتَحِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِمَا يَبْتَدِئُ
الصَّغِيرُ ، وَيَسْتَنْكِفُ أَنْ يُسَاوِيَهُ الْحَدَثُ الْغَرِيرُ ، فَيَبْدَأُ
بِأَوَاخِرِ الْعُلُومِ ، وَأَطْرَافِهَا ، وَيَهْتَمُّ بِحَوَاشِيهَا ،
وَأَكْنَافِهَا ؛ لِيَتَقَدَّمَ عَلَى الصَّغِيرِ الْمُبْتَدِي ، وَيُسَاوِيَ
الْكَبِيرَ الْمُنْتَهِي .
وَهَذَا مِمَّنْ رَضِيَ بِخِدَاعِ نَفْسِهِ ، وَقَنَعَ بِمُدَاهَنَةِ
حِسِّهِ ؛ لِأَنَّ مَعْقُولَهُ إنْ أَحَسَّ وَمَعْقُولَ كُلِّ ذِي حِسٍّ يَشْهَدُ
بِفَسَادِ هَذَا التَّصَوُّرِ ، وَيَنْطِقُ بِاخْتِلَالِ هَذَا التَّخَيُّلِ ؛
لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ فِي وَهْمٍ .
وَجَهْلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ أَقْبَحُ
مِنْ جَهْلِ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعَالِمُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَقَّ إلَى صَغِيرِ
الْأَمْرِ حَتَّى يُرَقِّيَك الصَّغِيرُ إلَى الْكَبِيرِ فَتَعْرِفَ
بِالتَّفَكُّرِ فِي صَغِيرٍ كَبِيرًا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا
الْمَعْنَى ، وَأَشْبَاهِهِ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ فِي الصِّغَرِ أَحْمَدَ .
رَوَى مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ {
مِثْلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ فِي صِغَرِهِ كَالنَّقْشِ عَلَى الصَّخْرِ وَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ
فِي كِبَرِهِ كَاَلَّذِي يَكْتُبُ عَلَى الْمَاءِ .
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ : قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرَاضِيِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا
مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ أَفْرَغُ
قَلْبًا ، وَأَقَلُّ شُغْلًا ، وَأَيْسَرُ تَبَذُّلًا ، وَأَكْثَرُ تَوَاضُعًا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُتَوَاضِعُ
مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ
الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ الْبِقَاعِ مَاءً .
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ أَضْبَطَ مِنْ الْكَبِيرِ
إذَا عَرِيَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَانِعِ ، وَأَوْعَى مِنْهُ إذَا خَلَا مِنْ هَذِهِ
الْقَوَاطِعِ فَلَا .
حُكِيَ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ سَمِعَ رَجُلًا
يَقُولُ :
التَّعْلِيمُ
فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى الْحَجَرِ .
فَقَالَ الْأَحْنَفُ : الْكَبِيرُ أَكْثَرُ عَقْلًا
وَلَكِنَّهُ أَشْغَلُ قَلْبًا .
وَلَعَمْرِي لَقَدْ فَحَصَ الْأَحْنَفُ عَنْ الْمَعْنَى
وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ قَوَاطِعَ الْكَبِيرِ كَثِيرَةٌ : فَمِنْهَا
: مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحْيَاءِ
.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ رَقَّ
وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : يَرْتَعُ الْجَهْلُ
بَيْنَ الْحَيَاءِ وَالْكِبَرِ فِي الْعِلْمِ .
وَمِنْهَا : وُفُورُ شَهَوَاتِهِ وَتَقَسُّمُ
أَفْكَارِهِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : صَرْفُ الْهَوَى عَنْ ذِي الْهَوَى
عَزِيزُ إنَّ الْهَوَى لَيْسَ لَهُ تَمْيِيزُ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ
الْقَلْبَ إذَا عَلِقَ كَالرَّهْنِ إذَا غُلِقَ .
وَمِنْهَا : الطَّوَارِقُ الْمُزْعِجَةُ وَالْهُمُومُ
الْمُذْهِلَةُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْهَمُّ قَيْدُ
الْحَوَاسِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ
لَاقِي مِنْ الْعِلْمِ أَشُدَّهُ
.
وَمِنْهَا : كَثْرَةُ اشْتِغَالِهِ وَتَرَادُفُ
حَالَاتِهِ حَتَّى أَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ زَمَانَهُ وَتَسْتَنْفِدُ أَيَّامَهُ .
فَإِذَا كَانَ ذَا رِئَاسَةٍ أَلْهَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ
ذَا مَعِيشَةٍ قَطَعَتْهُ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَر : الشَّغْلُ مَجْهَدَةٌ
وَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ .
فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَنِيَ فِي
طَلَبِهِ وَيَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ بِهِ ، فَرُبَّمَا شَحَّ الزَّمَانُ بِمَا
سَمَحَ وَضَنَّ بِمَا مَنَحَ .
وَيَبْتَدِئُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَوَّلِهِ وَيَأْتِيهِ مِنْ
مُدْخَلِهِ وَلَا يَتَشَاغَلُ بِطَلَبِ مَا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ فَيَمْنَعُهُ
ذَلِكَ مِنْ إدْرَاكِ مَا لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ .
فَإِنَّ لِكُلِّ عِلْمٍ فُصُولًا مُذْهِلَةً وَشُذُورًا
مُشْغِلَةً ، إنْ صَرَفَ إلَيْهَا نَفْسَهُ قَطَعَتْهُ عَمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهُ .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ : مَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ
بَارِعًا فَبُطُونُ الصُّحُفِ أَوْلَى بِهِ مِنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِتَرْكِ مَا لَا
يَعْنِيك تُدْرِكُ مَا يُغْنِيك
.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ مَا
اُسْتُصْعِبَ عَلَيْهِ إشْعَارًا لِنَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُضُولِ عِلْمِهِ
وَإِعْذَارًا لَهَا فِي تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطِيَّةُ النَّوْكَى
وَعُذْرُ الْمُقَصِّرِينَ .
وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَسَهَّلَ وَتَرَكَ
مِنْهُ مَا تَعَذَّرَ كَانَ كَالْقَنَّاصِ إذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ
تَرَكَهُ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا خَائِبًا إذْ لَيْسَ يَرَى الصَّيْدَ إلَّا
مُمْتَنِعًا .
كَذَلِكَ الْعِلْمُ كُلُّهُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ جَهِلَهُ
، سَهْلٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَهُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا
مُسْتَوْدَعَةٌ فِي كَلَامٍ مُتَرْجَمٍ عَنْهَا .
وَكُلُّ كَلَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فَهُوَ يَجْمَعُ لَفْظًا
مَسْمُوعًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا ، فَاللَّفْظُ كَلَامٌ يُعْقَلُ بِالسَّمْعِ
وَالْمَعْنَى تَحْتَ اللَّفْظِ يُفْهَمُ بِالْقَلْبِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعُلُومُ
مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : قَلْبٌ مُفَكِّرُ ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ ،
وَبَيَانٌ مُصَوِّرٌ .
فَإِذَا عَقَلَ الْكَلَامَ بِسَمْعِهِ فَهِمَ
مَعَانِيَهُ بِقَلْبِهِ .
وَإِذَا فَهِمَ الْمَعَانِيَ سَقَطَ عَنْهُ كُلْفَةُ
اسْتِخْرَاجِهَا وَبَقِيَ عَلَيْهِ مُعَانَاةُ حِفْظِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا ؛
لِأَنَّ الْمَعَانِيَ شَوَارِدُ تَضِلُّ بِالْإِغْفَالِ ، وَالْعُلُومُ
وَحْشِيَّةٌ تَنْفِرُ بِالْإِرْسَالِ
.
فَإِذَا حَفِظَهَا بَعْدَ الْفَهْمِ أَنِسَتْ ، وَإِذَا
ذَكَرَهَا بَعْدَ الْأُنْسِ رَسَتْ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ أَكْثَرَ
الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ لَمْ يَنْسَ مَا عَلِمَ وَاسْتَفَادَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا لَمْ يُذَاكِرْ ذُو
الْعُلُومِ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ عِلْمًا نَسِيَ مَا تَعَلَّمَا فَكَمْ
جَامِعٍ لِلْكُتُبِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ يَزِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ فِي جَمْعِهِ
عَمَى
وَإِنْ لَمْ
يَفْهَمْ مَعَانِيَ مَا سَمِعَ كَشَفَ عَنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنْهَا
لِيَعْلَمَ الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ فَهْمِهَا فَإِنَّهُ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ
الْأَشْيَاءِ وَعِلَلِهَا يَصِلُ إلَى تَلَافِي مَا شَذَّ وَصَلَاحِ مَا فَسَدَ .
وَلَيْسَ يَخْلُو السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ
عَنْهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى
الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي السَّامِعِ
الْمُسْتَخْرِجِ .
فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهَا
لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِتَقْصِيرِ اللَّفْظِ عَنْ
الْمَعْنَى فَيَصِيرُ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَبَبًا
مَانِعًا مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ
حَصْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَعِيِّهِ ، وَإِمَّا مِنْ بَلَادَتِهِ وَقِلَّةِ فَهْمِهِ .
الْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِزِيَادَةِ
اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عِلَّةً مَانِعَةً مِنْ فَهْمِ
الْمَقْصُودِ مِنْهُ .
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا
مِنْ هَذْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِكْثَارِهِ ، وَإِمَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ
سَامِعِهِ .
وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِمُوَاضَعَةٍ
يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا السَّامِعُ
لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَهَا .
وَأَمَّا تَقْصِيرُ اللَّفْظِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ الْأَسْبَابِ
الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّك لَسْت تَجِدُ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ
الْكَلَامِ ، وَإِنَّمَا تَجِدُهُ فِي بَعْضِهِ .
فَإِنْ عَدَلْت عَنْ الْكَلَامِ الْمُقَصِّرِ إلَى
الْكَلَامِ الْمُسْتَوْفِي ، وَعَنْ الزَّائِدِ إلَى الْكَافِي أَرَحْت نَفْسَك
مِنْ تَكَلُّفِ مَا يَكِدُّ خَاطِرَك
.
وَإِنْ أَقَمْت عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إمَّا لِضَرُورَةٍ
دَعَتْك إلَيْهِ عِنْدَ إعْوَازِ غَيْرِهِ ، أَوْ لِحَمِيَّةٍ دَاخَلَتْك عِنْدَ
تَعَذُّرِ فَهْمِهِ ، فَانْظُرْ فِي سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ .
فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ
لِحَصْرٍ وَالزِّيَادَةُ
لِهَذْرٍ سَهُلَ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ الْمَعْنَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ
الْكَلَامِ مَحْصُولٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلُّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ
الصَّحِيحِ وَفِي الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ دَلِيلٌ .
وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى
دَلِيلًا لِسُوءِ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ بِفَهْمِ السَّامِعِ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ
أَسْهَلَ .
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى
لِسُوءِ فَهْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ حَالًا ، وَأَبْعَدُهَا
اسْتِخْرَاجًا ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُكَلِّمُك فَأَنْتَ مِنْ فَهْمِهِ
أَبْعَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِفَرْطِ ذَكَائِك وَجَوْدَةِ خَاطِرِك تَتَنَبَّهُ
بِإِشَارَتِهِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا قَصَّرَ
فِيهِ فَتَكُونُ فَضِيلَةُ الِاسْتِيفَاءِ لَك وَحَقُّ التَّقَدُّمِ لَهُ .
وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَضَرْبَانِ : عَامَّةٌ
وَخَاصَّةٌ .
أَمَّا الْعَامَّةُ فَهِيَ مُوَاضَعَةُ الْعُلَمَاءِ
فِيمَا جَعَلُوهُ أَلْقَابًا لِمَعَانٍ لَا يَسْتَغْنِي الْمُتَعَلِّمُ عَنْهَا
وَلَا يَقِفُ عَلَى مَعْنَى كَلَامِهِمْ إلَّا بِهَا ، كَمَا جَعَلَ
الْمُتَكَلِّمُونَ الْجَوَاهِرَ ، وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَجْسَامَ أَلْقَابًا
تَوَاضَعُوهَا لِمَعَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا .
وَلَسْت تَجِدُ مِنْ الْعُلُومِ عِلْمًا يَخْلُو مِنْ
هَذَا .
وَهَذِهِ الْمُوَاضَعَةُ الْعَامَّةُ تُسَمَّى عُرْفًا .
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَمُوَاضَعَةُ الْوَاحِدِ يَقْصِدُ
بِبَاطِنِ كَلَامِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ
.
فَإِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ رَمْزًا ،
وَإِنْ كَانَتْ فِي الشِّعْرِ كَانَتْ لُغْزًا .
فَأَمَّا الرَّمْزُ فَلَسْت تَجِدُهُ فِي عِلْمٍ
مَعْنَوِيٍّ ، وَلَا فِي كَلَامٍ لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ غَالِبًا
بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا بِمَذْهَبٍ شَنِيعٍ يُخْفِيهِ مُعْتَقِدُهُ
وَيَجْعَلُ الرَّمْزَ سَبَبًا لِتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَاحْتِمَالِ
التَّأْوِيلِ فِيهِ سَبَبًا لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ .
وَإِمَّا لِمَا يَدَّعِي أَرْبَابُهُ أَنَّهُ عِلْمٌ
مُعْوِزٌ ، وَأَنَّ إدْرَاكَهُ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ ، كَالصَّنْعَةِ الَّتِي
وَضَعَهَا أَرْبَابُهَا اسْمًا لِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ
فَرَمَزُوا
بِأَوْصَافِهِ ، وَأَخْفَوْا مَعَانِيَهُ ؛ لِيُوهِمُوا الشُّحَّ بِهِ وَالْأَسَفَ
عَلَيْهِ خَدِيعَةً لِلْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : مُنِعْتُ شَيْئًا فَأَكْثَرْت
الْوَلُوعَ بِهِ أَحَبُّ شَيْءٍ إلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا ثُمَّ لِيَكُونُوا
بُرَاءً مِنْ عُهْدَةِ مَا قَالُوهُ إذَا جُرِّبَ .
وَلَوْ كَانَ مَا تَضَمَّنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ،
وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ الرُّمُوزِ مَعْنًى صَحِيحًا وَعِلْمًا مُسْتَفَادًا
لَخَرَجَ مِنْ الرَّمْزِ الْخَفِيِّ إلَى الْعِلْمِ الْجَلِيِّ ، فَإِنَّ
أَغْرَاضَ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ لَا تَتَّفِقُ عَلَى سَتْرِ
سَلِيمٍ وَإِخْفَاءِ مُفِيدٍ .
وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ : السَّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ
وَلَا يَلْقَاك دُونَ الْخَيْرِ مِنْ سَتْرِ وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَ الرَّمْزُ
مِنْ الْكَلَامِ فِيمَا يُرَادُ تَفْخِيمُهُ مِنْ الْمَعَانِي ، وَتَعْظِيمُهُ
مِنْ الْأَلْفَاظِ ؛ لِيَكُونَ أَحْلَى فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعًا ، وَأَجَلَّ فِي
النُّفُوسِ مَوْضِعًا ، فَيَصِيرُ بِالرَّمْزِ سَائِرًا وَفِي الصُّحُفِ
مُخَلَّدًا .
كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ فِيثَاغُورْسَ فِي وَصَايَاهُ
الْمَرْمُوزَةِ أَنَّهُ قَالَ : احْفَظْ مِيزَانَك مِنْ الْبَذِيءِ ، وَأَوْزَانَك
مِنْ الصَّدِيءِ .
يُرِيدُ بِحِفْظِ الْمِيزَانِ مِنْ الْبَذِيءِ حِفْظَ
اللِّسَانِ مِنْ الْخَنَا ، وَحِفْظِ الْأَوْزَانِ مِنْ الصَّدَى حِفْظَ الْعَقْلِ
مِنْ الْهَوَى .
فَصَارَ بِهَذَا الرَّمْزِ مُسْتَحْسَنًا وَمُدَوَّنًا
وَلَوْ قَالَهُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَالْمَعْنَى الصَّحِيحِ ، لَمَا سَارَ
عَنْهُ ، وَلَا اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ
.
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْجُوبَ عَنْ الْأَفْهَامِ
كَالْمَحْجُوبِ عَنْ الْأَبْصَارِ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ
التَّعْظِيمِ ، وَفِي الْقُلُوبِ مِنْ التَّفْخِيمِ .
وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجِبْ هَانَ
وَاسْتُرْذِلَ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِحْلَاؤُهُ فِيمَا قَلَّ وَهُوَ
بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ مُسْتَقَلٌّ
.
فَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُنْتَشِرَةُ الَّتِي تَتَطَلَّعُ
النُّفُوسُ إلَيْهَا فَقَدْ اسْتَغْنَتْ بِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ
الدَّاعِي إلَيْهَا عَنْ الِاسْتِدْعَاءِ
إلَيْهَا
بِرَمْزٍ مُسْتَحْلٍ وَلَفْظٍ مُسْتَغْرَبٍ .
بَلْ ذَلِكَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا ؛ لِمَا فِي التَّشَاغُلِ
بِاسْتِخْرَاجِ رُمُوزِهَا مِنْ الْإِبْطَاءِ عَنْ إدْرَاكِهَا ، فَهَذَا حَالُ
الرَّمْزِ .
وَأَمَّا اللُّغْزُ فَهُوَ تَحَرِّي أَهْلِ الْفَرَاغِ
وَشُغْلُ ذَوِي الْبَطَالَةِ ؛ لِيَتَنَافَسُوا فِي تَبَايُنِ قَرَائِحِهِمْ ، وَيَتَفَاخَرُوا
فِي سُرْعَةِ خَوَاطِرِهِمْ ، فَيَسْتَكِدُّوا خَوَاطِرَ قَدْ مُنِحُوا صِحَّتَهَا
فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَلَا يُفِيدُ عِلْمًا ، كَأَهْلِ الصِّرَاعِ
الَّذِينَ قَدْ صَرَفُوا مَا مُنِحُوهُ مِنْ صِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ إلَى صِرَاعٍ
كَدُودٍ يَصْرَعُ عُقُولَهُمْ وَيَهِدُّ أَجْسَامَهُمْ وَلَا يُكْسِبُهُمْ حَمْدًا
وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ نَفْعًا
.
اُنْظُرْ إلَى قَوْلِ الشَّاعِر : رَجُلٌ مَاتَ وَخَلَّفَ
رَجُلًا ابْنَ أُمِّ ابْنَ أَبِي أُخْتِ أَبِيهِ مَعَهُ أُمُّ بَنِي أَوْلَادِهِ
وَأَبَا أُخْتِ بَنِي عَمِّ أَخِيهِ أَخْبَرَنِي عَنْ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
وَقَدْ رَوَّعَك صُعُوبَةُ مَا تَضَمَّنَهُمَا مِنْ السُّؤَالِ .
إذَا اسْتَكْدَيْتَ الْفِكْرَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ فَعَلِمْت
أَنَّهُ أَرَادَ مَيْتًا خَلَّفَ أَبًا وَزَوْجَةً وَعَمًّا ، مَا الَّذِي
أَفَادَك مِنْ الْعِلْمِ وَنَفَى عَنْك مِنْ الْجَهْلِ ؟ أَلَسْت بَعْدَ عِلْمِهِ
تَجْهَلُ مَا كُنْت جَاهِلًا مِنْ قَبْلِهِ ؟ وَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ قَلَبَ لَك
السُّؤَالَ فَأَخَّرَ مَا قُدِّمَ وَقَدَّمَ مَا أُخِّرَ لَكُنْت فِي الْجَهْلِ
بِهِ قَبْلَ اسْتِدْرَاجِهِ كَمَا كُنْت فِي الْجَهْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَدَدْت
نَفْسَك ، وَأَتْعَبْت خَاطِرَك ثُمَّ لَا تَعْدَمُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْك مِثْلُ هَذَا
مِمَّا تَجْهَلُهُ فَتَكُونُ فِيهِ كَمَا كُنْت قَبْلَهُ .
فَاصْرِفْ نَفْسَك - تَوَلَّى اللَّهُ رُشْدَك - عَنْ
عُلُومِ النَّوْكَى وَتَكَلُّفِ الْبَطَّالِينَ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } .
ثُمَّ اجْعَلْ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك مِنْ
صِحَّةِ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةِ الْخَاطِرِ مَصْرُوفًا إلَى عِلْمِ مَا يَكُونُ
إنْفَاقُ خَاطِرِك فِيهِ مَذْخُورًا ، وَكَدُّ فِكْرِك فِيهِ مَشْكُورًا .
وَقَدْ رَوَى
سَعِيدُ بْنُ
أَبِي هِنْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ
الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ } .
وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نُغْبَنَ
بِفَضْلِ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا ، وَنَجْهَلَ نَفْعَ إحْسَانِهِ إلَيْنَا .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مِنْ الْفَرَاغِ
تَكُونُ الصَّبْوَةُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ
فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ أَوْ
حَمْدٍ حَصَّلَهُ ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ ، فَقَدْ عَقَّ
يَوْمَهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَقَدْ أَهَاجَ الْفَرَاغُ
عَلَيْك شُغْلًا وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا
فِي الْكَلَامِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ مَعَانِيهِ حَتَّى
خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ وَالْكَشْفُ إلَى الْإِغْمَاضِ .
وَأَمَّا
الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِ
السَّامِعِ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ
الْمَعْنَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا
بِنَفْسِهِ ، أَوْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ ، أَوْ يَكُونَ نَتِيجَةً مِنْ
غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَضَرْبَانِ :
جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ .
فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَهُوَ يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ
مُتَصَوِّرِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُشْكِلُ
عَلَى مَنْ تَصَوَّرَهُ .
وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَيَحْتَاجُ فِي إدْرَاكِهِ إلَى زِيَادَةِ
تَأَمُّلٍ وَفَضْلِ مُعَانَاةٍ لِيَنْجَلِيَ عَمَّا أَخْفَى وَيَنْكَشِفَ عَمَّا
أُغْمِضَ ، وَبِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِيهِ يَكُونُ الِارْتِيَاضُ بِهِ
وَبِالِارْتِيَاضِ بِهِ يَسْهُلُ مِنْهُ مَا اُسْتُصْعِبَ وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا
بَعُدَ ، فَإِنَّ لِلرِّيَاضَةِ جَرَاءَةً وَلِلدِّرَايَةِ تَأْثِيرًا ، وَأَمَّا
مَا كَانَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَقُومَ
الْمُقَدِّمَةُ بِنَفْسِهَا وَإِنْ تَعَدَّتْ إلَى غَيْرِهَا ، فَتَكُونُ كَالْمُسْتَقِلِّ
بِنَفْسِهِ فِي تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ مُسْتَدْعِيًا لِنَتِيجَتِهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى نَتِيجَتِهِ
فَيَتَعَذَّرُ فَهْمُ الْمُقَدِّمَةِ إلَّا بِمَا يَتْبَعُهَا مِنْ النَّتِيجَةِ ؛
لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضًا وَتَبْعِيضُ الْمَعْنَى أَشْكَلُ لَهُ وَبَعْضُهُ لَا
يُغْنِي عَنْ كُلِّهِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ نَتِيجَةً لِغَيْرِهِ فَهُوَ لَا
يُدْرَكُ إلَّا بِأَوَّلِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إلَّا
بِمُقَدِّمَتِهِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قَبْلَ الْمُقَدِّمَةِ عَنَاءٌ ،
وَإِتْعَابُ الْفِكْرِ فِي اسْتِنْبَاطِهِ قَبْلَ قَاعِدَتِهِ إيذَاءٌ .
فَهَذَا يُوَضِّحُ تَعْلِيلَ مَا فِي الْمَعَانِي مِنْ
الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِهَا .
وَأَمَّا
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ لِعِلَّةٍ فِي
الْمُسْتَمِعِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ .
أَحَدُهُمَا : مِنْ ذَاتِهِ .
وَالثَّانِي : مِنْ طَارِئٍ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَاتِهِ فَيَتَنَوَّعُ
نَوْعَيْنِ : أَحَدَهُمَا : مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى ،
وَالثَّانِيَ : مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى
وَفَهْمِهِ فَهُوَ الْبَلَادَةُ وَقِلَّةُ الْفِطْنَةِ وَهُوَ الدَّاءُ الْعَيَاءُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا فَقَدَ
الْعَالِمُ الذِّهْنَ قَلَّ عَلَى الْأَضْدَادِ احْتِجَاجُهُ ، وَكَثُرَ إلَى
الْكُتُبِ احْتِيَاجُهُ .
وَلَيْسَ لِمَنْ بُلِيَ بِهِ إلَّا الصَّبْرُ
وَالْإِقْلَالُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ أَقْدَرُ ، وَبِالصَّبْرِ أَحْرَى
أَنْ يَنَالَ وَيَظْفَرَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : قَدِّمْ لِحَاجَتِك
بَعْضَ لَجَاجَتِك .
وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ مَنْ هَذَا حَالُهُ
إلَّا أَنْ يَكُونَ غَالِبَ الشَّهْوَةِ ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ ، فَيُشْعِرُ
قَلْبَهُ الصَّبْرَ ؛ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ ، وَجَسَدَهُ احْتِمَالَ التَّعَبِ ؛
لِبُعْدِ هِمَّتِهِ .
فَإِذَا تَلَوَّحَ لَهُ الْمَعْنَى بِمُسَاعَدَةِ الشَّهْوَةِ
أَعْقَبَهُ ذَلِكَ إلْحَاحُ الْآمِلِينَ وَنَشَاطُ الْمُدْرِكِينَ فَقَلَّ
عِنْدَهُ كُلُّ كَثِيرٍ ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَسِيرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنَالُونَ مَا تُحِبُّونَ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا
تَكْرَهُونَ ، وَلَا تَبْلُغُونَ مَا تَهْوُونَ إلَّا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : أَتْعِبْ قَدَمَك ،
فَإِنْ تَعِبَ قَدَّمَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا اشْتَدَّ الْكَلَفُ
، هَانَتْ الْكُلَفُ ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يَدْخُلْك مُضْجِرَةٌ
فَالنُّجْحُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ
وَأَمَّا الْمَانِعُ
مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ فَهُوَ النِّسْيَانُ الْحَادِثُ عَنْ
غَفْلَةِ التَّقْصِيرِ وَإِهْمَالِ التَّوَانِي .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ بُلِيَ بِهِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ
تَقْصِيرَهُ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ وَيُوقِظَ غَفْلَتَهُ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ .
فَقَدْ قِيلَ لَا يُدْرِكُ الْعِلْمَ مَنْ لَا يُطِيلُ
دَرْسَهُ ، وَيَكُدُّ نَفْسَهُ
.
وَكَثْرَةُ الدَّرْسِ كَدُودٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ
إلَّا مَنْ يَرَى الْعِلْمَ مَغْنَمًا ، وَالْجَهَالَةَ مَغْرَمًا .
فَيَحْتَمِلُ تَعَبَ الدَّرْسِ لِيُدْرِكَ رَاحَةَ
الْعِلْمِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَعَرَّةَ الْجَهْلِ .
فَإِنَّ نَيْلَ الْعَظِيمِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَعَلَى
قَدْرِ الرَّغْبَةِ تَكُونُ الْمَطَالِبُ ، وَبِحَسَبِ الرَّاحَةِ يَكُونُ
التَّعَبُ .
وَقَدْ قِيلَ : طَلَبُ الرَّاحَةِ قِلَّةُ
الِاسْتِرَاحَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَكْمَلُ الرَّاحَةِ مَا
كَانَتْ عَنْ كَدِّ التَّعَبِ ، وَأَعَزُّ الْعِلْمِ مَا كَانَ عَنْ ذُلِّ
الطَّلَبِ .
وَرُبَّمَا اسْتَثْقَلَ الْمُتَعَلِّمُ الدَّرْسَ
وَالْحِفْظَ وَاتَّكَلَ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعَانِي عَلَى الرُّجُوعِ إلَى
الْكُتُبِ وَالْمُطَالَعَةِ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ إلَّا كَمَنْ
أَطْلَقَ مَا صَادَهُ ثِقَةً بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ
فَلَا تُعْقِبُهُ الثِّقَةُ إلَّا خَجَلًا وَالتَّفْرِيطُ إلَّا نَدَمًا .
وَهَذِهِ حَالٌ قَدْ يَدْعُو إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ
أَشْيَاءِ : إمَّا الضَّجَرُ مِنْ مُعَانَاةِ الْحِفْظِ وَمُرَاعَاتِهِ وَطُولِ
الْأَمَلِ فِي التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَشَاطِهِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ فِي عَزِيمَتِهِ .
وَلَيْسَ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّجُورَ خَائِبٌ ، وَأَنَّ
الطَّوِيلَ الْأَمَلِ مَغْرُورٌ ، وَأَنَّ الْفَاسِدَ الرَّأْيِ مُصَابٌ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا : حَرْفٌ فِي
قَلْبِك ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ فِي كُتُبِك .
وَقَالُوا :
لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَك الْوَادِيَ ،
وَلَا يُعَمِّرُ بِك النَّادِيَ ، وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ يَنْفَعُنِي قَلْبِي وِعَاءٌ
لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِي إنْ كُنْت فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ
مَعِي
أَوْ كُنْت فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ وَرُبَّمَا اعْتَنَى
الْمُتَعَلِّمُ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ وَلَا فَهْمٍ حَتَّى يَصِيرَ
حَافِظًا لِأَلْفَاظِ الْمَعَانِي قَيِّمًا بِتِلَاوَتِهَا .
وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُهَا وَلَا يَفْهَمُ مَا تَضَمَّنَهَا
يَرْوِي بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ ، وَيُخْبِرُ عَنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ .
فَهُوَ كَالْكِتَابِ الَّذِي لَا يَدْفَعُ شُبْهَةً ،
وَلَا يُؤَيِّدُ حُجَّةً .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الرِّعَايَةُ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُونُوا
لِلْعِلْمِ رُعَاةً ، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ، فَقَدْ يَرْعَوِي مَنْ لَا
يَرْوِي ، وَيَرْوِي مَنْ لَا يَرْعَوِي .
وَحَدَّثَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِحَدِيثٍ فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا سَعِيدٍ ، عَمَّنْ ؟ قَالَ : مَا تَصْنَعُ بِعَمَّنْ ،
أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ نَالَتْك عِظَتُهُ ، وَقَامَتْ عَلَيْك حُجَّتُهُ .
وَرُبَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَصَوُّرِهِ ،
وَأَغْفَلَ تَقْيِيدَ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِ ثِقَةً بِمَا اسْتَقَرَّ فِي
ذِهْنِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الشَّكْلَ مُعْتَرِضٌ وَالنِّسْيَانَ
طَارِقٌ .
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَيِّدُوا الْعِلْمَ
بِالْكِتَابِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ : اسْتَعْمِلْ يَدَك ، أَيْ
اُكْتُبْ حَتَّى تَرْجِعَ إذَا نَسِيتَ إلَى مَا كَتَبْتَ } .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : اجْعَلْ مَا فِي
الْكُتُبِ رَأْسَ الْمَالِ ، وَمَا فِي الْقَلْبِ النَّفَقَةَ .
وَقَالَ مَهْبُودٌ .
لَوْلَا مَا عَقَدَتْهُ الْكُتُبُ مِنْ تَجَارِبِ
الْأَوَّلِينَ ، لَانْحَلَّ مَعَ النِّسْيَانِ عُقُودُ الْآخِرِينَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إنَّ هَذِهِ الْآدَابَ
نَوَافِرُ تَنِدُّ عَنْ عَقْلِ الْأَذْهَانِ فَاجْعَلُوا الْكُتُبَ عَنْهَا
حُمَاةً ، وَالْأَقْلَامَ لَهَا رُعَاةً .
وَأَمَّا الطَّوَارِئُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا :
شُبْهَةٌ تَعْتَرِضُ الْمَعْنَى فَتَمْنَعُ عَنْ
نَفَسِ تَصَوُّرِهِ
وَتَدْفَعُ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ تِلْكَ
الشُّبْهَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِالسُّؤَالِ وَالنَّظَرِ ؛ لِيَصِلَ إلَى تَصَوُّرِ
الْمَعْنَى وَإِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا تُخْلِ
قَلْبَك مِنْ الْمُذَاكَرَةِ فَتَعُدْ عَقِيمًا ، وَلَا تُعْفِ طَبْعَك مِنْ
الْمُنَاظَرَةِ فَيَعُدْ سَقِيمًا
.
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : شِفَاءُ الْعَمَى طُولُ السُّؤَالِ
وَإِنَّمَا دَوَامُ الْعَمَى طُولُ السُّكُوتِ عَلَى الْجَهْلِ فَكُنْ سَائِلًا
عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ
وَالثَّانِي : أَفْكَارٌ تُعَارِضُ الْخَاطِرِ فَيَذْهَلُ عَنْ تَصَوُّرِ
الْمَعْنَى .
وَهَذَا سَبَبٌ قَلَّمَا يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ لَا
سِيَّمَا فِيمَنْ انْبَسَطَتْ آمَالُهُ وَاتَّسَعَتْ أَمَانِيهِ .
وَقَدْ يَقِلُّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي غَيْرِ
الْعِلْمِ أَرَبٌ ، وَلَا فِيمَا سِوَاهُ هِمَّةٌ ، فَإِنْ طَرَأَتْ عَلَى
الْإِنْسَانِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُكَابَرَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْفَهْمِ
وَغَلَبَةِ قَلْبِهِ عَلَى التَّصَوُّرِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ
أَشَدُّ نُفُورًا ، وَأَبْعَدُ قَبُولًا .
وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ بِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ
عَمِيَ ، وَلَكِنْ يَعْمَلُ فِي دَفْعِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ هَمٍّ مُذْهِلٍ
أَوْ فِكْرٍ قَاطِعٍ لِيَسْتَجِيبَ لَهُ الْقَلْبُ مُطِيعًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَيْسَ بِمُغْنٍ فِي
الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَفِيعُ وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : إنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ تَنَافُرَ كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ
فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي التَّعْلِيمِ ، وَالتَّوَسُّطِ فِي
التَّقْدِيمِ ؛ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا ، وَيَدُومَ نَشَاطُهَا .
فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْمُسْتَمِعِ مِنْ
الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ الْمَعَانِي .
وَهَا
هُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ .
وَلَكِنَّهُ قَدْ يُعَرَّى مِنْ بَعْضِ الْكَلَامِ ،
فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ ، وَلَمْ نَسْتَجِزْ
الْإِخْلَالَ بِذِكْرِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَا
يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إلَى تَأَمُّلِ الْخَطِّ بِهِ .
وَالْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهِ هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
مِنْ أَقْسَامِهِ وَمِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا بِالْخَطِّ ، مَحْفُوظًا
بِالْكِتَابَةِ ، مَأْخُوذًا بِالِاسْتِخْرَاجِ ، فَكَانَ الْخَطُّ حَافِظًا لَهُ
وَمُعَبِّرًا عَنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى
: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } قَالَ : يَعْنِي
الْخَطَّ .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : {
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ }
يَعْنِي الْخَطَّ { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } يَعْنِي الْخَطَّ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْخَطُّ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ ،
وَحُسْنُهُ أَحَدُ الْفَصَاحَتَيْنِ
.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى : الْخَطُّ سَمْطُ
الْحِكْمَةِ بِهِ يُفْصَلُ شُذُورُهَا ، وَيُنَظَّمُ مَنْثُورُهَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : اللِّسَانُ مَقْصُورٌ عَلَى
الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ وَالْقَلَمُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهُوَ
لِلْغَابِرِ الْكَائِنِ مِثْلُهُ لِلْقَائِمِ الدَّائِمِ .
وَقَالَ حَكِيمُ الرُّومِ : الْخَطُّ هَنْدَسَةٌ
رُوحَانِيَّةٌ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ بِآلَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ .
وَقَالَ حَكِيمُ الْعَرَبِ : الْخَطُّ أَصْلٌ فِي
الرُّوحِ وَإِنْ ظَهَرَ بِحَوَاسِّ الْجَسَدِ .
وَاخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ الْخَطَّ فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّ أَوَّلَ
مَنْ كَتَبَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ سَائِرَ الْكُتُبِ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فِي طِينٍ ثُمَّ طَبَخَهُ فَلَمَّا غَرِقَتْ الْأَرْضُ
فِي أَيَّامِ نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - بَقِيَتْ
الْكِتَابَةُ فَأَصَابَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابَهُمْ .
وَبَقِيَ الْكِتَابُ الْعَرَبِيُّ إلَى أَنْ خَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إسْمَاعِيلَ فَأَصَابَهُ وَتَعَلَّمَهَا .
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ
إدْرِيسُ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَتْ الْعَرَبُ
تُعَظِّمُ قَدْرَ الْخَطِّ وَتَعُدُّهُ مِنْ أَجَلِّ نَافِعٍ حَتَّى قَالَ
عِكْرِمَةُ : بَلَغَ فِدَاءُ أَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ حَتَّى إنَّ
الرَّجُلَ لِيُفَادَى عَلَى أَنَّهُ يُعَلِّمُ الْخَطَّ ، لِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي
نُفُوسِهِمْ مِنْ عِظَمِ خَطَرِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَظُهُورِ نَفْعِهِ
وَأَثَرِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اقْرَأْ وَرَبُّك الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ } .
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ ، وَأَعَدَّ ذَلِكَ مِنْ
نِعَمِهِ الْعِظَامِ ، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجِسَامِ ، حَتَّى أَقْسَمَ بِهِ فِي
كِتَابِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } .
فَأَقْسَمَ بِالْقَلَمِ وَمَا يُخَطُّ بِالْقَلَمِ .
وَاخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّ
أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ وَجَدَهَا بَعْدَ
الطُّوفَانِ إسْمَاعِيلُ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهَا وَوَضَعَهَا إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى لَفْظِهِ وَمَنْطِقِهِ .
وَحَكَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْأَوَائِلِ أَسْمَاؤُهُمْ أَبْجَدُ
، وَهَوَّزُ ، وَحُطِّي ، وَكَلَمُنْ ، وَسَعْفَص ، وَقَرْشَت ، وَكَانُوا مُلُوكَ
مَدْيَنَ .
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ أَوَّلَ
مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيِّ مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ
وَمِنْ الْأَنْبَارِ انْتَشَرَتْ
.
وَحَكَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ
بِهَا مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ ، وَأَسْلَمُ بْنُ سَدْرَةَ وَعَامِرُ بْنُ حَدْرَةَ .
فَمُرَامِرُ وَضَعَ الصُّوَرَ ، ، وَأَسْلَمُ فَصَّلَ
وَوَصَلَ ، وَعَامِرٌ وَضَعَ الْإِعْجَامَ .
وَلَمَّا كَانَ
الْخَطُّ بِهَذَا الْحَالِ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ الْعِلْمِ أَنْ
يَعْبَأَ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا : تَقْوِيمُ الْحُرُوفِ عَلَى أَشْكَالِهَا
الْمَوْضُوعَةِ لَهَا .
وَالثَّانِي : ضَبْطُ مَا اشْتَبَهَ مِنْهَا بِالنُّقَطِ
وَالْأَشْكَالِ الْمُمَيَّزَةِ لَهَا
.
ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ تَحْسِينِ الْخَطِّ
وَمَلَاحَةِ نَظْمِهِ فَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ حَذِقٍ بِصَنْعَتِهِ وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدَةَ : حُسْنُ الْخَطِّ
لِسَانُ الْيَدِ وَبَهْجَةُ الضَّمِيرِ
.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ : رَدَاءَةُ
الْخَطِّ زَمَانَةُ الْأَدَبِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْبَيَانُ فِي اللِّسَانِ
وَالْخَطُّ فِي الْبَنَانِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَحَدِ
شُعَرَاءِ الْبَصْرَةِ : اُعْذُرْ أَخَاك عَلَى نَذَالَةِ خَطِّهِ وَاغْفِرْ
نَذَالَتَهُ لِجَوْدَةِ ضَبْطِهِ فَإِذَا أَبَانَ عَنْ الْمَعَانِي لَمْ يَكُنْ
تَحْسِينُهُ إلَّا زِيَادَةَ شَرْطِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْخَطَّ لَيْسَ يُرَادُ
مِنْ تَرْكِيبِهِ إلَّا تَبَيُّنُ سِمْطِهِ وَمَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْخَطِّ الْمَفْهُومِ
مِنْ تَصْحِيحِ الْحُرُوفِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ مَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى
الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ وَصِحَّةِ الْإِعْرَابِ .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْعَرَبُ : حُسْنُ الْخَطِّ أَحَدُ
الْفَصَاحَتَيْنِ .
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ
فِي الْكَلَامِ أَنْ يَطْرَحَ الْفَصَاحَةَ وَالْإِعْرَابَ وَإِنْ فَهِمَ ،
وَأَفْهَمَ .
كَذَلِكَ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ فِي
الْخَطِّ أَنْ يَطْرَحَ تَصْحِيحَ الْحُرُوفِ وَتَحْسِينَ الصُّورَةِ ، وَإِنْ
فَهِمَ ، وَأَفْهَمَ .
وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ بِالْخَطِّ مَنْ كَانَ الْخَطُّ مِنْ
جُلِّ فَضَائِلِهِ ، وَأَشْرَفِ خَصَائِلِهِ ، حَتَّى صَارَ عَالِمًا مَشْهُورًا ،
وَسَيِّدًا مَذْكُورًا .
غَيْرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَطْرَحُوا صَرْفَ الْهِمَّةِ
إلَى تَحْسِينِ الْخَطِّ ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الْعِلْمِ وَيَقْطَعُهُمْ
عَنْ التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ .
وَلِذَلِكَ تَجِدُ خُطُوطَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَغْلَبِ
رَدِيئَةً لَا يَخُطُّ إلَّا مَنْ أَسْعَدَهُ
الْقَضَاءُ .
وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : مِنْ سَعَادَةِ
الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ رَدِيءَ الْخَطِّ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُفْنِيهِ
بِالْكِتَابَةِ يَشْغَلُهُ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ .
وَلَيْسَتْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ هِيَ السَّعَادَةَ ،
وَإِنَّمَا السَّعَادَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صَارِفٌ عَنْ الْعِلْمِ .
وَعَادَةُ ذِي الْخَطِّ الْحَسَنِ أَنْ يَتَشَاغَلَ
بِتَحْسِينِ خَطِّهِ عَنْ الْعِلْمِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ بِرَدَاءَةِ
خَطِّهِ سَعِيدًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ سَعَادَةً .
وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْرِضُ لِلْخَطِّ أَسْبَابٌ تَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهِ
وَمَعْرِفَتِهِ كَمَا يَعْرِضُ لِلْكَلَامِ أَسْبَابٌ تَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ
وَصِحَّتِهِ .
وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْخَطِّ
وَفَهْمِ مَا تَضَمَّنَهُ قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا :
إسْقَاطُهُ أَلْفَاظٍ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يَصِيرُ الْبَاقِي بِهَا
مَبْتُورًا لَا يُعْرَفُ اسْتِخْرَاجُهُ ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ .
وَهَذَا يَكُونُ إمَّا مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ أَوْ مِنْ
فَسَادِ نَقْلِهِ .
وَهَذَا يَسْهُلُ اسْتِنْبَاطُهُ عَلَى مَنْ كَانَ
مُرْتَاضًا بِذَلِكَ النَّوْعِ فَيَسْتَدِلُّ بِحَوَاشِي الْكَلَامِ وَمَا سَلِمَ
مِنْهُ عَلَى مَا سَقَطَ أَوْ فَسَدَ ، لَا سِيَّمَا إذَا قَلَّ ؛ لِأَنَّ
الْكَلِمَةَ تَسْتَدْعِي مَا يَلِيهَا وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى تُوَضِّحُ عَنْ الْكَلَامِ
الْمُتَرْجِمِ عَنْهُ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ قَلِيلَ الِارْتِيَاضِ بِذَلِكَ
النَّوْعِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ اسْتِنْبَاطُ الْمَعْنَى مِنْهُ ، لَا
سِيَّمَا إذَا كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي إلَى
الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ فِيمَا قَدْ اسْتَخْرَجَهُ بِالْكِتَابَةِ .
فَإِذَا هُوَ لَمْ يَعْرِفْ تَمَامَ الْكَلَامِ
الْمُتَرْجِمِ عَنْ الْمَعْنَى قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ إدْرَاكِهِ وَضَلَّ فِكْرُهُ
عَنْ اسْتِنْبَاطِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ فِي
أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يَشْكُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ غَيْرِ الزَّائِدِ
مِنْ مَعْرِفَةِ السَّقِيمِ الزَّائِدِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مُشْكَلًا .
وَهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ كَثِيرًا إلَّا أَنْ
يَقْصِدَ الْكَاتِبُ تَعْمِيَةَ كَلَامِهِ فَيُدْخِلُ فِي أَثْنَائِهِ مَا
يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ رَمْزًا يُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ .
فَأَمَّا وُقُوعُهُ سَهْوًا فَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلِمَةِ
وَالْكَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِهِ عَلَى الْمُرْتَاضِ
وَغَيْرِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إسْقَاطُ حُرُوفٍ مِنْ
أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِخْرَاجِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَقَدْ
يَكُونُ هَذَا تَارَةً مِنْ السَّهْوِ فَيَقِلُّ ، وَتَارَةً مِنْ ضَعْفِ
الْهِجَاءِ
فَيَكْثُرُ .
وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : زِيَادَةُ حُرُوفٍ فِي
أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ يَشْكُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْ حُرُوفِهَا .
وَهَذَا يَكُونُ تَارَةً مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ
فَيَقِلُّ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِخْرَاجِ الصَّحِيحِ ، وَيَكُونُ تَارَةً
لِتَعْمِيَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ يَقْصِدُ بِهَا الْكَاتِبُ إخْفَاءَ غَرَضِهِ
فَيَكْثُرُ كَالتَّرَاجِمِ .
وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي .
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : وَصْلُ الْحُرُوفِ
الْمَفْصُولَةِ وَفَصْلُ الْحُرُوفِ الْمَوْصُولَةِ ، فَيَدْعُو ذَلِكَ إلَى
الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ يُنَبِّهُ عَلَيْهَا وَصْلُ حُرُوفِهَا
وَيَمْنَعُ فَصْلُهَا مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ سَهْوٍ قَلَّ فَسَهُلَ
اسْتِخْرَاجُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَةٍ بِالْخَطِّ أَوْ
مَشْقًا تَشْبَقُ بِهِ الْيَدُ كَثِيرًا فَصَعُبَ اسْتِخْرَاجُهُ إلَّا عَلَى
الْمُرْتَاضِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : شَرُّ الْكِتَابَةِ الشَّبَقُ كَمَا أَنَّ شَرَّ الْقِرَاءَةِ
الْهَذْرَمَةُ .
وَإِنْ كَانَ لِلتَّعْمِيَةِ وَالرَّمْزِ لَمْ يُعْرَفْ
إلَّا بِالْمُوَاضَعَةِ .
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ : تَغْيِيرُ الْحُرُوفِ عَنْ
أَشْكَالِهَا وَإِبْدَالِهَا بِأَغْيَارِهَا حَتَّى يَكْتُبَ الْحَاءَ عَلَى
شَكْلِ الْبَاءِ ، وَالصَّادَ عَلَى شَكْلِ الرَّاءِ .
وَهَذَا يَكُونُ فِي رُمُوزِ التَّرَاجِمِ وَلَا يُوقَفُ
عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُوَاضَعَةِ إلَّا لِمَنْ قَدْ زَادَ فِيهِ الذَّكَاءُ
فَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى .
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ : ضَعْفُ الْخَطِّ عَنْ
تَقْوِيمِ الْحُرُوفِ عَلَى الْأَشْكَالِ الصَّحِيحَةِ وَإِثْبَاتِهَا عَلَى
الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ حَتَّى لَا تَكَادَ الْحُرُوفُ تَمْتَازُ عَنْ أَغْيَارِهَا
حَتَّى تَصِيرَ الْعَيْنُ الْمَوْصُولَةُ كَالْفَاءِ وَالْمَفْصُولَةُ كَالْحَاءِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ رَدَاءَةِ الْخَطِّ وَضَعْفِ
الْيَدِ ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مُمْكِنٌ بِفَضْلِ الْمُعَانَاةِ وَشِدَّةِ
التَّأَمُّلِ ، وَرُبَّمَا أَضْجَرَ قَارِئَهُ ، وَأَوْهَى مَعَانِيَهُ ،
وَلِذَلِكَ
قِيلَ :
إنَّ الْخَطَّ الْحَسَنَ لَيَزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحًا .
وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ : إغْفَالُ النُّقَطِ
وَالْأَشْكَالِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمُشْتَبِهَةُ .
وَهَذَا أَيْسَرُ أَمْرًا ، وَأَخَفُّ حَالًا ؛ لِأَنَّ
مَنْ كَانَ مُمَيَّزًا بِصِحَّةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَمَعْرِفَةِ الْخَطِّ لَمْ
تَخْفَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْخَطِّ وَفَهْمُ مَا تَضَمَّنَهُ مَعَ إغْفَالِ
النُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ ، بَلْ اسْتَقْبَحَ الْكُتَّابُ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَاتِ
وَرَأَوْهُ مِنْ تَقْصِيرِ الْكَاتِبِ أَوْ سُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ الْمُكَاتَبِ ،
وَإِنْ كَانَ اسْتِقْبَاحُهُمْ لَهُ فِي مُكَاتَبَةِ الرُّؤَسَاءِ أَكْثَرَ .
حَكَى قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ بَعْضَ كُتَّابِ
الدَّوَاوِينِ حَاسَبَ عَامِلًا فَشَكَا الْعَامِلُ مِنْهُ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ سُلَيْمَانَ وَكَتَبَ رُقْعَةً يَذْكُرُ فِيهَا احْتِجَاجًا لِصِحَّةِ
دَعْوَاهُ ، وَوُضُوحِ شَكْوَاهُ
.
فَوَقَعَ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ
هَذَا ، هَذَا ، فَأَخَذَهَا الْعَامِلُ وَقَرَأَهَا فَظَنَّ أَنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ أَرَادَ بِهَذَا هَذَا إثْبَاتًا لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصِدْقِ قَوْلِهِ ،
كَمَا يُقَالُ فِي إثْبَاتِ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ ، فَحَمَلَ الرُّقْعَةَ إلَى
كَاتِبِ الدِّيوَانِ ، وَأَرَاهُ خَطَّ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ : إنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ قَدْ صَدَّقَ قَوْلِي ، وَصَحَّحَ مَا ذَكَرْتُ .
فَخَفِيَ عَلَى الْكَاتِبِ ذَلِكَ ، وَأُطِيفَ بِهِ
عَلَى كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ فَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مُرَادِ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَرُدَّ إلَيْهِ لِيُسْأَلَ عَنْ مُرَادِهِ بِهِ
فَشَدَّدَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ وَكَتَبَ تَحْتَهَا وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ اسْتِعْظَامًا مِنْهُ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ مُرَادِهِ
حَتَّى احْتَاجَ إلَى إبَانَتِهِ بِالشَّكْلِ .
فَهَذِهِ حَالُ الْكُتَّابِ فِي اسْتِقْبَاحِهِمْ
إعْجَامِ الْمُكَاتَبَاتِ بِالنُّقَطِ وَالْأَشْكَالِ .
فَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَاتَبَاتِ مِنْ سَائِرِ
الْعُلُومِ فَلَمْ يَرَوْهُ قَبِيحًا بَلْ اسْتَحْسَنُوهُ لَا سِيَّمَا فِي كُتُبِ
الْأَدَبِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا مَعْرِفَةُ صِيغَةِ الْأَلْفَاظِ وَكَيْفِيَّةِ
مَخَارِجِهَا مِثْلِ كُتُبِ
النَّحْوِ
وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ الْغَرِيبِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى ضَبْطِهَا
بِالشَّكْلِ وَالْإِعْجَامِ أَكْثَرُ ، وَهِيَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْعُلُومِ
أَيْسَرُ .
وَقَدْ قَالَ النُّورِيُّ : الْخُطُوطُ الْمُعْجَمَةُ
كَالْبُرُودِ الْمُعَلَّمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إعْجَامُ الْخَطِّ يَمْنَعُ
مِنْ اسْتِعْجَامِهِ ، وَشَكْلُهُ يُؤَمِّنُ مِنْ إشْكَالِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : رُبَّ عِلْمٍ لَمْ
تُعْجَمْ فُصُولُهُ فَاسْتُعْجِمَ مَحْصُولُهُ .
وَكَمَا اسْتَقْبَحَ الْكُتَّابُ الشَّكْلَ
وَالْإِعْجَامَ فِي الْمُكَاتَبَاتِ ، وَإِنْ كَانَ فِي كُتُبِ الْعُلُومِ
مُسْتَحْسَنًا ، فَكَذَلِكَ اسْتَحْسَنُوا مَشْقَ الْخَطِّ فِي الْمُكَاتَبَاتِ
وَإِنْ كَانَ فِي كُتُبِ الْعُلُومِ مُسْتَقْبَحًا .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ إدْلَالِهِمْ فِي
الصَّنْعَةِ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ
وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى التَّلْوِيحِ ، وَيَرَوْنَ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِيفَاءِ
شُرُوطِ الْإِبَانَةِ تَقْصِيرًا وَلِفَصْلِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ
التَّقَدُّمِ بِهَذَا الْحَالِ رَأَوْا مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ سَوَادِ
الْمِدَادِ أَثَرًا جَمِيلًا ، وَعَلَى الْفَضْلِ وَالتَّخْصِيصِ دَلِيلًا .
حُكِيَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ رَأَى
عَلَى بَعْضِ ثِيَابِهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَأَخَذَ مِنْ مِدَادِ الدَّوَاةِ
فَطَلَاهُ بِهِ ثُمَّ قَالَ : الْمِدَادُ بِنَا أَحْسَنُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ ، وَأَنْشَدَ :
إنَّمَا الزَّعْفَرَانُ عِطْرُ الْعَذَارَى وَمِدَادُ الدُّوِيِّ عِطْرُ الرِّجَالِ
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْإِبَانَةِ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ
مِنْ فَهْمِ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ لَفْظًا كَانَ أَوْ خَطًّا ،
وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ
.
فَيَنْبَغِي
لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ عَنْ فَهْمِ
الْمَعْنَى لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ سَائِسًا لِنَفْسِهِ مُدَبِّرًا لَهَا فِي حَالِ تَعَلُّمِهِ .
فَإِنَّ لِلنَّفْسِ نُفُورًا يُفْضِي إلَى تَقْصِيرٍ
وَوُفُورًا يَئُولُ إلَى سَرَفٍ وَقِيَادُهَا عَسِرٌ وَلَهَا أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ :
فَحَالُ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ ، وَحَالُ غُلُوٍّ وَإِسْرَافٍ ، وَحَالُ تَقْصِيرٍ
وَإِجْحَافٍ .
فَأَمَّا حَالُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَهِيَ أَنْ
تَخْتَلِفَ قُوَى النَّفْسِ مِنْ جِهَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ : طَاعَةٌ
مُسْعِدَةٌ وَشَفَقَةٌ كَافَّةٌ
.
فَطَاعَتُهَا تَمْنَعُ التَّقْصِيرَ ، وَشَفَقَتُهَا
تَرُدُّ عَنْ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ
.
وَهَذِهِ أَحْمَدُ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ
مِنْ التَّقْصِيرِ نَمَا ، وَمَا صُدَّ عَنْ السَّرَفِ مُسْتَدِيمٌ .
وَالنُّمُوُّ إذَا اسْتَدَامَ فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ
يُسْتَكْمَلَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكَ وَمُفَارَقَةَ
الِاعْتِدَالِ ، فَإِنَّ الْمُسْرِفَ مِثْلُ الْمُقَصِّرِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ
الْحَدِّ .
وَأَمَّا حَالُ الْغُلُوِّ وَالْإِسْرَافِ فَهِيَ أَنْ
تَخْتَصَّ النَّفْسُ بِقُوَى الطَّاعَةِ وَتُقَدِّمَ قَوَّى الشَّفَقَةِ
فَيَبْعَثَهَا اخْتِصَاصُ الطَّاعَةِ عَلَى إفْرَاغِ الْجُهْدِ ، وَيُفْضِي
إفْرَاغُ الْجُهْدِ إلَى عَجْزِ الْكَلَالِ ، فَيُؤَدِّي عَجْزُ الْكَلَالِ إلَى
التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ نُقْصَانًا ، وَالرِّبْحُ خُسْرَانًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : طَالِبُ الْعِلْمِ وَعَامِلُ
الْبِرِّ كَآكِلِ الطَّعَامِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ قُوتًا عَصَمَهُ ، وَإِنْ أَسْرَفَ
فِيهِ أَبْشَمَهُ .
وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ مَنِيَّتُهُ كَأَخْذِ
الْأَدْوِيَةِ الَّتِي فِيهَا شِفَاءٌ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ فِيهَا السُّمُّ
الْمُمِيتُ ، وَأَمَّا حَالُ التَّقْصِيرِ وَالْإِجْحَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَصَّ
النَّفْسُ بِقُوَى الشَّفَقَةِ وَتَعْدَمَ قُوَى الطَّاعَةِ فَيَدْعُوهَا
الْإِشْفَاقُ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَتَمْنَعُهَا الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْإِجَابَةِ
فَلَا تَطْلُبُ شَارِدًا ، وَلَا تَقْبَلُ عَائِدًا ، وَلَا تَحْفَظُ مُسْتَوْدَعًا .
وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ
الشَّارِدَ
، وَيَقْبَلْ الْعَائِدَ ، وَيَحْفَظْ الْمُسْتَوْدَعَ فَقَدَ الْمَوْجُودَ ،
وَلَمْ يَجِدْ الْمَفْقُودَ .
وَمَنْ فَقَدَ مَا وَجَدَ فَهُوَ مُصَابٌ مَحْزُونٌ ،
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا فَقَدَ فَهُوَ خَائِبٌ مَغْبُونٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَجْزُ مَعَ
الْوَانِي ، وَالْفَوْتُ مَعَ التَّوَانِي .
وَقَدْ يَكُونُ لِلنَّفْسِ مَعَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ
حَالَتَانِ مُشْتَرَكَتَانِ بِغَلَبَةِ إحْدَى الْقُوَّتَيْنِ ، فَيَكُونُ
لِلنَّفْسِ طَاعَةٌ وَإِشْفَاقٌ ، وَأَحَدُهُمَا أَغْلَبُ مِنْ الْآخَرِ .
فَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَةُ أَغْلَبَ كَانَتْ إلَى
الْوُفُورِ أَمْيَلَ ، وَإِنْ كَانَ الْإِشْفَاقُ أَغْلَبَ كَانَتْ إلَى
التَّقْصِيرِ أَقْرَبَ .
فَإِذَا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ قَدْرَ طَاعَتِهَا ،
وَخَبَرَ مِنْهَا كُنْهَ إشْفَاقِهَا رَاضَ نَفْسَهُ لِتَثْبُتَ عَلَى أَحَدِ
حَالَاتِهَا .
وَقَدْ أَشَارَ إلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ النَّفْسِ
الْفَرَزْدَقُ فِي قَوْلِهِ : لِكُلِّ امْرِئٍ نَفْسَانِ نَفْسٌ كَرِيمَةٌ
وَأُخْرَى يُعَاصِيهَا الْفَتَى وَيُطِيعُهَا وَنَفْسُك مِنْ نَفْسَيْك تَشْفَعُ لِلنَّدَى
إذَا قَلَّ مِنْ إحْرَازِهِنَّ شَفِيعُهَا وَإِنْ أَهْمَلَ سِيَاسَتَهَا ،
فَأَغْفَلَ رِيَاضَتَهَا ، وَرَامَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْعُنْفِ ، وَيَقْهَرَهَا
بِالْعَسْفِ ، اسْتَشَاطَتْ نَافِرَةً وَلَحَّتْ مُعَانِدَةً فَلَمْ تَنْقَدْ إلَى
طَاعَةٍ وَلَمْ تَنْكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَقَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ : إذَا
زَجَرْت لَجُوجًا زِدْته عَلَقًا وَلَجَّتْ النَّفْسُ مِنْهُ فِي تَمَادِيهَا
فَعُدْ عَلَيْهِ إذَا مَا نَفْسُهُ جَنَحَتْ بِاللِّينِ مِنْك فَإِنَّ اللِّينَ يُثْنِيهَا
فَإِذَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ قِيَادُ نَفْسِهِ وَدَامَ مِنْهُ نُفُورُ قَلْبِهِ
مَعَ سِيَاسَتِهَا ، وَمُعَانَاةِ رِيَاضَتِهَا ، تَرَكَهَا تَرْكَ رَاحَةٍ ،
ثُمَّ عَاوَدَهَا بَعْدَ الِاسْتِرَاحَةِ ، فَإِنَّ إجَابَتَهَا تُسْرِعُ ،
وَطَاعَتُهَا تَرْجِعُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْقَلْبَ يَمُوتُ وَيَحْيَى وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لِلْقُلُوبِ شَهْوَةٌ
وَإِقْبَالٌ وَفَتْرَةٌ وَإِدْبَارٌ فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَلَا
تَأْتُوهَا
مِنْ قِبَلِ فَتْرَتِهَا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إلَّا
لِأُنْسِهِ وَلَا الْقَلْبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فَأَمَّا الشُّرُوطُ
الَّتِي يَتَوَفَّرُ بِهَا عِلْمُ الطَّالِبِ وَيَنْتَهِي مَعَهَا كَمَالُ الرَّاغِبِ
مَعَ مَا يُلَاحَظُ بِهِ مِنْ التَّوْفِيقِ وَيَمُدُّ بِهِ مِنْ الْمَعُونَةِ
فَتِسْعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الْعَقْلُ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ حَقَائِقَ
الْأُمُورِ .
وَالثَّانِي : الْفِطْنَةُ الَّتِي يَتَصَوَّرُ بِهَا
غَوَامِضَ الْعُلُومِ .
وَالثَّالِثُ : الذَّكَاءُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِهِ
حِفْظُ مَا تَصَوَّرَهُ وَفَهْمُ مَا عَلِمَهُ .
وَالرَّابِعُ : الشَّهْوَةُ الَّتِي يَدُومُ بِهَا
الطَّلَبُ وَلَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْمَلَلُ .
وَالْخَامِسُ : الِاكْتِفَاءُ بِمَادَّةٍ تُغْنِيهِ عَنْ
كَلَفِ الطَّلَبِ .
وَالسَّادِسُ : الْفَرَاغُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ
التَّوَفُّرُ وَيَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِكْثَارُ .
وَالسَّابِعُ : عَدَمُ الْقَوَاطِعِ الْمُذْهِلَةِ مِنْ
هُمُومٍ ، وَأَمْرَاضٍ .
وَالثَّامِنُ : طُولُ الْعُمُرِ وَاتِّسَاعُ الْمُدَّةِ
؛ لِيَنْتَهِيَ بِالِاسْتِكْثَارِ إلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ .
وَالتَّاسِعُ : الظَّفَرُ بِعَالِمٍ سَمْحٍ بِعِلْمِهِ
مُتَأَنٍّ فِي تَعْلِيمِهِ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ التِّسْعَةَ
فَهُوَ أَسْعَدُ طَالِبٍ ، وَأَنْجَحُ مُتَعَلِّمٍ .
وَقَدْ قَالَ الْإِسْكَنْدَرُ : يَحْتَاجُ طَالِبُ
الْعِلْمِ إلَى أَرْبَعٍ : مُدَّةٌ وَجِدَّةٌ وَقَرِيحَةٌ وَشَهْوَةٌ .
وَتَمَامُهَا فِي الْخَامِسَةِ مُعَلِّمٌ نَاصِحٌ .
أَدَبُ
الْمُتَعَلِّمِ فَصْلٌ : وَسَأَذْكُرُ طَرَفًا مِمَّا يَتَأَدَّبُ بِهِ
الْمُتَعَلِّمُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالِمُ .
اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُتَعَلِّمِ تَمَلُّقًا وَتَذَلُّلًا
فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُمَا غَنِمَ ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا حُرِمَ ؛ لِأَنَّ
التَّمَلُّقَ لِلْعَالِمِ يُظْهِرُ مَكْنُونَ عَمَلِهِ ، وَالتَّذَلُّلَ لَهُ
سَبَبٌ لِإِدَامَةِ صَبْرِهِ .
وَبِإِظْهَارِ مَكْنُونِهِ تَكُونُ الْفَائِدَةُ
وَبِاسْتِدَامَةِ صَبْرِهِ يَكُونُ الْإِكْثَارُ .
وَقَدْ رَوَى مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ
الْمَلَقُ إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
} .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : ذَلَلْت طَالِبًا فَعَزَزْت مَطْلُوبًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ
ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا .
وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ ؛ إذَا قَعَدْت ،
وَأَنْتَ صَغِيرٌ حَيْثُ تُحِبُّ قَعَدْت ، وَأَنْتَ كَبِيرٌ حَيْثُ لَا تُحِبُّ .
ثُمَّ لِيَعْرِفَ لَهُ فَضْلَ عِلْمِهِ وَلِيَشْكُرَ
لَهُ جَمِيلَ فِعْلِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَّرَ
عَالِمًا فَقَدْ وَقَّرَ رَبَّهُ
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَا يَعْرِفُ فَضْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَهْلُ الْفَضْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْمُعَلِّمَ
وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا فَاصْبِرْ
لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا وَلَا
يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ
خَامِلًا ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِعِلْمِهِمْ قَدْ اسْتَحَقُّوا التَّعْظِيمَ لَا
بِالْقُدْرَةِ وَالْمَالِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرِ
بْنِ دُرَيْدٍ : لَا تَحْقِرَنَّ عَالِمًا وَإِنْ خَلِقَتْ أَثْوَابُهُ فِي
عُيُونِ رَامِقِهِ وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ ذِي أَدَبٍ مُهَذَّبِ الرَّأْيِ فِي
طَرَائِقِهِ فَالْمِسْكُ بَيِّنًا تَرَاهُ مُمْتَهَنًا بِفِهْرِ عَطَّارِهِ
وَسَاحِقِهِ
حَتَّى تَرَاهُ فِي عَارِضَيْ مَلِكٍ وَمَوْضِعُ التَّاجِ مِنْ مَفَارِقِهِ
وَلْيَكُنْ مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي أَخْلَاقِهِمْ ، مُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي
جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ ؛ لِيَصِيرَ لَهَا آلِفًا ، وَعَلَيْهَا نَاشِئًا ، وَلِمَا
خَالَفَهَا مُجَانِبًا .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { خِيَارُ شُبَّانِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُيُوخِكُمْ وَشِرَارُ
شُيُوخِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُبَّانِكُمْ } .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ
فَهُوَ مِنْهُمْ } .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرِ
بْنِ دُرَيْدٍ : الْعَالِمُ الْعَاقِلُ ابْنُ نَفْسِهِ أَغْنَاهُ جِنْسُ عِلْمِهِ
عَنْ جِنْسِهِ كُنْ ابْنَ مَنْ شِئْت وَكُنْ مُؤَدَّبًا فَإِنَّمَا الْمَرْءُ
بِفَضْلِ كَيْسِهِ وَلَيْسَ مَنْ تُكْرِمُهُ لِغَيْرِهِ مِثْلَ الَّذِي تُكْرِمُهُ
لِنَفْسِهِ وَلْيَحْذَرْ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ
آنَسَهُ ، وَالْإِدْلَالَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ .
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَذَلُّ النَّاسِ ؟
فَقَالَ : عَالِمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ جَاهِلٍ .
{ وَكَلَّمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَارِيَةٌ مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ :
بِنْتُ الرَّجُلِ الْجَوَادِ حَاتِمٍ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْحَمُوا
عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، ارْحَمُوا غَنِيًّا افْتَقَرَ ، ارْحَمُوا عَالِمًا ضَاعَ
بَيْنَ الْجُهَّالِ } .
وَلَا يُظْهِرُ لَهُ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهُ
وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ ،
وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ .
وَرُبَّمَا وَجَدَ بَعْضُ الْمُتَعَلِّمِينَ قُوَّةً فِي
نَفْسِهِ لِجَوْدَةِ ذَكَائِهِ وَحِدَةِ خَاطِرِهِ ، فَقَصَدَ مَنْ يُعَلِّمُهُ
بِالْإِعْنَاتِ لَهُ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ إزْرَاءً بِهِ وَتَبْكِيتًا لَهُ ، فَيَكُونُ
كَمَنْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْمَثَلُ السَّائِرُ لِأَبِي الْبَطْحَاءِ : أُعَلِّمُهُ
الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي وَهَذِهِ مِنْ
مَصَائِبِ الْعُلَمَاءِ
وَانْعِكَاسِ
حُظُوظِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا عِنْدَ مَنْ يُعَلِّمُوهُ مُسْتَجْهَلِينَ ، وَعِنْدَ
مَنْ قَدَّمُوهُ مُسْتَرْذَلِينَ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَإِنَّ
عَنَاءً أَنْ تُعَلِّمَ جَاهِلًا فَيَحْسَبُ أَهْلًا أَنَّهُ مِنْك أَعْلَمُ مَتَى
يَبْلُغُ الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ إذَا كُنْت تَبْنِيهِ وَغَيْرُك يَهْدِمُ
مَتَى يَنْتَهِي عَنْ سَيِّئٍ مَنْ أَتَى بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ
تَنَدُّمُ وَقَدْ رَجَّحَ كَثِيرُ مِنْ الْحُكَمَاءِ حَقَّ الْعَالِمِ عَلَى حَقِّ
الْوَالِدِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : يَا فَاخِرًا لِلسَّفَاهِ بِالسَّلَفِ
وَتَارِكًا لِلْعَلَاءِ وَالشَّرَفِ آبَاءُ أَجْسَادِنَا هُمْ سَبَبٌ لَأَنْ
جُعِلْنَا عَرَائِضَ التَّلَفِ مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ذَاكَ
أَبُو الرُّوحِ لَا أَبُو النُّطَفِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَبْعَثَهُ
مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَهُ عَلَى قَبُولِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ ، وَلَا يَدْعُوهُ
تَرْكُ الْإِعْنَاتِ لَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا
غَلَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فِي عَالِمِهِمْ حَتَّى يَرَوْا أَنَّ قَوْلَهُ دَلِيلٌ
، وَإِنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ ، وَأَنَّ اعْتِقَادَهُ حُجَّةٌ ، وَإِنْ لَمْ
يَحْتَجَّ ، فَيُفْضِي بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا أَخَذَ
مِنْهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَبْطُلَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إنْ انْفَرَدَتْ أَوْ
يَخْرُجَ أَهْلُهَا مِنْ عِدَادِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا شَارَكَتْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
لَا يَرَى لَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ لِمَنْ أَخَذُوا
عَنْهُ فَيُطَالِبُهُمْ بِمَا قَصَّرُوا فِيهِ فَيَضْعُفُوا عَنْ إبَانَتِهِ ، وَيَعْجِزُوا
عَنْ نُصْرَتِهِ ، فَيَذْهَبُوا ضَائِعِينَ وَيَصِيرُوا عَجَزَةً مَضْعُوفِينَ .
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رَجُلًا
يُنَاظِرُ فِي مَجْلِسِ حَفْلٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْخَصْمُ بِدَلَالَةٍ
صَحِيحَةٍ فَكَانَ جَوَابُهُ عَنْهَا أَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فَاسِدَةٌ ،
وَجْهُ فَسَادِهَا أَنَّ شَيْخِي لَمْ يَذْكُرْهَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ
الشَّيْخُ لَا خَيْرَ فِيهِ .
فَأَمْسَكَ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ تَعَجُّبًا ؛
وَلِأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ مُحْتَشِمًا
.
وَقَدْ
حَضَرَتْ طَائِفَةٌ
يَرَوْنَ فِيهِ مِثْلَ مَا رَأَى هَذَا الْجَاهِلُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ
الْمُسْتَدِلُّ عَلَيَّ وَقَالَ لِي : وَاَللَّهِ لَقَدْ أَفْحَمَنِي بِجَهْلِهِ
وَصَارَ سَائِرُ النَّاسِ الْمُبَرَّئِينَ مِنْ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مَا بَيْنَ
مُسْتَهْزِئٍ وَمُتَعَجِّبٍ ، وَمُسْتَعِيذٍ بِاَللَّهِ مِنْ جَهْلٍ مُغْرِبٍ .
فَهَلْ رَأَيْت كَذَلِكَ عَالِمًا أَوْغَلَ فِي
الْجَهْلِ ، وَأَدَلَّ عَلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ .
وَإِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مُعْتَدِلَ الرَّأْيِ
فِيمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ ، مُتَوَسِّطَ الِاعْتِقَادِ مِمَّنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ
، حَتَّى لَا يَحْمِلَهُ الْإِعْنَاتُ عَلَى اعْتِرَاضِ الْمُبَكِّتِينَ ، وَلَا يَبْعَثُهُ
الْغُلُوُّ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُقَلَّدِينَ ، بَرِئَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ
الْمَذَمَّتَيْنِ ، وَسَلِمَ الْعَالِمُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ .
وَلَيْسَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ فِيمَا الْتَبَسَ
إعْنَاتًا ، وَلَا قَبُولُ مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ فَاسْأَلُوا - رَحِمَكُمْ
اللَّهُ - فَإِنَّمَا يُؤْجَرُ فِي الْعِلْمِ ثَلَاثَةٌ : الْقَائِلُ وَالْمُسْتَمِعُ
وَالْآخِذُ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { هَلَّا
سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } .
فَأَمَرَ بِالسُّؤَالِ وَحَثَّ عَلَيْهِ ، وَنَهَى
آخَرِينَ عَنْ السُّؤَالِ وَزَجَرَ عَنْهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ
وَإِضَاعَةِ الْمَالِ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إيَّاكُمْ
وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ } .
وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَمَرَ
بِالسُّؤَالِ مَنْ قَصَدَ بِهِ عِلْمَ مَا جَهِلَ ، وَنَهَى عَنْهُ مَنْ قَصَدَ
بِهِ إعْنَاتَ مَا سَمِعَ ، وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَوْضِعِهِ أَزَالَ
الشُّكُوكَ وَنَفَى الشُّبْهَةَ
.
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ : بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عُقُولٍ .
وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ } .
وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ
الْغَنَوِيِّ : فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا مِثْلَهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ
بِغَيْرِ تَدَبُّرِ وَإِذَا تَعَسَّرَتْ الْأُمُورُ فَأَرْجِهَا وَعَلَيْك
بِالْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَعْسِرِ وَلْيَأْخُذْ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ وَجَدَ
طُلْبَتَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَبِيهٍ وَخَامِلٍ ، وَلَا يَطْلُبُ الصِّيتَ وَحُسْنَ
الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْمَنَازِلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ
النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ ، إلَّا أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ
الْأَخْذُ عَمَّنْ اُشْتُهِرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ
الِانْتِسَابَ إلَيْهِ أَجْمَلُ وَالْأَخْذَ عَنْهُ أَشْهَرُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا أَنْتَ لَمْ يُشْهِرْك
عِلْمُك لَمْ تَجِدْ لِعِلْمِك مَخْلُوقًا مِنْ النَّاسِ يَقْبَلُهْ وَإِنْ صَانَك
الْعِلْمُ الَّذِي قَدْ حَمَلْته أَتَاك لَهُ مَنْ يَجْتَنِيهِ وَيَحْمِلُهْ
وَإِذَا قَرُبَ مِنْك الْعِلْمُ فَلَا تَطْلُبُ مَا بَعُدَ ، وَإِذَا سَهُلَ مِنْ
وَجْهٍ فَلَا تَطْلُبُ مَا صَعُبَ
.
وَإِذَا حَمِدْتَ مَنْ خَبَّرْتَهُ فَلَا تَطْلُبُ مَنْ
لَمْ تَخْتَبِرْهُ ، فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْقَرِيبِ إلَى الْبَعِيدِ عَنَاءٌ
، وَتَرْكَ الْأَسْهَلِ بِالْأَصْعَبِ بَلَاءٌ ، وَالِانْتِقَالَ مِنْ
الْمَخْبُورِ إلَى غَيْرِهِ خَطَرٌ
.
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : عُقْبَى الْأَخْرَقِ مَضَرَّةٌ ، وَالْمُتَعَسِّفُ لَا تَدُومُ لَهُ
مَسَرَّةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْقَصْدُ أَسْهَلُ مِنْ
التَّعَسُّفِ ، وَالْكَفُّ أَوْدَعُ مِنْ التَّكَلُّفِ .
وَرُبَّمَا تَتْبَعُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مَنْ بَعُدَ
عَنْهُ اسْتِهَانَةً بِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ ، وَطَلَبَ مَا صَعُبَ احْتِقَارًا
لِمَا سَهُلَ عَلَيْهِ ، وَانْتَقَلَ إلَى مَنْ لَمْ يُخْبِرْهُ مَلَلًا لِمَنْ
خَبَرَهُ ، فَلَا يُدْرِكْ مَحْبُوبًا وَلَا يَظْفَرْ بِطَائِلٍ .
وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا : الْعَالِمُ
كَالْكَعْبَةِ يَأْتِيهَا الْبُعَدَاءُ ، وَيَزْهَدُ فِيهَا الْقُرَبَاءُ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا لِمَسِيحِ بْنِ حَاتِمٍ : لَا تَرَى عَالِمًا يَحِلُّ بِقَوْمٍ فَيُحِلُّوهُ غَيْرَ دَارِ الْهَوَانِ قَلَّ مَا تُوجَدُ السَّلَامَةُ وَالصِّحَّةُ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي إنْسَانِ فَإِذَا حَلَّتَا مَكَانًا سَحِيقًا فَهُمَا فِي النُّفُوسِ مَعْشُوقَتَانِ هَذِهِ مَكَّةُ الْمَنِيعَةُ بَيْتُ اللَّهِ يَسْعَى لِحَجِّهَا الثَّقَلَانِ وَيُرَى أَزْهَدُ الْبَرِيَّةِ فِي الْحَجِّ لَهَا أَهْلَهَا لِقُرْبِ الْمَكَانِ
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهِمْ أَلْيَقُ ، وَلَهُمْ
أَلْزَمُ ، فَالتَّوَاضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ ؛ لِأَنَّ التَّوَاضُعَ
عَطُوفٌ وَالْعُجْبَ مُنَفِّرٌ
.
وَهُوَ بِكُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ وَبِالْعُلَمَاءِ
أَقْبَحُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ وَكَثِيرًا مَا يُدَاخِلُهُمْ
الْإِعْجَابُ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ .
وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ وَعَمِلُوا بِمُوجِبِ
الْعِلْمِ لَكَانَ التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى ، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ
أَحْرَى ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ نَقْصٌ يُنَافِي الْفَضْلَ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْعُجْبَ لَيَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
فَلَا يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ
بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
قَلِيلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ .
وَكَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا إذَا عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا إذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ
وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ تُعَلِّمُونَهُ ،
وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ تَكَبَّرَ بِعِلْمِهِ وَتَرَفَّعَ
وَضَعَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ تَوَاضَعَ بِعِلْمِهِ رَفَعَهُ بِهِ .
وَعِلَّةُ إعْجَابِهِمْ انْصِرَافُ نَظَرِهِمْ إلَى كَثْرَةِ
مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ ، وَانْصِرَافُ نَظَرِهِمْ عَمَّنْ فَوْقَهُمْ
مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَنَاهٍ فِي الْعِلْمِ إلَّا وَسَيَجِدُ
مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ إذْ الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ بَشَرٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ } .
يَعْنِي فِي الْعِلْمِ : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
: فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعِلْمِ ؟
قَالَ : كُلُّ النَّاسِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَا رَأَيْت مِثْلِي وَمَا
أَشَاءُ أَنْ أَلْقَى رَجُلًا أَعْلَمَ مِنِّي إلَّا لَقِيتُهُ .
لَمْ يَذْكُرْ الشَّعْبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ تَفْضِيلًا
لِنَفْسِهِ فَيُسْتَقْبَحُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ
عَنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَفْسِهِ
بِتَقْصِيرِ مَا قَصَّرَ فِيهِ لِيَسْلَمَ مِنْ عُجْبِ مَا أَدْرَكَ مِنْهُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إذَا عَلِمْت
فَلَا تُفَكِّرْ فِي كَثْرَةِ مَنْ دُونَك مِنْ الْجُهَّالِ ، وَلَكِنْ اُنْظُرْ
إلَى مَنْ فَوْقَك مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَأَنْشَدْت لِابْنِ الْعَمِيدِ : مَنْ
شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفِيدُ بِهِ فِي دِينِهِ ثُمَّ فِي دُنْيَاهُ إقْبَالَا
فَلْيَنْظُرَنَّ إلَى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا وَلْيَنْظُرَنَّ إلَى مَنْ دُونَهُ
مَالَا وَقَلَّمَا تَجِدُ بِالْعِلْمِ مُعْجَبًا وَبِمَا أَدْرَكَ مُفْتَخِرًا ،
إلَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُقِلًّا وَمُقَصِّرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجْهَلُ قَدْرَهُ
، وَيَحْسَبُ أَنَّهُ نَالَ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَكْثَرَهُ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا وَمِنْهُ
مُسْتَكْثِرًا فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ بُعْدِ غَايَتِهِ ، وَالْعَجْزِ عَنْ إدْرَاكِ
نِهَايَتِهِ ، مَا يَصُدُّهُ عَنْ الْعُجْبِ بِهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ
فَمَنْ نَالَ مِنْهُ شِبْرًا شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ نَالَهُ .
وَمَنْ نَالَ الشِّبْرَ الثَّانِيَ صَغَرَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ
وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْهُ ، وَأَمَّا الشِّبْرُ الثَّالِثُ فَهَيْهَاتَ لَا
يَنَالُهُ أَحَدٌ أَبَدًا .
وَمِمَّا أُنْذِرُك بِهِ مِنْ حَالِي أَنَّنِي صَنَّفْت
فِي الْبُيُوعِ كِتَابًا جَمَعْت فِيهِ مَا اسْتَطَعْت مِنْ كُتُبِ النَّاسِ ،
وَأَجْهَدْت فِيهِ نَفْسِي وَكَدَدْت فِيهِ خَاطِرِي ، حَتَّى إذَا تَهَذَّبَ
وَاسْتَكْمَلَ وَكِدْت أَعْجَبُ بِهِ وَتَصَوَّرْت أَنَّنِي أَشَدُّ النَّاسِ
اضْطِلَاعًا بِعِلْمِهِ ، حَضَرَنِي ، وَأَنَا فِي
مَجْلِسِي
أَعْرَابِيَّانِ فَسَأَلَانِي عَنْ بَيْعٍ عَقَدَاهُ فِي الْبَادِيَةِ عَلَى
شُرُوطٍ تَضَمَّنَتْ أَرْبَعَ مَسَائِلِ لَمْ أَعْرِفْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَوَابًا
، فَأَطْرَقْت مُفَكِّرًا ، وَبِحَالِي وَحَالِهِمَا مُعْتَبَرًا فَقَالَا : مَا
عِنْدَك فِيمَا سَأَلْنَاك جَوَابٌ ، وَأَنْتَ زَعِيمُ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ؟ فَقُلْت
: لَا .
فَقَالَا : وَاهًا لَك ، وَانْصَرَفَا .
ثُمَّ أَتَيَا مَنْ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْعِلْمِ كَثِيرٌ
مِنْ أَصْحَابِي فَسَأَلَاهُ فَأَجَابَهُمَا مُسْرِعًا بِمَا أَقْنَعَهُمَا
وَانْصَرَفَا عَنْهُ رَاضِيَيْنِ بِجَوَابِهِ حَامِدَيْنِ لِعِلْمِهِ ، فَبَقِيت مُرْتَبِكًا
، وَبِحَالِهِمَا وَحَالِي مُعْتَبِرًا وَإِنِّي لَعَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ مِنْ
الْمَسَائِلِ إلَى وَقْتِي ، فَكَانَ ذَلِكَ زَاجِرَ نَصِيحَةٍ وَنَذِيرَ عِظَةٍ
تَذَلَّلَ بِهَا قِيَادُ النَّفْسِ ، وَانْخَفَضَ لَهَا جَنَاحُ الْعُجْبِ ،
تَوْفِيقًا مُنِحْتَهُ وَرُشْدًا أُوتِيتَهُ .
وَحَقٌّ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْعُجْبَ بِمَا يُحْسِنُ
أَنْ يَدَعَ التَّكَلُّفَ لِمَا لَا يُحْسِنُ .
فَقَدِيمًا نَهَى النَّاسُ عَنْهُمَا ، وَاسْتَعَاذُوا
بِاَللَّهِ مِنْهُمَا .
وَمِنْ أَوْضَحِ ذَلِكَ بَيَانًا اسْتِعَاذَةُ
الْجَاحِظِ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ حَيْثُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك
مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْلِ كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْعَمَلِ ، وَنَعُوذُ
بِك مِنْ التَّكَلُّفِ لِمَا لَا نُحْسِنُ ، كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ الْعُجْبِ بِمَا
نُحْسِنُ ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ السَّلَاطَةِ وَالْهَذْرِ ، كَمَا نَعُوذُ
بِك مِنْ شَرِّ الْعِيِّ وَالْحَصْرِ
.
وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ مَا
اسْتَعَاذَ فَلَيْسَ لِمَنْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُحْسِنُ غَايَةٌ يَنْتَهِي
إلَيْهَا وَلَا حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ
.
وَمَنْ كَانَ تَكَلُّفُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ فَأَخْلِقْ
بِهِ أَنْ يَضِلَّ وَيُضِلَّ .
وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : مِنْ الْعِلْمِ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ فِيمَا لَا تَعْلَمُ
بِكَلَامِ مَنْ يَعْلَمُ فَحَسْبُك جَهْلًا مِنْ عَقْلِك أَنْ تَنْطِقَ بِمَا لَا
تَفْهَمُ .
وَلَقَدْ أَحْسَن زُرَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَيْثُ يَقُولُ
: إذَا مَا انْتَهَى عِلْمِي تَنَاهَيْتُ عِنْدَهُ أَطَالَ فَأَمْلَى أَوْ
تَنَاهَى فَأَقْصَرَا وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ فِعْلُهُ كَفَى
الْفِعْلُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى
الْإِحَاطَةِ بِالْعِلْمِ سَبِيلٌ فَلَا عَارٌ أَنْ يَجْهَلَ بَعْضَهُ ، وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ فِي جَهْلِ بَعْضِهِ عَارٌ لَمْ يَقْبُحْ بِهِ أَنْ يَقُولَ لَا
أَعْلَمُ فِيمَا لَيْسَ يَعْلَمُ
.
وَرُوِيَ {
أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
الْبِقَاعِ خَيْرٌ ، وَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ ؟ فَقَالَ : لَا أَدْرِي حَتَّى
أَسْأَلَ جِبْرِيلَ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: وَمَا أَبْرَدَهَا عَلَى الْقَلْبِ إذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ فِيمَا لَا يَعْلَمُ
أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَرَفَ أَنَّ مَا
يَعْلَمُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ قَلِيلٌ
.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ قَوْلَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هَلَكَ مَنْ تَرَكَ لَا
أَدْرِي .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ لِي مِنْ
فَضِيلَةِ الْعِلْمِ إلَّا عِلْمِي بِأَنِّي لَسْت أَعْلَمُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ قَالَ لَا أَدْرِي
عَلِمَ فَدَرَى ، وَمَنْ انْتَحَلَ مِمَّا لَا يَدْرِي أُهْمِلَ فَهَوَى ، وَلَا
يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ وَإِنْ صَارَ فِي طَبَقَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَفَاضِلِ أَنْ يَسْتَنْكِفَ
مِنْ تَعَلُّمِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لِيَسْلَمَ مِنْ التَّكَلُّفِ .
وَقَدْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - : يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ تَعَلَّمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا جَهِلْت
وَعَلِّمْ الْجُهَّالَ مَا عَلِمْت
.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : خَمْسٌ خُذُوهُنَّ عَنِّي فَلَوْ رَكِبْتُمْ الْفُلْكَ مَا وَجَدْتُمُوهُنَّ
إلَّا عِنْدِي : أَلَا لَا يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ إلَّا رَبَّهُ ، وَلَا
يَخَافَنَّ
إلَّا ذَنْبَهُ ، وَلَا يَسْتَنْكِفْ الْعَالِمُ أَنْ يَتَعَلَّمَ لِمَا لَيْسَ
عِنْدَهُ وَإِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ لَا أَعْلَمُ
، وَمَنْزِلَةُ الصَّبْرِ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ يَكْتَفِي مِنْ الْعِلْمِ لَاكْتَفَى مِنْهُ
مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا قَالَ : { هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } وَقِيلَ
لِلْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ : بِمَ أَدْرَكْت هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ : كُنْت إذَا
لَقِيتُ عَالِمًا أَخَذْت مِنْهُ ، وَأَعْطَيْته .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرَ : مِنْ الْعِلْمِ أَنْ لَا
تَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ ، وَمِنْ الْعِلْمِ تَفْضِيلُ جَمِيعِ
الْعِلْمِ وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِشَرِيكٍ : أَنَّى لَك هَذَا الْعِلْمُ ؟ قَالَ :
لَمْ أَرْغَبْ عَنْ قَلِيلٍ أَسْتَفِيدُهُ ، وَلَمْ أَبْخَلْ بِكَثِيرٍ أُفِيدُهُ .
عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَقْتَضِي مَا بَقِيَ مِنْهُ
وَيَسْتَدْعِي مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لِلرَّاغِبِ فِيهِ قَنَاعَةٌ
بِبَعْضِهِ .
وَرَوَى عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ :
طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا
.
أَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ
لِلرَّحْمَنِ رِضًى ، ثُمَّ قَرَأَ
{ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } .
وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَزْدَادُ
طُغْيَانًا ثُمَّ قَرَأَ : { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى }
وَلْيَكُنْ
مُسْتَقِلًّا لِلْفَضِيلَةِ مِنْهُ لِيَزْدَادَ مِنْهَا ، وَمُسْتَكْثِرًا لِلنَّقِيصَةِ
فِيهِ لِيَنْتَهِيَ عَنْهَا ، وَلَا يَقْنَعْ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا أَدْرَكَ ؛
لِأَنَّ الْقَنَاعَةَ فِيهِ زُهْدٌ ، وَلِلزُّهْدِ فِيهِ تَرْكٌ ، وَالتَّرْكُ
لَهُ جَهْلٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَلَيْك بِالْعِلْمِ
وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ فَإِنَّ قَلِيلَهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِقَلِيلِ الْخَيْرِ ،
وَكَثِيرَهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِكَثِيرِهِ ، وَلَنْ يَعِيبَ الْخَيْرَ إلَّا
الْقِلَّةُ ، فَأَمَّا كَثْرَتُهُ فَإِنَّهَا أُمْنِيَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ فَضْلِ عِلْمِك
اسْتِقْلَالُك لِعِلْمِك ، وَمِنْ كَمَالِ عَقْلِك اسْتِظْهَارُك عَلَى عَقْلِك .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْهَلَ مِنْ نَفْسِهِ مَبْلَغَ
عِلْمِهَا ، وَلَا يَتَجَاوَزَ بِهَا قَدْرَ حَقِّهَا .
وَلَأَنْ يَكُونَ بِهَا مُقَصِّرًا فَيُذْعِنُ
بِالِانْقِيَادِ ، أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُجَاوِزًا ، فَيَكُفُّ عَنْ
الِازْدِيَادِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ حَالَ نَفْسِهِ كَانَ لِغَيْرِهَا أَجْهَلَ .
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : {
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَتَى يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ ؟ قَالَ : إذَا عَرَفَ
نَفْسَهُ } .
وَقَدْ قَسَّمَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ أَحْوَالَ
النَّاسِ فِيمَا عَلِمُوهُ أَوْ جَهِلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ مُتَقَابِلَةٍ لَا
يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَقَالَ : الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ : رَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي
أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَالِمٌ فَاسْأَلُوهُ ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي
أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ نَاسٍ فَذَكِّرُوهُ ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَيَدْرِي
أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَذَلِكَ مُسْتَرْشِدٌ فَأَرْشِدُوهُ ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي
وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَذَلِكَ جَاهِلٌ فَارْفُضُوهُ .
وَأَنْشَدَ أَبُو الْقَاسِمِ الْآمِدِيُّ : إذَا كُنْت
لَا تَدْرِي وَلَمْ تَكُنْ بِاَلَّذِي يُسَائِلُ مَنْ يَدْرِي فَكَيْفَ إذًا
تَدْرِي جَهِلْت وَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّك جَاهِلٌ فَمَنْ لِي بِأَنْ تَدْرِي
بِأَنَّك لَا تَدْرِي إذَا كُنْت مِنْ كُلِّ الْأُمُورِ مُعَمِّيًا فَكُنْ هَكَذَا
أَرْضًا يَطَأْكَ الَّذِي يَدْرِي وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ أَنَّك لَا
تَدْرِي
وَأَنَّك لَا تَدْرِي بِأَنَّك لَا تَدْرِي
وَلْيَكُنْ
مِنْ شِيمَتِهِ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ ، وَحَثُّ النَّفْسِ عَلَى أَنْ تَأْتَمِرَ
بِمَا يَأْمُرُ بِهِ ، وَلَا يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } .
فَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } : يَعْنِي أَنَّهُ عَامِلٌ بِمَا
عَلِمَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَيْلٌ لِجَمَّاعِ الْقَوْلِ وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ } .
يُرِيدُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وَلَا
يَعْمَلُونَ بِهِ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ
أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِمُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ تَعَلَّمْ الْعِلْمَ لِتَعْمَلَ بِهِ ،
وَلَا تَتَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونُ عَلَيْك بُورُهُ ، وَلِغَيْرِك نُورُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنَّمَا زَهِدَ النَّاسُ
فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ مَنْ عَلِمَ بِمَا
عَلِمَ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : أَخْوَفُ مَا أَخَافُ إذَا
وَقَفْت بَيْنَ يَدِي اللَّهِ أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَلِمْت فَمَاذَا عَمِلْت إذْ
عَلِمْت ؟ وَكَانَ يُقَالُ : خَيْرٌ مِنْ الْقَوْلِ فَاعِلُهُ ، وَخَيْرٌ مِنْ
الصَّوَابِ قَائِلُهُ ، وَخَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ حَامِلُهُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَمْ يَنْتَفِعْ
بِعِلْمِهِ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : ثَمَرَةُ الْعِلْمِ أَنْ
يُعْمَلَ بِهِ ، وَثَمَرَةُ الْعَمَلِ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : الْعِلْمُ يَهْتِفُ
بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَقَامَ وَإِلَّا ارْتَحَلَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : خَيْرُ الْعِلْمِ مَا
نَفَعَ ، وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا رَدَعَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : ثَمَرَةُ الْعُلُومِ
الْعَمَلُ بِالْعُلُومِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ تَمَامِ الْعِلْمِ
اسْتِعْمَالُهُ ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتِقْلَالُهُ .
فَمَنْ اسْتَعْمَلَ عِلْمَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ رَشَادٍ ،
وَمَنْ اسْتَقَلَّ عَمَلَهُ لَمْ يَقْصُرْ
عَنْ
مُرَادٍ .
وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ : وَلَمْ يَحْمَدُوا مِنْ
عَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ خِلَافًا وَلَا مِنْ عَامِلٍ غَيْرِ عَالِمِ رَأَوْا
طُرُقَاتِ الْمَجْدِ عِوَجًا قَطِيعَةً وَأَفْظَعُ عَجْزٍ عِنْدَهُمْ عَجْزُ
حَازِمِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَخَذَ عَنْهُ
وَاقْتَبَسَهُ مِنْهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ
كَانَ عَلَيْهِ أَحَجَّ وَلَهُ أَلْزَمَ ؛ لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ
الْقَوْلِ ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْعَمَلِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ :
اسْمَعْ إلَى الْأَحْكَامِ تَحْمِلُهَا الرُّوَاةُ إلَيْك عَنْكَا وَاعْلَمْ
هُدِيتَ بِأَنَّهَا حُجَجٌ تَكُونُ عَلَيْك مِنْكَا ثُمَّ لِيَتَجَنَّب أَنْ
يَقُولَ مَا لَا يَفْعَلُ ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ بِهِ ، وَأَنْ
يُسِرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ ، وَلَا يَجْعَلُ قَوْلَ الشَّاعِرِ هَذَا : اعْمَلْ
بِقَوْلِي وَإِنْ قَصَّرْت فِي عَمَلِي يَنْفَعْك قَوْلِي وَلَا يَضْرُرْك
تَقْصِيرِي عُذْرًا لَهُ فِي تَقْصِيرٍ يُضْمِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ غَيْرَهُ .
فَإِنَّ إعْذَارَ النَّفْسِ يُغْرِيهَا وَيُحَسِّنُ
لَهَا مَسَاوِئَهَا .
فَإِنَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُ فَقَدْ مَكَرَ ،
وَمَنْ أَمَرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ فَقَدْ خَدَعَ ، وَمَنْ أَسَرَّ غَيْرَ مَا
يُظْهِرُ فَقَدْ نَافَقَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَصَاحِبَاهُمَا فِي النَّارِ } .
عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ مُطْرَحٌ ،
وَإِنْكَارَهُ مَا لَا يُنْكِرُهُ مِنْ نَفْسِهِ مُسْتَقْبَحٌ .
بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ
الْمَأْمُورِ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ عِنَادًا ، وَارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ
كِيَادًا .
وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ
فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ طَلَاقٍ فَأَفْتَاهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، فَقَالَ
: اُنْظُرْ حَسَنًا .
قَالَ :
نَظَرْتُ وَقَدْ بَانَتْ فَوَلَّى الْأَعْرَابِيُّ
وَهُوَ يَقُولُ : أَتَيْت ابْنَ ذِئْبٍ أَبْتَغِي الْفِقْهَ عِنْدَهُ فَطَلَّقَ
حَتَّى الْبَتِّ تَبَّتْ أَنَامِلُهُ أُطَلِّقُ فِي
فَتْوَى
ابْنِ ذِئْبٍ حَلِيلَتِي وَعِنْدَ ابْنِ ذِئْبٍ أَهْلُهُ وَحَلَائِلُهْ فَظَنَّ بِجَهْلِهِ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ الطَّلَاقَ .
فَمَا ظَنُّك بِقَوْلٍ يَجِبُ فِيهِ اشْتِرَاكُ الْآمِرِ
وَالْمَأْمُورِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ بِهِ وَلَا
قَابِلٍ لَهُ كَلًّا .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ : وَعَامِلٌ بِالْفُجُورِ
يَأْمُرُ بِالْبِرِّ كَهَادٍ يَخُوضُ فِي الظُّلَمِ أَوْ كَطَبِيبٍ قَدْ شَفَّهُ
سَقَمٌ وَهُوَ يُدَاوِي مِنْ ذَلِكَ السَّقَمِ يَا وَاعِظَ النَّاسِ غَيْرَ
مُتَّعِظٍ ثَوْبَك طَهِّرْ أَوَّلًا فَلَا تَلُمْ وَقَالَ آخَرُ : عَوِّدْ
لِسَانَك قِلَّةَ اللَّفْظِ وَاحْفَظْ كَلَامَك أَيَّمَا حِفْظِ إيَّاكَ أَنْ تَعِظَ
الرِّجَالَ وَقَدْ أَصْبَحْتَ مُحْتَاجًا إلَى الْوَعْظِ وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ
عَنْ الْعِلْمِ إلَى الْعَمَلِ ، وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الْعَمَلِ إلَى الْعِلْمِ
إذَا عَمِلَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِيهِ مَا
يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ
مِنْ الْعَمَلِ لِمَنْ جَهِلَ ، وَالْعَمَلُ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ لِمَنْ
عَلِمَ .
وَأَمَّا فَضْلُ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ
إذَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي فَرْضٍ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يُبْعَثُ الْعَالِمُ
وَالْعَابِدُ فَيُقَالُ لِلْعَابِدِ : اُدْخُلْ الْجَنَّةَ ، وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ
: اتَّئِدْ حَتَّى تَشْفَعَ لِلنَّاسِ
.
وَمِنْ
آدَابِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يَبْخَلُوا بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُونَ وَلَا
يَمْتَنِعُوا مِنْ إفَادَةِ مَا يَعْلَمُونَ .
فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ لَوْمٌ وَظُلْمٌ ، وَالْمَنْعُ
مِنْهُ حَسَدٌ وَإِثْمٌ .
وَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ الْبُخْلُ بِمَا مُنِحُوهُ
جُودًا مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ ، وَأُوتُوهُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ .
أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُمْ الشُّحُّ بِمَا إنْ
بَذَلُوهُ زَادَ وَنَمَا ، وَإِنْ كَتَمُوهُ تَنَاقَصَ وَوَهِيَ .
وَلَوْ اسْتَنَّ بِذَلِكَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَمَا
وَصَلَ الْعِلْمُ إلَيْهِمْ وَلَانْقَرَضَ عَنْهُمْ بِانْقِرَاضِهِمْ ،
وَلَصَارُوا عَلَى مُرُورِ الْأَيَّامِ جُهَّالًا ، وَبِتَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ
وَتَنَاقُصِهَا أَرْذَالًا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادَ
دِينِكُمْ وَالْتِبَاسَ بَصَائِرِكُمْ ، ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يُحْسِنُهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ
} .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ
أَنْ يَتَعَلَّمُوا ، حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ
يُعَلِّمُوا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ
الْحِكْمَةِ بَذْلُ مَا يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ
قَوَاعِدِهَا بَذْلُ مَا يَزِيدُهُ الْبَذْلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كَمَا أَنَّ
الِاسْتِفَادَةَ نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ ، كَذَلِكَ الْإِفَادَةُ فَرِيضَةٌ
عَلَى الْمُعَلِّمِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ كَتَمَ
عِلْمًا فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ
صَفْوَانَ
: إنِّي لَأَفْرَحُ بِإِفَادَتِي الْمُتَعَلِّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي
بِاسْتِفَادَتِي مِنْ الْمُعَلِّمِ .
ثُمَّ لَهُ بِالتَّعْلِيمِ نَفْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا
يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ التَّعْلِيمَ صَدَقَةً فَقَالَ : { تَصَدَّقُوا عَلَى أَخِيكُمْ
بِعِلْمٍ يُرْشِدُهُ ، وَرَأْيٍ يُسَدِّدُهُ } .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا فَإِنَّ أَجْرَ
الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ
} .
قِيلَ : وَمَا أَجْرُهُمَا ؟ قَالَ : مِائَةُ مَغْفِرَةٍ
وَمِائَةُ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ
.
وَالنَّفْعُ الثَّانِي : زِيَادَةُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ
الْحِفْظِ .
فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : اجْعَلْ
تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك ، وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ
تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك
.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : النَّارُ لَا
يَنْقُصُهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا ، وَلَكِنْ يُخْمِدُهَا أَنْ لَا تَجِدَ حَطَبًا .
كَذَلِكَ الْعِلْمُ لَا يُفْنِيهِ الِاقْتِبَاسُ ،
وَلَكِنَّ فَقْدَ الْحَامِلِينَ لَهُ سَبَبُ عَدَمِهِ .
فَإِيَّاكَ وَالْبُخْلَ بِمَا تَعْلَمُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : عَلِّمْ عِلْمَك وَتَعَلَّمْ
عِلْمَ غَيْرِك .
فَإِذَا
عَلِمْت مَا جَهِلْت ، وَحَفِظْت مَا عَلِمْت ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَعَلِّمِينَ
ضَرْبَانِ : مُسْتَدْعًى وَطَالِبٌ .
فَأَمَّا الْمُسْتَدْعَى إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مَنْ
اسْتَدْعَاهُ الْعَالِمُ إلَى التَّعْلِيمِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَوْدَةِ
ذَكَائِهِ ، وَبَانَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ خَاطِرِهِ .
فَإِذَا وَافَقَ اسْتِدْعَاءُ الْعَالِمِ شَهْوَةَ
الْمُتَعَلِّمِ كَانَتْ نَتِيجَتُهَا دَرَكَ النُّجَبَاءِ ، وَظَفَرَ السُّعَدَاءِ
؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِاسْتِدْعَائِهِ مُتَوَفِّرٌ ، وَالْمُتَعَلِّمُ
بِشَهْوَتِهِ مُسْتَكْثِرٌ .
وَأَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ ،
وَبَاعِثٍ يَحْدُوهُ ، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي دِينِيًّا ، وَكَانَ الْمُتَعَلِّمُ
فَطِنًا ذَكِيًّا ، وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مُقْبِلًا
وَعَلَى تَعْلِيمِهِ مُتَوَفِّرًا لَا يُخْفِي عَلَيْهِ مَكْنُونًا ، وَلَا
يَطْوِي عَنْهُ مَخْزُونًا .
وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا بَعِيدَ الْفِطْنَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ
لَا يُمْنَعَ مِنْ الْيَسِيرِ فَيَحْرُمُ ، وَلَا يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِالْكَثِيرِ
فَيُظْلَمُ .
وَلَا يَجْعَلَ بَلَادَتَهُ ذَرِيعَةً لِحِرْمَانِهِ
فَإِنَّ الشَّهْوَةَ بَاعِثَةٌ وَالصَّبْرَ مُؤَثِّرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَظْلِمُوا ، وَلَا
تَضَعُوهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ فَتَأْثَمُوا } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ
أَحَدًا فَإِنَّ الْعِلْمَ أَمْنَعُ لِجَانِبِهِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي دِينِيًّا نَظَرَ
فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا ، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ حُبُّ
النَّبَاهَةِ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ يُقَارِبُ الْقَوْلَ
الْأَوَّلَ فِي تَعْلِيمِ مَنْ قَبِلَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُعَطِّفُهُ إلَى
الدِّينِ فِي ثَانِي حَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا بِهِ فِي أَوَّلِ
حَالٍ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ : تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى أَنْ يَكُونَ
إلَّا لِلَّهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : طَلَبْنَا
الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا .
وَإِنْ كَانَ
الدَّاعِي
مَحْظُورًا ، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ شَرٌّ كَامِنٌ ، وَمَكَرٌ
بَاطِنٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي شُبَهٍ دِينِيَّةٍ ، وَحِيَلٍ
فِقْهِيَّةٍ ، لَا تَجِدُ أَهْلُ السَّلَامَةِ مِنْهَا مُخَلِّصًا ، وَلَا عَنْهَا
مُدَافِعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلَانِ : عَالِمٌ فَاجِرٌ وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ .
وَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَرُّ ؟
قَالَ : الْعُلَمَاءُ إذَا فَسَدُوا
} .
فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا رَأَى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ
أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ طُلْبَتِهِ ، وَيَصْرِفَهُ عَنْ بُغْيَتِهِ .
فَلَا يُعِينُهُ عَلَى إمْضَاءِ مَكْرِهِ ، وَإِعْمَالِ
شَرِّهِ .
فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاضِعُ الْعِلْمِ فِي
غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ اللُّؤْلُؤَ وَالْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ } .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : لَا تُلْقُوا الْجَوْهَرَ لِلْخِنْزِيرِ فَالْعِلْمُ
أَفْضَلُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ .
وَحُكِيَ أَنَّ تِلْمِيذًا سَأَلَ عَالِمًا عَنْ بَعْضِ
الْعُلُومِ فَلَمْ يُفِدْهُ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ مَنَعْته ؟ فَقَالَ : لِكُلِّ
تُرْبَةٍ غَرْسٌ ، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ أُسٌّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لِكُلِّ ثَوْبٍ لَابِسٌ ،
وَلِكُلِّ عِلْمٍ قَابِسٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إرْثِ لِرَوْضَةٍ
تَوَسَّطَهَا خِنْزِيرٌ ، وَابْكِ لِعِلْمٍ حَوَاهُ شِرِّيرٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ فِرَاسَةٌ
يَتَوَسَّمُ بِهَا الْمُتَعَلِّمَ لِيَعْرِفَ مَبْلَغَ طَاقَتِهِ ، وَقَدْرَ
اسْتِحْقَاقِهِ لِيُعْطِيَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ بِذَكَائِهِ ، أَوْ يَضْعُفُ
عَنْهُ بِبَلَادَتِهِ فَإِنَّهُ أَرْوَحُ لِلْعَالِمِ ، وَأَنْجَحُ
لِلْمُتَعَلِّمِ ، وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا
يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ
} .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: إذَا أَنَا لَمْ أَعْلَمْ مَا لَمْ أَرَ فَلَا
عَلِمْت
مَا رَأَيْت .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : لَا عَاشَ
بِخَيْرٍ مَنْ لَمْ يَرَ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَرَ بِعَيْنَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : أَلْمَعِيٌّ يَرَى
بِأَوَّلِ رَأْيٍ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْ وَرَاءِ الْمَغِيبِ لَوْذَعِيٌّ لَهُ
فُؤَادٌ ذَكِيٌّ مَا لَهُ فِي ذَكَائِهِ مِنْ ضَرِيبِ لَا يَرْوِي وَلَا يُقَلِّبُ
طَرْفًا وَأَكُفُّ الرِّجَالِ فِي تَقْلِيبِ وَإِذْ كَانَ الْعَالِمُ فِي
تَوَسُّمِ الْمُتَعَلِّمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَكَانَ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ
خَبِيرًا ، لَمْ يَضِعْ لَهُ عَنَاءٌ وَلَمْ يَخِبْ عَلَى يَدَيْهِ صَاحِبٌ .
وَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّمُهُمْ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ
أَحْوَالُهُمْ وَمَبْلَغُ اسْتِحْقَاقِهِمْ كَانُوا وَإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ
مُكِدٍّ وَتَعَبٍ غَيْرِ مُجِدٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ
ذَكِيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَبَلِيدٌ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ
فَيَضْجَرُ الذَّكِيُّ مِنْهُ وَيَعْجِزُ الْبَلِيدُ عَنْهُ وَمَنْ يُرَدِّدُ
أَصْحَابَهُ بَيْنَ عَجْزٍ وَضَجَرٍ مَلُّوهُ وَمَلَّهُمْ .
وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ سُفْيَانَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ :
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً مِنْ الْمُسْتَمِعِ
فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَك إذَا حَدَّثْتَهُمْ يَا مُوسَى ، وَاعْلَمْ أَنَّ
قَلْبَك وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَا تَحْشُو فِي وِعَائِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : خَيْرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ
لَا يُقِلُّ وَلَا يُمِلُّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ عِلْمٍ كَثُرَ
عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ ازْدَادَ الْقَلْبُ بِهِ عَمًى .
وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَمْعُ الْآذَانِ ، إذَا قَوِيَ
فَهْمُ الْقُلُوبِ فِي الْأَبْدَانِ
.
وَرُبَّمَا
كَانَ لِبَعْضِ السَّلَاطِينِ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَضِيلَةِ نَفْسِهِ ،
وَكَرَمِ طَبْعِهِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً فِي الِانْبِسَاطِ عِنْدَهُ ،
وَالْإِدْلَالِ عَلَيْهِ ، بَلْ يُعْطَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِسُلْطَانِهِ
وَعُلُوِّ يَدِهِ .
فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالْإِعْظَامِ
، وَلِلْعَالِمِ حَقَّ الْقَبُولِ وَالْإِكْرَامِ .
ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَهُ إلَّا بَعْدَ
الِاسْتِدْعَاءِ ، وَلَا يَزِيدَهُ عَلَى قَدْرِ الِاكْتِفَاءِ ، فَرُبَّمَا
أَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إظْهَارَ عِلْمِهِ لِلسُّلْطَانِ فَأَكْثَرَهُ
فَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَلَلٍ وَمُفْضِيًا إلَى بُعْدِهِ ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ
مُتَقَسِّمُ الْأَفْكَارِ مُسْتَوْعِبُ الزَّمَانِ ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْعِلْمِ
فَرَاغُ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ وَلَا صَبْرُ الْمُنْفَرِدِينَ بِهِ .
وَقَدْ حَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ :
قَالَ لِي الرَّشِيدُ : يَا عَبْدَ الْمَلِكِ أَنْتَ أَعْلَمُ مِنَّا وَنَحْنُ
أَعْقَلُ مِنْك لَا تُعَلِّمْنَا فِي مَلَاءٍ ، وَلَا تُسْرِعْ إلَى تَذْكِيرِنَا
فِي خَلَاءٍ ، وَاتْرُكْنَا حَتَّى نَبْتَدِئَك بِالسُّؤَالِ فَإِذَا بَلَغْت مِنْ
الْجَوَابِ حَدَّ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا تَزِدْ إلَّا أَنْ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ
مِنْك ، وَانْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ فِي التَّأْدِيبِ ، وَأَنْصَفُ فِي التَّعْلِيمِ
، وَبَلِّغْ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ غَايَةَ التَّقْوِيمِ .
وَلْيَخْرُجْ تَعْلِيمُهُ مَخْرَجَ الْمُذَاكَرَةِ
وَالْمُحَاضَرَةِ لَا مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ وَالْإِفَادَةِ ؛ لِأَنَّ لِتَأْخِيرِ
التَّعَلُّمِ خَجْلَةَ تَقْصِيرٍ يُجَلُّ السُّلْطَانُ عَنْهَا ، فَإِنْ ظَهَرَ
مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ زَلَلٌ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ وَعَرَّضَ
بِاسْتِدْرَاكِ زَلَلِهِ ، وَإِصْلَاحِ خَلَلِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ
لِلشَّعْبِيِّ : كَمْ عَطَاؤُك ؟ قَالَ : أَلْفَيْنِ .
قَالَ : لَحَنْتَ .
قَالَ لَمَّا تَرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْإِعْرَابَ كَرِهْت أَنْ أُعْرِبَ كَلَامِي عَلَيْهِ .
ثُمَّ لِيَحْذَرْ اتِّبَاعَهُ فِيمَا يُجَانِبُ الدِّينَ
وَيُضَادُّ الْحَقَّ مُوَافَقَةً لِرَأْيِهِ وَمُتَابَعَةً لِهَوَاهُ ، فَرُبَّمَا
زَلَّتْ أَقْدَامُ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً فَضَلُّوا ، وَأَضَلُّوا مَعَ
سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَقُبْحِ الْآثَارِ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَزَالُ
هَذِهِ الْأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَارِ قُرَّاؤُهَا
أُمَرَاءَهَا ، وَلَمْ يُزْكِ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا ، وَلَمْ يُمَارِ
أَخْيَارُهَا أَشْرَارَهَا .
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ عَنْهُمْ يَدَهُ ثُمَّ
سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَضَرَبَهُمْ
بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَمَلَأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا } .
وَمِنْ
آدَابِهِمْ : نَزَاهَةُ النَّفْسِ عَنْ شُبَهِ الْمَكَاسِبِ ، وَالْقَنَاعَةُ
بِالْمَيْسُورِ عَنْ كَدِّ الْمَطَالِبِ .
فَإِنَّ شُبْهَةَ الْمَكْسَبِ إثْمٌ وَكَدَّ الطَّلَبِ
ذُلٌّ ، وَالْأَجْرُ أَجْدَرُ بِهِ مِنْ الْإِثْمِ وَالْعِزُّ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ
الذُّلِّ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَقُولُونَ لِي فِيك
انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا أَرَى
النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ
أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ
لِي سُلَّمَا وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي وَلَا كُلُّ مَنْ
لَاقَيْت أَرْضَاهُ مُنْعِمَا إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى
وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا انْهَهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا
يَشِينُهَا مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي
خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ
كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ
عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ عِوَضٌ مِنْ كُلِّ
لَذَّةٍ ، وَمُغْنٍ عَنْ كُلِّ شَهْوَةٍ .
وَمَنْ كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
هِمَّةٌ فِيمَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ تَفَرَّدَ
بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةٌ ، وَمَنْ تَسَلَّى بِالْكُتُبِ لَمْ تَفُتْهُ
سَلْوَةٌ .
وَمَنْ آنَسَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، لَمْ تُوحِشْهُ
مُفَارَقَةُ الْإِخْوَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا سَمِيرَ كَالْعِلْمِ
، وَلَا ظَهِيرَ كَالْحِلْمِ .
وَمِنْ آدَابِهِمْ
: أَنْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ بِتَعْلِيمِ مَنْ عَلَّمُوا وَيَطْلُبُوا
ثَوَابَهُ بِإِرْشَادِ مَنْ أَرْشَدُوا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَيْهِ عِوَضًا
، وَلَا يَلْتَمِسُوا عَلَيْهِ رِزْقًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ثَمَنًا قَلِيلًا } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا
وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا
كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَجْرُ الْمُعَلِّمِ كَأَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ } .
وَحَسْبُ مَنْ هَذَا أَجْرُهُ أَنْ يَلْتَمِسَ عَلَيْهِ
أَجْرًا .
وَمِنْ آدَابِهِمْ
: نُصْحُ مَنْ عَلَّمُوهُ وَالرِّفْقُ بِهِمْ ، وَتَسْهِيلُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمْ
وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي رِفْدِهِمْ ، وَمَعُونَتِهِمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ
أَعْظَمُ لِأَجْرِهِمْ ، وَأَسْنَى لِذِكْرِهِمْ ، وَأَنْشَرُ لِعُلُومِهِمْ ،
وَأَرْسَخُ لِمَعْلُومِهِمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : يَا عَلِيٌّ
لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ } .
وَمِنْ
آدَابِهِمْ : أَنْ لَا يُعَنِّفُوا مُتَعَلِّمًا ، وَلَا يُحَقِّرُوا نَاشِئًا ،
وَلَا يَسْتَصْغِرُوا مُبْتَدِئًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَيْهِمْ ، وَأَعْطِفُ
عَلَيْهِمْ ، وَأَحَثُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلِّمُوا وَلَا تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ
خَيْرٌ مِنْ الْمُعَنِّفِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَقِّرُوا مَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ ، وَوَقِّرُوا مَنْ
تُعَلِّمُونَهُ } .
وَمِنْ آدَابِهِمْ : أَنْ لَا يَمْنَعُوا طَالِبًا وَلَا
يُؤَيِّسُوا مُتَعَلِّمًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الرَّغْبَةِ فِيهِمْ
وَالزُّهْدِ فِيمَا لَدَيْهِمْ ، وَاسْتِمْرَارُ ذَلِكَ مُفْضٍ إلَى انْقِرَاضِ
الْعِلْمِ بِانْقِرَاضِهِمْ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ كُلِّ الْفَقِيهِ .
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ :
مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَلَا يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رُوحِ اللَّهِ ، وَلَا يَدَعُ الْقُرْآنَ
رَغْبَةً إلَى مَا سِوَاهُ .
أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ
، وَلَا عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ } .
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ
التَّوْفِيقِ .
الْبَابُ الثَّالِثُ
أَدَبُ الدِّينِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانهُ وَتَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَ
الْخَلْقَ مُتَعَبَّدَاتِهِ ، وَأَلْزَمَهُمْ مُفْتَرَضَاتِهِ ، وَبَعَثَ
إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَشَرَعَ لَهُمْ دِينَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ دَعَتْهُ إلَى
تَكْلِيفِهِمْ ، وَلَا مِنْ ضَرُورَةٍ قَادَتْهُ إلَى تَعَبُّدِهِمْ ، وَإِنَّمَا
قَصَدَ نَفْعَهُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَفَضَّلَ بِمَا لَا
يُحْصَى عَدًّا مِنْ نِعَمِهِ .
بَلْ النِّعْمَةُ فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّ
نَفْعَ مَا سِوَى الْمُتَعَبَّدَاتِ مُخْتَصٌّ بِالدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ ،
وَنَفْعَ الْمُتَعَبَّدَاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَمَا جَمَعَ نَفْعَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَانَ أَعْظَمَ نِعْمَةً وَأَكْثَرَ
تَفَضُّلًا .
وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مَأْخُوذًا مِنْ عَقْلٍ
مَتْبُوعٍ ، وَشَرْعٍ مَسْمُوعٍ فَالْعَقْلُ مَتْبُوعٌ فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ
الشَّرْعُ ، وَالشَّرْعُ مَسْمُوعٌ فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ ؛
لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ ، وَالْعَقْلُ لَا يُتَّبَعُ
فِيمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ
.
فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى مَنْ كَمُلَ
عَقْلُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .
فَبَلَّغَهُمْ رِسَالَتَهُ ، وَأَلْزَمَهُمْ حُجَّتَهُ ،
وَبَيَّنَ لَهُمْ شَرِيعَتَهُ ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ ، فِيمَا أَحَلَّهُ
وَحَرَّمَهُ ، وَأَبَاحَهُ وَحَظَرَهُ ، وَاسْتَحَبَّهُ وَكَرِهَهُ ، وَأَمَرَ
بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ، وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ لِمَنْ أَطَاعَهُ
وَأَوْعَدَ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ .
فَكَانَ وَعْدُهُ تَرْغِيبًا ، وَوَعِيدُهُ تَرْهِيبًا ؛
لِأَنَّ الرَّغْبَةَ تَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَالرَّهْبَةَ تَكُفُّ عَنْ
الْمَعْصِيَةِ ، وَالتَّكْلِيفُ يَجْمَعُ أَمْرًا بِطَاعَةٍ وَنَهْيًا عَنْ
مَعْصِيَةٍ .
وَلِذَلِكَ كَانَ التَّكْلِيفُ مَقْرُونًا بِالرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ ، وَكَانَ مَا تَخَلَّلَ كِتَابَهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ
السَّالِفَةِ ، وَأَخْبَارِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ، عِظَةً وَاعْتِبَارًا
تَقْوَى
مَعَهُمَا
الرَّغْبَةُ ، وَتَزْدَادُ بِهِمَا الرَّهْبَةُ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِنَا وَتَفَضُّلِهِ
عَلَيْنَا .
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نِعَمُهُ لَا تُحْصَى
وَشُكْرُهُ لَا يُؤَدَّى .
ثُمَّ جَعَلَ إلَى رَسُولِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيَانَ مَا كَانَ مُجْمَلًا ، وَتَفْسِيرَ مَا كَانَ مُشْكِلًا ،
وَتَحْقِيقَ مَا كَانَ مُحْتَمَلًا ؛ لِيَكُونَ لَهُ مَعَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ
ظُهُورُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَمَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ } .
ثُمَّ جَعَلَ إلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَ مَا
نَبَّهَ عَلَى مَعَانِيهِ ، وَأَشَارَ إلَى أُصُولِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ إلَى
عِلْمِ الْمُرَادِ ، فَيَمْتَازُوا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَيَخْتَصُّوا
بِثَوَابِ اجْتِهَادِهِمْ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فَصَارَ
الْكِتَابُ أَصْلًا وَالسُّنَّةُ فَرْعًا وَاسْتِنْبَاطُ الْعُلَمَاءِ إيضَاحًا
وَكَشْفًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْقُرْآنُ أَصْلُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ نَصُّهُ
وَدَلِيلُهُ } ، وَالْحِكْمَةُ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا .
وَكَانَ مِنْ رَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَتَفَضُّلِهِ عَلَى
عِبَادِهِ أَنْ أَقْدَرَهُمْ عَلَى مَا كَلَّفَهُمْ ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ
فِيمَا تَعَبَّدْهُمْ ؛ لِيَكُونُوا مَعَ مَا قَدْ أَعَدَّهُ لَهُمْ نَاهِضِينَ
بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا
وُسْعَهَا } وَقَالَ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }
وَجَعَلَ مَا كَلَّفَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمًا أَمَرَهُمْ
بِاعْتِقَادِهِ ، وَقِسْمًا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ ، وَقِسْمًا أَمَرَهُمْ
بِالْكَفِّ عَنْهُ ؛ لِيَكُونَ اخْتِلَافُ
جِهَاتِ
التَّكْلِيفِ أَبْعَثَ عَلَى قَبُولِهِ ، وَأَعْوَنَ عَلَى فِعْلِهِ ، حِكْمَةً
مِنْهُ وَلُطْفًا .
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِاعْتِقَادِهِ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا إثْبَاتًا ، وَقِسْمًا نَفْيًا
.
فَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَإِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ ،
وَصِفَاتِهِ ، وَإِثْبَاتُ بَعْثَتِهِ رُسُلَهُ ، وَتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ .
وَأَمَّا النَّفْيُ فَنَفْيُ الصَّاحِبَةِ ، وَالْوَلَدِ
، وَالْحَاجَةِ ، وَالْقَبَائِحِ أَجْمَعَ .
وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ أَوَّلُ مَا كَلَّفَهُ الْعَاقِلَ
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمًا عَلَى
أَبْدَانِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَقِسْمًا فِي أَمْوَالِهِمْ
كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَقِسْمًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ كَالْحَجِّ
وَالْجِهَادِ ، لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ وَيَخِفَّ عَنْهُمْ أَدَاؤُهُ
نَظَرًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ ، وَتَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ .
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ
: قِسْمًا لِإِحْيَاءِ نُفُوسِهِمْ وَصَلَاحِ أَبْدَانِهِمْ ، كَنَهْيِهِ عَنْ
الْقَتْلِ ، وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالسُّمُومِ ، وَشُرْبِ الْخُمُورِ
الْمُؤَدِّيَةِ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ وَزَوَالِهِ .
وَقِسْمًا لِائْتِلَافِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ
بَيْنِهِمْ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْغَضَبِ ، وَالْغَلَبَةِ ، وَالظُّلْمِ ،
وَالسَّرَفِ الْمُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ ، وَالْبَغْضَاءِ .
وَقِسْمًا لِحِفْظِ أَنْسَابِهِمْ وَتَعْظِيمِ
مَحَارِمِهِمْ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الزِّنَا وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ .
فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ فِيمَا حَظَرَهُ عَلَيْنَا
كَنِعْمَتِهِ فِيمَا أَبَاحَهُ لَنَا ، وَتَفَضُّلُهُ فِيمَا كَفَّنَا عَنْهُ
كَتَفَضُّلِهِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ
.
فَهَلْ يَجِدُ الْعَاقِلُ فِي رَوِيَّتِهِ مَسَاغًا أَنْ
يُقَصِّرَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ نِعْمَةُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَرَى فُسْحَةً فِي
ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَكُونُ
مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَأَهْمَلَهَا ، مَعَ شِدَّةِ فَاقَتِهِ
إلَيْهَا ، إلَّا مَذْمُومًا فِي الْعَقْلِ مَعَ مَا جَاءَ مِنْ وَعِيدِ الشَّرْعِ
؟ ثُمَّ مِنْ لُطْفِهِ
بِخَلْقِهِ
وَتَفَضُّلِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ كُلِّ فَرِيضَةٍ
نَفْلًا ، وَحَمَلَ لَهَا مِنْ الثَّوَابِ قِسْطًا ، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهِ نَدْبًا
، وَجَعَلَ لَهُمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا لِيُضَاعِفَ ثَوَابَ فَاعِلِهِ ، وَيَضَعَ
الْعِقَابَ عَنْ تَارِكِهِ .
وَمِنْ لَطِيفِ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ
عِبَادَةٍ حَالَتَيْنِ : حَالَةُ كَمَالٍ وَحَالَةُ جَوَازٍ ، رِفْقًا مِنْهُ
بِخَلْقِهِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ فِيهِمْ الْعَجِلَ الْمُبَادِرَ
وَالْبَطِيءَ الْمُتَثَاقِلَ ، وَمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى أَدَاءِ الْأَكْمَلِ لِيَكُونَ
مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ هَيْئَاتِ عِبَادَتِهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ ، وَلَا
مَانِعٍ مِنْ أَجْرٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْنَا وَحُسْنِ نَظَرِهِ
إلَيْنَا .
وَكَانَ أَوَّلُ مَا فَرَضَ بَعْدَ تَصْدِيقِ نَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ ، وَقَدْ قَدَّمَهَا
عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ عَلَى الْأَمْوَالِ
أَشَحُّ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ أَسْمَحُ ، وَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ .
فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ أَسْهَلُ فِعْلًا ، وَأَيْسَرُ عَمَلًا ، وَجَعَلَهَا مُشْتَمِلَةً
عَلَى خُضُوعٍ لَهُ وَابْتِهَالٍ إلَيْهِ .
فَالْخُضُوعُ لَهُ رَهْبَةٌ مِنْهُ ، وَالِابْتِهَالُ
إلَيْهِ رَغْبَةٌ فِيهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى صَلَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ
فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ
} .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ اصْفَرَّ لَوْنُهُ
مَرَّةً وَاحْمَرَّ أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَتَتْنِي
الْأَمَانَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلْتهَا أَنَا فَلَا
أَدْرِي أَأُسِيءُ فِيهَا أَمْ أُحْسِنُ .
ثُمَّ جَعَلَ لَهَا شُرُوطًا لَازِمَةً مِنْ رَفْعِ
حَدَثٍ ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ ؛ لِيَسْتَدِيمَ النَّظَافَةَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ، وَالطَّهَارَةَ
لِأَدَاءِ فَرْضِهِ .
ثُمَّ
ضَمَّنَهَا تِلَاوَةَ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ لِيَتَدَبَّرَ مَا فِيهِ ، مِنْ أَوَامِرِهِ
وَنَوَاهِيهِ ، وَيَعْتَبِرَ إعْجَازَ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ .
ثُمَّ عَلَّقَهَا بِأَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ ، وَأَزْمَانٍ مُتَرَادِفَةٍ
؛ لِيَكُونَ تَرَادُفُ أَزْمَانِهَا وَتَتَابُعُ أَوْقَاتِهَا سَبَبًا لِاسْتِدَامَةِ
الْخُضُوعِ لَهُ وَالِابْتِهَالِ إلَيْهِ ، فَلَا تَنْقَطِعُ الرَّهْبَةُ مِنْهُ
وَلَا الرَّغْبَةُ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ
اسْتَدَامَ صَلَاحُ الْخَلْقِ .
وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ يَكُونُ
اسْتِيفَاؤُهَا عَلَى الْكَمَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ فِيهَا حَالَ الْجَوَازِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ مِكْيَالٌ فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ
فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي الْمُطَفِّفِينَ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ كَانَتْ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَعَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنَ } .
وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الْفُصَحَاءِ فِي ذَلِكَ :
أَقْبِلْ عَلَى صَلَوَاتِك الْخَمْسِ كَمْ مُصْبِحٍ وَعَسَاهُ لَا يُمْسِي وَاسْتَقْبِلْ
الْيَوْمَ الْجَدِيدَ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو ذُنُوبَ صَبِيحَةِ الْأَمْسِ
فَلَيَفْعَلَنَّ بِوَجْهِك الْغَضِّ الْبِلَى فِعْلَ الظَّلَامِ بِصُورَةِ
الشَّمْسِ ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ وَقَدَّمَهُ عَلَى زَكَاةِ
الْأَمْوَالِ لِتَعَلُّقِ الصِّيَامِ بِالْأَبْدَانِ .
وَكَانَ فِي إيجَابِهِ حَثٌّ عَلَى رَحْمَةِ الْفُقَرَاءِ
وَإِطْعَامِهِمْ وَسَدِّ جَوْعَاتِهِمْ لِمَا عَايَنُوهُ مِنْ شِدَّةِ
الْمَجَاعَةِ فِي صَوْمِهِمْ .
وَقَدْ قِيلَ لِيُوسُفَ - عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَتَجُوعُ وَأَنْتَ عَلَى خَزَائِنِ
الْأَرْضِ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجَائِعَ .
ثُمَّ لِمَا فِي الصَّوْمِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَإِذْلَالِهَا
وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَيْهَا وَإِشْعَارِ النَّفْسِ مَا هِيَ
عَلَيْهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى يَسِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ .
وَالْمُحْتَاجُ إلَى الشَّيْءِ ذَلِيلٌ بِهِ .
وَبِهَذَا احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى -
عَلَى مَنْ
اتَّخَذَ عِيسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِهِ ،
فَقَالَ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } .
فَجَعَلَ احْتِيَاجَهُمَا إلَى الطَّعَامِ نَقْصًا
فِيهِمَا عَنْ أَنْ يَكُونَا إلَهَيْنِ
.
وَقَدْ وَصَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ نَقْصَ
الْإِنْسَانِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَقَالَ : مِسْكِينُ ابْنُ آدَمَ
مَحْتُومُ الْأَجَلِ ، مَكْتُومُ الْأَمَلِ ، مَسْتُورُ الْعِلَلِ .
يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَيَنْظُرُ بِشَحْمٍ ، وَيَسْمَعُ
بِعَظْمٍ .
أَسِيرُ جُوعِهِ ، صَرِيعُ شِبَعِهِ تُؤْذِيهِ
الْبَقَّةُ ، وَتُنْتِنُهُ الْعَرَقَةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ .
لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ، وَلَا نَفْعًا وَلَا
مَوْتًا ، وَلَا حَيَاةً ، وَلَا نُشُورًا .
فَانْظُرْ إلَى لُطْفِهِ بِنَا ، فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ
الصِّيَامِ عَلَيْنَا .
كَيْفَ أَيْقَظَ الْعُقُولَ لَهُ ، وَقَدْ كَانَتْ
عَنْهُ غَافِلَةً أَوْ مُتَغَافِلَةً
.
وَنَفَعَ النُّفُوسَ بِهِ وَلَمْ تَكُنْ مُنْتَفِعَةً
وَلَا نَافِعَةً .
ثُمَّ فَرَضَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَقَدَّمَهَا عَلَى
فَرْضِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ مَعَ إنْفَاقِ الْمَالِ سَفَرًا شَاقًّا ،
فَكَانَتْ النَّفْسُ إلَى الزَّكَاةِ أَسْرَعَ إجَابَةً مِنْهَا إلَى الْحَجِّ ، فَكَانَ
فِي إيجَابِهَا مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ ، وَمَعُونَةً لِذَوِي الْحَاجَاتِ ،
تَكُفُّهُمْ عَنْ الْبَغْضَاءِ وَتَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّقَاطُعِ وَتَبْعَثُهُمْ
عَلَى التَّوَاصُلِ ؛ لِأَنَّ الْآمِلَ وَصُولٌ وَالرَّاجِيَ هَائِبٌ ، وَإِذَا
زَالَ الْأَمَلُ وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ وَاشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ وَقَعَتْ
الْبَغْضَاءُ وَاشْتَدَّ الْحَسَدُ فَحَدَثَ التَّقَاطُعُ بَيْنَ أَرْبَابِ
الْأَمْوَالِ وَالْفُقَهَاءِ ، وَوَقَعَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْأَغْنِيَاءِ
، حَتَّى تُفْضِيَ إلَى التَّغَالُبِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالتَّغْرِيرِ
بِالنُّفُوسِ .
هَذَا مَعَ مَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ تَمْرِينِ
النَّفْسِ عَلَى السَّمَاحَةِ الْمَحْمُودَةِ وَمُجَانَبَةِ الشُّحِّ الْمَذْمُومِ
؛ لِأَنَّ السَّمَاحَةَ تَبْعَثُ عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ
وَالشُّحَّ
يَصُدُّ عَنْهَا .
وَمَا يَبْعَثُ عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ فَأَجْدَرُ
بِهِ حَمْدًا ، وَمَا صَدَّ عَنْهَا فَأَخْلِقْ بِهِ ذَمًّا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { شَرُّ مَا أُعْطِيَ
الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ } .
فَسُبْحَانَ مَنْ دَبَّرَنَا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ ،
وَأَخْفَى عَنْ فِطْنَتِنَا جَزِيلَ نِعْمَتِهِ ، حَتَّى اسْتَوْجَبَ مِنْ
الشُّكْرِ بِإِخْفَائِهَا أَعْظَمَ مِمَّا اسْتَوْجَبَهُ بِإِبْدَائِهَا .
ثُمَّ فَرَضَ الْحَجَّ فَكَانَ آخِرَ فُرُوضِهِ ؛
لِأَنَّهُ يَجْمَعُ عَمَلًا عَلَى بَدَنٍ وَحَقًّا فِي مَالٍ .
فَجَعَلَ فَرْضَهُ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ فُرُوضِ
الْأَبْدَانِ وَفُرُوضِ الْأَمْوَالِ ؛ لِيَكُونَ اسْتِئْنَاسَهُمْ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ ذَرِيعَةً إلَى تَسْهِيلِ مَا جَمَعَ بَيْنَ
النَّوْعَيْنِ .
فَكَانَ فِي إيجَابِهِ تَذْكِيرٌ لِيَوْمِ الْحَشْرِ
بِمُفَارَقَةِ الْمَالِ وَالْأَهْلِ ، وَخُضُوعِ الْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ فِي
الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَاجْتِمَاعِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي
الرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ ، وَإِقْلَاعِ أَهْلِ الْمَعَاصِي
عَمَّا اجْتَرَحُوهُ ، وَنَدَمِ الْمُذْنِبِينَ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ ، فَقَلَّ مَنْ
حَجَّ إلَّا وَأَحْدَثَ تَوْبَةً مِنْ ذَنْبٍ وَإِقْلَاعًا مِنْ مَعْصِيَةٍ ،
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِنْ
عَلَامَةِ الْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا بَعْدَهَا خَيْرًا
مِنْهُ قَبْلَهَا } .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ النَّدَمَ عَلَى الذُّنُوبِ
مَانِعٌ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا ، وَالتَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ لِمَا سَلَفَ
مِنْهَا .
فَإِذَا كَفَّ عَمَّا كَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَنْبَأَ
عَنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ، وَصِحَّةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي قَبُولَ حَجَّتِهِ .
ثُمَّ نَبَّهَ بِمَا يُعَانِي فِيهِ مِنْ مَشَاقِّ
السَّفَرِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ عَلَى مَوْضِعِ النِّعْمَةِ بِرَفَاهَةِ
الْإِقَامَةِ وَأَنَسَةِ الْأَوْطَانِ لِيَحْنُوَ عَلَى مِنْ سُلِبَ هَذِهِ
النِّعْمَةَ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ
.
ثُمَّ أَعْلَمَ بِمُشَاهَدَةِ حَرَمِهِ الَّذِي أَنْشَأَ
مِنْهُ دِينَهُ
، وَبَعَثَ فِيهِ رَسُولَهُ .
ثُمَّ بِمُشَاهَدَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ
اللَّهُ بِهَا أَهْلَ طَاعَتِهِ ، وَأَذَلَّ بِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ ، حَتَّى خَضَعَ لَهُ عُظَمَاءُ
الْمُتَجَبِّرِينَ ، وَتَذَلَّلَ لَهُ زُعَمَاءُ الْمُتَكَبِّرِينَ .
إنَّهُ لَمْ يَنْتَشِرْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُنْقَطِعِ
، وَلَا قَوِيَ بَعْدَ الضَّعْفِ الْبَيِّنِ حَتَّى طَبَّقَ الْأَرْضَ شَرْقًا
وَغَرْبًا إلَّا بِمُعْجِزَةٍ ظَاهِرَةٍ وَنَصْرٍ عَزِيزٍ .
فَاعْتَبِرْ - أَلْهَمَك اللَّهُ الشُّكْرَ وَوَفَّقَك لِلتَّقْوَى
- إنْعَامَهُ عَلَيْك فِيمَا كَلَّفَك ، وَإِحْسَانَهُ إلَيْك فِيمَا تَعَبَّدَك .
فَقَدْ وَكَّلْتُك إلَى فِطْنَتِك وَأَحَلْتُك عَلَى
بَصِيرَتِك بَعْدَ أَنْ كُنْتُ لَك رَائِدًا صَدُوقًا ، وَنَاصِحًا شَفُوقًا هَلْ
تُحْسِنُ نُهُوضًا بِشُكْرِهِ إذَا فَعَلْت مَا أَمَرَك ، وَتَقَبَّلْت مَا
كَلَّفَك ؟ كَلًّا إنَّهُ لَا يُوَلِّيك نِعْمَةً تُوجِبُ الشُّكْرَ إذَا
وَصَلَهَا قَبْلَ شُكْرِ مَا سَلَفَ بِنِعْمَةٍ تُوجِبُ الشُّكْرَ فِي
الْمُؤْتَنَفِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ : نِعَمُ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُشْكَرَ إلَّا مَا أَعَانَ عَلَيْهِ ، وَذُنُوبُ ابْنِ آدَمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُغْفَرَ إلَّا مَا عَفَا عَنْهُ
.
وَأَنْشَدْت لِمَنْصُورِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْفَقِيهِ الْمِصْرِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : شُكْرُ الْإِلَهِ نِعْمَةٌ مُوجِبَةٌ لِشُكْرِهِ
فَكَيْفَ شُكْرِي بِرَّهُ وَشُكْرُهُ مِنْ بِرِّهِ وَإِذَا كُنْت عَنْ شُكْرِ
نِعَمِهِ عَاجِزًا فَكَيْفَ بِك إذَا قَصَّرَتْ فِيمَا أَمَرَك ، أَوْ فَرَّطْت
فِيمَا كَلَّفَك ، وَنَفْعُهُ أَعْوَدُ عَلَيْك لَوْ فَعَلْته .
هَلْ تَكُونُ لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ إلَّا كَفُورًا ،
وَبِبِدَايَةِ الْعُقُولِ إلَّا مَزْجُورًا ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } قَالَ مُجَاهِدٌ : أَيْ يَعْرِفُونَ
مَا عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ وَيُنْكِرُونَهَا بِقَوْلِهِمْ
أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ آبَائِهِمْ وَاكْتَسَبُوهَا بِأَفْعَالِهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ يَا
ابْنَ
آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي أَتَحَبَّبُ إلَيْك بِالنِّعَمِ وَتَتَمَقَّتُ إلَيَّ
بِالْمَعَاصِي .
خَيْرِي إلَيْك نَازِلٌ وَشَرُّك إلَيَّ صَاعِدٌ كَمْ
مِنْ مَلَكٍ كَرِيمٍ يَصْعَدُ إلَيَّ مِنْك بِعَمَلٍ قَبِيحٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ صُلَحَاءِ السَّلَفِ : قَدْ أَصْبَحَ
بِنَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا نُحْصِيهِ ، مَعَ كَثْرَةِ مَا
نَعْصِيهِ ، فَلَا نَدْرِي أَيَّهُمَا نَشْكُرُ ، أَجَمِيلَ مَا يَنْشُرُ ، أَمْ
قَبِيحَ مَا يَسْتُرُ .
فَحَقَّ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ أَنْ يَقْبَلَهَا
مُمْتَثِلًا لِمَا كُلِّفَ مِنْهَا وَقَبُولُهَا يَكُونُ بِأَدَائِهَا ، ثُمَّ
يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ مِنْ إسْدَائِهَا .
فَإِنَّ بِنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى نِعَمِهِ أَكْثَرَ
مِمَّا كَلَّفَنَا مِنْ شُكْرِ نِعَمِهِ .
فَإِنْ نَحْنُ أَدَّيْنَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِي
التَّكْلِيفِ تَفَضَّلَ بِإِسْدَاءِ النِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ التَّكْلِيفِ
، فَلَزِمَتْ النِّعْمَتَانِ وَمَنْ لَزِمَتْهُ النِّعْمَتَانِ فَقَدْ أُوتِيَ حَظَّ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَهَذَا هُوَ السَّعِيدُ بِالْإِطْلَاقِ .
وَإِنْ قَصَّرْنَا فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفْنَا مِنْ
شُكْرِهِ قَصَرَ عَنَّا مَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ مِنْ نِعَمِهِ ، فَنَفَرَتْ
النِّعْمَتَانِ وَمَنْ نَفَرَتْ عَنْهُ النِّعْمَتَانِ فَقَدْ سُلِبَ حَظَّ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَيَاةِ حَظٌّ وَلَا فِي الْمَوْتِ
رَاحَةٌ ، وَهَذَا هُوَ الشَّقِيُّ بِالِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَيْسَ يَخْتَارُ الشِّقْوَةَ عَلَى السَّعَادَةِ ذُو
لُبٍّ صَحِيحٍ وَلَا عَقْلٍ سَلِيمٍ
.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ } .
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ سُلَيْمٌ قَالَ ، قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّ
هَذِهِ الْآيَةِ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } .
فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّ الْمُصِيبَةَ فِي
الدُّنْيَا جَزَاءٌ } .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله
تَعَالَى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
} .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَحَدُ الْعَذَابَيْنِ
الْفَضِيحَةُ فِي الدُّنْيَا ،
وَالثَّانِي
عَذَابُ الْقَبْرِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ : أَحَدُ
الْعَذَابَيْنِ مَصَائِبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ،
وَالثَّانِي عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي النَّارِ .
وَلَيْسَ وَإِنْ نَالَ أَهْلُ الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ
عَيْشٍ أَوْ أَدْرَكُوا أُمْنِيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً ،
بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً .
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمِ
بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إذَا رَأَيْت اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَادَ مَا يَشَاؤُنِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ
إيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ ثُمَّ تَلَا : { فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } .
}
فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ
الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ ، عَقْلًا أَوْ
شَرْعًا ، بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ .
مِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ دَاعِيَةً إلَيْهَا ، وَالشَّهَوَاتُ
بَاعِثَةً عَلَيْهَا ، كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ
عَنْهَا ؛ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا ، وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إلَيْهَا
بِنَوْعَيْنِ مِنْ الزَّجْرِ : أَحَدُهُمَا : حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ
الْجَرِيءُ .
وَالثَّانِي : وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ .
وَمِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا ،
وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا ، كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذِرَات
وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ ، فَاقْتَصَرَ اللَّهُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا
بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مُسْتَعِدَّةٌ فِي الزَّجْرِ
عَنْهَا ، وَمَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا .
ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ زَوَاجِرَهُ بِإِنْكَارِ
الْمُنْكِرِينَ لَهَا فَأَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ
الْمُنْكَرِ لِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ تَأْكِيدًا لِأَوَامِرِهِ ،
وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ تَأْيِيدًا لِزَوَاجِرِهِ .
لِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَشِرَةَ قَدْ أَلْهَتْهَا الصَّبْوَةُ
عَنْ اتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ ، وَأَذْهَلَتْهَا الشَّهْوَةُ عَنْ تِذْكَارِ
الزَّوَاجِرِ .
وَكَانَ إنْكَارُ الْمُجَالِسِينَ أَزْجَرَ لَهَا ،
وَتَوْبِيخُ الْمُخَاطَبِينَ أَبْلَغَ فِيهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا أَقَرَّ قَوْمٌ الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا
عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مُحْتَضَرٍ } .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ فَاعِلِي
الْمُنْكَرِ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا آحَادًا
مُتَفَرِّقِينَ ، وَأَفْرَادًا مُتَبَدِّدِينَ ، لَمْ يَتَحَزَّبُوا فِيهِ ،
وَلَمْ يَتَضَافَرُوا عَلَيْهِ ، وَهُمْ رَعِيَّةٌ مَقْهُورُونَ ، وَأَفْذَاذٌ
مُسْتَضْعَفُونَ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهْيَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ ، مَعَ الْمُكْنَةِ وَظُهُورِ الْقُدْرَةِ وَاجِبٌ
عَلَى مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ
مِنْ
فَاعِلِيهِ ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ قَائِلِيهِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى
مُنْكِرِيهِ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ .
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ
بِالْعَقْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِالْعَقْلِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ
الْقَبِيحِ ، وَوَجَبَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى مُجَانَبَتِهِ ، وَأَبْلَغُ فِي مُفَارَقَتِهِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ قَوْمًا رَكِبُوا سَفِينَةً فَاقْتَسَمُوا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعًا
، فَنَقَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَوْضِعًا بِفَأْسٍ .
فَقَالُوا : مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : هُوَ مَكَانِي
أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْت .
فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ فَهَلَكَ وَهَلَكُوا } .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ
دُونَ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ ،
وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الْقَبِيحِ ، لَوَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ،
وَلَمَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِقْرَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْكُفْرِ ،
وَتَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ ، ؛ لِأَنَّ وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ
إبْطَالُهَا بِالشَّرْعِ ، وَفِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْعَقْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِإِنْكَارِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَرْكِ إنْكَارِهِ مَضَرَّةٌ
لَاحِقَةٌ بِمُنْكِرِهِ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِالْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا .
وَأَمَّا إنْ لَحِقَ الْمُنْكِرَ مَضَرَّةٌ مِنْ
إنْكَارِهِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ مِنْ كَفِّهِ وَإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
الْإِنْكَارُ بِالْعَقْلِ وَلَا بِالشَّرْعِ .
أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ اجْتِلَابِ
الْمَضَارِّ الَّتِي لَا يُوَازِيهَا نَفْعٌ .
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنْكِرْ الْمُنْكَرَ بِيَدِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِك ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِك ، وَذَلِكَ
أَضْعَفُ
الْإِيمَانِ } .
فَإِنْ أَرَادَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَعَ
لُحُوقِ الْمَضَرَّةِ بِهِ نَظَرَ
.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إظْهَارُ النَّكِيرِ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ ، وَلَا إظْهَارِ كَلِمَةِ الْحَقِّ ، لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ النَّكِيرُ إذَا خَشِيَ ، بِغَالِبِ الظَّنِّ ، تَلَفًا أَوْ
ضَرَرًا ، وَلَمْ يُخْشَ مِنْهُ النَّكِيرُ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَ فِي إظْهَارِ النَّكِيرِ إعْزَازُ دِينِ
اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ الْحَقِّ ، حَسُنَ مِنْهُ النَّكِيرُ
مَعَ خَشْيَةِ الْإِضْرَارِ وَالتَّلَفِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، إذَا
كَانَ الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالنَّكِيرِ وَإِنْ انْتَصَرَ أَوْ قُتِلَ .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ
سُلْطَانٍ جَائِرٍ } .
فَأَمَّا إذَا كَانَ يُقْتَلُ قَبْلَ حُصُولِ الْغَرَضِ
قَبُحَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِنْكَارِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنْكَارُ
يَزِيدُ الْمُنْهَى إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمُنْكَرِ ، وَلَجَاجًا فِي الْإِكْثَارِ
مِنْهُ ، قَبُحَ فِي الْعَقْلِ إنْكَارُهُ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ فِعْلُ
الْمُنْكَرِ مِنْ جَمَاعَةٍ قَدْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ ، وَعُصْبَةٍ قَدْ
تَحَزَّبَتْ وَدَعَتْ إلَيْهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ إنْكَارِهِ عَلَى
مَذَاهِبَ شَتَّى فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ
الْآثَارِ : لَا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ
كَافًّا ، مُمْسِكًا ، وَمُلَازِمًا لِبَيْتِهِ ، وَادِعًا غَيْرَ مُنْكِرٍ وَلَا مُسْتَفَزٍّ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِمَّنْ يَقُولُ بِظُهُورِ الْمُنْتَظَرِ
: لَا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَلَا التَّعَرُّضُ لِإِزَالَتِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ
الْمُنْتَظَرُ فَيَتَوَلَّى إنْكَارَهُ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُوا أَعْوَانَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ، مِنْهُمْ الْأَصَمُّ :
لَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ إنْكَارُهُ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى إمَامٍ عَدْلٍ ،
فَيَجِبَ عَلَيْهِمْ الْإِنْكَارُ مَعَهُ .
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ : إنْكَارُ ذَلِكَ
وَاجِبٌ ، وَالدَّفْعُ عَنْهُ لَازِمٌ
عَلَى
شُرُوطِهِ فِي وُجُودِ أَعْوَانٍ يَصْلُحُونَ لَهُ .
فَأَمَّا مَعَ فَقْدِ الْأَعْوَانِ فَعَلَى الْإِنْسَانِ
الْكَفُّ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَرَضِ ، وَذَلِكَ
قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ .
فَهَذَا مَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَوَامِرَهُ
وَأَيَّدَ بِهِ زَوَاجِرَهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ
الْمُنْكَرِ ، وَمَا يَخْتَلِفُ مِنْ أَحْوَالِ الْآمِرِينَ بِهِ وَالنَّاهِينَ
عَنْهُ .
ثُمَّ لَيْسَ
يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ ، مِنْ فِعْلِ
الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي ، مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : فَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ
الْمَعَاصِي .
وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ ،
وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ
.
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ ، وَثَوَابَ
الْمُطِيعِينَ .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدَائِنِيُّ .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالْبِرُّ لَا يَبْلَى ، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ ،
فَكُنْ كَمَا شِئْت ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ } .
وَقَدْ قِيلَ : كُلٌّ يَحْصُدُ مَا يَزْرَعُ ، وَيُجْزَى
بِمَا يَصْنَعُ .
بَلْ قَالُوا : زَرْعُ يَوْمِك حَصَادُ غَدِك .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ
وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ
الْمُكَلَّفِينَ .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ فِعْلِ مَا
أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ
عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي
مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي
مَخَافَةَ النَّارِ .
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : جِسْمُك
قَدْ أَفْنَيْته بِالْحِمَى دَهْرًا مِنْ الْبَارِدِ وَالْحَارِّ وَكَانَ أَوْلَى
بِك أَنْ تَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ وَقَالَ ابْنُ صَبَاوَةَ :
إنَّا نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنَ
مِنْ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ
لَا غِنَى بِكُمْ عَنْ ثَوَابِهِ ، وَاصْبِرُوا عَنْ عَمَلٍ لَا صَبْرَ لَكُمْ
عَلَى عِقَابِهِ .
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْك
.
فَقَالَ : كَيْفَ يَرْضَى عَنِّي وَلَمْ أُرْضِهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ
الْمَعَاصِي .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ ؛ لِأَنَّهُ
تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ،
وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْلِعُوا عَنْ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ
يَأْخُذَكُمْ اللَّهُ هَتًّا بَتًّا } : الْهَتُّ الْكَسْرُ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَفْضَلُ
النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ ، وَلَمْ تَتْرُكْ الشُّبْهَةُ
يَقِينَهُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : عَجِبْت لِمَنْ
يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ
الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : أَهْلُ الذُّنُوبِ
مَرْضَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا
أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : قَلْبٌ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ
عَصَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَلِبَّاءِ : يُدِلُّ بِالطَّاعَةِ
الْعَاصِي وَيَنْسَى عَظِيمَ الْمَعَاصِي .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْعَمَلِ ، أَوْ
رَجُلٌ كَثِيرُ الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْعَمَلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا تَقُولُ فِي صَلَاةِ
اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ : خَفْ اللَّهَ بِالنَّهَارِ وَنَمْ بِاللَّيْلِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الزُّهَّادِ رَجُلًا يَقُولُ لِقَوْمٍ :
أَهْلَكَكُمْ النَّوْمُ .
فَقَالَ : بَلْ أَهْلَكَتْكُمْ الْيَقِظَةُ .
وَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا
التَّقْوَى ؟ فَقَالَ : أَجَزْتَ فِي أَرْضٍ فِيهَا شَوْكٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ : كَيْفَ كُنْتَ تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : كُنْتُ
أَتَوَقَّى .
قَالَ : فَتَوَقَّ الْخَطَايَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : أَيَضْمَنُ
لِي فَتًى تَرْكَ الْمَعَاصِي وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلَاصِ أَطَاعَ
اللَّهَ قَوْمٌ وَاسْتَرَاحُوا وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ
الْمَعَاصِي
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ دِينِهِ ، الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ
يَقِينِهِ .
وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - كُلُّهَا عِبَرًا .
عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ ،
وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ يَتْعَبُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى
الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا ، وَعَجِبْت
لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ
بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ
} .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ بِكُمْ ضَعْفٌ
فَكُفُّوا عَنْ الْمَعَاصِي } .
وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي
تَرْكٌ وَهُوَ أَسْهَلُ ، وَعَمَلَ الطَّاعَاتِ فِعْلٌ وَهُوَ أَثْقَلُ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ
بِعُذْرٍ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَالتَّرْكُ لَا يَعْجَزُ
الْمَعْذُورُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ تَرْكَ الْأَعْمَالِ بِالْأَعْذَارِ ؛
لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : رَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً كَانَ قَوِيًّا فَأَعْمَلَ قُوَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
كَانَ ضَعِيفًا فَكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الشَّامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوبُ تَزِيدُ
وَتُقَالُ عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ
رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي
تَقْلِيلَهَا وَعَنْ الْمَمَاتِ يَحِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ
وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي آفَتَيْنِ
: إحْدَاهُمَا تُكْسِبُ الْوِزْرَ وَالْأُخْرَى تُوهِنُ
الْأَجْرَ .
فَأَمَّا الْمُكْسِبَةُ لِلْوِزْرِ
فَإِعْجَابٌ
بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَابَ
بِهِ يُفْضِي إلَى حَالَتَيْنِ مَذْمُومَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْمُعْجَبَ
بِعَمَلِهِ مُمْتَنٌّ بِهِ وَالْمُمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَاحِدٌ
لِنِعَمِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ : أَمَّا زُهْدُك فِي
الدُّنْيَا فَقَدْ اسْتَعْجَلْت بِهِ الرَّاحَةَ ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ
فَهُوَ عِزٌّ لَك ، فَهَذَانِ لَك وَبَقِيَتْ أَنَا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُدِلٌّ
بِهِ وَالْمُدِلُّ بِعَمَلِهِ مُجْتَرِئٌ ، وَالْمُجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ عَاصٍ .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : خَيْرٌ مِنْ الْعُجْبِ
بِالطَّاعَةِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِطَاعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ
، خَيْرٌ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ ، وَبَاكٍ نَادِمٌ عَلَى ذَنْبِهِ
خَيْرٌ مِنْ ضَاحِكٍ مُعْتَرِفٍ بِلَهْوِهِ .
وَأَمَّا الْمُوهِنَةُ لِلْأَجْرِ فَالثِّقَةُ بِمَا
أَسْلَفَ وَالرُّكُونُ إلَى مَا قَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ تَئُولُ إلَى أَمْرَيْنِ
شَيْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُحْدِثُ اتِّكَالًا عَلَى مَا مَضَى وَتَقْصِيرًا
فِيمَا يُسْتَقْبَلُ .
وَمَنْ قَصَّرَ وَاتَّكَلَ لَمْ يَرْجُ أَجْرًا وَلَمْ
يُؤَدِّ شُكْرًا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاثِقَ آمِنٌ .
وَالْآمِنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ ،
وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ أَوَامِرُهُ ، وَسَهُلَتْ
عَلَيْهِ زَوَاجِرُهُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : رَهْبَةُ الْمَرْءِ
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : لَأَنْ أَبِيتَ
نَائِمًا وَأُصْبِحَ نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا
وَأُصْبِحَ نَاعِمًا .
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ : مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ لَا
يَكُونَ فِيك خَيْرٌ إلَّا أَنْ تَرَى أَنَّ فِيك خَيْرًا .
وَقِيلَ لِرَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ - رَحِمَهَا اللَّهُ
- : هَلْ عَمِلْت عَمَلًا قَطُّ تَرَيْنَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ : إنْ
كَانَ شَيْءٌ فَخَوْفِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ -
رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ - : إنَّا لِلَّهِ فِيمَا مَضَى مَا أَعْظَمَ فِيهِ الْخَطَرُ ، وَإِنَّا
لِلَّهِ فِيمَا بَقِيَ مَا أَقَلَّ مِنْهُ الْحَذَرُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ وَقَفَ عَلَى جَمْعٍ
فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : اسْتَكْثِرُوا
مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ ، وَيَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ
لَكُمْ أَقُولُ : أَقِلُّوا مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِكُمْ قَلِيلَةٌ .
فَيَنْبَغِي - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك بِالتَّوْفِيقِ -
أَنْ لَا تُضَيِّعَ صِحَّةَ جِسْمِك وَفَرَاغَ وَقْتِك بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ
رَبِّك ، وَالثِّقَةِ بِسَالِفِ عَمَلِك .
فَاجْعَلْ الِاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِك ،
وَالْعَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِك ، فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا وَلَا
مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكًا ، وَلِلْفَرَاغِ زَيْغٌ أَوْ نَدَمٌ ، وَلِلْخَلْوَةِ مَيْلٌ
أَوْ أَسَفٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الرَّاحَةُ
لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ وَلِلنِّسَاءِ غُلْمَةٌ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ يَكُنْ الشُّغْلُ
مَجْهَدَةً ، فَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكُمْ وَالْخَلَوَاتِ
فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ ، وَتُعَقِّدُ الْمَحْلُولَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا تُمْضِ يَوْمَك فِي
غَيْرِ مَنْفَعَة